أبحاث

مقاصد القانون الوضعي في ضــوء مقاصد الشريعة الإسلامية

العدد 150

مقدمة:

القانون علم غائي، فهو بمثابة هندسة اجتماعية للعلاقات داخل المجتمع، وهو وليد الشعور بالحاجة إلى قواعد معيارية ملزمة تحقق التوازن والتناسق بين المصالح المختلفة لأفراد المجتمع، فموضوعه أفعال الإنسان، من حيث ما يجب أن يكون عليه سلوكهم الفردي، وغايته العامة في جميع القوانين وفي كل زمان ومكان إيجاد تنظيم لمختلف العلاقات القانونية بصفة دائمة ومستمرة، وهذا ما يتحقق عن طريق حفظ النظام وتحقيق العدل الاجتماعي والتقدم الإنساني في إطار احترام حقوق الإنسان والحق في المساواة، فتشريع كل أمة هو من خصائصها، وله ارتباط وثيق بأخلاقها وتقاليدها وثقافتها، وما هو إلا مظهر من مظاهرها الاجتماعية، ومرآة لحالتها الاقتصادية والسياسية، وهو بذلك لا يبتعد في مقصوده عن غاية الشريعة الإسلامية ومقاصد تشريعها في جلب المصالح ودفع المفاسد وتحقيق مصالح الإنسان، فكون الإسلام دينا اجتماعيا يجعل من شريعته قانونا اجتماعيا معياريا بامتياز، مقصوده تحقيق مصالح الإنسان بميزان الشرع، ويجعل منها صاحبة الريادة في مراعاة المصالح الحقيقية للإنسانية بما احتوته من بعد عالمي رحمة وعدلا وحكمة ومصلحة للناس جميعا، نفعا ودفعا، جلبا ورفعا، حفظا ومنعا.

ومن المعلوم أن المتشرع لم يضع القانون عبثاً واعتباطاً، وإنما ابتغى هدفاً مرادًا من ورائه، وحِكَما باعثة عليه، وأسبابا ومقاصد دافعة اليه، غير أن عناية فقهاء القانون بمقاصد نصوصهم التشريعية أقل بكثير مما هو عند أهل الشريعة الإسلامية؛ وذلك لأن الداعي الذي قام عند فقهاء الشريعة لم يقم عند أهل القانون، وبيان ذلك أن التشريع الوضعي قابلٌ للتعديل والتغيير باستمرار، فليس بحاجة ماسَّة إلى نظرة مقاصدية، تستخرج منه الحِكَم والغايات المصلحية المقصودة منه(1).

لقد استشعر أهل القانون حاجة التشريعات الوضعية لعلم مقاصد القانون وإدراك روحه التي تسري فيه، ليستوعب ما ازدحم به الواقع من مستجداتٍ كثيرة ومتسارعة في مختلف شؤون الحياة، حيث اتجهت قلة منهم إلى استثمار نظرية المقاصد الشرعية في الإصلاح التشريعي، مع تسجيل تباين في الاستخدامات بين قاصد لعملية التجديد لأسلمة الواقع، وقاصد للحداثة تغريبا للتشريع عن قيمه(2)، فعدم وضوح الغاية الأساسية للتشريع الوضعي أدى إلى استغلاله استغلالا سيئا أفقده مصداقيته في كثير من الأحيان، خصوصا مع الإصرار على تطبيقه حرفيا ولو خالف روح القانون وإرادة المشرع، ولذلك كان لابد على أهل الذكر من رجال القانون من الكشف عن قصد المشرع، ومراعاته في الفهم والتطبيق.

ومن هنا تستهدف هذه الورقة البحثية البحث في جوهر القانون ومقاصد التشريع الوضعي وصولا إلى مجموعة القيم والمبادئ المرجعية في وضع التشريع، وفي سبيل ذلك نطرح إشكالية كيف نستثمر مقاصد الشريعة الإسلامية في صياغة معالم للتشريع الذي نريده لمجتمعاتنا الإسلامية، ذلك التشريع الذي يستجيب للخصوصية الوطنية ويراعي مقاصد المكلفين في وجوب انطباقها مع مقاصد واضع القانون في ضوء مقاصد التشريع الإسلامي؟ ولا شك في أهمية هذا الموضوع باعتباره مدخلا وإطارا معرفيا ومنهجيا لتكوين المعرفة بفكرة مقاصد التشريع الوضعي، وهو أفضل مدخل لأسلمة المعرفة القانونية الوضعية، ولتحديد مدى تمايز وتقارب هذه الفكرة عن غيرها من الأفكار في النظم الاجتماعية المغايرة.

المبحث الأول

فلسفة التشريع الوضعي في ضوء مقاصد الشريعة

من أهم ما يميز مجتمعاً ما عن غيره طبيعة منظومته القانونية وآلياتها في التشريع لما يستجد من قضايا وما يطرأ من تغيرات في الزمان والمكان والحال، وقد أثبت الواقع الفقهي والعملي أن التشريع الإسلامي متميز في أسسه وأهدافه عن كثير من المنظومات القانونية؛ ويرجع الفضل في ذلك إلى ثراء مصادره وتعدد مناهج الاستنباط فيها ومراعاة فقهائه لمقاصد وضعه في جلب المصالح ودفع المفاسد وحفظ نظام العالم بحفظ ضروريات الحياة وحقوق الناس، حيث بلغوا بها مستوىً علمياً راقياً يعبِّر عن نضج فكري عميق ويبرهن على مدى الآفاق العالمية التي فتحتها الدراسات التشريعية في الإسلام، ذلك أن أي تشريع متعلق بتنظيم حياة الإنسان وسلوكه داخل الجماعة؛ يكون في أصل وضعه مبنيا على غاية يريدها واضعه تحقيقها في حياة المخاطبين بهذا القانون الوضعي، وتلك الغاية هي المقصودة من تشريعه ووضعه في جملته وتفاصيله؛ لا فرق بين أن يكون هذا القانون قانونا وضعيا أو كان تشريعا سماويا(3).

وإذا كانت الشريعة الإسلامية وضعها الله ليخاطب بها الإنسان على سبيل التكليف؛ فإنها موضوعة لتحقيق غاية الإنسان من الاستخلاف بحيث يكون المقصد الأعلى لها هو تمكين الإنسان من تحقيق غاية وجوده؛ وهي الخلافة في الأرض عبادة لله وعمارة للأرض وتحقيق ما فيه خيره ومصلحته بما يفضي إلى سعادته في الدنيا وفي الآخرة(4)، والإسلام كدين اجتماعي له فضل ريادي في تحقيق مصالح الإنسان وحقوقه، وسبقه في إرساء القيم الإنسانية التي تمثل أعظم مقاصد الشارع وأهم أهداف التشريع؛ فحقيقة مقاصد شريعته هي نفسها مصالح الإنسان، وأن المصالح والمقاصد وجهان لحقيقة واحدة هي سعادة الإنسان في الدارين ابتداء وانتهاء، وأن مقاصد الشريعة لا تقوم في الوجود والواقع إلا برعاية وتحقيق مصالح الإنسان المختلفة، كما أنه لا رعاية لمصالح الإنسان دون استحضار لمقاصد الشرع(5).

لقد وضعت الشريعة للمحافظة على الضرورات الخمس وهي: الدين والنفس والنسل والمال والعقل، وهو عين ما يذكر في التشريعات الوضعية، فبالرغم من احتكار الدولة وظيفة التشريع وصنع القواعد القانونية في أغلب الحالات والأوضاع، إلا أن للمقاصد وجود في تلك القيم التي تتكشف عن بعض عبارات في النص القانوني كتحقيق العدل وحماية الحرية ومراعاة الفطرة وحسن النية والسماحة والعفو والمساواة والعدالة الاجتماعية وحماية حرية العقيدة وحفظ النفس والعرض والمال والنسب أو الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، غير أن المشرع الوضعي – بحكم نسبية قواعده وعدم إحاطتها بكل أبعاد هذه الضروريات- يحتاج تعديلاً كلما حصل تطور في المجتمع، وقد لا تسمح الظروف بإجراء تعديلات في الوقت المناسب، وعندئذ تكون نظرية المقاصد هي الملجأ في التعرف على حكم الواقعة قياسا على منهج المشرع بأن يجعل القاضي نفسه مكان المشرع ويتوقع ما يجب أن يكون لو كان مكان المشرع، فالمقاصد خطط تشريعية يهتدي بها لإدراك مراد المشرع في تنظيم الحياة، ولما كانت الحياة التي تحكمها هذه القوانين متغيرة، فإن تحقيق المقاصد العليا لا يتحقق إلا بأن تلهث القوانين خلف المتغيرات لكي تسايرها، قبل أن تصبح قوانين متخلفة عاجزة عن تحقيق ما وضعت لأجله، فيكون تفعيل المقاصد وإعمال “روح القوانين” هو المخرج من أزمة التغير والتبدل؛ بحيث يعوِّل الفقه القانوني كثيرا على تفعيل نظرية مقاصد القانون في دعم الأمن القانوني في ظل تدني غالبية القوانين المعاصرة من حيث النوعية وغياب الوضوح ونقص المعيارية.

وفي الواقع أن فكرة المقاصد في التشريع الوضعي مستعملة في الاجتهاد القضائي وفي استعمالات المذكرات الإيضاحية والتفسيرية للقانون فضلا عن رجوع الفقه القانوني لها في مباحث فلسفة القانون، حيث توجد عبارات مثل: قصد المشرع وقصد الشارع وغاية التشريع أو هدفه، وعبارة مقاصده العليا، مما يطرح التساؤل عن مضمون دلالتها، وأهمية تقصيها في فهم النص وتفسيره وإعماله.

المطلب الاول: غاية التشريع الوضعي بالمقارنة مع مقاصد التشريع الاسلامي

من الحقائق العلمية أن وراء كل قاعدة قانونية اعتبارات غائية تتحكم في وضعها؛ فالقوانين – شرعية كانت أم وضعية- إنما وضعت لتكون خادمة للقيم التي يراد لها أن تسود في حياة الناس، وخاصة قيم العدالة والمساواة والحرية والنظام والتقدم، ومن ثم فالقانون الذي لا يخدم القيم ولا يساعد على حمايتها في المجتمع، يصبح بلا فاعلية ولا فعالية، فكان لابد من وجود معايير وقيم يرجع إليها المجتمع لتنظيم السلوك الاجتماعي وفك التصادمات والحفاظ على الحقوق المشروعة لكل فرد.

لقد وضع فقهاء الشريعة نظرية المقاصد الأساسية كمعيار لمشروعية التشريع، بحيث تكون تلك المقاصد والمصالح والقيم هي المرشد والموجه لها، وهي مقاصد قطعية وثابتة تفتقر إلى مثلها التشريعات الوضعية عند سن قوانينها، فالمتفحص لأي من التشريعات الوضعية يجد جميعها تهدف إلى تحقيق أهداف ظرفية وغايات إنسانية ومصالح دنيوية مضطربة بعيدة عن الحياد والموضوعية.

ولا شك أن في تعقب نوايا المشرع ومقاصده المضمرة في مختلف النصوص التشريعية بحثا عن إرادة الشارع وأهدافه من وراء وضع التشريع؛ فيه مشقة وعسرا في ظل عدم حياد المتشرع الوضعي وعدم عصمته، ومن ثم صعوبة الوقوف على فهم المقصود من النص على حقيقته، وإعماله على الوجه المقصود، والبناء عليه عند غموضه أو تعارضه أو انعدامه، مما يستوجب معرفة مقاصد السياسة العامة للمشرع.

وفي جميع الأحوال يجب مراعاة البعد المقاصدي في فهم النصوص القانونية وتفسيرها على اعتبار أن المقاصد لا تُبحث في الأحكام، ولكن في ثمرات الأحكام ومآلاتها الشَّرعية، وتحصيل الثمرات المرجوة منها والمتمثلة في المصلحة المأمور جلبها، والمفسدة المطلوب درؤها أو رفعها حال التوقع أو الوقوع؛ وهو أهم تشوف لدى الشارع من الاهتمام بمجرد معرفة الأحكام ذاتها، يقول الشاطبي: “لأن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها، وإنما تقصد بها أمور أخرى هي معانيها وهي المصالح التي شرعت لأجلها”(6).

الفرع الأول: الفهم المقاصدي للنصوص الشرعية والوضعية:

تعتبر مقاصد الشريعة بمثابة قلب التشريع الإسلاميّ وأساسه وجوهره، وقد دلّ كل ذلك على أن الشريعة الإسلامية قد جاءت لتصلح أحوال الناس، وتخرجهم من دائرة الهوى والعبث والفساد إلى طريق الله المستقيم ومنهاجه القويم الذي يحقق لهم مصالحهم في الدنيا والآخرة ويحفظ لهم دينهم ونفوسهم وعقولهم وأموالهم وأعراضهم، كما أكد ذلك أرباب المقاصد قديماً وحديثاً، يقول العز بن عبد السلام: “من مارس الشريعة وفهم مقاصد الكتاب والسنة؛ علم أن جميع ما أمر به؛ لجلب مصلحة أو مصالح، أو لدرء مفسدة أو مفاسد، أو للأمرين، وأن جميع ما نهى عنه، إنما نهى عنه لدفع مفسدة أو مفاسد أو جلب مصلحة أو مصالح، أو للأمرين والشريعة طافحة بذلك”(7).

فالرأي الأغلب عند علماء الأمة هو التأكيد على الاتجاه المقاصدي للشريعة، لتحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة، ويظهر أثر ذلك في تنـزيل الأحكام على الواقع حيث تتغير بتغير الزمان والمكان، وقد اختلف العلماء في تصور المقاصد الشرعية بين هل هي: “غرض الشارع، أم ما أراده الشارع، أم هي ما تشوف اليه الشارع أم هي عين المصالح المرسلة”(8). ومن خلال استقراء ما ورد في مفهومها عند صاحب الموافقات، يمكن القول بأن مقاصد الشريعة تعني: قصد الشارع من وضع الشريعة ابتداءً، ومن وضعها للإفهام، ووضعها للتكليف بها، ووضعها لدخول المكلف تحت حكمها(9)، فهي: “إقامة مصالح المكلفين الدنيوية والأخروية على نظام يكونون به عباداً لله اختياراً  كما هم اضطراراً”(10)، فتكاليف الشريعة موضوعة لتحقيق مقاصد الشارع في قيام مصالح الناس في الدين والدنيا معاً، وقد روعي في كل حكم منها “إما حفظ شيء من الضروريات الخمسة… وإما حفظ شيء من الحاجيات… وإما حفظ شيء من التحسينيات”(11)، واستقراء تفاصيل الشريعة يؤكد أن أحكامها بُنيت على عِلَلٍ ومَرامٍ تَرجع كلها إلى الحفاظ على مصلحة الخلق ودَفْعِ المفسدة عنهم، ونقطة الانطلاق في هذا هي التسليم الجازم بكون الشريعة إنما وضعت لجلب المصالح للعباد ودرء المفاسد عنهم في الدنيا والآخرة(12)، ليتحقق في الأخير مقصد الشارع الأسمى من خلق الإنسان واستخلافه وتكليفه وهو إخلاص العبودية لله، وبلغة الشاطبي:”إخراج المكلَّف من داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد لله اضطراراً”(13).

أولا: فلسفة نظرية المقاصد الشرعية:

المقصد العام من التشريع -كما يراه الشيخ ابن عاشور- هو “حفظ نظام الأمة، واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان، ويشمل صلاحه وصلاح عقله وصلاح عمله وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيش فيه”(14)، فحقيقة المقاصد بضوابطها(15) أنها هي نفسها مصالح الإنسان، وأن المصالح والمقاصد وجهان لحقيقة واحدة هي سعادة الإنسان في الدارين ابتداء وانتهاء، وأن مقاصد الشريعة لا تقوم في الوجود والواقع إلا برعاية وتحقيق مصالح الإنسان المختلفة، كما أنه لا رعاية لمصالح الإنسان دون استحضار لمقاصد الشرع”(16)، ذلك أن الشريعة – كما يقول الإمام علال الفاسي- أحكام تنطوي على مقاصد؛ ومقاصد تنطوي على أحكام”(17)، وهذا كما يقول د/الريسوني أحسن ما قيل في تصوير وتقرير علاقة المقاصد بالاجتهاد والاستنباط، ذلك أن المقاصد تؤخذ من الأحكام، وأن الأحكام تؤخذ من المقاصد، بأن ننظر في الأحكام فنستنبط منها المقاصد والغايات، وننظر في المقاصد فنستنبط منها الأحكام والقواعد والوسائل والأوصاف المناسبة لها(18)، فمقاصد الشريعة تنطوي على كل ما يمكن أن يقع من حوادث وأحكام، مما يجعل المقاصد جزءا من المصادر الأساسية للتّشريع الإسلامي.

فالغاية الكبرى إذن من تشريع المقاصد هي أن يتحقق التوافق بين قصد المكلف وبين قصد الشارع، فمن قصد نقيض ما قصده الشرع كان بذلك مخالفا لمقتضى ما يستلزمه مبدأ الاستخلاف من طاعة وحكم بالعدل، وبذلك ينبغي على جميع الأحكام والتصرفات أن تتكيف في ضوء مقتضيات الغاية الكلية على وجه من التجانس والتكامل والتوافق، ويترتب على ذلك أن يصبح قصد الشارع من المكلَّف فى العمل كما أكده الشاطبي موافقا لقصده فى التشريع(19)، فالصورة المثالية لأي تشريع متكامل عادل أن تتجه إرادتا المشرّع والمكلف إلى قصد واحد.

وأقوال العلماء في مقاصد الشريعة كثيرة ومتقاربة، فهذا الإمام الغزالي يؤكد: “إن مصلحة الدين والدنيا مراد الشرع وهو معلوم بالضرورة، وليس بمظنون وأن دفع الضرر مقصود شرعا”(20)، أما شيخ الاسلام ابن تيمية فيقول: “إن الله لم يأمرنا إلا بما فيه صلاحنا، ولم ينهنا الا عما فيه فسادنا؛… فالله سبحانه إنما حرم علينا الخبائث لما فيها من الضرر والفساد، وأمرنا بالأعمال الصالحة لما فيها من المنفعة والصلاح لنا”(21)، ونفس المعنى نجده في كتابات ابن قيم الجوزية الذي يؤكد أن “الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها”(22)، ويختصر الامام العز بن عبد السلام هذه المقاصد في مقصد عام وشامل بقوله: “ومعظم مقاصد القرآن الأمر باكتساب المصالح وأسبابها والزجر عن اكتساب المفاسد وأسبابها”(23).

هذا وقد قسَّم العلماء المقاصد الضرورية إلى خمسة أقسام وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وأضاف بعض العلماء العرض كضرورة سادسة غير أن الغالبية ترى أن العِرض داخل في النسل(24)، ولنرى ماهي هذه المقاصد وكيف يؤدي الحفاظ عليها إلى استقرار وازدهار المجتمعات مقارنة بالرؤية الضيقة للمجتمعات المعاصرة، ومن ثم يجب استحضار البعد المقاصدي والالتفات إليه في عملية التشريع، وفي بيان الأحكام وتطويرها والترجيح بينها على الأقل لأمرين(25):

1- أولهما: الاجتهاد في فهم الخطاب الشرعي وتَمَثُّلِ نواهيه وأوامره من خلال الربط بين كلياته وجزئياته ودلالة نصوصه على معانيها.

2- وثانيهما: الاجتهاد في تنـزيل الأحكام التي تم التوصل إليها في المرحلة الأولى من مراحل الفهم، وذلك بتحقيق المناط في كل حادثة أو واقعة(26).

ولا شك أن الاتجاه المقاصدي هو الأكثر قبولا لدى الفقه والقضاء في قدرته على استيعاب كل متطلبات الحياة المتغيرة ونوازلها المستجدة، فإذا بلغ الإنسان مبلغاً فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها، فقد حصل له وصف هو السبب في تنـزيله منـزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله(27).

ولذلك اشترط الإمام الشـاطبي -رحمه الله- لمن يبلغ درجة الاجتهاد شرطين أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها”(28).

ومن ثم لا يمكن أن تُفهَم النصوص على حقيقتها إلا إذا عُرف مقصد المشرع من وضعها؛ لأن دلالة الألفاظ والعبارات على المعاني قد تحتمل أكثر من وجه، والذي يرجح واحدًا من هذه الوجوه على غيره هو الوقوف على قصد الشارع، وقد تتعارض النصوص بعضها مع بعض، فلا يرفع هذا التعارضَ ولا يوفق بينها إلا معرفةُ ما قصده الشارع منها، ولأن كثيرًا من الوقائع التي تحدث ربما لا تتناولها عبارات النصوص، وتمس الحاجة إلى معرفة أحكامها بأي دليل من الأدلة الشرعية، والهادي في هذا الاستدلال هو معرفة مقصد الشارع.

ومن ثم كان من أهم فوائد فقه فلسفة التشريع الوضعي في ضوء مقاصد الشريعة، التعرف على كمال التشريع وحكمته حتى يكون المكلف والمخاطب بالقانون أرسخ يقينا، إذ العلم بالمقاصد يزيد النفس طُمَأنينة بعدالة النص وحكمته، والنفسُ مَجْبولة على التسليم للحُكم الذي عرفتْ عِلَّته، فالمهم في أي سياسة تشريعية وضعية أن يركز القانون على القبول الجمعي لمضمونه، وانه يستهدف في الأساس تحقيق الأمن والسكينة والاستقرار وحماية الفرد في دينه وبدنه وعقله ونسبه وعرضه وضميره وإحساسه، بشكل يتأقلم مع احتياجاته ويلبي مصالحه، فعندما يصبح القانون في وجدان الناس معبرا عن آمالهم وآلامهم والقيم التي يؤمنون بها يُزال حاجز الرهبة والخوف منه، فالقانون في حقيقته معاني إنسانية تستهدف الصالح العام(29).

كما يفيد فقه فلسفة التشريع الوضعي في ضوء مقاصد الشريعة في معرفة مراتب المصالح والمفاسد، ودرجات الأعمال في الواقع، وهذا مُهِمّ جدا للمشرع وللفقيه وللقاضي، عند الموازنة بين مختلف الخيارات المتاحة أمامه، وما ينبغي أن يقدّم منها وما ينبغي أن يؤخّر، وهو المستفاد من أقوال فقهاء الشريعة، يقول ابن تيمية: “والمؤمن ينبغي له أن يَعْرف الشرور الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة، كما يَعْرف الخيرات الواقعة، ومراتبها في الكتاب والسنة،… ليقدِّم ما هو أكثر خيرًا وأقل شرًّا على ما هو دونه، ويَدْفع أعظم الشرين باحتمال أدناهما، ويَجْتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما، فإنّ من لم يَعْرف الواقع في الخلق، والواجب في الدين لم يَعْرف أحكام الله في عباده، وإذا لم يَعْرف ذلك كان قوله وعمله بجهل، ومن عَبَد الله بغير علم كان ما يُفْسِد أكثر مما يُصْلِح”(30)، فضلا عن أن التبصر بفلسفة التشريع تكسب العالِم بها مهارة في التمييز بين الأصول والفروع، وبين الكليات والجزئيات، وبين القواعد والتفريعات فضلا عن التبصر بمواقع التطبيق والتنـزيل ومآلاته.

ومع تبني الإمام الشاطبي لمبدأ المقاصد والمصالح إلا أنه ضبطها بالشرع، ولم يفعل كما فعل أصحاب المصلحة النفعية في فلسفة القانون في اعتبار المنافع والمبالغة في تعظيم مكانتها، فالخطاب الشرعي خطاب مستوعب للمصالح بعد الموازنة والمفاضلة، وليس خطابا ميالا مع الغرائز الإنسانية الطائشة، وليس معنى ذلك أن القوانين الوضعية ليست موازنة بين المصالح، ولكن الاختلاف في نوع الميزان المستعمل، وحال الوازن. إن الخطاب الشرعي لا يحكم لمجرد وجود المصالح، لكنه يُنيط الحكم دائما على المصلحة الغالبة الراجحة، ولا يعلق دائما على النظر العقلي المحدود النسبي، لأن له ثوابت لا يجرى فيها خلاف ولا يسمح عنها شرود، وهكذا فإن الشريعة رُتّبت على ما هو أصلح للبشر وأنفع للخلق، ففيها الثبات الذي لا يضطرب باختلاف التجارب، مع المرونة التي لا تضيع مع تغير الأوضاع، وفيها الشمول الذي لا يهمل جانبا من جوانب الحياة، والاعتدال الذي لا يجنح بالإنسان إلى التطرف المهلك.

ثانيا: فلسفة مقاصد التشريع الوضعي:

الفلسفة علم لا موضوع محدد لها، تتغذى من كل الحقول المعرفية وتتجدد وتنمو من خلال تغيير مجالات اهتمامها وميادين انطباقها، فهي قابلة للانتقال إلى كل مناحي الشأن الطبيعي والإنساني دون تمييز، وهي كما يُعرِّفها جيل دلوز: “فن اختراع المفاهيم”، وإخضاعها للمنهج الإشكالي التساؤلي، وكما يقول “كارل ياسبرز”: “إن الذين يرفضون الفلسفة يسقطون ضحية لأسوأ الفلسفات”، ومن هذا المنظور تكون الحاجة ماسة الى علم فلسفة القانون من أجل اعادة بناء المعرفة القانونية(31).

ومن هنا يرجع غالبية الفقهاء القانونيين فلسفة القانون الوضعي إلى القانون الطبيعي وما يتضمنه من حقوق طبيعية سابقة الوجود على القانون مصدرها الطبيعة ويكتشفها العقل، وهو ذلك القانون الّذي لم يشرعه البشر، وهو موجود في طبيعة الأشياء وفي فطرة الإنسان، وإنما ينبغي على الإنسان أن يسعى لاكتشافه ليطبقه على نفسه، ويجب أن تنسج على منواله قوانين المجتمع، لأنه قائم على مبادئ لم تؤخذ من تقاليد متواضع عليها ولا من قواعد محددة في كتاب، وهو في حقيقته مرادف للقانون الأخلاقي القريب في مضمونه من القانون الإلهي من خلال قواعد فطرة الإنسان، وهو ما جعل بعض الفقهاء يصفه ويعتبره أعظم انجاز إنساني لاقترابه من الوحي الالهي، ويبدو أن ثمة أمر آخر إضافة إلى الفطرة أسهم في القول بهذا القانون وهو أن هذا الأمر من بقايا النبوة التي اندرست، ومن ذلك ما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن أساطير الفلاسفة اليونان الأوائل مثل فيثاغورس وسقراط وأفلاطون كانوا يهاجرون إلى أرض الأنبياء بالشام ويتلقون عن لقمان الحكيم ومن أصحاب داود وسليمان عليهما السلام، وقد خالف سقراط قومه باليونان في عبادتهم ووثنيتهم ولذلك أعدموه بشرب السم، وتقوم مدرسة الحق الطبيعي كنظرية قانونية قائمة على تصور أخلاقي للعالم، من مبادئها أن الحق الطبيعي سابق على المجتمع، وعلى أسبقية الواجبات على الحقوق، فليس له من الحقوق إلا بقدر ما له من الواجبات، وهي في طبعتها الحديثة مع فلسفة الحداثة، تقوم على أن الحق الطبيعي هو حق قبل القانون، لأن الحالة الطبيعية سابقة على الحالة القانونية، ومن ثم يكون الأولوية للحقوق على الواجبات(32).

ورغم هذا إلا أنه على مستوى التنـزيل وبسبب الغموض الذي يكتنف مكنونه كان مطية لأسوأ ألوان الفلسفات القانونية، انتهت الى ظهور المادية التاريخية التي اهتمت بدراسة الظواهر في مجاليها الزماني والمكاني، فظهر المذهب الوضعي من لحظة إنكار القانون الطبيعي والذي يعتبر اليوم المذهب الأساسي للحقوقيين في العالم، والذي بالرغم من أهميته في التنظيم والضبط الاجتماعي فإن إدراك مقاصده وقيمه المثلى يبقى أمرا مضطربا وغير ذي أولوية لدى الفقه والقضاء، وبذلك فقد خلت كتب التشريع الوضعي من البحث عن غاية القانون، ويرجع السبب إلى أن البحث عن الأهداف يرجع إلى الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم السياسة أكثر مما يعود إلى علم القانون، فغاية القانون كما يقول باوند: “قد نوقشت في علم السياسة أكثر مما نوقشت في علم القانون”(33)، حيث نجد الحديث عنها لدى الفلاسفة يقول أفلاطون في كتابه “الجمهورية” بأنه من الواجب والضروري وجود تناغم وتوافق بين فكرة العدل والقاعدة القانونية، كما أكد القديس “أوغستين” أن القاعدة القانونية هي العدل، وأن هذا الأخير ليس سوى الاستقامة الأخلاقية المطلقة، فإذا كان أساس القانون هو العدل، فلا بد من وجود ارتباط وثيق بين أساس القانون وغايته، فأهداف القانون الوضعي الأساسية هي: العدل، والأمن أو النظام العام، والتقدم الاجتماعي، وقد قام حول هذه المقاصد جدال ومناظرات ونظريات بين علماء القانون، فمنهم من أعطى الأولوية للأمن العام وكان ذلك مذهب الشكليين، ومنهم من أكّد العدل وهو مذهب المثاليين، ومنهم مَنْ أصرَّ على ركن التقدّم الإجتماعي والرخاء والازدهار، وهو مذهب الاجتماعيين الواقعيين.

وفي عصر النهضة، حيث طغت أفكار الحرية والمساواة، فقد اعتبرت أن غاية القانون تأكيد ذات الفرد وإثبات حريته ورفع جميع القيود التي تحد من حرية الإنسان ونشاطه، حيث اعتبر القانون عدوا للحرية، ومن ثم فيجب حصر حدود القانون في أضيق نطاق، وفي مطلع القرن العشرين ومع تنامي الحركات الاجتماعية تم الاعتراف بغاية أخرى للقانون وهي تحقيق التقدم الاجتماعي(34).

وفي محاولة للمصالحة بين الإسلام مع مدونة الحقوق المعاصرة ومقاربته يطرح المفكر القانوني التونسي د/عياض بن عاشور-حفيد الإمام ابن عاشور- فكرة وجود تقارب عند الأصوليين بين فلسفة مقاصد الشريعة وبين فكرة الحق الطبيعي بغض النظر عن سمته المعيارية الشرعية، في محاولة وصفها النقاد بعلمنة مقاصد الشريعة(35)، مستشهدا على ذلك ببعض الكتابات المقاصدية الحديثة خصوصاكتابات الإمامين الطاهر بن عاشور وعلال الفاسي، حيث لاحظ -بحسب رأيه- أن هناك انفتاحا في كتابيهما على نظرية الحق الطبيعي بمعناه المصلحي العقلاني الإنساني الحديث؛ خصوصا عند اعتبارهما لمفهوم الفطرة مقصدا عاما للشريعة، وذلك بنفس مفهوم الفطرة عند روسو الذي يرى أن حالة الفطرة كانت ود وانسجام وتناسق(36).

ومن هنا يظهر التوافق بين الشريعة والقانون في وجود قيم معيارية علوية حاكمة على التشريع فيهما، حيث تذهب مدرسة “الحق الطبيعي “إلى الإقرار بحاجة النظم القانونية لتأسيس معياري قوي لا يمكن أن توفره التوافقات الوضعية، ومن ثم لابد من أن تستند لتصور مسبق للطبيعة العقلانية أو الاجتماعية للإنسان، فالقانون حسب هذه المدرسة لا تكون له المشروعية إلا إذا كان يخدم الخير المشترك، الذي لا يمكن أن يكون تواضعياً، بل لابد أن يصدر عن قوانين طبيعية، بحيث يغدو التشريع المستمد منها حسب عبارة كلسن “نسقاً من المعايير الضابطة لسلوك البشر”، غير ان الواقع يكشف أن المضمون الجوهري للقانون، تحدده الدولة فهي وحدها الضامنة للقانون والحارسة له، فلا يمكن للقواعد والمعايير القانونية أن تفرز بذاتها شروط فاعليتها، بل لابد لها من سلطة تحولها إلى قرار له سلطة الإنجاز والفعل، ومن ثم يجب إخضاع المعيارية القانونية للشروط الفعلية لتنفيذها أي سلطة القرار، وعليه فإن النقاش الدائر الآن حول قوننة الشريعة وتقصيد القانون يقتضي طرح إشكالات المرجعية الفقهية في الإطار الفلسفي للمسألة القانونية، وهو ما يستدعي منا الوقوف عند مقاصد القوانين وروح الشرائع كضمانة فعالة في تهيئة الرأي العام لتقبل القانون الطوعي، بإجراء مراجعات للقوانين من منظور مقاصدي لتحقيق العدالة؛ ونشر الأمن والسلم الاجتماعي كأولويات تشريعية(37).

الفرع الثاني: علاقة مقاصد التشريع الوضعي بأفعال المخاطبين به – مقاربة شرعية-:

سبق بيان أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما(38)، وسواء نظرنا إلى مقاصد الشريعة بأنها تتمثل في “جلب المصالح ودرء المفاسد” كما رأى الامام العز بن عبد السلام، أو بأنها تتمثل في الحفاظ على الضروريات والحاجيات والتحسينيات، كما رأى كثير من العلماء، فإن المعنى متقارب، ولذلك فان توظيف المقاصد يستهدف توضيح مآلات وثمرة حفظ هذه المقاصد على تهذيب سلوك الإنسان في عمارته للأرض، وتعويده على السمو والرقي والابتعاد عن كل صور الإفراط والتفريط، مما يعطي للمقاصد دورا تشريعيا مهما في ربط بين الفهم الدقيق لأحكام الشريعة، وبين التنفيذ لما صدر من أحكام في حوادث ونوازل معينة ومراعاة اختلاف الأحوال(39)، ومن ثم ينتظر من توظيف فكرة المقاصد، ببعدها الإسلامي في التشريع، الوضعي الوقوف على مقصد تربية الضمير على الاحترام الطوعي للقانون وسرعة الامتثال لأحكامه، وبناء الذات الجديدة من خلال التأثير الإيجابي الذي يغرسه في نفوس المخاطبين به، فقياس قدرة القانون على تحقيق أهدافه لا يقتصر عند تطبيق الجزاء الذي يستحقه المخالف له، بل يجب أن يهدف إلى تعزيز الروح الإيجابية الذاتية للفرد في شعوره بضرورة استقامته على الحق، وهو ما يعني ضرورة أن تتوفر أدوات واضحة للقانون يقاس بها مستوى قدرته على الوصول إلى تحقيق الغايات الكبرى في بناء مجتمع واع مدرك لمسؤولياته، وبناء الإنسان الواعي بحدود تصرفاته، ليصبح القانون بمثابة الحصن الحصين للفرد في مراجعة نفسه مراجعة متأملة ومحاسبة نفسه وتعويدها على الأفضل من الأفعال والأجود من الخصال(40).

أولا: علاقة القيم بروح التشريع الوضعي:

لاشك أن القانون الوضعي هو الذي يحكم اليوم معظم مناطق العالم بدساتيره وتشريعاته، ولاشك أيضا أن أوضاع العالم هي انعكاس طبيعي لتطبيقات هذا القانون، باعتبار أن تحقيق قيم العدالة ورفع الظلم يمر عبر بوابة رئيسية وهي القانون، وبحكم أن التشريع الوضعي قابلٌ للتعديل، والتغيير بما يزعم مُشَرِّعوه دورانه مع المصالح العامة، فعناية فقهاء القانون بمقاصد نصوصهم التشريعية أقل بكثير مما هو عند أهل الشريعة؛ وذلك لأن الداعي الذي قام عند فقهاء الشريعة لم يقم عند أهل القانون، فالتشريع الوضعي قابل للتغيير والتعديل باستمرار، ومن ثم فهو ليس بحاجة ماسَّة إلى نظرة مقاصدية، فمثل هذه النظرة ضرورية في التشريع الثابت، غير القابل للزيادة أو النقصان، وهو تشريع القرآن والسنة ثم إن الرجوع لروح القانون يَضْطَرُّ إليه مَن تكون السوابق القضائية في عُرْف بلده تشريعاً، لا يُنْقَض(41).

لقد بات واضحاً في أبجديات الفكر الإنساني كون القيم تمثل المرجعية المؤسسة لكل المعارف الإنسانية، فما من توجه معرفي إنساني إلا ويسعى لتحقيق قيم خاصة به، تكون بمثابة الإطار الدافع والمقوم لها، وعلم القانون نظام حقوقي يسعى لتحقيق أهدافه، وكل محاولة لإيجاد قانون عادل بعيداً عن روح القيم التي تشكله، تعتبر محاولة عبثية بعيدة عن ضوابط الحقيقة، فالجانب القانوني مثله مثل الاحكام الشرعية لابد أن يكون تعبيراً مجسداً لتلك الحقائق والقيم والحكم تنـزيها لها عن اللهو والعبث(42)، حيث تمثل مختلف القيم الإنسانية غاية أساسية عند فلاسفة القانون، فهي جوهره وروحه وهدفه على اختلاف بينهم في تحديد أولويات القيم التي يجب أن ينهض القانون لتحقيقها.

ومن هنا تتفق المدارس القانونية المختلفة على ضرورة وجود قيم يستهدفها المشرع، تكون بمثابة القواعد الكلية لاستنباط الأحكام المتغيرة، وتنحصر المفارقة الأساسية بين النظام القانوني والإسلامي في كون التشريع الإسلامي في واقعه نظام قيمي متكامل تكشف عنه منظومة القيم المبثوثة في النص الديني مضافاً إلى العقل المستبصر ببصائر الوحي والوجدان الفطري، خلافا للمذاهب القانونية الأخرى حيث الاختلاف في القيم وفي مراتبها والترجيح عند تعارضها، مما شكَّل أحد أهم المشاكل التي تواجه العالم البشري من خلال حالة التصادم التي تعيشها المجتمعات في كيانها نتيجة الأنانية المفرطة ونتيجة للتناقضات والتباينات في المصالح والأفكار الموجهة لقوانينها.

إن هذه القيم النبيلة هي مقاصد القانون التي يجب أن يحقق عليها إجماعا يدفع إلى الاقتناع به وتعزيز مستوى الرقابة الذاتية للفرد، كونه يؤصل للقيم العليا والمثل السامية في ذات الفرد والسلوك الاجتماعي؛ بعيدا عن فرض احترام المخاطبين له بدافع الخوف والرهبة من جزاءات مخالفته التي يولدها في قلوب المستهدفين، وبالتالي فإن الاهتمام بمقاصد القانون تساهم في احترامه الطوعي انطلاقا من قوة الوازع وليس خوفا من الرادع، وبدون بيان مقصدية القانون ووضوحها سيصبح تجاوز حدوده والتعدي عليه أمرا مشاعا بين أفراد المجتمع.

ثانيا: دور القيم في تحقيق فعالية التشريع الوضعي:

إن من شأن اعتبار هذا المقصد في التشريع الوضعي أن يحل أهم إشكال يواجه القانون عند النقاد وهو عدم وضوح الغاية الأساسية لوضعه، مما أدى إلى استغلال القانون استغلالا سيئا أفقده مصداقيته وحياده في كثير من الأحيان، ولذلك فإن وضوح الغاية من القانون ومعرفة أبعادها يسلب الفرصة من الذين يمتلكون النفوذ والقوة في ترجمة القانون حسب منافعهم الذاتية.

ومن أجل ذلك تأكد في حق الناظر في أحكام القانون أهمية استحضار تلك المقاصد وتذكر عللها ومناطاتها وحِكمها؛ حتى يتم النظر على أحسن وجه وصورة، وحتى تفهم الأحكام وتستنبط على وفق ما ارتبطت به من علل وأسرار وأغراض مقصودة، خصوصا المقاصد الكلية مما لاحظ فيها للمخاطب بالقانون والتي حكى الشاطبي وغيره الإجماع على رعايتها في كل تشريع فقال: “اتفقت الأمة بل سائر الملل؛ على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس؛ وهي الدين والنفس والنسل والمال والعقل، وعلمها عند الأمةكالضروري؛ ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين؛ ولا شهد لنا أصل معين؛ يمتاز برجوعها إليه؛ بل علمت ملاءمتها للتشريع بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد”(43)، ومن قبله قرر الغزالي: “وتحريم تفويت هذه الأصول الخمس والزجر عنها، يستحيل أن لا تشتمل عليه ملة من الملل، وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق وقد عُلِم بالضرورة كونها مقصودة للشرع لا بدليل واحد وأصل معين، بل بأدلة خارجة عن الحصر”(44).

فلا شك أنه ما من قانون أو تشريع مهما كان مصدره إِلاَّ وهو يهدف بالدرجة الأولى إلى تحقيق هذه الكليات، والتي يترتب على تحقيقها حصول العدالة بين أفراد المجتمع الذين ما جاء ذلك القانون إِلاَّ لتنظيم حياتهم وضبط سلوكهم بسلطة الدولة لضمان استقرار اجتماعهم، كما أن الشريعة والقانون يلتقيان أيضا في مهمة التوجيه، وقد كانت مهمةً تنفرد بها التشريعات السماوية ومنها التشريع الإسلامي، لَمَّا كانت مهمة القوانين الوضعية الحديثة قاصرة على تنظيم المجتمع وتحقيق العدالة دون التدخل في هداية الناس أو توجيههم إلى هدف سلوكي معين، إِلاَّ أن القانون الوضعي حين تحول أخيرا عن أصله الأول فصار يوضع لتوجيه الجماعة، إنما أخذ في ذلك بنظرية الشريعة الإسلامية التي تجعل الأصل في التشريع أن يصنع الجماعة ويوجهها ثم ينظمها، وهكذا انتهى القانون الوضعي إلى ما بدأت به الشريعة، ولا يهمنا هنا الجدل الدائر بين علماء القانون أنفسهم – على اختلاف خلفياتهم المذهبية- فيما إذا كان الحياد عن مهمة التنظيم إلى مهمة التوجيه في القوانين الوضعية مردّه تأثر القانونيين بنهج الشريعة الإسلامية وركونهم إليها، أم هي محض التجربة العملية والخبرة المتراكمة التي أقنعتهم بجدوى مهمة التوجيه دون استحضار النظرية الشرعية، فالحصيلة في النهاية واحدة وهي اتفاق القانون الوضعي مع التشريع الإسلامي في هذا الهدف الذي أصبح مشتركا في الواقع، فضلا عن هدف التنظيم وتحقيق العدالة.

ومن هنا لابد من وجود مقاصد أساسية ثابتة تحكم النظام الاجتماعي العام وتشكل الإطار الذي تتحرك في نطاقه كافة القوانين في مختلف مجالات الحياة، ومن هذا القبيل تأسيس بعض القانونيين المعاصرين غاية القانون على مقصد الفطرة الإنسانية(45) التي خلق عليها البشر، بحيث يكون مقصد القانون الحفاظ على الفطرة وإحياء ما اندرس منها أو اختلط بها على نحو البناء الذي بنى عليه الإسلام أحكامه ومقاصده، فهو أصْلٌ عام في التشريع الذي يجب ان يكون مسايرا لفطرة الناس، فلا يكون القانون مجرما لما هو من الفطرة ولا يكون معارضا ومضاد لها، ومن ذلك يوجب أن تكون القوانين مكرسة للحرية والمساواة وللحقوق الأساسية، ولقرينة البراءة الأصلية وبراءة الذمة، وحسن النية، وحرية التعاقد والاشتراط. ولذلك فإن الشريعة لمّا جاءت لم تهدم كلّ ما قبلها، بل جاءت “بالتغيير والتقرير” فأقرت ما هو من الفطرة، وبدّلت ما يناوئها ويضادها(46)، ومن ثم يجب ان يوضع التشريع على الوجه الأعدل والأوسط.

كما يجب أن يكون أساس القانون قيم السماحة والرحمة والتعاون الإنساني، وقد جاءت السّماحة في تفاصيل الشرائع كما في المُعاملات من أحكام البيوع، والتيسير في الزواج، وأنواع الرخص والحريات العامة، وما لا يحصى من الجزئيات التي وردت مبنية على هذا المقصد، فمن شأن إعمال هذه المقاصد والمصالح في وضع وجلب التشريعات كبح جماح الاستيراد المطلق للقوانين الغربية دون مراعاة لبيئة وضعها وحال من وضعت لهم ومآل جلبها، فلا يصح في فن التقنين هدم خصوصية القوانين الوطنية بل يجب احترامها، حيث لوحظ أن أسوأ القوانين صياغة وحلولا هي تلك القوانين التي شرعتها سلطة تجاهلت بيئة تطبيق القانون وحال المطبق عليهم، ومن ثم يوصي رجال القانون بالتزام الحيطة عند استعارة القوانين الأجنبية لئلا يزج في التشريع قواعد يعوزها الانسجام والملائمة، وإذا أخذنا مثالا على ذلك فكرة تراجع مبدأ سيادة البرلمان “السلطة التشريعية” في الدساتير العربية، تأثرا بفكرة العقلنة البرلمانية ذات الأصل الفرنسي في ظل دستور 1958م، والتي انتقلت منه إلى العديد من الأنظمة السياسية، بحيث لم يبق البرلمان هو المختص وحده في وضع النصوص التشريعية، بل أصبحت الحكومة تتقاسم معه هذه المهمة(47)،  فكان من نتائجها الحد من سيادة البرلمان لصالح الجهاز التنفيذي، وبالرجوع الى البيئة والظروف التي ظهرت فيها فكرة عقلنة البرلمانات نجد أنها مغايرة تماما لواقع البرلمانات العربية، لقد حتمت تجربة الجمهورية الفرنسية الرابعة 1946- 1958م على بناة الجمهورية الخامسة أن يعقلنوا عمل البرلمان بتحديد اختصاصاته على سبيل الحصر بغية استبعاد مبدأ المشرع الأوحد؛ وإذا كان التاريخ السياسي الفرنسي يتضمن ما يكفي من الوقائع لتبرير لجوء مؤسسي الجمهورية الخامسة إلى اعتماد مبدأ العقلنة البرلمانية، فإن استيراد العقلنة البرلمانية في الدساتير العربية فيما يخص حصر المجال التشريعي لم يكن له أي سند تاريخي أو أزمة سياسية أو مشاكل برلمانية تدفع إلى إخضاع البرلمان للعقلنة منذ التأسيس، بل إن الخبرة الإسلامية توجب توسيع النظام البرلماني تطبيقا لقواعد الشورى والاستشارة، ومن ثم يظهر أن المقصد من اعتماد هذه الآلية ليس سوى إضعاف دور البرلمان التشريعي والرقابي والتمثيلي رغبة في الحكم المطلق، مما يؤدي إلى اختلال في التوازنات الدستورية الأساسية لصالح الحكومة إزاء البرلمان.

المطلب الثاني: نظرية المصالح بين فلسفة التشريع الوضعي ومقاصد الشريعة

إن قياس الأمور بمعيار الفائدة والمصلحة ركن من أركان الحكمة الإنسانية الأساسية، ومن ذلك أن الشرع الإسلامي مبني على طلب المصلحة ودفع المضرة، فمن هذه الزاوية تلتقي الشريعة بالفلسفة النفعية العامة، ولكن تفاصيل هذا المبدأ توقفنا على اختلاف تحديد ما هي هذه المصالح المقصودة؟ إن آفاق المصلحة التي قصدها الشرع أوسع من أي مبلغ بلغتها الفلسفات البشرية، والمرامي النفعية التي دل عليها الشرع أرقى من تلك التي تصورها وفكّر فيها جميع العقول الإنسانية(48)، ورغم رقي الأهداف الشرعية وعلو مراقيها لم تخرج المثاليات الشرعية عن الواقعية التي مكَّن الله من بلوغها قدرة بني البشر، فجميع الأمم تضع القوانين والدساتير على أساس تحقيق العدل والمساواة بين الناس، ورغم كل ذلك نجد الجور والظلم والتحيز(49).

والحديث عن دور المقاصد والمصالح في التشريع هو البحث عن الدور الذي يمارسه المشرع المعاصر عند إصداره للقوانين، وما يجب عليه في هذا الشأن من اعتبار للمصالح في صورتها العامة الجماعية دون الوقوف عند الاهتمام بها في صورتها الخاصة الفردية(50) والحرفية، بل يجب النظر اليه في نظرته الكلية والمقصدية على نحو ما قرره الشيخ محمد الطاهر بن عاشور -رحمه الله- في مجال توظيف مقاصد الشريعة في مجالات الشأن العام وقضايا الأمة بأنها: “المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوعٍ خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغايتها العامة والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها، ويدخل في هذا معانٍ من الحِكَمِ ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها”(51).

وهذه المقاصد العامة بشروطها وضوابطها هي التي عليها المدار في العمل التشريعي المعاصر والمعوّل عليها في إعمال مدى اتفاق التشريع مع مبادئ الشريعة الإسلامية المعتبرة، فالتشريع المعاصر عندما يستند إلى كليات الشريعة ومقاصدها – فيما ليس فيه نص جزئي خاص- لن يكون أداة هدم للحياة الاجتماعية، أو السياسية، أو الاقتصادية، أو لنظم العلاقات الدولية القائمة، ولكنه سيكون أداة تصويب وتصحيح لما يحتاج إلى ذلك، وسوف يتغيا تحقيق المصالح ودرء المفاسد في كل قانون جديد تسنه المجالس النيابية/ التشريعية الملتزمة دستوريا بأحكام الشريعة الإسلامية أو مبادئها العامة؛ لأن في ذلك صلاح أحوال الناس وشئونهم، وعدم “إفساد موجودات هذا العالم”(52).

فمقاصد الشريعة هي المعول عليه في إعادة تأهيل العقل المسلم لرفع التحدي الحضاري مجددا لقيادة العالم إلى مدارج التحضر والعمران الصحيح؛ بما تملك من قيم إنسانية عالمية ترشحها لإعادة النهوض للأمة الإسلامية من جديد والإفاقة من الغيبوبة السياسية التي سببتها لها الكبوة الحضارية لتنشر رسالة الإسلام الحضارية العالمية(53).

الفرع الاول: رعاية المصلحة في التشريعين الوضعي والاسلامي

مما سبق يظهر جليا محورية مصالح العبادكمقصد عام جاء من أجله الدين(54)، والدور المقوم لها في عملية الإصلاح التشريعي، يقول الجويني: “ومن لم يتفطن لوقوع المقاصد في الأوامر والنواهي، فليس على بصيرة في وضع الشريعة”(55)، ذلك أن “معظم مقاصد القرآن الأمر باكتساب المصالح وأسبابها، والزجر عن اكتساب المفاسد وأسبابها”(56)، ثم يؤكد هذا المعنى بقوله: “والشريعة كلها مصالح، إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح”(57)، ويقول الشاطبي: “إنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد..”(58)، كما يقول: “إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا”(59)، ومن ثم تقرر لدى الفقه المقاصدي أن مصالح الإنسان هي روح المقاصد الشرعية(60)، بحيث تكون المقاصد والمصالح هي الغاية من الشريعة، “فالعبرة في القول بالمشروعية من عدمها في الوقائع والسلوكيات الفردية والجماعية هو بما يتضمنه الفعلُ من الصلاح والفساد، ولا عِبرة للفظه ومظهره، فكما أن معظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروفة بالعقل، فكذلك معظم الشرائع والتكاليف؛ لا يخفى على عاقل وجه المصلحة فيها؛ ومن هنا قرر الإمام العز بن عبد السلام في قواعده: “إن تحصيل المصالح المحضة، ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حَسَن، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حَسَن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حَسَن، وأن تقديم المصالح الراجحة على المفاسد المرجوحة محمود حَسَن، وأن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حَسَن، تذكيراً لهم بأن ربهم لا يريد إلا صلاحَهم دون نكايتهم، يقول الإمام القرافي: “إن كل تصرف لا يترتب عليه مقصوده لا يشرع”(61).

وحتى مع تقارب مقاصد القانون مع مقاصد الشريعة فإن هناك إشكالية لا يمكن حلها في الفكر المقاصدي الوضعي تتمثل في أن القانون، ورغم ما يقوم به -حسب الآراء السابقة- من دور أساسي في حفظ لحمة المجتمع والحفاظ على استقراره وتماسكه عن طريق توفير العدالة والأمن والحرية، عبر الالتزام بالنظام والقواعد التي تأمر بها السلطة العليا، إلا أنها تبقى مقاصد على المستوى النظري، ولن تتحقق في ظل نسبية العقل الإنساني في إدراك الحقائق، فالواقع العملي أثبت عدم قدرة الكثير من الدساتير والقوانين الوضعية عن تحقيق المثل العليا التي تتغياها النصوص، بل أنها في بعض الأحيان أدت إلى تصاعد الظلم والفوضى والاستغلال والعبودية خاصة عندما يتعلق الأمر بسلطة مستبدة، وهذا الأمر يرتبط بالجوهر الذاتي للقانون الوضعي ومفهومه المعنوي ولا يتوقف على الكيفية السليمة التي تتم في تنفيذه، باعتبار أن واضع القانون هو نفس الإنسان المتحيز إلى اعتباراته الخاصة ومصالحه الشخصية وخضوعه لظروف الزمان والمكان المحدودة مهما كان هذا الإنسان نـزيها أو محايدا، ولذا فإن مفهوم العدل هنا لا يكون إلا نسبيا وضيقا يراه واضع القانون من خلال زاويته البشرية الضيقة، والعدل بمفهومه الشمولي والاستيعابي غير المحدد وغير المتحيز والقادر على توفير تلك الأهداف العليا لا يتحقق إلا من واضع يمتلك تلك الخصوصيات، ومن هنا يتميز القانون الإلهي بأنه أقدر على تحقيق العدل والأمن والاستقرار والحرية باعتباره يمتلك الموضوعية المحايدة في التشريع والتقنين.

الفرع الثاني: ضوابط المصلحة في الفكرين الوضعي والإسلامي

سبق بيان أهمية إدراك فلسفة التشريع في ضوء مقاصد الشريعة للمشرع، وللفقيه، وللقاضي، كي يميّزوا بين الأصول والفروع، وبين الكليات والجزئيات، وبين القواعد والتفريعات، غير أنه من الواجب التنبيه إلى ملحظ دقيق وهو اختلاف ضوابط المصالح المستجلبة والمفاسد المستدفعة، فهي في الفكر المقاصدي الإسلامي ما كانت كذلك في حكم الشرع، لا ما كان ملائمًا أو منافرًا للطبع، ولا يكون تقريرها وفق أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية، ودرء مفاسدها العادية(62)، وهو مايتطلب في الناظر إلى تقريرها والترجيح بينها توفر ملكة فقهية وبصيرة علمية، ومعرفة بالواقع واسعة، ليتمكن المشرع، أو المفتي، أو القاضي من تحقيق مقصود الشريعة التي جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرّين وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما”(63).

والناظر إلى جهود العلماء في تفسير النصوص الشرعية وبيان مدلولاتها يظهر له وجود مدارس ومناهج في فهم تلك النصوص، وَمَرَدُّ ذلك إلى طبيعة ونوعية الأصول التي يستند إليها أصحاب كل اتجاه، ومن ثم يمكن التمييز بصفة عامة بين اتجاهين رئيسيين في فهم النصوص الشرعية ويتعلق الأمر بالاتجاه الظاهري الحرفي والاتجاه المقاصدي الغائي، يقول الدكتور أحمد الريسوني: إن تفسير النصوص الشرعية يتجاذبه عادة اتجاهان: اتجاه يقف عند ألفاظ النصوص وحرفيتها مكتفيا بما يعطيه ظاهرها، واتجاه يتحرى مقاصد الخطاب ومراميه(64).

ويمثل الاتجاه الأول أصحابُ المدرسة الظاهرية التي من أهم خصائصها الأخذ بالظاهر وعدم الالتفات إلى ما وراء تلك النصوص والإجماعات من أسرار ومقاصد وتعليل ونظر بوجه عام(65)، فالعبرة عند أهل الظاهر بألفاظ النصوص الشرعية ومنطوقها وليس بتعليل هذه النصوص وأحكامها أو النظر في حِكَمها ومقاصدها، أما الاتجاه الثاني فتمثله المدرسة المقاصدية، وهذا الاتجاه يستند إلى التسليم العام بكون الشريعة لها مقاصد وحكم في عموم أحكامها ونصوصها، فمنطلقه أن العلم بمقاصد الشريعة ليس مقصودا لذاته، وإنما يُرادُ به إعماله واستثماره في فهم النصوص الشرعية وتوجيهها في اختيار المعنى المناسب لها، وبذلك تكون النصوص الشرعية قرآنا وسنَّة أهم مجال في إعمال النظر المقاصدي(66)، يقول ابن عاشور أن “أدلة الشريعة اللفظية لا تستغني عن معرفة المقاصد الشرعية”(67).

ومن ثم فلا حجة لمن يتكئ على نظرية المقاصد لاستبعاد النصوص قطعية الدلالة بدعوى أن الحاكمية لروح الشريعة ومقاصدها لا لحكمها ومنصوصها، فالشريعة عندهم مقاصد قبل أن تكون نصوصا، بحيث تكون النصوص عندهم ليست سوى أمارات وعلامات على المقاصد في حالات جزئية، وبالتالي يجب أن تتخذ هذه الأحكام صبغة المعقولية حتى تتحقق فيها خاصية المرونة، وفي هذا جناية على النصوص وعلى نظرية المقاصد ذاتها.

والدقة في هذا المبحث تكمن في أنّ المصالح والمفاسد متشابكة متداخلة قلّما تخلص إحداهما دون أن تعلق بها شائبة من الأخرى، كما يقول الغزالي: اعلم أنّ الأسباب الدنيوية مختلطة: قد امتزج خيرها بشرها، فقلما يصفو خيرها، ولكن تنقسم إلى ما نفعه أكثر من ضره، وإلى ما ضره أكثر من نفعه، وإلى ما يكافىء ضرره نفعه(68)، ومن ثم فعلى من يتصدى للتشريع والفتوى والقضاء أن يبذل الطاقة في التوصّل إلى موازنة دقيقة في ضوء المقاصد الشرعية حتى يتبين له ما ينبغي أن يقدم وما ينبغي أن يؤخّر، قال ابن تيمية: “اعلم أنّ تعليق الأحكام بالأسباب المقتضية حصول المصالح من الأحكام أمر مضبوط، فأمّا الحِكم والمصالح فإنّ تعليق الأحكام بها عسير؛ لكونها قد تكون خفيّة، وقد تكون غير مضبوطة”، فإنهم وبدعوى أن واقع العصر يقتضي أن تتوافق الفتاوى مع العصر وما هو ماثل فيه من مستجدات، فإنهم لا يتورعون أن يقدموا الكلي بدون اعتبار لجزئيات المسائل وأحكامها، وبدون أن يمنحوا أنفسهم وقتا للتأمل في كون ما يجنحون إليه هدم لأصول الشريعة وقواعدها، ودون أن يتمعنوا في كون ما يهدفون إليه تسعفهم فيه مقاصد الشارع الحقيقية، فلا يهتمون بالتحقق من كون القصد الذي زعموا سعيهم الحفاظ عليه هو مقصد شرعي حقيقي، يجب أن يطيلوا التأمل فيه ويجيدوا التثبت في إثباته، لأن تعيين مقصد شرعي -كلي أو جزئي – أمر تتفرع عنه أدلة وأحكام كثيرة في الاستنباط، ففي الخطأ فيه خطر عظيم… “(69)، فتقديم الكلي على الجزئي تقديما لا ضابط له، معادلة غير ممكنة التحقيق يقول الشاطبي رحمه الله: “إن الجزئيات لو لم تكن معتبرة مقصودة في إقامة الكلي لم يصح الأمر بالكلي من أصله، لأن الكلي من حيث هو كلي لا يصح القصد في التكليف إليه، لأنه راجع لأمر معقول لا يحصل في الخارج إلا في ضمن الجزئيات”(70).

فإذا ثبت بالاستقراء قاعدة كلية، ثم أتى النص على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة، فلا بد من الجمع في النظر بينهما؛ لأن الشارع لم ينص على ذلك الجزئي إلا مع الحفظ على تلك القواعد، إذ كلية هذا معلومة ضرورة بعد الإحاطة بمقاصد الشريعة؛ فلا يمكن والحالة هذه أن تخرم القواعد بإلغاء ما اعتبره الشارع، وإذا ثبت هذا؛ لم يمكن أن يعتبر الكلي ويلغى الجزئي”(71)، كما أن: “الإعراض عن الجزئي جملة يؤدي إلى الشك في الكلي من جهة أن الإعراض عنه إنما يكون عند مخالفته للكلي أو توهم المخالفة له، وإذا خالف الكلي الجزئي معنى إنما نأخذه من الجزئي؛ دل على أن ذلك الكلي لم يتحقق العلم به لإمكان أن يتضمن ذلك الجزئي جزءا من الكلي لم يأخذه المعتبر جزءا منه، وإذا أمكن هذا؛ لم يكن بد من الرجوع إلى الجزئي في معرفة الكلي”ومن ثم كان لزاما اعتبار خصوصيات الجزئيات مع اعتبار كلياتها(72) فلا يستقيم أحدهما إلا بالآخر، والإعراض عن أحدهما إعراض عن الآخر، وذلك لأن “الجزئي لم يوضع جزئيا إلا لكون الكلي فيه على التمام، وبه قوامه”(73)، إن هذا التعسف في تفسير المقاصد، ينبئ عن خلل في منهج الإدراك والفهم، فالحرص على المقاصد محمود، لكن الخروج به عن حد الاعتدال أمر مذموم، وفقه التنـزيل ليس فقط هو تحري المقصد، وإنما هو تحري ما يؤول إليه تنـزيل المقصد من استقامة في التطبيق، أو جور على الأدلة الجزئية أو الأحكام الشرعية(74).

ولا يخفى أهمية الارتكاز على إدراك المصلحة المعتبرة في النص القانوني في سلامة التفسير القانوني ومعرفة إرادة المشرع الحقيقية منه، ومن ثم الجمع بين النصوص بدلا من الترجيح بينها، وفي الفكر الوضعي فإن ضوابط المصلحة غير معتبرة، فكل ما فيه منفعة للفرد فهو مصلحة ما لم يكن ضارا بمصلحة المجموع، وهنا يظهر التباين بين ما يعد مفسدة وما يعد مصلحة في الشرائع السماوية والوضعية، فالناظر في حقيقة التشريع الوضعي يجده يحقق أهداف فئة معينة فقط في المجتمع ويضر بالكثير، كما أن التشريع الوضعي وبحكم أنه قابل للتعديل والتغيير في كل لحظة، وهذا التعديل يحقق مصالح الجماعة أو الفرد أو ذوي النفوذ والسلطان فلا ينظر فيها إلى مقاصد أو هدف معين، ومن ثم فلا نكاد نجد نظرية المقاصد موجودة في القانون الوضعي بالمعنى الحقيقي.

وفي ظل هذه السلبيات تكون الحاجة إلى ضوابط في تقنين المصالح المعتبرة في دنيا الناس في مختلف علوم التشريع، من خلال ضرورة إعمال الوعي بالمقاصد الشرعية بضوابطها، من ضرورات النهوض بالقانون في عالمنا الإسلامي في النظرية والتطبيق.

ومع سلامة ونبل هذا المقصد في النظام القانوني، فإن الإشكال الذي يطرحه هو ماهية معيار تقييم المصالح وما هي بالتالي الأولويات التي يجب أن يراعيها المشرع وهو بصدد تنظيم المصالح المتعارضة(75). لقد قيل بمعيار المصلحة العامة، فكلما كانت المصلحة الفردية أقرب إلى المصلحة العامة كانت هي التي لها الأولوية في التقديم على غيرها، غير أنه معيار ذو مفهوم مرن وغامض وغير منضبط، وكبديل له يقترح الفقيه روسكو باوند معياراً عملياً عاماً هو وجوب اشتمال الحل على أكبر قدر من المصالح بأقل تضحية ممكنة، واعتمادا على هذا المعيار فإن جميع المصالح يمكن النظر إليها على أنها في مستوى واحد أو أنها لا تخضع للمعايرة من حيث ترتيب الأهمية(76)، غير أن هذا المعيار بدوره غير ممكن التطبيق لأن وضع الحقوق والمصالح في مستوى واحد غير ممكن، لأنها تحمل صفة التعارض بطبيعتها، فالإنسان تحركه النوازع الفردية والحاجات الاجتماعية ولن يخضع تلقائيا للنظام، بل لابد من عملية ضبط اجتماعي تحتوي نـزعة الإنسان الفردية في النظام الاجتماعي العام، يقول الشاطبي: “إذا تعارض أمر كلي وأمر جزئي؛ فالكلي مقدم؛ لأنّ الجزئي يقتضي مصلحة جزئية، والكلي يقتضي مصلحة كلية، ولا ينخرم نظام في العالم بانخرام المصلحة الجزئية، بخلاف ما إذا قدم اعتبار المصلحة الجزئية؛ فإنّ المصلحة الكلية ينخرم نظام كليتها(77).

فمقاصد قانون حالة الطوارئ والحصار محددة في إعادة استتباب حفظ النظام، ومن ثم فهي مؤقتة وتدور مع الحالة الأمنية للبلاد، ولا يمكن التعسف في تمديدها، وحيث أن الأصل في النصوص التشريعية، هو ألا تُحمل على غير مقاصدها، وألا تُفسر عباراتها بما يخرجها عن معناها، ومن ثم فإن إعمال القضاء لسلطته في مجال التفسير التشريعي يقتضي ألا يعزل نفسه عن إرادة المشرع، بل عليه أن يستظهر هذه الإرادة، مستعينًا في ذلك بالتطور التاريخي للنصوص القانونية التي تفسرها تفسيرا تشريعيا، وكذلك بالأعمال التحضيرية الممهدة لها سواء كانت هذه الأعمال قد سبقتها أو عاصرتها، باعتبار أن ذلك كله مما يعينه على استخلاص مقاصد المشرع التي يفترض في النص محل التفسير أنه يعكسها معبرا بأمانة عنها.

وختامًا يمكن القول في نهاية هذا المبحث أنه بالرغم من اشتراك مقاصد الشريعة ومقاصد القانون في حفظ نظام حياة الجماعة؛ وفي تحقيق مصالح الناس ودفع المفاسد عنهم إلا أن هناك فروقا جوهرية بين مضمون المصلحة والنظام العام فيهما، فضلا عن الفروق بينهما في مناهج ووسائل تحقيق هذه الغاية، فالمصلحة المستهدفة في القانون هي مصلحة مادية نفعية بحتة، سرعان ما تتعرض للتعديل والتغيير من نظام قانوني لآخر ومن عصر لآخر حسب الفلسفة الاجتماعية والإيديولوجية للمشرع الوضعي، مما يجعلها مقاصد نسبية غير مستمرة لابتنائها على اعتبارات متغيرة كطبيعة النظام السياسي ومعطيات الواقع الاجتماعي، بخلاف ما هي عليه في الشريعة من ثبات موضوعي واطراد وقطعية(78) وفقا للمعيار الشرعي وليس بالمعيار الإنساني، حيث تكون المقاصد الشرعية مستمدة من أساس شرعي يمتاز بالجمع بين الثوابت والمتغيرات؛ وبين المثالية والواقعية وبين فقه النص وفقه الواقع بل وفقه المتوقع، ومن ثم فهي مقاصد موضوعية لجميع الناس مرتبة ترتيبا منطقيا متفق عليه في كل الملل: الضروريات والحاجيات والتحسينيات.

المبحث الثاني

استثمار مقاصد الشريعة في صياغة أهداف القانون الوضعي

سبق القول أن القانون علم معياري ضروري للحياة الاجتماعية والسياسية، له هدف نهائي يتمثل في إقامة النظام من خلال هيكلة المجتمع بمنظومة من القواعد المعيارية لضمان انسجامه واستقراره؛ ومن الحكم الرومانية قول فقهائهم: “القانون هو القسمة العادلة”، غير أنه بحكم مصدره الوضعي يعتبر ترجمة لمشروع سياسي متحيز لإيديولوجية الدولة، وكم أرخ التاريخ من مظالم باسم القانون؛ فهو يتضمن مجموعة من المبادئ المنسقة تنسيقا منطقيا، وتعبر عن غايات متحركة ومتجددة في العالم المعاصر(79).

وبين المثالية والواقعية عجز الفكر القانوني عن صيغة جامعة تلائم تطورات الحياة الآنية والمستقبلية دون أن يؤدي تطبيق القاعدة العامة إلى نتائج ظالمة وغير معقولة، ومن ثم ينبغي أن يكون للقاضي دور في الملائمة بين حكمة التشريع والواقع وتحقيق العدل القانوني الخاص، وكما قال الرومان قديما: “أن التشريع متى توقفت حكمته توقف حكمه”(80).

ومن هنا تظهر دقة مُهِمة فلسفة القانون في البحث عن جوهر القانون ومصدر الصفة الإلزامية فيه هل هو مصدر مثالي يرتكز على مبادئ أبدية غير زمنية، تكسبه الشرعية والعقلانية(81)، أم هو مصدر وضعي نابع من العلوم الاجتماعية والاقتصادية المحيطة بالمجتمع بحيث يكون القانون نتيجة تسوية بين المصالح المتعارضة في الواقع الاجتماعي وما يطرحه من مشاكل، بحيث يكون القانون نتاج اجتماعي مصلحي.

ذلك أن عدم استحضار مقاصد الشريعة وعدم وعي المشرِّعين بأهميتها، كان وراء هذا الانفصام النكد ومن أسباب ما يعبر عنه الانشطار في وعى الفرد المسلم، وكان لابد أن يظهر في وجه خطاب الدولة الشامل والمتطرف خطاب آخر يتميّز بالشمولية السلبية والتطهرية الدينية الوهمية، التي تصل إلى حد هجر المجتمع “الكافر”، وليس القانون شراً كله، وليس ما أُعتبر فقهاً إسلامياً -وهو في أحيان كثيرة فقهاً مذهبياً- خيراً كله، ولذلك فإننا في أشد الحاجة إلى المقاصد الشرعية لتمييز الخبيث من الطيب، وإعادة ترتيب العلاقة بين الشريعة والقانون في ضوء كليات الشريعة والتدرج في تطبيق الأحكام، بحسب إمكان تحقق الحكمة من تطبيقها، وبحسب ما يتطلبه الواقع من سماحة اعتبرها الشيخ محمد الطاهر بن عاشور أصلاً قطعيا تفيد به الشواهد الكثيرة والمبثوثة في نصوص الشريعة، ولكنها سماحة الاعتدال والتوسط، من دون غلو ولا تقصير(82).

فالشرائع كلها وضعت لجلب المصالح ودرء المفاسد في القديم والحديث، السماوية منها والوضعية، لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل، ومن هنا تظهر أهمية التعليل المقاصدي باعتباره أداة لضبط الحكم وربطه بالمعاني والمصالح باعتبارها غاية للحكم بها تعرف موارده ومصادره، ومآلات الأفعال باعتبارها القاعدة الرئيسة في فقه التنـزيل، والمقاصد بهذا المفهوم الواسع للمصلحة، تعطي مشروعية لتوظيف القانون في فقه التنـزيل، واستقبال حلوله باعتبارها خبرة بشرية في ميدان تتلاقي فيه العقول، “حيث توجد المصلحة فثم شرع الله” وربط الحلول الجزئية بأسبابها وموجباتها.

ومعرفة أسرار التشريع ومقاصده هو منهج رجل التشريع في النظر في “الكليات” ليدرك سر التشريع، وإلا تضاربت بين يديه الجزئيات، وهذه المنهجية المقاصدية تستوعب في داخلها الكثير من وظائف القانون.

لقد كان لذلك الانفصال المبكر في التاريخ الاسلامي بين الديني والسياسي القائم على توزيع الأدوار، كنوع من العلمانية المبكرة، حيث توسع التمايز بين الدين والسياسة، وتعمق أكثر ليصبح فصلاً شاملاً بين الدين والمجتمع، ولم تعد المرجعية الدينية معتمدة في توجيه المجتمع، وأصبحت السيادة للقانون الوضعي المنقطع الصلة عن هوية المجتمع وخصوصيته الحضارية.

المطلب الاول: مدى إدراك فلاسفة القانون لمقاصد التشريع الوضعي:

من العلوم القانونية الموازية لعلم مقاصد الشريعة الإسلامية علم فلسفة القانون الذي صار يحتل مكانة رائدة في الدراسات القانونية الغربية تحت مسمى: Legal philosophy(83)، نظرا لطبيعة موضوعاته التي تركز على الاهتمام بدراسة الغايات والحكم التي تكمن وراء النظم القانونية والكشف عن العلاقة بين القانون والمجتمع، وهي عموما تدور حول: حماية حقوق الإنسان، وتحقيق العدالة والصالح العام؛ والاستقرار القانوني والأمن القانوني وكل هدف له أسس يقوم عليها ووسائل تؤدي إلى تحقيقه.

ويحاول هذا العلم المساعد في النظم القانونية التوفيق بين الغايات السابقة بنسب متوازية وصولا إلى مراقي الكمال التشريعي، إلا أنه لم يصل بعد إلى توليد نظام قانوني جامع للمقاصد الغائية والمصالح الإنسانية الكبرى، فكل نظام قانوني له أهداف ومقاصد خاصة به، تتراوح عادة بين المقصد والمقصدين وسرعان ما تظهر عيوبه ليتحول القانون إلى مقصد جديد في ظل الظروف المتغيرة.

ويعتبر موضوع جوهر القانون من أهم مباحث هذا العلم لارتباطه بالغاية من نشأته من حيث إحداث التوازن بين النص القانوني والواقع الاجتماعي تحت تأثير الأفكار التي تنادي بالأساس الاجتماعي للقانون من خلال ضرورة ربطه بالواقع؛ في ظل انتشار ظاهرة عدم فاعلية القواعد القانونية للضعف في معياريتها وانفصامها عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للمخاطبين بها، مما أفرز ظهور اتجاهات حديثة في الدراسات القانونية تركز على الغائية القانونية؛ والمصالح الاجتماعية(84).

من هنا يظهر الربط بين علم فلسفة القانون وبين علم المقاصد الشرعية لاشتراكهما في البحث عن الغايات والحكم التي قصدها المشرع، بحيث يمكن بناء عليها فهم النص فهما صحيحا وتنـزيله على الواقع تنـزيلا سليما، فكل من الشريعة والقانون قائم على تحقيق مصالح الناس ودفع المضار والمفاسد عنهم، وتحقيق السعادة لهم، مما يبرز مكانة نظرية المصلحة المحورية في بناء الأحكام والقواعد في الفكرين الإسلامي والقانوني، على تغاير وتباين بينهما في معيار الاعتداد بالمصلحة المستجلبة والمفسدة المستدفعة، فهو معيار مضبوط بقواعد الشريعة ومبادئها تستبعد معه أهواء الناس لأنها مصالح قاصرة عند التدقيق و مزيد من التأمل، ومن ثم وجب أن لا تخالف مقاصد الناس مقاصد الشارع الحكيم الخبير العليم، (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك: 14)، لقد شهد القرن السابع عشر حلول الإنسان محل الله، القانون الإلهي يخلي مكانه للقانون الإنساني وتحل أوامر البشر محل أوامر الله، يقول الفقيه برلمان: “أن موضوع القانون ليس كما في العلوم الوضعية معرفة الحقيقة بل تحقيق نظام مجتمعي عادل قدر الإمكان”، ويؤسس مونتسكيو في مؤلفه “روح القوانين” شيئان يميزان القانون: النسبية (القانون يتبدل تبعاً للظروف والمناخ) والحتمية: يخضع القانون لما يشبه قانون السببية، فإن هو إلا نتاج أسباب موضوعية متعلقة بالوسط الاجتماعي، كذا مجتمع يعطي كذا قانون، فلا يكون القانون فعالاً إن لم يكسب انتماء الناس له، ثم إن على القانون أن يتبدَّل تبعاً للتحولات الاجتماعية.

فالمصالح المعتبرة هي التي قام الدليل على اعتبارها، وهي – بعد الاستقراء والتحقيق – تشمل مجموعة المصالح التي تتوقف عليها حياة الناس في الدنيا والآخرة، بحيث إذا لم تراع اختل نظام الحياة، فهي الأهداف التي شرعت الأحكام لتحقيقها وهي المصالح التي تعود على العباد في دنياهم وأخراهم..”فكل ما كان من جنسها فهو مصلحة وكل ما فوتها فهو مفسدة ودفعها مصلحة”.

الفرع الأول: جوهر القانون بين مقاصد الشريعة والفلسفة المصلحية النفعية:

قد لا يكون من المستغرب أن يكون هناك التقاء بين تعاليم الدين القويم ونتاج العقل السليم، إذا أمرت الشريعة بتحصيل المصلحة للبشر فإن الفلسفة أيضا تقول بذلك، بل إنها قد خطت بها أشواطا في دفع عجلة الحضارة الغربية بصورة غير مسبوقة في الدول الأنجلو ساكسونية، حيث اعتبروا أن النفع العملي هو معيار صحة أي جهد يُبذل، وسلامة أي قانون يوضع، ومن هنا يميز المختصون في القانون بين أحكام القانون الحرفية وبين روح القانون المقصدية، فالقانون باعتباره تعبير عن الإرادة العامة ممثلة في السلطة التشريعية غالبا يعبر عن مقاصد واضعه وخلفيات وضعه وأسبابه المبثوثة في المذكرات التفسيرية والإيضاحية المستفادة من جلسات النقاش حول مشروع القانون قبل المصادقة عليه؛ هذه المقاصد المضمرة أحيانا والمصرح بها في أحيان أخرى تمثل المغزى والمعنى الحقيقي الذي كانت تقصده الجهة المشرعة أثناء وضع القانون(85).

ولأن المخاطب بالقانون الذي تعلقت مصلحته بالقانون لا يستطيع في الغالب مقابلة المشرع للاستفهام عن مراده ومقصوده من تشريع القانون ليعلمه بمقصوده، وهو الداعي نفسه الذي جعل فقهاء الشريعة يضعون علما خاصا له أصوله وضوابطه لمعرفة مقاصد الأحكام وما ينبني عليها من أحكام في ضوء مقاصد الشريعة المستقرأة من نصوصها وأحوالها استقراء قطعيا؛ وهذا ما لم يوجد له نظير في العلم القانوني بشكل قاطع، ففي حالة ما لو تعارض روح القانون ومغزاه ومقصده الذي وضع القانون لأجله، مع مقتضى ظاهر النص فأيهما يقدم؟ وبلغة المقاصد تكون أمام حرفية النص ومقصد النص فإذا أخذ بروح القانون لم يكن لذلك ضابط وبطلت الموازين القضائية، وإذا أعمل حرفية النص القانوني رغم عدم تناسبه للحقيقة يكون سبباً للظلم وهو ما يخالف مقصود القانون من وضعه؛ ولا يزال البحث متواصلا عن مدى كفاية تطبيق القانون لتحقيق العدالة؟ وهل يتحقق العدل بالقانون؟ فالمذاهب الشكلية تركز على عبارة النص، وعلى النقيض من المذاهب المثالية التي تركز على قيمة العدالة باعتبارها الغاية المثالية للقانون وهي الاستقرار القانوني، ومن هنا يبرز الفرق بين العدل والعدالة، فالعدل في القضاء يقتضى أن يحكم القاضي بحرفية النص من خلال التحقيق الشكلي للمساواة عن طريق تطبيق القانون حرفياً على الجميع، وأما العدالة فهي الشعور الإنساني الفطري بإحقاق الحق أو ما يسمى بالعدل الروحي للقانون أي بروح القانون وليس بنصوص القانون مجردة من روحه، ولهذا كثيرا ما يلجأ القضاة إلى المذكرة التفسيرية للقانون، أو إلى نشرية جلسة مجلس الشعب أو النواب.

أولا: مقاصد القانون في ظل مدرسة الشرح على المتون:

وتسمى أيضا مدرسة تقديس النصوص وتقوم هذه المدرسة على التقيد بنصوص القانون وعدم الخروج عنها مطلقا، ويجب على القاضي عند الغموض أن يستهدف البحث عن إرادة المشرع الذي صدر عنه، مهما مر على ذلك من زمن، ويترتب على هذه النظرية، أن كل ما هو غير ممنوع فهو جائز مسموح به قانونا، ومن ثم فالقاضي ينبغي أن يخضع للمشرع ويتقيد بالنص، سواء كانت النتيجة عادلة أو غير عادلة، وهكذا استبعد أنصار هذه المدرسة عامل التقدير القضائي في تقدير الحكم القضائي وملائمته لظروف الواقعة، وفي وقت لاحق أعلن كلسن زعيم الوضعية القانونية والنظرية الخالصة في القانون أن لا شأن للقانون بعلم الحياة، وأن نظرية القانون يجب أن تتناول القانون كما هو كائن لا كما ينبغي أن يكون، واستبعد فكرة العدالة من مجال القانون، بداعي أن الحكم على القانون بالعدالة أو عدم العدالة يتطلب معايير لا تخضع للمعرفة العلمية، ودعا إلى نظرية محضة في القانون، فالقانون من صنع الدولة باعتبارها المؤسسة الاجتماعية الأساسية التي يلتزم بها الناس عبر أمر سلطوي، يحدد ما ينبغي أن يكون ويؤخذ عليه، ومن ثم هاجم نظرية القانون الطبيعي واصفاً إياها بأنها حصيلة استنتاج غير صحيح، فالقانون حسب هذه النظرية يجب أن لا يخضع لأي تقويم أخلاقي، والقاعدة القانونية حسب هذا الرأي تنفصل بمجرد سَنها عن الأخلاق والعدالة، لتستقل بوجودها كأداة تنظيمية للمجتمع ملزمة للأفراد دون حاجة للتحقق مما إذا كان القانون الذي يضم هذه القواعد الوضعية متفقاً مع حسن الأخلاق وروح العدالة أو غير متفق معهما، وزعموا أن علم القانون ليس إلا تحليل للأنظمة القانونية الوضعية في الدول المختلفة. وقد أدى إعمال مبادئ هذه المدرسة إلى نتائج مجحفة تأباها العدالة الحقة(86)، ولكن رغم صحة كون الدولة هي التي تضع القانون، ولكنها في نفس الوقت لا تضعه اعتباطاً، وإنما بناء على دراسة ومعرفة مجمل الظروف المحيطة بالمجتمع.

وهكذا أدت توجيهات مدرسة الشرح على المتون إلى تأخير التطور الفكري للقانون ردحا من الزمن، ومن ثم فقد رفض فقهاء الشريعة الإسلامية منطق مدرسة الشرح على المتون والمدارس الشكلية قبل مئات السنين من انطلاقتها، ويكاد أن يجمع فقهاء الشريعة الإسلامية على أن النصوص تسري بلفظها وفحواها، بمعنى أن التفسير إما أن يقوم على استخلاص معاني النصوص من ظاهر عبارة النص ودلالة ألفاظه، أو أن يقوم على استخلاص معاني النص من دلالات مضمون عبارة النص (دلالة النص على مضمونه) ولذلك قالوا إن العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، باستثناء أهل الظاهر الذين تمسكوا بحرفية النصوص ويقابلهم في الفقه القانوني الغربي مدرسة الشرح على المتون، وكلا المدرستين مندثرتان في الحال الحاضر.

ثانيا: مقاصد القانون في المدرسة التاريخية:

ترى أن ولادة القاعدة القانونية نابعة من العرف العام الذي يمثل المصدر الأساسي للقانون، ومن ثم فهي تعتبر القانون عملاً لا إراديا، ينبع من عمق المجتمع وبصورة تدريجية، وهو خلاف الحقيقة، ذلك أن القانون تشريع إرادي قائم على أساس العقل والإرادة، كما أنه يتأثر بالظروف والضغوط والمتغيرات المختلفة، وترى أنه ليس من الواجب دوما أن يفسر القانون وفقا لإرادة المشرع الأصلي الذي صدر عنه، بل بإمكان المفسر أو القاضي أن يقوم بتفسير القانون تفسيرا جريئا يراعي فيه تطور المجتمع الحالي وحاجاته المتجددة، ولو خالف في ذلك إرادة المشرع الأصلي، فالقانون حسب المدرسة التاريخية ليس من خلق المشرع بل هو حقيقة اجتماعية تاريخية مرتبط بالبيئة الاجتماعية ويتطور بتطورها، فهو يتمايز بتلقائية تكوينه وتطوره بحسب ظروف كل شعب وبحسب أعرافه وخصوصياته؛ ويترتب على هذا أن القانون يتطور آليا باعتبار أن العرف هو المصدر الرئيس له، وما على المشرع إلا أن يساير التطور ويرصد اتجاهات ضمير الشعب ويكشف عنه بوضع قواعد قانونية تعكس روح القانون والضمير الجماعي دون أن تكون له القدرة على خلق التشريع، ومن ثم لا يكون تفسير القانون عند غموضه أو عيب فيه باللجوء إلى إرادة المشرع وإنما بالرجوع إلى التطورات ومعطيات البيئة الاجتماعية(87).

وكان الأجدر بفقهاء هذه المدرسة الجمع بينها وبين مدرسة الشرح على المتون، بحيث يجب أن يكون القانون يطبق في الحالات التي سُنّ لأجلها وفقا لإرادة المشرع الذي صدر عنه، وهذا ما يتوافق مع ما ذهبت إليه المدرسة التقليدية، ومن جهة أخرى أن الحالات الجديدة التي لم يتعرض لها القانون السابق لا تطبق عليها نصوص هذا القانون عن طريق التوسع في تفسيرها، وإنما يجب البحث عن حلول ملائمة لها خارج النصوص، وفقا لما تقتضيه مصلحة المجتمع وحاجاته المتجددة، وفي هذا تتقارب مع المدرسة التاريخية.

وفي هذه الحال توجد عدة طرق لمعرفة حكمة القانون وغايته، ذلك أن المشرع حين يضع نصا من النصوص القانونية لا يفعل ذلك بصورة عفوية أو اعتباطية، وإنما يختار هذا النص سعيا وراء غاية يحرص عليها أو تحقيقا لحكمة يراها، فمعرفة غاية النص القانوني والحكمة التي يتضمنها تساعد على تفسير هذا النص حين غموضه وعلى استنتاج الحكم الصحيح منه، كما يمكن لمعرفة ذلك الاسترشاد بالأعمال التحضيرية التي سبقت صدور القانون عن السلطة التشريعية أو رافقته، كالمذكرة الإيضاحية التي ترفق بمشروع القانون لبيان الأسباب التي تدعو إلى إصداره والغاية المتوخاة منه، وكذا الاسترشاد بالدراسات التي قامت بها اللجان الفنية المختصة حين تولت إعداد مشروع القانون، والدراسات التي تجريها اللجان التشريعية حوله بعد إحالته إليها، وكذا المناقشات التي صاحبت المصادقة عليه حين تم عرضه للتصويت عليه وإقراره، فالعودة إلى هذه الوثائق ومحاضر جلسات المجلس النيابي يمكِّن في كثير من الأحيان معرفة المعنى الحقيقي للنصوص القانونية كما أراده واضعوها، ولهذا كان الرجوع إلى الأعمال التحضيرية من أهم الطرق التي يلجأ إليها القاضي لتفسير القانون على سبيل الاستئناس لا الإلزام، لأن القوة الإلزامية للقانون تتعلق بنصوصه وحدها لا بما يدور حولها من دراسات ومناقشات، وعليه متى شاب عبارات النص غموض أو لبس أو احتملت أكثر من معنى مقبول أو كان المعنى الظاهر للنص يجافى العقل أو مقاصد التشريع كان على القاضي أن يسعى للتعرف على الحكم الصحيح والإرادة الحقيقية للمشرع خلال الربط بين النص وغيره من نصوص القانون وأن يستهدى بمصادره التاريخية وأعماله التحضيرية(88).

ثالثا: تطور مقاصد القانون في الفكر القانوني الوضعي:

يعد أرسطو من أوائل مؤسسي نظرية فلسفة القانون التي وضعها لتحقيق العدالة والسعادة لمجموع الأفراد(89)، والذي يعتبر أن القانون الطبيعي وهو النواة الأولى للعدل فكرة فلسفية مثالية يجب أن توضع على أساسه القوانين الصادرة عن إرادة المشرع؛ بحيث تتحقق المساواة ويزول التمييز، وهي النظرية التي تبناها فيما بعد توما الاكويني عندما اعتبر أن القانون الطبيعي هو انعكاس لحكمة الله، فالقانون الطبيعي هو نداء الفطرة نحو الحسن والقبح العقلي والذي يجب أن ينحى نحوه لأجل جعل القانون الوضعي وفق العدل والصواب، باعتبار أن مبادئ القانون الطبيعي هي مبادئ ثابتة يدركها ويشعر بها كل عقل إنساني، وهو ما يقترب من قول المعتزلة بالحسن والقبح الذاتيين، فما حسنه العقل فهو حسن وما قبحه فهو قبيح وإن لم يرد به شرع.

وقد تطورت فكرة العدالة مع الفلسفة القانونية اليونانية والتي تعتبر أن المنفعة والمصلحة هي أساس القانون وجوهره؛ فحيثما يحقق القانون المصلحة يكون قانونا عادلا(90)، وقد ظهر هذا المبدأ مع الفيلسوف اليوناني ديموقريطس (460 ق.م370 ق.م) والذي تبني فلسفة المتعة بشكل قاطع؛ وقد ادعى أن الهدف الأسمى للحياة هو رضا النفس أو ابتهاجها، ثم جاء الفيلسوف اليوناني أبيقور (270  إلى 343 ق.م) بفلسفة اللذة وجعلها مصدرا للسعادة التي يطلبها الإنسان، والسعادة تشمل اللذة والتخلص من الألم، وعلى إثر مذهب أبيقور نشأ في القرن 18 الميلادي مذهب المنفعة، وهي مدرسة أخلاقية تقول إن القيمة الأخلاقية للفعل تتحدد بمقدار إسهامه في النفع العام، أي بحسب ما ينتج عنه، وهو مبدأ شبيه باعتبار المآلات لدى فقهاء المسلمين، ولقد تطور مذهب المنفعة في العصر الحديث مع الفيلسوف والمصلح القانوني الإنجليزي جيرمي بنتام والذي من أقواله الشائعة: “أن أعظم السعادة لأكبر عدد هو مقياس الصواب والخطأ”، وبما أن السعادة تختلف تجلياتها من فرد لآخر فإن الخير والشر عندهم شيء نسبي، وعلى هذا الأساس انطلق الفكر الغربي نحو تمجيد الحرية المطلقة في كل الميادين، ورأوا أن صواب أي عمل من الأعمال، إنما يحكم عليه بمقدار ما يسهم في زيادة السعادة الإنسانية أو في التقليل من شقاء الإنسان، بصرف النظر عن السداد الأخلاقي لقاعدة ما، أو مطابقتها للوحي أو للسلطة أو للتقليد أو للحس الأخلاقي أو للضمير، ومن ثم فكل همهم الاهتمام بالحياة الدنيا والاغتراف من لذاتها(91).

واذا كان الفلاسفة البريطانيون قد ركزوا على المنفعة والفائدة، فإن الفلاسفة الأمريكان ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فإنهم لا يقتنعون بدعوى النفع الذي لا يمكن إثباته من الناحية العملية، فيجب أن تكون الفائدة المعتبرة مؤثرة تأثيرا فعليا، فنشأت المدرسة البراغماتية أو الفعلانية التي تتميز بالإصرار على النتائج والمنفعة العملية كمكونات أساسية للحقيقة، وبذلك فالبراغماتية تعارض مدرستي الشكلية والعقلانية.

ويعتبر وليم جميس، أول من ابتكر كلمة البراجماتية في الفلسفة المعاصرة، وهو يرى أن مقياس تمييز الحق عن الباطل، هو النتائج الواقعية التي يورثها العمل، وهدف العلم هو هداية الإنسان إلى الانتفاع بالطبيعة، ومما يحمد للمدرسة الواقعية الأخذ بعين الاعتبار المصالح وفهم المتغيرات فهماً عميقاً مع إنكار وجود ثوابت في حياة الإنسان؛ وبالتالي فهي تعيد البشرية إلى الجاهلية، ثم إن هذه المدرسة ترى أهمية المصالح، ولكن دون أن تحدد ما هِي المعايير التي نزن بها قيمة المصالح ونفضِّل بعضها على بعض.

كما يجب الاعتراف بأن هذه الفلسفة عنصر أساس من عناصر المنظومة الفكرية التي دفعت التقدم السريع في الدول الصناعية الكبرى وبالأخص بريطانيا وأمريكا، فقد حققت هاتان الدولتان تفوقا ملحوظا في جمع الثروات والتقدم التقني مما جعلهما أكبر قوة اقتصادية وعسكرية وقبلة ثقافية وعلمية مدة غير قليلة من الزمن، والعلاقة واضحة بين هذه الفلسفة وبين شدة الاندفاع نحو تحقيق أشكال الرفاهية الاقتصادية والتطور التقني والتفوق العلمي. ولكن هذه الفلسفة كما أنها حققت خيرا كثيرا فإنها أيضا قد سبّبت في الوقت نفسه شرا مستطيرا، فإنها جعلت المنفعة فوق كل القيم حتى الأخلاق والعقائد، ووضعت المنفعة معيارا مهيمنا على باقي القيم، فالأخلاق -وفق هذه الفلسفة- ملغية إذا لم تحقق نفعا، والعقائد باطلة إذا لم تجلب ربحا. فلا عجب أن تنهار الأخلاق والقيم في تلك الدول، إن الفلسفة التي جعلت المنفعة فوق كل القيم تقتضي دفع الناس إلى استحلال كل السبل من أجل كسب مصالحهم الخاصة، وهي التي جعلت الصراع على المصلحة – مهما كان شكله – أمرا مقبولا ومشروعا ما دام القانون لا يلاحقه، وفن التنصل عن ملاحقة القانون دائما يتطور أسرع من تطور تقنية أجهزة الأمن، كما أن وهم السعادة الواسعة التي قصدوها من خلال تحقيق المنافع التي حددوها وألّهوها لم يخلق لهم تلك الحياة السعيدة المقصودة بالنظر الى معدلات الاجرام والانحراف(92).

ومع ذلك فإنه من الموضوعية العلمية أن نقر أن لتلك الفلسفة النفعية إيجابيات وسلبيات، وكما في الحديث: “الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا”(93)، وقصد الشرع لتحقيق المنافع معروف، ومن المفارقات العجيبة أن فكر الإمام الشاطبي المقاصدي في عالمنا الإسلامي ظلّ مهملا قرونا طويلة، في حين أن الفلسفة النفعية حظيت بالعناية والترويج في العالم الغربي، وهذه المفارقة تفسر التباين الحاصل بين العالمَين في عصورنا المتأخرة.

الفرع الثاني: إدراك مقاصد القانون الوضعي لنظرية المنفعة المصلحية:

لقد تمخضت الجهود الفكرية السابقة عن استواء مقاصد القانون وابتنائها على نظرية المنفعة، حيث تصبح الغاية من وضع القانون هي البحث عن القواعد العامة المعيارية والعادلة من بين الشرائع والنظم التي أثبت الواقع فعاليتها وعمل على إنضاجها الزمان والمكان والحالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهي عوامل تختلف من بلد إلى بلد، مما جعل قوانين كل أمة مستقلة بذاتها، فضرورة القانون في كل مجتمع لا تعني استنساخه لكل بيئة، ومن ثم يكون للتاريخ والبيئة دور في تحديد غاية القانون.

وفي ألمانيا ظهرت فكرة المصلحة انطلاقا من نقد المذهب الشكلي في تفسير القانون، اعتمادا على الفلسفة الغائية للقانون على يد الفقيه الألماني اهرنج من خلال كتابيه “روح القانون الروماني”، و”الغاية من القانون”، وتتلخص فلسفته في ربط القانون بالمصلحة من خلال اعتبار المقاصد القانونية هي تحقيق المصالح، فالقانون وليد وثمرة إرادة الإنسان في صراعه مع الواقع الاجتماعي، وليس وليد أفكار قانونية مسبقة، وعند غموض النص يتم اللجوء إلى المقاصد المصلحية كوسيلة لمد النصوص على وقائع غير مشمولة بالتنظيم القانوني(94).

وقريبا من هذا المقصد ظهرت المدرسة الوضعية النفعية الإنجليزية، والتي قامت على نقد المذهب الطبيعي، مستبعدة فكرة الأخلاق والدين كمصادر للقانون، ومعوّلة على معايير وضعية نفعية، انطلاقا من الطبيعة الإنسانية التي تخضع لمؤثري اللذة والألم، أي تحقيق المنافع والملذات ودفع المضار والأذى، ومن ثم فليس العدل مقصدا في حد ذاته لأنه فضيلة ليس لها أساس مادي، وإنما المقصد العام هو تحقيق المنفعة بعيدا عن القيم الأخلاقية والدينية؛ فالقانون مصدره إرادة الحاكم التي تحتكر لوحدها تحديد السلوك الواجب على الأفراد إتباعه، وعلى هذا يكون المقصد الوحيد للقانون وللدولة هو تحقيق أكبر قدر ممكن من النفع للأفراد ودفع أكبر ضرر مادي عنهم بحيث يرتبط القانون بالمنفعة وجودا وعدما(95)، فالقانون لا يهدف إلى تحقيق العدل بل إلى تحقيق المنافع المفيدة للأفراد ووسيلته العدالة(96).

ويظهر هذا المقصد النفعي بشكل بارز في الفقه القانوني الأمريكي الذي يتزعمه العميد “رسكو باوند”، صاحب فكرة البعد الغائي للقانون من خلال فكرة مراعاة المصلحة الاجتماعية التي يعتبرها أساسا للقانون؛ وهو بذلك من المؤسسين لعلم الاجتماع القانوني في أمريكا، وهي الفكرة التي ترسبت عند “باوند” تحت تأثير الأفكار الاجتماعية فضلا عن ملاحظته للعيوب الجسيمة التي شابت القضاء الأمريكي الذي يعتمد على أسلوب السوابق القضائية حيث وصفه بالقضاء الميكانيكي متجاهلا تغير الظروف الاجتماعية، ودون مراعاة لتغير الزمان والمكان، وقد وجد باوند ضالته في فكرة المصلحة كأساس لجوهر القانون، المتمثل في حل التنازع بين المصالح الفردية عن طريق تنظيم المصالح وفقا للهندسة الاجتماعية الممزوجة بالأخلاق الاجتماعية، مما يحقق الضبط الاجتماعي؛ ومن ثم يؤسس “باوند” للمصلحة كأساس للقانون(97).

فالقانون عند “روسكو باوند” هو علم الهندسة الاجتماعية الذي يتحقق من خلاله تنظيم العلاقات الإنسانية في المجتمع المنظم سياسيا، أو الضبط الاجتماعي عن طريق الاستخدام المنهجي المطرد لقوة المجتمع المنظم سياسيا، ونخلص مما سبق أن المقصد الأساسي للقانون في فلسفة “باوند” هو الحفاظ على المصالح من خلال التوفيق بينها وبين المصلحة الاجتماعية كمقصد كلي للنظام القانوني مع إعطاء القاضي دورا فاعلا في دراسة كل حالة وظروفها الواقعية(98).

وعموما تعتمد المدرسة النفعية على المنطق التجريبي بأن يقاس القانون على أساس نتائجه حالا ومستقبلاً، ولكي نعرف النفع والضرر في نتائج القانون، يجب أن نقيس مدى اللذة والألم فيه، وأيهما هو الأكثر، اللذة والتنعّم أم الألم والشقاء؟ وفي معيار اللذة والألم، نقيس ذلك على أساس عامة أبناء المجتمع، ومن إيجابياتها قياس نتائج القوانين وانعكاساتها على أوضاع الناس، ومدى مساهمتها في خيرهم وصلاح معايشهم، وقياس ذلك على أساس جمعي وليس على أسس فردية، فاللذة هي مقياس السعادة الشخصية.

ولاشك أن نقد رجال القانون الصارم للمدرسة التاريخية وأنصار حرفية النص ومدرسة الشرح على المتون في محاولتهم للبحث عن روح القانون، أعطى للعلوم القانونية قوة دفع للغوص في فلسفة التشريع بحثا عن مقاصد القانون، غايتهم النظر فيما وراء الأوامر والنواهي بقصد تقويمها، وحسن إنـزالها التنـزيل المعتبر والمقصود للمشرع الواضع لها، من خلال النظر في واقع الإنسان وظروف زمانه ومكانه وأحواله، والمشرع الذي يحرص على تحقيق المصالح ودرء المفاسد، وعلى مطابقة القوانين التي يصدرها للنصوص الدستورية، لا يستطيع أن يحقق ما يريد ما لم يؤازره ويتقدم عليه في الفكر والفقه.

أولا: العدل كمقصد غائي للتشريع الوضعي:

لا شك في مقاصدية اقامة العدل ضمن منظومة مقاصد الشريعة، بل أن العدل هو وصفها العام والشامل بل هو العنوان الجدير بمضمونها، فهو مثله مثل الفطرة والسماحة والحرية والعدل جميعها أوصاف لشريعة الله في بعدها الاجتماعي، يجب أن تتغياها الحكومات في وضع التشريعات، والقانون باعتباره ذو غاية نفعية دوره حفظ النظام وتحقيق العدالة، ومن ثم يرى جانب كبير من فقهاء القانون المعاصر ضرورة أن تكون فكرة العدالة الهدف الاساسي من التشريع الوضعي، وأنها أهم معيار يجب استحضاره عند وضع التشريع الوضعي، فغاية القاعدة القانونية تأمين العدالة، بإقرار الحقوق الطبيعية لكل إنسان، والسهر على حماية حرياتهم ومصالحهم الخاصة، فالغرض الأساسي للقاعدة القانونية هي إقامة التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، بدأت إرهاصات فكرة روح التشريع مع الفكر الإغريقي من خلال اهتمامه بالعدالة وبالقوانين بحثا عن العدل المثالي، حيث يصف أفلاطون المدينة الفاضلة بأنها بدون قانون مدون وإنما هو القانون الطبيعي بحثا عن الثبات وفقا لمبدأ روح القانون(99)، كما عرف سقراط القانون بأنه يرجع إلى أصل واحد هو فكرة العدل التي يقضي بها العقل(100)، وعند أفلاطون تعتبر القواعد التي تستهدف تحقيق العدل قانونا، ومن ثم فهو يعول على الغاية منه، فكل ما هو حق وعدل فهو قانون مطاع، وكل ما يخالفها فليس بقانون؛ لينتهي إلى فكرة دولة الجمهورية المثالية التي يتولاها الملك الفيلسوف، دون أن يكون بحاجة إلى القانون، قبل أن يتراجع في كتابه “النواميس” لصالح استعادة مكانة القانون في الحضارة الإغريقية، كما تناول أرسطو فكرة العدالة بالتحليل، وهو يرى أن مضمون القوانين هو العدالة، وأن أساس العدالة هو المساواة، فما دامت العدالة هي المساواة والظلم هو عدم المساواة، فان العدالة تقتضي أن تعالج الحالات المتساوية معالجة متساوية، ويذهب خطيب روما الشهير “شيشرون” إلى القول: “إن العدالة التي تساوي بين خيار الناس وأشرارهم هي ستار للظلم”، فالمفروض أن يطبق القانون بمساواة جميع الأشخاص والحالات التي يتناولها في مركز قانوني معين ولغرض معين بالذات وللهدف الذي يرمي إليه، فالمثل يعامل كمثله، وغير المتساويين لايلقون معاملة متساوية، وهكذا قرر الرومان، كما جاء في مدونة جستنيان أن “مساواة غير المتساويين ظلم”(101).

ويميِّز الفقه الحديث بين فكرة العدل (العدل الشكلي القانوني) وفكرة العدالة (العدل الجوهري الإنصاف)، فالعدل يفيد معنى المساواة، وهي مساواة مرتبطة بالدور الاجتماعي للقانون، ويتحقق ذلك من خلال قواعد قانونية عامة مجردة تطبق على الجميع بنـزاهة ودون محاباة وبعدالة، ويقتصر دور العدل الشكلي هنا على بيان أن الإجراءات كانت عادلة ومن ثم فلا فرق بين أم تسرق لإطعام أطفالها الجياع ومن يسرق لإرضاء ملذاته وشهواته، فالعدل القانوني يعتد بالوضع الغالب الظاهر لا بالوضع الداخلي الخاص للمخاطبين بحكمه، أما العدالة فتعني الشعور بالإنصاف وهو شعور كامن في النفس يوحي به الضمير النقي، ويكشف عنه العقل السليم وتستلهم منها مجموعة من القواعد تعرف باسم قواعد العدالة، مرجعها مثل عليا تهدف إلى خير الإنسانية بما توحي به من حلول منصفة ومساواة واقعية تقوم على مراعاة دقائق ظروف الناس وحاجاتهم، إن التمييز بين فكرتي العدل والعدالة هو السبب في أن كل الأنظمة القانونية شعرت بالحاجة إلى إصلاح صرامة القانون من خلال الدعوة إلى تفسير القانون بروح العدالة بدلا من التركيز على حرفية النصوص عندما يشعر القاضي أن الظلم بعينه يتحقق لو طبق القانون بحذافيره، وهذه الحالة نجد تعبيرها في القول المأثور (الرحمة فوق القانون) الذي لا يعني إلا أن على القاضي أن يعالج الحالة الفردية الخاصة بروح العدالة(102).

ثانيا: حفظ النظام كغاية للقانون:

من أهم معاني القانون ومقاصده حفظ النظام وتحقيقه، وعندما نتأمل مقاصد الشريعة الإسلاميّة نجد أن من مقاصدها أن يسير الناس وتكون سياستهم وفق نظام، إذاً فالنظام معتبر شرعاً، وبناءً عليه فالقانون لا يختلف عن الشريعة في مقصد حفظ النظام العام، حيث يلاحظ أن الكثير من الفقهاء المعاصرين من يسمي المقاصد الخمسة في الشريعة الإسلامية مباشرة “النظام العام”(103)، باعتبارها فكرة ضابطة تستغرق كل عناصر المصالح الأساسية في الجماعات مهما اختلف نظامها السياسي أو الاجتماعي، وحول هذا المعنى يقول الشيخ عيسوي موضحا هذه الفكرة بوجه عام بقوله(104): “إن أصول الشريعة قد أحاطت بما يلزم لحفظ المقاصد الخمسة التي لم تشرَّع الشرائع السماوية أو الوضعية إلا لخدمتها وحفظها، وهذه المقاصد هي الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فمهما تنوعت الشرائع والقوانين فإنها ترمي بأحكامها إلى المحافظة على هذه المقاصد”، يقول الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: “إن مقصد الشريعة من التشريع: حفظ نظام العالم، وضبط تصرف الناس فيه على وجه يعصم من التفاسد والتهالك، وذلك إنما يكون بتحصيل المصالح واجتناب المفاسد على حسب ما يتحقق به معنى المصلحة والمفسدة “(105)، فالروح العامة لأحكام الشريعة تتجه إلى تربية المسلم على ثقافة الانضباط للجماعة ذات الأبعاد المؤسسية النظامية؛ ثمرته انتظام الفرد في المؤسسة الاجتماعية لتحقيق مقصد حفظ المجتمع(106).

ثالثا:المساواة والحرية مقصدان قانونيان متكاملان:

المساواة هي مقصد عام للتشريع، وهي أصل يجب تغييه في كل تشريع أو تعديل قانوني، ويترتب على استواء أفراد الأمة في أصل الخلقة وفي الحقوق التأكيد على القضاء على عبودية الناس لبعضهم البعض، ومن ثم الإقرار للجميع بالحرية المتساوية بمقتضى الفطرة والكرامة الإنسانية المتساوية، ومن ثم يجب على القوانين الاجتماعية أن تتأطر بالحرية، باعتبارها الغاية الأساسية التي يجب أن ينطلق منها القانون، والا انتفت ضرورة وجوده التي قام عليها، فأي تغييب لها في أي تشريع سيفقده احترام الناس له، وهو ما يلاحظ على القوانين العربية حيث جعلت الحرية في المرتبة الثانية وقدمت عليها مصالح وغايات نفعية تخدم قوى النفوذ التي تصوغ القانون، وحتى القوانين الدولية وإن كان أساسها الحرية وحقوق الإنسان إلا أن مقصودها هو الحرية النفعية العرضية وليست أصلا مبدئيا عاما، لذلك نرى أن الدول الغربية التي اعتمدت على الاستعمار في تحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية تطبق الحرية في بلادها لكنها تقمعها في البلاد المستعمرة.

رابعا: مقاصد القانون وحفظ السكينة الاجتماعية:

يتطلب حفظ السلم الاجتماعي وجود قوانين صارمة تفرض الجزاء على من يخالفها، ويسهر الحاكم على تنفيذها، فالغاية الأساسية من القانون هي توفير الأمن الاجتماعي، ومن أقوال الفقهاء الرومان المأثورة: “أن ما يريده الحاكم هو ما يريده القانون”(107)، وتفترض غاية السكينة الاجتماعية بطبيعتها ضرورة التوفيق بين المصالح المتعارضة للأفراد حتى لا تعم الفوضى، حيث تعتبر مسألة تنظيم المصالح المتعارضة من أهم الاعتبارات التي يجب أن يراعيها واضع القانون، لأن القانون الذي تختل فيه حماية المصالح ويبدو فيه التحيز واضحاً وغير مبرر لفئة أو طبقة من المجتمع من أهم عوامل عدم الاستقرار وسبب للانتفاضات الشعبية والثورات عبر التاريخ(108).

فالقاعدة القانونية – حسب هذا المقصد- تستقل بوجودها كأداة تنظيمية للمجتمع، وتنفصل بمجرد سَنها عن الأخلاق والعدالة، ووفقا لهذه النظرية المحضة للقانون، يجب أن ينظر إلى القانون كما هو كائن لا كما ينبغي أن يكون، ذلك أن الحكم على القانون بالعدالة أو عدم العدالة يتطلب معايير لا تخضع للمعرفة العلمية، فالقانون حسب وجهة النظر هذه يجب أن لا يخضع لأي تقييم أخلاقي، ويترتب على هذه النظرية أنه لا يمكن أن يتمتع القاضي بأية سلطات تقديرية، فالغاية التي يجب أن يكرسها القانون، حسب رأي كلسن، هي الأمن الاجتماعي بواسطة قواعد قانونية ثابتة نسبياً لا يقبل تطبيقها التقدير، لا تتقادم ولا تنسخ إلا بتشريع لاحق(109).

وعلى المستوى العملي: هل يحقق القانون تلك الأهداف والمقاصد التي يتوخاها واضعوه؟ فباعتبار أن واضع القانون هو نفس الإنسان المتحيز إلى اعتباراته الخاصة ومصالحه الشخصية وخضوعه لظروف الزمان والمكان المحدودة مهما كان هذا الإنسان نـزيها أو محايدا، ولذا فإن مفهوم العدل هنا لا يكون إلا نسبيا وضيقا يراه واضع القانون من خلال زاويته البشرية الضيقة، والعدل بمفهومه الشمولي والاستيعابي غير المحدد وغير المتحيز والقادر على توفير تلك الأهداف العليا لا يتحقق إلا من واضع يمتلك تلك الخصوصيات، ومن هنا يتميز القانون الإلهي بأنه أقدر على تحقيق العدل والأمن والاستقرار والحرية باعتباره يمتلك الموضوعية المحايدة في التشريع والتقنين، فالواقع العملي يثبت عدم قدرة الكثير من الدساتير والقوانين الوضعية على تحقيق تلك المثل العليا بل أنها في بعض الأحيان أدت إلى تصاعد الظلم والفوضى والاستغلال، وهكذا أفرزت الحضارة الغربية المعاصرة، بنموذجها المادي الصارم، إنسانا طبيعيا يعرف في إطار وظائفه الطبيعية البيولوجية، بحق هذه الحضارة حضارة قول هذا القول أضر بفعل الإنسان ضررا كبيرا بما هو جوهر الجانب السلوكي في الطبيعة البشرية، وزاد من الجبروت القولي لهذه الحضارة المعاصرة نقصها العقلي من جهة المعرفة أو من جهة التقنية، وبذلك يعد القانون من أهم وسائل الضبط الاجتماعي بل هو الوسيلة الأساسية التي يعتمد عليها المجتمع المنظم في ضبط سلوك أفراده.

ومن ثم فإن موازنة مقاصد القانون بمقاصد الشريعة تجعل القانون الوضعي قادرا على تحقيق المثل الإنسانية العليا متى استهدف قيما عليا ومصالح غير متحيزة، ذلك أن علم القانون الوضعي حدد الحاجة للقانون في الحاجات المادية وتنظيم العلاقات الاجتماعية، فهو ضروري للحياة وليس عرضي لكبح جماح الإنسان وضبطه اجتماعيا باعتبار أنه شرير وأناني بطبيعته التكوينية.

المطلب الثاني: صور ومظاهرالاستثمار المقاصدي في التشريع الوضعي

لقد أصبحت المقاصد عند فقهاء الاسلام شجرة معرفة لها أدواتها المبتكرة، وعلومها المستحدثة، وفي مقدمتها علوم فقه الواقع، وفقه التنـزيل، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات، والفقه الافتراضي. وفقه الموازنات وفقه الأوليات يقعان في قلب منظومة مقاصد القانون، والعلم بفقه الموازنات وفقه الأولويات يؤدي إلى سهولة المقارنة بين وضع ووضع، والمفاضلة بين حال وحال، والموازنة بين المصالح والمفاسد، وبيان أيهما الأولى في التقديم، على المدي الطويل أو المدي القصير، وعلى المستوى الفردي أو المستوى الجماعي.

ومن ثم يعتبر الاجتهاد المقاصدي، الأداة الحيوية المحركة للانطلاق في تبين مقاصد الشارع في كل النصوص والأحكام، وسبر أغوار معانيها، والكشف عن الغاية من تشريعاتهما، رعاية لمقاصد الشريعة-في فقه النص وتنـزيله- كضابط منهجي، ومعيار معرفي في الاستبصار المستقبلي لحال الأمة في المجال التشريعي والحضاري، ومن يتوجب على أنصار المشروع الإسلامي المعاصر الاعتماد على الاستثمار المقاصدي في الإصلاحات التشريعية انطلاقا من فكرة الوعي بالبعد المقاصدي لاستبصار آفاق التشريع، فهي ليست أداة لإنضاجه وتقويمه، ولكنها أيضا أداة لتوسيعه وتمكينه من استيعاب الحياة بكل تقلباته وتشعباته(110).

لقد أثبتت التجارب العالمية أنه مهما وضعت النصوص القانونية الملائمة فإنها تبقى دائما قاصرة عن إيجاد الحلول لكل النوازل والقضايا، لأنها تبقى أولا من صنع البشر غير المعصوم، ولأنها تتناهى، باعتبار عددها بخلاف الوقائع التي لا تتناهى، فيبقى الملاذ هو القضاء لإعمال اجتهاده الخلاق في إيجاد حلول لها.

ومن هنا فقد تطورت اتجاهات تفسير القانون بتطورات الحياة الاجتماعية المعاصرة والمتسارعة والتي لم يعد باستطاعة المشرع مجاراتها بحركته الثقيلة المعهودة، مما تطلب وجود عقلية قضائية فذة تلائم بين النص والواقع قادرة على سد الفراغ التشريعي والقصور التشريعي، وعلى ملائمة القانون مع تلك الحاجات المستجدة، ومن المعلوم أن الملائمة هي عملية غائية، وليست مجرد منطق صوري مكرر، غايتها تحقيق مقاصد النظام القانوني والحكمة من التشريع وبعيدا عن الآراء الشخصية والهوى.

فقد يكون النص التشريعي الذي يحكم الحالة المعروضة موجودا ومع ذلك تتطلب حكمة التشريع اتخاذ حكم قانوني جديد، فنكون أمام قصور في التشريع، الذي يمكن أن يعالج بوسيلتين، أحداهما تدخل المشرع بين فترة وأخرى لمعالجة القصور عن طريق التعديل أو الإضافة أو الإلغاء، ولكن تدخل المشرع في جميع الأحوال ليس أمرًا حسنًا دائمًا، لأن كثرة التعديلات وتنوعها تربك القضاء وتُحجم دور الفقه.

والثانية مواجهة القصور بالاجتهاد القضائي، وفي مثل هذه الأحوال يمكن للقاضي أن يلجأ إلى حلول متنوعة بأن يتوسع مثلا في مدلول معيار الغاية بأن يعطي للنص تفسيراً متطورا من خلال التوسع في المعنى الجوهري للنص القانوني القائم، فإذا تعذر إدراك قصد المشرع بصورة ظاهرة أمكن البحث عنه في المبدأ العام للقانون، وروح الشريعة التي استمد منها القانون عموم أحكامه، أو بالاستعانة بأحد المبادئ التي استقرت في الضمير القانوني الإنساني بصورة عامة أو ما استقر عليه الفقه من آراء بالتأمل في روح النظام الاجتماعي.

وفي كل هذه الأحوال ينبغي على القاضي أن يبقى في نطاق المبادئ والغايات التي يقوم عليها النظام القانوني عند تقدير ملاءمة الحلول للحالة المعروضة عليه، فلا يأتي بحلول شاذة أو غريبة عن مجتمعه، ومعياره في ذلك هو معيار النظام العام والآداب السائدة في مجتمعه، مستلهماً روح النظام القانوني والغايات الاجتماعية النبيلة، دون أن يستند إلى أفكاره ومعتقداته الشخصية.

كما ينتظر من توظيف مقاصد القانون إزالة التعارض القانوني خصوصا في ظل تعدد الوسائل القانونية المعبرة عما تريده الإرادة العامة؛ حيث تتعدد مصادر القاعدة القانونية بحسب تعدد المؤسسات المصدرة له؛ مما يترتب عنه احتمالية وقوع التعارض أو التناقض بين هذه القواعد، مما يهدد مبدأ الأمن القانوني كهدف عام للقانون، وعندها يكون من أهم مهام القاضي – حفاظا على وحدة النظام القانوني وانسجامه وتكامله- حل هذا التعارض، فإذا ما اكتشف غموضا أو تعارضا أو نقصا في التشريع الذي يهم بتطبيقه فعليه أن يتصدى لهذا العارض، ويسعى إلى إزالته ليمهد السبيل إلى التطبيق الصحيح للقانون، ولا شك أن في توظيف نظرية المقاصد ومراتب المصالح وسمو بعضها على بعض دخل في الترجيح بينها.

وعلى هذا يكون للقضاء دور متميز في الحياة القانونية، لأن القاضي هو من يضفي الفعالية من الناحية العملية على القواعد ويجعلها ملائمة للواقع، ومن أدواته في ذلك قواعد التفسير، المبادئ العامة للقانون، مبادئ العدالة، وقد أضاف اليها القضاء الإنكليزي معيار المعقولية لتطوير الأحكام القضائية، ومفاده أن تفسير القوانين والأعراف وتكييف الوقائع ينبغي أن يكون في النهاية منسجماً مع مقتضيات العقل والفهم الصحيح للأمور، وبتطبيق هذا المعيار على الشروط العقدية التي اختل توازنها بسبب ما طرأ من ظروف جديدة لم تكن بالحسبان عند التعاقد. وواضح، من التفسيرات الاجتهادية العميقة التي جاء بها الفقهاء المسلمون وكذلك الفقه والقضاء المعاصر لمعالجة النقص في التشريع، أن إدراك الإنسان لا يقف عند حدود الألفاظ كما أنه لا يجمد عند المعنى الحرفي للنص وإنما يغوص في أعماق النصوص ويكتشف أنواعا من المعاني والعلاقات المتلازمة بينها، والغاية مسايرة تفسير القانون مع تطور المجتمع وبهدف الوصول إلى حلول لمسائل لم تعالجها النصوص وفقا لحكمة التشريع وروح النصوص والأعراف المتواترة والمبادئ العامة وقواعد العدالة.

الفرع الاول: دور مقاصد الشريعة في توجيه التشريعات الوضعية إلى المقاصد الضرورية للحياة:

من أهم إشكاليات العصر الانفصال النكد بين مقررات الشريعة وقواعد النظام القانوني في غالب بلدات العالم الإسلامي، غير أن الانفصال بينهما يكاد يتبدد بمرور الزمن، والشقة بينهما تضيق بعد بناء جسور مقاصد القانون في ضوء مقاصد الشريعة للعبور من حرفية القانون ونفعيته المتحيزة إلى مقاصد الشريعة ومصالحها المعتبرة وفق مبدأ التدرج في حفظ النظام الاجتماعي للأمة، وعملا بمبدأ التعليل المصلحي للشريعة، على أن القول بالتعليل في الشريعة لا ينافي التعبد بمعناه الواسع بل يندرج تحته، ومن مقتضاه اعتماد أصل التعليل المصلحي في إدخال تصرفات الناس في كنف الشريعة إحلالا للحق محل الباطل.

إن استصحاب المقاصد بمضمونها الشرعي في وضع القوانين وتقصدها من شأنه خلق انسجام بين الأحكام الحقوقية الخاصة للمكلف مع فطرة الإنسان وفقا لنظرية حفظ الضروريات، وهذا ما يجعل من مقاصد الأحكام الوضعية إطارا عادلا، ينطبق معه الحكم على المحكوم عليه به، انطباقا سليما وصحيحا، وبناء على الازدواجية التي تحكم القانون الوضعي من حيث خضوع المواطنين لأحكام الشريعة الإسلامية في بعض معاملاتهم من جهة وخضوعهم للقانون الوضعي في بعضها الآخر من جهة ثانية.

ومن ثم تستهدف العناية بالمقاصد العامة للشريعة في الشأن التشريعي الوضعي تغيير الأحوال الفاسدة وإعلان فسادها، وتقرير أحوال صالحة(111)، تعارف الناس عليها ولا تخالف كليات الشريعة وفروعها، مع ضرورة اعتبار المآل عند التشريع، فلا يقر منه إلا الذي يحقق المصلحة ويمنع وقوع المفسدة، والعبرة في ذلك بما يغلب على الظن بما يحقق المقصد الذي قال عنه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: “أهم مقصد للشريعة من التشريع انتظام أمر الأمة، وجلب الصالح إليها، ودفع الضر والفساد عنها، وقد استشعر الفقهاء في الدين كلهم هذا المعنى في خصوص صلاح الأفراد، ولم يتطرقوا إلى بيانه وإثباته في صلاح المجموع العام، ولكنهم لا ينكر أحد منهم أنه إذا كان صلاح الأفراد وانتظام أمورهم مقصد الشريعة، فإن صلاح أحوال المجموع وانتظام أمر الجماعة أسمى وأعظم… فعلينا أن نتخيل الأمة الإسلامية في صورة الفرد الواحد من المسلمين فنعرض أحوالها على الأحكام التشريعية كما تُعرَضُ أحوال الفرد، فهنالك يتضح لنا سبيل واضحة من الإجراء التشريعي في أحوال الأمة”(112).

فرجال الهيئات التشريعية اليوم مدعوون إلى كثير من الحذر في التعاطي مع النوازل المستجدة والطوارئ المتغيرة التي تستوجب مزجا بين روح النص ومغزاه، وبين دلالة اللفظ ومقتضاه، وفي الواقع أن العدالة ليست في نصوص القانون، وإنما فيمن يطبق القانون ويفسره ويتفطن للمقاصد العليا منه، فنصوص القانون ليست غاية وإنما هي السبيل للوصول إلى ما يحفظ حقوق الأفراد والمجتمع ويصون الإنسانية، وعلى من يطبق القانون الجمع بين منطوق النص ومفهومه وبين مقتضى النص وبين مبادئ الإنسانية وروح القوانين، فعدالة القانون تقتضي أنسنة التطبيق، فإذا كانت القاعدة الشرعية هي رجم الزانية المحصنة بعد ثبوتها وعدم وجود الشبهة، إلا أن العمل روح، ورحمة القانون للإنسانية جعلت القاضي الأول في المدينة المنورة يراعي حقوق من في بطنها فردها حتى تضع حملها؛ ثم وجدناه بالرغم من إصرارها على تطهير نفسها من إثم الزنا – عليه الصلاة والسلام- يردها للمرة الثانية طالبا منها أن ترضع الطفل وتعتني به لمدة عامين، وكان يأمل بأن لا تعود ثانية، لكنها عادت من جديد وأصرت وأقيم عليها الحد، هذا هو روح القانون، فروح القانون قبل القانون، وروح الشريعة قبل الشريعة، والرحمة أساس كل شيء، فغياب روح القانون من جانب، والتعسف في تفسير النص القانوني من جانب آخر يجعل ثقة الناس بالقانون تنهار، العدالة تتلاشى، مصالح الأفراد وحقوق الإنسان تهدر، والإنسانية تتهاوى(113)، فما من شك في أن مقاصد الشريعة توفر أرضية خصبة لبناء توافق على أسس مدنية ترجح أولوية حقوق المواطنة على واجب الأسلمة(114).

كما تظهر الحاجة الى النظر المقاصدي في العلوم القانونية في توظيف قواعد الرخصة والعزيمة في وضع التشريع الوضعي، فالعزيمة والرخصة وصفان يعتريان التشريع الإسلامي في جُلِّ مسائله، إن لم نقل في كل مسائله، وتؤثران في العمل المطلوب من المكلف في وقت قيام إحداها، وحال الأمة بالنسبة إليهما كحال الأفراد سواء بسواء، يقول العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: “وإن من أعظم ما لا ينبغي أن ينسى عند النظر في الأحوال العامة الإسلامية نحو التشريع هو باب الرخصة، فإن… مجموع الأمة قد تعتريه مشاق اجتماعية تجعله بحاجة إلى الرخصة”، وعلى نفس المنوال يجب مراعاة أحكام الضرورة العامة قال ابن عاشور وهي: “الضرورة العامة المؤقتة، وذلك أن يعرض الاضطرار للأمة أو طائفة عظيمة منها، تستدعي إباحة الفعل الممنوع لتحقيق مقصد شرعي مثل سلامة الأمة، وإبقاء قوتها، أو نحو ذلك… ولا شك أن اعتبار هذه الضرورة عند حلولها أولى وأجدر من اعتبار الضرورة الخاصة، وأنها تقتضي تغييرا للأحكام الشرعية المقرَّرة للأحوال التي طرأت عليها تلك الضرورة”(115)، ويميِّز د/سليم العوا هذه الحالة عن مسألة الرخصة(116)، معتبرا أن الرخصة تتعلق بحال المشقة التي قد تدوم زمنا طويلا لأسباب لا يمكن للفرد ولا للمجموع إزالتها، كالضعف السياسي، والتبعية الاقتصادية، والتخلف التربوي والخلقي، التي تعاني منها الأمة في عصرنا الحاضر، لكن الضرورة العامة المؤقتة شأن عارض يشرَّع له تشريع مؤقت يزول أثره بزوال حال الضرورة، ومن ثم فلا مناص لمن يشرِّعون للناس من اعتبار ومراعاة أحوال الضرورة العامة المؤقتة، والمشاق الاجتماعية العامة حتى يصدر التشريع محققا للمقصد الأسمى الذي حدده ابن عاشور بأنه “حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه وصلاح عقله،..”.

وكخلاصة لمقاصد القانون الوضعي في ضوء فلسفة المقاصد الشرعية يلاحظ أن هناك جدلا فقهيا واسعا حول آليات قوننة الأحكام الشرعية وتنـزيلها في واقع علماني يفصل الدين عن الدولة والدنيا، وقد توسع هذا النقاش واشتد بعد وصول بعض التيارات الإسلامية لدفة الحكم في بعض البلدان العربية بحثا عن البدائل الإسلامية لمجموعة القوانين الوضعية، حيث يمكن ملاحظة اتجاهين كبيرين في محاولات أسلمة المعرفة القانونية: اتجاه ينطلق من مقاربة سلفية بمعيارية شرعية منـزلة، حيث يعد التشريع من مقومات العقيدة، واتجاه ثان ينطلق من منظومة مقاصد الشريعة بحثا عن أرضية مشتركة مع القوانين الوضعية، مما يقتضى تضييق جوانب الخصوصية التعبدية في الشريعة وتوسيع أبعادها الكونية الإنسانية، وهو الاتجاه الذي يحظى بمقبولية لدى الفكر الحديث في ظل أزمة النفور من تحكيم الشريعة والتوجس منها خيفة والتشكيك في صلاحيتها في التنظيم والحكم(117)، ويؤسس هذا الاتجاه الأخير خياراته على وجود اشتراك في الأسس المرجعية المعيارية للنظم القانونية، حيث تعتبر نظرية القيم وفلسفة الحق الطبيعي الخلفية المرجعية لها.

وهو الإشكال الذي يعودالى المضمون المعياري العيني للشريعة الإسلامية، هل يتعلق الأمر بمدونة قانونية هي مقوم المشروع الإسلامي، أم بمنظومة قيمية تشكل إطاراً ناظماً للتشريع والممارسة العمومية؟ فالانطباع الشائع لدى التيارات المعارضة والغربية معاً، وحتى الإسلامية، هو شمولية المركزية القانونية في الإسلام لكل المجالات العمومية والفردية بما فيها أدق تفصيلات الحياة الشخصية.

وخلافا لذلك يرى جانب من الفقه المقاصدي انطلاقا من أن أحكام الإسلام في الشأن العام لا تتجاوز قواعد ثلاثة: تحقيق الأمن والعدل والشورى، وهي قواعد تؤمنها الديمقراطية المعاصرة، فإن الحاجة إلى غطاء ديني لأسلمتها غير ضروري وغير مجدي ظرفيا ومقاصديا، ومن ثم كان يجب على التيارات الاسلامية ترك المجال للفاعلين السياسيين في تحقيق الانتقال الديمقراطي مراعاة للضرورة السياسية ولإكراهات الظروف الراهنة في تجربة التحول الديمقراطي في البلاد العربية وحقائق السياق والمرحلة(118).

وترتيبا على ذلك يجب الاكتفاء بالنص على المرجعية الإسلامية في عموميتها دون التقيد بالمدونة القانونية التفصيلية، إلى غاية تحقيق سيادة الأمة التي لها الأولوية على تطبيق الشريعة، مراعاة لأسبقية الشرعية على الشريعة، وأولوية إقامة حكومة الحرية قبل تطبيق الحدود الشرعية، ومن ثم فإن اتخاذ قضية الشرعية السياسية كأولوية مدخل مقاصدي مهم مغيب لدى الحركات الإسلامية، ذلك أن الشرعية وإرادة الأمة هما الطريق والضمانة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وقد فهم بعض الفقهاء المعاصرين أهمية الشرعية فقالوا بتقديم إقرار الحريات – خاصة السياسية منها- على تطبيق الشريعة، إيمانا منهم بأنه أهم جزء من هذا التطبيق(119)؛ لأن في غيبة الحرية لا يمكن للتفكير الإسلامي أن يستقيم، ولا يمكن للاجتهاد أن يتقدم، وهو يستوجب ضرورة إعادة ترتيب الأولويات في العمل والبناء الإسلامي لصالح أولوية إطلاق الحريات في الإصلاح السياسي(120)، فلن تقام أحكام الشريعة إلا إذا احتضنتها الغالبية من أبناءالشعب، وأصبحت تعبيرا إجرائيا عن إرادة أمة حرة؛ ولن ينجح مشروع سياسي لا يجعل حرية الإنسان وكرامته همه الأهم، لتغدو معه شرعية السلطة ورضا المحكومين عنها جزءا لا يتجزأ من مضمون “تطبيق الشريعة”(121).

ومن ثم فان قدرة الإسلاميين على إدارة الشأن العام بنجاح والاندماج الإيجابي في المحيط العالمي، يجب أن يكون واقعيا ومتدرجا في تطبيق الشريعة، خصوصا في ظل غموض مفهوم مدنية الدولة في الاسلام وطبيعة السلطة فيه، الغموض الذي أفرز إشكالية المواءمة بين سيادة الشريعة وسيادة الأمة، ففي حال افتراض اختيار الشعب لغير الشريعة في بلد إسلامي، فهل يعتبر هذا الخيار حقاللأمة تُمكّن من تنفيذه، أو أنها ستخرج عن إسلاميتها بتحكيمها قوانين لم ينـزلها الله تعالى(122)؟ وبتعبير آخر يتساءل عبدالله المالكي صاحب الكتاب الذي أثار ضجة علمية وإعلامية في السعودية “سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة”(123)، عن كيفية نقل مبدأ إلزامية الشريعة من المستوى الشخصي إلى المستوى العام بالمفهوم القانوني لأي دولة؟حيث اقترح الكاتب سيادة الأمة كوسيلة لفرض الشريعة، وحسب رأيه لم يكن الأنبياء عليهم السلام يمارسون (الإلزام والإجبار) مع أقوامهم بل كان منهجهم وفق مسار (بشيرا ونذيرا)، لأن الإلزام والإجبار فرع عن السلطة التي هي فرع عن السيادة، ولم يطبق النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ الإلزام في الشريعة إلا حين تقلّد السلطة في المدينة عبر قبول شعبي واختيار رضائي من أهلها له في بيعة العقبة الأولى والثانية ووثيقة المدينة، فسيادة الأمة مقدِّمة شرعية ضرورية لأجل تطبيق الشريعة.

ولاشك في وجود حل لهذه الاشكالية من خلال توظيف واستثمار المعيارية المقاصدية في الجمع بين مبدأ سيادة الأمة وسيادة الشريعة بتقديرجعل المرجعية العليا في الإلزام والتشريع للشرع الحكيم، واعطاء المرجعية في التنـزيل والتطبيق للأمة بمجموعها ووفقا لظروفها واكراهات واقعها، وهو الخيار الذي يزكيه علماء المقاصد المعاصرين – وعلى رأسهم د/القرضاوي ود/الريسوني ود/جاسر عودة ود/محمد كمال الدين إمام والمفكر الإسلامي فهمي هويدي – في ظل تعذر تنفيذ الأحكام الشرعية، وعدم وجود سبيل آخر في انتظار استكمال حلقات الإصلاح والتغيير”، وهو ما تعتبره التيارات السياسية المتوجسة خيفة من المشروع الإسلامي، مجرد تكتيكات ظرفية آنية، متهمة الطرف الإسلامي بالسعي إلى إقامة “نظام أوتوقراطي” بالطريقة المتدرجة(124).

فرغم واقعية هذه التهمة من خلال بعض الشواهد المعاصرة لعدم إدراج قيمة الحرية في منظومة المقاصد الشرعية، ومن ثم يجب أن يكون هذا الخيار مؤصلا ومكرسا وليس تبريريا وديمجوجيا من خلال إبراز مكانة الإرادة العامة وسيادة الأمة في الفقه الدستوري الإسلامي.

وفي الواقع يلاحظ أن المنظومة القيمية في الإسلام تتوزع إلى دائرتين متمايزتين: دائرة الثوابت الكامنة في مجموعة المعايير والأحكام في إطار توافق مقاصد المكلفين مع مقاصد الوجود، ودائرة المتغيرات التي تندرج في إطار مقاصد الشهود الحضاري وفق مطلب الحكمة، ومن ثم فليس من الصحيح أن المنظومة الإسلامية هي كلها مدونة سلوكية وضعية إجرائية مفروضة، بل هي أيضا منظومة قيم عليا ترسم مقاصد واتجاهات للممارسة والفعل وتضع ضوابط ومحددات للسلوك الفردي والجماعي، ويبدو ذلك جليا في مبدأ الحرية الذي هو شرط التكليف، فـ”الحرية هي فطرة الله التي فطر الناس عليها”، لذلك وجب المحافظة على الإنسان كما خلقه الله تعالى حرا مكرما، وإذا كانت قوانين العصر الحديث تنص على أنه “لا جريمة ولا عقاب الا بنص” فإن الشريعة تؤكد كما يقول د/الريسوني(125) على أنه: “لا منع ولا حظر ولا تقييد إلا بنص ولمصلحة واضحة”، وأخيرا وليس آخرا تطرح هذه الدراسة مدى إمكانية التفاعل بين مقاصد الشريعة وفلسفة القانون في مجال تفعيل الإرادة العامة في مجال المشاركة في الشأن العام وصناعة القانون والرقابة على تنفيذه والسهر على تطبيقه، من حيث تبني منظومة القيم المشتركة بينهما خصوصا قيمة الحرية والعدل والنظام، كجوامع مشتركة لوضع قانون دولي في ضوء مقاصد الشريعة.

الفرع الثاني: تطبيقات على مراعاة نظرية المقاصد في العلوم القانونية:

تتعدد فروع القانون بحسب تعدد وتباين طبيعة العلاقات القانونية المنظمة، فمن القوانين ما يحتاج إلى التفصيل في التنظيم، بحيث يسعى المشرع إلى أن تكون إرادة المشرع من خلال النص هي جوهر القانون مثل النصوص التجارية والجزائية، ومن فروع القانون ما هو مقاصدي بامتياز يراعى فيه تحقيق أهداف عامة ترتبط بالمصلحة العامة والعدالة والنظام العام، وهي غالبا فروع القانون العام، وهو ما سيكون موضع تطبيق لنظرية القيم والمصالح في فلسفة القانون، ولعل من أشهر النظريات القانونية التي تمثل شاهدا ناطقا على مراعاة القانون لمقاصد المخاطب به وإلزامه بوجوب أن يتوافق مقصده مع مقصد التشريع، نظرية التعسف في استعمال الحقوق في القانون الخاص، ونظرية التعسف في استعمال السلطة في القانون العام، حيث يراعي القاضي في كليهما الغرض من ممارسة الحق أو السلطة بالنظر إلى مقصود تشريعه ومآل تطبيقه، وهذا ليس إلا إعمالا لنظرية المقاصد من خلال قاعدة مآلات الأفعال عند التطبيق من تحقيق المصلحة التي وضع من أجلها الحكم العامّ المتعلّق بجنسه أو عدم تحقيقها، فإذا تبيّن عدم تحقيقه المصلحة لخصوصية من الخصوصيات استثنى ذلك الفعل من الحكم الشرعي الموضوع له في الأصل، وعدل به إلى حكم آخر يتحقّق به المقصد الشرعي(126)، وقد كان الإمام الشاطبي من أوفى من شرح هذا المدلول الاصطلاحي، إذ قال في شأنه: “النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة؛ وذلك أنّ المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلّفين بالإقدام أو بالإحجام إلاّ بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، [فقد يكون] مشروعا لمصلحة فيه تُستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قُصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أُطلق القول في الأوّل بالمشروعية فربّما أدّى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أُطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربّما أدّى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصحّ إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلاّ أنّه عذب المذاق، محمود الغبّ، جار على مقاصد الشريعة”(127).

ويترتب على ذلك أن تطبيق الحكم الشرعي على الأفعال ينبغي أن يكون ملحوظا فيه إفضاؤه إلى تحقيق مقصده، فإذا تبيّن على سبيل اليقين أو الظنّ الغالب أنّ حكما مّا من الأحكام لسبب أو لآخر من الأسباب سوف لا يفضي تطبيقه على الفعل الذي وُضع له إلى تحقيق مقصده، فإنّ ذلك يكون مبرّرا كافيا لأن يُعدل بالفعل من حكمه الأصلي إلى حكم آخر اعتبارا للمآل، وبتعقّد الحياة الإنسانية الفردية والجماعية، وتشابكها، وتوسّعها يكون لهذه القاعدة المجال الأوسع للاجتهاد، وتكون الحاجة إليها أوكد؛ ولعلّ أوضاع المسلمين حينما يكونون أقلّية في مجتمع غير مسلم تعدّ من أشدّ الأوضاع تعقيدا، بحكم خضوعهم كأقلية لسلطان قانون غير القانون الإسلامي، وتحت ظلّ حكم غير إسلامي. إنّ هذه الأوضاع من شأنها أن تُكسب أحوالا كثيرة من أحوال المسلمين خصوصيات ذاتية وموضوعية تؤول بها لو طبّقت عليها الأحكام الشرعية العامّة إلى مآلات تخالف مقاصد تلك الأحكام، فيكون إذن لقاعدة مآلات الأفعال دور اجتهادي مهمّ في فقه الأقلّيات المسلمة، بل لعلّها تكون من أهمّ القواعد الأصولية التي ينبغي تحكيمها في ذلك الفقه، ورغم اعتبارها قاعدة أصولية ومقاصدية في ترشيد النظر الاجتهادي، فانها قاعدة دقيقة في الاستعمال، وعرة في المسلك، عرضة لأن تزلّ فيه الأقدام، وخاصّة فيما هو معقّد متشابك من شؤون الحياة، فيصعب حينئذ تقدير المآل الذي ينبني عليه الحكم(128).

لقد أثمرت نظرية المقاصد في فلسفة التشريع إقرار نظام التعسف في استعمال الحق دون نص خاص، حيث أن القانون الفرنسي لم يتضمن نصاً خاصاً بذلك، وكان ذلك بدافع النظرة التقديسية إلى حق الملكية والحقوق الفردية، إلا أن النظرة الاجتماعية للحق ومنه حق الملكية تغيرت بمرور الوقت وأصبح ينظر للحقوق على أن لها وظيفة اجتماعية تؤديها في إطار عموم مصالح المجتمع، فظهرت اتجاهات فكرية تنادي بضرورة الحد من إطلاق الحقوق وتقييدها بواجب عدم التعسف في استعمالها، فأقر مبدأ نسبية الحقوق وقيدها بواجب عدم التعسف في استعمال الحق، واعتبر من يتعسف في استعمال حقه كمن يرتكب عملا غير مشروع ويكون مسؤولا عن الأضرار التي تلحق بالغير جراء ذلك التعسف.

أولا: مقاصد القانون الدستوري:

تبدو النظرية الدستورية في إحدى أهم وظائفها أسلوبًا لمعالجة جوهر المشكلة السياسية، مشكلة الصراع بين السلطة والحرية، والتي تنطلق من أنه ما من إنسان إلا وفي طبعه درجة من الرغبة في التسلط على الآخرين وتولي السلطة من خلال السعي إلى احتكار أدوات العنف.

والدستور باعتباره القانون الأساسي في الدولة والعمود الفقري فيها غايته الكبرى إقامة دولة دستورية يتحقق من خلالها التعايش السلمي بين السلطة والحرية في اطار الدولة(129)، توازن بين حق السلطة في التنظيم والتشريع والفصل في النـزاعات بدون تعسف ولاحيف، وبين حق الأفراد في ممارسة حرياتهم بلا مصادرة أو تقييد أو انتقاص، فضلا عن مقاصد أخرى يتضمنها الدستور كمقصد وحدة الأمة والتوافق بين مكوناتها، ومقصد الحفاظ على هويتها العقائدية ومقصد التنمية.. فهو بمثابة عقد اجتماعي وسياسي معا، فوجوده غائي، والقضاء الدستوري في ظله ليس مجرد قضاء تطبيقي يقوم بإنـزال حكم الدستور بشكل آلي أو مجرد على الواقعات المعروضة عليه، وإنما يتحتم عليه دوماً أن يحاول التوفيق والموازنة بين الشرعية الدستورية وإعلاء حكم الدستور، وبين المحافظة على الاستقرار داخل الدولة وتحقيقه، وهو إذ يحاول إقامة هذا التوازن فإنه يبتكر من الحلول التي تحقق الاعتبارين معاً ويأخذ بالتأويلات والتفسيرات التي توصله إلى هدفه، ولو كان بعضها يخالف ظاهر ما يؤدي إليه النص الدستوري، تلك المهمة ينفتح معها الباب لدور إنشائي وإبداعي كبير يقوم به القضاء الدستوري، وبهذا يشترك القانون الدستوري في الفكرين القانوني والإسلامي في الأهداف والغايات الكبرى التي يتقصدها أي دستور في العالم، وهي ضبط السلطة السياسية ومأسسة الحياة السياسية، تقييدا لها لصالح حماية الحريات الأساسية، وفي مقصد ايجاد نظام دستوري عادل يكون معبرا عن هوية الأمة وثوابتها في قواعد سامية لا تقبل التعديل، خصوصا ما تعلق بوحدة الامة واستقرارها ولغتها ودينها، التي تمثل مقصدا جوهريا في البناء الدستوري يقول ابن عاشور رحمه اللَّه: “مقصد الشريعة من نظام الأمة أن تكون قوية مرهوبة الجانب مطمئنة البال”(130)، ففلسفة المقاصد تظهر جليا في غاية وضع النبـي – عليه الصلاة والسلام- لدستور أو وثيقة المدينة مع اليهود، تنطوي على أحكام تتناسب وتحقيق مقصود الشارع من خلقهم إخوة متعاونين متحابين، وتلك أهداف يجب أن يتوخاها الدستور، وتلك هي غاية كل هندسة دستورية بوضع مأسسة للحياة السياسية بعيدا عن شخصنة السلطة.

فالإسلام ميثاق عالمي إنساني، جوهره تحرير الإنسان من ذل العبودية وإخراجه إلى نور الحرية؛ ومن ثم حق أن يوصف الإسلام كثورة شاملة على الأوضاع الفاسدة والمزرية التي بلغتها الإنسانية في وقت عز فيه الحق أن يطلب؛ فأهدرت حقوق الإنسان وحرياته العامة وامتهنت كرامته(131)، ورغم ما تمثله السلطة في كلا النظامين الوضعي والاسلامي من أهمية على اعتبار أنها ضرورة من ضرورات الدين، وأصلا مقطوعا به لا يفتقر في صحته وملاءمته لتصرفات الشارع إلى شاهد(132)؛ مما جعلت بعض الفقه يكيفها على انها أحد مقاصد الشريعة(133)، إلا أنهما يشتركان في وجوب تقييدها بحدود وقيود لصالح حريات المواطنين، في ظل انكشاف عورة بنية الدولة السلطانية الاستبدادية، مما ساهم في إحداث نوع من الوعي بداء الاستبداد إلى الوعي بضرورة تقرير الحريات العامة؛ الوعي الذي بدأ بأهمية وجود دستور للدولة كضابط لها؛ ومن ثم فلا غرابة من أن يتلقى المعاصرون الحرية كمقصد عام للشريعة ويولوه عنايتهم في تقرير حقوق الإنسان وحرياته العامة، وبذلك تكون فكرة المقاصد والمصالح والمفاسد هي الأساس في وضع الدستور وفي فرضه وفهمه.

ثانيا: مقاصد القانون الإداري:

يعتبر هذا القانون قانون المصلحة العامة بامتياز، سواء في قسمه المتعلق بالتنظيم الإداري داخل الدولة أو في قسمه المتعلق بالنشاط الإداري بشقيه الإيجابي المتمثل في نظرية المرفق العام وتقديم الخدمات، والسلبي المتمثل في نظرية الضبط الإداري، وحفظ النظام بعناصره التقليدية الصحة العامة والأمن العام والسكينة العامة، والحديثة كالنظام العام العمراني والبيئي والجمالي والاقتصادي والأدبي، فكلها أهداف يقصدها المشرع من وضع القانون، بحيث يدور العمل الإداري مع حفظها من جانب الايجاد ومن جانب العدم وجودا وعدما؛ وبناء على استهدافها أو التعسف في استعمالها تكون المشروعية من عدمها، فقد أدت فكرة المصلحة العامة دوراً كبيراً في إنضاج مبادئ القانون الإداري وأفكاره، ومن ذلك فكرة القواعد والشروط غير المألوفة في نطاق العقود الإدارية، فهي لم تظهر إلا لأن هذه العقود هي عقود المصلحة العامة، وكذلك الحال في الأفكار المتعلقة بنـزع الملكية للمنفعة العامة وعقود الأشغال العامة، ولعل أهم دور تضطلع به فكرة المصلحة العامة في نطاق القانون الإداري أنها تسوّغ للإدارة العامة استعمال امتيازات السلطة العامة، وعليه فقد أصبحت المصلحة العامة إحدى مفاصل القانون رغم تحولها من هدف إلى نشاط، وصار القانون الإداري هو قانون القوة العمومية والامتيازات وقانون المصلحة العامة في ذات الوقت(134).

ولقد شيد القضاء الإداري مراعاة لمقاصد القانون نظريات عامة في القانون الإداري تعتبر التطبيق العملي لمقاصد القانون في فلسفة التشريع الوضعي، منها نظرية التعسف في استعمال السلطة، فحين يشترط القانون ضرورة قصد العمل الإداري الى أهداف مخصصة وليست مجرد المصلحة العامة، مثل قواعد نـزع الملكية الخاصة للمنفعة العامة، وقواعد التسخير للأشخاص والممتلكات الخاصة، بل إن الغاية في القرار الإداري ركن فيه، وهي الهدف الذي تسعى الإدارة إلى تحقيقه من وراء إصدارها للقرار، فالمصلحة العامَّة هي الهدف الذي يجب أن يضعه متخذ القرار عند إصداره للقرار الإداري، فإذا استهدفت الإدارة من إصدار قرارها غاية بعيدة عن تحقيق المصلحة العامة، كان القرار مشوباً بعيب إساءة إستعمال السلطة، ويكون بالتالي قابلاً للإبطال، فالغاية من إصدار قرارات الضبط الإداري في حماية النظام العام بالدولة بمدلولاته الثلاثة، هذا وتتمتع القرارات الإدارية كقاعدة عامة بقرينة قانونية أي أنه يتمتع بقرينة الصحة والمشروعية، إلا أن هذه القرينة بسيطة لكونها تقبل إثبات العكس بكافة طرق الإثبات، مقتضاها افتراض صحتها من حيث غايتها، أي افتراض أنها تستهدف الصالح العام، أو الهدف المخصَّص لها في القانون وعلى من يدعي العكس إثبات ذلك.

وإذا كانت القاعدة العامة أن القرارات الإدارية – باعتبارها مصدرا من مصادر المشروعية القانونية- تستهدف تحقيق المصلحة العامة، فإن هناك أيضا قاعدة أخرى تضاف إلى هذه القاعدة لتكملها، تقضي بوجوب استهداف بعض القرارات الإدارية لتحقيق أهداف عيَّنها المشرع في مجالات محددة، وهو ما يسمى بقاعدة “تخصيص الأهداف”، ويقصد بها أن المشرع وفي حالات معينة يحدد للإدارة غاية وهدفاً خاصاً معيناً يوجب عليها أن تستهدفه عند إصدار قراراتها، بحيث إذا ما جاوزت الإدارة في قرارها الهدف المحدد من المشرع يكون قرارها معيباً بعيب الغاية قابلاً للحكم بعدم صحته وإمكانية إلغائه إذا ما طُعِن عليه أمام القضاء الإداري، لذلك تبدو مهمة القاضي الإداري فيه شاقة وحساسة للغاية، لأنه يراقب البواعث الخفية والدوافع المستورة التي حملت رجل الإدارة على التصرف المعيب.

وما نظرية توازن العقد الإداري مراعاة للظروف الاستثنائية إلا تطبيقا مباشرا لمراعاة المقاصد والمصالح وقيم العدالة في التعاقد، وهذا يستلزم من ولاة الأمور سَنّ قوانين وإقامة جهاز تنفيذي يوكل إليه حمل الناس بالرغبة والرهبة على رعاية مصالح الأمة، فتتحقق المصالح والمنافع العامة وحفظ النظام العام والآداب والأخلاق العامة، أما الأخلاق كقيم ضابطة للسلوك الفردي والجماعي فيكفي للتدليل على أنها مقصود للشارع في تشريع أحكامه وأنها مقصد عام تهدف إليه، قوله عليه الصلاة والسلام: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، مما يجعلها ذات أهمية محورية في كل أحكام الشريعة(135)، وبهذا يتحقق مقصود الشارع المتمثل حسب تعبير الطاهر ابن عاشور حتى تكون الأمة الإسلامية مرغوبا في الاندماج فيها أو في التقرب منها؛ لما رأوه من حسن الأخلاق في التعايش مع أفرادها مما أثمر بهجة منظر للمجتمع الإسلامي في مرأى بقية الأمم.

ثالثا: مقاصد القانون الجنائي:

تبدو مقاصدية هذا القانون في كونه يسهر على حفظ الأمن والنظام العموميين، ردعا للعصاة والجناة والبغاة، فالعقوبة جزاء تقويمي غائي يوّقع باسم المجتمع ينطوي على إيلام مقصود، تنفيذا لحكم قضائي يستند إلى نص قانوني يحددها على من تثبت مسئوليته عن الجريمة”(136)، ويترتب عليها إهدار وسلب حرية مرتكب الجريمة أو مصلحة له أو ينقصهما أو يعطل استعمالها(137)، بالقدر الذي يتناسب مع هذه الأخيرة “(138)، فالعقوبة إيلام قسري مقصود، يستهدف أغراضا أخلاقية ونفعية محددة سلفا، تنـزله السلطة العامة في مواجهة الجميع اقتضاء لحقها في العقاب حفظا للنظام العام وتحقيقا للاستقرار.

ومن ثم تهدف العقوبة في الفكر القانوني الغربي إلى إيقاع الجزاء على خرق القواعد الأخلاقية والقانونية والمصالح الفردية والجماعية(139)، مع مراعاة التناسب بين الجرم والعقاب، فلا إدانة ما لم تكن المنفعة المتحققة من إنـزال العقاب بالجناة نافعة، تمنع حصول الجريمة مستقبلاً، وحسب النظرية النفعية لا يمكن تبرير إنـزال العقوبة بالجاني، إلا إذا كانت الآثار الايجابية المتولدة عنها تفوق الآثار السلبية الناجمة عن الجريمة، وهنا يجب حسب فلسفة هذه المدرسة عدم اللجوء إلى العقوبات الصارمة التي تنـزل الأذى بالجناة، وأن لا تتجاوز هذه العقوبة الإصلاحية جوهر الشر والفساد الذي أحدثته الجريمة، وإلا كانت غير مبررة، كما أنه وفقا لنظرية الإصلاح والدفاع الاجتماعي فإن الغاية من العقوبة إصلاح الجاني عن طريق إعادة تأهيل الجاني اجتماعيا، فمقاصد القانون الجنائي وفقا لمناهج فلسفة التشريع الوضعي إيقاع الجزاء المناسب للجريمة بما يحقق الردع ويمنع من وقوع الجريمة في المستقبل، ويحقق إعادة تأهيل الجاني وانصلاحه مما يؤكد نفعية العقوبة ومقاصديتها في التشريعين الإسلامي والوضعي(140).

أما الفكر القانوني الإسلامى فمن غايات العقوبة الزجر والردع الكافي والمناسب للمحافظة على المصالح المعتبرة شرعا فالعقوبات شرعت جزاء ونكالا بالجاني ومنعا لغيره عن أن يرتكب الجريمة(141)، وهي ليست انتقامًا من الجاني بقدر ما هي تحقيق لمصالح البشر وحمايتها، ذلك أنه من الثابت عند النظّار في مقاصد العقوبات الشرعية أن الشريعة ليست بنكاية للأمة أو لأحد من أفرادها، بل أنها تحوم حول إصلاح حال الأمة في سائر أحوالها، فمقصد الشريعة من تشريع العقوبة ثلاثة أمور: الأمر الأول تأديب الجاني، وإصلاح خبثه ما لم تظهر شبهة في خطئه، والثاني إرضاء المجني عليه، وهو أعظم من تربية الجاني لما في الترضية من استئصال مظاهر الحنق والغضب والثأر والانتقام ومن ثم استقرار حال نظام الأمة، والأمر الثالث زجر المقتدي بالجناة، ومن ثم لم يجز كما يقول الطاهر بن عاشور أن تكون الزّواجر والعقوبات إلا إصلاحا لحال الناس بما هو اللازم في نفعهم دون ما هو دونه؛ ودون ما هو فوقه، لأنه لو أصلحهم ما دونه لما تجاوزته الشريعة إلى ما فوقه؛ ولأنه لو كان العقاب فوق اللازم للنفع لكان قد خرج إلى النكاية دون مجرد الإصلاح”(142)، وعندما يكون القانون الجنائي إنتاجا لسياسة جنائية متمكنة من غايتها، فإنها ستؤسس من دون شك محيطا راقيا، يفرض فيه القانون نفسه على الجميع ليس بالقوة ولكن بغايته المشروعة، وبالتالي فإن الأفراد سيتصرفون ليس بحسب أهوائهم، ولكن في مصلحة الجميع(143)، ومن هنا يتقرر بأنّ العقوبة في الإسلام رحمة وليست بنكاية(144) كما يتصورها علماء القانون الغربيوّن ومن حذا حذوهم، ممن يهوّل بشناعة العقوبة في الإسلام وأنها موضوعة أصالة لتعذيب الجاني، وإهدار لإنسانيته وكرامته، وهو خلاف الحقيقة.

فالعقوبة فيه ليست بنكاية، بل هي رحمة بالجاني خاصّة، وبالناس عامّة، وقد اعتبر العلامة ابن عاشور أنّ “انتفاء النكاية عن التشريع هو من خصائص شريعة الإسلام، ولذلك لم يجز أن تكون الزواجرُ، والعقوباتُ، والحدودُ إلا إصلاحاً لحال الناس بما هو اللاَّزم في نفعهم دون ما دونه، ودون ما فوقه، قال في محكم التنـزيل: (مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً) (النساء:147)، والحاصل أنّ معنى الزجر في العقوبة مقصود أصالة في التشريع، ولا يقصد الشارع إلى تطبيقها نكاية في الناس، وتعذيباً لهم، بل في تشريعها رحمة بالأفراد، ومصلحة للمجتمع، ولاسيما إذا كان بعدها التوبة النصوح والإنابة، فالنظام الجنائي الإسلامي لا يتشوف إلى تنفيذ العقوبة نكاية بأصحابها، يشهد لذلك تشدد الشارع في شروط إقامة الحدود؛ ووجوب الاحتياط فيها وكذا درء العقوبة الحدّية لمجرد الشبهة”(145).

كما تراعى المقاصد في مراعاة حالة الشخص وفقه الواقع والمتوقع منه، ذلك أن العدالة الاجتماعية أسبق من العدالة القضائية، فإذا وقعت الجريمة نظر القاضي في كل حالة انفرادية ليضمن أن فاعلها غير معذور، فيقيم عليه الحد، أو التعزير وقتئذ، فإذا قامت الشبهة فإنها تدرأ الحد، وبهذا المنطق اجتهد الخليفة عمر على وجه التحديد في قضية معروفة بتعطيل وتوقيف عقوبة القطع عام المجاعة، فقد رأى أن شبهة الجوع الملجئ إلى السرقة قائمة، فدرأ الحد بالشبهة، ولم يُقِم الحد حتى يطمئن أن مرتكب السرقة غير معذور في ارتكابها.

يقول الدكتور الحسيني سليمان جاد: “الأصل في العقوبات البدنية في الفقه الإسلامي أنها جُعلت لتُنفذ عندما يكون نظام الدولة قائما على أصول الإسلام، وتكون حياة الناس مدنيا واجتماعيا وسياسيا -من باب أوْلى- على ما وضع الإسلام من أسس ومناهج، والعلة في ذلك أن منهج الإسلام كلي لا يقبل التجزئة، فمثلا عقوبة الجلد أو الرجم أو القطع وهي العقوبات التي يُكاد للإسلام باسمها من بعض الجهلة أو الخائنين أو المأجورين، هذه العقوبات علاقتها وثيقة بقواعد الإسلام الاجتماعية… بمعنى أنه لا محل لإقامة حد الرجم أو الجلد على رجل أو امرأة في مجتمع قوانينه لا تحرم العري وروايات الجنس المرذولة في كل مكان… وهنا لو نُفذت العقوبة فإن تنفيذها أمر يجافي حكمة الشرع؛ لأن الأصل في العقوبة أنها دفاع شرعي عن المجتمع، ولا محل لشرعيتها إلا في مجتمع مسلم متكامل في كل شيء حتى تجد العقوبة محلا لها(146).

وبذلك يكون من أهم مقاصد القانون الجنائي في الفكرين الشرعي والوضعي هو تحقيق العدالة بتوقيع الجزاء العادل المقابل للجريمة بما يمنع وقوعها في المستقبل، فضلا عن استهدافها لاصلاح الجاني(147)، فالجريمة عدوان على العدالة والعقوبة عليها استرداد لحرمة العدالة وبذلك يتحقق الردع العام والخاص، وتلك مبادئ حركة الدفاع الاجتماعي التي تعتبر الجريمة نتيجة وليس سببا، مما يوجب الاهتمام بمحاربة أسباب الجريمة وليس للمعاقبة عليها، مع ضرورة التنبيه على التقارب بينهما في فلسفة العقوبة من حيث نفعية العقوبة وتابعيتها للهدف المسطر لها بخصوصية ثابتة في التشريع الإسلامي كونها شريعة معصومة وغير قابلة للتغيير كما هي القوانين العقابية المتغيرة بتغير السياسية الجنائية(148).

الخاتمة:

لا شك أن المقاصد الشرعية السماوية أرقى من أن تقارَن بأحرص عقل بشري في تحصيل المصالح الإنسانية، إلا أن هذه المقارنة تكون مبررة بالنظر إلى مقاصدها المعتبرة في الإصلاح التشريعي عبر منظومة مقاصد الشريعة تقريبا للقانون من الشريعة في بيان ضوابط المصالح المعتبرة، فالوعي بالاتجاه المقاصدي في فلسفة التشريع واستثماره في التطبيق والتنـزيل يؤدي إلى إعمال الدور الرسالي في اتخاذ الموقف من نظرية تحصيل المصالح والمنافع في الفكر القانوني الغربي، إما بموقف الآخذ المستفيد أو بموقف المعطي المفيد، وهو الدور الذي يجب تنميته في مسيرة الإنتاج المقاصدي المعاصر، فجوهر المقاصد هو حفظ المصلحة مطلقا في راهنها وفيما ستؤول إليها نتائجها، فإذا كان في أصول القوانين الوضعية ثمة ما يسمى بإرادة المشرع فإن في أحكام الفقه الإسلامي ما يسمى بمقاصد الشريعة، وثمة بون شاسع لصالح الثاني ولاشك، وقد قام علماء أصول الفقه بجهود جليلة القدر وصرفوا جهودهم للبحث في المقاصد والتقعيد لها والتأصيل لمبادئها.

وإذا كان مثل هذا الصنيع واضحاً فى أصول فلسفة القوانين الوضعية فيما يسمونه بنظرية القيم الموجهة لإرادة المشرع، فإنه فى أحكام الفقه الإسلامي المعتمد على أصول الشريعة أشد بياناً وأكثر وضوحاً وضبطا، فالدور التنموي التشريعي لعلم المقاصد من الضرورات العملية التي نحتاج إليها في العصر الحديث، بخلاف الدور الذي تضطلع به فلسفة القانون، ذلك أن القوانين ليست “غاية” في ذاتها، وإنما هي مجرد “وسيلة” لتحقيق خير “الإنسان والإنسانية”، وحتى يتحقق ذلك يجب ان يتحقق التوافق بين قصد المكلف وبين قصد الشارع، فمن قصد نقيض ما قصده الشرع كان بذلك مخالفا لمقتضى ما يستلزمه مبدأ الاستخلاف من طاعة وحكم بالعدل، وبذلك ينبغي على جميع الأحكام والتصرفات أن تتكيف في ضوء مقتضيات الغاية الكلية على وجه من التجانس والتكامل والتوافق، وبالتالي يجب على المشرع الوضعي حين يسن القانون، والقاضي حين يقوم بتنـزيل النصوص على الوقائع، أن يستحضر مقاصد وحكم وضعها؛ ومآلات تطبيقها.

لقد كشفت الدراسة أنه – رغم عدم وضوح نظرية المقاصد في التشريع الوضعي وعدم اكتمال نضوجها- جعلت بعض الفقه يستغني عن وظائفها بحكم أن التشريع الوضعي نصنعه بأيدينا ويختلف زمانا ومكانا، ويخضع للتعديل المتكرر مما يجعل مقاصده متغيرة وغير ثابتة؛ وأن البحث في مقاصد القانون الوضعي هو بحث في مقاصد واضع القانون أو الفئة النافذة أو الضاغطة، وفي أحسن تقدير هو بحث في مقاصد الأغلبية البرلمانية التي تحكمها قوى التحيز الحزبي والنفوذ المالي، فإن الغالبية من الفقهاء ترجح معقولية التشريع الوضعي وابتغائه لمقاصد ومصالح، يجب الكشف عنها لمعرفة الإرادة الحقيقية للمشرع حتى نستطيع توخي وفرز المصالح الحقيقية من المصالح الحزبية دون هوى أو غرض، وقد تم التمثيل لذلك بنماذج من فروع القانون في آخر هذه الدراسة، وحتى يتمكن القاضي في ظل تناهي النصوص وتنامي الوقائع من البحث عن إرادة المشرع العليا الموجهة من تحقيق العدل وحفظ للنظام ورعاية للحقوق والمصالح فحيث ما أسفر وجه الحق والعدل فثم مقصود القانون، على أن يراعى في وضع النصوص وفهمها وتنـزيلها نظرية المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية قال تعالى: (ولو اتبع الحقُّ أهواءَهُم لفسدت السمواتُ والأرضُ ومن فيهنَّ) فرعاية المقاصد عبارة حاوية للإبقاء والحفاظ على المصالح ودفع القواطع والأسباب التي تحول دون تحصيلها إقامة للمصالح الدنيوية والأخروية على حساب نظام لا يختل به نظام الإنسان مع الكون.

وهو بهذه الأهمية يجب أن يكون علما غائيا في مواجهته للواقع القانوني بقصد تغييره وإصلاحه، فلا تتوقف مهامه عند الوصف والتفسير، بل إن جوهر وظيفته في التقويم والتغيير، ومن ثم يكون دوره إسعاف القاضي في التعرف على أفضل الحلول وأقربها إلى العدالة، فكانت الحاجة إلى معرفة إرادة المشرع الحقيقية ضرورية لفهم النص وتفسيره وفقا لمقاصد وضعه خصوصا مجموعة القيم المصلحية المرعية في مختلف العلوم القانونية، فمع كَثرة المستجدات، وتشابك العلاقات القانونية، ازدحمت المصالح مع المفاسد، وحصل التعارض فيها بين القوانين، فظهرت الحاجة إلى ما يُسمَّى بفلسفة القانون وجوهره، الذي يقابله في علوم الشريعة علم المقاصد، فالغرض منه دفع استنباط مقاصد شرعية قطعية يقْطَع بها الخلاف، وتماشيا مع رسالة أسلمة المعرفة كأنموذج معاصر في فهم الإسلام ومنها المعرفة القانونية تحتاج إلى تفعيل أدوات الفكر المقاصدي في الشريعة الإسلامية استثمارا لها في تحديد فلسفة التشريع الوضعي في سعيها لوضع قانون معياري عادل ومتوازن.

إن اعتماد معظم المدارس القانونية على نظرية المنفعة المصلحة كمقصد للقانون جعل الحضارة الغربية مغلبة النموذج الإنسان النفعي المادي البعيد عن القيم الروحية والأخلاقية، فكان من الطبيعي الاستنجاد بنظرية المقاصد وتوظيفها في العملية التشريعية لكي يستطيع المشرع والقاضي تطبيق نصوص القانون التطبيق الصحيح واستكمال مافيه من نقص، والحمد لله رب العالمين.

* * *

الهوامش

1- د/محمد سليم العوا، فكرة المقاصد في التشريع الوضعي، – مقاصد الشريعة وقضايا العصر-، منشورات مؤسسة الفرقان للتراث الثقافي، ط1، 2011، ص 271.

2- د/محمد كمال الدين إمام، مدخل أصولي للمقاصد الشرعية، منشور ضمن كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية، الناشر: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي- مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن، ط1، عام 2007، ص 12.

3- د/عبد المجيد النجار؛ مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة؛ دار الغرب الإسلامي؛ ط2؛ سنة 2008؛ ص5.

4- د/عبد المجيد النجار؛ مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة؛ مرجع نفسه؛ ص18.

5- د/عبد النور بزا؛ مصالح الإنسان مقاربة مقاصدية؛ الناشر المعهد العالمي للفكر الإسلامي؛ط1؛ سنة 2008، ص 18.

6- ينظر: الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق: أبي عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان، ط1، سنة 1417هـ/ 1997م، ج2؛ ص375.

7- العز بن عبد السلام، مختصر الفوائد في أحكام المقاصد، ص 209.

8- د/جاسر عودة، مدخل مقاصدي للاجتهاد، منشور كتاب “مقاصد الشريعة وقضايا العصر” الناشر: مركز دراسات مقاصد الشريعة مؤسسة الفرقان، ص 46.

9- الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، 2/3.

10- د/عز الدين بن زغيبة، المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، القاهرة، دار الصفوة. ط: 1. (1417هـ/1996م). ص 43.

11- الشاطبي، الموافقات، من مقدمة الشارح عبد الله دراز، 1/3.

12 – الشاطبي، الموافقات، المرجع السابق، ص 17-18.

13- الشاطبي، الموافقات، 2/128.

14- الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة، تحقيق ودراسة: محمد الطاهر الميساوي، دار الفجر، دار النفائس، ط:8، ص 194.

15- د/ إسماعيل السعيدات؛ مقاصد الشريعة عند الإمام الغزالي؛ دارا لنفائس؛ ط1؛ 2011؛ ص 104.

16- د/عبد النور بزا؛ مصالح الإنسان مقاربة مقاصدية؛ مرجع سابق؛ ص 18.

17- علال الفاسي؛ مقاصد الشريعة ومكارمها؛ ص7.

18- د/ الريسوني؛ محاضرات في مقاصد الشريعة؛ ص103.

19- الشاطبي، الموافقات 2/ 323.

20- عمر بن صالح بن عمر، مقاصد الشريعة عند الامام العز بن عبد السلام، دار النفائس للنشر والتوزيع – الأردن، ط1، 2003 ، ص72.

21- شيخ الاسلام ابن تيمية، مجموع الفتاوى، دار عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع – الرياض، المجلد 25 (1991)، 282.

22- ابن قيم الجوزية، اعلام الموقعين عن رب العالمين، ج3، دار الكتاب العربي – بيروت، 1998، ص6.

23- العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، دار الكتاب العلمية، 1992، 1/7.

24- د/يوسف حامد العالم، المقاصد العامة للشريعة الاسلامية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي– فيرجينيا – الولايات المتحدة الأمريكية، 1991، ص80.

25- د/محمد نور الدين الخادمي، الاجتهاد المقاصدي، مفهومه – أصوله – ضوابطه، 1/57.

26- د/عبد الرحمن زايدي، الاجتهاد بتحقيق المناط وسلطانه في الفقه الإسلامي، ص260-261.

27- الشاطبي، الموافقات، 2 / 43.

28- الشاطبي، الموافقات 2/ 41و42.

29- د/ رجب بن علي العويسي، القانون وتربية الضمير، لأحد، 10 مارس، 2013 http://alhwaraleegabe.blogspot.com

30- ابن تيمية، جامع الرسائل، تحقيق: د/ محمد رشاد سالم، دار العطاء، الرياض الطبعة: الأولى 1422ه، 2001م، 2 /305.

31- د/ السيد ولد أباه، فلسفة الفقه.. إشكالات التأسيس، منشور على جريدة الاتحاد الإماراتية يوم الخميس 2/8/2012 على الرابط:

www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=69269

32- وفي القرن السابع عشر ظهر كتاب الفقيه الهولندي جروسيوس 1625م الموسوم بـ”قانون الحرب والسلام” وقد ذكر فيه تعريف القانون الطبيعي بأنه “قاعدة كشف لنا عنها العقل السليم ويتحتم بمقتضاها أن نحكم على عمل بأنه ظالم أو عادل قدر اتفاقه مع المعقول، ولقد أثرت عن جروسيوس هذا عبارته “لو كان الإله غير موجود لظل القانون الطبيعي في الوجود” ويظهر في هذا نفي الصبغة الإلهية وصبغ القانون بالإنسانية، أو نفي اللاهوت وإبقاء الناسوت، وهذا ظهر في سياق العلمانية والإلحاد الذي تشبعت به أوروبا الحديثة، وبذا يكون أساس مرجعية وشرعية المعايير القانونية هي دوماً المعايير نفسها التي تأخذ شكل هرم تراتبي ينظر د/لسيد ولد اباه، الشريعة وجدل التأسيس القانوني جريدة الاتحاد وجهات نظر تاريخ النشر: الإثنين 19 نوفمبر 2012 مرجع سابق.

33- المدرسي محمد تقي، التشريع الإسلامي- أصوله ومقاصده-، ج 3، ص 296.

34- صلاح الدين عبد الوهاب، الأصول العامة لعلم القانون -نظرية القانون-، مكتبة عمان، الاردن، 1968، ص74، وينظر د/ حسن الذنون، فلسفة القانون، مصدرسابق، ص 158 وما بعدها، ود/سليمان مرقس، مذكرات في فلسفة القانون لطلبة الماجستير، جامعة بغداد، عام 1968-1969، ص64.

35- د/السيد ولد أباه، مقاصد الشريعة من منظور فلسفة القانون: الفقه ونظرية الحق الطبيعي بحث ضمن اشغال ندوة علمية دولية حول موضوع: “مقاصد الشريعة والسياق الكوني المعاصر، الرباط 5/6 جوان2012، منشور على موقع مسارات بتاريخ الخميس / 29/1/1434هـ على الرابط: http://www.massarate.ma

36- د/السيد ولد أباه، مقاصد الشريعة من منظور فلسفة القانون: الفقه ونظرية الحق الطبيعي، مرجع سابق.

37- فارس حامد عبد الكريم، القانون والسلم الاجتماعي على الرابط:

http://al-nnas.com/ARTICLE/FHAbdkrem/14pc.htm

38- ابن تيمية، مجموع فتاويه، مرجع سابق، 20/48.

39- د/عبد السلام الرفعي، فقه المقاصد واثره في التفكير النوازلي، الناشر: دار إفريقيا الشرق–المغرب، 2004؛ ص 10.

40- د/رجب بن علي العويسي، القانون وتربية الضمير، الأحد، 10 مارس، 2013 http://alhwaraleegabe.blogspot.com

41- د/محمد سليم العوا، فكرة المقاصد في التشريع الوضعي، ص 272.

42- الشيخ معتصم سيد أحمد، التشريع الإسلامي بين التفكير المقاصدي والتفكير القيمي، مجلة البصائر؛ مركز الدراسات والبحوث الإسلامية، حوزة الإمام القائم، العدد (38) السنة 16 – 1426هـ/ 2005م على الرابط: http://albasaer.org/index.php/post/186

43- الشاطبي؛ الموافقات؛ ج1، ص 37.

44- الغزالي؛ المستصفى؛ ج1؛ ص288.

45- في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:”كل مولود يولد على الفطرة،…”وفي رواية مسلم زيادة ثم قال أبو هريرة: “واقرءوا إن شئتم: (فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق اللَّه) والإسلام باعتباره آخر الرسالات، وأنه دين عام لسائرالبشر، فقد جعله اللَّه سبحانه مساوقًا للفطرة، فلا يمكن جمع البشر وهم المختلفون في العوائد والمشارب، جمعًا عمليًّا، ما لم يرتكز هذا الاجتماع على شيء موجود في سائر النفوس، وهو الفطرة” وهي السلامة والقابلية والاستعداد والتهيؤ” ينظر دراسة للد/عبد الفتاح بن صالح قديش اليافعي، هل الفطرة دليل- دراسة تاصيلية- على الرابط: http://www.almostaneer.com

46- الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة، ص 271.

47- ينظر حول هذه الفكرة الباحث: أيمن أحمد الورداني؛ حق الشعب في استرداد السيادة؛ الناشر، مكتبة مدبولي؛ طبعة 2008؛ ص129.

48- د/ فهمي إسلام جيوانتو، سمو المقاصد الشرعية، بين الفلسفة النفعية والدور الرسالي ومقام العبودية، بحث مستل من رسالة دكتوراه: “مقاصد الشريعة ودورها في صياغة المستقبل”، جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، وهو منشور على مدونة آفاق المستقبل الرابط تاريخ الولوج: 8/11/2013 http://afaqmostaqbal.wordpress.com/2012/03/27

49- نفيسة دعبل، الموازنة بين حرفية نص القانون وروحه مطلبٌ لأنسنة القانون مقال منشور في صحيفة الوسط البحرينية – العدد 3671 – يوم الثلاثاء 25 سبتمبر 2012م الموافق 09 ذي القعدة 1433هـ.

50- د/محمد سليم العوا، فكرة المقاصد في التشريع الوضعي، ص275 .

51- الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة، ص 165.

52- د/ محمد سليم العوا، دور المقاصد في التشريع الوضعي، ص279 .

53- بتصرف د/ مسفر بن علي القحطاني؛ الوعي المقاصدي- قراءة معاصرة للعمل بمقاصد الشريعة في مناحي الحياة-؛ الناشر الشبكة العربية للأبحاث والنشر؛ بيروت ط1؛ سنة 2008؛ ص 91.

54- راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 19993م: ص358.

55- الجويني، البرهان، بيروت، دار الجيل. ط: 2. (1400هـ/1980م).ج1، ص 206 .

56- الجويني، البرهان، مرجع سابق، ج1، ص8.

57- الجويني، البرهان، مرجع نفسه ج1، ص11.

58- الشاطبي، الموافقات، 2/12.

59- الشاطبي، المرجع السابق، 2/9.

60- عبد النور بزا؛ مصالح الإنسان مقاربة مقاصدية؛ مرجع سابق؛ ص 36.

61- الإمام القرافي؛ الفروق؛ ج3، ص135، القاعدة 153.

62- الشاطبي، الموافقات، 2/37-40.

63- ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مرجع سابق، 20/48.

64- د/ أحمد الريسوني، مدخل إلى مقاصد الشريعة، الناشر المكتبة السلفية الطبعة الأولى 1996م، ص 8-9 .

65- د/ نور الدين الخادمي، الدليل عند الظاهرية، دار ابن حزم، ط1، 2000، ص39.

66- د/ أحمد الريسوني، الفكر المقاصدي: قواعده وفوائده منشورات جريدة الزمن، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1999ص 92 ·

67- الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة، تحقيق ودراسة: محمد الطاهر الميساوي، دار الفجر، دار النفائس، ط:8، ص847.

68- أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، دار االمعرفة، بيروت4/100.

69- ينظر بتصرف: ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ص 231- 232.

70- الشاطبي، الموافقات، 2/97.

71- الشاطبي، الموافقات، 3/176.

72- الشاطبي، الموافقات، 3/180.

73- الشاطبي، الموافقات، 3/175.

74- د/ يوسف حميتو؛ المقاصد ونقد منهج إعمال الكلي وإهمال الجزئي على الربط بتاريخ: 9/14/ / 2012 http://nama-center.com/ActivitieDatials.aspx?Id=123

75- د/حسن علي الذنون، فلسفة القانون، ص159 وما بعدها؛ ود/عبد الملك ياس، النظرية العامة للقانون، مطبعة العاني، بغداد، 1969، ص109، ود/صلاح الدين عبد الوهاب، الأصول العامة لعلم القانون، نظرية القانون، مكتبة عمان، الأردن، 1968، ص 36.

76- د/عبد الملك ياس، النظرية العامة للقانون، مصدر سابق، ص 109-110. ينظر: د/صلاح الدين عبد الوهاب، مرجع سابق، ص 111.

77- الشاطبي، الموافقات1/498.

78- د/ محمد سليم العوا، فكرة المقاصد في التشريع الوضعي؛ مرجع سابق، ص271.

79- د/ ميشال بونشير؛ مدخل إلى القانون ترجمة: نسيب أرزقي، دار القصبة للنشر؛ طبعة 2004، ص 7 و8.

80- د/فارس حامد عبد الكريم، أساس مقولة: -إن التشريع متى توقفت حكمته توقف حكمه- بتاريخ الولوج: 27 مايو 2013 على الرابط الإلكتروني:

http://www.babil-nl.org/b02x036fh.htm

81- د/ ميشال بونشير؛ مدخل إلى القانون، مرجع سابق، ص 23 وما بعدها.

82- د/ محمد نصر عارف،  المقاصدُ الشّرعيّةُ بين حيوية الفكرة ومحدودية الفعالية ؛ مجلةاسلامية المعرفة؛ العدد 49؛ على الموقع الإلكتروني للمجلة.

83- د/فائز محمد حسين، المقاصد الشرعية وفلسفة القانون؛ بحث منشور ضمن كتاب: مقاصد الشريعة والعلوم القانونية- مجموعة بحوث- الناشر: مركز دراسات مقاصد الشريعة مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، ط1، سنة 2011، ص76 وما بعدها.

84- د/فائز محمد حسين؛ مرجع سابق، ص72.

85- د/رجب بن علي العويسي، القانون وتربية الضمير، الأحد، 10 مارس، 2013 http://alhwaraleegabe.blogspot.com

86- قضية الرئيس روزفلت أصدرت بعض الولايات الأمريكية تشريعات إصلاحية لحماية العمال من تحكم أصحاب رؤوس الأموال الذين كانوا يفرضون شروط مجحفة بحق العمال عند تشغيلهم ويدفعون لهم أجور بائسة ويرغمونهم على العمل في ظل أوضاع مزرية للغاية، فأصرت المحكمة الأمريكية العليا منذ عام 1905 إلى عام 1936، على اعتبار تلك التشريعات غير دستورية بدعوى مخالفتها لمبدأ حرية التعاقد ومبدأ العقد شريعة المتعاقدين، ولما اشتدت الأزمة الاقتصادية العالمية منذ سنة 1929 إلى سنة 1932، لجأ الرئيس روزفلت إلى استصدار عدة قوانين لتنفيذ بعض الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، إلا أن قضاة المحكمة العليا حكموا بعدم دستورية هذه القوانين، فضاق الرئيس روزفلت ذرعا بأحكام أولئك القضاة، ونصحهم بمسايرة روح العصر بتأييد شعبي، إلا أنهم استمروا في مواقفهم المتشددة، فلجأ روزفلت إلى تهديدهم بإعادة تشكل المحكمة إذا استمروا في تعنتهم، واشتدت الأزمة حينما سَخر أصحاب رؤوس الأموال إمكانياتهم لمهاجمته في الصحف بعد أن اتهموه بالاستبداد ومخالفة أسس الحياة الديمقراطية، إلا أن المحكمة اضطرت أخيرا إلى أن تتراجع عن أحكامها السابقة وقضت بدستورية قوانين الإصلاح، وهكذا كان القضاء الأمريكي، الذي ينتمي إلى المدرسة الشكلية في القانون، سببا في تأخر الإصلاح الاجتماعي في الولايات المتحدة الأمريكية، قرابة ثلث قرن من الزمان .

87- د/ مصطفى الجمال، تجديد النظرية العامة للقانون؛ ص308.

88- الطعن رقم 2324 لسنة 72 ق جلسة 11/ 10 / 2004 مشار إليه عند المستشار القانوني إبراهيم خليل على الرابط: http://kenanaonline.com/users/ibrahimkhalil/posts/366299

89- د/فائز محمد حسين، المقاصد الشرعية وفلسفة القانون؛ مرجع سابق، ص9.

90- د/ بدر محمد، تاريخ النظم القانونية والاجتماعية، ج1، دار النهضة العربية؛ القاهرة ص257.

91- د/ فهمي إسلام جيوانتو، سمو المقاصد الشرعية، بين الفلسفة النفعية والدور الرسالي ومقام العبودية، مرجع سابق.

92- د/ فهمي إسلام جيوانتو، سمو المقاصد الشرعية، بين الفلسفة النفعية والدور الرسالي ومقام العبودية، مرجع سابق.

93- أخرجه الترمذي وابن ماجه بسند فيه ضعف، ولكن له شواهد قد ترفعه إلى درجة القبول ينظر المقاصد الحسنة: 1/310-312، وأخرجه ابن عبد البر بسنده موقوفا على علي ابن أبي طالب -رضي الله عنه- في جامع بيان العلم وفضله: 1/482 بلفظ: “الحكمة ضالة المؤمن يطلبها ولو في أيدي الشرط”.

94- د/فائز محمد حسين، المقاصد الشرعية وفلسفة القانون؛ مرجع سابق، ص101 وما بعدها

95- أحمد حسن إبراهيم، غاية القانون؛ الدار الجامعية للطباعة والنشر، 2000، ص53 وما بعدها.

96- د/فائز محمد حسين، المقاصد الشرعية وفلسفة القانون؛ مرجع سابق، ص9.

97- د/فائز محمد حسين؛ مرجع سابق، 130 وما بعدها.

98- أحمد حسن إبراهيم، غاية القانون؛ مرجع سابق، ص226.

99- د/ عوض صلاح على القوني، روح التشريع بين الإسلام والغرب، دار السلام مصر، ط1، 2013، ص 192.

100- د/ عوض صلاح على القوني، روح التشريع بين الإسلام والغرب، مرجع سابق، ص 199.

101- حسن الذنون، فلسفة القانون، ط1، 1975، ص33.

102- فارس حامد عبد الكريم القانون والسلم الاجتماعي على الرابط:

: http://al-nnas.com/ARTICLE/FHAbdkrem/14pc.htm

103- الشيخ زكي الدين شعبان؛ أصول الفقه الإسلامي؛ ص250؛ د/ عبد الحميد متولي؛ مبادئ نظام الحكم في الإسلام؛ ص394.

104- عيسوي احمد عيسوي؛ الفقه الإسلامي؛ مطبعة دار التأليف؛ ص110 ؛ وعبد الرحمن تاج؛ السياسة الشرعية والفقه الإسلامي؛ ص47.

105- الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص63.

106- عبد المجيد النجار؛ مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة؛ مرجع سابق ؛ ص161.

107- الأستاذ جورجيو ديل فيكو، تاريخ فلسفة القانون، نقلا عن د/ثروت أنيس الأسيوطي، مجلة القانون والاقتصاد، مصر، العدد1، السنة38، 1968، ص115 .

108- فارس حامد عبد الكريم القانون والسلم الاجتماعي على الرابط:

http://al-nnas.com/ARTICLE/FHAbdkrem/14pc.htm

109- هانس كلسن، النظرية المحضة في القانون، ترجمة: د/أكرم الوتري، منشورات مركز البحوث القانونية (11)، وزارة العدل، بغداد، 1986، ص 14.

110- عبد السلام آيت سعيد، الاجتهاد المقاصدي، – مفهومه مجالاته ضوابطه-، أطروحة دكتوراه، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط؛ سنة 2003؛ ينظر تقرير عنها على الرابط الالكنروتي: بتاريخ: يوم 13 – 10 – 2003

http://www.maghress.com/attajdid/9288

111- د/ محمد سليم العوا، دور المقاصد في التشريعات المعاصرة، ص 278 .

112- محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة، ص 405.

113- وفي إحدى القضايا التي حدثت بالمحاكم الفرنسية، وعندما كاد القاضي ينطق بالعقوبة ضد المتهم صرخت امرأة عجوز (الأم التي كانت متواجدة بالجلسة) وهي تقول إنه ولدي الوحيد الذي يعيلني ويرعاني… فما كان من القاضي حينها إلا أن خفف العقوبة وقال من أجل صراخ أمك فقط… أما في وقتنا الحاضر وفي بلداننا العربية تحديداً ينظر مقالة: نفيسة دعبل، الموازنة بين حرفية نص القانون وروحه مطلبٌ لأنسنة القانون مقال منشور في صحيفة الوسط البحرينية – العدد 3671 – يوم الثلاثاء 25 سبتمبر 2012م الموافق 09 ذي القعدة 1433هـ.

114- د/ جاسر عودة، مقاصد الشريعة تدعم أولوية التوافق الإسلامي العلماني، ندوة علمية نظمتها مؤسسة يقظة فكر، يوم: 12/03/2111؛ على الرابط:

http://www.onislam.net/arabic/madarik/culture-ideas

115- الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة، ص 358.

116- د/ محمد سليم العوا، دور المقاصد في التشريع الوضعي، ص 279.

117- السيد ولد أباه، الشريعة وجدل التأسيس القانوني جريدة الاتحاد وجهات نظر تاريخ النشر: الإثنين 19 نوفمبر 2012 على الرابط :

http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=69269

118- د/السيد ولد أباه، مقاصد الشريعة من منظور فلسفة القانون: الفقه ونظرية الحق الطبيعي بحث ضمن اشغال ندوة علمية دولية حول موضوع: “مقاصد الشريعة والسياق الكوني المعاصر، الرباط 5/6 جوان2012، منشور على موقع مسارات بتاريخ الخميس / 29/1/1434هـ على الرابط: http://www.massarate.ma

119- د/ أحمد القديدي؛ إقرار الحريات مقدم على تطبيق الشريعة: تعليق على موقع الجزيرة نت؛ حول حصة الشريعة والحياة02/12/2004

120- ينظر تفصيل قضية الحرية أولا وآخرا في العمل الإسلامي عند: فهمي هويدي؛ القرآن والسلطان؛ دار الشروق؛ ط5؛ 2003؛ ص 20-26

121- محمد بن المختار الشنقيطي، الشرعية قبل الشريعة؛ مركز الراية للتنمية الفكرية” في دمشق أو جدة المصدر: الجزيرة نت.

122- د/ مسفر بن علي القحطاني؛ سيادة الأمة في سياق النظر المقاصدي.

http://www.sauress.com/alhayat/363758

123- ينظر دراسة أ/عبد الله المالكي؛ سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة وما آثارته من ردود وأحدثته من نقاش حول قضية دور الإرادة العامة في تطبيق الشريعة؛ وأيهما أسبق؛ وهي دراسة جريئة في طرحها وتعد بمثابة ثورة حقيقية في الفكر الإسلامي المعاصر، في مجال أولوية تقديم مبدأإقرار الحريات والديمقراطية في المجتمعات المسلمة على مبدأ تطبيق الشريعة، حيث نادى صاحب الكتاب أعلاه بتغيير شعار “الإسلام هو الحل” بشعار “سيادة الأمة هي الحل” ذلك أن تطبيق الشريعة لا يمكن أن يكون إلا تعبيرًا عن سيادة الأمة وإرادتها بعيدًا عن استغلال الشريعة من قبل الحاكم الفرد المستبد، ذلك أن سيادة الأمة مقدمة ضرورية لضمان محاولات تطبيق الشريعة؛ فهي درجةٌ في سُلَّم توفير الإمكانات ووسائل الاستطاعة التي تضمن تأثير تطبيق الشريعة ورسوخه. ينظر قراءة في كتاب سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة على الرابط: http://aafaqcenter.com/index.php/post/1169 وينظر أيضا تعليقا على الدراسة د/وائل الحارثي؛ سيادة الأمة مُقدِّمةٌ لضمان نجاح تطبيق الشريعة:

http://www.muslm.net/vb/showthread.php?461271

124- د/ جاسر عودة، مقاصد الشريعة تدعم أولوية التوافق الإسلامي العلماني، ندوة علمية نظمتها مؤسسة يقظة فكر، يوم: 12/03/2011؛ مرجع سابق.

125- د/ أحمد الريسوني، تقريب مقاصد الشريعة، ندوات ومحاضرات، على الموقع الشخصي له، تاريخ الولوج: 8/11/2013، على الرابط الإلكتروني:

http://www.raissouni.org/?info=3286

126- د/عبد المجيد النجار، مآلات الأفعال وأثرها في فقه الأقلّيات بحث مقدم للدورة التاسعة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث جمادى الأولى 1423 هـ يوليو 2002م، باريس – فرنسا، ص1.

127- الشاطبي، الموافقات، 2/ 177-78.

128- د/ عبد المجيد النجار، مآلات الأفعال وأثرها في فقه الأقلّيات مرجع نفسه، ص2.

129- أندريه هوريو، القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، ج1، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت، 1974، ص39.

130- ابن عاشور؛ المرجع السابق؛ ص300.

131- د/ عبد الجليل محمد علي؛ مبدأ المشروعية في النظام الإسلامي؛ والأنظمة القانونية المعاصرة؛ ط1؛ سنة 1984؛ ص 18.

132- الشاطبي؛ الاعتصام ؛ ص74.

133- د/ حمادي العبيدي؛ الشاطبي ومقاصد الشريعة؛ منشورات كلية الدعوة الإسلامية؛ طرابلس؛ ليبيا؛ ط1؛ سنة 1992؛ ص241.

134- د/ رشيد بن عياش، مفهوم المصلحة العامة، بحث منشور على جريدة الحوار المتمدن العدد2954، بتاريخ:24/03/2010.

135- د/جمال الدين عطية؛ نحو تفعيل مقاصد الشريعة؛ المعهد العالمي للفكر الإسلامي دار الفكر –دمشق – ط1 ؛سنة 2001؛ ص119.

136- د/ محمود محمود مصطفى، شرح قانون العقوبات؛ القسم العام، ، دار النهضة العربية، القاهرة، ط 10، 1983م، ص 555.

137- د/عبد الفتاح مصطفى الصيفي، الأحكام العامة للنظام الجزائي، مطبوعات جامعة الملك سعود، الرياض، ط 1995، ص 483.

138- د/بلال عوض، النظرية العامة للجزاء الجنائي، ص13.

139- د/صبري محمد خليل، أهداف العقوبة في الفكر القانوني المقارن، صحيفة سودانايل بتاريخ: الاثنين 1 ديسمبر 2012على الرابط الالكتروني: http://www.sudanile.com.

140- د/عبد المجيد قاسم عبد المجيد، فلسفة العقوبة في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي- عرض وموازنة- منشورات مجلة الجامعة الإسلامية العالمية ماليزيا، المجلد9، العدد1 سنة 2012، ص73.

141- محمد أبو زهرة، الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامى، العقوبة، دار الفكر العربي، ص192.

142- الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق: الطاهر الميساوي، ط1، سنة 1998، ص 239، وص379.

143- د/عبد المجيد قاسم عبد المجيد، فلسفة العقوبة في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي- عرض وموازنة- مرجع سابق، ص67.

144- د/حسن هنداوي، مقاصد التشريع الجنائي الإسلامي، على الرابط:

http://www.iumsonline.net/ar/default.asp?ContentID

145- د/محمد عبد الله ولد محمدن الشنقيطي، أنواع العقوبات البديلة التي تطبق على الكبار، ملتقى الاتجاهات الحديثة في العقوبات البديلةجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية السبت 17-19 /11/1432، ص7.

146- الحسيني سليمان جاد، العقوبة البدنية في الفقه الإسلامي، دار الشروق، القاهرة، 1991م.ص13-14.

147- د/محمد سليم العوا، في أصول النظام الجنائي الإسلامي، دار نهضة مصر، القاهرة طبعة 2006، ص91.

148- د/عبد المجيد قاسم عبد المجيد، فلسفة العقوبة في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي- عرض وموازنة-، مرجع سابق ص92.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر