أبحاث

التجديد في أصول الفقه

العدد 125- 126

مقدمة:

يعد أصول الفقه من أهم العلوم التي أنتجها العقل المسلم، بهدف ضبط عملية الاجتهاد الفقهي، ووضع الأدوات المعرفية اللازمة لاستنباط الحكم الشرعي، وضمان تنزيله على الواقع الإنساني المتغير، بما يحقق مقاصد الشرع السامية. ونظرا لارتباط هذا العلم – أساسًا- بممارسة العملية الاجتهادية، فإن أهميته تضاءلت في عصور التقليد؛ حيث تحول إلى علم نظـري بحت، تكاد تنعدم الحاجة إليه. إضافة إلى أن جنوح منهج التأليف – لدى أكثر المتأخرين – نحو اختصار العبارة وتعقيدها، جعل أصول الفقه من العلوم العالية الصعبة، وحال دون حدوث الملكة الأصولية للدارسين.

ووعيا بدور أصول الفقه في استئناف المسار الاجتهادي، فقد دعا رواد حركة الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث إلى تجديد علم الأصول، وذلك ضمن دعوتهم إلى تجديد علوم الشريعة، من أجل تحقيق نهضة شاملة تخرج الأمة من مأزقها الفكري وأزمتها الحضارية. وفي بداية السبعينيات برزت قضية تجديد أصول الفقه من خلال دعوة مجلة المسلم المعاصر إلى ضرورة الاجتهاد في علم الأصول، باعتباره منهجًا للفكر، يمكن أن يسهم في إثراء مشروع إسلامية المعرفة. ولأن هذا الطرح لا يحصر التجديد في الجوانب الشكلية للعلم، بل يوسع دائرته لتشمل المضمون أيضا، فقد اختلفت الآراء حول هذه الدعوة بين قلة مؤيدة، وأغلبية متحفظة، ولكل فريق دوافعه ومبرراته.

من هنا اكتسبت قضية تجديد أصول الفقه طابعا إشكاليا؛ حيث أثيرت عدة تساؤلات عن المعنى المقصود بتجديد العلم الموروث؟ وما ضوابط هذه العملية؟ وما المجالات التي يمكن للتجديد ارتيادها؟ وما الوسائل المعتمدة لتنفيذ أي مشروع تجديدي؟ وغيرها من الأسئلة الملحة التي تتطلب أجوبة علمية وافية.

وقد بدأ اهتمامي بهذه القضية في أوائل التسعينيات، بعد إطلاعي على المناقشات التي نشرتها مجلة المسلم المعاصر حول إمكان الاجتهاد في علم الأصول، وكذا كتاب «تجديد أصول الفقه الإسلامي» للدكتور حسن الترابي. ولأن هذا الاهتمام تزامن مع فترة بحثي عن موضوع للدكتوراه، فكرت في تقديم مشروع حول قضية التجديد، غير أنني صرفت النظر عنه، لقلة المادة العلمية المتوفرة لدي. لكن لقائي بفضيلة الأستاذ الدكتور: علي جمعة محمد – حفظه الله – أحيا الفكرة مجددا، وفتح آفاقا واسعة للكتابة في الموضوع؛ حيث زودني بمادة علمية وفيرة، كما اقترح جعل بحثه الرصدي حول دعاوى التجديد في أصول الفقه، قاعدة انطلاق نحو دراسة تأسيسية تتناول القضية من جميع جوانبها.

وهكذا بدأت رحلتي العلمية التي تضافرت عدة أسباب شجعتني على المضي فيها، منها:

1 قناعتي بأن تجديد علوم الشريعة، بما يحقق غايتها في حفظ الدين والتمكين له، ينبغي أن يكون من أولويات العقل الفقهي المعاصر، حتى يستأنف المسار الاجتهادي، الذي يعد أصول الفقه أداته الرئيسة.

2 الغموض الذي اكتنف الدعوة إلى تجديد أصول الفقه، والشبهات التي أثيرت حولها؛ لكون التجديد أحد المفاهيم المشتركة بين تيارات فكرية، مختلفة المشارب والنـزاعات.

3 الحاجة العلمية لرصد دعاوى التجديد، وتصنيفها، ودراستها؛ بغية التوصل إلى بناء تصور شامل عن تجديد يحسن استثمار الموروث، ويضيف إليه ما يجعله أكثر فاعلية وقدرة على مواجهة المحدثات كلما دعت الحاجة لذلك.

إن هذه الدراسة تكتسي أهمية علمية وعملية، تتجلى مظاهرها فيما يأتي:

أ- جمع أدبيات إشكالية التجديد في أصول الفقه ضمن أول رسالة أكاديمية موسعة حول هذا الموضوع؛ تنطلق من قراءة تقويمية لواقع العلم الموروث، وتكشف عن بواعث الدعوة إلى التجديد ومراميها، وتضع أسس العملية التجديدية وضوابطها، كما تحدد بدقة مجالاتها. إضافة إلى تناول دعاوى التجديد وفق رؤية نقدية، تستبعد المنقوض وتستلهم المزايا.

ب- محاولة الوصل بين العلم الموروث ومراجعات الفكر الأصولي؛ لأن من شأن ذلك إثراء العلم وترشيد مساره، بما يضمن استمرار فاعليته كأداة منهجية قادرة على مواجهة المحدثات.

جـ- وضع مقترح لتجديد أصول الفقه، يقوم على تحديد هدف التجديد المنشود، وبيان وسيلة تحقيقه، وكذا الخطوات الإجرائية لتنفيذه.

أما الأهداف المراد تحقيقها، فتتلخص فيما يلي:

أولاً: بيان مدى حاجة العلم الموروث للتجديد، وذلك من خلال عملية تقويم شاملة لواقعه، تبرز مواطن القوة فيه، وتكشف عن مكامن القصور الذي اعتراه.

ثانيًا: تكوين رؤية علمية واضحة حول واقع الدعوة إلى التجديد؛ بالتعرف على مبررات المتحفظين منها، ودوافع الدعاة إليها. إضافة إلى الكشف عن مدى إسهام المحاولات التجديدية في تحقيق مرادها، ومدى الاستفادة منها في إحداث التجديد المنشود.

ثالثًا: وضع أسس للتجديد وضوابطه، حتى تكون معيارا يُحتكم إليه في قبول دعاوى التجديد أو رفضها.

رابعًا: رسم خطة تنفيذية للتجديد، تمكن من بناء العقلية الأصولية القادرة على الجمع بين استيعاب التراث، وإدراك الواقع، وكيفية الوصل بينهما.

وقد استخدمت الدراسة في تناول مباحثها ثلاثة مناهج، هي:

1 المنهج الوصفي الذي اعتمد في عرض واقع أصول الفقه، من خلال بيان حقيقة هذا العلم، ورصد مظاهر أزمته، والتعرف على أسبابها.

2 المنهج التحليلي الذي استفيد منه في تحليل مضمون المحاولات التجديدية؛ وذلك بتحديد مفهوم التجديد لديها، والباعث عليه، والهدف منه، وعرض الرؤية التجديدية من خلال إبراز محاورها الرئيسية.

3 المنهج النقدي الذي استخدم في تقويم دعاوى التجديد، وذلك بالتركيز على إبراز فوائدها، ومآلاتها، ومدى الاستفادة منها في إحداث التجديد المنشود.

محتوى الدراسة:

لقد اقتضت طبيعة الموضوع جعل البحث في مقدمة، وثلاثة أبواب، وخاتمة. وفيما يلي عرض لمحتوى الدراسة.

الباب الأول: هو عبارة عن مدخل إلى التجديد في أصول الفقه، ويشتمل على تمهيد وثلاثة فصول. خصصت التمهيد للتعرف على مفهوم التجديد في التصور الإسلامي، وذلك بالرجوع إلى أصله اللغوي، واستعمالاته في نصوص القرآن والسنة المطهرة، ومحاولة الوقوف على معناه الاصطلاحي فبي التراث الإسلامي وعند المعاصرين. كما ميزت التجديد عن غيره من المصطلحات المشابهة، كالإحياء، والاجتهاد، والتجدد.

وانطلاقًا من أن المصطلحات يمكن أن تتحد اسما وتفترق معنى من نسق معرفي لآخر، نتيجة اختلاف الملابسات التي أحاطت بالسياق الحضاري الذي نشأ فيه كل نسق، فقد حرصت على إبراز الفرق بين التجديد في التصور الإسلامي، والتجديد في المفهوم الغربي.

أما الفصل الأول، فجعلته للتعريف بأصول الفقه ومناهج التأليف فيه؛ لأن من المقدمات الأساسية التي ينبغي أن تنطلق منها أي دعوة إلى التجديد في أصول الفقه تصورها العميق والدقيق للمبادئ التي يقوم عليها هذا العلم، وبها يتميز عن غيره. إضافة إلى الإحاطة بالثروة المنهجية التي أنتجتها قرائح الأصوليين عبر العصور.

وفي الفصل الثاني، رصدت مظاهر أزمة العلم وكشفت عن أسبابها. فقد تبين من خلال تقويم واقع التأليف الأصولي، ومنهجية تدريس العلم، وجود جملة من الإشكالات التي تحول دون الاستفادة من العلم باعتباره أداة للاجتهاد. وتتلخص أهم إشكالات التأليف الأصولي فيما يلي:

أولاً: غياب الجانب الإجرائي الذي يعنى بـبـيان كيفية تشغيل القواعد الأصولية في استنباط الأحكام الشرعية. ولا يخفى ما يترتب عن ذلك من إبعاد العلم عن وظيفته الأساسية.

ثانيًا: الاستطراد في عرض مسائل علوم الاستمداد، كاللغة، والمنطق، والكلام. مما جعل العلم يبدو وقد انحرف عن قضاياه الأساسية. فضلا عما في ذلك من الاستنـزاف لجهد الدارس فيما لا علاقة له بعملية الاستنباط الفقهي.

ثالثًا: عرض المسائل الأصولية بصورتها الخلافية، مما أضفى على العلم نزعة الجدل والاختلاف التي كثيرا ما تترك الدارس حيران وقد تكافأت لديه الأدلة.

رابعًا: ضمور البعد المقاصدي في النسق الأصولي، مما أدى إلى غلبة منطق الفهم اللغوي للنص، وابتعاد العلم عن الواقع. إضافة إلى عجزه عن تضييق دائرة الاختلاف الفقهي.

خامسًا: الفصل بين النظري والتطبيقي؛ حيث يتم – غالبا – عرض الأدلة والقواعد بشكل تجريدي يتناسب مع طبيعة العلم المنهجية، مما أخل بمواصفات الكتاب التعليمي النموذجي، وما يتطلبه من عناية بالجانب التطبيقي؛ لتوضيح وترسيخ مفهوم الدليل أو القاعدة، وبيان الكيفية التي بها تم الاستثمار.

سادسًا: البعد عن الواقع المعاصر الذي عرف تغيرات كثيرة، نتج عنها قضايا جديدة. وقد استحدثت علوم ومناهج للتعامل مع هذا الواقع الذي استأثرت بدراسته العلوم الإنسانية والاجتماعية. وبما أن وظيفة المجتهد هي استنباط الحكم الشرعي وتنزيله على الواقع، فإن تحصيل آليات معرفة محل الحكم يعد شرطا ضروريا في العملية الاجتهادية، لكي تتحقق الموافقة الدقيقة بين الحكم ومحله.

سابعًا: توقف نمو العلم؛ حيث انحصر التأليف الأصولي لدى أكثر المتأخرين في الشروح والحواشي والتقريرات والمختصرات.

أما إشكالات واقع التدريس، فتتمثل فيما يأتي:

أولا: الافتقار إلى الكتاب الأصولي النموذجي، المناسب لتدريس العلم؛ حيث تم الاعتماد على مؤلفات المتأخرين التي كتبت بلغة دقيقة وعبارات مركزة، مما جعل مهمة الأستاذ تكاد تنحصر في فك العبارة الأصولية، ومحاولة تقريـبها لأذهان الطلبة.

ثانيًا: اختزال مسائل العلم؛ بسبب الالتزام بحجم محدد، فرضه نظام التعليم الحديث. وقد ترتب على ذلك تخرج الطالب بتصور مبتور ومشوش عن العلم، يصعب تداركه لاحقا.

ثالثا: قصور منهجية التعامل مع كتب التراث، والذي يؤكده معاناة الباحثين عند رجوعهم إلى المصادر الأصولية أثناء إعداد رسائلهم العلمية. الأمر الذي يتطلب بحث الوسائل الكفيلة بتحقيق الاستفادة المرجوة من هذه الكتب

رابعًا: غياب التدريب على كيفية استخدام القواعد الأصولية في استنباط الأحكام الشرعية. وهذه حلقة مفقودة في جميع مراحل الدراسة الجامعية التي يفترض أن توسع مدارك الطالب، وتنمي مهارته، وتبني ملكته.

خامسًا: عدم الالتزام بأهداف العلم، وأهمها إنشاء ملكة الاجتهاد، مما حول أصول الفقه إلى أداة معطلة، وجعل تحصيله من قبيل الترف الفكري.

سادسًا: غياب التخطيط العلمي لإعداد المجتهد المعاصر. ولما كان أصول الفقه أحد العلوم الأساسية في بناء العقلية الاجتهادية، فإن دراسته لابد أن تخدم هذه القضية التي أصبحت تمثل تحديًا صارخًا يواجه الأمة في ظل هذا المفصل الزمني الحاسم الذي تمر به، وطبيعة القضايا المطروحة.

وبالنسبة لأسباب أزمة العلم، فقد قسمتها إلى أسباب مباشرة، وأخرى غير مباشرة. أما الأسباب المباشرة، فهي المتصلة بالمناخ العلمي الذي أحاط بأصول الفقه. وتتمثل في الآتي:

1 سيطرة روح التقليد على العقل الفقهي، والتي حالت دون استخدام أصول الفقه باعتباره أداة للاجتهاد.

2 انعدام الجهود الجماعية المنبثقة عن خطة تنفيذية مدروسة لتجديد العلم، مما جعل بعض المحاولات الفردية تكاد تكون نسخًا مكررة.

3 شيوع عقلية الوهن الحضاري التي امتدت لتشل حركة الإبداع العلمي في شتى المجالات، بما في ذلك علوم الشريعة، ومنها أصول الفقه.

أما الأسباب غير المباشرة، فيمكن إجمالها في عاملين أساسيين، هما:

أ- الفصام بين السلطة السياسية والعلماء، قد أدى إلى استـئثار الحكام بتنظيم الجانب السياسي والمالي، وانحسار مسئولية العلماء السياسية والاجتماعية، مما أثر على توجيه مسار العقل الفقهي وما أنتجه من علوم.

ب- استبعاد تطبيق الشريعة وإحلال القوانين الوضعية مكانها، أفقد الفقيه مجال الممارسة العملية التي تعد المحك الذي يكشف مدى قدرة الأدوات المنهجية على أداء وظيفتها، ويحرك العقل للإجابة عن المشكلات المستجدة التي يفرزها الواقع المتغير.

وفي الفصل الثالث، تناولت موقف العلماء من الدعوة إلى تجديد مضمون أصول الفقه، وحاولت وضع أسس التجديد المنشود وضوابطه؛ لتكون معيارًا يُحتكم إليه في قبول المحاولات التجديدية الجادة، ورفض الدعاوى السقيمة المتهافتة. فبالنسبة لموقف العلماء من القضية يمكن حصره في اتجاهين أساسيين هما: الاتجاه المتحفظ من التجديد، ويمثله أغلب المتخصصين في أصول الفقه وسائر علوم الشريعة، ممن ينـتمون إلى الأزهر الشريف، وغيره من الجامعات الإسلامية. والاتجاه الداعي إلى التجديد، الذي يضم بعض أساتذة أصول الفقه ومتخصصين في العلوم الاجتماعية والإنسانية. وتتلخص مبررات الفريق الأول فيما يلي:

1 اكتمال بناء العلم واستقرار قواعده.

2 صعوبة تجديد مضمون العلم.

3 التخوف من اتخاذ التجديد ذريعة لهدم الدين والتفلت من أحكامه.

أما دوافع الفريق الثاني، فهي:

1 عدم كفاية التجديد الشكلي في حل أزمة العلم.

2 اندراج أصول الفقه ضمن التراث الفكري الإسلامي، الذي يمكن أن يخضع للتقويم والمراجعة المستمرة.

3 حاجة الاجتهاد المعاصر إلى منهج أصولي جديد يتلاءم مع الفقه الجديد.

4 الحاجة إلى بناء نظام معرفي إسلامي تنطلق منه العلوم الاجتماعية و الإنسانية.

وبالتأمل فيما ذهب إليه كل من الفريقين، يمكن القول أن منشأ الخلاف حول قضية تجديد أصول الفقه، يكمن في جملة أمور:

أ- الارتباط بالنموذج المعرفي السائد في التعامل مع أصول الفقه كنسق مغلق، وهو ما يجعل من الدعوة إلى تجديد مضمون العلم، بحجة عدم وفائه بحاجات الاجتهاد المعاصر، عملا جريئا لما فيه من خرق للتوجه العلمي الذي ارتبطت به العقول وألفته.

ب- هيمنة روح التقليد على العقول رغم الدعوة إلى استئناف المسار الاجتهادي، ومن ثم فلا غرابة أن يتحفظ من التوسع في الدعوة إلى تجديد أصول الفقه.

جـ- الشبهات المثارة حول مصطلح التجديد؛ نتيجة شيوعه في تاريخنا الحديث ضمن ثنائيات عصر النهضة، واحتلاله من قبل العلمانيين العرب.

د- عدم امتلاك الوعي الكافي بمتغيرات الواقع الجديد الذي ارتبطت مشكلاته الكبرى بالأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية والسياسية. وهو أمر لا يتحقق إلا بفقه دقيق للواقع في أحد مجالاته.

و- الافتقار إلى نموذج يؤكد جدية الدعوة إلى التجديد، مما حمل الاتجاه المتحفظ على وصفها بالغموض والتعميم.

ي- عدم وجود حوار علمي جاد بين الفريقين، يسمح باتخاذ موقف موضوعي تجاه قضية التجديد، رغم طرحها منذ ما يربو عن ربع قرن.

ولكي يكتسب التجديد مصدر الشرعية وسلامة المنهجية، فلا بد أن يتم وفق أسس وضوابط من شأنها خدمة أصول الفقه لا هدمه. من هنا، جاء تركيز الدراسة على وضع أسس وضوابط لهذه العملية، وهي عبارة عن شروط يجب أن تتحقق في صاحب الدعوة التجديدية، وفي الدعوة نفسها.

فبالنسبة للأسس التي لا بد أن ينطلق منها صاحب الدعوة:

1 التزام موقف التحيز للإسلام؛ لأن التلبس بأي مقررات أجنبية صادرة عن توجهات عقدية أو فلسفية مخالفة للإسلام، يبعد عن الموضوعية، ويوقع في دائرة التقليد والتبعية للآخر.

2 الإيمان بفكرة التجديد باعتبارها واجبا شرعيا يفرضه الالتزام بالمشروع الحضاري الإسلامي، الرامي إلى التمكين لدين الله في الأرض.

3 الأهلية العلمية التي لا تدرك إلا بالاستيعاب التام للتراث الأصولي وحصول الملكة. إضافة إلى معرفة بالمناهج الحديثة لدراسة الواقع الإنساني.

أما ضوابط الدعوة التجديدية، فتتمثل في الآتي:

1 أصالة المنطق والمنهج معا، ويتحقق ذلك باتخاذ التراث الأصولي محورًا أساسيًا للعملية التجديدية، واستبعاد التطبيق الآلي للمناهج أو النظريات الغربية في تقويم العلم، أو محاولة تجديد مضمونه.

2 الالتزام بمجال التجديد الذي يمكن التمييز فيه بين دائرتين أساسيتين:

أولهما تتضمن أمورا جوهرية يجب المحافظة عليها، وهي:

أ‌ أركان العلم المتمثلة في الأدلة الشرعية، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد.

وكذا ما يندرج تحتها من تفصيلات تشكل بناء معرفيا، هو ثمرة جهود عقلية بالغة الدقة والإحكام.

ب‌-    المصطلح الأصولي الموضوع بإزاء المعنى، كالإجماع، والقياس، والمصلحة وغيرها.

لأن لكل علم مصطلحاته التي يستقل أهله بوضعها وفق شروط محددة.

إضافة إلى أن تغيير المصطلح يمكن أن يفضي إلى هدم أركان العلم، وتمييع مفاهيمه.

أما الدائرة الثانية، فتشتمل على جوانب يمكن استكمالها، أو تغييرها، أو حذفها. فمن الأمور التي يجب حذفها:

أ- الاستطراد فيما لا يستفاد منه في عملية الاستنباط الفقهي كبعض المسائل الكلامية واللغوية.

ب- كثرة التعريفات والمبالغة في التفريع.

جـ- الطريقة الجدلية في عرض المسائل.

أما ما يجوز تغييره فيشمل الناحيتين الآتيتين:

أ- الجانب التنظيمي في العلم ( إعادة الصياغة، التبويب ).

ب- الجانب المتعلق بالعملية التعليمية.

وبالنسبة لما ينبغي استكماله، فيتمثل في الآتي:

أ- الاهتمام بعمليات التنظير الأصولي.

ب- التوسع في دراسة آليات الاجتهاد والتدريب عليها.

جـ- تطوير الدراسات المقاصدية وتطبيقاتها.

د- رصد الاستقراء الذي أنتج القواعد الأصولية.

هـ- الترجيح في المسائل المختلف فيها.

لقد رصدت هذه الدراسة حوالي 60 دعوة تجديدية، لكنها اكتفت ببحث 24 نموذجا فقط؛ لأن بعض الدعوات لم تقدم محاولة أو مشروعًا تجديديًا يكون محلاً للنظر فيه. كما أن بعضها أعاد عرض رؤية سبقه غيره بها، فكان ذكر المتقدم مغنيا عن المتأخر. ونظرًا لصعوبة تصنيف أصحاب الدعوات التجديدية ضمن اتجاهات أو مدارس فكرية بالمعنى الدقيق، جاء التقسيم بناء على تعلق الفكرة المحورية للدعوة، بتجديد العلم من حيث شكله أو مضمونه.

فبالنسبة للتجديد من حيث الشكل تناوله الباب الثاني ضمن أربعة فصول، وذلك على النحو الآتي:

أولاً: تجديد الأسلوب وطريقة العرض:

اتخذ هذا المفهوم للتجديد الصور الآتية:

1 اعتماد منهجية جديدة في التأليف الأصولي، تتحاشى سلبيات الطريقة التقليدية القائمة على عرض مباحث العلم من خلال المتون وما كتب عليها من شروح وتعليقات وتقريرات. وذلك بهدف تيسير العلم وتقريبه للدارسين. هذه الدعوة بدأت على يد مدرسي القضاء الشرعي ودار العلوم في بداية القرن (20)، ثم اتسع مداها خلال العقود الثلاثة الأخيرة منه؛ حيث أصبحت الطريقة السائدة لدى أساتذة كليات الشريعة والحقوق.

وقد خلصت الدراسة إلى أن اعتماد المنهجية الحديثة في التأليف ساهم في تيسير العلم، ومكن من بناء تصور عام عن جميع مباحثه، إلا أنه لم يستطع تكوين ملكة فهم كتب التراث الأصولي، مما أوجد قطيعة بين الباحثين ومصادر العلم، وجعلهم يتفهمونها بصورة سطحية أو خاطئة، مما نتج عنه في النهاية ندرة الأصولي المتمكن الذي تحتاجه عملية التجديد، إضافة إلى أن المبالغة في انتقاص الطريقة التقليدية في التأليف، أوهم أنه لا فائدة ترجى من دراستها، والأمر خلاف ذلك. لأن حسن الاستثمار لهذا النوع من المؤلفات في مناهجنا التعليمية، يمكن أن يحقق نتائج بالغة الأهمية.

2 تقنين أصول الفقه؛ وهي محاولة محمد زكي عبد البر؛ عرض المادة الأصولية من خلال مواد ومذكرات إيضاحية؛ وذلك بهدف توثيق الصلة بين الفقه وأصوله، ولكون هذا الأخير مدخلاً ضروريًا لتقنين الفقه الإسلامي.

إن هذا الطرح يبدو مناسبًا لإنجاح عملية التقنين الفقهي، وذلك بتوفير الأدوات المنهجية المناسبة. مما سيتيح تطبيق الشريعة في واقع المجتمعات الإسلامية المعاصرة، كما يفتح المجال أمام الاجتهاد القضائي بأداة منهجية منضبطة.

3 الصياغة التفعيلية لأصول الفقه: وهي رؤية تقدم بها عمران تيازي، تقوم على صياغة علم الأصول بكيفية تسمح بتفعيله في المجال الفقهي والقانوني. تتمحور المنهجية المقترحة حول إضافة موضوعات جديدة إلى أصول الفقه، تعبر عن نظرية شاملة للقانون الإسلامي، ووضع تقسيم جديد للحكم الشرعي، يمكِّن من فهم آلية عمل هذا القانون. إضافة إلى دراسة علم الأصول من خلال نظريات تفسير النصوص.

هذه الدعوة تمثل امتدادًا للتوجه الذي ظهر لدى بعض القانونيين – كزكي عبد البر، وعبد الرزاق السنهوري، وحشمت أبوستيت – في الاستفادة من أصول الفقه، لكن يبدو أنها أكثر عمقًا وتفصيلاً من غيرها. الأمر الذي يدعو إلى الاهتمام بدراستها، وإيضاح ما أثارته من أفكار حتى تظهر فائدتها بصورة عملية.

ثانيا: إعادة قراءة التراث الأصولي:

اتخذ هذا المفهوم للتجديد الصور الآتية:

1 استخدام المنهج الفينومينولوجي في التفسير: وهي قراءة جديدة في أصول الفقه من منطلق رؤية فلسفية (الفينومينولوجيا)، قام بها حسن حنفي، وذلك بهدف إعادة بناء العلم كنظرية في الشعور التاريخي، والتأملي، والعملي.

هذه المحاولة التجديدية التي تبنى فيها الباحث الفكر العميق والتتبع الدقيق، لو تمت مع الإيمان بعقيدة الإسلام لأفادت كثيرا؛ غوصا في الحقائق العلمية والتاريخية، واستخراجًا لمقاصد العلوم ومحاورها، وما يلزم من كيفية إعادة بنائها أو تطويرها، لكن ما شابها من اختزال العقيدة، يجعل الاستفادة منها مرهونة بإعادة دراستها تفصيلا من منطلق إيمان علمي، يحسن استثمار ما يصلح من أفكاره، والاستفادة من بعض التحليلات؛ بهدف التوصل إلى فهم أعمق للتراث الأصولي، وقدرة أكثر فاعلية للبناء عليه.

2 استخدام الإبستمولوجيا الارتقائية في التفسير: هي قراءة جديدة للنسق الفقهي الإسلامي     ( الفقه وأصوله )، حاول من خلالها حسن عبد الحميد إعادة بناء المنهج في النسق الفقهي الإسلامي؛ باعتماد نموذج تفسيري، استمدت مبادئه ومفاهيمه الأساسية من الإبستمولوجيا الارتقائية لـ: (جان بياجيه)، والإبستمولوجيا النقدية لـ: (جاستون باشلار). وذلك بهدف الكشف عن العمليات العقلية المنهجية التي استخدمت في بناء النسق الفقهي عبر مراحل تطوره المختلفة.

لكن هذه القراءة أخفقت في تحقيق غايتها؛ نتيجة الأفكار المسبقة التي انطلق منها الباحث، ثم عجزه عن استثمار الإبستمولوجيات التي اختارها لبناء نموذجه التفسيري بطريقة تتناسب مع النسق الفقهي الإسلامي. ولعل أوضح مظاهر هذا الإخفاق، أن يتحول تفسير نشأة النسق الفقهي وتأسيسه إلى محاولة لإثبات القدرة التفسيرية للنموذج الارتقائي الذي صممه الباحث  – على حد زعمه – من خلال أمثلة لم يوفق في انتقائها لتحقيق غايته.

3 إعادة تقويم التراث الأصولي في السياق السياسي والاجتماعي:

هي قراءة جديدة للتراث الأصولي في ظل السياق السياسي والاجتماعي الذي أحاط بنشأة أصول الفقه ومقاصد الشريعة، قدمها عبد المجيد الصغير بهدف التعرف على أثر ذلك السياق في تشكيل بنية الخطاب الأصولي، وإثبات العلاقة الجدلية بين المعرفي والسياسي في التاريخ الإسلامي.

لقد أوضحت هذه القراءة مشروعية تقويم أصول الفقه وإثرائه بمباحث جديدة، بدليل ممارسة الفكر الأصولي لهذه العملية عبر مراحل تطور العلم المختلفة، كما أبرزت حيوية علم الأصول، وقدرته على التفاعل مع ظروف العصر.

وهو ما يمكن الاستفادة منه في التأكيد على مشروعية التجديد في أصول الفقه، وكذا في تعميق البحث حول تفاعل هذا العلم مع الواقع المتغير؛ للتعرف بدقة على ثوابت العلم ومتغيراته، والكشف عن المناهج التي سلكت في ضبط التعامل مع الواقع المعيش.

4 تحليل آليات تأصيل العلم وتجذيرها:

هي قراءة جديدة لأصول الفقه، تمحورت حول تحليل آليات تأصيل العلم وتجذيرها عند الإمام الشافعي، قدمها نصر حامد أبوزيد بهدف الكشف عن البعد الإيديولوجي الذي انبثق عنه البناء الأصولي، واستجلاء حقيقة تكريس سلطة النص الديني. هذه المحاولة يصح إدراجها ضمن الدعاوى الهدامة؛ لأنها لا تتسم بأي عمق يستند إلى الاستقراء والاستدلال، فضلا عما يترتب عليها من نتائج مخيبة، كتحقير التراث الأصولي ومناهج البحث فيه، وهدم الأصول المتفق عليها، ونقل المرجعية من النص الشرعي إلى العقل المحض.

5 استخدام المناهج الفلسفية واللغوية الحديثة في التفسير:

هي قراءة جديدة للقرآن الكريم من خلال المناهج الفلسفية واللغوية الحديثة، باعتبارها البديل المنهجي القادر، في نظر محمد أبى القاسم حاج حمد، على إعادة عرض القرآن بما يتلاءم والأفق المعرفي المعاصر الذي دخل مرحلة العالمية الإسلامية الثانية.

إن هذه المحاولة يمكن أن تساعد على بناء النموذج المعرفي الإسلامي إذ استعملت في القرآن الكريم والسنة النبوية معا، بشرط مراعاة الضوابط التي تمثل هوية الإسلام. أما تطبيقها على حالها، فإنه سيفضي إلى عدة محظورات، أبرزها: تحويل الدين الإسلامي إلى تبنيات فكرية محضة، وتضييق دائرة التكليف الشرعي، إضافة إلى إنكار مجموعة معتبرة من الأحكام الشرعية المعلومة من الدين بالضرورة.

6 استخدام المنهج التاريخي العلمي في التفسير:

هي قراءة معاصرة للنص القرآني من منطلق رؤية فلسفية للمعرفة (الماركسية) واستخدام المنهج التاريخي العلمي في بحث الخصائص البنيوية للغة العربية على ضوء ما توصلت إليه اللسانيات الحديثة، قدمها محمد شحرور بهدف إصلاح الخلل المنهجي الذي يعوق الفكر الإسلامي عن الفهم الموضوعي للقرآن. وهذه المحاولة التجديدية يمكن تصنيفها ضمن الدعاوى الهدامة التي تقوض النظام الاجتماعي البشري، ونفس الإنسان في ذاته وفطرته التي فطره الله عليها.

ثالثًا: التجديد من خلال مسألة أو مبحث:

اتخذ هذا المفهوم للتجديد الصور الآتية:

1 الإتيان بأقوال جديدة في المسائل الأصولية:

ويظهر ذلك في بعض الفوائد التي حررها عبد الله بن الصديق الغماري، مما يدل على أن الاجتهاد في المسائل الأصولية مازال مفتوحا عند المتمرسين بذلك العلم؛ فقد أثبت قولا جديدا يقوم عل التفصيل في حجية دلالة الاقتران، كما أنه أنكر نسخ التلاوة مطلقا. ومثل هذا المسلك سيساعد في إثراء العلم وتعميق الفهم.

2 توصيف اجتهادات الرسول r ومدى الاعتماد عليها في التشريع:

ويمثل له برأي عبد الجليل عيسى في أن أقوال الرسول r، وأفعاله الصادرة عنه بمحض الاجتهاد ليست سنة ملزمة. وهذا أمر يعد مخالفا لإجماع المسلمين كما تقرر في مبحث السنة عند عبد الغني عبد الخالق. لذا، فلا يستبعد أن يكون القصد من هذا التوصيف لاجتهادات الرسول r هو تخفيف التكليف لا تجديد العلم.

3 اعتماد القرآن الكريم مصدرا وحيدا للتشريع:

ويتضح ذلك من خلال تجربة محمد متولي في إنكار حجية السنة المطهرة، والاقتصار على القرآن الكريم في استنباط الأحكام الشرعية.

ورغم تهافت هذه الدعوى وعدم اكتراث العلماء بالرد عليها، فإن القصد من إيرادها هو بيان أثر الإخلال بالمنهج الموروث قي فهم القرآن على استنباط الأحكام الشرعية، ولكونها مثالاً واقعيًا لما يترتب على هدم أحد الأصول المجمع عليها من تقويض لأركان الدين ذاته.

4 تفعيل الإجماع الأصولي:

ويظهر ذلك في المحاولة الأكاديمية التي قدمها أحمد حمد فيما يتعلق بإعادة النظر في مفهوم الإجماع الأصولي، وبحث إجراءات تطبيقية من أجل استثماره في التفاعل مع الواقع الحافل بالمستجدات. لكن رغم نبل الهدف وحماس الباحث لتطبيق الشريعة، إلا أنه توصل بمحاولته إلى آلية جديدة مغايرة لحقيقة الإجماع الأصولي، فيكون بذلك قد تكلم عن شيء غريب عن أصول الفقه.

رابعا: تجديد منهج تطبيق الشريعة:

اتخذ هذا المفهوم للتجديد الصور الآتية:

1 الاقتصار على القيم الأخلاقية:

ويمثل له بدعوة كولسون إلى تطبيق الشريعة وفق منهج جديد يقوم على المبادئ والقيم الأخلاقية التي تضمنتها نصوص القرآن والسنة، وتجسيد ذلك في بناء قانون يسمح بتبني المعايير والقيم الوافدة، حتى لو تعارضت مع الموروث الفقهي. إن هذه الدعوة لا تتعدى نطاق علمنة التشريع الإسلامي ومن ثم فإن تبنيها، سيفضي حتما إلى نتائج خطيرة، أبرزها هدم التراث الفقهي والأصولي برمته، والتفلت من الأحكام الشرعية؛ لغياب المنهج المنضبط الذي يضمن الاستقرار التشريعي.

2 استبعاد مصادر التشريع الإسلامي:

يوضحه دعوة حسن أحمد أمين إلى اعتماد منهج جديد لتطبيق الشريعة، يقوم على استبعاد مصادر التشريع الإسلامي، وترك اجتهادات الأئمة، والعمل بالمصلحة المحضة. إن مثل هذا الطرح يدرج الكاتب ضمن أصحاب الدعاوى الهدامة؛ حيث إنه فشل في تقديم البديل المقنع لما استبعده، كما أنه لم ينشئ أي آلية يمكن الالتفات إليها، أو الاستفادة منها فيما يتعلق بمنهج تطبيق الأحكام.

3 اعتماد أصول جديدة لتطبيق الشريعة:

ويظهر ذلك فيما أطلق عليه محمد العشماوي الأصول الجديدة لتطبيق الشريعة، وهي: الأصول اللغوية – الأصول التاريخية – الأصول العامة – الأصول التطبيقية – أصول الحكم – الأصول الحقيقية. لكن بالنظر في هذه الأصول، اتضح أن مثل هذه الدعوى لا يمكن الاستفادة منها في تجديد أصول الفقه؛ لأنها جردت الشريعة الإسلامية من جميع مقوماتها وخصائصها، وهدمتها أصولا وفروعا. وقد يكون ذلك أحد الأسباب التي رسمت في مخيلتي صورة رجل يقف على رأسه، بعد قراءتي الأولى لكتاب: أصول الشريعة.

4 التنظير لمنهج تطبيق الشريعة:

يمثل له بالمحاولة التنظيرية لمنهج تطبيق الشريعة، التي عرضها عبد المجيد النجار. وهي تتضمن الأسس المنهجية التي يجب أن يلتزم بها الفكر الاجتهادي والتشريعي، من أجل تأمين عملية تنزيل الأحكام ضد الانحراف عن تحقيق مقاصد الشرع السامية. هذه المحاولة تعد خطوة تأسيسية رائدة في موضوعها، حيث قدمت عدة مقترحات أهمها:

أ- الاستفادة من التراث الفقهي والأصولي في ضبط قواعد منهج التطبيق.

ب- ضرورة امتلاك المجتهد لأدوات فهم الواقع.

جـ- عرض الشريعة في صورة مشاريع إصلاحية.

و- تطوير البحث في مقاصد الشريعة ذات الصيغة الاجتماعية.

وإعمال هذه المقترحات، يمكن أن يسهم في تجديد أصول الفقه، من خلال المظاهر الآتية:

أ- إثراء أصول الفقه في الجزء الخاص بمنهج التطبيق.

ب- إضافة آليات جديدة تمكن المجتهد من تحليل الواقع وتفسيره.

جـ- إضافة مقاصد شرعية جديدة، تضبط أحكام الفقه الاجتماعي.

أما التجديد من حيث الموضوع، فقد تناوله الباب الثالث ضمن أربعة فصول، وذلك على النحو الآتي:

أولا: تطوير البحث الأصولي وتوليد العلوم:

يندرج تحت هذا المفهوم للتجديد الصور الآتية:

1 الدعوة إلى استقلالية علم المقاصد:

تتلخص هذه الدعوة التي نادى بها محمد الطاهر بن عاشور، في أن تجديد أصول الفقه يكون بتجاوز إشكالاته المنهجية التي تحول دون استخدامه كأداة للاجتهاد، وكمعيار يحتكم إليه عند الاختلاف. ولتحقيق هذه الغاية يقترح إنشاء علم جديد يقود عملية التفقه في الدين، هو علم مقاصد الشريعة الذي يستمد مبادئه الأساسية من المسائل الأصولية. وقد تضمنت هذه الدعوة آراء جديدة ناتجة عن التفكر في القديم، أسهمت في إثراء الفكر المقاصدي، وكانت مقبولة في الجملة، أهمها: ضبط مسالك إثبات المقاصد والتوسع في بحث المقاصد الاجتماعية. ومثل هذا التوجه يمكن أن يفيد في إيجاد الآليات المناسبة للتعامل مع قضايا الفقه الاجتماعي. غير أن ما كتبه ابن عاشور في المقاصد لا يمثل بداية استقلال لهذا المبحث وبلورته في صورة علم جديد، بل هو مجرد تمهيد. كما أن استقلال المقاصد عن الأصول وفق ما أشار إليه، لن يؤدي إلى تجديد علم الأصول بقدر ما سيفضي إلى جموده.

2 الدعوة إلى تطوير الدراسات الأصولية والمقاصدية:

وهو ما يظهر في مقترح أحمد الريسوني الذي جعل من تطوير الدراسات الأصولية والمقاصدية وسيلة لتجديد أصول الفقه؛ حيث ركز في دعوته على الاهتمام بالمجالات الآتية:

أ- مواصلة خدمة التراث الأصولي.

ب- إعادة كتابة تاريخ علم الأصول بمنهجية جديدة، ترصد وتقوِّم العلم في مختلف مراحل تطوره.

جـ- ربط الدراسات الأصولية بمقتضيات العصر.

د- مراجعات في الفكر الأصولي القديم.

هـ- التوسع في تناول طرق إثبات المقاصد.

و- تكثيف البحث حول المصالح والمفاسد وعلاقتها بالنصوص الشرعية.

ي- الدراسة التفصيلية الشاملة لموضوع الفطرة وأثرها في التشريع الإسلامي.

إن هذه الاقتراحات هي نتائج عملية رصد وتقويم لحركة البحث الأصولي المعاصر، مما مكن الريسوني من وضع معالم أمام المهتمين بقضية التجديد، تفيد في تحقيق الاستثمار الأمثل لمكنونات أصول الفقه، وإنشاء علم المقاصد المبتغى.

3 بناء مدخل قيمي لدراسة العلاقات الدولية من منظور أصولي:

هي محاولة سيف الدين عبد الفتاح استثمار مقاصد الشريعة – كنموذج إرشادي – في بناء مدخل قيمي، يكون إطارًا مرجعيًا لدراسة العلاقات الدولية من منظور إسلامي. وذلك بهدف إعادة إدماج القيم ضمن منظومة البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية. وهذه المحاولة تعد خطوة متقدمة ومتميزة في تجديد أحد المباحث الأصولية، أو لبناء علم جديد متولد من أصول الفقه. فقد قام الباحث بتتبع كل جزئيات المقاصد لبيان أسبابها ونتائجها، ورسم كل تلك الجزئيات في شكل خريطة، يذكر فيها الشيء وسببه ونتيجته، مع إبراز العلاقات البيئية التي تمثل في مجملها ما أسماه بـ: (الشبكة المقاصدية). غير أن صياغة هذه المحاولة بأسلوب صعب يحوج القارئ إلى التأمل في العبارة، وطلب مزيد فهم من أصول النتائج المعروضة. إضافة إلى كثرة المصطلحات المنحوتة التي تعوق الفهم العميق إلا بعد التتبع المضني للكلام.

4 بناء منطق جديد للحقوق والأخلاق:

هي محاولة طرفية في استخدام الرمز للتعبير عن القضايا الأصولية، قام بها عادل فاخوري بهدف توليد علم جديد (منطق الحقوق والواجبات) انطلاقًا من أصول الفقه أسوة بمنطق المعايير الذي تفرع عن المنطق الرياضي. وهذا الأمر يبعد المحاولة عن تجديد أصول الفقه شكلا أو مضمونا. لكنني أوردتها لما قد يوهمه عنوانها: (الرسالة الرمزية في أصول الفقه) من كون علم الأصول هو موضوع التجديد قصدًا. ومع ذلك، فإنه يمكن الاستفادة من فكرة استخدام الرمز – بعد الاصطلاح عليه – في التعبير عن القضايا الأصولية؛ لأن من شأن استعمال الرمز والتدرب عليه الوصول إلى فهم أعمق، واكتشاف حقائق تساعد على اختيارات أكثر اتساقا بين آراء الأصوليين، وعدم الخطأ أثناء عمليات استنباط العلة، أو القياس أو التخريج والإلحاق. كما أن تدريس العلوم باستخدام الرمز يعد وسيلة جيدة في إيصال حقائق العلوم لطلابها بسهولة.

ثانيا: إعادة هيكلة علم الأصول.

يمثل هذا المفهوم للتجديد المشاريع الآتية:

1 المشروع التجديدي عند جمال الدين عطية:

ينطلق هذا المشروع من أن حل الأزمة الفقهية المعاصرة، لن يتحقق إلا بالاجتهاد في أصول الفقه والتعامل معه كنسق مفتوح. وقد عرض أربع وسائل للتجديد، هي:

أ- إعادة تبويب المادة الأصولية بكيفية تسمح بإدراج أصول الفقه ضمن النظرية العامة للتشريع الإسلامي، باعتبارها التصور العام الذي يرسم المعالم الكبرى للشريعة كنظام قانوني وحقوقي.

ب- التجديد في بعض المباحث الأصولية، مثل: تطوير آلية القياس عن طريق اعتماد الحكمة من تشريع حكم الأصل لتطبيقه على الفرع إذا لم تحقق العلة الحكمة المقصودة منه. وتفعيل مقاصد من خلال توزيعها على أربعة مجالات ( الفرد – الأسرة – الأمة – المجتمع الإنساني ).

جـ- اعتماد آليتين جديدتين للاستنباط الفقهي، وهما: الاستدلال بالقواعد الفقهية، ومقاصد الشريعة.

د- تحقيق تكامل منهجي بين أصول الفقه والعلوم الاجتماعية؛ بحيث يمكن الاستفادة من بعض المباحث الأصولية في تحليل الظواهر الاجتماعية، وبيان علاقة السببية بينهما، وكذا استفادة أصول الفقه من العلوم الاجتماعية.

وفي الجملة، فإن هذا المشروع يعد أكثر المحاولات تفصيلاً مما يرشحه للدراسة المستقلة، ويجعله إحدى اللبنات الأساسية في مقترح التجديد. وتظهر مزاياه في حسن استثمار الفكر القانوني في إعادة تبويب أصول الفقه بطريقة تجعله أقرب إلى الواقع التطبيقي. كما أن كلامه حول إمكانية الاستفادة المتبادلة بين أصول الفقه والعلوم الاجتماعية يفتح آفاقا جديدة للبحث الأصولي، تسمح بتنمية العلم الموروث باعتباره نسقا مفتوحا، وتساعد على استثمار ثروتنا المنهجية في توليد مناهج جديدة لفهم واقعنا.غير أن ما ذكره بشأن تطوير آلية القياس لا يعد كلاما جديدا، فقد أشار إليه بعض الأصوليين منهم ابن الحاجب، وكذا دعوته إلى الاستدلال بالقواعد الفقهية، فإن ذلك أمر مستقر لدى أكثر الفقهاء منهم السيوطي.

2 المشروع التجديدي عند حسن الترابي:

تتجلى معالم هذا المشروع التجديدي لأصول الفقه بما يتلاءم ومتطلبات حركة الاجتهاد المعاصر في محورين أساسيين:

أ- تطوير القواعد الأصولية المناسبة للقضايا المتعلقة بنظام الحياة العامة وذلك بتوسعة أصول الفقه الاجتهادي، كتحرير القياس الأصولي من ضوابطه وتحويله إلى قياس واسع (القياس الفطري)، وتطوير الاستصحاب عن طريق وصله بالمصالح المرسلة.

ب- تنظيم مادة أصول الأحكام الشرعية؛ وهي عبارة عن خطة عامة لتبويب مسائل الأصول ركز فيها على بيان أصول الأحكام التي قسمها إلى ثلاثة أنواع:

– الأصول الصورية (التكليفية): هي الأصول التي تكسب الأحكام صفة اللزوم، وتضم أصول الشرع ( القرآن الكريم – السنة النبوية )، وأصول الوضع ( الإجماع – الأمر – القضاء).

– الأصول البيانية ( الاجتهاد الفقهي ): هي عبارة عن تقسيم جديد للطرق الاستدلالية، يضم الدلالة التفسيرية، والدلالة الاستنباطية، والدلالة التطبيقية.

– الأصول المادية: هي الأصول التي ينشأ عنها مضمون الأحكام، ويلاحظها المجتهد في التقدير البياني. هذا النوع لا سبيل لإدراجه ضمن أصول الفقه، لأنه مستمد من الهدي الديني والطبيعي معا.

ورغم امتلاك صاحب هذا المشروع رؤية عميقة عن مفهوم التدين، ووعي بمعوقات تطبيق الشريعة في الواقع الراهن، إلا أن ما قدمه من مقترحات حول تجديد أصول الفقه يظل بعيدا عن إحداث التجديد المدعى. فالكلام في توسيع القياس بالخروج من الآليات المنضبطة التي وضعها الأصوليون لإلحاق فرع بأصل، سيفضي إلى إجراء هذه العملية بمجرد المشابهة السطحية العابرة لدى الناظر، وبمجرد توهم المصلحة أو المقصد الشرعي المعتبر، الأمر الذي سيقود حتما إلى التحرر من الأحكام الشرعية بدون حجة ولا برهان. وما ذهب إليه من عدم صلاحية القياس الأصولي لبعض الفروع، لا يحملنا على إهدار هذا الدليل كآلية منضبطة؛ إذ يمكن حينئذ اللجوء إلى أدلة أخرى، كالمصالح المرسلة، والعرف، وغيرها. أما اعتماده لمفهوم جديد للإجماع، وتعريفه بأنه «قرار جمهور المسلمين في شأن عام»، فهو لا يناسب المعنى الأصولي، ولا الهدف من الالتجاء إليه. فضلا عن أن دعواه إلى إجماع العامة منقوضة، ولا تمت إلى الأصول بصلة، بل إنها إلى الأغراض السياسية أقرب. كما أن حديثه عن تقسيم أصول الأحكام الشرعية، هو أشبه ما يكون بشروط التطبيق وليس بأصول الفقه المعروف.

3 المشروع التجديدي عند طه جابر العلواني:

ينطلق هذا المشروع من أن أصول الفقه منهج بحث ومعرفة، يتوصل به إلى استنباط الأحكام الشرعية لما يستجد من الوقائع، كما يستفاد منه في حل مشكلات الأمة. وقد تضمن مجموعة من المقترحات تتعلق بالعمليات الآتية:

أ- تنقية العلم مما لا يحتاجه الفقيه الأصولي.

ب- توسيع وتعميق البحث الأصولي.

جـ- اعتماد منظومة مقاصدية جديدة كنموذج موجه لعملية الاستنباط الفقهي، تقوم على مجموعة من المبادئ القرآنية: ( العهد – الاستخلاف – الأمانة – الابتلاء – التسخير ).

د- تحقيق التكامل بين أصول الفقه والعلوم الاجتماعية والإنسانية.

بهذه العمليات التي تدور حول التنحية والتنقية، والتوسيع والتعميق، وتوليد العلوم الخادمة، وإلحاق نتائج ومناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية بأصول الفقه، يكون المشروع قد وضع مفاتيح للتعامل مع مسألة معقدة وشائكة، تتعلق بمحاولة استثمار الموروث الأصولي – بعد تجديده – في تطوير منهجية إسلامية بديلة للعلوم الاجتماعية والإنسانية.

ولأن الباحث لم يتعرض إلى الكتابة الفعلية لعلم الأصول بالصورة التي اقترحها، فإن المشروع يظل أشبه ما يكون بالإثارة العلمية الدافعة للمهتمين بقضية إسلامية المعرفة.

4 المشروع التجديدي عند علي جمعة:

قدم هذا المشروع رؤية تـتيح الاستفادة من أصول الفقه، وذلك باعتباره أداة لفهم النص وتطبيقه على الواقع. تتلخص هذه الرؤية في عدة عمليات يمكن أن تحدث تجديدا في شكل العلم ومضمونه معا.

فبالنسبة للمقترحات المتعلقة بتجديد أصول الفقه من حيث الشكل، يمكن تلخيصها في الآتي:

أ- خدمة التراث الأصولي بقصد فهمه، واستيعابه، وتيسيره للدارسين ويكون ذلك بالوسائل التالية:

– وضع المعاجم الأصولية التي تبين التطور الدلالي لكل تعريف، والمدارس المختلفة إزاءه، مع الإشارة إلى المصطلحات غير الأصولية التي استعملت فيه.

– تسجيل استقراء القواعد الأصولية، لأن ذلك سيؤدي إلى فهم منتظم ودقيق للنصوص، كما سيتيح تدريس علم الأصول التطبيقي.

– تحقيق المسائل الأصولية، وذلك بحذف المسائل العارية، وإعادة ترتيب درس المسائل الأصولية، وفهرسة منظومتها، وتصفية كل مسألة من الأقوال التي ليست لها حجة قوية، وكذا الخلافات اللفظية التي لا يترتب عليها أثر فقهي.

– تفعيل أصول الفقه بإدخال العلوم المساعدة، مثل: المقاصد، والفروق، والتخريج. كما يمكن الاستفادة من الدراسات الحديثة، مثل: السيمانتيك، وبحوث التصور المبدع.

– التنظير الأصولي الذي يعيد عرض المادة الأصولية، من خلال نظريات كلية تعبر عن الأسئلة التي أثارها المجتهد وشكلت الإجابة عنها مواضيع ذلك العلم.

أما المقترحات المتعلقة بتجديد أصول الفقه من حيث المضمون، فتتلخص في الآتي:

أ- إعادة ترتيب الكليات الخمس على النحو التالي: حفظ النفس – حفظ الدين – حفظ النسل – حفظ المال.

ب- إضافة آليات فهم الواقع إلى أصول الفقه، بشرط أن تكون مبنية على النسق الإسلامي.

وفي الجملة يمكن القول أن هذا المشروع وضع مفاتيح لفهم أصول الفقه وتفعيله بصورة تؤمن متطلبات حركة الاجتهاد المعاصر. ويتجلى ذلك في أن عرض أصول الفقه من خلال نظريات كلية، يمكن أن يسهم في تعميق فهم الدارسين للعلم، وبناء الملكة الأصولية. كما أن التعامل مع أصول الفقه كنسق مفتوح، سيتيح للعلم الاستفادة من نتائج علوم أخرى كلما دعت الحاجة لذلك. إضافة إلى أن ترتيب الكليات الخمس وفقا للاعتبار الذي تبناه الباحث وما يترتب عليه من أثار سيعيد تكييف الخطاب الإسلامي المعاصر بما يتفق وعالمية الإسلام.

ثالثا: التجديد في الفكر الأصولي الشيعي:

لما كانت الإسهامات العلمية لمحمد باقر الصدر في مجال البحث الأصولي المعاصر، تصنف ضمن الأعمال التجديدية لدى الشيعة الإمامية، فقد اكتفينا به نموذجا للتجديد في الفكر الأصولي الشيعي. ويتمحور نتاجه العلمي فيما يمكن إدراجه تحت مسمى التجديد في الأعمال الآتية:

1 رصد حركة الفكر الأصولي وتحليله، من خلال تفاعله مع المشكلات المنهجية المستجدة التي تعترض العقل الفقهي، ومدى قدرة الأصولي على إيجاد الحلول المناسبة بها.

2 وضع النموذج الأصولي التعليمي، الذي روعي في تصنيفه الاستفادة من آخر نتائج البحث الأصولي على مستوى الأفكار، والمصطلحات، والتحقيقات. إضافة إلى تقريب المسائل إلى واقع عملية الاستنباط، والربط بين القواعد الأصولية والتطبيقات الفقهية.

3 توليد اتجاه جديد في نظرية المعرفة ( الاتجاه الذاتي )، حاول من خلاله الكشف عن حقيقة الأسس المنطقية التي يقوم عليها الدليل الاستقرائي من حيث إفادته اليقين، وذلك باستخدام نظرية حساب الاحتمال التي أعاد صياغتها بكيفية تسمح بتحقيق المراد.

4 التجديد في بحث المسائل الأصولية، كمحاولته إثبات حجية الإجماع على أساس حساب الاحتمالات، وهو منهج جديد مغاير لما عليه الشيعة الإمامية.

وبالتأمل فيما عرضه باقر الصدر من أفكار، وما توصل إليه من نتائج، يمكن القول أن ما قدمه صادر عن عقلية أصولية واعية، فقهت فكرة التجديد، وما تتطلبه من مرتكزات تنطلق منها، وآليات تتحقق بها. فالتعاطي مع تاريخ العلم على النحو الذي قام به، يجعل أصول الفقه نسقا مفتوحا قابلا للتجدد كلما دعت الحاجة لذلك. وتوليد اتجاه جديد في نظرية المعرفة انطلاقا من أصول الفقه، أمر يحتاج إليه في تجديد العلوم. إضافة إلى تنبيهه أن الكتاب الأصولي الفكري    – مهما كانت قيمته العلمية – نموذجا تعليميا. غير أن قضية الربط بين الفقه والأصول على النحو الذي قام به في قراءته لتاريخ تطور العلم، قد يخفي وراءه نوع اضطراب لدى الفقيه والأصولي على حد سواء؛ حيث سيلجأ الأصولي إلى تغيير القواعد والأسس التي بنى عليها علمه، ويعيد تعديلها إذا لم تصمد للواقع المتغير، مما يجعل العلم تابعا للواقع. وهذا قد يجر – من حيث لا ندري – إلى القول بالنسبية المطلقة، أو يؤدي إلى تحكم الواقع في الأحكام.

رابعًا: مقترح التجديد في أصول الفقه:

وهو يعبر عن رؤية الباحثة لقضية تجديد أصول الفقه انطلاقا من الأسس والضوابط الواردة في الباب الأول، ومراعاة للمقترحات المتبناة في البابين الثاني والثالث. لقد تضمنت هذه الرؤية تحديد الهدف الذي تنشده عملية التجديد، وكذا عرض الوسيلة التي بها يتحقق. إضافة إلى وضع خطة تنفيذية لكيفية تجديد العلم شكلا ومضمونا.

فالهدف الأساسي الذي تنشده الدعوة إلى التجديد، هو إخراج العلم من أزمته الراهنة التي رصدت مظاهرها في الباب الأول. وخدمة لهذه الغاية، تسعى عملية التجديد إلى تحقيق جملة من الأمور الإجرائية:

1 تيسير علم الأصول للدارسين على نحو يمكنهم من الاختيار المناسب للمذاهب المعروضة عليهم. وذلك بعد التعرف على الأدلة، وجهة الدلالة، وكيفية إدارة النقاش، والمناظرة الفكرية بين المذاهب المختلفة.

2 تكوين الملكة الأصولية القادرة على فهم التراث، وفهم الواقع، وكيفية الوصل بينهما بإيقاع المطلق على النسبي.

3 تطوير علم الأصول بحيث يضم إليه أداة مدركة للواقع، تستفيد من خبرة العلوم الاجتماعية والإنسانية. وهذا يستلزم بناء علوم اجتماعية وإنسانية تنبثق من نظام معرفي إسلامي، ثم يستفاد من نتائج هذه العلوم، بعد تحويلها إلى قواعد ومبادئ لخدمة أصول الفقه في ثوبه الجديد.

4 إثراء المعرفة الإنسانية بواسطة عرض أصول الفقه – كمنهج للتفكير والإدراك والعمل – على العقل البشري وأصحاب المعارف المختلفة. وفي المقابل محاولة نقل هيكلة ذلك العلم في ثوبه الجديد إلى العلوم الأخرى.

ويرتبط الهدف المراد تحقيقه بضرورة إيجاد الوسائل الآتية:

أ- الكتاب الجامعي الذي يمثل اللبنة الأولى في تكوين العقلية العلمية التي يفترض أن تضطلع بها الجامعات. وليس من المبالغة القول بأن الكتاب الجامعي يحتاج إلى ما يطلق عليه في عالم الفكر: «صناعة ثقيلة»؛ لأنه نتاج عملية طويلة، تستقر فيها النماذج المعرفية السائدة، والمناهج البحثية المعتمدة، والمدارس الفكرية المختلفة.

ب- التدريس: وهو أحد الأركان الأساسية التي تقوم عليها العملية التعليمية، المتمثلة في: الأستاذ، والطالب، والكتاب، والمنهج، والجو العلمي. ولا يتم التعليم إلا بتوفر جميع العناصر المذكورة، حتى لو حصلنا ثقافة عامة نتيجة الاتصال بالكتاب الجامعي. وعلى هذا يقع التدريس في مكان جليل من العملية التعليمية، مما جعل الاهتمام به أمرا مؤكدا في طريق تجديد أصول الفقه، وتهيئة الطلاب لقبوله.

جـ- التدريب: وهو وسيلة مهمة لإحداث الملكات، وتحقيق ذلك يكون بكثرة الأمثلة، والتمرن على الإلحاق والتخريج، واستعمال الأصول في المستجدات، والتعرف على كيفية إدراك الواقع بعوالمه المختلفة وتنزيل الحكم عليها.

د- التربية: وتأتي هذه الوسيلة من حيث كونها المسئولة عن إحداث القيم وترسيخها في النفس. وهذا جزء أساس في عملية بناء التجديد، كما أن له علاقة وطيدة بكل من التدريس والتدريب.

هـ- توليد العلوم الخادمة التي تساعد على تطوير أصول الفقه، وتوسيع دائرة الاستفادة منه؛ لأن العلوم المولدة ستشكل الخلفية الفكرية لأصول الفقه، كما أنها ستمثل امتدادا طبيعيا للعلم يقيه من جمود قد يعتريه بعد فترة وجيزة من مجهود تجديد بنائه.

وفيما يلي عرض لكيفية تجديد أصول الفقه من حيث الشكل والمضمون.

أولاً: تجديد أصول الفقه شكلاً:

تتلخص العمليات التي يتطلبها تجديد شكل العلم، فيما يأتي:

1 حذف المسائل العارية التي حشرت في عرض المادة الأصولية.

2 الإكثار من الأمثلة الإيضاحية على وجه تستقر معه المسائل في ذهن طالب العلم.

3 تقرير التعريفات الأصولية بدقة؛ لأنها تجمع أحكام العلم.

4 عرض المادة الأصولية بطريقة متدرجة على المراحل التعليمية.

5 إعداد مداخل وملحقات لأصول الفقه تتكلم عن العلم بصورة مستقلة عن الكتاب الأساسي، حتى يخلص العلم كمنهج يمثل أسس الفهم والاستنباط.

6 عرض أصول الفقه في شكل نظريات كلية، يتم من خلالها ترتيب المادة الأصولية بناء على مراحل تفكير المجتهد. حيث تسكن مسائل أصول الفقه الموروث – وفق هذه الرؤية – في ذلك الهيكل الجديد.

ثانيًا: تجديد أصول الفقه مضمونًا:

يتطلب تجديد أصول الفقه من حيث المضمون العمليات التالية:

1 إضافة آلية لإدراك الواقع بعوالمه المختلفة، وبيان كيفية تنزيل النص عليه. ولما كانت العلوم الاجتماعية والإنسانية التي انبثقت من نموذج معرفي غربي، قد استأثرت بوصف الواقع المعيش، ووضع مناهج التعامل معه، فإن من الواجب بناء علوم اجتماعية وإنسانية انطلاقا من نموذج معرفي إسلامي، لتصبح أداة لدى الأصولي لفهم الواقع الذي سينزل عليه الحكم.

2 إبراز مفهوم الأمة والجماعة في أداة الاستنباط؛ وذلك لأن الفقه الموروث متعلق في صورته المدرسية بلغة الأفكار.

3 الاهتمام بمجموعة من المحددات، مثل: تفعيل بعض المباحث الأصولية كالإجماع، والاجتهاد بتحويلها إلى مؤسسات. وإبراز الجانب المقاصدي عند الكلام عنه في محله، وحسن استثمار علوم الألسنيات الحديثة حتى تكون وسيلة مفيدة لفهم أعمق للنصوص.

نتائج الدراسة وتوصياتها:

تتلخص أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة في الآتي:

1 أن أصول الفقه يمثل ثروة منهجية قيمة، مكنت العقل المسلم من حل إشكالية تناهي النصوص وتوالي الوقائع. كما أن له إسهاما متميزا في إرساء أسس الحضارة الإنسانية.

2 أن أصول الفقه بحاجة إلى تجديد – شكلا ومضمونا – حيث كشف تقويم واقع التأليف الأصولي، ومنهجية تدريس العلم في عصرنا عن جملة من الإشكالات التي تحول دون الاستفادة منه كأداة للاجتهاد.

3 أن المحاولات التجديدية اتخذت صورا متنوعة، هي:

  • إعادة عرض المادة الأصولية وفق المنهجية الحديثة في التأليف.
  • إعادة قراءة التراث الأصولي من منظور الفلسفات الغربية ومناهجها.
  • إعادة النظر في مسائل العلم عن طريق الإتيان بأقوال جديدة، واقتراح رؤية تمكن من تفعيل بعض المباحث الأصولية.
  • وضع معالم لمنهج تطبيق الأحكام الشرعية.
  • تطوير البحث الأصولي وتوليد العلوم.
  • إعادة بناء هيكل العلم الموروث بكيفية تؤهل المجتهد المعاصر لمواجهة المحدثات بأداة معرفية قادرة على إدراك النص من خلال مقاصد الشريعة، وتنزيل الحكم على الواقع المتغير.
  • الإبداع الفكري المتجدد الذي يؤمِّن للعلم الأدوات المنهجية اللازمة للوفاء بمتطلبات الواقع المتغير.

4 أن الدعوة إلى تجديد أصول الفقه – في مجملها- لا تزال تفتقر إلى الدراسات التقويمية للتراث الأصولي، ووضع الآليات المنضجة لعملية التجديد الشامل الذي تتطلبه حركة الاجتهاد المعاصر.

5 فشل جميع القراءات المعاصرة لأصول الفقه من منظور الفلسفات الغربية ومناهجها في إعادة بناء العلم، مما يجعل من محاولاتها للتجديد هدما وتبديدا.

6 تهافت جميع الدعاوى إلى اعتماد أصول جديدة لتطبيق الشريعة في واقع المجتمعات الإسلامية، مما يجعل محاولاتها للتجديد سعيا للخروج من دائرة التكليف.

أما توصيات الدراسة، فهي:

1 العناية بالكتاب الجامعي في أصول الفقه؛ وذلك باعتباره اللبنة الأولى في تكوين العقلية العلمية التي يفترض أن تضطلع بها الجامعات، حيث يتصل الطالب بالمصدر، ويدرك الأدوات البحثية، ويتعلم شروط الباحث، والعلوم الخادمة لتخصصه، وكيفية الربط بين العلوم المختلفة التي يتلقاها.

2 الاهتمام بالتدريب باعتباره وسيلة لإحداث الملكات وترسيخها. ويمكن أن يُخدم هذا الجانب بإضافة مادة جديدة إلى المقرر الدراسي، تعنى بالتدريب على استنباط الحكم الشرعي وتنـزيله على الواقع. وذلك بإعداد نماذج تطبيقية لاجتهادات الفقهاء، والأحكام الصادرة عن المجامع الفقهية.

3 الالتفات إلى قضية توليد العلوم الخادمة التي ستسهم في تطوير أصول الفقه، وتوسيع دائرة الاستفادة منه.

4 العمل على إبراز الجانب المقاصدي ضمن الهيكل العام لأصول الفقه، مع اقتراح استقلال علم المقاصد والاهتمام بتوسيع مجالات تطبيقه، ثم أخذ نتائج العلم الجديد لإمداد أصول الفقه.

تلخيص أصول الفقه في صورة تسمح بالتعبير عن المنهجية الإسلامية، والمشاركة في بناء النموذج المعرفي الإسلامي، والاستفادة منه كمنهج في تنمية العلوم الاجتماعية والإنسانية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر