أبحاث

التجديد في أصول الفقه: مشروعيته وتاريخه وإرهاصاته المعاصرة

العدد 125- 126

مدخل:

علم أصول الفقه علمٌ متقدم بين العلوم الإسلامية سواء كان ذلك من الوجهة الموضوعية أو التكوينية أو الاعتبارية، أما من الوجهة الموضوعية فهو علم معياري للفقه من حيث ابتناء الفقه عليه وارتكازه على منهجيته، وقد قادت هذه الخاصية فيه – من الناحية الموضوعية أيضًا – إلى استيعابه واتسامه بالإحاطة في التصور، والدقة في التناول، ومن هنا وصفه العلامة ابن خلدون – عند عرضه ووصفه للعلوم الإسلامية في مقدمته بأنه : “من أعظم العلوم الشرعية وأجلها قدرًا، وأكثرها فائدة”(1) .

 

وهو من الوجهة التكوينية تعود قاعدته إلى النقل والعقل مجتمعين مما أتاح له النفاذ الكامل، لارتكازه على مفتاحي الحقيقة: الشرع الذي يقرر، والعقل الذي يفسر ويمد ويطور، وفي هذا يقول الإمام الغزالي عنه: “أشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع، وعلم الفقه وأصول الفقه من هذا القبيل فإنه أخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد”(2) .

 

ولهذه الخاصية – أيضًا – التي مدحه الإمام الغزالي من خلالها كان نسيجه المنطق، واللغة العربية، والأحكام الشرعية؛ المنطق لضبط آلة التفكير فيه، واللغة العربية لأن الساحة التي يدور فيها هي ساحة النقل والنصوص مفسرًا ومستنبطًا، والأحكام لأنها المادة التي يجرى في إطارها، ويسعى في جنباتها تحقيقًا وتفصيلًا وحيثية .

 

أما من الوجهة الاعتبارية فإن شرفه وتقدمه يؤول إلى وظيفته من حيث أنه علم البيان لمصادر الأحكام الشرعية وحجيتها ومراتبها في الاستدلال، ومعايير وآليات استثمار الأحكام من تلك الأدلة مع توفره على منهجية الاجتهاد من حيث بيان حقيقته، ومجالاته، وشروط من يباشره ممتدًا إلى بيان ما يعرض للأدلة من موازنة وتعارض وترجيح وتقليد.

 

وقد نظر الإمام الإسنوي إلى شرفه وعظمته من هذه الوجهة فقال عنه – أيضًا – “إنه علم عظيم قدره، بيِّن شرفه وفخره، إذ هو قاعدة الأحكام الشرعية، وأساس الفتاوى الشرعية التي بها صلاح المكلفين معاشًا ومعادًا”(3) .

 

وفوق ذلك فإنه لاجتماع هذه الخواص الفريدة فيه كان علمًا تحتاجه العلوم الإسلامية الأخرى – سوى الفقه – بوجه من الوجوه فالمفسر يحتاجه لضبطه للقواعد اللغوية الخاصة بالعام والخاص والمشترك، والمجمل والمبين، والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ كما يحتاجه المحدث لمعرفة ميزان الترجيح بين الأحاديث المتعارضة، وللتمييز بين ما يدخل في باب التشريع من سنة الرسول r، وما يكون منها من باب الأخلاق والتربية؛ ولهذا فهو يمثل روح العلوم الإسلامية التي لا تستغني عنه بحال من الأحوال(4) .

 

ومن هذه الوجهة نظر إليه ابن السمعاني فقال عنه إنه: “أصل الأصول، وقاعدة كل العلوم”(5) .

 

ولأهمية هذا العلم وشرفه وتقدمه البادي في الوجوه السابقة وغيرها فقد كتب وصنف فيه كل أرباب المذاهب والاتجاهات حيث ألف فيه منذ بداية نشأته وتكوينه المعتزلة مع أهل السنة، ومن بعد ألَّف فيه الشيعة والإباضية والظاهرية كما تنوعت فيه المدارس والأطروحات السنية نفسها وانتظمها نشاط ملحوظ فيما يتصل بمناهجه وطرق ضبطه ومعالجة مسائله، ولعل نظرة سريعة للمؤلفين فيه تكشف لنا أيضًا وبيسر وسهولة عن اهتمام كل أصقاع العالم الإسلامي بالتأليف والتصنيف فيه حيث ألف فيه العرب والآسيويون والأندلسيون وأهل إفريقية ، وبذلك تمازجت فيه الرؤى، والتقت في ساحته الواسعة الإبداعات الفائقة، والأنظار الرائقة، والعقول السامقة.

 

والمراحل التي اجتازها هذا العلم حتى وصلَنا، مراحل عديدة تنتظم بداياته ونشأته بدءًا من جذوره في القرآن والسنة، وتطبيقاته في اجتهادات الصحابة والتابعين وبداية عصر الأئمة المجتهدين إلى أن نهض الإمام الشافعي بتدوينه ، وكتب قانونه، وفي هذا يقول الرازي في مناقب الإمام الشافعي: “إن الناس قبل الإمام الشافعي كانوا يتكلمون في مسائل الفقه، ويستدلون ويعترضون، ولكن ما كان لهم قانون كلي في معرفة دلائل الشريعة، وفي كيفية معارضاتها، وترجيحاتها فاستنبط الشافعي – رحمه الله – علم أصول الفقه ووضع للخلق قانونًا كليًا يرجع إليه في معرفة مراتب الشرع”(6) والشهادات في هذا الإطار عديدة(7).

 

هذا ولا بد أن نلاحظ هنا أن أولوية الإمام الشافعي في تدوين أصول الفقه لا تعني أنه أتى به كاملًا بحيث لم يبق عملًا لمن بعده في ذلك – بل إنه جاء من بعده من زاد ونمى وحرر مسائل كثيرة في هذا العلم كما فعل الذين جاءوا من بعد أرسطو في المشرق والمغرب بالنسبة لعلم المنطق، فقد حرروه ونموّه وإن كان الفضل في جعله علمًا متناسق الأجزاء يرجع إلى أرسطو(8) .

 

وقد نمسك هنا عن عرض المراحل التي اجتازها هذا العلم بعد الإمام الشافعي لأن لها فضل بيان يأتي في المبحث الثاني المخصص لتاريخ التجديد فيه لنفرغ الآن لإثارة السؤال الذي يطرحه هذا البحث، ويسعى للإجابة عليه في الوقت ذاته، وهو هل يقبل هذا العلم التجديد؟ وإذا كان يقبله فهل التجديد فيه ينحصر في حيثيته كعلم من جهة التصنيف فيه زيادة أو نقصانًا، أومن حيث ترتيب مباحثه تقديمًا وتأخيرًا أم يمتد إلى منهجه وبنيته؟.

 

وفي كل الأحوال فهل للتجديد الذي يمكن أن يغشى هذا العلم خلفية قبلية وبُعْد تاريخي سابق؟ وإذا كانت فما مداها؟ لنتدرج – بعد ذلك – إلى تناول وعرض الإرهاصات المعاصرة لتجديده وهي قضية الساعة.

 

وفي ضوء ذلك فإن المباحث التي يشتمل عليها البحث بعد المدخل السابق في التعريف به – هي:

 

المبحث الأول: مشروعية التجديد في أصول الفقه.

 

المبحث الثاني: الأبعاد التاريخية لتجديد أصول الفقه.

 

المبحث الثالث: الإرهاصات والاتجاهات المعاصرة لتجديد أصول الفقه.

 

المبحث الرابع: الآفاق المستقبلية لتجديد أصول الفقه.

 

المبحث الأول

 

مشروعية التجديد في أصول الفقه

 

لا بد قبل أن نتناول الحديث عن مشروعية التجديد أن نُعَرِّف بالتجديد نفسه كمصطلح بادئين ذلك بتعريفه في اللغة لأنها الأساس الذي تقوم عليه المعاني الاصطلاحية، والتجديد في اللغة مصدر جدد ومن مادته جد الشيء جِدة بالكسر فهو جديد وهو خلاف القديم، وجدد فلان الأمر وأجده واستجده إذا أحدثه فتجدد(9) ؛ فالتجديد وفق هذا المعنى يعني وجود شيء كان على حالة من الحالات ثم تقادم عليه الزمن أو طرأ عليه ما غيَّره فإذا أعيد إلى حالته قبل أن يصيبه البلى ويدركه التغيير كان ذلك تجديدًا(10) وفي هذا المعنى جاء حديث الرسول r “جددوا إيمانكم بقول لا إله إلا الله”(11) .

 

والمعنى الاصطلاحي مأخوذ من المعنى اللغوي ولهذا يأخذ صفته بحسب ما يضاف وينسب إليه فتجديد الدين مثلًا يعني بعثه وإحياءه وإعادته إلى واقع الحياة(12) . وفي هذا المعنى جاء حديث الرسول r “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”(13) ، وقد يعبر بعض الناس عن هذا المعنى بإحياء ما انطمس، واندرس من معالم السنن، ونشرها بين الناس وحمل الناس عليها(14) ، كما يعبر بعضهم عنه بأنه قمع البدع والمحدثات(15) ، على أنه يعني في الفقه خاصة تنزيل الأحكام الشرعية على ما يجد من وقائع وأحداث ومعالجتها معالجة نابعة من هدي الوحي(16) ، أما في أصول الفقه فإن التجديد لكثرة صوره ومقترحاته عند المعاصرين فقد شمل التجديد بمعنى التنمية والتوسع وإضافة ما هو وثيق الصلة بعلم الأصول فيضاف إليه تكملة لبنيانه، وقد يعني التمحيص والتحرير والترجيح فيما تنازع فيه الأصوليون أو إعادة هيكلته وبنائه من جديد بصورة تتلاءم مع مقتضيات العصر(17) .

 

وهذه التعريفات في نظري غير جامعة ولا مانعة كما يقول الأصوليون أنفسهم لأن كل معرِف نظر إلى التجديد من الوجهة التي يرى أن الصواب التجديد فيها لا في غيرها، وعليه فإن التعريف المناسب لتجديد أصول الفقه انبعاثًا من المعنى اللغوي هو “إعادة أصول الفقه إلى حالته المنهجية الطبيعية التي يستطيع معها الاستجابة لمقتضيات العصر ومتطلباته من حيث سلامة موازينه ومرونة رؤيته مع احتفاظه بأصالته وانضباطه”(18) ، ويدخل في هذا المعنى بالضرورة تنميته وتوسيعه وإضافة ما هو وثيق الصلة به من العلوم الإنسانية المعاصرة، كما أن هذا المعنى للتجديد لا يرفض التمحيص والنقد الباني للقديم أو تحريره وتيسير عرضه أو الترجيح فيما تنازع الأصوليون فيه، أو إعادة هيكلته وترتيب أولوياته إذا كان ذلك أدعى لفهم الناس والتفاعل معه أكثر.

 

وفي كل الأحوال فإن صور التجديد قد تطال علم الأصول وهذه لا بأس بها كما أنها قد تطال المنهج نفسه كما سيأتي بيانه، والأخيرة قد تحتاج إلى وضع الضوابط اللازمة لها بحيث إذا تجاوز المقترح للتجديد أو واقع الممارسة حدود تلك الضوابط كان ذلك تغييرًا لا تجديدًا، والتغيير مرفوض أما التجديد فمقبول بل مطلوب؛ لأن طبيعة الحياة والأحياء تقتضيه وتفرضه وهو سنة من سنن الله في الكون وفي الأحياء، فالإنسان والحيوان لسلامة حياتهم تتجدد خلاياهم، والنبات يخلف الجديد فيه القديم فتنبت ورقة جديدة وتزيح القديمة عن مكانها لتذروها الرياح وهكذا سنة الله في خلقه ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾ [الأحزاب: 62] . أما التغيير فمرفوض لأنه أولاً شيء آخر غير التجديد كما أنه يتنافى مع مقتضيات حفظ الأصول التي تولاها الخالق الأعظم في قوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]. ومن أوجه حفظ الذكر: حفظ الأحكام التي نشأت في كنفه، واستنبطت من آيه، وحفظ النظام الذي ساس ويسوس المحافظة على أسسه وكلياته مع معالجته المتجددة لضمان استمرار هديه وديمومة معالجاته .

 

مشروعية التجديد:

 

التجديد لأصول الفقه بالمعنى الذي سلف بيانه مشروع وتأخذ مشروعيته سندها من حديث الرسول r: ” إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها” وهو حديث صحيح، ونص في التجديد.

 

كما تجد تلك المشروعية سندها في مبدأ الاجتهاد الذي حمل بعض العلماء معنى التجديد عليه(19). والاجتهاد كما هو معلوم – ليس مشروعًا وجائزًا فقط بل هو فرض كفاية إذا نزلت بأحد حادثة واستفتى العلماء أو عين واحدًا من طائفة فإن الوجوب يكون فرضًا عليهم جميعًا(20) . وعلى كل حال فهو في أدنى أحواله مندوب إذا اعتبرنا التجديد من باب الاجتهاد في الحادثة قبل نزولها لمعرفة حكمها قبل وقوعها(21) .

 

ولتحديد الأمر أكثر نقول : أن الاجتهاد كما هو معلوم – يعني الجهد من الفقيه في استخراج الأحكام الفرعية من أدلتها التفصيلية(22) وهو بذلك يعني استنباط الأحكام وهو أمر مستمر لا ينقطع ومتجدد لا يبلى بحال؛ لأن الأحداث والمستجدات غير متناهية ، ومن هنا يتداخل مع التجديد، وقد يقال إن الاجتهاد يعني ابتداء البحث في المسألة، والتجديد يعني إعادة النظر فيها فيفترقان ، ومواجهة ذلك واضحة وهي أن إعادة النظر في المسألة لا يسلب الاجتهاد صفته، وقد تحدث الأصوليون أنفسهم عن ذلك بل ونصوا عليه مستخدمين في ذلك مصطلح التجديد نفسه، وهذا يكشف عن الصلة الوثيقة بين المصطلحين، جاء في جمع الجوامع لابن السبكي: “مسألة إذا تكررت الواقعة وتجدد ما يقتضي الرجوع ولم يكن ذاكرًا للدليل الأول وجب تجديد النظر قطعًا وكذا إن لم يتجدد إلا إن كان ذاكرًا”(23) على أنه قد يعترض أيضًا من الناحية الفنية بأن الاجتهاد هو: “بذل الفقيه .. إلخ” لا الأصولي جهده، ورد ذلك أن الفقيه المراد به المتهيئ للفقه فيشمل الفقيه والأصولي(24) ، ومن هنا يدخل الاجتهاد والتجديد في أصول الفقه نفسه كما يدخل الفقه، فضلًا عن أن الأصوليين يذكرون في باب الاجتهاد في العلة الاجتهاد بتحقيق المناط وهو تطبيق الحكم الشرعي على الواقع المعيش، وموضوعه أظهر أبواب التجديد في أصول الفقه بل قد يكون هو أصل ومنبع فكرة التجديد، لأن الغرض من تجديد أصول الفقه – في النهاية – هو إحكام تطبيق الأحكام الشرعية على الواقع التي اعتورته كثير من التغييرات التي قد تستوجب تجديد المنهج نفسه ليستوعبه ويستجيب لمتطلباته موافيًا إياه بالحلول الناجعة والسريعة في الوقت ذاته.

 

وفوق ذلك فإن هناك الكثير من القضايا الأصولية التي دخلها الاجتهاد كالقياس في الأسباب والشروط والموانع. والقياس في الحدود والكفارات  وجريان القياس في اللغة والقياس في العقليات(25) .

 

وفي كل الأحوال فإن مشروعية الاجتهاد مشروعية للتجديد لأن العلاقة بين المصطلحين وثيقة؛ وقصارى ما هناك أن الاجتهاد يمكن أن يكون جزءًا من التجديد لأن التجديد عام، والاجتهاد خاص بالأحكام العملية، وعليه فإن كل مجدد مجتهد، وليس كل مجتهد مجددًا(26) .

 

وأخيرًا فإن التجديد في أصول الفقه يمكن تقسيمه – باعتبار طبيعته – إلى قسمين: تجديد تلقائي وتجديد موجه، أما التجديد التلقائي فهو التجديد الطبيعي لأصول الفقه الذي يتم إِثر إجراء منهجه على النصوص التفصيلية لاستخراج الأحكام العملية الجزئية باستمرار، أو بإجراء منهجه على الوقائع والمستجدات التي لا نص خاص فيها بإعمال القياس والمصالح المرسلة، والاستحسان، وسد الذرائع والاستصحاب، وهذا النوع من التجديد جزئي ويسري وفق الحاجة إليه، كما أنه يمثل حلقة التجديد في الفقه نفسه، لكن انعكاساته على المدى البعيد قد تمثل تجديدًا في أصول الفقه من جهة إعمال مآلات الأفعال وتبلور منهج الموازنة والأولويات والمقاصد وغير ذلك من النظريات الأصولية، ومن هنا فإن هذا الضرب من تجديد أصول الفقه يؤدي إلى الضرب الثاني وهو التجديد الموجه أو الشمولي وهو تجديد كبير وكلي وقد يقتضي ترتيب المنهج الأصولي بطريقة جديدة تكفل معالجة المستجدات بعد أن تراكمت، وشاهده اتجاه الإمام الشاطبي إلى منهج الاستقراء الذي استعان به في تفصيل المقاصد وتوسيعها وتنظيمها وبلورتها ثم الاستدلال بها، فضلاً عن استفادته منه في تطعيم أجزاء الأصول المنهجية الأخرى بالمقاصد، وهو حديث سوف يأتي بحثه بإفاضة أكثر – على كل حال – عند تناول الدور التاريخي العظيم الذي نهض به الإمام الشاطبي في أصول الفقه عند الحديث عن تاريخ التجديد فيه في فصل لاحق.

 

على أن الدقة قد تقتضينا هنا أيضًا أن نميز بين نوعين آخرين من التجديد: التجديد في أصول الفقه كعلم ، والتجديد في أصول الفقه كمنهج(27) ؛ لأن التجديد في العلم أمره سهل كما سلفت الإشارة وهو تجديد نقدي تصنيفي، أما التجديد في المنهج فقد يكون محلاً للاختلاف وتباين وجهات النظر حتى إذا ما تم الاتفاق عليه واعتماده أمكن – بعد ذلك – إلحاقه بالعلم نفسه وإدخاله بين مفرداته، ودليلنا على ذلك أن المقاصد التي تحمس لفكرتها الإمام الشاطبي ظلت مهملة منذ القرن الثامن الهجري حتى تم بعثها أخيرًا في القرن الثالث عشر الهجري، وتبعتها أطروحات أخرى كأطروحة الشيخ الإمام الطاهر بن عاشور عن مقاصد الشريعة، والأستاذ المناضل الشيخ علال الفاسي والكتابات المعاصرة في مقاصد الشريعة، وهي كثيرة تعدت حدود مرحلة الاعتراف بالمقاصد إلى الانفعال بها، والدعوة إلى اعتبارها علمًا مستقلًا من أصول الفقه.

 

المبحث الثاني

 

الأبعاد التاريخية لتجديد أصول الفقه

 

لتجديد أصول الفقه بعد عريق، وجغرافية زمنية ممتدة سواء كان ذلك على مستوى تصوره كرؤية منهجية أو كان على مستوى تصانيفه كعلم، وسواء كان ذلك داخلاً فيما سبق تسميته بالتجديد التلقائي أو كان داخلًا في باب التجديد الموجه، وسبب هذه السعة في البعد التاريخي لتجديد أصول الفقه كمًا وكيفًا ترجع إلى أن هذا البعد التاريخي يمتد على مدى ثلاثة عشر قرنًا من الزمن، وهي مدة طويلة وكافية لتغطية كل أنماط التجديد وأنواعه، صحيح أن هذه المدة منذ القرن السابع الهجري تخللتها فترة تقليد محض لكن مع ذلك فإن أدوارها الأولى شهدت مجد المسلمين وصولجانهم وازدهار حضارتهم وعلومهم فضلًا عن أن فترة التقليد فيها لم تخل من المد العبقري الذي كان أربابه يتجاوزون زمانهم وينحازون إلى صف التجديد والرؤية المستقلة والإبداع.

 

وفي هذا الإطار فإننا نلاحظ على مستوى التجديد التلقائي لأصول الفقه أن خيوطه قد تمتد إلى فترة سابقة لتدوينه، إذ واجه الصحابة – رضوان الله عليهم – اتساع الدولة بعد الفتوحات الإسلامية واحتكوا بشعوب المناطق التي تم فتحها فتولدت علاقات، كما أن حياتهم بدأت تتحول من البداوة إلى الحضارة، فضلاً عن أن هناك بعض القضايا الجوهرية التي واجهتهم داخليًا بعد وفاة الرسول r وانقطاع الوحي فحتَّم ذلك عليهم الاجتهاد، فاجتهدوا في قضية الخلافة بعد وفاة الرسول r وبعد وفاة أبي بكر وعمر، كما أنهم جمعوا القرآن في عهد أبي بكر، وجمعوه ثانيًا في عهد عثمان مقتصرين على القراءات الصحيحة مع ترتيب السور، وقاتلوا المرتدين ومانعي الزكاة، ونظموا الجيوش وقسموا الولايات ومصروا البلدان، واجتهد سيدنا عمر في كثير من القضايا الإدارية والتنظيمية كما هو معلوم، وقد كانت تلك الاجتهادات بذرة لنشأة المنهج الأصولي، وتوالى تجديده(28) – بعد ذلك – حيث تبلورت منهجية المصلحة، كما أن المسائل التي اختلفوا فيها في هذا العصر، وهي كثيرة كقسمة الأراضي المفتوحة واختلافهم في حد شارب الخمر واختلافهم في ربا الفضل، وبعض مسائل الميراث وغير ذلك من مسائل، دعت لها حاجات جديدة واجهتهم فاختلف تقديرهم فيها، وقد كانت فتاواهم في هذا الصدد ترياقًا لمنهجية التعارض والترجيح، وأسباب الاختلاف التي بلورها الأصوليون في مرحلة لاحقة.

 

وفي عهد التابعين ازدادت منهجيتهم تأكدًا ونضجت بفضل تعدد مدارسهم واتجاهاتهم، والتي تركزت في النهاية في مدرستي العراق والحجاز اللتين حظيتا بالاشتهار من بين المدارس الأخرى التي لم يتهيأ لها الذيوع والانتشار، واتسمت إحداهما “مدرسة العراق” بالرأي، واتسمت الأخرى “مدرسة الحجاز” بالحديث، وتبلورت منهجية الإجماع الإقليمي كإجماع أهل المدينة وإجماع أهل الكوفة، وبذلك تمايز منهج كل مدرسة منهما عن الأخرى، وتحددت أصولها، وهذا بدوره ضاعف المادة الأصولية والمنهجية لأصول الفقه، وساعد في تعميق الفكر الأصولي، وعجَّلَ في إبرازه – بعد زمن يسير – علما محرر المباحث مجمع الأطراف(29) .

 

وفي بداية عهد الأئمة المجتهدين بدأت المصطلحات الأصولية المنهجية في الظهور حيث وضح الإمام أبو حنيفة نهجه في الفتوى(30) واستحسن، كما قال تلميذه محمد ابن الحسن الشيباني، عنه: “كان أصحابه ينازعونه المقاييس فإذا قال استحسن لم يلحق به أحد”  وروى عنه بعض تلاميذه أنه كان يمضي الأمور على القياس فإذا قبح القياس يمضيها على الاستحسان ما دام يمضي له، فإذا لم يمض له رجع إلى ما يتعامل به المسلمون”(31) .

 

والاستحسان ضرب من المنهج الأصولي الذي يقوم على الموازنة بين القواعد العامة وبين الواقع المعيش، فتأكيد الإمام أبي حنيفة لفكرته فيه تجديد أصولي وفقاهة عالية ونباهة قائمة على المرونة وسعة الأفق.

 

أما الإمام مالك الذي آل إليه فقه الحجازيين في المدينة فقد جدد هو الآخر في فقه سلفه من المدنيين واعتبر إجماعهم حجة وجلى هذا الأصل واعتمد عليه كثيرًا في فروعه حتى غدا مصدرًا بينًا بين مصادر المذهب المالكي، وكان في غير ما اتفق عليه أهل المدينة يتخير من آرائهم إذا اختلفوا – مع التزامه بها من حيث المبدأ – وكان يدعم ترجيحه للرأي الذي يرتضيه بموافقته لتخريج من الكتاب أو السنة أو كثرة القائلين به أو موافقته لقياس قوي(32) . وكان يستحسن، وفي ذلك روى أصبغ عنه قوله: “الاستحسان تسعة أعشار العلم والاستحسان عماد العلم”(33) . ويرد أخبار الآحاد المخالفة للقواعد القطعية المقررة في الدين كقاعدة رفع الحرج، وبذلك رد خبر إكفاء القدور وتمريغ الرسول r اللحم في التراب لما في ذلك من إفساد ومنافاة للمصلحة(34) .

 

وبعد الإمام مالك كان تدوين الإمام الشافعي لأصول الفقه، ومن الطبيعي أن تدوين الإمام الشافعي ما كان ليحدث فجأة ومن غير أن تسبقه مقدمات بل لابد أن تتقدمه فترة مخاض ومعاناة حتى تتبلور المعاني، وتتضح المعالم، وتتهيأ الأسباب خضوعًا لسنة التطور وقانون التدرج(35) .

 

وهذا ما حدث بالفعل حيث تمخضت المراحل السابقة من التجديد التلقائي عن مرحلة جديدة في عمر أصول الفقه هي مرحلة التدوين بجمع شتات تلك القواعد وتنظيمها، وتحريرها وتنقيحها والإضافة إليها ثم إبرازها في صورة متكاملة ليأخذ أصول الفقه وضعه كفن مستقل بين الفنون الإسلامية الأخرى.

 

وصنيع الإمام الشافعي هذا كان تجديدًا بمعنى التوسعة والتنمية لأصول الفقه ورفده بكل ما يكمل بنيانه  يؤكد ذلك ما اشتهر عنه أنه بعد تأليفه للرسالة ألف ثلاثة مؤلفات في موضوعات من أصول الفقه حيث ألَّف جماع العلم، وكتاب اختلاف الحديث، وكتاب إبطال الاستحسان(36) . كما أن الرسالة نفسها نشطت التأليف وغذَّت تطوره وتجديده في أصول الفقه فدارت حولها شروح كثيرة حفظ التاريخ أسماء بعضها(37) ، وألفت بعض الكتب ردًا على الإمام الشافعي في المسائل الأصولية التي أثارها فيها وكانت موضع تجاذب بينه وبين المذهبين اللذين سبقاه، كقضية اجتهاد الرأي والقياس، وخبر الواحد، وإجماع أهل المدينة(38) . وبذلك تتابع التأليف والتصنيف في أصول الفقه وانعكس فيه الفقه المباشر كعنصر تجديدي فاعل، وبذلك خطا الأصول خطوة بعيدة في اتجاه المدارس الأصولية، وواضح أن رسالة الإمام الشافعي كان لها دور ريادي كبير في هذا الاتجاه.

 

وفي كل الأحوال فإننا يمكن أن نخلص بعد دراسة هذه الفترة بتركيز إلى الآتي:

 

1- أن الصفة الغالبة على التأليف الأصولي – في هذه الفترة – وهي فترة الإمام الشافعي وما تلاها حتى نهاية القرن الثالث الهجري كانت متمركزة في القضايا الأصولية الجزئية التي أشرنا إلى بعضها ونتبعها هنا بأخرى منها حجية الكتاب، وحجية السنة، وخبر الآحاد والإجماع، والقياس، والاجتهاد، والاستحسان، وأقوال الصحابة، والنسخ، والبيان، والعلم، والتقليد(39) .

 

ولا يخفى على فطنة أي متابع أن بحث هذه القضايا والتركيز عليها، بل وإفراد بعضها بالتأليف، كان صدى مباشرًا وأثرًا ممتدًا لتدوين الإمام الشافعي لأصول الفقه؛ لسبب يسير هو أن معرفة هذه القضايا ما كان ليكون لولا تدوين الأصول وتحريره وتنظيمه على يد الإمام الشافعي، ومن باب الريادة في ذلك فقد أخذ الإمام الشافعي نفسه زمام المبادرة في التأليف في هذه المسائل الجزئية كما سلفت الإشارة.

 

2- أن بعض هذه الموضوعات كان يمثل مناقشة وردودًا على الإمام الشافعي نفسه في المسائل الأصولية التي أثارها في رسالته وكانت موضع تجاذب بينه وبين المذهبين اللذين سبقاه كاجتهاد الرأي والقياس والاستحسان، وخبر الواحد، وقد كان له موقف حيال هذه المسائل مع أهل الرأي ، وإجماع أهل المدينة، ورأيه هنا كان في مقابل مدرسة الحديث(40) .

 

3- أن بعض هذه الأطروحات كان يتسم بروح المذهبية إذ كان الكاتب والمصنف يعمل من خلالها على نصرة مذهبه ودحض آراء خصومه في هذه القضايا الهامة التي كانت مثارة في ذلك الزمن عند بداية تدوين المنهج الأصولي وتحريره(41) .

 

4- أن بعض هذه المؤلفات كانت نصرة للمذهب الظاهري خاصة في مقابل مذهب الجمهور، ويتمثل هذا الضرب في الكتب الكثيرة التي ألفها داود بن علي الظاهري (ت 270هـ) ككتاب الإجماع، وكتاب إبطال التقليد، وكتاب إبطال القياس، وكتاب الخبر الموجب للعلم، وكتاب الحجة، وكتاب الخصوص والعموم، وكتاب المفسر والمجمل، وكتاب الوصول إلى معرفة الأصول(42) .

 

ومعلوم أن حركة الظاهرية نشأت في ذلك الوقت كرد فعل مباشر لحركة أهل الرأي والقياس التي كانت منتعشة في بغداد آنذاك.

 

5- يلاحظ على التصنيف الأصولي في هذه الفترة أنه لم يكن قاصرًا على الأصول وحده، وإنما كان المنهج الأصولي يأتي أحياناً ضمن كتب الفقه أثناء التأصيل للمسائل الفقهية يدل على ذلك مسلك الإمام الشافعي في كتابه الأم، وما درج عليه مصنفو التراجم من إشارة إلى أن للفقهاء الذين يترجمون لهم آراء أصولية مبثوثة في كتبهم الفقهية(43) .

 

6- اتسم التأليف في هذه المرحلة بالاستقلالية حيث كان أغلب الأصوليين يؤلفون كتبهم ابتداء، بمعنى أنها لم تكن مؤلفة على سبيل الشرح أو الاختصار لمؤلفات سابقة، وقد أكسبت هذه السمة مؤلفاتهم الوضوح والسلاسة والبساطة وعدم التعقيد بعكس الكتب التي ألفت في مراحل التقليد اللاحقة، فقد غلب عليها التعقيد والإلغاز كما سوف يرد بيانه.

 

وفي القرن الرابع الهجري تطور علم الأصول أكثر واتجه نحو الشمول، وكانت الموضوعات التي تتوفر مصنفاته على تناولها أوسع من الموضوعات الجزئية التي سلفت الإشارة إليها في القرن الثالث، وهذا ينم عن أن تطور أصول الفقه كان تطورًا طبيعيًا إذ بدأ بالتدوين ثم إفراد بعض موضوعات المنهج الذي تم تدوينه بالدراسة والتوسيع والمناقشة والحوار، ومن بعد كان تجميع تلك الجزئيات في وعاء أوسع مما كان، وقد اقتضى ذلك الوضع بطبيعته عدة أمور منها:

 

1- استقلالية علم الأصول عن علم الفقه وتمتعه بالتميز والتخصص.

 

2- التكامل بين كل موضوعات العلم الأساسية والهيكلية وتناولها في صعيد واحد مصحوبة بالمباحث التبعية المكملة لها.

 

3- ظهور التأليف في أصول المذاهب، وقد برع الحنفية في هذا الدور بشكل واضح حيث ألف الكرخي (ت340هـ ) كتاب “الأصول”، والجصاص (ت 370هـ) كتابه “الفصول في الأصول”، كما ألف ابن القصار (ت 397هـ) من المالكية مقدمة في أصول مذهب مالك، وابن حامد ( ت 403هـ ) الحنبلي صنف كتابًا في أصول الإمام أحمد سماه “تهذيب الأجوبة”(44).

 

4- في هذه الحقبة ظهرت المقدمات الأصولية التي تتناول القضايا المنهجية الخاصة بعلم الأصول كحد العلم وحقيقته، وأقسام العلوم، ومعنى الحد والنظر والدليل، والمدركات العقلية والسمعية(45) .

 

5- أتاح الشمول في البحث الأصولي، الذي اتسم به هذا القرن، المجال لتحديد المصطلح الأصولي الذي كان من قبل في بداية تدرجه، وكانت بعض أطرافه غامضة نتيجة أن كل فريق كان يحدد رأيه فيه وهو بمعزل عن الآخر، صحيح أنه حدث فيه حوار ونقاش لكنه كان حوارًا يدافع كل طرف أو مذهب فيه عن اتجاهه، وكان ذلك كثيرًا ما يجرى في إطار المناظرات والجدل المذهبي، وفي هذا القرن مكنت النظرة الشمولية الأصوليين من النظر الكلي في الموضوع بعرض كل الاتجاهات في المصطلح؛ فالعلاقة مثلاً بين الاجتهاد والقياس كانت ابتداء عند الإمام الشافعي قائمة على الوحدة وأن الاجتهاد هو القياس، وفي هذا القرن تحددت الصلة بينهما وأنها العموم والخصوص، فالاجتهاد أعم من القياس لشموله له ولغيره، ومن هنا انفصل تعريف القياس عن الاجتهاد، نرى ذلك عند الشاشي (ت325هـ) وعند القاضي عبد الجبار (ت415هـ) وعند القاضي الباقلاني (ت403هـ)، ومثل ذلك حدث في مصطلح “الاستحسان” الذي سعى الإمام الشافعي ابتداء لإبطاله بناء على رأيه فيه، وإنه الحكم بالرأي والهوى من دون دليل، ولهذا حكم بعدم حجيته، ثم جاء الجصاص في هذا القرن فأنكر مفهوم الإمام الشافعي للاستحسان وأبان أن الاستحسان حكم بالدليل، ثم بين معناه من خلال استعراضه لمعان مختلفة فيه: بأنه يعني استعمال الرأي والاجتهاد في تحديد المقادير، وهذا لا خلاف فيه، أو ترك القياس إلى ما هو أولى منه، وهذا قسمان: أن يكون فرعًا يتجاذبه أصلان، أو تخصيص الحكم مع وجود العلة ثم أكد ذلك الكرخي من بعد، وما سرى على مصطلحات الاجتهاد والقياس والاستحسان جرى على مصطلحات أصولية أخرى كثيرة كالخبر المتواتر وخبر الآحاد، والنسخ، والبيان، وهكذا(46) .

 

وفي القرن الخامس الهجري تطور أصول الفقه وبخاصة على طريقة المتكلمين حيث دفع به علماء الكلام دفعة قوية نحو التنظير والتجريد ، وفي هذا يقول الزركشي (ت794هـ) إن من جاء بعد الإمام الشافعي تركز عملهم على البيان والشرح والتوضيح حتى جاء القاضيان: قاضي السنة أبو بكر بن الطيب، وقاضي المعتزلة عبد الجبار، فوسعا العبارات، وفكا الإشارات، وبينا الإجمال، ورفعا الإشكال واقتفى الناس آثارهم(47) ، وببراعة وريادة هذين الإمامين اللذين يمثل أحدهما الاتجاه السني الأشعري، ويمثل الآخر الاتجاه المعتزلي – تلك البراعة التي عبر عنها الزركشي ببراعة أخرى إذ وصف صنيعهم بتوسيع العبارات، وفك الإشارات، وبيان الإجمال ورفع الإشكال – خطا أصول الفقه خطوة بعيدة وتمايزت مدارسه فكرًا ومنهجًا، وازدادت قوة وصلابة وتحديدًا، ودخل علم الأصول ساحة التنظير الواسع، وكثرت المؤلفات فيه مما جعل هذه الفترة فترة ذهبية في تاريخ علم الأصول أنتجت الموسوعات العلمية الأصولية التي لا تزال المورد والمصدر في هذا العلم حتى اليوم(48) .

 

وفي كل الأحوال فإن هذه الفترة تصحبها الفترة اللاحقة حتى منتصف القرن السابع الهجري تعتبر بمثابة مرحلة الاكتمال لعلم الأصول(49)، ولعلنا لا ننسى في ذلك الأثر التجديدي الكبير الذي أحدثه بعض مصنفي هذه الفترة وأعلامها كإمام الحرمين الجويني، والإمام الغزالي.

 

ومنذ منتصف القرن السابع الهجري مُنِيَ أصول الفقه هو الآخر بالتقليد والإغراق في كتابة المتون، ومن ثم شرحها وكتابة الحواشي عليها، وهنا ظهرت مدرسة الجمع بين المدرستين التي يعتبر ظهورها صدى للتعصب المذهبي الذي كان سمة بارزة من سمات ذلك القرن: حيث كانت أهداف مؤلفيها تنحو إلى إقرار القواعد الأصولية، وترجيح ما يراه أئمة المذهب فيها، ومناقشة وجهات النظر المختلفة ثم الوصول مباشرة أو بالتبعية إلى بيان أرجحية المذهب في الجزئيات الفقهية، فأكثر كتبهم في حقيقتها صورة لعصر التقليد المذهبي(50) .

 

على أننا إذا نحينا هذا التعصب جانبًا فإن هذه الطريقة قد أفادت من حيث تطعيمها لأصول الفقه بعنصر المقارنة، إذ أن منهجها يقوم على عرض الآراء الأصولية المقررة في المدرستين اللتين سبقتاها والمقارنة بينهما، وذلك أمر مفيد ويعتبر في حد ذاته خطوة متقدمة في طريق التأليف في علم الأصول، إلا أن ما كتب على هذه الطريقة وإن امتاز بالمقارنة لكنه – من جهة أخرى – لم يكن خاليًا من التعقيد والصعوبة نتيجة الإلغاز الذي غلب على كتب هذه الطريقة، ولعل مرجع ذلك الإلغاز أن تلك الكتب كانت تحاول التعرض لكل الآراء الأصولية، أو أنه راجع في جملته ـ إلى ما غلب على ذلك العصر من سمة الإيجاز والتلخيص في كتابة المتون في الفقه والأصول على حد سواء(51) ، على أن هذه الفترة أيضًا وإن كانت قاصرة إلى حد ما من هذه الوجهة إلا أنها تميزت بتجديد آخر هو الاتجاه بأصول الفقه اتجاهًا عمليًا مباشرًا بتخريج الفروع على الأصول، وألف وفق هذه الطريقة أصوليون من المذاهب الفقهية الثلاثة الشافعي والمالكي والحنفي، حيث ألف فيه الإمام شهاب الدين بن أحمد الزنجاني الشافعي (ت 656هـ) كتابه “تخريج الفروع على الأصول” وهو خاص بأصول الأحناف والشافعية. والإمام محمد بن أحمد التلمساني المالكي (ت 771هـ) وكتابه “مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول” وهو يتناول الأثر الفقهي للقواعد الأصولية في المذاهب الثلاثة الحنفي والمالكي والشافعي، والإمام جمال الدين الإسنوي (ت 772هـ) وهو شافعي وكتابه “التمهيد في تخريج الفروع على الأصول” ، ومحمد بن عبد الله التمرتاشي الحنفي (ت 1004هـ) وكتابه “الوصول إلى قواعد الأصول”(52) ، وبنهاية الحديث عن هذه الفترة يكون العرض التاريخي لتجديد علم أصول الفقه وتطوراته قد انتهى إلا أننا – قبل نهايته هذه – نرى من الأوفق الوقوف عند أمرين هامين كان لهما أثر كبير بصورة أو بأخرى على حركة تجديد أصول الفقه في مدها السابق:

 

أولهما: دور المدارس الأصولية في التجديد.

 

وثانيهما: أثر تداخل التقليد الفقهي على التجديد الأصولي .

 

1- دور المدارس الأصولية في التجديد:

 

لا يمكن للباحث وهو يتناول تاريخ تجديد أصول الفقه أن يغفل دور المدارس الأصولية فيه رغم أن طرفًا من ذلك الحديث قد ورد بطريق أو بآخر من خلال تناول المجرى العام للتجديد عبر القرون لكنه قد لا يعفي في النهاية من تناول دور هذه المدارس بشكل محدد ومباشر لمعرفة ما إذا كان ذلك الدور سالبًا أم موجبًا.

 

والمدارس الأصولية الأساسية تمثلت في مدرستين هما مدرسة المتكلمين ومدرسة الحنفية كما هو معلوم ، أما مدرسة المتكلمين فهي المدرسة التي عملت على تحقيق القواعد الأصولية دون التأثر بالفروع الفقهية، وكان اتجاهها اتجاهًا نظريًا تجريديًا يرمي إلى تقرير القواعد الأصولية كما تدل عليها الأدلة لتجعل موازين ضبط الاستنباط، ومعايير سلامة الاستدلال، حاكمة لاجتهاد المجتهدين لا محكومة بالفروع الفقهية .

 

والسبب في هذه النزعة عند هذه المدرسة تأسيسها في ظل طريقة الإمام الشافعي الذي وضع أصوله قبل فقهه، حيث أنه عمد إلى وضع الأصول مبينًا اتجاهه ومسلكه فيها من خلال القضايا التي كانت تثار في زمنه بين أهل الحديث وأهل الرأي(53) . ولهذا سميت باسمه ونسبت إليه، وكتب فيها كثير من أتباعه كما تسمى أيضًا بطريقة المتكلمين لأن كثيرًا من المشتغلين بعلم الكلام قد كتبوا فيها، ويبدو أن منهجها العقلي المجرد قد شاقهم وأغراهم بالكتابة فيها، ومن الجدير بالتنبيه إليه أن هذه المدرسة لم تقتصر على الأصوليين من الشافعية والمتكلمين وحدهم بل ضمت إلى رحابها أيضًا أصولي المالكية والحنابلة وغيرهم(54) .

 

وتقابل مدرسة المتكلمين مدرسة الحنفية أو الفقهاء وهي مدرسة يقوم منهجها على استخلاص الأصول من الفروع الفقهية، على أن القاعدة الأصولية المستخلصة إذا ترتب عليها مخالفة فرع فقهي كانوا يشكلونها بالطريقة التي تجعل ذلك الأصل منسجمًا مع الفرع الفقهي(55) .

 

وقد لجأت مدرسة الحنفية لهذا الأسلوب لتجعل من الأصول معايير تشهد بسلامة فروع مذهبهم، ولتثبت أيضًا أن لمذهبهم أصولًا يمكن الدفاع عنه من خلالها في مقام الجدل والمناظرة(56)، وتسمى هذه الطريقة بطريقة الفقهاء كما تسمى بطريقة الحنفية لفرط تعلقها بالفرع الفقهي، وإخضاعها الأصل والقاعدة لذلك الفرع، فهي طريقة من جهة نشأتها وتأسيسها أليق بالفروع وأمس بالفقه كما يقول ابن خلدون(57) .

 

وبالرغم عما يمكن أن يكون في هذه الطريقة من سلبيات ركز عليها بعض الباحثين(58) إلا أنها تمتاز بتقريبها بين الأصول والفقه والمزج بينهما بطريقة مفيدة وأدخل في باب توثيق الصلة بين هذين العلمين اللذين تقضي طبيعتهما بالمزج بينهما لارتكازهما على بعضهما، وفي هذا يقول ابن خلدون عنها: “إن كتابة الفقهاء – الأحناف – في أصول الفقه أمس بالفقه، وأليق بالفروع لكثرة الأمثلة فيها، والشواهد وبناء المسائل على النكت الفقهية، ولفقهاء الحنفية اليد الطولى في الغوص على النكت الفقهية، والتقاط هذه القوانين من مسائل الفقه ما أمكن”(59) فضلاً عن أنها مهدت الطريق لنوع آخر من التأليف يخدم الفقه وهو التأليف في الخلاف وتخريج الفروع على الأصول، ويمكن أن يقال أنها خدمت على نحوٍ من الأنحاء الكتابة في قواعد الفقه(60) .

 

أما مدرسة الشافعية فتمتاز باتساع القاعدة النظرية فيها، وأن طريقتها هي الطريقة الطبيعية من حيث وضعها الأصول قبل الفروع كتصور، كما أن الحركة التصنيفية فيها كانت أوسع بكثير من طريقة الحنفية فضلًا عن احتضانها لكل المذاهب والنزعات الفقهية سوى الحنفية .

 

وهذه الميزات وإن كانت إيجابية من حيث تقريبها بين هذه المدرسة والتجديد إلا أنها  لم تنف عنها بعض السلبيات الأخرى كسلبية التجريد وتقدير أصول بعضها موجود وبعضها غير موجود؛ وكل ما من شأنه أن يهبط بثمرة ومنفعة ما تقرره أو على الأقل قلته وضعفه، لأن كلامهم يدور أحيانًا في أدلة مقدرة في الأذهان لا تحقق لها في الأعيان(61) . كما أن خطتهم أيضًا، لبعدها عن التفريع الفقهي، لا تمكن من الوقوف على ما يبتغي بهذه الأصول من الاستدلال والتصرف في وجوه القياس، ولا تعرف بالمواضع المقصودة بالكلام(62) . فضلاً عما فيها من الإمعان في الجدليات،  وإدراج مسائل كثيرة ليست من الأصول فيه مما دعا الإمام الشاطبي وهو مجدد فحل أن يستدرك عليها بقوله: “كل مسألة مرسومة في أصول  الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية أو لا تكون عونًا في ذلك فوضعها في أصول الفقه عارية”(63) كما فصل تلك المسائل وهي مسألة ابتداء الوضع ومسألة الإباحة هل هي تكليف أم لا؟ ومسألة أمر المعدوم، ومسألة هل كان النبي متعبدًا بشرع أم لا؟ ومسألة لا تكليف إلا بفعل(64) وهي نفس المسائل التي وقف عندها المجددون المعاصرون وكان طلبهم في تنحيتها عن الأصول متواليًا وملحًا، وسوف نعرض لها على كل حال عند تناولنا للإرهاصات المعاصرة في المبحث الذي يلي هذا المبحث مباشرة.

 

2- أثر تداخل التقليد الفقهي على التجديد الأصولي:

 

بدأت حلقة التقليد في الفقه في فترة سابقة ومبكرة عن أصول الفقه، وذلك أمر طبيعي لأن الفقه سابق في نشوئه من جهة الكم والاتساع والتدوين لأصول الفقه، وإن لم يكن سابقًا له من جهة الوجود، أما من هذه الجهة فقد يكون الأصول أسبق لأن التقدير الفقهي لا بد من أن يكون مرتكزًا على منهج وترتيب وإن لم يكن ذلك المنهج مدونًا لكنه – على كل حال – قار في الأذهان، وجائش في الصدور، ومركوز في النفوس من غير ترتيب، ولا تنظيم ولا تسطير.

 

وعليه فإننا نرى في هذا الصدد أن التقليد في الفقه بدأ في منتصف القرن الرابع الهجري، وهو تاريخ كان الأصول فيه في أوج تجديده وامتداد حركته، أو كان في عصره الذهبي وفترة اكتماله كما سلفت الإشارة؛ وإثر ظهور التقليد في الفقه كانت الدعوة إلى إقفال باب الاجتهاد لقعود الهمم عن اكتساب مجموعة الصفات والعلوم اللغوية والشرعية بالقدر الذي يؤهل للاجتهاد في علوم الشريعة(65) .

 

وكرد فعل لقفل باب الاجتهاد اتجه الفقهاء إلى التعليل والتخريج والترجيح المذهبي(66) أو ما يسمى بعمومه بالاجتهاد المقيد، وهنا قد تبرز إيجابية لا بد من ذكرها وهي أنه – رغم المحاذير التي عوقت الاجتهاد الحر، والتجديد المطلق الذي لا تغل حركة الباحث فيه المذهبية ولا تكبله قيودها – فقد تم تحويل نفس المنهج الأصولي العام ليخدم قضية المذهبية، مع الالتزام باستخدام نفس الأساليب والأدوات الأصولية السابقة، صحيح أن هذا المنهج أصابت أطرافه بعض المؤثرات، فظهر التخريج في الفقه وتداخل مع مباحث الاجتهاد في الأصول تمامًا كما تداخل التقليد نفسه مع تلك المباحث، إلا أن الإيجابية تكمن في التحويل والانتقال من حال إلى حال داخل الإطار ذاته.

 

ومحصل الأمر أن التقليد كان قدرنا الذي حملت عليه ظروف كثيرة بعضها قد يكون إيجابيًا وبعضها قد يكون سلبيًا(67)، لكن المهم في الأمر أنه لم يؤد إلى الثورة على المنهج  المقرر وإنما حوَّل حركته من اتجاه إلى اتجاه آخر، لا أستطيع أن أقول أنه مغاير من كل الوجوه لكنه – قطعًا – مقيد، وهنا تبرز أيضًا إيجابية أخرى ذات صلة بالإيجابية الأولى هي أن الفقهاء وجدوا في عصر التقليد متنفسًا في أصول الفقه بديلًا عن الاجتهاد في الفقه فانطلقوا في رحابه مستخدمين ملكاتهم، وباذلين طاقاتهم في تطعيم أصول الفقه بالنقد والتصحيح والتعليل والتمحيص(68)، وأذكوا جدلية الحوار فيه ونشطوها من خلال مناظراتهم العلمية في معرض دفاع كل فريق منهم عن مذهبه وطريقته.كما أن استخدامهم لمنهجية الأصول قد ساعدهم في مخالفة أئمتهم في بعض الأحكام مخالفة مستندة إلى التخريج على أصولهم نفسها بنظر آخر، وأن حركة التأليف الفقهي انتعشت في هذه المرحلة على يد كبار المؤلفين المذهبيين، وكان لأصول الفقه أثره في ذلك بلا جدال، كما انعكست تلك التوسعات المذهبية على أصول الفقه نفسه فأدت إلى ثرائه واتساعه(69) .

 

وفوق ذلك فإن الاجتهاد المقيد لم يمنع من الإبداعات الفردية التي كان أربابها من العلماء الأفذاذ يكسرون الطوق، ويتجاوزون الحاجز إذا لزم الأمر، واستوجب الحال التجديد.

 

وقد استمرت هذه الفترة حتى منتصف القرن السابع حيث كانت مرحلة الجمود التام، وهي فترة اتسمت بسيادة الفكر التقليدي المطلق والانصراف عن تلمس العلل والمقاصد ليحل محلها الحفظ الجاف، والاكتفاء بما في الكتب المذهبية دون مناقشة، وتضاءلت حركة التخريج والترجيح والتنظيم لفقه المذاهب، وبذلك أصبحت المؤلفات الفقهية – إلا القليل – اختصارًا لما وجد من المؤلفات السابقة أو شرحًا لها(70)، وانعكس ذلك على الأصول أيضًا فدارت مؤلفاته بين التلخيص (المتون) التي غلب عليها الغموض والإلغاز ومن ثم الشروح والحواشي، بل إن الفترة الأخيرة من هذه المرحلة خلت من التأليف في الأصول حتى القرن الحادي عشر الذي ظهر فيه “مسلم الثبوت” لمحب الله بن عبد الشكور (ت 1119هـ)، وفي القرن الثالث عشر ظهر مؤلف على قدر كبير من الفائدة من حيث جمعه للآراء الأصولية السابقة، وتلخيصها مع ترجيحات واختيارات هو كتاب “إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم الأصول” للإمام الحافظ القاضي محمد بن علي بن عبد الله الشوكاني (ت 1250هـ).

 

وسوف يتم تناوله من خلال الحديث عن التجديد الفردي الذي قام به الشوكاني ضمن غيره من المجددين الآخرين عبر التاريخ الإسلامي.

 

3- التجديد الفردي في أصول الفقه:

 

لعل تتبع تجديد أصول الفقه في الصفحات السابقة قد كشف أن تجديده لم ينقطع منذ تدوينه على يد الإمام الشافعي وإلى القرن السابع، على أن حظ كل قرن من ذلك التجديد قد يختلف عن الآخر من جهة كمه أحيانًا، ومن جهة كيفه أحيانًا أخرى، أو منهما مجتمعين، وعلى ذلك فإننا إذا استثنينا الفترة السابقة للتدوين – لأن التجديد فيها كان تجديدًا تلقائيًا أدى ناتجه من خلال تراكم المعالجات الفقهية إلى بداية المنهجية، وهيأ للإمام الشافعي المادة الأولية التي استخلص منها المنهج الأصولي – فإن تدوين أصول الفقه يعتبر بداية التجديد فيه، وإذا تحفظنا أكثر يمكن أن نقول أنه إيذان بالتجديد فيه، وينسحب هذا الحكم على الجهود المكملة التي تبعت جهد الإمام الشافعي وبذلك تعتبر مؤيدة للإذن بالتجديد؛ إذ أن التعليقات والشروح وبلورة المسائل المنهجية في شكلها الجزئي وإدارة الحوار حولها أدى – بلا أدنى شك – إلى التجميع وبالتالي إلى الشمول الذي حفلت به مدونات القرن الرابع، الذي برزت فيه مظاهر التجديد الأصولي بوضوح من خلال استقلاليته عن علم الفقه، والتكامل بين موضوعاته الأساسية ومكونات بنيانه الهيكلي في صعيد واحد، وظهور المقدمات الأصولية، وهي جزء منهجي هام من أجزاء أصول الفقه، ومن ثم تحديد مصطلحاته التي كانت غائمة وغامضة لقرب نشأتها وحِدَة التنازع حولها، إلى أن كان القرن الخامس فكان التنظير والتجريد واتساع الوعاء الأصولي بشكل ملحوظ سواءً كان ذلك في كثرة المؤلفات فيه، أو كان من جهة الحركة المنهجية الداخلية في مباحثه، وتناول موضوعاته، وهو تجديد إِطاري لا يسوغ لأحد نكرانه إذا قايس أصول الفقه في هذا القرن بالقرون التي سبقته أو حتى التي لحقته، وإن كان التجديد الأصل فيه دورانه – نسبة ومقايسة – مع الفترات السابقة لا اللاحقة.

 

ولتأكيد ذلك أكثر لا بد من عملية جرد ورصد للجهود الفردية في التجديد على أن هذه الجهود قسمان: قسم يدخل في التجديد المؤسسي الذي سلف بسطه ومع ذلك ينبغي التنبيه إليه بحسبان أن المجدد كان بمثابة المعلم البارز الذي بدأ التجديد من لدنه، وقسم لا يدخل في التجديد المؤسسي وإنما كان عملاً فرديًا ينسب لصاحبه كتجديد الإمام الشاطبي الذي لم يدخل دائرة المؤسسية إلا في مرحلة متأخرة حينما أحس الناس بجدواه فانفعلوا بأطروحته نتيجة احتياجهم الشديد إليها، وقد نلاحظ ذلك في أن الكاتبين في أصول الفقه، وعرض مصنفاته في العصر الحديث قد يعبرون أحيانًا وهم بصدد ذكر كتاب الموافقات، قد يعبرون بقولهم” وهناك نوع آخر من التأليف”(71) .

 

وفي كل الأحوال فإن ناتج التنويه بهؤلاء المجددين سيكون تأكيدًا للتجديد كما سلف بيانه، وكشفًا آخر من كشوف أبعاده واتجاهاته هذا فوق ما في ذلك من ردِّ الحق لأصحابه، والإشعار بأن التجديد لا يتأتى من فراغ، وإنما يتبلور من خلال فعل الرائد القوي الذي يتمتع بالقدرة على التجديد والرغبة فيه.

 

وأول من نبدأ بقراءة اسمه ونحن نطالع صحيفة المجددين هو:

 

الإمام الشافعي (ت 204هـ) وقد هيأت الإمام الشافعي لذلك التجديد عوامل كثيرة منها: سلامة تكوينه سواء كان من جهة اللغة التي اكتسبها من مكثه في قبيلة “هذيل” نحوًا من عشر سنين تعلم فيها لغات العرب وفصاحتها، أو من جهة معرفته بالشريعة والفقه التي مكنته منها دراسته لفقه الحجازيين مباشرة على يد الإمام مالك، وأخذه فقه العراقيين على الإمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ الإمام أبي حنيفة، وبذلك اجتمع عنده فقه أهل الرأي وأهل الحديث، وقبل ذلك كان قد حفظ القرآن الكريم وعمره عشر سنوات، وحفظ الموطأ وهو ابن عشر سنين، وأذن له شيخه مسلم بن خالد الزنجي (ت 179هـ) إمام أهل مكة وفقيهها بالإفتاء وهو ابن خمسة عشر سنة، وقال له: “أفت يا أبا عبد الله، فقد والله آن لك أن تفتي(72) ” ، كما تمتع بغير ذلك من الملكات الفطرية، والقدرات الجِبلية، وآيات النباهة والذكاء التي هيأته ، ودفعت به إلى عالم التميز والعبقرية، وبذلك شهد أقرانه، قال أبو ثور عنه: “ما رأيت مثل الشافعي ولا رأى هو مثل نفسه”(73) ، وقال عنه الإمام أحمد :”ما من أحدٍ في يده محبرة ولا قلمًا إلا وللشافعي في رقبته منَّة”(74).

 

أما شهادات المعاصرين فتكفي منها شهادة من توفر على دراسة الرسالة وتحقيقها العلامة الشيخ أحمد شاكر الذي قال عنه:”إني أعتقد غير غالٍ ولا مسرف ، أن هذا الرجل لم يظهر مثله في علماء الإسلام في فقه الكتاب والسنة ونفوذ النظر فيهما ، ودقة الاستنباط مع قوة العارضة، ونور البصيرة، والإبداع في إقامة الحجة وإفحام مناظره، فصيح اللسان، ناصع البيان، في الذروة العليا في البلاغة”(75) أما تجديده في علم الأصول فقد سلفت الإشارة إليه على أنه يمكن تأكيده أكثر بما قاله المحقق الدهلوي(76) ، وقول المزني: “قرأت الرسالة خمسمائة مرة ما من مرة إلا واستفدت منها فائدة جديدة”(77) .

 

وثاني الأعلام الذين ينسب إليهم التجديد في أصول الفقه إمام الحرمين الجويني (ت 478هـ) وعلى هذا فهو من رجالات القرن الخامس في المنظومة التاريخية ، استمد قدرته على التجديد من خلفيته الممتازة في المعرفة بالعلوم الإسلامية قاطبة، إذ كان له معرفة تامة بالفقه والأصول والتفسير والأدب، كما أن ملامح النبوغ بدت عليه في فترة مبكرة من حياته إذ تولى التدريس بعد وفاة والده وعمره عشرون سنة، وهو في ذلك يقارب إمامه الإمام الشافعي(79)، وهو إن قارب إمامه في صفة النبوغ المبكر هذه فقد قاربه أيضًا في خصلة أخرى هي بلاغته وفصاحته، وتمتعه بأسلوب عربي رفيع ورصين وذي سمات عالية ومتفردة، وفي ذلك قال عنه ابن السبكي: “من ظن أن في المذاهب الأربعة من يداني فصاحته فليس على بصيرة من أمره، ومن حسب أن في المصنفين من يحاكي بلاغته فليس يدري ما يقول”(79) .

 

وفي كل الأحوال فقد دفعت هذه الملكات وغيرها إمام الحرمين ليكون في مركز الصدارة، وليمثل معلمًا بارزًا في مسيرة علم أصول الفقه، ودوره في ذلك مقدر ومسلم به في تاريخ هذا العلم، ولا يحتاج “إلى برهان أكثر من البرهان نفسه(80)”  الذي نتابع الآن أثره التجديدي في علم الأصول من خلاله ومن خلال آثاره الأصولية الأخرى.

 

وتتبدى آثار إمام الحرمين الجويني التجديدية في أصول الفقه في كتابه “البرهان” الذي وصفه ابن خلدون بأنه من أحسن ما كتبه المتكلمون(81)، كما وصفه ابن السبكي (ت 771هـ) بأنه كتب على أسلوب غريب لم يقتد فيه بأحد، واعتبره بمثابة اللغز لإثارته فيه لمصاعب الأمور، وعدم إخلائه لدقته مسألة من إشكال مع خروجه منها بسلامة عن طريق دقته في الموازنة، والاختيار الذي يخترعه ويرضاه لنفسه(82) .

 

وإذا أردنا تلمس هذه الآثار التجديدية – بعد هذا الوصف العام – فإننا نجدها تدور في ثلاثة اتجاهات:

 

1- الاتجاه الأول: البراعة في عرض القضايا الأصولية.

 

2- الاتجاه الثاني: التفرد في دقة المنهجية في تناول القضايا الأصولية وتقاسيمها.

 

3- الاتجاه الثالث: الحركة الداخلية لتفكير إمام الحرمين من حيث الاستقلالية، والحرية، وعدم الخضوع للمسلمات الموروثة.

 

أما الاتجاه الأول فيظهر في استهلاله كتابه بمقدمة تناول فيها توضيح المقصود بالعلم والمادة العلمية التي يستمد منها؛ ضرورة أن الخائض في أي فن من الفنون ينبغي أن يحيط بالمقصود به وبمادته، وبحقيقته وحدِّه، والغرض من ذلك أن يكون الإقدام على تعلمه مصحوبًا بحظ من العلم الجملي بالعلم الذي هو بصدد الخوض فيه(83) ، وبعد ذلك اتجه إلى عرض وبحث المسائل الأصولية التي نظمها في كتب تندرج تحتها أبواب وفصول ومسائل وبصفة عامة فقد تناول في الكتاب الأول القرآن والسنة، وفي الكتاب الثاني الإجماع، وفي الكتاب الثالث القياس، وفي الكتاب الرابع الاستدلال، وفي الكتاب الخامس الترجيح، وفي الكتاب السادس الاجتهاد، وفي الكتاب السابع الفتوى.

 

وفي كل ذلك يعتبر أمام الحرمين مجددًا لأن المقدمة الأصولية العامة التي تقع في صدارة كتب الأصول لم تكن كاملة ومتبلورة قبله، وتعتبر إضافة من إضافاته، وصورة من صور تجديده اللافت كما أن ترتيبه لقضايا الأصول في كتب تندرج تحتها أبواب، وفصول، ومسائل يعتبر هو الآخر تجديدًا لم يسبق إليه.

 

وللبراعة التي اتسم بها عرض إمام الحرمين للقضايا الأصولية وتصنيفها والتجديد الذي تمثل في كتابه “البرهان” كان كتابه من أهم المدونات الأصولية التي أرست قواعده، ومهدت مسائله، وأعطته صورة مستقلة كاملة(84) .

 

ومن آيات تجديد الإمام في هذا الجانب أيضًا أن برهانه صار منطلق الكتابة والتأليف في أصول الفقه لمن بعده(85)، ابتداءً من تلميذه الغزالي الذي استفاد من مجرى تقسيمه وتأثر به وإن أضاف إلى ذلك بعض التجديدات الخاصة به(86) .

 

أما الاتجاه الثاني وهو تفرده في المنهجية في تناول القضايا الأصولية وتقاسيمها، فمنها:

 

1- عرضه للخلفية العلمية الخاصة بالمسألة محل البحث.

 

2- طريقته في بحث المسائل وتتبع جذورها.

 

3- تصديره لكل باب بتمهيد خاص به.

 

أما عرضه للخلفية العلمية الخاصة بكل مسألة يتناولها فهو منهجية سليمة، وعادلة ، ومحققة لخاصية الربط والوصل لرأيه بالأدلة التي سبقته وذلك لاعتبارات: أولها: أن أي رأي أصولي لا ينشأ من فراغ وحتى لو كان ما يقدمه إمام الحرمين من باب الإضافة فإن الإضافة عادة ما تكون مؤسسة على غيرها أو متصلة به بوجه من الوجوه، وثانيها: أن الآراء التي يعرضها إمام الحرمين ومن ثم يبني عليها تحليله للمسألة هي آراء الأئمة المؤسسين الذين بدأت شمولية أصول الفقه على أيديهم كالقاضي أبي بكر الباقلاني (ت403هـ) والقاضي عبد الجبار (ت415هـ) وثالثها: أن هذه الآراء وردت في كتب خاصة بأولئك الأئمة لكنها لم تصلنا حتى الآن بل ربما لم تعرف نسبتها إلى أصحابها من قبل، وعرض إمام الحرمين لها فيه شهادة بصحتها أولًا، وتعريف بتفاصيلها ثانيًا، فوق ما فيه من بناء إمام الحرمين آراءه عليها سواء كان موافقًا أم مخالفًا(87) .

 

أما طريقته في بحث المسائل وتتبع جذورها فهي الأخرى منهجية حسنة من شأنها أن تكشف عن هذه الآراء كشفًا بينًا يمكِّن من نقدها أو استحسانها، ومن أمثلة ذلك تتبعه للجانب اللغوي في المباحث الأصولية وما قرره بعد ذلك التتبع الكلي من أن مسلك الأصوليين الأولين في ذلك كان مسلكًا مقبولاً حيث أنه ركز على ما يحتاجه الشرع من تلك المباحث وإن أغفله أئمة العربية، على أن هذا المسلك من إمام الحرمين كثيرًا ما كان يهديه هو نفسه إلى عدم الحاجة للتوسع في بعض القواعد العربية فينقد الأصوليين في ذلك، ويراجعهم منبهًا ومصححًا، وهذا اتجاه عملي مفيد من إمام الحرمين، ورغم ذلك فإن المتأخرين من الأصوليين لم يأبهوا به وشحنوا كتبهم بمباحث لغوية هي من صميم اختصاص علماء اللغة والنحو ولا تخدم الغرض الأصولي الذي ركز عليه الأصوليون المتقدمون واستحسنه إمام الحرمين آنذاك (88) .

 

وتأتي أخيرًا النقطة الخاصة بتصديره لكل مبحث بتمهيد خاص به، وهذا الاتجاه من إمام الحرمين امتداد لخطه المنهجي العام القائم على بسط المسألة ليتم تصورها بطريقة كاملة ومستوعبة، وهو منهج اتسم به خطه في تناول أصول الفقه في جملته عن طريق البدء بالمقدمات، ومن ثم جودة التقسيم والترتيب إلى أن يصل به الشأن إلى تقديم أي مادة أصولية ذات صفة جملية بما يمكن أن يؤدي إلى فهمها وتصورها قبل الدخول في تفاصيلها، على أن هذا المسلك قد يتطلب منه أن يتناول كل باب أو مسألة بما يتفق مع طبيعة ذلك الباب أو المسألة، أما الاتجاه الثالث وهو الحركة الداخلية لتفكير إمام الحرمين، فهي حركة – كما وضح من شرح الاتجاهين السابقين – تقوم على الإفراط في الدقة، والحرية في البحث من حيث عدم التقيد بآراء الآخرين، أو الدخول في المسألة وهو محكوم سلفًا بنظرة مبدئية، وإنما كان ديدنه أن رأيه دائمًا وليد البحث والنظر وكفاية الأدلة.

 

وإضافة إلى ما تقدم فإن لإمام الحرمين تميزًا وتجديدًا في باب المقاصد التي يتردد مفهومها عنده كثيرًا سواء كان بلفظ المقاصد نفسه أو بغيره من الألفاظ المعبرة عنها كلفظ الغرض أو الأغراض، وقد جاء ذلك عنه في معرض ما يسمى بالمقاصد الجزئية كمقاصد الطهارة، وأتبع ذلك في باب القياس بتقسيم خاص به أورده وفق طريقته عند ذكره لآراء من سبقه من العلماء في المسألة حيث ذكر أقسامهم، ثم بين تقسيمه الذي قسم المقاصد من خلاله إلى ضروريات وحاجيات وتحسينات ومندوبات، والخامس ما لا يظهر فيه تعليل واضح ولا مقصد محدد مع تعقيبه على الأخير بأنه يندر وجوده(89) . وبذلك كان صاحب السبق في تقسيم المقاصد الذي وسعه الإمام الشاطبي – فيما بعد – وأكثر من الاستدلال له، والتطبيق عليه.

 

وفيما وراء ذلك فإن لإمام الحرمين تجديدًا أصوليًا مقدرًا أورده في كتابه: “غياث الأمم في التياث الظلم” ويقع هذا المقطع في باب سماه “الأمور الكلية والقضايا التكليفية” من كتابه المذكور عند حديثه عن خلو الزمان من المفتين ونقلة المذاهب،  وقرر فيه القواعد الكلية التي تسعف الناس في الفتوى عند إندراس التفاصيل، والقواعد الكلية التي يشير إليها هنا يعني بها قواعد المقاصد لا قواعد الأحكام التكليفية الجزئية(90) ، دليل ذلك أنه عندما بدأ حديثه عن “المكاسب” رد التأصيل فيها إلى المقاصد ثم قال نبني على تلك المقاصد قواعد تعين إذا عسر مدرك التفاصيل في التحريم والتحليل.

 

دور الإمام الغزالي في تجديد أصول الفقه:

 

للإمام أبي حامد الغزالي (ت 505هـ) دور مقدَّر في تجديد أصول الفقه أعانه عليه تكوينه العلمي الواسع؛ إذ تمتع بمعرفة الأصول، والفقه، والفلسفة، وعلم الكلام، وكان في ذلك دائرة معارف في عصره(91) . وفي هذا المعنى قال عنه الشيخ المراغي : إذا ذكر الغزالي فقد تشعبت النواحي ولم يخطر بالبال رجل واحد بل خطر بالبال رجال متعددون لكل واحد قدره وقيمته(92) .

 

وفي علم الأصول خاصة يعد كتاب “المستصفى” الذي نتناول دور الإمام الغزالي في التجديد من خلاله أحد أربعة كتب نوَّه ابن خلدون بأنها عمدة هذا العلم(93)، كما أنه يعتبر بمثابة التاج لكتبه الأصولية الأخرى، فقد سبقه “المنخول من تعليقات الأصول” وهو مقتبس – كما قال الغزالي نفسه – من تعاليق إمام الحرمين، ومقولته هذه وردت في آخر كتاب “المنخول” وهي: “هذا تمام القول في الكتاب وهو تمام المنخول من تعليق الأصول بعد حذف الفضول، وتحقيق كل مسألة بماهية العقول، مع الإقلاع عن التطويل، والتزام ما فيه شفاء الغليل، والاقتصار على ما ذكره إمام الحرمين رحمه الله في تعاليقه من غير تبديل وتزييد في المعنى وتقليل إلخ..”(94) وفوق ذلك فإن الإمام الغزالي قد أعرض عن كثير من الآراء التي اعتمدها فيه(95) .

 

وسبقه أيضًا كتاب “شفاء الغليل في مسالك التعليل” وهو خاص بمسالك التعليل كما هو واضح من عنوانه، وتظهر مكانة “المستصفى” عند الإمام الغزالي خاصة في اعتماده له بقوله: “ثم ساقني قدر الله تعالى إلى محاولة التدريس والإفادة، فاقترح عليَّ طائفة من محصلي علم الفقه تصنيفًا في أصول الفقه”(96) كما أنه يعتبر وسطًا بين الإيجاز الذي غلب على “المنخول” والإطناب الذي غلب على “تهذيب الأصول” وهو كتاب أصولي آخر له ذكره في مقدمة كتابه “المستصفى”(97) .

 

وفي كل الأحوال فإن “المستصفى” لكونه آخر كتب الإمام الغزالي فقد تخلى فيه عن تبعيته المطلقة لأستاذه إمام الحرمين في آرائه كما أتقن تحريره بناء على رغبة محصلي العلم الذين أشاروا به عليه؛ ولهذا كان نموذجًا فريدًا في تأليفه وتصنيفه، وقد رشحه لذلك أن تأليفه جاء بعد هضم الإمام الغزالي لما تقدمه من كتب الأصوليين واستيعابها، وبشكل خاص كتب ومعارف أستاذه المباشر “إمام الحرمين” الذي تتلمذ على يديه، واستفاد من قدراته الأصولية الفائقة، وهي قدرات انعكست في تجديداته المنهجية العالية التي فرغنا من الحديث عنها قبل التهيؤ للحديث عن تجديدات الإمام الغزالي.

 

وللاعتبارات السابقة كلها ولغيرها مما لم نفطن له كان “المستصفى” خلاصة مركزة امتد عبرها تجديد السابقين، وصاحبتها تجديدات الإمام الغزالي التي تفرد بها، وبذلك كان ذا أثر بعيد في المراحل اللاحقة لمرحلته حيث تبعته كثير من الشروح والمختصرات والتعليقات(98)، كما تأثر المنهج الأصولي – في عمومه – بروح إضافاته وتجديداته في بعض الأحوال، وبنصها في أحوال أخرى.

 

وبناء على ذلك فإن التجديد الذي وافى به الإمام الغزالي علم الأصول يمكن إجماله في الزوايا الآتية:

 

1- التسلسل والترتيب.

 

2- المنهجية.

 

3- الأسلوب والمعالجة البيانية.

 

1- أما خاصية التسلسل والترتيب فهي من الوجوه التي شغلت بال الأصوليين كثيرًا في ذلك العصر يؤكد ذلك ما رأيناه من اهتمام إمام الحرمين بذلك، وأن الترتيب كان يمثل صورة من صور تجديده الأصولي.

 

وقد يرجع السبب في هذا الاهتمام إلى أن المباحث الأصولية كان يتم تناولها – في البداية – وهي متناثرة من غير رابط أو أداة تنسيق تجمع بينها وتضمها إلى بعضها فمست الحاجة إلى الترتيب، إلا أن ذلك الترتيب كان يتم بالتدريج وأن الذي بدأه هو الجصاص الحنفي، وممن سلك مسلكه الشيرازي الشافعي (ت476هـ) والبزدوي (ت 483هـ) والسرخسي (ت 490هـ) وهما حنفيان أيضًا، ومع ذلك فإن جهد هؤلاء الأعلام في الترتيب كان بسيطًا ومحدودًا ويوافي فقط طبيعة مرحلتهم والمؤلفات التي كانت متاحة فيها(99)، على أن ترتيب الجصاص خاصة – وهو أسبقهم وأوسعهم في هذا المضمار – كان منتزعًا من طبيعة كتابه وهي طبيعة عملية لأن كتاب “الفصول في الأصول” كان بمثابة المقدمة لكتابه في تفسير آيات الأحكام “أحكام القرآن” لذلك دار اهتمامه فيه على ما يخدم القرآن الكريم من المباحث الأصولية، ولاشك أن ذلك انعكس على المفاصل التي اهتم بها، يظهر هذا في اهتمامه “بدلالات الألفاظ” وجعلها في صدر الموضوعات الأصولية في كتابه مع مداخلته بينها وبين مباحث الحكم الشرعي، ثم قفي – بعد ذلك – بتناول السنة ، والإجماع، والقياس، والاستحسان، والاجتهاد، وبذلك أسقط من حسابه وحدة مباحث الحكم الشرعي، ومباحث التعارض والترجيح كما لم يهتم بالتأصيل للمصالح والمقاصد وإن كانت الأخيرة قد ترجع أيضًا لطبيعة طريقة الحنفية وهي طريقة فروعية أكثر منها تأصيلية(100) . وبالمقابل فقد توسع في بعض الموضوعات التي تناسب غرض كتابه كالنسخ والعام والخاص، كما اهتم ببحث الموضوعات التي كان بين الحنفية وبين الإمام الشافعي نزاع في مداليلها كمسائل الاستحسان(101) .

 

ثم جاء إمام الحرمين فخطا بهذا الترتيب خطوة أوسع إلا أن خطوته انحصرت في المقدمات الأصولية، والسعي لدراسة المباحث الأصولية – عمومًا – في إطار وعاء ضابط حيث قسمها إلى كتب تحتها أبواب تليها فصول فمسائل مع مميزاته التجديدية الأخرى التي سلف بسطها في موضعها.

 

فلما جاء الإمام الغزالي اتجه إلى تطوير كل ذلك حيث بدأ بالمقدمات الأصولية إلا أنه تناولها بطريقة منطقية جامعة بحيث تصلح مقدمة لكل العلوم(102) .

 

ثم ركز المباحث الأصولية في أربعة أقطاب، القطب الأول “الثمرة” وهي الحكم لأن الأصول قواعد يتوصل بها إلى استنباط الأحكام من الأدلة، والقطب الثاني “أدلة الأحكام” وقد حصرها في الكتاب والسنة والإجماع، والعقل، والاستصحاب، ثم عرض ما سواها من الأدلة المختلف فيها لكنه سماها بالأدلة الموهومة، والقطب الثالث هو “كيفية استثمار الأحكام من الأدلة” وجعل هذا القطب في مقدمة تتناول مبدأ اللغات وما يتصل بذلك من تقسيم الأسماء إلى لغوية وعرفية، وشرعية، وماهية الكلام المفيد، وطرق فهم المراد من الخطاب، والحقيقة والمجاز ثم بحث النظر في الصيغة وهي متن الكلام: المجمل والمبين، والظاهر والمؤول، والأمر والنهي والعام والخاص، ثم بحث ما يعتبر من الألفاظ من حيث الاقتضاء، والإشارة وفهم التعليل، وفهم غير المنطوق، والمفهوم، وأخيرًا كيفية الاستثمار من الألفاظ وبحث فيه القياس.

 

وهنا قد نقف لنشير إلى أن الإمام الغزالي لم يعتبر القياس دليلًا مباشرًا كغيره من الأصوليين وإنما أدخله في باب استثمار الأحكام من النصوص، وهذا لا يؤثر في وضعية القياس كمصدر اجتهادي إلا أنه نحا به نحوًا آخر من حيث أنه محمول على النص وليس بمستقل عنه.

 

والقطب الرابع “حكم المستثمر” وتناول فيه الاجتهاد والاستفتاء والتقليد والترجيح( 103) .

 

وفي النهاية فإن تقسيم الإمام الغزالي هذا للأصول فيه تجديد حيث رد الأصول إلى قسمة عالية ضابطة؛ ولهذا كان مغتبطًا به لما فيه من جودة الترتيب ولإحكامه ضم شتات الموضوعات الأصولية وتوجيهها، يدل على ذلك وصفه له بقوله: “جمعت فيه بين الترتيب والتحقيق لفهم المعاني، فلا مندوحة لأحدهما عن الثاني، وأتيت فيه بترتيب لطيف عجيب، يطلع الناظر فيه في أول وهلة على جميع مقاصد هذا العلم، ويفيده الاحتواء على جميع مسارح النظر فيه، فكل علم لا يستولي الطالب في ابتداء نظره على مجامعه، ولا مبانيه فلا مطمع له في الظفر بأسراره ومباغيه”(104) .

 

2- المنهجية: تتسم منهجية الإمام الغزالي في كتابه “المستصفى” بالموضوعية حيث درج على إيراد أدلته أو أدلة مخالفيه بتحرٍ يتجنب فيه الضعيف ولا يذكر إلا القوي الذي يحمل وجهة النظر بصورة مباشرة، ويتحلل مما كان عليه كثير من المتكلمين من حيث الإكثار من الأدلة والحجج للانتصار فقط لأئمتهم أو بقصد الغلبة في مجال الجدل والمناظرة، أو بقصد الرياضة  الذهنية(105) ، وقد ساعدت هذه السمة على تصفية علم الأصول من بعض المسائل كمسألة تعبد النبي r بشرع أحد من الأنبياء السابقين، ومسألة مبدأ اللغات وهل كان اصطلاحًا أو توقيفًا؟ كما أنه كان ينبه صراحة إلى أن بعض الموضوعات ليست من علم أصول الفقه(106) وإن كان يذكرها لكنه يعتذر عند ذكره لها بأنها غدت من المألوف، “والفطام عن المألوف شديد”(107) .

 

ومن مظاهر موضوعية الإمام الغزالي في منهجه تحقيقه للمسائل الأصولية التي يثيرها، ويعبر في هذا الصدد “بكشف الغطاء عن هذا” و “التحقيق في هذا” و”تحقيق القول” إلى غير ذلك من العبارات التي تدل على مراده في التحقيق والتدقيق(108) .

 

أضف إلى ذلك تركيزه على المعاني وزهادته عن التعلق بالألفاظ، ويكفي في الاستدلال على هذا المسلك عنده قوله: “فاعلم أن كل من طلب المعاني من الألفاظ ضاع وهلك، وكان كمن استدبر المغرب وهو يطلبه، ومن طلب المعاني أولاً في عقله، ثم أتبع المعاني الألفاظ فقد اهتدى”(109) .

 

وقد تمتع الإمام الغزالي مع موضوعيته باستقلال شخصيته العلمية “إذ كان يناقش ويعترض، وينقض، ويرجح، ويستقل بالرأي وإن خالف إمام مذهبه محمد بن إدريس الشافعي أو غيره من الأئمة المجتهدين”(110) .

 

ونتيجة لكل ذلك فقد كان رصيد اجتهاداته واختياراته الأصولية كبير(111) .

 

3- الأسلوب والمعالجات البيانية: يمتاز أسلوب الإمام الغزالي بسلامة وسلاسة ويسر تعبيره الأصولي، وقد مكنه ذلك من سرعة الوصول إلى غرضه، وسبب ذلك وضوح الأفكار والمعاني في ذهنه مع كرهه للتكلف والتعقيد، والتطويل بلا طائل.

 

وفوق ذلك كله فقد جدد الإمام الغزالي في “المستصفى” وغيره من كتبه الأصولية في المقاصد الشرعية، وخطا بها خطوة واسعة من جهة التنقيح والتحرير والتركيز والوضوح حتى غدت المبادئ التي أرساها في ذلك هي “المبتدأ والمنتهى لعامة الأصوليين الذين جاءوا بعده”(112) .

 

4- عز الدين بن عبد السلام:

 

العز بن عبد السلام (ت 660هـ) واحد أيضًا من المجددين في أصول الفقه، وفي ذلك قد لا يختلف عن المجددين الذين سبقوه في هذا الباب إلا أنه قد يختلف عنهم في أن الذين سبقوه كان غالب تجديدهم في التناول الكلي لعلم الأصول من جهة الترتيب والتنسيق، ورفد منهجيته بالدقة والتحقيق في تناول القضايا الأصولية وتقاسيمها، وجمع النظائر في مكان واحد بالإضافة إلى المقدمات وغيرها من مناهج التوطئة والتمهيد، كما أن قاعدة تجديدهم كانت منطلقة من المؤسسات الأصولية التي يتبعونها، وأن مدارسهم كانت متأثرة باللغة والمنطق وأدوات النظر التي كانت رائجة آنذاك.

 

أما تجديد الإمام العز فقد اتسم بالتركيز على باب واحد هو باب المصالح، على أن اختيار الإمام لهذا الباب يعتبر – عندي – طبيعيًا لسببين:

 

أولهما: أن التجديد الكلي قد تكفل به الأوائل الذين سبقوه ولم تبق إلا التفاصيل والتجديد في جزئيات أصول الفقه لا كلياته.

 

ثانيهما: أن المصالح التي جدد الإمام في بحثها وإن بدت جزئية في إطار التصنيف لكنها كلية من جهة الموضوع، لأن المصالح – في النهاية – تمثل الغاية والمقصد لكل أحكام الشرع.

 

هذا وإن اختلف منهج الإمام العز بن عبد السلام عن الذين سبقوه في الاتجاهين السابقين فقد اختلف عنهم من وجهة أخرى وهي ربطه لتناول المصالح بالقاعدية والإفصاح عنها صراحة، وبذلك حدث تداخل بين أطروحته وبين قواعد الفقه المتعارف عليها، وقد يكون الأمر هنا هينًا؛ لأن تلميذه القرافي (ت 681هـ) يعتبر القواعد الفقهية قسمًا من قسمي أصول الشريعة، ويجعل أصول الفقه المتعارف عليه قسيمًا لها(113)، فضلاً عن أن القاعدة عنده قد لا تعني القاعدة الفقهية بمعناها الدقيق، وإنما تعني القاعدة المقاصدية التي اهتم بها إمام الحرمين قبله في كتابه: “غياث الأمم في التياث الظلم” وقد سلفت الإشارة إلى ذلك(114) .

 

وفي كل الأحوال فإن انفكاك الإمام العز بن عبد السلام من إسار طريقة المتكلمين وتوخيه تناول المصالح في إطار القاعدية، قد أكسب أسلوبه – في دراسة المصالح – الوضوح والسلاسة، وأبعده عن الصرامة المنطقية التي كانت ديدن المتكلمين الذين اعتادوا على تناول المصالح من خلال المناسب الذي يقسمونه إلى مناسب مؤثر وغريب وملائم مع اختلافهم في حقيقة كل واحد من هذه المصطلحات في كثير من الأحيان(115) .

 

وأخيرًا فإن تجديد الإمام العز بن عبد السلام في المصالح ومقاصد الشريعة من خلال كتابه “قواعد الأحكام في مصالح الأنام” أو “القواعد الكبرى” قد شهد به الأولون قبل المعاصرين وإن كان للمعاصرين – لظروف زمانهم – اهتمام كبير بالمصالح والمقاصد، وفي ذلك ورد عن العلائي (ت 761هـ) في مقدمة كتابه “المجموع المذهب في قواعد المذهب” قوله: “كتاب القواعد الذي اخترعه شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام هو الكتاب الذي لا نظير له في بابه”(116) وكان الإمام السيوطي أصرح منه في ذلك حيث وصف كتاب القواعد بأنه أول من فتح هذا الباب “أي نظرية المقاصد”(117).

 

ويؤكد ذلك أكثر ما أُثِرَ عن الإمام العز نفسه من نزعة أصيلة في إنكار التعصب المذهبي بل ونقده، ومن إنكاره لجموع المقلدين، وفي ذلك يقول: “ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعًا، ومع هذا يقلده فيه، ويترك من شهد الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه، جمودًا على تقليد إمامه، بل يتحيل لدفع ظواهر الكتاب والسنة، ويتأولها بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالًا عن مقلده”(118) .

 

وبصورة محددة يمكن أن نعزو تجديد الإمام العز في باب المصالح في كتابه “القواعد” إلى ما يلي:

 

1- تأصيله لنظرية المصالح.

 

2- تقسيم المصالح والمفاسد.

 

3- تفاوت المصالح والمفاسد.

 

4- منهجية التمازج بين النظر الفقهي والأصولي في تناول نظرية المصالح.

 

ثم يأتي تفصيل ذلك كله على النحو التالي:

 

1- تأصيله لنظرية المصالح:

 

لا شك في أن تأصيل فكرة المصالح وتوسيعها أمر جد ضروري ومفيد من جهة أنه يقف بنا على حقيقة المصالح وكنهها ومن بعد تفاصيلها ومقتضياتها، على أن الفائدة في هذا الإطار – قد تزداد أكثر إذا قارنا مسلك الإمام وجهوده مع من سبقه من العلماء والشراح من الأصوليين، إذ كانوا يقدمون على بحث المصلحة – غالبًا – من خلال بحث المناسبة، في باب القياس، وهو مبحث لا يتيح التوسع في التعرف على المصالح وامتداداتها لسببين:

 

أولهما: أن مبحث المناسبة مبحث محدود كما أنه لم يأت أصالة لبحث المصلحة وإنما جاء في إطار “مسالك العلة” التي تشمل النص والإجماع والمناسبة، ولما كانت المناسبة هي جلب المصلحة ودرء المفسدة فقد قاد هذا بدوره إلى الحديث عن المصالح ؛ فالمصالح فيه تبعية من جهة التناول إذ لم يقصدها البحث مباشرة، وإنما توجه إليها عبر مسالك العلة، ومسالك العلة مبحث واحد من مباحث كثيرة ومتشعبة في باب القياس.

 

ثانيهما: أن طريقة الأصوليين في بحث المناسبة كان يتسم – كما أسلفنا – بشيء من التعقيد والصعوبة في مقام يقتضي البسط والشرح كثيرًا، كما أنه يخلو – تبعًا لذلك – من التطبيق، وتنزيل المصالح على الوقائع بالسعة المطلوبة فضلًا عن افتقاده لخاصية التأصيل والتقعيد والتنظير لنظرية كبيرة وحاكمة كنظرية المصالح التي تعود إليها كل أحكام الشريعة في نصوصها المدونة في القرآن والسنة وفي اجتهادات فقهائها منذ عهد الصحابة إلى ما بعد عصر الأئمة المجتهدين (119).

 

ومع ذلك كله لا يمكن لنا أن ننكر دور الأصوليين السابقين في التوطئة والتمهيد للمباحث الواسعة المتخصصة التي جاءت بعد ذلك في المصالح والمقاصد سواء في ذلك جهد الإمام العز بن عبد السلام، أو جهد الإمام أبي إسحق الشاطبي.

 

وتبدو حاجة المصالح إلى مثل هذا النوع من التناول الواسع في أن الإمام العز بن عبد السلام حينما تناول قضية المصالح بادر فبيّن ” أصل المصالح من جهة أن الله جل شأنه أرسل الرسل، وأنزل الكتب لإقامة مصالح الدنيا والآخرة ودفع مفاسدهما”(120) .

 

ثم رتب على ذلك أن الشريعة كلها مصالح إما من جهة جلبها للمصلحة أو من جهة درئها للمفسدة لأن درء المفسدة من جملة اعتبار المصالح(121) .

 

وعليه كانت هذه بداية التأصيل عنده لفكرة المصالح، ويبدو لي -والله أعلم – أنه لو لم تكن الحاجة إلى البحث الواسع في المصلحة واردة لما احتاج الإمام العز في تأصيله للبدء بهذا المقطع الذي قد يبدو لأول وهلة بديهيًا وضروريًا.

 

ثم أتبع ذلك ببيان أن الله أمر عباده برعاية هذه المصالح حيث أمر بكل خير، ونهى عن كل شر مع وعده بالثواب على فعل الخير، ووعيده بالعقاب على فعل الشر ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7، 8] .

 

ثم تابع تأصيله بأن جلب المصالح ودرء المفاسد مبني على الظنون، ومعظم ظنونه صادق موافق غير مخالف ولا كاذب، ومن ثَمَّ فلا يجوز تعطيل المصالح الغالبة خوفًا من ندور كذب الظنون(122) كما بين مبدأ الاستثناء من العموم استجابة لما يعارضه ويرجح عليه(123) . ثم بين ما تعرف به المصالح والمفاسد فقرر أن مصالح الدنيا ومفاسدها معروفة بالعقل، ويعني بذلك قبل ورود الشرع(124) . مع إيراده لكثير من النماذج والتطبيقات على قوله، وأما مصالح الآخرة ومفاسدها فلا تعرف إلا بالنقل(125) .

 

ثم قرن ذلك بكسب الناس فبين أن منه ما هو سبب للمصالح، وما هو سبب للمفاسد(126) ، ووصل ذلك ببيان حقيقة المصالح وهي عنده أربعة أنواع: اللذات وأسبابها، والأفراح وأسبابها، والمفاسد أربعة أنواع أيضًا: الآلام وأسبابها، والغموم وأسبابها(127) .

 

قسم في إطار ذلك المصالح إلى حقيقية وهي الأفراح واللذات، وإلى مجازية وهي أسبابها(128) .

 

ثم وقف عند أمر هام وهو أن المصالح المحضة قليلة، وكذلك المفاسد المحضة، والأكثر من ذلك هو ما اشتمل على المصالح والمفاسد(129) . مع بيانه لمسلك عملي مرتبط بالمسألة هو أن الشارع حث على جلب المصالح ودرء المفاسد(130) ، ومن ثم وضح ما يترتب على الطاعات والمخالفات(131) .

 

ونقف أخيرًا عند تقريره أن ما عرفت مصلحته يعبر عنه “بمعقول المعنى” وما خفيت عنا مصلحته يسمى “بالتعبد”(132) ثم دخل في تفاصيل كثيرة قد يدخل بعضها في عناصر التجديد الأخرى عنده والتي سوف نأتي على ذكرها وبيانها تباعًا.

 

2- تقسيم العز بن عبد السلام للمصالح والمفاسد:

 

يأتي الإمام العز لتقسيم المصالح من جهات متعددة فهو يقسمها أولاً من جهة معرفتها:

 

1- ما يعرفه الأذكياء والأغبياء.

 

2- ما يختص بمعرفته الأذكياء.

 

3- ما يختص بمعرفته الأولياء(133) .

 

ومن جهة الخلوص وعدمه إلى : 1- ما هو مصلحة خالصة من المفاسد السابقة واللاحقة والمقترنة ولا تكون إلا مأذونًا فيها، إما إيجابًا أو ندبًا أو إباحة.

 

2- ما هو مصلحة راجحة على مفسدة أو مفاسد وتكون مأذونًا فيها.

 

3- ما هو مصلحة مساوية لمفسدة أو مفاسد.

 

4- ما هو مساوٍ لمصلحة أو مصالح(134) .

 

ومن جهة التأجيل والتعجيل إلى :

 

1- مصالح واجبة التحصيل.

 

2- مندوبة التحصيل.

 

3- مباحة التحصيل، والمفاسد كذلك إلى:

 

1- واجبة الدرء.

 

2- ما تختلف في الشرائع.

 

3- ما يدرأه الشرع كراهة له(135) .

 

ومن جهة الدنيا والآخرة إلى:

 

1- مصالح أخروية.

 

2- دنيوية، وهي أيضًا قسمان:

 

1- ناجز الحصول.

 

2- متوقع الحصول (136) .

 

ويقسمها من جهة تبعية فرضيتها إلى فروض كفايات، وفروض أعيان(137) ، ومن جهة كونها وسيلة أو مقصد إلى مقاصد ووسائل، ويطّرد هذا التقسيم عنده أيضًا في المفاسد(138) . ومن جهة نفاستها وعدمها إلى نفيس وخسيس، ودقيق ، وجليل، وكثير وقليل، وجلي وخفي(139).

 

3- تفاوت المصالح والمفاسد:

 

يرتبط هذا العنصر بالعنصر الذي سبقه وهو تقسيم المصالح، وفيه يقرر أن أوجب المصالح المصلحة التي أوجبها الله عز وجل نظرًا لعباده وهي متفاوتة الرتب منقسمة إلى الفاضل والأفضل والمتوسط بينهما كما يقسمها إلى عاجلة وآجلة(140) .

 

والضرب الثاني منها ما ندب الله عباده إليه إصلاحًا لهم (141). كما يبين رتب المفاسد وأنها ضرب حرم الله قربانه، وضرب كَرَّه الله إتيانه(142) ، وكل منهما إلى عاجلة وآجلة (143)، كما يتناول منهجية الترجيح بين المصالح في نفسها وبينها وبين المفاسد (144).

 

4- منهجية التمازج بين النظر الفقهي والأصولي:

 

تتميز منهجية الإمام العز في تناول المصالح بالسعة والشمول بطريقة يتمازج فيها الفقه والأصول في الوفاء بالمراد، وهو هنا يتجاوز منهجه إثبات المصالح وإنما يمتد إلى شمولية التعليل بالمصالح والمفاسد حتى للقسم التعبدي(145) . وفوق ذلك يستثمر هذا التعليل في الاستدلال على الأحكام الشرعية بمختلف كتبها وأبوابها كما أن للفقه العام والسياسي في أمثلته وتطبيقاته نصيبًا مقدرًا، وبالإضافة إلى هذا فهو لا يفرق بين المصالح والمقاصد وإنما المقاصد عنده تحصيل المصالح ودفع المفاسد، ودليل ذلك أنه لما اختصر كتابه “قواعد الأحكام” سمى ذلك المختصر “الفوائد في اختصار المقاصد”(146) .

 

وما بين هذا وذاك فإن الإمام العز يتميز بفقه الواقع، ويستدل كثيرًا بمعطياته وبمقتضيات التجارب الدنيوية؛ فترى عنده طبًا أحيانًا(147)، ومعرفة بالنفوس وخلجاتها أحيانًا أخرى، أما تتبعه واستقراؤه للتفاصيل والجزئيات الفقهية فحسبك فيه كثرة ما جاء في كتابه من أمثلة وشواهد.

 

5- الإمام ابن تيمية:

 

المجدد الخامس لأصول الفقه هو شيخ الإسلام عبد الحليم بن أحمد بن عبد السلام بن تيمية (ت 728هـ) وهو إمام ومصلح، وعالم نابه الذكر: حفظ القرآن في صباه ثم أتبعه بحفظ الحديث، ومن ثم تعرف على آراء الصحابة وأقوال التابعين كما أتقن علوم العربية، وألمَّ بأخبار العرب، وكان ذا معرفة بالحساب والجبر، واهتم ـ بشكل خاص ـ بدراسة النِحَل والمذاهب دراسة عميقة وواسعة، وقرأ الفلسفة ودقائقها ، واطلع على جميع ما ألفه علماء الكلام من متقدمين ومتأخرين، ولموسوعيته المعرفية هذه قال عنه كمال الدين الزملكاني (ت 727هـ) : “كان إذا سئل في فن من الفنون ظنَّ الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن(148) “، وقال عنه ابن دقيق العيد (ت 702هـ) “لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلًا كل العلوم بين عينيه يأخذ ما يريد ويدع ما يريد”(149) والأقوال التي تدل على عبقريته واتساع معارفه كثيرة على كل حال نكتفي منها بما ورد لنتجه إلى موضوعنا وهو تجديداته في أصول الفقه، ولعلَّ أول كلمة تقال في هذا الصدد أن ابن تيمية لم يكن له كتاب مستقل في علم أصول الفقه، على أن باحثًا معاصرًا قد جهد واستقرأ آراءه الأصولية من خلال كتبه في العقائد والتصوف ، والتفسير، والحديث والمنطق فجمع من ذلك جملة صالحة تضع الإمام في مصاف الأصوليين المتقدمين في هذا العلم؛ إذ احتوت تلك الرسالة على جزئين وبلغ عدد صفحاتها (890) صفحة فإذا استثنينا منها (96) صفحة للمقدمات العامة سواء كانت خاصة بتاريخ علم الأصول أو كانت متصلة بشخصية الإمام وعصره، و(83) صفحة للفهارس وهي كثيرة ومتنوعة يكون الحاصل (179) صفحة وبخصمها من العدد الكلي لصفحات الرسالة وهي (890) صفحة كما سبق يكون عدد صفحات ما أثر عنه من مسائل أصوليه (711) صفحة(150) ، وهذا قدر كافٍ في الدلالة على مكانته في هذا العلم فإذا أضفنا إلى ذلك أن آراءه الأصولية هذه كانت تأتي مبثوثة في فتاواه وآرائه، أنبأ ذلك عن قدرة هذا الإمام الأصولية وتمكن ملكة التنظير فيه، ونزعته إلى التقعيد والتأصيل، وحرصه على استخراج الكليات، واستخلاص المعايير والضوابط التي يبني عليها فقهه في عمومه، وهذا في – حد ذاته – عمل أصولي متقدم فضلاً عما فيه من اتجاه عملي يتناول الأصول تناولاً ميدانيًا مباشرًا بوصفه حاكمًا وموجهًا للآراء الفقهية.

 

وبالنظر للآراء الأصولية للإمام نستطيع أن نقول أن سمات آرائه الأصولية يمكن تجميعها فيما يلي:

 

1- الحرية في النظر الأصولي وعدم التقيد بالمذهبية بإطلاق.

 

2- الاعتماد على الكتاب والسنة في التنظير الأصولي.

 

3- التوفيق بين الثنائيات المتقابلة: العقل الصريح والنقل الصحيح، والحقيقة والشريعة.

 

4- البرهنة والاستدلال على القواعد الأصولية (151) .

 

ويبدو – والله أعلم – أن شيخ الإسلام لمجيئه في مرحلة متأخرة غلب عليها التقليد في الفقه والأصول فقد اتجه في آرائه الأصولية إلى النقد والتصحيح لما سبقه، لأن أي موضوع أصولي يتجه إليه من خلال فتاواه كان يجد فيه – في الغالب – رأيًا أصوليًا مقررًا فينقده ثم يقرر رأيه، ولعلَّه في هذا المنزع كان قريبًا من إمام الحرمين – أعني في اتجاهه من حيث الانطلاق إلى الرأي وبنائه على المناقشة مع الغير – وإلا فإن منزع الرجلين مختلف حيث تقوم رؤية إمام الحرمين على المنطق العقلي، وأما ابن تيمية فتقوم رؤيته على النص الذي يفسره العقل بواسطة اللغة بعيدًا عن المنطق والفلسفة.

 

وأخيرًا فإن أعمال ابن تيمية الأصولية – بناءً على الحيثيات السابقة – تمثل تجديدًا في أصول الفقه من جهة ما فيها من كسر لحاجز التقليد وتخطي تياراته، ومن حيث ما تمتع به من البرهنة والاستدلال القائم على الأصول الأولى – أصول السلف – بما فيها من نقاء وبعد عن الشوائب اللاحقة، ومن حيث ما في آرائه من التوفيق بين المتقابلات التي تتراءى لبعض الناس متناقضة، ومن حيث ما فيها – أيضًا – من اهتمام بمقاصد الشريعة الذي كان ابن تيمية يرى التوسع فيها وعدم حصرها في المقاصد الخمسة المقررة والمعروفة(152)، على أن آراء ابن تيمية الأصولية تتمتع بخاصية تجديدية أخرى هي تقريره لمبادئ وأصول الفقه العام “السياسي” الذي اهتم بقضاياه ومسائله، وهو فقه يرى بعض الداعين لتجديد أصول الفقه اليوم أن الفقه الإسلامي خلو منه.

 

وبناء على ما سبق من أفكار – في سياق أبعاد الموضوع وتشعباته – فإن ابن تيمية يمثل حلقة هامة ومتميزة من حلقات التجديد الأصولي سواء كان ذلك من حيث الاتجاه أو من حيث التناول، كما أن اتجاهاته هذه قد تركت أثرًا بعيدًا في تفكير الأمة الإسلامية، وقد نوه بذلك الإمام الشيخ أبو الحسن الندوي فقال: “وإن دعوة ابن تيمية هذه أثارت روحًا، ونشاطًا جديدًا في أوساط الأمة الفقهية والعلمية التي كانت قد توقفت منذ مدة بعيدة عن دراسة الأحكام والمسائل والتفكير فيها ومقابلتها مع الكتاب والسنة، وكان باب الاجتهاد مغلقًا منذ زمن بعيد، وهكذا فإنه قام ببعث الفكر الإسلامي الصحيح الذي وجد في القرون الأولى، وقامت عليه حياة المسلمين، وهو على أساس هذه المآثر العلمية والعملية كلها ، يعتبر من شخصيات التاريخ الإسلامي المصطفاة التي اختارها الله لتجديد هذا الدين، وبعثه من جديد”(153).

 

6- أبو إسحاق الشاطبي:

 

هو الإمام إبراهيم بن موسى بن محمد أبو إسحاق الشهير بالشاطبي (ت 790هـ) صاحب الموافقات والاعتصام، والإفادات والإنشادات وغيرها من التصانيف العالية التي تتسم بالسعة والشمول والعمق كما تتسم بالتنوع، وبهذا فهي تعكس المقدرات الفريدة لهذا الإمام العبقري النابه الذي كان يجيد النحو واللغة، ويتحلى بالطرافة والأدب، ويتقن حفظ القرآن الكريم ويعرف قراءاته، ويلم إلمامًا جيدًا بالسنة النبوية التي سعى لشرح بعض مقاطعها متمثلاً في شرحه لكتاب “البيوع” من صحيح البخاري، أما معرفته بالفقه والأصول فيكفي فيه كتاباه “الموافقات” و”الاعتصام” وفتاواه الكثيرة الموزعة في دواوين الفقه المالكي، وفضلاً عن ذلك فإن الإمام الشاطبي كان ذا حضور اجتماعي بيِّن في زمنه سواء كان ذلك عن طريق مراسلاته وإفاداته الكثيرة، أو كان عن طريق اشتغاله بوظيفة الإمامة والدعوة على أن هذا الحضور – فيما يبدو – قد سبب له بعض المتاعب حيث ألصقت به التهم، والتلفيقات وأصابته بعض المحن من جراء ذلك(154)، رحم الله أبا إسحاق الذي ترك في العالمين سفره المعروف “الموافقات” الذي دفع به إلى صدر المجددين في الإسلام، وكان عظيمًا بينهم في ذلك إن لم يكن أعظمهم(155) .

 

وتجديدات الإمام الشاطبي في علم الأصول التي تعنى بها هذه النبذة اليسيرة عنه تجديدات كثيرة وعديدة، ومده فيها واسع ومتقدم، ولئن تركز دور الإمام الشافعي في تدوين علم الأصول وجمعه وتحريره وتفتيح ينابيعه فقد لحقه هذا الإمام العظيم بدور كبير في زمنه اللاحق في القرن الثامن الهجري، حيث جدد في هذا العلم تجديدًا قد يصل إلى حد التأسيس في بعض جوانبه.

 

وسوف نتناول في هذه العجالة تلخيص أهم جوانب التجديد عنده من خلال النقاط الآتية:

 

1- دوافع التجديد عند الشاطبي واتجاهاته.

 

2- منهجية التجديد عند الإمام الشاطبي.

 

3- مضامين التجديد عند الإمام الشاطبي.

 

1- دوافع التجديد عند الشاطبي واتجاهاته:

 

لعلني لا أبعد عن الحقيقة كثيرًا إن قلت إن نزعة التجديد عند الشاطبي ترجع إلى سببين:

 

أولهما: أيلولة الفقه في زمنه إلى شكلية غذتها ظروف التقليد التي كانت سائدة آنذاك، وقد أدت تلك الشكلية إلى عدم قدرة الفقه على إعطاء الحلول العملية المناسبة للمستجدات التي طرحها واقع زمانه الذي كانت الحياة فيه في الأندلس تمور بأحداث متلاحقة ومتشعبة انعكاسًا لضعف الدويلات الحاكمة، وشراسة الأعداء من النصارى الذين كانوا يتربصون بالمسلمين الدوائر، وهذا بدوره قاد إلى شيء من الاستكانة والتبعية ساعدت فيه الأوضاع الخاصة والتربية غير الطبيعية القائمة على التقليد والتبعية.

 

ثانيهما: أن التصوف بلغ في زمنه شأوًا بعيدًا إلى الحد الذي خرج فيه بعض المتصوفة إلى الابتداع ومخالفة السنة(156) ، وقد يكون هذا السبب مرتبطًا بالسبب الأول من حيث عكسه لحالة الإحباط التي سادت الناس نتيجة ضعف دويلاتهم وانقسامها وحربها لبعضها، فعوضوا عن ذلك بالمبالغة في اتباع شيوخهم وتقديسهم واحترام آرائهم، على أن هذا الموقف من الشاطبي لا يعني -بحال – معارضته للمسلك الصوفي الصحيح، فقد كان الرجل معتدلًا ووسطيًا منصفًا، يدل على ذلك ترداده للوسطية كثيرًا في كتابه “الموافقات”(157) .

 

وللحقيقة يمكن أن نقول إن هذا الوضع الذي يعكسه السببان المذكوران – في جملته – لم يكن وليد عهد الشاطبي وإن تطور في عهده وبلغ ذروته في المغرب لظروفه الخاصة نتيجة الصراع الذي نشب فيه آنذاك، فقد سبق أن واجه الناس في المشرق مثله بعد تمكن التقليد فيهم؛ ولهذا غلب عليهم هم الآخرون وصفهم لكل جديد بأنه “بدعة”، وقد حاول فقيه وأصولي ضليع هو الإمام القرافي الخروج من هذا المأزق بالتفريق بين البدعة الحسنة المشروعة، والبدعة المذمومة المحظورة، إلا أن ذلك وحده لم يكن كافيًا للخروج من المأزق الذي كان فيه الناس ما لم يواجه الأمر في عمومه بحركة إصلاحية جديدة، وإلى تطوير المناهج الأصولية نفسها لتستوعب مستجدات الحياة وتنزلها مكانها من الدين، وهذا ما نهض به حقًا الإمام الشاطبي حيث ألف كتابه “الموافقات” وعدَّل فيه في المنهجية الأصولية بحيث تكون قادرة بسعة وإحكام لامتصاص مستجدات الحياة بأنماطها وقضاياها المختلفة، كما ألف كتابه “الاعتصام” الذي أخرج فيه ما وصف بأنه بدعة حسنة من حظيرة البدع وأدخلها في باب “المصالح المرسلة” وحصر البدع فيما هو مذموم فقط لئلا يظن أن كل أمر جديد حتى لو كان حسنًا من الأمور التي لا يقرها الدين لإسباغ وصف البدعة عليه.

 

وبناءً على طبيعة التجديد الذي قضى به الواقع من خلال إبداعات هذا الإمام العبقري الفذ فقد كان اتجاهه في التجديد اتجاهًا سلفيًا سواء في ذلك آراءه في العقيدة أو آراءه الأصولية، حيث فزع إلى القرآن والسنة وإلى آراء السلف من الصحابة وتفسيراتهم واتجاهاتهم توقيًا من التراكمات اللاحقة خوفًا من أن تحجب عنه رؤية الحقيقة، وقد أثر عنه في هذا الصدد في استدلالاته قوله – مثلاً – فيما يرتضيه: “والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح”(158)، وقوله فيما يتجنبه: “ولا تجده في القرآن ولا في السنة، ولا في كلام السلف الصالح”(159) كما كان يطلق وصف السنة على عمل الصحابة(160) .

 

ويعتبر أن كل ما جاء مخالفًا لما كانوا عليه هو الضلال بعينه حيث يقول: “كل ما جاء مخالفًا لما عليه السلف الصالح فهو الضلال بعينه” بل ويبالغ في التحذير من مخالفتهم “الحذر الحذر من مخالفة الأولين، فلو كان ثمة فضل ما لكان الأولون أحق به والله المستعان”(161) .

 

2- منهجية الإمام الشاطبي في تجديد أصول الفقه:

 

لما كان واجب الإصلاح التجديدي الذي تكفل به الإمام الشاطبي يحتم عليه النظر إلى الكليات والإغضاء عن الجزئيات، ليخرجَ -بناء على ذلك – بقانون مرن واسع ومستوعب – في الوقت ذاته – لأن المرحلة التي كان فيها تقضي بذلك فقد اتخذ الاستقراء منهجًا له؛ لأن الاستقراء يقوم منطقه على تصفح الأجزاء وتتبعها للخروج بقانون عام، وقسيمه الدليل الاستنباطي الذي يحمل فيه الخاص على الخاص(162) . والاستقراء ينقسم إلى قسمين استقراء تام وهو إثبات الحكم في جزئي لثبوته في كلي على الاستغراق، وهو يفيد القطع واليقين، واستقراء ناقص وهو إثبات الحكم في كلي لثبوته في أكثر جزئياته، وهو يفيد الظن(163) ، وفضلًا عن ذلك فإن الشاطبي كانت تلح على خاطره فكرة قطعية أصول الفقه؛ لهذا اتجه إلى الاستقراء لأنه الطريق الذي يصل به إلى قطعية الأدلة الأصولية(164) ، وقبل ذلك فإن أصول الفقه نفسه استقراء عند الإمام الشاطبي: “وأصول الفقه إنما معناها استقراء كليات الأدلة حتى تكون عند المجتهد نصب عين، وعند الطالب سهلة الملتمس”(165) ، وبدليل الاستقراء تمكن الإمام الشاطبي من تأكيد انقسام المقاصد إلى مراتبها الثلاث الضرورية والحاجية والتحسينية(166) . وإلى ترسيخ مبدأ تعليل الأحكام وأن التشريع قائم على رعاية المصالح(167) ، وإلى إجراء العام على عمومه، وإلى تنزل القرآن المدني على المكي(168) ، وإلى إثبات الوسطية(169) . إلى غير ذلك من مسائل أصولية كثيرة حفل بها كتابه “الموافقات” ولا بد من أن يلاحظ أن الإمام الشاطبي وإن استعار منهج الاستقراء من المنطق القديم إلا أنه أخضعه لمنطق النصوص الشرعية ومقتضيات النقل، ولهذا أضاف إليه ما أسماه بالاستقراء المعنوي وربطه بالتواتر المعنوي كما دعى إلى أن الاستقراء الناقص قد يفيد القطع واليقين عند توفر جملة من الشروط فيه(170) . فضلًا عن تقسيمه للاستقراء إلى أقسام تتفق مع نظرته إليه(171) .

 

وقد صاحبت منهجية الشاطبي في الاستقراء مظاهر منهجية أخرى منها قوة استدلاله، واستقصائه للحجج سواء كانت نقلية أو عقلية وحمايتها بدفع الاعتراضات المتوقعة عليها(172) وجودة التمثيل لما يقرره، والاقتصار على ما فيه ثمرة عملية مع موضوعية وتجرد واعتدال وإيثار للاتجاه اللغوي وتقديمه على المنحى العقلي، ولعلَّ مما يمتاز به الإمام الشاطبي في منهجه الاتجاه إلى التركيز والتقعيد للمقاصد، وهو تقعيد يصل إليه بعد غوص عميق بحثًا عن الأسرار والحكم، وفوق هذا وذاك فإن منهجه يقوم أيضًا على إيراد آراء الأصوليين السابقين ومناقشتها ونقدها سعيًا إلى تقويم الدراسة الأصولية، وهو مسلك كان يتبعه المجددون الذين سبقوه، وسلفت الإشارة إليه.

 

3- مضامين التجديد الأصولي عند الإمام الشاطبي:

 

حينما نأتي للحديث عن هذا الجانب من تجديد الإمام الشاطبي لأصول الفقه نجد أن منهجيته السابقة قد قادته بشكل تلقائي إلى تجديد مضامين كثيرة في علم الأصول، وذلك انطلاقًا من مبدأ الاستقراء الذي يتيح له الحرية لإضافة ما يرى إضافته على المباحث الأصولية بالإضافة إلى احتكامه إلى نظرية المقاصد عنده وهي نظرية – بلا شك – حاكمة ومسيطرة، وقد انعكست تجديداته تبعًا لذلك في باب الحكم الشرعي الذي جدد في محتواه في باب المباح من حيث مفهومه وأقسامه من حيث الكلية والجزئية، ومن حيث علاقته بمقاصد المكلف وأحواله، وأقسامه من حيث كونه خادمًا لغيره، وأوضاعه بحسب المآل والمصالح والمفاسد التي تعقبه، ومرتبة العفو وعلاقتها بالمباح، ومباحث العموم والخصوص وما يعتريها من قضايا الأعيان، وحكايات الأحوال، أضف إلى ذلك تجديداته في باب الاجتهاد واهتمامه بتحقيق المناط وهو الاجتهاد التطبيقي، وتقسيمه إلى عام وخاص، وأخيرًا الاجتهاد المقاصدي بضروبه المتنوعة، وشروط الاجتهاد إلى غير ذلك من تفاصيل يقصر المجال عن بسطها واستيفائها، وقد تكفي الإشارة إليها هنا ربطًا للحديث واستيفاءً لمتطلباته(173) .

 

7- مجددون آخرون:

 

وفيما عدا الأصوليين السابقين الذين فصلنا جهودهم الفردية في تجديد أصول الفقه فإن للإمام القرافي (ت684هـ) دورًا في تجديد أصول الفقه سواء كان ذلك في تنظيمه لقواعد المصالح والمقاصد والتفرقة بينها وبين وسائلها، مع ذكر أقسام كل نوع والتمثيل له بوضوح يغذي فكرته ويقويها(174) ، أو كان في اهتمامه بقواعد أصول الفقه في فروقه مع اهتمامه بالقواعد الفقهية(175)، واتجاهه إلى بيان أصول المذهب المالكي في كتابه “تنقيح الفصول في علم الأصول” مع تطبيقها على فروع المذهب(176) .

 

وللإمام ابن قيم الجوزية (752هـ) دور في تجديد أصول الفقه حيث ضبط أقسام الذرائع وأكثر من الأدلة عليها، وأمعن في توضيحها وتأصيلها حتى بلغت أدلته لها تسعًا وتسعين وجهًا، فضلاً عن مقارنته بينها وبين الحيل مع إيراده الأدلة الكافية لإبطال الحيل ومن ثم عرضه لأدلة المجيزين لها ومناقشتها بإفاضة ونفس طويل(177)، ناهيك عن اهتمامه بمباحث الوسائل والمقاصد وتوضيحها وتركيز فكرتها، وقد تنوعت آراؤه في ذلك بين الأدلة والتطبيقات المستقاة من الفقه الفردي الخاص، والفقه العام، فقه السياسة الشرعية، بالإضافة إلى ما في كتابه “إعلام الموقعين” من الحديث عن تغير الأحكام بتغير الأعراف وإيراده تطبيقات حسنة في هذا المجال(178)، وما جاء عنه أيضًا من تفصيلات في فتاوى الصحابة والتابعين(179)، وفي شأن الاجتهاد والتقليد(180) .

 

 

الخلاصة

 

بعد هذا العرض الذي تناول أساطين التجديد في أصول الفقه على مر عصور التاريخ الإسلامي يمكن أن نضع أيدينا على الحقائق التالية:

 

1- أن التجديد الفردي للأصول لم ينقطع، فإذا استثنينا مرحلة الإمام الشافعي لأنه المؤسس، فقد ظهر في القرن الخامس إمام الحرمين الجويني (ت 478هـ) والإمام الغزالي (ت 505هـ) وفي القرن السابع عز الدين بن عبد السلام (ت 660هـ) والقرافي (ت 681هـ)، وفي القرن الثامن ابن تيمية (ت 728هـ) وابن قيم الجوزية (ت752هـ) ، والشاطبي (ت 790هـ).

 

2- أن السمة التي غلبت على التجديد في المرحلة الأولى وهي مرحلة الإمام الجويني والغزالي كانت الترتيب والتنظيم وتوسيع الأسس النظرية للمفاهيم الأصولية، وضبط المصطلحات، وتأسيس فكرة المقاصد والعناية بتقاسيمها فضلاً عن السعي لضبط المنهج الأصولي من حيث الدقة والاستدلال على أن كل ذلك تم في إطار مدرسة المتكلمين مع احتفاظ كل واحد من الإمامين بخصائصه الذاتية في إطار مدرسته.

 

ثم جاءت فترة القرن السابع فبرز عز الدين بن عبد السلام مُركَّزًا على التجديد في باب واحد هو باب المصالح والمقاصد بإتقان وسعة ضمت كل الجوانب التي يمكن تصور المصالح من جهتها، سواء في ذلك التعبدي والمعلل من الأحكام كما اعتنى بتفاصيل التقاسيم والموازنات، كل ذلك في إطار تطبيقي جامع بين الأحكام العملية والتربوية مع الانفكاك عن طريقة المتكلمين في صرامتها، واللجوء إلى التقعيد المباشر لمرونته وسلاسته، ونجد شيئًا من ذلك عند  القرافي فضلاً عن مد القرافي للمصالح بعنصر الدقة والفقاهة، ورهافة الفكر في إدراك الجوامع والفوارق.

 

وفي القرن الثامن جاء ابن تيمية بنزعة التأصيل، وتبعه في ذلك – ابن قيم الجوزية – مركزًا على بعض القضايا الأصولية، ثم جاء الإمام الشاطبي فطور ذلك في إطار منهجية إطارية واسعة اهتم من خلالها بقضية المقاصد ، كما وسعها بحيث شملت كثيرًا من أبواب الأصول وقضاياه.

 

وقد لا نبعد عن الحقيقة إن قلنا أن الإمام الشاطبي قد استفاد من آراء من سبقوه كإمام الحرمين، والغزالي، والعز بن عبد السلام، والقرافي، ودليل ذلك أن الإمام الشاطبي كثيرًا ما يشير إلى آرائهم في الموافقات سواء كان موافقًا أم مخالفًا.

 

3- كان التجديد في أصول الفقه تجديدًا يبني ويطور كل لاحق فيه على ما سبقه من مجهود.

 

4- لم يكن التجديد – في الفترات التي مرَّ بها – مؤسسًا على فراغ وإنما كان يسبقه عرض الآراء السابقة ومناقشتها ومن ثم تحديد البديل الجديد لها.

 

وأخيرًا فلعلَّ في هذا كله مع ما  سبقه من تاريخ تجديد أصول الفقه عمومًا ما يعيننا ونحن نتجه لدراسة الإرهاصات المعاصرة لتجديد أصول الفقه.

 

المبحث الثالث

 

“الإرهاصات والاتجاهات المعاصرة لتجديد أصول الفقه”

 

تنتظم الإرهاصات المعاصرة لتجديد أصول الفقه جانبين: الأول الدعوات البحتة لتجديده، والثاني الواقع الفعلي لذلك التجديد.

 

وفيما يتصل بالجانب الأول فإن بعض الكاتبين يرد هذه الدعوة إلى رفاعة رافع الطهطاوي (ت1290هـ) الذي دعا لتجديد كل العلوم بعد أن أوفدته الحكومة المصرية آنذاك إلى فرنسا لتلقي العلوم الحديثة، فكان من نتاج ذلك تأليفه لكتابه “القول السديد في التقليد والتجديد” (181)، ومثل هذه الدعوة جاءت على لسان محمد إقبال الفيلسوف الباكستاني حيث دعا في كتابه” الاجتهاد إلى تجديد العلوم الشرعية والاجتهاد فيها وكان يرى أن التراث الفقهي نفسه يحمل في تضاعيفه الدعوة إلى الاجتهاد وإمكانيته(182) “، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393هـ  ) الذي دعا في كتابه “أليس الصبح بقريب” إلى تجديد العلوم الشرعية والعربية من حيث البحث والتدريس ومن بينها أصول الفقه(183) ، بالإضافة إلى التجديد الذي أدخله صراحة على هذا العلم بتأليفه لكتابه المتميز “مقاصد الشريعة الإسلامية”، وفيه أتى بمباحث جديدة حيث تناول المقاصد العامة وذكر فيها مقاصد الشريعة الكلية كما تحدث عن المقاصد الخاصة ببعض الأبواب الفقهية مثل مقاصد أحكام العائلة، ومقاصد المعاملات المالية(184) . وفضلًا عن ذلك توسع وجدد في مسالك التعرف على المقاصد(185)، وأكثر من هذا فقد دعا في إطار خطته التجديدية إلى فصل المقاصد عن علم أصول الفقه ، وقال في ذلك: “حق علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة وأن نعيد ذوبها في بوتقة التدوين ونعيرها بمعيار النظر والنقد فننفي عنها الأجزاء الغريبة التي علقت بها، ونضع فيها أشرف معادن مدارك الفقه والنظر ثم نعيد صوغ ذلك العلم ونسميه علم مقاصد الشريعة، ونترك علم أصول الفقه على حاله لبيان طرق تركيب الأدلة الشرعية”(186) .

 

وفيما عدا ذلك فإن الدعوات الكثيرة لتجديد الفقه الإسلامي نفسه التي حمل لواءها السيد/ جمال الدين الأفغاني (ت1314هـ) تنطوي على تجديد أصول الفقه، إذ دعا إلى فتح باب الاجتهاد مع استنكاره بشدة لسدِّه كما حث على إعمال العقل في فهم القرآن والملاءمة بين مبادئه والظروف الحالية التي يعيشها المسلمون(187)، ثم جاء بعده تلميذه الشيخ محمد عبده (ت 1323هـ) الذي أُثر عنه الاجتهاد في بعض الأحكام القضائية التي كان يصدرها إبان توليه القضاء(188)، كما كان يهاجم التقليد والمقلدين كثيرًا(189)، والسيد/ عبد الرحمن الكواكبي (ت1320هـ) الذي كان من الداعين إلى الاجتهاد ونبذ التقليد(190) ، ومحمد بن الحسن الحجوي الثعالبي (ت1376هـ) الذي دعا في كتابه “الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي” إلى تجديد الفقه(191) ، وتجديد الفقه قد يستلزم تجديد الأصول، والشيخ محمد مصطفى المراغي (ت1363هـ) الذي كان صاحب إصلاحات في التعليم بالأزهر حينما تولى مشيخته(192) . وفي الفترة اللاحقة كثرت الدعوات لتجديد أصول الفقه لعلَّ من أبرزها جهود الدكتور جمال الدين عطية – رئيس تحرير مجلة “المسلم المعاصر” – الذي دعا إلى تجديد علم الأصول قبل ثلاثين عامًا من الآن(193)، كما ركز عليه من حيث تخصيصه لجزء من مساحة مجلته له ضمن اهتماماتها الأخرى المتعلقة بشؤون المسلم المعاصر وقضاياه.

 

1- الواقع الفعلي لتجديد أصول الفقه:

 

وفي كل الأحوال فإن ما سبق يمثل الدعوات المجردة التي بدأت بها الإرهاصات المعاصرة لتجديد أصول الفقه أما الواقع الفعلي لتجديده فهو ينتظم جانبين أيضًا: الأطروحات النظرية في شأن تجديده، والتجديد الفعلي لبعض جوانبه الذي حتمته ظروف الحياة المعاصرة.

 

ونبدأ بالجانب الأخير لقدمه رغم معاصرته، ثم نأتي للأطروحات النظرية الخاصة بالتجديد واتجاهاته في مرحلة لاحقة، وفي هذا الاتجاه نجد التقنين الذي بدأ في الدولة العثمانية بمجلة الأحكام العدلية وما اتصل به من تقنين القواعد الفقهية كقواعد مفسرة للمجلة، ولا شك أن في هذا العمل تجديدًا لأصول الفقه بإعمال قواعد الفقه، وقواعد الفقه تحمل في مضامينها بعض القواعد الأصولية إن لم تقل أنها هي نفسها قواعد أصولية حسب اتجاه الإمام القرافي في ذلك، فضلاً عن أن التقنين في جملته تأصيل يضاف إلى ذلك ما تلاه من تخويل ولي الأمر العام من خليفة أو غيره أن يحد من شمول بعض الأحكام الشرعية وتطبيقها، أو يأمر بالعمل الضعيف إذا استدعت المصلحة ذلك أو يمنع سماع بعض الدعاوى في بعض الأحوال كما في حالة التقادم وغيره(194) ، وكل هذا يعتبر بحسب طبيعة العصر الذي تم فيه -تجديدًا أو بداية للتجديد – لكونه من باب الفعل المحرك للركود.

 

أما أطروحات التجديد المعاصرة في أصول الفقه فهي كثيرة كما أنها تتراوح في دوافعها بين الدوافع الفكرية سواء كان مبعثها اجتماعيًا أو سياسيًا، وبين الدوافع الأكاديمية التي تدور في باب تصنيف علم الأصول وترتيبه وتوسيعه وتوضيحه، وبين الدوافع المنهجية التي تعني بتمحيصه وتحريره مع الترجيح فيما تنازع فيه الأصوليون(195) وإعادة هيكلته من جديد بصورة تتلاءم مع مقتضيات العصر(196) وبين الدوافع المذهبية بالاتجاه إلى قواعد السلف وما كان عليه الأئمة المحققون(197) ، على أن هذه الأطروحات قد تتداخل عند بعض الباحثين، ولهذا فالمعول عليه في هذا التصنيف وتجديد الدافع أو الاتجاه هو الغلبة.

 

وفي كل الأحوال سوف أعرض نموذجًا من كل اتجاه وأناقشه مبينًا ما فيه من إيجابيات وسلبيات، وأبدأ في ذلك بالاتجاه الأول وهو الاتجاه الفكري ويمثله الدكتور حسن الترابي(198) .

 

وتتلخص أطروحة الدكتور الترابي في هذا الصدد في الآتي:

 

1- أن أصول الفقه وقفت فيه حركة الإبداع مع توقف حركة الفقه، وبالتالي غدا مقولات نظرية عقيمة.

 

2- أن أصول الفقه لم يكن مؤهلاً أصلاً لمعالجة القضايا التي يواجهها الناس في العصر الحديث؛ لأنه كان يدور في القضايا الفردية والخاصة، والقضايا المطروحة اليوم قضايا عامة.

 

3- أن اهتمام الأصول كان في غالبه بجوانب التفسير، لأن ما يجرى فيه الاجتهاد من القضايا الخاصة غالبها وردت فيه نصوص.

 

ثم عزز ذلك بالحديث عن تاريخ أصول الفقه، وأن الفترة التي حدث فيها اهتمام بالقضايا كان عهد سيدنا عمر – رضي الله عنه – الذي أثرت عنه اجتهادات كثيرة عالج من خلالها قضايا إدارية وسياسية، وقد ورث هذا المنهج عنه أهل المدينة والإمام مالك لكن سرعان ما توقف هذا المنهج؛ لأن مركز السلطة انتقل من المدينة إلى العراق، أما العراق نفسه فقد كان فيه حركة حياة وعمران ونشاط للمنهج الأصولي إلا أن العراقيين حصروه في القياس كما أن القياس نفسه حاصروه بالضوابط الدقيقة، وحتى الاستحسان الذي جاء لمعالجة القياس هاجمه بعضهم حتى أردوه قتيلاً في مهده – حسب تعبيره – وبذلك آل الأصول إلى الجمود بعد أن تطور وذلك بفعل انحطاط الدين في حياة الناس، ثم دعا للأصول العامة وهي المقاصد والقياس الواسع والاستصحاب، وأن يكون ذلك من خلال الشورى كما دعا إلى أن يكون الإجماع هو إجماع الأمة لا إجماع أهل الحل والعقد وحدهم(199) .

 

وقبل مناقشة آراء الدكتور الترابي أُبادر فأقرر أن آراءه في جملتها سليمة ومؤسسة على معرفة بالأصول وتاريخه ومدارسه، وبالتالي ما كان ينبغي – في نظري – أن تقابل بالهجوم العنيف الذي صبه عليها بعض الكاتبين(200) . إلا أن يكون الدافع لذلك عبارات الدكتور الترابي وأوصافه التي لا تخلو من قسوة وشطط أحيانًا(201)، على أني سوف أتابع هذه الآراء بالمناقشة – حسب رأيي – في المسألة.

 

وأبدأ في ذلك بقوله: “أن أصول الفقه وقفت فيه حركة الإبداع مع توقف حركة الفقه”، وهذا أمر مقر ومسلم به، وقد سبق عند عرضنا لتجديد أصول الفقه بيان أن هذا التجديد توقف في العصور المتأخرة التي ساد فيها التقليد بشكل عام إلا من بعض  التجديدات التي نهض بها بعض الأصوليين المتميزين حتى في أعتى عصور التقليد ظلمة وقتامة، والدكتور الترابي نفسه مقر بذلك وقد ورد شيء منه في ثنايا حديثه، إلا أني وإن كنت أقره على ذلك فقد لا أقره على عدم الاعتراف بميزات أصول الفقه، وهي كثيرة وتمثل إبداعًا منهجيًا مذكورًا في تاريخ الإنسانية كلها، وفي ذلك يقول العلامة عبد الرزاق السنهوري “إن الفقهاء المسلمين امتازوا على فقهاء الرومان بل على فقهاء العالم أجمع باستخلاصهم أصول ومبادئ عامة في أصول استنباط الأحكام من مصادرها وهذا ما سموه بأصول الفقه”(202) هذا عدا شهادة أساطين فقهاء الغرب في القرنين الماضيين للفقه الإسلامي وهو فقه مبني على هذه الأصول بل إن بعضهم لم يَعِبْه في شيء سوى مثاليته وخلقيته(203) ، وهذه المثالية مطلوبة بل هي الأفق العالي الذي يتوخاه كل تشريع، وعلى كل حال فقد وصل العالم كله الآن والغرب على رأسه إلى سدة أهمية الأخلاق في القانون، ويكفي ذلك ردًا على بعض الغربيين في انتقاداتهم للتشريع الإسلامي في هذا الجانب.

 

أضف إلى ذلك أن هذا النقد قد تجاوزه فقهاء المسلمين الذي فسروا ذلك المثال في إطار الاعتبارات العملية والمادية التي قضت بها ظروف زمانهم ومكانهم مع بقاء ذلك المثال في النصوص الأساسية كأفق عال متفق مع مقتضيات الفطرة السليمة ليهتدي به الناس، وقد آن الآن زمن ذلك الاقتداء به بادئًا هذه المرة من ديار الذين يرسلون مثل تلك الانتقادات أنفسهم.

 

وبين هذا وذاك فإن مناهج أصول الفقه هي القانون الذي استمد منه الغربيون المناهج التجريبية التي قامت عليها الآن حضارتهم المادية الباذخة(204) . فمناهج الأصول في الإسلام مناهج تجمع بين المثالية والواقعية.

 

أما الميزات الأخرى لمنهجية أصول الفقه فهي كثيرة ومعروفة منها:

 

1- حرية النظر، وقوة البرهان، وشدة التحري.

 

2- وضعهم للقواعد التي تهدي إلى قوة النصوص أو ضعفها سواء كان ذلك من جهة سندها أم من جهة دلالاتها .

 

3- دقة التنظيم والترتيب والتركيز والتجميع، وذلك واضح من اتجاهات الإمام الغزالي في هذا الجانب والتي سلفت الإشارة إليها.

 

4- تكامل النظر المنهجي بحيث يصل إلى النتائج وفق خطوات محسوبة ودقيقة، وحاسمة.

 

5- ملكة التقعيد والتنظير ورد الجزئيات إلى كلياتها بقدرة واتقان.

 

6- التطبيق العملي التمثيلي.

 

7- الإبداع في الدراسات الخاصة بدلالات الألفاظ إبداعًا لبت نداءه اللغة العربية بتجاوب فتكامل فيه النظران التشريعي واللغوي، فكان منهجًا لم تأت التشاريع البشرية الأخرى بمثله ولن تأتي، وقد أتى كل ذلك في إطار تقاسيم دقيقة ومجاري عميقة، ومعطيات بليغة.

 

8- أصالة المنهج، فقياسهم ليس هو القياس الأرسطي من كل الوجوه، وإنما  يمثل ضربًا من الاستقراء لاعتماده على مبدأ “العلية”.

 

9- عالجوا غلو طرد القواعد العامة التي يأباها الواقع في بعض الأحوال بالاستحسان الذي يمثل في منهجيته نمطًا من الأنماط الرائعة لضبط العدالة والكشف عن مكنونات الوجدان السليم(205) .

 

10- ضبطوا المصالح والمقاصد وسدوا الذرائع، وفيما عدا ذلك استصحبوا الموجود من براءة أصلية أو نص .

 

11- ضبطوا قواعد التعارض والترجيح بدقة وإحكام.

 

وتتبع كل ذلك تفاصيل ناءت بحملها مدونات، وقصرت دون استيعابها موسوعات.

 

وقد تتصل بدعوة الدكتور حسن الترابي في التجديد بحسب المعطيات التي سلف بسطها ومناقشتها دعوة أخرى للدكتور طه جابر العلواني الذي يرى تجديد أصول الفقه بحيث نجعله منهجًا إسلاميًا للبحث والمعرفة سواء للعلوم الشرعية أو العلوم الاجتماعية(206) .

 

ولعلَّ من دوافع الدكتور طه لهذا الاتجاه دخوله في مجال عمله واهتمامه بمشروع “أسلمة المعرفة”، كما أنه من ناحية أخرى يمس مسألة إنسانية وجوهرية وهي افتقاد العلوم الإنسانية المعاصرة للبعد الغيبي الذي تقوم ركائزه على الوحي، واعتمادها على النظر التجريبي والمادي، وفي هذا ضرر عظيم بالبشرية التي تستمد تصوراتها غالبًا اليوم للحياة والإنسان من العلوم الإنسانية المعاصرة، وهي علوم نشأت في أوربا في إطار القطيعة بين الأديان عمومًا والعلم.

 

لكن هذه الدعوة – رغم وجاهتها – قد تتصل بعلم الكلام والأخلاق أكثر من علم أصول الفقه، لأن أصول الفقه أسس ليكون منهجًا لاستنباط الأحكام العملية، اللهم إلا أن تكون هذه الاستفادة من مجراه العام، ومنهجيته الدقيقة، وطبيعة المقاصد والمصالح فيه وكونها مؤسسة على البعدين الديني والتجريبي، فإذا كان الأمر هو هذا فلا بأس به، لكنه لن يكون في مثل هذه الحال تجديدًا لعلم أصول الفقه بقدر ما يكون تجديدًا لتلك العلوم، أما استفادة علم أصول الفقه بالعلوم الإنسانية المفيدة له فقد سبق الحديث عنه، وهو من باب مباحث “تحقيق المناط” التي تقبل بطبيعتها الحركة والتجديد لارتباطها بالواقع الإنساني الذي تقوم معطياته على الحركة والتغيير …

 

أما قوله أن أصول الفقه لم يكن مؤهلًا لمعالجة القضايا التي يواجهها الناس اليوم؛ لأنه فقه فردي، وقضايا اليوم قضايا عامة.

 

هذا القول صحيح في بعض جوانبه وغير صحيح في بعض الجوانب الأخرى، كما أن سمة التعميم تغلب عليه وهي سمة غير محمودة في كل الأحوال، أما صحته فمن جهة أن قضايا الناس اليوم غير قضاياهم بالأمس غير أن أصول ومناهج معالجتها موجودة ؛ فقضايا الفقه العام مبسوطة في الدواوين الأصولية، عند إمام الحرمين في كتابه “غياث الأمم في التياث الظلم” وفي “الموافقات” للإمام الشاطبي، وعند العز بن عبد السلام في “قواعد الأحكام في مصالح الأنام” وفي كتب ابن تيمية الذي اهتم كثيرًا بالقضايا العامة، وكذلك تلميذه ابن القيم، فالأصول مؤسسة وصالحة للبناء عليها بما يفي بحاجة العصر الحديث، والمشكلة هنا – حقيقة – ليست في أصول الفقه بقدر ما هي في عدم وجود المجتهدين الذين يحركون هذا المنهج نحو غاياته المرجوة في العصر الحديث، وفي هذا المعنى يقول باحث نابه: “وما يتحدث عنه الدكتور الترابي من قصور الاجتهاد الفقهي وضموره في مجالات الحكم والاقتصاد والسياسات العامة للدولة، ليس المسؤول عنه أصول الفقه، فعلم أصول الفقه وإن كان له دور في ذلك إلا أن مهمته هي تقديم الأدوات المنهجية للاجتهاد وتنظيم سيره، وليس توليد المجتهدين الأكفاء من تلقاء نفسه، والنهضة التشريعية لا يكفي لقيامها وجود منهج مناسب بل لابد من وجود أشخاص لهم كفاءة استخدام ذلك المنهج بطريقة سليمة وفعالة”(207) .

 

يبقى – بعد ذلك – نقده لعلم الأصول بأن غالبه يتركز في الاهتمام بجانب التفسير، وهذا واقع لكنه كان إبان الفترات الأولى من علم الأصول حينما كان الاجتهاد يدور في النصوص لما كانت الحوادث محدودة وغير معقدة، ويعلم الدكتور الترابي أن هذا المنهج لحقته – لما دعت الحاجة لانبساط الحياة، وكثرة القضايا والمشاكل وتعقيداتها – مناهج مقاصد الشريعة عند الإمام الشاطبي في “الموافقات”، فسدت النقص في هذا الجانب ومدت الناس بالمنهج المرن الواسع، وكلام الترابي هنا قال مثله الشيخ دراز والشيخ محمد الطاهر بن عاشور لكنهما ما قالاه في معرض النقد وإنما قرراه في معرض التبرير لمقاصد الشريعة وضرورة الاهتمام بها(208) .

 

وفيما وراء ذلك فإن ما دعا له د. الترابي من القياس الواسع وهو المصالح المرسلة أو المناسب المرسل فموجود، ومثل ذلك الاستصحاب موجود، ومآلات الأفعال موجودة من خلال سد الذرائع عند الأصوليين، ومن خلال ما كتبه الشاطبي عنها بسعة في كتابه “الموافقات” وعليه فإن آراء الدكتور الترابي في هذا الصدد تعد من باب التنبيه على أولويات المصادر الاجتهادية التي تحتاجها الحياة اليوم أكثر من غيرها، وهذا حسن ومحمود.

 

أما دعوته للإجماع العام فهي الأخرى موجودة وليست جديدة في فكرتها، فقد دعا الإمام الشافعي إلى ذلك من قبل وهو الإجماع على القطعيات: “لست أقول ولا أحد من أهل العلم هذا مجتمع عليه إلا لما تلقى عالمًا إلا قاله لك وقاله عمن قبله كالظهر أربع ركعات وكتحريم الخمر وما أشبه(209) ” وكذلك الإمام الغزالي الذي اعتبر أن الإجماع هو إجماع الأمة لا إجماع أهل الحل والعقد وحدهم(210) .

 

لكن الإجماع بهذا المعنى عسير في هذا الزمن، وعليه فليظل الإجماع ما انتهى إليه جمهور العلماء وهو: “اتفاق المجتهدين من أمة محمد r في عصر من العصور بعد وفاته على حكم شرعي”(211) .

 

وذلك لاعتبارات هي:

 

1- أن القطعيات ليست محل إشكال ويكون الإجماع عليها الذي حصر الإمام الشافعي الإجماع فيه من باب التأكيد.

 

2- أن إجماع أهل الحل والعقد هو إجماع الأمة؛ لأن المجتهدين وأهل الحل والعقد هم المعبرون عن أمتهم والوكلاء عنها في هذا الشأن.

 

3- أن القضايا التي تعرض للنظر في هذا العصر قضايا يختلف فيها التقدير؛ ولهذا يعسر أن تعرض على الأمة كلها كما أنها ليست مؤهلة لذلك، ولهذا فسوف تترتب على مثل هذا الاتجاه فتن كثيرة لأنه مجلبة للاختلاف أكثر من أن يكون سبيلًا للاتفاق، بل وعلى العكس من ذلك تمامًا فإننا قد نحتاج اليوم لما يسمى بالاجتهاد الجماعي أو الإجماع الأغلبي الذي أخذ به بعض الأصوليين لكنهم وصفوه بالظنية(212) .

 

وخلاصة القول أن آراء الدكتور الترابي ليست تجديدًا بقدر ما هي تنبيه وتذكير ببعض المصادر الاجتهادية لتأخذ وضعها المتوقع في حلول مشاكل العصر الحديث على أن عباراته أحيانًا فيها قسوة كما أن أسلوبه في عرض أطروحته كان عرض مفكر وليس عرض باحث يضبط المسائل بما تقتضيه طبيعة التناول العلمي من تسلسل وتنظيم، ولهذا عسر على بعض الناس فهمها وكانت غامضة عليهم فهاجموها، أما مقدماته فسليمة كما أن النتائج التي توصل إليها لا تخرج عما جاء في علم الأصول في النهاية كما ذكرنا، إلا أن المسؤولية فيها ليست على علم الأصول ولا على منهجيته كما سبق وإنما على المفكرين والعلماء الذين لم يفعِّلوا هذه المناهج لتكون وافية بالأغراض التي تعلق بها الدكتور الترابي ومثلت همًا من همومه بحكم اشتغاله بالعمل العام، وبدافع من حسه المرهف كمفكر وصاحب رأي والله أعلم بالصواب.

 

2- الاتجاه الأكاديمي في التجديد:

 

يمثل هذا الاتجاه الدكتور محمد الدسوقي والدكتور علي جمعة والدكتور جمال الدين عطية – في بعض آرائه – والدكتور عمران نيازي وتتركز معالم التجديد فيه في الآتي:

 

1- إبعاد المباحث التي ليست ذات صلة وثيقة بعلم الأصول منه.

 

2- إخضاع دراسة النصوص في إطار الفقه – للكشف عن منهج الفقه في تقرير الأحكام من حيث دلالته وصيغه والبعد بها عن التناول التاريخي.

 

3- تدريس مقاصد الشريعة بصورة وافية مع عدم فصلها عن علم أصول الفقه.

 

4- تطوير مفاهيم الأدلة بتوسيع مفاهيمها وضبطها وتقليل دائرة الخلاف حولها، وتوجيه الإجماع بشكل خاص وجهة عملية ليتمثل في المجامع الفقهية خروجًا به من متاهات التجريد والافتراض(213) .

 

5- ربط القواعد الأصولية بالفروع التطبيقية، ويقترح الدكتور علي جمعة في هذا الصدد إدخال القواعد والفروق في علم الأصول لإثراء جانب التطبيق، وقد يكتفى في ذلك بوضعه في صورة مقدمة أو مدخل لهذا العلم كما دعا إلى ضرورة استفادة علم الأصول من العلوم الاجتماعية المعاصرة(214) ، ويوافق على ذلك الدكتور شعبان محمد إسماعيل فيما يتصل بمقاصد الشريعة خاصة حيث يرى دمج نظرية الشاطبي في المقاصد مع أصول الفقه، وأشار في هذا الصدد إلى صنيع الشيخ علي حسب الله في كتابه “أصول التشريع الإسلامي” بجعله لطرق الاستنباط نوعين: النوع الأول: القواعد اللغوية وهي تمثل اتجاه علماء الأصول السابقين على الإمام الشاطبي، والنوع الثاني: في القواعد الشرعية وهي المقاصد كما يوافق على الإكثار من الفروع والجزئيات المخرجة على القواعد الأصولية(215) .

 

أما الدكتور جمال الدين عطية فقد اقترح صياغة مباحث علم الأصول بتبويب جديد يتسم بالسهولة وإعادة تقسيمه بحيث يتسع للتفريق بين المصادر الموضوعية، والوسائل الاجتهادية، وصنف المصادر الموضوعية إلى: “النقل” ويشمل الكتاب والسنة وشرع من قبلنا ، و”أولي الأمر ” ويدخل فيه الإجماع والاجتهاد، و”الأوضاع القائمة” ويشمل ذلك العرف، الاستصحاب، والعقل، والبراءة الأصلية(216) .

 

أما مباحث الحكم الشرعي فيقسمها من حيث النطاق إلى النطاق الشخصي والنطاق المكاني والنطاق الزمني، ويدرج في كل واحد منها الموضوعات الصالحة له، ومن خلال ذلك يحاول تجاوز بعض التداخلات بين الموضوعات التي لاحظها على التقسيم الحالي لعلم الأصول(217) .

 

وقد يقرب من الدكتور جمال الدين في هذا الاتجاه الدكتور عمران أحمد نيازي الذي دعا إلى صياغة أصول الفقه بحيث يمثل نظرية عامة للقانون الإسلامي بالدمج بين الجانب المفاهيمي المتمثل في مفهوم القانون الإسلامي الحكم الشرعي بأقسامه، وبعض النظريات الفقهية الحالية كالملكية والأهلية وغيرهما، وبين الجانب المعياري مثل نظرية الاجتهاد، ونظرية التخريج والقضاء ونظرية التكليف، ونظرية تطبيق القانون مع ربط ذلك كله بمقاصد الشريعة، والمفاهيم العليا للنظام الإسلامي.

 

والغرض من نظريته هذه المقاربة بين أصول الفقه والفقه وبين الثقافة القانونية ذات الأصول البريطانية بطريقة تمكن أهل القانون في بلده من استيعاب النظرية الإسلامية في إطار خلفيتهم القانونية البريطانية(218) ، ولهذا السبب جاءت هذه النظرية جامعة بين الاعتبارات النظرية والمعيارية كما داخلت بين الحكم الفقهي والحكم القضائي والتطبيق.

 

وهذا الاتجاه في جملته اتجاه تصنيفي وفقهي ولهذا لا أرى غضاضة فيه على أن هناك بعض النقاط التي تحتاج فيه إلى مناقشة وهي:

 

1- دعوة بعض أصحاب هذا الاتجاه إلى الدمج أو عدم الفصل بين مقاصد الشريعة وأجزاء الأصول الأخرى، وقد سبق أن أشرنا إلى أن الشيخ الطاهر بن عاشور يرى الفصل بينهما، ولعلَّ دافعه لذلك هو ضخامة موضوعات المقاصد في إطار توسيعها وبسط شروحها مع أهميتها وأهمية أن يتعرف الناس على دقائقها وتفاصيلها، لأنها روح الشريعة التي من شأنها أن تكون حاكمة ومؤثرة بوجه من الوجوه على الاجتهاد وطرق تفسير النصوص والترجيح، وأنا أميل إلى هذا الرأي على الأقل في هذه المرحلة التي لا زالت مباحث المقاصد نحتاج فيها – مع اتساع المتيسر منها – إلى مزيد من الدراسة والتجويد وتوضيح  الترابط بينها وبين المفاهيم الأصولية الأخرى، على أنه يمكن التوفيق بين الاتجاهين بسلوك الطريق المختصر الذي سلكه الشيخ علي حسب الله في الدمج بينها وبين القواعد الأصولية أو بالأحرى استمرارها مع الأصول لأنها أصلًا جزء منه على أن يظل ما دعا إليه الشيخ الطاهر مستمرًا لأن طبيعة المقاصد وموسوعيتها قد تستدعيه وتحتاجه.

 

2- قد أتحفظ على التقسيم الذي طرحه الدكتور نيازي من حيث أنه تقسيم ظرفي وخاص بطبيعة الثقافة القانونية والتركيبة القضائية في بلده، ونحن لا نتحدث عن مثل ذلك وإنما نتحدث عن تقسيم وتنظير مرتبط بأصول الفقه الإسلامي في أمميته وشموله، ومع ذلك فلا بأس باتجاهه على أن يكون في حدود الظروف والدوافع التي أملته، وفي مثل هذه الحال يكون رافدًا من روافد التقسيم والتنظير العام مع احتفاظه بخصوصيته، واحتفاظ التقسيم العام بحريته ومرونته، ومنهجيته.

 

أما الاستفادة من العلوم الاجتماعية المعاصرة في علم أصول الفقه فلا بأس به وهو شيء آخر يغاير ما يدعو إليه الدكتور نيازي لأنها تدخل – حين تدخل –  بحسبان أنها معينات على فهم الواقع ورصده وتحليله، وهذا أمر مقر منذ زمن قديم، ويدخل عند الأصوليين في باب “تحقيق المناط” وهو الاجتهاد التطبيقي الذي يقابل الاجتهاد الاستنباطي، ولا ينقطع حتى تقوم الساعة كما يقول الشاطبي(219) . وفي هذا المعنى يقول الإمام الغزالي عن تحقيق المناط وإجراء العلل على الوقائع: “أما إذا وقع النزاع في المسألة الثانية وهي وجود العلة في الفرع بعد تسليم كون الوصف علة، فهذا يعرف تارة بالحس إن كان الوصف حسيًا، وقد يعرف بالعرف، وقد يعرف باللغة، وقد يعرف بطلب الحد، وتصور حقيقة الشيء في نفسه، وقد يعرف بالأدلة الشرعية”(220) وواضح من هذا النص وسائل معرفة العلة في الفرع ومن بينها:

 

الحس وتدخل فيه وسائل القياس الحديثة، والإحصاء، والاستبانات، والعرف، وتدخل فيه أية وسائل أخرى يبتدعها العقل البشري وتكون جزءًا من عرف الزمان الذي يجري فيه تطبيق الأحكام أو العلل على الوقائع والمستحدثات.

 

واللغة وتدخل فيها علوم اللسانيات واللغة المتجددة في إطار ثقافة العصر الذي يتم فيه التطبيق من حيث الذوق البياني، والدلالات والإشارات والمفاهيم.

 

أما التبويب والتنظير والتقسيم الذي دعا له د. جمال الدين عطية فمقبول لأننا نعلم جميعًا أن الأقدمين من الأصوليين متباينون في تقاسيمهم في إطار مدارسهم الأصولية، وأحيانًا داخل المدرسة الواحدة على أن التأسيس لتقسيم واسع وجديد ويحكمه منطق خاص، هذا قد يحتاج – في نظري – إلى مؤسسة أصولية تتولى هذا الغرض بعد اتفاقها على منطقه ومكوناته، وجدواه من النواحي العلمية والمنهجية والبحثية.

 

3- تبقى الدعاوي المتصلة بإبعاد المباحث ذات الصفة النظرية البحتة والتي لا جدوى عملية منها من علم أصول الفقه، وهذه دعوة قديمة واتجاه تطلع إليه كثير من الأصوليين المتقدمين، ويتكرر الآن في كثير من أطروحات التجديد ومقترحاته ولا بأس به، ومثل ذلك توجيه الإجماع وِجهة عملية ومؤسسية، هذا الأمر يعتبر شبه متفق عليه الآن، أما ربط القواعد الأصولية بالفروع التطبيقية فمتفق عليه وهو من باب زيادة البيان والتوضيح والتأكيد والإثراء، كما أن من شأنه رفد أصول الفقه بتطبيقات فقهية معاصرة سواء كان ذلك في سلاسة لغتها، أو في جدة محتواها.

 

وأخيرًا فقد نسي كثير من الداعين للتجديد قضية هامة وعملية، وهي تقعيد أصول الفقه نفسه، وتقنينه أحيانًا،  وهو اتجاه دعا له أحد الباحثين المعاصرين بل وجعله توصية من توصيات دراسته المبتكرة في التقعيد الأصولي، ونص التوصية: “أوصي بإطلاق مشروع يهدف إلى استقراء القواعد الأصولية استقراءً يلتزم فيه السير على منهاج ثابت مطرد في بحث صياغة القواعد الأصولية على أسس التقعيد الأصولية بعنوان “موسوعة القواعد الأصولية”(221) .

 

ودعوته هذه دعوة حسنة وتمثل جانبًا مهمًا من جوانب التجديد في أصول الفقه كما أنها أدعى لتركيزه تلقائيًا وإبعاد الجوانب النظرية منه، ولمجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة مشروع في هذا الصدد باسم “معلمة القواعد الفقهية” تُعاوِنه في ذلك مؤسسة زايد الخيرية بأبي ظبي التي تتولى الإنفاق على المشروع، والتكفل بكافة متطلباته المالية، جزاهم الله خيرًا، ووفق في إتمام المشروع الذي وصل الآن إلى مرحلة الصياغة بعد جمع القواعد وتصنيفها سواء في ذلك القواعد الفقهية أو الأصولية أو المقاصدية، أو الضوابط الفقهية.

 

3- الاتجاه المنهجي:

 

الاتجاه الثالث هو الاتجاه المنهجي ويمثله الدكتور جمال الدين عطية(222) الذي سبقت له بعض الاقتراحات في شأن التجديد التصنيفي أيضًا أما دعوته في هذا الاتجاه فتدور حول:

 

1- توسيع مفهوم الاجتهاد عن المفهوم التقليدي، وأورد في هذا الصدد الاهتمام بالطوارئ التي جدت في حياة الناس كمسألة عمل المرأة وما يتبع ذلك من إسهامها في أثاث المنزل وتكاليف المعيشة ومسألة انفكاك الناس عن التعامل بالذهب والفضة كنقود وأثر ذلك على جريان ربا الفضل فيها، واختلاف المكاييل والموازين والمقاييس، وأتبع ذلك بالحديث عن إعادة النظر في المسائل القديمة نظرًا لتغير الظروف الزمانية والمكانية والشخصية.

 

وغالب ظني أن مثل هذا التجديد سوف يكون تجديدًا طبيعيًا وتلقائيًا وأن أصوله موجودة عند الإمام القرافي وعند ابن قيم الجوزية، ومن خلال قاعدة “لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان” فالأمر لا يحتاج إلى تجديد في المنهجية فمنهجيته موجودة لكن الأمر فقط قد يحتاج إلى تفعيل هذه المنهجية لتنزل هذه الاعتبارات الزمنية بدقة في أحكامها المناسبة بطريقة لا تمس فيها القطعيات والأصول والكليات التي ليس من شأنها “التغير بتغير الزمان والمكان وكافة الأوضاع النسبية الأخرى”.

 

2- بلورة ومأسسة السلطة التشريعية وهي تحويل الإجماع والاجتهاد والشورى إلى مؤسسات، وهذه الدعوة مقبولة – من حيث المبدأ – إلا أن الذي يحرك هذه المبادئ الأصولية نحو “المأسسة” هو السلطة السياسية لا العلمية أما المفاهيم النظرية فمتبلورة، وتحتاج فقط إلى من يضعها موضع التنفيذ مع إدخال بعض التعديلات التدبيرية عليها بشرط ألا تتعارض مع قطعيات الإسلام ومقاصده.

 

3- موقف المجتهد من النصوص في العصر الحاضر ومن تكوين المجتهدين.

 

وعرض في هذا الاتجاه بإفاضة تتبعًا تاريخيًا للحاجات العملية التي اقتضت الخروج من الرأي الراجح إلى غيره إذا كان محققًا للمصلحة، والخروج من المذهب المعتمد إلى غيره من المذاهب لما يحقق المصلحة أيضًا، كما عرض جملة القوانين التي طرأت عليها مثل هذه التغيرات، وقد سبق للبحث أن تعرض لشيء من ذلك في مستهل الحديث عن “الإرهاصات المعاصرة للتجديد” إلا أن الدكتور جمال عطية – بعد ذلك – بقوله أن كل ذلك لم يكف لمواجهة الجديد من العلاقات الاجتماعية الناشئة عن نظم الحياة في المجتمع الحديث، ورأى – تبعًا لذلك – ضرورة توسيع الاجتهاد بالقياس مباشرة على نصوص الكتاب أو السنة كما عدَّد بعض الأساليب التي اتخذها بعض العلماء إما بالاستنباط من النصوص العامة التي قررت العدل والإحسان والرحمة ..إلخ أو بالاحتكام إلى نظريات مستقاة من أحكام الفروع، كما أشار إلى أن هناك من يرى عدم التقيد بالأحكام الفرعية وإنما التقيد فقط يكون بالقواعد الكلية والمقاصد العامة على أن ثمة من الناس من ذهب إلى الاحتكام إلى مبدأ الأصل في المعاملات الإباحة، فيما لم يرد فيه حكم منصوص عليه بخلاف العبادات، وانتهى – على كل حال – بعد عرض واسع للاتجاهات الاجتهادية المختلفة في العصر الحديث إلى: “أهمية رسم الحدود التي يسير ضمنها المجتهدون والسلطة التشريعية التي يحددها كل بلد إسلامي”.

 

وأرى أن كل ما عرضه صحيح، وأن الأمر يحتاج إلى دراسة هذه الآراء والخروج – عقب ذلك – بالمنهج الوسط الذي يستطيع علاج القضايا المذكورة واستيعابها من غير شطط ولا خروج عن الأصول والمقاصد، على أن مثل هذا الدور يمكن أن تقوم به المجامع الفقهية التي كثرت في العالم الإسلامي اليوم عن ذي قبل.

 

وأخيرًا تحدث عن المجتهد المتخصص واقترح – في هذا الشأن – اقتراحات مفيدة وبناءة كما تعرض للتعليل بالحكمة، وهذا أيضًا مما اتجه إليه بعض الأصوليين القدامى كما أنه يدخل في باب مراعاة مقاصد الشريعة، وتناول قضية الاستنباط من القواعد الفقهية، وهذه الدعوة أيضًا دعوة حسنة، ومعلوم أن القواعد المنصوص عليها في القرآن أو السنة أو دلا عليها يجوز الاستنباط منها، أما القواعد الاجتهادية ففيها خلاف يمكن حسمه ببحث القضية بحثًا منهجيًا معتدلاً والانتهاء فيها إلى رأي حاسم ومسعف لتسهيل الفتوى في العصر الحديث الذي غدت متطلباته أوسع بكثير من طاقة الفروع الفقهية المباشرة.

 

وفوق ذلك فقد تحدث عن تجديد مقاصد الشريعة، كما أورد تطبيقات للاستدلال بالمقاصد وتناول علاقة أصول الفقه بالعلوم الأخرى، وانتهى في خاتمة بحثه – في هذا الصدد – إلى أن حاصل التجديدات التي حرك من خلال بحثه موجباتها إن كانت جزئية فسوف يظل أصول الفقه على اسمه، وإن كانت كلية فقد تدعو الحاجة إلى إنشاء علم منهجي جديد تكون أصول الفقه جزءًا منه.

 

وأرى أن الأوفق الآن تجديد أصول الفقه وهو على حاله، لأن الانتقال إلى المرحلة الكلية قد يحتاج إلى زمن طويل.

 

يبقى – بعد ذلك – الإشارة إلى المناهج السلفية في التجديد، وأرى – في هذا الإطار – ضرورة الاستفادة من فقه السلف ومن جهود الإمام ابن تيمية والإمام الشاطبي في إطار منهجية عامة للتجديد يتم التوافق عليها سعيًا لتجديد الأصول لتزداد فعاليته في حلول المستجدات بطريقة تضع الناس في حال يتقيدون فيها بأصولهم مع الاستجابة لحاجات ومتطلبات عصورهم . والله المستعان في كل حال.

 

المبحث الرابع

 

“الآفاق المستقبلية لتجديد

 

أصول الفقه”

 

تناول البحث في صفحاته السابقة فكرة تجديد أصول الفقه ومشروعيتها كما تناول الاتجاهات المعاصرة في التجديد ومقترحاتها بشأنه، وأود هنا وأنا بصدد الحديث عن الآفاق المستقبلية لتجديد أصول الفقه أن أشير إلى أمر هام لم تسبق الإشارة إليه من قبل، وهو أن تجديد أصول الفقه له بعدان بُعد عاجل وملح، وبُعد منهجي طبيعي، وقد تم تناول الأخير من خلال عرض الإرهاصات المعاصرة للتجديد، أما البعد العاجل فهو تقريب أصول الفقه لدارسي القانون والمشتغلين بالقضاء في البلاد الإسلامية، على أني اعتبر أن هذا النمط من التجديد يمكن أن يكون تجديدًا مدرسيًا ومؤقتًا حتى نجتاز المرحلة التي نحن فيها، وهي مرحلة تداخلت فيها الثقافات التشريعية والقانونية في بلادنا بغير إرادة منا نتيجة أن الفراغ التشريعي منذ أخريات الدولة العثمانية ملأه الفقه الغربي في كثير من البلاد الإسلامية بمدارسه القانونية المتعددة إثر عوامل غزو عسكري وثقافي معروفة لم تسلم منها في هذا الشأن إلا قليل من البلاد الإسلامية كالمملكة العربية السعودية واليمن ومنطقة الخليج العربي مع الاختلاف النسبي في الحظوظ من تلك السلامة؛ لأن تأثيرات النظم التعليمية والقضائية وطبيعة التعامل العالمي وتداخله ألقت بظلها على بعض من تلك البلاد لكنها – ظلَّت – في كل الأحوال محتفظة بتطبيق الشريعة الإسلامية في قوانينها الإسلامية كما أنها حافظت على ثقافتها الشرعية يتناقلها كل جيل عن الآخر.

 

ولتقريب أصول الفقه وسرعة فهمه لا بد من المقارنة بين بعض أجزائه والأجزاء الشبيهة بها في القانون، ولا أنكر أن بعض الكاتبين في القانون قد قاموا بهذا الدور لكنه قليل في أصول الفقه خاصة، لهذا أرى الآتي:

 

1- لا بد عند تدريس مباحث الحكم الشرعي لطلاب كليات الحقوق من المقارنة بين تعريف الحكم الشرعي والقاعدة القانونية من حيث المنبع والخصائص مع بيان اتساع الحكم الشرعي وتدرجه كما يمكن التمييز في هذا الإطار بين الحكم الشرعي الواجب ديانة والواجب قضاء، والواجب ديانة فقط.

 

2- لابد من المقارنة بين فكرة النظام العام في القانون وتقسيمات الأصوليين للمحكوم فيه، وهو فعل المكلف الذي يتعلق به التكليف من حيث أنه إما أن يكون حقًا خالصًا لله، أو حقًا خالصًا للعبد أو حقًا مشتركًا مع غلبة حق الله، أو مشتركًا مع غلبة حق العبد، وبسط القول في ذلك بالطريقة التي تكشف عن ثراء وسعة أصول الفقه في هذا الجانب كما يمكن المقارنة بين فكرة التكليف في الشريعة، والمسؤولية في القانون، واتساع فكرة التكليف التي تتعدى الدنيا إلى الآخرة.

 

3- في مباحث تفسير النصوص لا بد من تركيز فكرة التفسير في صدر الجزء المخصص لذلك من أجزاء أصول الفقه مع بيان دور اللغة العربية والمنطق في تلك المباحث، وإعطاء لمحة تاريخية عن تفسير الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين لتفسير النصوص، وطريقتهم في ذلك، ثم تأتي – بعد ذلك – الدراسة الموضوعية لكل باب من أبواب التفسير، على أنه لا بد من أن يفرق بين وظيفة تلك القواعد كقواعد لفهم النصوص ووظيفتها كقواعد للتطبيق، ثم لا بد من إجراء دراسة تحليلية للقوانين المطبقة في إطار قواعد التفسير ببيان النص العام في النص القانوني والخاص فيه، وكيف يخصص العام؟ والمطلق والمقيد ومتى يتم التقييد؟ واستخراج أنماط لمفاهيم موافقة ومخالفة ودلالة عبارة، وإشارة، واقتضاء، وغير ذلك من جوانب المباحث الخاصة بتفسير النصوص وهي كثيرة.

 

4- في باب المصالح المرسلة لا بد من إيراد نماذج معاصرة لاجتهادات اعتمد فيها على هذا المصدر كما أنه لا بد من بيان أن اللوائح والتنظيمات الإدارية كلها تدخل تحت هذا المصدر الاجتهادي إذا كانت المسائل التي تتناولها لا يشملها نص خاص من نصوص الشريعة؛ وفي ذلك فائدة من حيث ربط تلك التنظيمات بالشريعة باعتبار أنها تدابير اقتضتها مصالح الناس، وأوجبتها مقتضيات تنظيم حياتهم.

 

وفيما وراء ذلك فإنني أضيف للقضايا والمقترحات والاتجاهات التي سلف توضيحها في الإرهاصات المعاصرة للتجديد الآتي:

 

1- أن تتبع المقدمات التي تكتب عادة في صدر المؤلفات الحديثة في هذا العلم مقدمة وافية لتاريخه؛ ذلك أن المقدمات الحالية في تاريخه لا يعدو الحديث فيها نشأته والمؤلفات فيه، يحدث هذا في حين أن قرينه الفقه حظي بدراسات وافية ومتعددة تناولت أطواره التاريخية المختلفة ومدارسه ومذاهبه وأئمته.

 

2- لا بد في هذه الدراسة التاريخية لمسيرة هذا العلم أن تكشف عن المراحل التي مرَّ بها والتطور الذي لحقه في كل مرحلة، فأصول الفقه – مثلاً – في صياغته وأسلوبه وتناوله منذ تدوين الإمام الشافعي له في القرن الثاني إلى مجيء الإمام الغزالي في القرن الخامس كان يمثل مرحلة ، وبمجيء الإمام الغزالي طعم بالمنطق الأرسطي فأثر ذلك في ا لمراحل اللاحقة في كتابته.

 

3- لا بد من التوضيح أكثر لطبيعة استخدام علم الأصول في عصر الاجتهاد، وطبيعة استخدامه في عصر التقليد عن طريق الرصد التاريخي المتبوع بالاستدلال والتطبيق الذي يكشف بدقة عن طبيعة ذلك الاستخدام.

 

4- لابد عند دراسة الاجتهاد من تأكيد فكرة الاجتهاد والتكليف به في الشريعة الإسلامية، مع عرض فكرة التلاقي بين الوحي والعقل البشري بمنهجية واضحة وثابتة ومقننة يفرق فيها بين الثوابت التي لا يطولها الاجتهاد، وبين المتغيرات التي يلاحقها بالمتابعة والكشف.

 

وفيما وراء ذلك فقد تقود الاعتبارات التجديدية والحاجات الزمنية في المستقبل إلى أن يظهر ما يسمى بأصول الفقه المتخصص كأصول فقه الاقتصاد، وأصول فقه السياسة والحكم، وأصول فقه العلاقات الدولية، وأصول فقه الأسرة، وأصول فقه القضاء إلى غير ذلك من الروافد التي تدعو الحاجة إلى التوسع في دراسة أصولها بسعة وإبانة، وبطريقة يتمازج فيها أصول الفقه الحالي والقواعد الفقهية بما يرسي مناهج هذه العلوم في إطار من النظر المنهجي الدقيق والمباشر ، والتطبيق العملي المبين والكاشف، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.

 

“الخاتمة”

 

تناول البحث قضية التجديد في أصول الفقه من خلال مدخل عن التعريف به وبيان أهميته، ومن ثَمَّ تمَّ ترتيبه في أربعة مباحث غطت مفهومه ومشروعيته وتاريخه كما تناولت الإرهاصات المعاصرة للتجديد والآفاق المستقبلية له. وخلاصة ما انتهى إليه البحث – من خلال مدخله ومباحثه الأربعة – يمكن تركيزه فيما يلي:

 

1- أن التجديد مشروع بل مطلوب لأنه اجتهاد، والاجتهاد فرض من فروض الكفاية على أنه قد يكون في أدنى الأحوال مندوبًا إذا نظرنا إلى التجديد من جهة أنه من باب الاجتهاد في الحوادث قبل نزولها استعدادًا لها، وتحسبًا لملاقاتها بالإضافة إلى أن التجديد سنة من سنن الله الماضية في المخلوقات، وفي الحركة الكونية بعامة.

 

2- أن تاريخ أصول الفقه تتابع التجديد فيه منذ بدايته، فبعد تدوين الإمام الشافعي له في كتابه “الرسالة” ظلَّ في حالة حركة تجديدية مستمرة برزت من خلالها فيه مدارس وتبلورت اتجاهات حتى تمَّ نضوجه في القرن الخامس الهجري، وولج ساحة التنظير الواسع، وكثرت فيه المؤلفات التي أنتجت الموسوعات العلمية الأصولية التي لا تزال هي المصدر والمورد في هذا العلم حتى اليوم، على أن هذا التجديد قد استمر في عصور التقليد اللاحقة على مستوى التجديد الفردي وبرز – في إطار ذلك – مجددون كانوا يرفدونه دومًا بالتحرير والإضافة والترتيب والتنظيم من حيث تصنيفه، وبالدقة وقوة الاستدلال، والمتابعة النقدية والتصحيحية من حيث منهجه حسب دواعي ظروف زمانهم، ومكانهم، ودواعي حاجاتهم ، وأَثرًا لذلك جدَّد فيه إمام الحرمين الجويني، والغزالي، والعز بن عبد السلام، وابن تيمية ، والشاطبي، والقرافي ، وابن قيم الجوزية.

 

3- عرض البحث إرهاصات التجديد المعاصرة في أصول الفقه واتجاهاتها سواء كانت فكرية أو أكاديمية أو منهجية، مصحوبة بدراسة كشفية عامة عن التجديد في الفقه، والتقنين المعاصر، وسائر الشؤون الفكرية الأخرى التي بدأت مع طلائع القرن الثالث عشر الهجري ثمَّ ناقشت تلك الاتجاهات مبينًا الأوجه الإيجابية فيها ومواطن الضعف في بعضها، على أن ما كان ضعيفًا منها يعتبر من باب التنبيه والتذكير بضرورة الاجتهاد والتجديد في المنهج الأصولي ليوافي بسعة وكفاية حاجات العصر ومتطلباته، كما دعا – في هذا الإطار – إلى ضرورة المؤسسية العلمية الحرة التي تجمع كل رؤى التجديد وتدرسها وتنتهي – في شأنها – إلى ترتيب وتنظيم وبلورة ثم تشرع في تنفيذها.

 

4- في مبحث “الآفاق المستقبلية” فرق البحث بين نوعين من التجديد في أصول الفقه المقارن بالقانون، والتجديد الطبيعي لعلم الأصول، ورأى أن التجديد الذي يسعى إلى المقارنة بين أصول الفقه وبين أصول القوانين المعاصرة والأنظمة القضائية في العالم الإسلامي الذي غذَّته القوانين الغربية أو أن أصول قوانينه مستمدة منها ومن مدارسها واتجاهاتها ينبغي أن يستمر على أن يسمى تجديدًا مدرسيًا، وأن يكون قاصرًا على البلاد التي تدعو الحاجة فيها إليه، وأن يكون رافدًا من روافد التجديد الطبيعي لا قسيمًا له.

 

5- قدَّم البحث بعض المقترحات في التجديد العام دعمًا له، وشملت تلك المقترحات بعض الجوانب التصنيفية فيه وبعض الجوانب المنهجية، مع تطلع البحث إلى أن يطال التجديد في المستقبل بعض القضايا المنهجية الأخرى التي بدت الحاجة إليها تظهر من خلال نهضة المسلمين المعاصرة وصحوتهم، ومن خلال امتداد شبكة العلاقات الدولية، والتداخل الناتج عن الهجرة سواء كانت إلى بلاد المسلمين أو إلى بلاد غير المسلمين، ورجا – في هذا الإطار – أن يظهر ما يسمى بأصول الفقه المتخصص ، كأصول فقه الاقتصاد، وأصول فقه السياسة والحكم، وأصول فقه العلاقات الدولية، وأصول فقه الأسرة .. إلخ.

 

وهذه الأنماط من الأصول تلتقي في رحابها المصدرية المباشرة بجمع الآيات والأحاديث الخاصة بأصول فكر الاقتصاد الإسلامي – مثلاً – وتفسيرها من خلال قواعد التفسير المقررة في أصول الفقه العامة بالإضافة إلى الاستفادة من قواعد الفقه في هذا الصدد وبالعلوم الآلية المعاصرة مفصولة عن فكرها وأصولها ومرتكزاتها وهكذا دواليك.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

 

الهوامش

 

 

(1) ابن خلدون محمد المقدمة 454.

 

(2) الغزالي الإمام أبو حامد المستصفى 1/2 .

 

(3) الإسنوي جمال الدين بن عبد الرحيم بن الحسن “شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول” 1/2 طبعة عالم الكتب مع حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي.

 

(4) النشمي الدكتور عجيل  “بحث في مقدمات علم أصول الفقه” مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية الكويت عدد   ص152.

 

(5) ابن السمعاني أبو المظفر منصور بن محمد “قواطع الأدلة” تحقيق مركز البحوث والدراسات بمكتبة الباز – طبعة مكتبة الباز الطبعة الأولى 1418هـ/1998م 1/16.

 

(6) الرازي الإمام عبد الله بن محمد بن عمر “مناقب الإمام الشافعي” 57 طبعة السيد با علوي 1279هـ.

 

(7) انظر الإسنوي في التمهيد 45 طبعة الرسالة بتحقيق الدكتور محمد حسن هيتو، وممن شهد له بذلك ابن خلدون في مقدمته، والإمام الجويني – راجع آل منصور صالح عبد العزيز “أصول الفقه وابن تيمية 1/35 الطبعة الأولى 1980.

 

(8) أبو زهرة الشيخ محمد ص 61

 

(9) المصباح المنير 1/92، القاموس المحيط 1/346.

 

(10) محمد سعيد بسطامي “مفهوم تجديد الدين” ص 15، وأمامة عدنان محمد “تجديد الفكر الإسلامي” ص 16 طبعة دار ابن الجوزي.

 

(11) ابن حنبل الإمام أحمد “المسند” 14/328 طبعة الرسالة.

 

(12) الكيلاني عبد الله إبراهيم بحث عن ” تجديد الفكر الإسلامي أسبابه وضوابطه” ص 318 مجلة جامعة اليرموك.

 

 

(13) أخرجه عدد من أئمة الحديث في كتبهم وهم أبو داود في سننه ، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في معرفة السنن والآثار والطبراني في المعجم الأوسط، والخطيب البغدادي في تاريخه، وهو حديث صحيح قال الألباني عنه: والسند صحيح ، ورجاله ثقات، رجال مسلم: الألباني سلسلة الأحاديث الصحيحة”، أمامة عدنان محمد “تجديد الفكر الإسلامي” 54.

 

(14) أمامة عدنان محمد “تجديد الفكر الإسلامي” 16.

 

(15) المرجع السابق: 17.

 

(16) المرجع السابق: 18.

 

(17) إسماعيل الدكتور شعبان محمد “التجديد في أصول الفقه” 38.

 

(18) انظر في هذا المعنى حسنة عمر عبيد “الاجتهاد والتجديد سبيل الوراثة الحضارية” 20، وإبراهيم عبد الفتاح محجوب، حسن الترابي وفساد نظرية تطوير الدين: 53، وأمامة عدنان محمد تجديد الفكر الإسلامي: 18.

 

(19) بوهدة د. عالية “مجالات تجديد علم أصول الفقه” المسلم المعاصر العدد 118 السنة الثلاثون رجب، شعبان، رمضان 1427هـ أكتوبر – نوفمبر – ديسمبر 2005 ص31

 

(20) النملة عبد الكريم بن علي بن محمد “المهذب في علم أصول الفقه المقارن” مجلد 5 ص (21) مكتبة الرشد بالرياض.

 

(22) المرجع السابق مجلد 5 ص 2328.

 

(23) توانا سيد محمد موسى “الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه” ص 98 طبعة دار الكتب الحديثة بالقاهرة.

 

(24) حلولو أحمد بن عبد الرحمن بن موسى بن عبد الحق الزليطني القروي “الضياء اللامع شرح جمع الجوامع” 2/525، الإسنوي 4/616، 607 طبعة الفيصلية، وزهير محمد أبو النور: “أصول الفقه” 4/470 وفي إعلام الموقعين لابن القيم: “إذا أفتى في واقعة وذكر مستندها ولم يتجدد له ما يوجب تغير اجتهاده أفتى بها من غير نظر ولا اجتهاد، وإن ذكرها ونسي مستندها فهل له أن يفتي بها دون نظر واجتهاد فيه وجهان لأصحاب الإمامين أحمد والشافعي “أحدهما” أن يلزمه تجديد النظر لاحتمال تغير اجتهاده وظهور ما كان خافيًا عنه، والثاني لا يلزمه تجديد النظر لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان إلخ” ابن القيم الجوزية “إعلام الموقعين” 3/456، 457.

 

(25) النملة عبد الكريم بن علي “المهذب” المجلد 5 ص 2318.

 

(26) زهير محمد أبو النور “أصول الفقه” 4/266، 268، 272.

 

(27) أمامة عدنان محمد “التجديد في الفكر الإسلامي” ص 42.

 

(28) راجع شلبي الشيخ محمد مصطفى إذ يعرف “أصول الفقه” بأنه مجموعة القواعد الكلية التي يتوصل بها إلى معرفة الأحكام الشرعية، أما علم أصول الفقه فيعرفه بأنه “العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الفقه” – أصول الفقه الإسلامي 1/20، 21 الطبعة الثانية دار النهضة العربية بيروت 1398هـ/1978م.

 

(29) عبد الكريم أبو الفضل عبد السلام بن محمد “التجديد والمجددون” ص 75، 76.

 

(30) أبو سليمان الدكتور عبد الوهاب ، “الفكر الأصولي” ص 44.

 

(31) الصابوني عبد الرحمن وآخرون “المدخل الفقهي وتاريخ التشريع الإسلامي” ص 261

 

(32) المكي أبو المؤيد الموفق بن أحمد “مناقب الإمام أبي حنيفة” الطبعة الأولى دائرة المعارف النظامية في الهند.

 

(33) راجع الموطأ بشرح السيوطي في مواطن متفرقة، والدهلوي أحمد بن عبد الرحيم الفاروقي “حجة الله البالغة” 1/16 الطبعة الأولى الخيرية 1322هـ.

 

(34) الشاطبي إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي أبو إسحاق “الموافقات” 4/210، والاعتصام 2/138.

 

(35) المرجع السابق 3/21، 22، وأبو زهرة الشيخ محمد أبو زهرة “مالك” ص 301.

 

(36) أبو سليمان عبد الوهاب إبراهيم “الفكر الأصولي” ص60.

 

(37) عطية د. جمال الدين “التنظير الفقهي” ص 21.

 

(37) أبو سليمان عبد الوهاب “الفكر الأصولي” ص 610.

 

(38) المرجع السابق ص 103.

 

(39) الضويحي أحمد بن عبد الله بن محمد “علم أصول الفقه من التدوين إلى نهاية القرن الرابع الهجري” 3/509-518. نشر في سلسلة الرسائل الجامعية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.

 

(40) أبو سليمان عبد الوهاب الفكر الأصولي ص 103.

 

(41) المرجع السابق والصفحة.

 

(42) أبو سليمان عبد الوهاب “الفكر الأصولي” ص 102.

 

(43) المرجع السابق، والضويحي أحمد بن عبد الله “علم أصول الفقه” من التدوين إلى نهاية القرن الرابع الهجري مرجع سابق 1/524.

 

(44) أبو سليمان عبد الوهاب إبراهيم الفكر الأصولي ص 162والضويحي أحمد بن عبد الله بن محمد الضويحي “علم أصول الفقه من التدوين حتى نهاية القرن الرابع” مرجع سابق 2/853-858.

 

(45) المرجع السابق 2/861، وأبو سليمان عبد الوهاب “الفكر الأصولي” ص 162.

 

(46) المرجع السابق 2/869-884.

 

(47) الزركشي بدر الدين محمد بن بهادر ” البحر المحيط في أصول الفقه” طبعة دار الكتب العلمية بيروت ط1 سنة 1421هـ /2000م ج1 ص 3.

 

(48) أبو سليمان عبد الوهاب “الفكر الأصولي” ص 444.

 

(49) المرجع السابق ص 165.

 

(50) آل منصور صالح بن عبد العزيز “أصول الفقه وابن تيمية” الطبعة الأولى 1980- 1/51.

 

(51) الخضري الشيخ محمد “أصول الفقه” ص 9.

 

(52) هيتو الدكتور محمد حسن مقدمة تحقيقه لكتاب التمهيد للإسنوي طبعة الرسالة 1404هـ / 1984م ص 15، 16.

 

(53) أبو زهرة الشيخ محمد “أصول الفقه” ص 13.

 

(54) أبو زهرة الشيخ محمد “أصول الفقه” ص 18.

 

(55) الخضري الشيخ محمد “أصول الفقه” ص 6.

 

(56) المرجع السابق ص 20.

 

(57) زيدان عبد الكريم “الوجيز في أصول الفقه” ص 17.

 

(58) عبد الكريم أبو الفضل عبد السلام بن محمد “التجديد والمجددون في أصول الفقه” ص64.

 

(59) أبو سليمان عبد الوهاب ص 454.

 

(60) آل منصور صالح بن عبد العزيز “أصول الفقه وابن تيمية” طبعة أولى 1/46.

 

(61) ابن تيمية “مجموع فتاوى شيخ الإسلام” 20/402.

 

(62) أبو سليمان “الفكر الأصولي” 276، 277، والعدة.

 

(63) الشاطبي الإمام أبو إسحق الموافقات 1/17.

 

(64) الإسنوي التمهيد ص 13.

 

(65) الزرقا مصطفى أحمد “المدخل الفقهي العام” طبعة دار الفكر 1/176-180.

 

(66) الخضري الشيخ محمد “تاريخ التشريع الإسلامي” المطبعة التجارية الكبرى” الطبعة التاسعة 1390هـ/1970م ص 240-248.

 

(67) الزرقا “المدخل الفقهي العام” مرجع سابق.

 

(68) عطية د. جمال الدين “التنظير الفقهي” 27.

 

(69) الزرقا – المدخل : مرجع سابق 1/183 وما بعدها.

 

(70) لا بد من ملاحظة أن فكرة المتون، من حيث هي حسنة وهي أقرب إلى التقنين كما أن ظهورها كان قديمًا وكانت الحكمة منها عند نشوئها جمع المسائل الأولية في متون صغيرة بعبارة سهلة أما في هذا العصر الأخير المتحدث عنه فقد اتسمت بالتعقيد فخرجت بذلك عن غرضها الأساسي إلى عكسه. الزرقا ـ المدخل مرجع سابق 1/188.

 

(71)  انظر “أصول الفقه” للدكتور محمود طنطاوي ص 20، وأصول الفقه للدكتور زكريا البري طبعة جامعة القاهرة 1971 ص 11

 

(72) النووي “تهذيب الأسماء واللغات” 1/71، ابن كثير “البداية والنهاية” 10/275، وأمامة عدنان محمد “التجديد في الفكر الإسلامي” 88.

 

(73) ابن كثير “البداية والنهاية” 10/276، و”التجديد في الفكر الإسلامي” مرجع سابق ص 89.

 

(74) المرجعان السابقان والصفحات.

 

(75) أحمد شاكر مقدمة تحقيق الرسالة للإمام الشافعي ص 5.

 

(76) انظر أبو سليمان عبد الوهاب “الفكر الأصولي” ص 69 وما بعدها.

 

(77) النووي “تهذيب الأسماء واللغات” 1/69.

 

(78) أبو سليمان “الفكر الأصولي” مرجع سابق ص 287.

 

(79) المرجع السابق 287، 288.

 

(80) الريسوني دكتور أحمد “نظرية المقاصد للإمام الشاطبي” ص 33.

 

(81) ابن خلدون محمد “المقدمة” ص 455.

 

(82) طبقات الشافعية الكبرى والتجديد والمجددون ص 179.

 

(83) إمام الحرمين “البرهان” 1/83 و158، وأبو سليمان “الفكر الأصولي” 292.

 

(84) عبد الوهاب أبو سليمان “الفكر الأصولي” ص 29.

 

(85) الريسوني د.أحمد “نظرية المقاصد عن الإمام الشاطبي” ص 33.

 

(86) المرجع السابق والصفحة.

 

(87) د. عبد الوهاب أبو سليمان “الفكر الأصولي” ص 29.

 

(88) المرجع السابق 183، 184.

 

(89) الريسوني د. أحمد “نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي” ص 35.

 

(90) إمام الحرمين الجويني “غياث الأمم في التياث الظلم” تحقيق د. عبد العظيم الديب ص 419.

 

(91) الدكتور سليمان دنيا “الحقيقة في نظر الغزالي” ص 9.

 

(92) أبو سليمان “الفكر الأصولي” 323.

 

(93) والكتب المشار إليها هي: 1- “البرهان” لإمام الحرمين. 2- “المستصفى” للغزالي وهما أشعريان. 3- “العهد” للقاضي عبد الجبار. 4- “المعتمد” لأبي الحسين البصري ، وهما معتزليان.

 

(94) د محمد حسن هيتو مقدمة تحقيق المنخول طبعة ص 36.

 

(95) المرجع السابق ص 37.

 

(96) المرجع السابق والصفحة.

 

(97) الغزالي “المستصفى” 1/4.

 

(98) أبو سليمان “الفكر الأصولي” 327.

 

(99) د. جمال الدين عطية “التنظير الفقهي” ص 44.

 

(100) الريسوني د. أحمد “نظرية المقاصد عند الشاطبي” ص 49.

 

(101) أبو سليمان “الفكر الأصولي ” 135-158.

 

(102) الغزالي محمد بن محمد “المستصفى” 1/10.

 

(103) راجع في هذه التقسيمات ، د. جمال الدين عطية “التنظير الفقهي” 45-47.

 

(104) الغزالي “المستصفى” 1/4.

 

(105) أبو سليمان “الفكر الأصولي” 336، 337، وعطية د. جمال الدين عطية “التنظير الفقهي” 44، 45، وعبد الكريم أبو الفضل عبد السلام بن محمد “التجديد والمجددون في أصول الفقه” 186، 187، والغزالي “المستصفى” 1/245-270.

 

(106) الغزالي “المستصفى” 1/10.

 

(107) المرجع والصفحة.

 

(108) أبو سليمان “الفكر الأصولي ” 331.

 

(109) الغزالي “المستصفى” 1/21.

 

(110) أبو سليمان “الفكر الأصولي” 344.

 

(111) راجع أبو سليمان “الفكر الأصولي” إذ تكفل بجمع اجتهاداته في كتاب “الفكر الأصولي” من ص 345 حتى ص 367.

 

(112) الريسوني د. أحمد “نظرية المقاصد عند الشاطبي” ص 41.

 

(113) القرافي “الفروق” 1/2، 3.

 

(114) راجع التجديد عند إمام الحرمين ص28من هذا البحث.

 

(115) زهير أبو النور “أصول الفقه” 4/314.

 

(116) مقدمة العلائي

 

(117) السيوطي “الأشباه والنظائر 1/4.

 

(118) ابن عبد السلام الإمام عز الدين بن عبد السلام “قواعد الأحكام في مصالح الأنام” 2/74، 275، ومقدمة تحقيق القواعد للدكتورين نزيه حماد وعثمان ضميرين طبعة دار القلم بدمشق 1/18.

 

(119) الخادمي د. نور الدين مختار “المناسبة الشرعية وتطبيقاتها المعاصرة” طبعة دار ابن حزم الطبعة الأولى 1427هـ/ 2006م.

 

(120) ابن عبد السلام “القواعد الصغرى” 1/35.

 

(121) ابن عبد السلام :”القواعد الكبرى” 1/14.

 

(122) ابن عبد السلام الإمام عز الدين “قواعد الأحكام في مصالح الأنام” مرجع سابق 1/7.

 

(123) المرجع السابق والصفحة.

 

(124) المرجع السابق والصفحة.

 

(125) المرجع السابق 1/11.

 

(126) المرجع السابق 1/11.

 

(127) المرجع السباق 1/15.

 

(128) المرجع السابق 1/18.

 

(129) المرجع السابق 1/19.

 

(130) المرجع السابق 1/19.

 

(131) المرجع السابق 1/26.

 

(132) المرجع السابق 1/28.

 

(133) المرجع السابق 1/38.

 

(134) المرجع السابق 1/40.

 

(135) المرجع السابق 1/59.

 

(136) عبد الكريم أبو الفضل عبد السلام بن محمد “التجديد والمجددون” مرجع سابق 196.

 

(137) ابن عبد السلام الإمام عز الدين “قواعد الأحكام في مصالح الأنام” مرجع سابق  1/70.

 

(138) المرجع السابق 1/74.

 

(139) المرجع السابق 1/75.

 

(140) المرجع السابق والصفحة.

 

(141) المرجع السابق 1/77.

 

(142) المرجع السابق 1/78.

 

(143) المرجع السابق 1/76، 79.

 

(144) المرجع السابق 2/160، 161.

 

(145) عبد الكريم أبو الفضل عبد السلام بن محمد “التجديد والمجددون” مرجع سابق 196.

 

(146) المرجع السابق ص 206.

 

(147) المرجع السابق ص 206.

 

(148) آل منصور د. صالح بن عبد العزيز “أصول الفقه وابن تيمية” الطبعة الأولى 1400هـ/ 1980م 1/75.

 

(149) المرجع السابق والصفحة.

 

(150) الباحث هو العالم الجاد الدكتور صالح بن عبد العزيز آل منصور وهو من أساتذة علم الأصول المتميزين في المملكة العربية السعودية.

 

(151) عبد الكريم أبو الفضل عبد السلام بن محمد “التجديد والمجددون” مرجع سابق ص 220.

 

(152) الريسوني د. أحمد “نظرية المقاصد عن الإمام الشاطبي” مرجع سابق ص 54، 55.

 

(153) الندوي الشيخ أبو الحسن علي الحسني كتاب “الحافظ بن أحمد بن تيمية” سلسلة رجال الفكر والدعوة في الإسلام طبعة دار القلم بالكويت الطبعة الخامسة 1416هـ/1997م 2/311.

 

(154) الريسوني د. أحمد “نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي” ص 101-105.

 

(155) بهذا وصفه الشيخ محمد رشيد رضا عند تقديمه لكتاب “الاعتصام” حيث قال، لكن المصنف بهذا الكتاب وبصنوه كتاب “الموافقات” الذي لم يسبق إلى مثله – أيضًا – من أعظم المجددين في الإسلام، “مقدمة رشيد رضا للاعتصام” ص3.

 

(156) الريسوني د. أحمد “نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي” ص 103.

 

(157) عبد الكريم أبو الفضل عبد السلام بن محمد “التجديد والمجددون في أصول الفقه” ص 268، 269. وانظر “الإعلام لمخالفات الموافقات والاعتصام” ناصر بن حمد الفهد المكتبة الشاملة ص 143.

 

(158) الشاطبي أبو إسحاق “الموافقات” 4/313.

 

(159) المرجع السابق 1/59.

 

(160) المرجع السابق 4/4، 5.

 

(161) المرجع السابق 3/71.

 

(162) الصدر العلامة محمد باقر “الأسس المنطقية للاستقراء” دار التعارف للمطبوعات بيروت لبنان الطبعة الثالثة 1401هـ/1981م ص5.

 

(163) الزركشي “البحر المحيط 4/321.

 

(164) “الموافقات” المقدمة الأولى 1/10 تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد – طبعة صبيح.

 

(165) الشاطبي “الاعتصام” 1/28.

 

(166) المرجع السابق 2/8 نفس الطبعة

 

(167) “الموافقات” 2/6 طبعة دار المعرفة بيروت لبنان.

 

(168) الموافقات.

 

(169) الموافقات 2/163، 164.

 

(170) الموافقات 3/406 والقواعد الأصولية عند الإمام الشاطبي من خلال كتابه “الموافقات” د. الجيلالي المريني .

 

(171) الحساسنة د. أحسن الحساسنة “معالم التجديد الأصولي عند الإمام الشاطبي” رسالة دكتوراه مخطوطة ص 167.

 

(172) عبد الكريم أبو الفضل عبد السلام بن محمد “التجديد والمجددون في أصول الفقه” مرجع سابق ص 260، 273.

 

(173) لحساسنة د. أحسن، “معالم التجديد الأصولي عند الإمام الشاطبي” رسالة دكتوراه مخطوطة “باب مضامين التجديد الأصولي عند الشاطبي”.

 

(174) انظر القرافي في “الفروق” 2/33، والذخيرة 2/129، و4/260 وابن بية د. عبد الله “علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه” ص 17، 20 طبعة مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية 2006.

 

(175) “التقعيد الأصولي” ص 174-175.

 

(176) عطية د. جمال الدين عطية “التنظير الفقهي” ص 37.

 

(177) الجوزية ابن القيم “إعلام الموقعين عن رب العالمين” 3/119، 375.

 

(178) المرجع السابق 3/27-30.

 

(179) المرجع السابق 3/381-405.

 

(180) المرجع السابق 3/432.

 

(181) إسماعيل د. شعبان محمد “التجديد في أصول الفقه” ص 41.

 

(182) البهي د. محمد “الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي” ص 368.

 

(183) راجع “أليس الصبح بقريب” ص 196-205.

 

(184) اليوبي د.محمد سعد بن أحمد بن مسعود “مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية” ص 71- دار الهجرة للنشر والتوزيع الأولى 1418هـ/1998م.

 

(185) بن بية د. عبد الله “علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه” مرجع سابق ص 75.

 

(186) ابن عاشور الشيخ طاهر “مقاصد الشريعة ص 706.

 

(187) أمين أحمد “زعماء الإصلاح” 337.

 

(188) أمبابي د. محمد “التشريع الإسلامي تاريخه وخصائصه” 342.

 

(189) المرجع السابق والصفحة.

 

(190) أمبابي د. محمد مرجع سابق 343، 344.

 

(191) الثعالبي محمد الحسن الحجوي “الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي” 2/391.

 

(192) إسماعيل د. شعبان محمد “أصول الفقه تاريخ ورجاله” ص 578.

 

(193) العدد الافتتاحي لمجلة المسلم المعاصر

 

(194) الزرقا مصطفى أحمد “المدخل الفقهي العام” 1/191 وما بعدها.

 

(195) شعبان إسماعيل محمد “التجديد في أصول الفقه”.

 

(196) عطية د. جمال الدين “المسلم المعاصر” العدد (96) السنة الرابعة والعشرون إبريل – مايو – يونيو 2000م.

 

(197) عبد الكريم أبو الفضل عبد السلام بن محمد “التجديد والمجددون في أصول الفقه” ص 555.

 

(198) مفكر إسلامي سوداني معاصر خلفيته العلمية قانونية من جهة دراسته وتخصصه، وشرعية من جهة اهتماماته وأسرته، يتميز بقوة الفكر والصلابة في الرأي والمواقف.

 

(199) الترابي د. حسن عبد الله “تجديد أصول الفقه الإسلامي” الطبعة الأولى 1400هـ/ 1980م طبعة دار الفكر للنشر والتوزيع – الخرطوم.

 

(200) راجع في هذا الصدد كتاب “مفهوم التجديد بين السنة النبوية وبين أدعياء التجديد المعاصرين” للدكتور محمود الطحان – الأستاذ المساعد سابقًا بجامعة الكويت.

 

(201) راجع في هذا الصدد المرجع السابق ص 34.

 

(202) راجع المدخل الفقهي وتاريخ التشريع الإسلامي للكاتب وآخرين ص 380.

 

(203) كولسون . ن.ج “في تاريخ التشريع الإسلامي” ص 11.

 

(204) عبد الكريم أبو الفضل عبد السلام بن محمد “التجديد والمجددون في أصول الفقه” مرجع سابق ص 84.

 

(205) راجع في هذه المميزات “التجديد والمجددون في أصول الفقه” مرجع سابق 78-95، وراجع “مناهج البحث عند مفكري الإسلام” للدكتور علي سامي النشار ص 91 وما بعدها، و”المنهج في أصول الفقه” د. عبد الحميد مدكور بحثًا مقدم إلى ندوة قضايا المنهجية في الفكر الإسلامي بالجزائر سبتمبر 1989م.

 

(206) “تطور علم أصول الفقه بين الواقع والآفاق” مرجع سابق ص 26.

 

(207) تطور علم أصول الفقه بين الواقع والآفاق ص 33.

 

(208) ابن عاشور الشيخ طاهر “مقاصد الشريعة الإسلامية” 3/8 تحقيق الشيخ الحبيب بن خوجه.

 

(209) الإمام الشافعي محمد بن إدريس “الرسالة” ص 524، والزحيلي وهبة “أصول الفقه الإسلامي” 1/275.

 

(210) شلبي الشيخ محمد مصطفى “أصول الفقه” ص 157.

 

(211) الزحيلي وهبة “أصول الفقه الإسلامي” 1/490.

 

(212) المرجع السابق 1/518.

 

(213) تطور علم أصول الفقه بين الواقع والآفاق ص 33.

 

(214) بوهدة د. غالية “مجالات تجديد علم أصول الفقه” مجلة المسلم المعاصر ـ العدد 118 السنة الثلاثون أكتوبر ـ نوفمبر ـ ديسمبر2005 ص 24 هامش 2.

 

(215) إسماعيل د. شعبان محمد “التجديد في أصول الفقه” ص 47-50.

 

(216) عطية د. جمال الدين “النظرية العامة للشريعة الإسلامية” ص 190، 253-292.

 

(217) تطور علم أصول الفقه بين الواقع والآفاق ص 24.

 

(218) تطور علم أصول الفقه بين الواقع والآفاق ص 27.

 

(219) الشاطبي أبو إسحاق “الموافقات” 4/89.

 

(220) الغزالي أبو حامد “شفاء الغليل ص 437، و”تحقيق المناط عند الأصوليين وأثره في اختلاف الفقهاء” الكيلاني د. عبد الرحمن مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة الكويت ص 114.

 

(221) البدارين أيمن عبد الحميد “نظرية التقعيد الأصولي” مرجع سابق ص 622.

(222) عطية د. جمال الدين “تطوير الفكر الاجتهادي” بحث في مجلة “المسلم المعاصر” العدد (96) السنة الرابعة والعشرون محرم ـ صفر ـ ربيع الأول 1421هـ / ابريل ـ مايو ـ يونيو 2000م.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *