مقدمة:
قضية الحرية في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر, تستحق الدراسة والتوقف أمامها بتفحص وعناية, وذلك على الرغم من كثرة الدراسات التي تناولت الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر؛
وذلك لأنها مؤشر هام على تطور الفكر الإسلامي وواقعيته من ناحية, وعلى قدرته على التجدد الذاتي ومواجهة التحديات من جهة ثانية، كما أنها مؤشر على أن تقدم المجتمع مرتبط بقضية الحرية برباط وثيق.
وبناء عليه فسوف نرصد قضية الحرية في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر ومراحل تطورها، من خلال مجموعة أعلام ساهموا بقوة في بلورة مفهوم حديث للحرية لا يتقاطع مع الواقع ومقتضياته، ولا يتناقض مع أصول الفكر الاسلامى، وحقيقة الأمر, فهذا المفهوم لم يكن قاصراً على مجال دون آخر, ولكنه شمل جميع المجالات التي تتصل بقضية الحرية سواء كانت خاصة بالفرد أو المجتمع.
فمنذ رفاعة الطهطاوي حدث تطور ملموس في تناول قضية الحرية في فكرنا الحديث والمعاصر, تطور نابع من تجربة الرجل التي تعد فاصلة بين مرحلتين في تاريخنا, تجربة تفصل _ وكأنها جدار عازل _ ما بين العصور الوسطي والعصر الحديث، وذلك من خلال:
– مؤلفاته التي تؤصل لفكر إسلامي حديث متصل بالعصر كمشروع حضاري، وتعد قضية الحرية عصب هذا المشروع، ومن ثم تناولها بالتفصيل في جميع أعماله.
_ ومن جهة أخرى من خلال دوره في المجتمع، الذي ترجم فيه أفكاره وطموحاته في بناء دعائم النهضة في مجتمع حديث، يسعى للانفلات من ربقة العصور الوسطي بهمة لا تفتر، وعزيمة لا تلين نحو تحقيق ذاته وتعويض ما فاته في فترة الجمود والركود.
وقد تابع مسيرة رفاعة الطهطاوي مجموعة من الرجال، الذين نهلوا من فكره وعزموا على أن يكملوا مسيرته الفكرية، في تحرير المجتمع والإنسان المصري من كل عوائق الجمود والتخلف, وكان كل واحد منهم يعد معلمًا من معالم النهضة, وأحد ركائز الحرية في فكرنا الحديث والمعاصر، ساهم كل منهم في تطوير مفهوم الحرية بصورة أو أخرى.
ورغم كثرة الرجال الذين ساهموا بقوة من خلال جهودهم في تطوير قضية الحرية في فكرنا الحديث والمعاصر, وخصوصًا في مصر, إلا أننا نخص بالذكر الشيخ حسين المرصفى خصوصًا في كتابه (الكلم الثمان), الذي تناول فيه مجموعة مصطلحات حديثة من بينها مصطلح الحرية بالشرح والتحليل. ومنهم الإمام محمد عبده الذي يعد مرحلة فاصلة جديدة في تاريخ الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر, وساهم مساهمة فاعلة في إعلاء قيمة الحرية وتطوير مضمونها.
وأخبرًا رأى عبد المتعال الصعيدي أحد تلاميذ مدرسة محمد عبده الذي دافع بقوة عن الحرية الفكرية والدينية باعتبارها حقوقاً أكد عليها الإسلام كمبدأ ومنهج.
وقد وقفنا بالتفصيل عند قضية الحرية من خلال شخصيتين ساهم كل منهما في بلورة وتطوير تلك القضية في فكرنا الحديث والمعاصر :
أولهما: رائد الفكر الحديث في مصر والعالم العربي الشيخ رفاعة الطهطاوي.
والثاني: الشيخ عبد المتعال الصعيدي الذي أولي عناية خاصة لقضية الحرية الفكرية والدينية.
كما تتضح قضية الحرية من خلال مجموعة قضايا ومفاهيم أخرى, سوف نتناولها من خلال تحليل قضية الحرية في فكرنا الإسلامي الحديث والمعاصر. ومن ثم سوف يكون حديثنا عن قضية الحرية من خلال محورين :
المحور الأول: تناول قضية الحرية من خلال مجموعة أعلام في فكرنا الإسلامي و الحديث ساهموا في تطوير مدلول الحرية وتثبيت معناها وتكريس دعائمها في المجتمع0 وهذا ما عالجناه من خلال مدخل تناولنا فيه تاريخ قضية الحرية في مصر الحديثة و المعاصرة، من خلال مجموعة من أعلام الفكر.
المحور الثاني: من خلال تحليل قضيه الحرية وتطوير مدلولها في فكرنا الحديث والمعاصر؛ من أجل التعامل بواقعية مع قضايا العصر مثل قضية الحرية الدينية والفكرية، وقضية حرية المرأة والحرية السياسية، وغيرها من القضايا التي سوف نتناولها في مظنها من البحث.
وقد مهدنا للبحث بمدخل عن الحرية والوعي بالذات.
مدخـل
الحرية والوعي بالذات:
الحرية هي لحظة وعي بالذات ينتج عنها تغيير حقيقي في حياة الإنسان فردًا كان أو مجتمعاً وقد تحققت في فكرنا الحديث مرتين:
الأولى: علي يد محمد علي والي مصر الذي استطاع نتيجة إدراكه لقيمة الحرية كإرادة واختيار أن يؤسس مجتمعًا حديثاً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، بغض النظر عن كونه كان مؤمنًا بالحرية كفرد، أم كان حاكمًا مستبدًا، يرى أن المجتمع الجاهل غير مؤهل بعد للحرية وهو يرسف في أغلال الجهل والمرض والتخلف، وبالتالي لا يعي معنى الحرية ولا يمكنه ممارستها علي النحو الصحيح إلا في ظل مجتمع حديث تتحقق له شروط السيادة والقوة، ولا بد له من الانكفاء علي ذاته في عملية تحديث مستمرة حتى يحقق قاعدة بيانات (Data Base) تمكنه من البناء عليها في مسيرته نحو التقدم والازدهار.
والثانية : علي يد محمد عبده الذي آمن بحرية الإنسان في العدل والمساواة، وفي الحقوق والواجبات، وأولى هذه الحقوق حق المعرفة للخروج من حالة التخلف الحضاري، وامتلاك أدوات العلم والمعرفة، باعتبارها شروطًا أولية للحرية لا تتحقق إلا بها. ومن هنا آمن بحرية الإنسان في التعبير عن نفسه وفي اختياره، كطريق لا بد منه في عملية تحديث شاملة، تهدف لإحياء المجتمع والخروج به من حالة الجمود والتخلف، عن طريق الإيمان بالفرد كأساس للمجتمع السليم والحديث، وهو ما يعرف حالياً بالتنمية البشرية في أدبيات الفكر المعاصر.
في اللحظة الأولى كان المجتمع بحاجة ضرورية للتواصل الحضاري، لتكوين نواة معرفة يبنى عليها تقدمه خصوصاً في مجال العلوم والتكنولوجيا، فأرسل محمد علي الوفود لجامعات أوربا لدراسة هذه العلوم العملية، ومن حسن الطالع كان لزاماً من وجود مرشد ديني يرافق هؤلاء الطلاب، فيصلي بهم ويوجههم في شئون دينهم، لكن عاد محمد علي وألحق هذا المرشد بالبعثة الرسمية كموفد ضمن طلاب البعثة.
فكان الشيخ رفاعة الطهطاوي إمام البعثة، واحد أفرادها، الذي انبهر بالمجتمع الغربي، وما شاهده في المجتمع الفرنسي قلعة الحرية والتقدم في أوربا، فكان هو العقل الواعي الذي نقل لنا وهو تحت لحظة الانبهار، طبيعة المجتمع الفرنسي حسب كتابه الرائد في أدب الرحلات – تخليص الإبريز في تلخيص باريز – وهو يحدثنا عن مجتمع ليبرالي حر، يقوم علي العدل والمساواة، كنموذج ينشد تحقيقه في مجتمعه الذي يعاني من الجمود والتخلف، ولا يرى ما يمنع من تحقيق ذلك بالاستفادة من التجربة الفرنسية في عمومها، ولا يرى أن الشريعة الإسلامية التي علمت الدنيا تمنع من هذه الإفادة.
وكان الشيخ رفاعة دون مبالغة هو العقل الواعي، لتجربة محمد علي في التحديث الفكري والاجتماعي، واضطلع بدور رائد التحديث العربي دون منازع، ومن هنا كان لابد من معرفة مفهوم الحرية لدى رفاعة الطهطاوي كنموذج فكري في تجربة محمد علي صاحب لحظة الوعي الأولى في مجتمنعا الحديث، فقد أكد منذ البداية وبوضوح لا يقبل الشك، علي معني الحرية، ووضح أقسامها، وأكد علي أنها الوسيلة الوحيدة لتحقيق السعادة للفرد والمجتمع علي السواء.
كان رفاعة في حديثه كمشاهد منبهر – لكنه منبهر غير فاقد لذاته ولا لهويته – بالمجتمع الباريسي، يرى فيه النموذج الذي يجب أن يحتذي في العدل والحرية والمساواة، وهي أمور يجب أن نتفهمها حسب ظروف الزمان والمكان، وطبيعة التجربة في تلك المرحلة الباكرة من عملية التحديث العربية، والتواصل الحضاري التي يغلب عليها عملية النقل والترجمة، ولا تخضع للنقد والمراجعة بالقدر الكافي.
وذلك لأن عملية النقد والمراجعة تحتاج مزيداً من الوقت، للتأمل والمراجعة والنظر للتجربة من بعيد، وهي غير متوفرة بالتأكيد في مرحلة التواصل والتكوين، التي تحتاج للتلاحم والالتصاق، وهي أمور لا تسمح للنقد والفرز بالقدر الكافي، ورغم هذا لا نعدم روح النقد عند الشيخ رفاعة لبعض العادات والتقاليد الغربية، وخصوصا في المجتمع الباريسي، مثل اعتمادهم المطلق علي العقل، وعدم تمسكهم بالدين، وغيرها من الأمور التي نبه عليها في كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز).
لكن نموذج الحرية عند الشيخ رفاعة كنموذج عملي تطبيقي، يتضح أكثر من خلال حديثه عن التمدن في كتابه (مناهج الألباب) الذي يري فيه أن مصر بتاريخها الثقافي والحضاري العظيم والضارب في أعماق التاريخ بجذور راسخة، وبطبيعة أهلها، مؤهلة للتقدم بشقيه المادي والمعنوي، هذا التقدم هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق حرية الوطن والمواطن.
كما كان كتابه المرشد الأمين في تربية البنات والبنين، عامل رائد ليس فقط في مجال الفكر التربوي، لكن في رؤيته الفكرية العميقة، وتحليله النفسي المميز لشخصية المرأة ومميزاتها، ومؤهلاتها للمشاركة والمساهمة في تنمية ذاتها ومجتمعها، وهذا ما يعكس بعد إنساني وحضاري راق عند الطهطاوي، كانسان ينظر للمرأة نظرة حضارية سامية، ويتحدث عن حقوقها في التعليم والعمل والمشاركة، وعلي تلمس جوانب نفسية وإنسانية في شخصيتها كالرقة والعاطفة والحب، يؤكد أنها مميزات وليست عوامل ضعف كما يظن الكثيرون، ومن حقها التعبير عنها،والشعور بها.
وقد أثمرت جهود الشيخ رفاعة في المجتمع المصري في مجال التنمية الفكرية والاجتماعية آثارا عظيمة، فدعا إلى تعليم البنات، وكان عضوًا في لجنة إنشاء المدارس لنشر نور العلم والمدنية، كأهم شروط الحرية، ودعا إلى ما يمكن أن نسميه حوار الحضارات، وضرورة النظر للآخر من منطلق جديد، بنظرة تقوم علي معيار التقدم والتمدن، بدلاً من منطلق الإيمان والكفر، تلك الرؤية التي سادت العالم القديم في الشرق والغرب علي السواء، وما زالت توجد جحافل قوية علي الجانبين تسير حسب الرؤية القديمة، والذي كان الدافع لها الحروب الصليبية الطويلة والممتدة، التي صبغت علاقات الشرق الإسلامي، بالغرب المسيحي عبر القرون.
وإذا كانت لحظة الوعي الأولى ممثلة في عقلها الواعي الشيخ رفاعة – الحرية في أحد تعريفاتها هي حكم العقل – وهي بصدد لحظات التكوين، تؤسس لمجتمع جديد، ليس لديها الوقت الكافي للوقوف عند المصطلحات، والنظر لها نظرة تقويم وتحديد، لأن ذلك يحتاج لرصيد ثقافي وحضاري في المجتمع، ومرحلة نضج لم تكن متوفرة زمن الشيخ رفاعة، فإن تلميذه الشيخ حسين المرصفى، أحد أهم المثقفين المصريين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، اضطلع بهذا الدور الهام في تحديد معاني المصطلحات الجديدة في رسالته بالغة الأهمية في تاريخ الثقافة العربية والإسلامية الحديثة ( الكلم الثمان)، استكمالاً لجهد أسلافه في ضبط المصطلحات وبيان مضامينها، وهو ما عرف لدى أسلافنا بالحدود، مثل عمل التهانوي كشاف اصطلاحات الفنون والجرجاني التعريفات وغيرها.
وقد رصد الشيخ المرصفى بثاقب وعيه النفاذ – وهو الكفيف البصر – المصطلحات الجديدة المعنى والمدلول في الثقافة العربية المعاصرة، مثل مصطلحات: الأمة والوطن والحكومة والعدل والظلم والسياسة والحرية والتربية، وكان من ثمار وجهود الشيخ المرصفى الأستاذ في مدرسة دار العلوم في المجتمع المصري، ثلة من ألمع التلاميذ منهم من تتلمذ له مباشرة في دار العلوم، ومنهم من تأثر بفكره ومنهجه، من أمثال: محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وعبد الله فكري ومحمد عبده وحمزة فتح الله وحفني ناصف وحسن توفيق العدل وحسين الجسر اللبناني. وكلهم منارات سامقة علي طريق الحرية، وغرس من ثمار الشيخ المرصفى(1).
وإذا كان الشيخ الطهطاوي قد غرس البذرة بقوة في لحظة الوعي الأولى، فإن تلميذه الشيخ المرصفى بجهوده الفكرية والثقافية، كان يمهد للحظة الوعي الثانية التي انبثقت من خلال تلاميذه، وعلي رأسهم الشيخ الإمام محمد عبده الذي جسد الحرية بفكره وسلوكه، وعلي يديه تجسدت قيمة الحرية في لحظة وعي هامة، عبرت عن نفسها في جميع مجالات الحياة الفكرية والاجتماعية والسياسية.
لقد جسد الإمام الشيخ محمد عبده رائد التجديد الديني والاجتماعي في مصر القرن العشرين، الحرية كقيمة بفكره وسلوكه، لإيمانه العميق أن الإسلام دين يؤمن بالتعددية الدينية والثقافية وبالاختلاف كحكمة إلهية ضرورية لاستمرار الحياة، كما في قوله تعالى في سورة الحجرات: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ وأنه سبحانه وتعالى لم يجبر الجمادات علي الاعتراف به كخالق بل منحها حق الاختيار، فقال تعالى في سورة فصلت ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَللأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾.
وإذا كان الاختيار في حق الجمادات محمودًا, فما ظنكم به في حق الإنسان، الذي أكد سبحانه وتعالى على حقه في الاختيار الحر، في أن يكون مؤمنًا بالله أوكافرًا به مشدد على عدم الإكراه في الدين, الذي يتنافى مع طبيعة الحرية والاختيار, وهذا ما جاء في قوله تعالى في سورة يونس: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾. وفي قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾. وهذه إحدى الآيات الدالة على أن الإسلام لم يبتن على السيف والدم، ولم يفت بالإكراه أو العنوة على خلاف ما زعمه عدة من الباحثين أن الإسلام دين السيف استدلوا عليه: بالجهاد الذي هو أحد أركان هذا الدين.
وقد تقدم الجواب عنه في ضمن البحث عن آيات القتال، وذكرنا هناك أن القتال الذي ندب إليه الإسلام، ليس لغاية إحراز التقدم وبسط الدين بالقوة والإكراه، بل لإحياء الحق والدفاع عن أنفس متابعة للفطرة وهو التوحيد، وأما بعد انبساط التوحيد بين الناس فخضوعهم لدين النبوة ولو بالتهود والتنصر، فلا نزاع لمسلم مع موحد ولا جدال، فالإشكال ناشئ عن عدم التدبر .
ويظهر مما تقدم أن الآية أعني قوله ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ غير منسوخة بآية السيف كما ذكر بعضهم، ومن الشواهد على أن الآية غير منسوخة التعليل الذي فيها، أعني قوله: ﴿قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ فإن الناسخ ما لم ينسخ علة الحكم لم ينسخ نفس الحكم، فإن الحكم باق ببقاء سببه، ومعلوم أن تبين الرشد من الغي في أمر الإسلام أمر غير قابل للارتفاع بمثل آية السيف، فإن قوله: ﴿اقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ مثلاً، أو قوله تعالى: ﴿قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ لا يؤثران في ظهور حقية الدين شيئًا حتى ينسخا حكمًا معلولاً لهذا الظهور، وبعبارة أخرى الآية تعلل قوله: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ بظهور الحق: وهو معنى لا يختلف حاله قبل نزول حكم القتال وبعد نزوله، فهو ثابت على كل حال، فهو غير منسوخ(2).
وإذا كانت الشعوب تحتاج للإبداع الذاتي بعد فترة التكوين الأولى التي تستلزم التواصل والنقل – مرحلة الطهطاوي – قبل أن تأتي مرحلة النقد والإضافة – مرحلة محمد عبده – فقد كانت جهود الشيخ عبد المتعال الصعيدي تمثل بحق مرحلة إبداع ذاتي غير متأثر بفكر غربي وافد، وفي تأصيل فكري جديد لقضية الحرية الفكرية والحرية الدينية في الإسلام – وهما عنوانا كتابين له – تعد تأسيسًًا للحظة انطلاق جديدة في الوعي بالذات، أرى إرهاصاتها تلوح في الأفق.
ويجب أن تكون الشيخ الصعيدي عن الحرية الفكرية والدينية، كرؤية رحبة تعتمد على تأصيل القضية بعيدًا عن المواقف المسبقة، كما أنها ليست تكرارًا لآراء سابقة، أو ترديدًا دون وعي لما هو مألوف وثابت لدى أسلافنا، حول قضية حرية الفكر والاعتقاد، ولو كان فكر الشيخ عن الحرية، قد لقى ما تنتج سوى مزيدًا من تمزيق وحدة الصف، والتراشق اللفظي المسف، والتجاذبات والخلافات التي استنفدت جهودًا، وسالت من أجلها دماء غير ذكية، وتطايرت على آثارها شظايا الوهم في كل اتجاه.
وهذا ما يعكس حيرة مجتمع ممزق، أكثر مما يعكس حيوية فكرية ورؤى محددة، تجلت بوضوح في مجموعة من الأحداث المؤسفة، مثل قضية نصر حامد أبو زيد، ورواية وليمة لأعشاب البحر، وغيرها من الموضوعات التي سودت حولها عشرات الأطنان من الورق لم تستحق مع الأسف ثمن الورق الذي سود فيها، ولا الأحبار التي سالت عليها، ولم يكن أحد ممن أثار غبار هذه المعارك يبغون وجه الله ولا مصلحة المجتمع، ولا خدمة البحث العلمي، وإنما كانت مواقف أيديولوجية وعصبية قبلية أولاً وقبل كل شيء، حتى وإن حسنت نوايا بعض من شارك في تلك المعارك، لأن كثيراً من النوايا الحسنة، أضرت ولم تصلح، فالدبة التي قتلت صاحبها كانت تريد له نوماً هادئاً بعيداً عن طن الذباب!
لقد ذهب الشيخ الصعيدي إلى حق الإنسان في الإيمان بالله وفي حقه في النقوص عن هذا الإيمان، دون أدنى مسئولية جنائية ولا اجتماعية تلحقه نتيجة ذلك ، فكان جريئا في مناقشة قضية الردة التي انتهى فيها لرأي واضح ، وهي أن الجزاء فيها ديني فقط، أمره لله – سبحانه وتعالى- وأن ما جاء في القرآن عن الردة لا يستوجب القتل ، وفنّد الآراء المخالفة، وانتهى إلى أن جزاء المرتد يكون أخروي فقط، أما في الدنيا فيدعى للإسلام غير المسلم وفقط، كما أكد على أن الحرية والمساواة حق لجميع أبناء الوطن بغض النظر عن دينه أو اعتقاده.
وذهب إلى أن الإسلام جاء ليؤكد على الحرية، التي حولها بعض الحكام لاستبداد، وذهب علماء السوء لتبرير هذا الاستبداد، الذي يتناقض صراحة مع جوهر الإسلام، الذي جاء لتحرير الإنسان من القيود التي تعوق مسيرته وحريته، كمخلوق حر له حريته الكاملة في التعبير عن رأيه وفكره، وفي حريته في اختيار دينه، كما له حريته في اختيار حاكمه وفي نقده ومعارضته متى ثبت له خطأ الحاكم أو من يمثله، دون قيد أو شرط يهدد حياة الإنسان.
ونتناول رؤية الطهطاوي لقضية الحرية بالتفصيل، وهذا هو موضوع الصفحات التالية:
قضيه الحرية عند الطهطاوي
اكتسب مفهوم الحرية عند رفاعة الطهطاوي معنى جديدًا لم تعهده الثقافة العربية من قبل, ولا يمكن أن نفصل بين هذا المفهوم الجديد للحربة عند الطهطاوي، وبين التطورات التي شهدها المجتمع المصري مع قدوم الحملة الفرنسية عام1798م ورحيله عام 1801م، ثم إدراك المجتمع المصري حاجته للتغيير وضرورة الخروج من أقبية العصور الوسطي, وهذا لن يتم إلا إذا استعاد الشعب حريته كمجتمع في تحديد مصيره، وفي اختيار حاكمه، وهذا ما عبر عنه أحد رموز هذه المرحلة الفكرية وأستاذ رفاعة الشيخ حسن العطار, بقوله: (إن بلادنا لابد أن تتغير أحوالها, ويتجدد بها من العلوم والمعارف ما ليس فيها)(3).
وذلك أن الحملة الفرنسية أحدثت ما يشبه الصدمة للمجتمع المصري من خلال عدة أمور, على رأسها القوة العسكرية التي تستخدم أسلحة حديثة لم يكن للمصرين عهد بها، ثم من خلال المعهد العلمي الذي ضم نخبة من العلماء الفرنسيين المرافقين للحملة. وقد تردد على هذا المعهد عددا من رجال الفكر المصريين، كالمؤرخ عبد الرحمن الجبرتي الذي يقف مشدوهًا فاغرًا فاه مما رآه من تجارب داخل هذا المعهد على يد علمائه0 كما كان الشيخ حسن العطار يتردد على المعهد وعلى علاقة بعلمائه وشاهد فيه من العلوم الحديثة التي لم يكن للمصريين عهد بها من قبل، وقد أدرك هؤلاء المصريون ضرورة مواكبة التقدم الحديث في مجال العلوم، حتى يلحقوا بركب العصر الحديث في الغرب, والذي فتحت الحملة الفرنسية أعينهم عليه.
وبناء عليه فمفهوم الحرية عند الطهطاوي, لم يكن بحال من الأحوال بعيدًا عن هذا الجو العام في مصر، الذي أدرك ضرورة التحديث من خلال الواقع الجديد الذي فرض نفسه آنذاك، والذي كان من ثماره ممارسة الحرية السياسية, وانتخاب أول حاكم بإرادة المصريين في العصر الحديث هو الألباني محمد على، الذي سعى جاهدا بهمة وإرادة، إلى بناء مجتمع حر متطور غير منقطع الصلة بالتقدم الغربي و المنجزات الغربية الحديثة، فاخذ يرسل البعثات والوفود لأوربا لدراسة العلوم الحديثة، خصوصًا في مجال العلوم العلمية والتطبيقية الذي يحتاج إليها في بناء مجتمع حديث، يحتاج لإدارة حديثة تواكب التطورات المعاصرة، وبناء جيش حديث متطور يحمى المجتمع المصري.
كل هذه التطورات لم تكن بعيدة عن حديث الطهطاوي عن الحرية، وذلك باعتباره كان جزءًا من تلك التجربة الحية، وأبرز ملامحها، وأفضل من عبر عنها قولاً وفعلاً، ومن خلال تجربته في فرنسا كطالب بعثة يرصد ملامح التجربة الفرنسية عن قرب، من خلال المهام التي أوكلت إليه في مصر، والمناصب التي تقلدها، والدور الذي مارسه في تاريخ مصر الحديث.
فقد كان الطهطاوي أول عين عربية تأملت في وعى عميق، ومن موقع المحب الناقد، حضارة الغرب الحديثة، ممثلة في حضارة الفرنسيين، وذلك لان الفرق كان شاسعا بين واقع وطنه وبين واقع فرنسا, تخلف هنا و ازدهار هناك، فحاول الرجل الذي ذهب إلى باريس سنة 1826م بزيه الشرقي وتصوراته الإسلامية أن يصنع لوطنه صنيع الذين نقلوا إلى العرب الأقدمين فكر اليونان وعلومهم, وتراث الفرس وفنهم, وفلسفه الهند وحكمتها… وكما أدخل هؤلاء الأسلاف أمة العرب في مركز التأثير الإنساني، وجعلوها تعطى الحضارة الإنسانية عطاءها الفني السخي، فإن رفاعة عزم أن يعيد أمته مرة ثانية إلى القيام بدورها هذا.
من أجل هذا ناضل الطهطاوي في سبيل وصل الخيوط بين وطنه، وبين مراكز الحضارة الحديثة في أي مكان، ووقف موقف العداء من دعوات العزلة وعقد النقص التي تسلم إلى الانغلاق على الذات، فأخذ يدعو قومه إلى الانفتاح على المجتمعات ويسفه من دعاة العزلة، ويرى أن هذه المخالطة بين المصريين وغيرهم من أهل الحضارة الغربية، من أهم إنجازات محمد على؛ لأنها الداء الشافي والعلاج المعافى للداء الذي عانى منه العرب لعدة قرون(4).
فالحرية عند الطهطاوي لازمة أساسية لبناء مجتمع حديث، وذلك على اعتبار أن التمدن حسب تعبيره يبنى على ركيزتين أساسيتين هما: العدل والحرية.
يتحدث الطهطاوي في مناهج الألباب عن التمدن في مصر منذ قديم الزمان، وتفردها عن غيرها من الأمم في الفنون والمعارف، وأنه قد عاد لها مجدها من جديد بفضل محمد على وخلفائه الذين بفضلهم تعزز الوطن بالعلوم والمعارف وصارت فيه قواعد التمدن واستقامت الأمور بتحري العدل, فاعتدلت مصالح الجمهور، وبهذا أحرزت مصر بين الممالك المتمدنة أسني الرتب، وصارت بين بلاد الشرق أفضل الأقطار.
ولا يجحد تمدنها ورقيها في ترسيخ مفهوم الوطنية؛ وبناء عليه يؤكد على ضرورة التواصل مع الحضارة الغربية، لأنها وسيلة عظمى لرقى الوطن كما أنها وسيلة لترسيخ روابط الألفة والحوار بين الشعوب(5).
فمصر تحقق لها اسمها المتعارف عليه وذلك بمسير الناس إليها واجتماعهم فيها، وذلك من أجل تحقيق منافعهم ومكاسبهم أكثر من غيرها من البلاد0 وذلك لحسن موقعها الذي كان له دور في تمدنها و تقدمها العمراني والإنساني. كما كان لهذا الموقع أثره في أخلاق أهلها وتهذيب طباعهم. علاوة على ذلك فإنهم من خلال مخالطتهم لغيرهم من الأمم والشعوب عرفوا أهميه الحوار وتبادل الخبرات.
ويلعب الدين دورا أساسيًّا، كأحد أسباب التمدن والعمران في مصر منذ قديم الزمان . فالمصريون يؤمنون بالأديان وعرف ملوكها وحكماؤها التوحيد , وهكذا حاذوا أسباب التقدم عن طريق: تهذيب الأخلاق بالآداب الدينية والفضائل الإنسانية، وأهميتها في حفظ السلوك الإنساني من الرذائل والموبقات, من أجل هذا كان الدين أقوى قاعدة في صلاح الدنيا و استقامتها، وهو زمام للإنسان , لأنه ملاك العدل والإحسان.
فالدين الصحيح هو الذي عليه مدار العمل في التعديل والتجريح, فحقيق على العاقل أن يتمسك به, ويحافظ عليه متعبدًا, فأدب الشريعة ما أدى الغرض، وأدب السياسة ما عمر الأرض, وكلاهما يرجع إلى العدل الذي به سلامة السلطان, وعمارة البلدان, لان من ترك الغرض فقد ظلم نفسه, ومن خرب الأرض فقد ظلم غيره، واظلم بالإساءة أمسه(6).
والدين أصل ضروري في عملية التمدن والعمران, ويلاحظ تأثر الطهطاوي بابن خلدون في حديثه عن التمدن والعمران في مقدمته. كما يلاحظ إيثاره للمصطلح الإسلامي في هذا المجال على غيره من المصطلحات، فمصطلح التمدن والعمران مصطلح إسلامي، وقد كان للشيخ رفاعة فضل نشر مقدمة ابن خلدون في مطبعة بولاق بالقاهرة سنة 1857م بإيعاز من المستشرق الفرنسي دوساسى(7).
من اجل ذلك يقسم التمدن إلى نوعين :
– معنوي.
-ومادي.
أما المعنوي وهو التمدن في الأخلاق والعادات والآداب، وهو التمدن في الدين والشريعة، وبهذا القسم قوام الأمة المتمدنة التي تسمى باسم دينها وجنسها كالأمة العربية الإسلامية, وذلك لتميزها عن غيرها, فمن أراد أن يقطع عن ملة تدينها بدينها, أو يعارضها في حفظ ملتها، (المخفورة الذمة شرعًا)، فهو في الحقيقة معترض على مولاه. فقد قضت الحكمة الإلهية أن تتصف تلك الأمة بهذا الدين، فمن يستطيع معارضة المشيئة الإلهية ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ (8).
ويؤكد على الحرية الدينية، وحق الفرد في اختيار دينه، حتى ولو خالف دين الدولة التي يعيش فيها شريطة ألا يؤدي ذلك لضرر على نظام الدولة التي يعيش فيها فيقول:
(أما وقد اتسع نطاق الإسلام، فكل امرئ وما يختار، فبهذا كانت رخصة التمسك بالأديان المختلفة جارية عند كافة الملل، ولو خالف دين المملكة المقيمة بها، بشرط أن لا يعود منها على نظام المملكة أدنى خلل، كما هو مقرر في حقوق الدول والملل)(9).
ورغم إعجاب الطهطاوي بالنموذج الفرنسي في الحرية إلا أنه ينتقدهم في اعتمادهم المطلق على العقل وبعدهم عن الدين. وهو ما أبرزه في تلخيص الإبريز في قوله:
(وقد أسلفنا أن الفرنساوية من الفرق التي تعتبر التحسين والتقبيح العقليين، وأقول هنا: أنهم ينكرون خوارق العادات، ويعتقدون أنه لا يمكن تخلف الأمور الطبيعية أصلا، وأن الأديان إنما جاءت لتدل الإنسان على فعل الخير واجتناب ضده، وأن عمارة البلاد وتطرق الناس وتقدمهم في الآداب والظرافية تسد مسد الأديان، وأن الممالك العامرة تصنع فيها الأمور السياسية كالأمور الشرعية، ومن عقائدهم القبيحة قولهم: إن عقول حكمائهم وطبائعييهم – يقصد علماء الطبيعة – أعظم من عقول الأنبياء وأذكى منها. ولهم كثير من العقائد الشنيعة، كإنكار بعض القضاء والقدر)(10).
وينتقد تحررهم من الدين فإنهم نصارى بالاسم فقط، فلا يقنعون بما حرمه دينهم أو أوجبه أو نحو ذلك، ويرون أن العبادات التي لا تعرف حكمتها من قبيل البدع والأوهام. وينتقد عدم زواج القساوسة ويعد ذلك نقيصة تزيدهم فسقا، كما ينتقد ما يسمى بالاعتراف بالذنوب من العامة أمام القساوسة فيغفر له القس ذنوبه.
ولأمانته يذكر الطهطاوي نقد دي ساسي وتعقيبه علي قوله بتحرر الفرنسيين من الدين، فيذكر دي ساسي أن كلام الطهطاوي يصدق على أهل باريس وكثير من الفرنسيين ممن يهتمون بشئون الدنيا فقط، لكن في مقابل ذلك يوجد من يقيم دين آبائه ويؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل الصالحات من كل صنف وفئة من الرجال والنساء(11).
وأما التمدن المادي، وهو التقدم في ما يحتاجه المجتمع في سائر شئون الفنون مما يسميه (المنافع العمومية ) كالزراعة والتجارة والصناعة، وهي تختلف من بلد إلى آخر قوة وضعفا، طبقا للممارسة وهو أمر لا غنى عنه في عملية التقدم والتمدن(12).
واضح تأثر الطهطاوي في حديثه عن المنافع العمومية بالأصوليين في حديثهم عن المقاصد الشرعية، وكيفية تحقيقها للمصالح العامة في حياة الفرد والمجتمع، على النحو الذي فصله الشاطبي في حديثه عن الكليات الخمس في كتابه (الموافقات)، مهتديا بجهود السابقين عليه وخصوصا الغزالي في (المستصفى)، الذي تأثر فيه بأستاذه الجويني في البرهان(13).
والسنن الكونية تؤكد أن الأيام دوال، وكل أمة تأخذ حظها من التمدن فترة من الزمن، ولكن هذا لا يتحقق إلا بعزيمة أصحابها وحبهم لأوطانهم، لدرجة أنه يشبه حب الأوطان بحرارة تسري في أبدان أهلها، وأنها تغلب على حرارتهم الغريزية، وتغلب على القوة الأولية، وبهذا تتحقق للوطن أمانيه من التمدن الحقيقي، بشقيه المعنوي والمادي.
جملة القول أن عوامل التمدن اجتمعت في مصر وهذا ما يؤكد عليه فيقول:
(فقد أجمع المؤرخون على أن مصر، دون غيرها من الممالك، عظم تمدنها، وبلغ أهلها درجة عالية في الفنون والمنافع العمومية، فكيف لا وأن آثار التمدن وأماراته وعلاماته مكثت بمصر نحو ثلاثة وأربعين قرنا يشاهدها الوارد والمتردد، ويعجب من حسنها الوافد والمتفرج، مع تنوعها كل التنوع، فجميع المباني التي تدل على عظم ملوكها وسلاطينها هي من أقوى دلائل العظمة الملوكية وبراهينها)(14).
ويضرب مثل بالأمة الفرنسية على تمدنها وبلوغها درجة عالية من الحضارة بالمعرفة والآداب التي تجلب الأنس وتزين العمران، والبلاد الأوربية عموما مشحونة بأنواع المعارف، لكن فرنسا تمتاز عن غيرها من بلاد أوروبا بكثرة تعلقها بالفنون والمعارف، فهي أعظم أدبًا وعمرانًا(15).
وعلامات التمدن ودلائل العظمة تقوم على ثلاثة ركائز هي:
– حسن الإدارة الملكية (السلطة السياسية).
– السياسة العسكرية (القوة التي تحمي الدول وتحفظ لها سيادتها).
– معرفة الألوهية (الدين الذي ينظم حياة الناس على أسس من العدل والشورى).
وهذه الأسس الثلاثة للتمدن كانت موجودة في مصر منذ القدم، وبلغت درجة عظيمة واستمرت عبر القرون(16)، ويتحدث عن تجربة يوسف u في مصر، والتي يستفاد منها ( أنه كان بمصر إذ ذاك أحكام عادلة، وقوانين مرتبة، وحدود مشروعة خالية من الأغراض والنفسانيات وهي نتيجة التمدن التام)(17)،
والسياسي الماهر هو الذي لا يضيق على شعبه، ويسير بينهم بالعدل، ويحترم حريتهم الدينية، وعاداتهم الاجتماعية ويستشهد بسيرة الإسكندر الأكبر وحنكته في تعامله مع الأمم والشعوب التي أخضعها لسيطرته، فلم يضيق على حرياتهم، ولم يتدخل في أفكارهم ولا معتقداتهم(18).
واضح مما تقدم أن الطهطاوي يريد إبراز دور مصر كدولة مؤهلة تاريخيا للتمدن والتقدم واستيعاب التجارب الحديثة في الحرية لدى الأمم المتقدمة وهو ما ركز عليه في كتاب (مناهج الألباب).
ويقسم الطهطاوي الحرية إلى خمسة أقسام على النحو التالي :
الأول: الحرية الطبيعية: وهي التي خلقت مع الإنسان، وانطبع عليها كالأكل والشرب … مما لا ضرر فيه على الإنسان نفسه ولا على إخوانه .
الثاني: الحرية السلوكية: التي هي حسن السلوك ومكارم الأخلاق … وهي الوصف اللازم لكل فرد من أفراد الجمعية – المجتمع – المستنتج من حكم العقل، بما تقتضية ذمة الإنسان وتطمئن إليه نفسه في سلوكه في نفسه، وحسن أخلاقه مع غيره.
والثالث: الحرية الدينية: وهي حرية العقيدة والمذهب، بشرط أن لا تخرج عن أصل الدين، كآراء الأشاعرة والماتريدية في العقائد، وآراء أرباب المذاهب المجتهدين في الفروع.
ومثل ذلك حرية المذاهب السياسية، وآراء أرباب الإدارات الملكية في إجراء أصولهم وقوانينهم وأحكامهم على مقتضى شرائع بلادهم، فإن ملوك الممالك ووزرائهم مرخصون – أي أحرار – في طرق الإجراءات السياسية بأوجه مختلفة، ترجع إلى مرجع واحد وهو حسن السياسة والعدل …
والرابع: الحرية المدنية: وهي حقوق العباد والأهالي الموجودين في مدينة، بعضهم على بعض، فكأن الهيئة الاجتماعية المؤلفة من أهالي المملكة تضامنت وتواطأت على أداء حقوق بعضهم لبعض، وان كل فرد من أفرادهم ضمن للباقين أن يساعدهم على فعل كل شيء لا يخالف شريعة البلاد – قانونها – وأن لا يعارضوه، وأن ينكروا جميعا على من يعارضه في إجراء حريته، بشرط أن لا يتعدى حدود الأحكام.
والخامس: الحرية السياسية: أي الدولية – نسبة إلى الدولة– وهي تأمين الدولة لكل أحد من أهاليها على أملاكه الشرعية المرعية، وإجراء حريته الطبيعية بدون أن تتعدى عليه في شيء منها، فبهذا يباح لكل فرد أن يتصرف فيما يملكه جميع التصرفات الشرعية(19).
واضح في حديث الطهطاوي السابق عن أقسام الحرية تأثره الواضح بفكر التنوير الفرنسي، ففي حديثه عن الحرية السياسية مثلا يتضح في حديثه عن العقل باعتباره مصدر للحرية والفعل. كما أن حديثه عن النوع الخامس وهو ما سماه الحرية السياسية قصد بها حرية سياسة الإنسان لنفسه في تصرفه في شئونه الخاصة. وهي ما يمكن أن نسميها حريته في تدبير شئونه الاقتصادية(20).
يؤكد الطهطاوي – بعد هذا العرض لأقسام الحرية الخمس – على أن الحرية بهذا المفهوم الواسع والممتد الذي يتضمن هذه المعاني، هي الوسيلة العظمى لسعادة أهل البلاد، لان الحرية التي تستند على قوانين عادلة، هي أعظم وسيلة لتحقيق الاستقرار والسعادة بين المواطنين، وسبب لتعلقهم بوطنهم وحبهم له.
ويلاحظ أن هذه الأقسام الخمسة وكأنها محاولة من الطهطاوي للتوافق مع الكليات الخمسة للشريعة كما هو لدى الأصوليين في أن هذه الكليات الخمسة هي حفظ النفس والعقل والمال والعرض والدين، وترتيب المقاصد بين ضرورية وحاجية وتحسينية، حسب الحاجة والمصلحة(21).
ويحق لكل مواطن أن يمارس حقوقه في إطار القانون، دون إكراه على مخالفة النظام؛ وذلك لأن من حق كل مواطن أن يتمتع بحريته في نطاق الشرع والقانون، وذلك حيث يعد حرمانه من هذا الحق تضييقًا عليه واعتداء على حريته دون وجه حق، ويعد ذلك اعتداء على حقوق المواطن المخولة له شرعا وقانونا، لان حرية المواطنين في ظل نظام عادل قوي لا يخشى منه على الدولة، ولكن معرفة حق المواطن وحق الحاكم واحترام كل طرف للثاني دون اعتداء من طرف على الآخر من أهم أسباب قوة الدولة واستقرارها وحفظ حقوق الحاكم والمحكوم(22).
والقانون هو أساس العدل ومعياره، ويضرب على ذلك مثلا بما هو كائن عند الفرنسيين فكان ذلك (من أسباب تعمير الممالك وكثرة معارفهم، وتراكم غناهم، وارتاحت نفوسهم، فلا تسمع فيهم من يشكوا ظلما أبدا، والعدل أساس العمران(23).
وتعد الحرية أمرًا فطريًّا كرم الله بها الإنسان وفضله على جميع المخلوقات، وبناء عليه يجب عليه أن يتمتع بحريته في إعزاز وطنه وإخوانه ورؤسائه. كما يعد التزام الفرد بقوانين الدولة وقيامه بواجباته تجاه وطنه كالجهاد والعمل تعديا على حقوقه، لأن هذا يعد واجبًا وطنيًّا. فعلى سبيل المثال يعد الدفاع عن الوطن ضد أعدائه دفاعا عن الحرية. والحرية تستلزم العلم، ومحاربة الجهل، ومعرفة حقوق المواطن، من اجل تحقيق التقدم والمدنية.
والحرية تستلزم المساواة بين المواطنين في جميع الحقوق والواجبات، لكن ليس معنى هذا أن يأخذ الإنسان ما لا يستحقه فكل إنسان حسب قدراته وإمكانياته، فالمساواة تدعم الحرية بين أفراد المجتمع. وبناء عليه (فإن حريتهم توضع على أساس متين، وتكون مملكتهم راسخة القواعد، لا يعتريها الخلل من بين يديها ولا من خلفها)(24).
ولم يقتصر حديث الطهطاوي عن الحرية، على الدعوة والتنظير الفكري المجرد، ولكنه سعى لتطبيق هذه الأفكار وتجسيدها في الواقع العملي، من خلال حديثه عن حرية المرأة ودفاعه المستميت عن حقها في التعليم والمشاركة، فكان رائدًا في هذا المجال، الذي لم يطرقه أحد من قبل في الشرق في العصر الحديث. كما كان رائدًا للفكر العربي والإسلامي الحديث عن جدارة واستحقاق، وهذا ما سنناقشه في الصفحات التالية.
حرية المرأة عند الطهطاوي:
يعد رفاعة الطهطاوي بحق الرائد الأول لقضية تحرير المرأة في الشرق العربي و الإسلامي، وأول من سعي لتحريرها من قيود العصور الوسطي وعمل علي تطبيق أفكاره في الواقع العملي، فسعي إلي تعليمها حتى تحظي بحقوقها كإنسان مثلها مثل الرجل في الحقوق والواجبات، فكان عضواً بلجنة تنظيم التعليم التي اقترحت سنة 1836م العمل علي تعليم البنات .
وجاء حديث الطهطاوي عن تحرير المرأة في سياق حديثه العام عن ضرورة تحرير المجتمع المصري، والعمل علي نهضته وتقدمه، علي اعتبار أن المرأة ركناً من أركان المجتمع لا تقوم نهضته الحقيقية بدون مشاركتها وتمتعها بحريتها، كإنسان له حقوق وواجبات اجتماعية وإنسانية . وقد ضمن هذا كتابه (المرشد الأمين في تربية البنات والبنين).
يبدأ حديثه عن التربية كتنمية حسية ومعنوية للأطفال، عن طريق تربية الجسد وتربية الروح، وتشترك في هذه التنمية ثلاثة أنواع من الغذاء:
الأولى : تنمية المرضع للأطفال بالألبان .
الثانية : تغذيتهم بإرشاد المرشد بتأديبه الأولي للأطفال وتهذيب أخلاقهم، وتعويدهم التطبع بالطباع الحميدة، والآداب والأخلاق .
الثالثة : تغذية عقولهم بتعليم المعارف والكمالات، وهذه وظيفة الأستاذ المربي.
وهذه الأنواع الثلاثة، وإن كانت تبدو سهلة إلا أنها عملية شاقة وعسيرة تحتاج لأصول وقواعد، بالإضافة إلي محبة الأطفال من كل من يتعامل معهم من مرضعين ومربين وأساتذة.
وتهدف لتهذيب الجنس البشري ذكراً كان أو أنثى، حتى يستفيد منها الصبي هيئة ثابتة يتبعها ويتخذها عادة وتصير له دأباً وشاناً وملكة. وبناء عليه فالتربية المعنوية هي (فن تشكيل العقول البشرية، وتكييفها بكيفية حسنة مألوفة ، وغايتها إيجاد ملكة راسخة في الصغير تحمله علي التخلق بحسن الأخلاق حسب الإمكان، بحيث تحصل من هيئة تربيته الأفعال الجميلة المحمودة عقلاً وشرعاً بسهولة ويسر، كطلاقة الوجه، والحلم والشفقة ….)(25).
وحديث الطهطاوي علي أن التربية تهدف لتكوين ملكة راسخة في الصغير تحمله علي التخلق بالأخلاق الحسنة حتى يصير ذلك طبعاً وسجية، أمر مألوف في تراثنا ولدي المعنيين من أسلافنا(26).
وتربية أفراد المجتمع ذكوراًٍ وإناثا، يترتب عليه حسن تربية المجتمع بكامل هيئته، والأمة التي أحسنت تربية أبنائها، واستعدوا لنفع أوطانهم هي أمة سعيدة، فعن طريق التربية السليمة تصل إلي السعادة ويصبح أبناؤها سبب رفعتها وعزتها. والأمة التي تتقدم فيها التربية يتقدم فيها أيضاً التقدم والتمدن علي وجه تكون به أهلاً للحصول علي حريتها(27).
قضية التربية والتعليم واجب في حق أبناء الأمة ذكوراً وإناثاً. وقد أولاها الإسلام عناية خاصة بصورة لم تعهدها الأمم السابقة، وهذا ما يفهم من الخطاب القرآني، الذي أمر بالقراءة في جميع المجالات باعتبارها سر التقدم ومفتاح المعرفة. فكان أول ما نزل من التنزيل هي ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ وهو دليل علي أن الإسلام يدشن عهداً جديداً ومرحلة جديدة ودستوراً جديداً لم تعهده الأمم السابقة، ولا حتى الرسالات التي سبقت الإسلام. فرسالة الإسلام تقوم علي العلم والمعرفة كركائز أساسية في بناء أمة جديدة، وأكد علي ذلك بقوله تعالي في سورة الزمر: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾.
وجعل الإسلام ذلك الأمر فرضا علي المسلمين لا فرق بين رجل أو امرأة في هذا الأمر بنص الحديث النبوي: (طلب العلم فريضة علي كل مسلم)، وأيضاً قوله r: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلي الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم علي العابد كفضل القمر علي سائر الكواكب، إن العلماء هم ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)(28).
ولا يظنن أحد أن لفظ مسلم في الحديث خاص بالرجل دون المرأة، علي اعتبار أن لفظ مسلم مذكر، وردنا علي هذا نقول أن الكلمة تطلق في اللغة علي التغليب، لكنها تشتمل الرجل و المرأة علي السواء كما هو معهود في لغة العرب.
وتناول علماء المسلمين قضية طلب العلم وفضله في التراث بعناية وأولوه اهتمامهم وهذا كله لم يكن بعيداً عن وعي الطهطاوي وهو يناقش قضية حق المرأة في التعليم، فيري أن الأمم منذ القدم اهتمت بتربية كل ما ينفع الإنسان من الحيوانات الأليفة كالخيول والببغاوات والصقور والنحل ودود القز وهو أمر أفاض فيه الجاحظ من قبل في حديثه عن الحيوانات وكيف يروضها الإنسان و يستأنسها(29).
ولا يعقل أن الأمم التي تهتم بتربية وترويض الحيوانات المفيدة للإنسان ستهمل تربية وتعليم نصف المجتمع وهي المرأة، فقد عهدت الأمم المتمدنة منذ القدم من أيام اليونان علي تربية المرأة وتعليمها، وقد اختلف موقف الأمم والشعوب من قضية تعليم المرأة حتى جاء الإسلام فاحتلت قضية المرأة أهمية خاصة في الدين الجديد وحصلت علي حقوق لم تعرفها البشرية من قبل.
وذلك لأن الأصل في الخطاب الديني قرآنا وسنة أنه موجه للرجال والنساء علي السواء، بدءا من تقرير الكرامة الإنسانية إلي تقرير المسئولية الجنائية، وعلي الرغم من وجود فوارق محدودة، فإن الأصل هو المساواة، والفوارق استثناء من هذا الأصل، وأنه لمن الخطأ والعدوان علي شرع الله أن يضيع هذا الأصل(30).
فالأصل في الخلقة المساواة في الفطرة والكرامة الإنسانية، والأصل في الخطاب القرآني المساواة التامة في التكاليف والواجبات بين الرجل والمرأة أي في المسئولية، وبعض الفروق التي وردت كفروق بين الذكورة والأنوثة هي للترتيب والتنظيم بين الجنسين ومراعاة الواقع، ومسئولية كل طرف تجاه الآخر من جهة، وتجاه المجتمع من جهة أخرى.
ويتحدث الطهطاوي عن التكامل بين الرجل و المرأة، فقد خلق الله المرأة للرجل ليبلغ كل منهما من الآخر أمله، ويقتسم معه عمله، وجعل المرأة تلطف لزوجها أتراحه، وتضاعف أفراحه، وتحسن أمر معاشه، فهي من أعظم صنع الله القدير، وقرينة الرجل في الخلقة. فالمرأة مثل الرجل سواء بسواء، في الأعضاء والحواس والصفات، وتناسب الحركات والأعضاء، ولا توجد فروق بينهما إلا من حيث الذكورة والأنوثة وما يتعلق بهما.
أما عن الفروق الجسدية بين الرجل و المرأة، فإن المرأة تتميز بصفات جسدية عن الرجل (فإن قامتها في الغالب دون قامة الرجل، وخاصرتها أنحف من خاصرته وأرشق منها، ورأسها بالنسبة لبدنها أقل حجماً من رأسه بالنسبة لبدنه، وسعة صدرها دون سعة صدره، وبدنها أشد بريقاً من بدنه وأنعم وأنور، وفيها من اللطف والرخاوة ما ليس فيه، وكتفاها وثدياها وجميع أعضائها علي العموم تلين وتنعطف وفيها استدارة جميلة، وبالجملة فالمرأة ألطف شكلاً من الرجل)(31).
وتتميز المرأة بصفات رقيقة ترغب فيها الرجال تنسجم مع طبيعتها كأنثى كالرقة والنعومة ورخامة الصوت والحياء والدلال، هذا مع ضعف يوجب الرفقة بها والحنان والعطف عليها.وربما لهذا السبب كان من أخر ما أوصي به الرسول r في حجة الوداع استوصوا بالنساء خيراً(32).
ورغم هذا فالمرأة تبلغ مرحلة النضج قبل الرجل، وتستكمل درجة النمو في زمن أقل مما ينمو فيه الرجل. ولما كان النساء مقصورات علي الشفقة والرحمة والحنان والرفق واللين كن غالباً مستعدات لأن تفرج عن العوائد الخشنة والأخلاق الغليظة والصفات المذمومة المجتمعة في أمزجة الرجال، كالغضب والحقد والبغضاء والشقاق، لكن أعظم ما فيهن الغيرة التي لا تكاد تخلو منها واحدة(33).
وتتصف المرأة إلي جانب الصفات الجسدية بصفات معنوية أخري، مثل قوة الصفات العقلية، وحدة الإحساس والإدراك علي وجه قوي قويم، وذلك ناشئ عن نسيج بنيتها الضعيفة، فتري قوة إحساس المرأة وزيادة إدراكها تظهر في الأشياء التي يظن أنها غريبة عنها، مثل إدراكها ما يوافق ذوقها وما يليق بها ويناسب طبعها. مما لا يفهمه الرجل بسهولة، فيجب عليه موافقتها في هذا الجانب؛ لأن المرأة أبرع في فهم فن المؤانسة والسرور وما يتصل بموضوع الحب والوداد، وكذلك دقة الفهم والبداهة(34).
ويسترسل في وصف مناقب النساء كالحياء والرقة والدلال، وقدرتها علي إخفاء مشاعرها، بعكس الرجل مستشهداً علي كلامه بأبيات من الشعر في خصائص المرأة. وينجح في تحويل ما يظن بعض الرجال أنه نقاط ضعف لدي المرأة، لنقاط قوة وخصائص تميز المرأة، وهذا ما أكد عليه عمارة في قوله:
(ويسلم الطهطاوي بأن الأنوثة ربما نشأ عنها ضعف في بنية المرأة … ولكنه يقدم لهذا الأمر نتائج هي علي العكس تماماً من تلك التي قدمها ويقدمها أعداء المساواة بين الرجال والنساء … فهم يرون في هذا الضعف في البنية سببا يفضي إلي ضعف في القدرات العقلية والإمكانات اللازمة لتولي بعض الأعمال .. أما الرجل فإنه يرى العكس، حيث أن هذا الضعف في البنية يعوضه، بل ينشأ عنه لدي المرأة قوة في هذه القدرات والإمكانيات)(35).
وتستطيع المرأة منافسة الرجل في العلوم والفنون وكافة مجالات الحياة، ويحاول تفسير سبب حرمانها من هذا الحق – التعليم – في عصره وما سبقه، بدافع الخوف عليها من مخالطة الرجال وتعرضها للقيل و القال، مما دفعها للتعود علي الخمول والكسل والجلوس في البيت.
ورغم ذلك فالمرأة لها قدرة علي أسر قلب الرجل واستعباده، بالحب والرقة والأخلاق الفاضلة، أما المرأة التي تتصف بسرعة الغضب وسوء الخلق، فإنها تسقط من عينيه بذلك، وينقص حبه لها ووده، ولا يكون لها تأثير علي قلبه، وينفر منها كما تنفر الرعية من الحاكم الظالم. فالحلم من النساء وحسن معاشرتهن مع الرجل أول مزية، أما المرأة السيئة فهي تهرم الرجل قبل هرمه، وتذهب بكرمه (فلا يتم أمر الرجل إلا بحرة شفيقة عفيفة رفيقة، حسنة الأخلاق، عذبة المذاق)(36).
جملة القول أنه يجب تربية المرأة علي تحمل الرجل وحسن معاشرته، والاستعداد للصفح عن زلاته فتسلك معه مسلك الحلم واللين والرفق وحسن الخلق، وذلك لأن هذا يعود عليها بالمنفعة، أكثر مما يعود عليه. وذلك لأن سوء خلق المرأة وعنادها يجلب لها التعب، وينتج عنه إساءة معاشرة الرجل(37).
ويحتاج الإنسان إلي تنمية ملكاته المعنوية والعقلية، كحاجته لتنمية ملكاته المادية والحسية مما يتطلبه جسم الإنسان وبدنه، ومن هنا فحاجة الإنسان للتربية والتعليم أمر ضروري حيث أن الإنسان مجبول علي التأنس والعيشة مع أمثاله، لذا وجب عليه تحسين خلقه، وترويض طبعه، وذلك باكتساب العادات الحسنة واجتناب العادات السيئة حتى يصير ذلك له طبعاً وعادة عن طريق ترويض نفسه وتدريبها علي ذلك(38).
ويرى الطهطاوي أن تعليم المرأة مما يزيدها أدباً وعقلاً، ويجعلها أهلاً للمعارف، تصلح لمشاركة الرجل في الكلام والرأي فتعظم مكانتها عنده. كما يمكنها التعليم من مزاولة العمل كالرجل سواء بسواء، بحسب قدرتها وطاقتها، وهذا أفضل لها من البطالة فتنشغل بالأباطيل والثرثرة حول سيرة الناس. وهذا ما ينقلنا للحديث عن النقطة التالية وهي عمل المرأة وموقف الطهطاوي منها.
حق المرأة في العمل:
ويتعرض الطهطاوي في ذلك الوقت المبكر من تاريخ نهضتنا العربية، لقضية شائكة لم تكن مقبولة حينذاك بحال من الأحوال في المجتمع المصري، ولا في غيره من المجتمعات العربية والإسلامية، وهي قضية عمل المرأة، فيؤكد علي حق المرأة في التعليم والعمل، ولا يجد ما يحول بينها وبين ذلك شرعاً، ويحاول أن يؤصل تاريخيًّا وشرعيًّا هذا الحق بالأدلة الشرعية.
وقد أشار إلي ذلك الموقف أحد الباحثين بقوله: (وقضية العمل بالنسبة للمرأة، وقف الطهطاوي منها موقفاً متقدماً، بل وثورياً بالنسبة لعصره، فالرجل لم يحدد لتعليم المرأة آفاقاً تحدد دائرة حياتها بالمنزل والأولاد والزوج فقط … بل ربط العلم عندها بالعمل الذي يمكن أن تتعاطاه)(39).
فصرف الهمة نحو تعليم البنات أمر واجب وحسن في حقها، لما يعود عليها وعلي المجتمع بالنفع، فالتعليم سيزيدها أدباً وعقلاً، ويجعلها أهلاً للمعرفة، ويجعلها أهلاً لمشاركة الرجال في الكلام والرأي، فتعظم مكانتها عنده، كما سيمكنها من حسن معاشرة زوجها، لأنها بطبيعة الحال أفضل من معاشرة المرأة الجاهلة، فالعلم سيهذب عقل المرأة ويزيل ما به من سخافة وطيش.
وعلاوة علي ذلك فإن التعليم سيمكن المرأة (عند اقتضاء الحال أن تتعاطى من الأشغال والأعمال ما يتعاطاه الرجال، علي قدر قوتها وطاقتها، فكل ما يطيقه النساء من العمل يباشرنه بأنفسهن، وهذا من شأنه أن يشغل النساء عن البطالة، فإن فراغ أيديهن عن العمل يشغل ألسنتهن بالأباطيل، وقلوبهن بالأهواء وافتعال الأقاويل، فالعمل يصون المرأة عما لا يليق، ويقربها من الفضيلة، وإذا كانت البطالة مذمومة في حق الرجال فهي مذمة عظيمة في حق النساء. فإن المرأة التي لا عمل لها تقضي الزمن خائضة في حديث جيرانها)(40).
واضح في حديث الطهطاوي السابق، أنه لا يقرر فقط وجهة نظره حول حق المرأة في العمل، ولكنه في الوقت نفسه يرد علي من ينكر عليها ذلك، ويبين ما يترتب علي جهل المرأة من مفاسد عظيمة في حقها كإنسان، وفي حق من حولها كالخوض في سيرة الجيران، وفي حق المجتمع الذي تنتسب إليه أيضاً.
والجدير بالذكر أن الطهطاوي يذكر بإجمال وجهة نظر الخصوم الذين ينكرون علي المرأة حقها في التعليم، بحجة أن التعليم قد يكون وسيلة لفساد المرأة، لأن من طبعها الدهاء والمكر، كما أنها بطبعها ناقصة العقل والأهلية، وأنهن خلقن فقط للمتاع وملاذ الرجال وحفظ النسل.
لكن يبدو أن الناس لكثرة ما ألفوا حرمان المرأة من هذه الحقوق، كالتعليم والعمل، ظنوا أن ذلك هو الصواب، وأنه لمن الفساد أن تحصل علي هذه الحقوق فأخذوا يتشبثون بأفكار واهية، ويرددون حجج ضعيفة لا تصمد للنقد ولا للمناقشة، وذلك في مجمل تقريره لحقها الواجب في هذا الشأن.
ويرد الطهطاوي علي هؤلاء بالأدلة الشرعية، التي تؤكد حق المرأة في التعليم والعمل مستشهداً ببعض زوجات الرسول r اللائي كن يكتبن ويقرأن، كحفصة بنت عمر وعائشة بنت أبي بكر y ، و غيرهما من النساء في كل زمان ومكان ممن كن يمتهن المهن كالتطريز والتمريض والمشاركة في الحروب.
فيذكر بنات شعيب u وكيف وافق وهو النبي المرسل لابنتيه بسقي الماشية، دون أن يقدح ذلك في حقه بشيء، حيث لا يعد ذلك مفسدة. ولم يكن التعليم والأدب والمعارف، وسيلة لابتذال النساء، وفي المقابل ضل كثير من الرجال نتيجة توغلهم في العلوم والمعارف كالخوارج والمعتزلة(41).
ويعد ذلك الموقف المعادي لحقوق المرأة من العادات الاجتماعية السيئة المنتشرة في المجتمعات الجاهلة، هذا بخلاف المجتمعات المتمدنة التي من أبرز سماتها احترام النساء، وذلك لأنه ( كلما كثر احترام النساء عند قوم كثر أدبهم و ظرافتهم، فعدم توفية النساء حقوقهن، فيما ينبغي لهن الحرية فيه، دليل علي الطبيعة المتبربرة)(42).
ويلمح الطهطاوي إلي جانب نفسي مهم في حرمان المرأة من حقها في التعليم وهو الغيرة من جانب الرجل في أن تظهر مواهب المرأة وخصائصها. وقد جاهد كثيراً في رد أفكار أنصار الفكر المغلق نحو حق المرأة في التعليم والعمل، متأثرين بالعادات والتقاليد التي سيطرت وترسخت في المجتمع المصري في العصرين المملوكي والعثماني، ونسبت زورًا وبهتانًا إلى الإسلام، فوضح أن تلك الأفكار نتيجة لعادات جاهلية غير إسلامية، وهذا ما يؤكد عليه في قوله:
(وليس مرجع التشدد في حرمان البنات من الكتابة إلا التغالي في الغيرة عليهن من إبراز محمود صفاتهن أيا ما كانت في ميدان الرجال، تبعا للعوائد المحلية المشوبة بحمية جاهلية، ولو جرب خلاف هذه العادة لصحت التجربة، فإننا لو فرضنا أن إنسانًا أخذ بنتاً صغيرة السن مميزة وعلمها القراءة والكتابة والحساب، وبعض ما يليق بالبنات أن يتعلمنه من الصنائع، كالخياطة والتطريز، إلي أن تبلغ خمسة عشرة سنة، ثم زوجها لإنسان حسن الخلق كامل التربية مثلها، فلا يصح أنها لا تحسن العشرة معه، أو لا تكون له أمينة، ومثل ذلك سائر البنات، فإن تعليمهن في الأمر عبارة عن تنوير عقولهن بمصباح المعارف المرشد لهن، فلا شك أن حصول النساء علي ملكة القراءة والكتابة، وعلي التخلق بالأخلاق الحميدة، والاطلاع علي المعارف المفيدة، وهو أجمل صفات الكمال)(43).
ويتعرض الطهطاوي لقضية تولي المرأة لمنصب رياسة الدولة أو ما يسميه السياسة العليا. وهذا ما سنناقشه فيما يلي:
المرأة والسياسة العليا:
ويناقش الطهطاوي قضية مهمة جداً وهي حق المرأة في الاشتغال بالسياسة العليا، أو ما يعرف برياسة الدولة، أو الملك، فيقرر ابتداء أن هذا الحق كما قضت الشريعة المحمدية، وقوانين أغلب الأمم مقصور علي الرجال دون النساء. والنساء بطبعهن لا يتحملن أعباء الحكم لما فطرن عليه من ضعف(44).
لكنه يعود ويذكر رأي بعض السياسيين الذين لا يوافقون علي هذا الرأي، ويرون أن الضعف في النساء ليس مطلقاً ولكنه أغلبي فيهم، ويؤكدون علي أحقية المرأة في تولي منصب الحكم ويضرب مثل بمجموعة من النساء أصبحن حاكمات وملكات عبر التاريخ ضربن المثل في الحزم والتدبير كأفضل الرجال (فكلهن أحرزن حسن التدبير والإدارة، وأقمن البراهين علي لياقة النساء لمنصب السلطنة)(45).
ويستطرد في سرد أخبارهن وكأنه لا يمانع في قبول حكم أمثال هؤلاء النسوة اللائي ضربن المثل في الحزم والحسم في تدبير شئون الحكم والممالك التي تقلدوها بعزيمة لا تفتر وإرادة لا تلين، فيتحدث عن بلقيس ملكة سبأ، و الزباء بنت عمر ملكة اشتهرت بالقوة والحزم عند العرب قبل الإسلام، وكليوباترا ملكة مصر، وشجرة الدر التي حكمت مصر وغيرهن من النساء عبر الأمم(46).
ويبدو أن رفاعة الطهطاوي كانت لديه قناعة شخصية بقدرة المرأة علي تولي الحكم، رغم معارضته لذلك امتثالا لأمر الشرع الذي نهي من ذلك كما “اقتضت الشريعة المحمدية”، وهذا ما يستشف في سرده المطول لأخبارهن، بصورة تظهر إعجابه، وحرصه علي معرفة الأجيال التي ستتربى علي عمله هذا، وخصوصاً من الفتيات اللائي يتعلمن في المدارس، باتخاذ أمثال هؤلاء النساء مثلاً وقدوة.
وإذا كانت هذه القضية الشائكة حتى وقتنا الراهن محل خلاف بين العلماء والفقهاء المعارضين لها لتولي منصب الرئاسة، والذين خلصوا إلي أن نهي الرسول عن ذلك في قوله r: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)(47)، مرتبط بحدث معين وحادثة خاصة، وبالتالي لا ينسحب علي جميع الحالات، ومن ثم لم يجدوا حرجاً في القول بجواز إسناد منصب الحكم للمرأة.
ويلاحظ أنه بعد أن ينتهي من الحديث بإعجاب عن هذه النماذج من النساء اللائي تقلدن السلطة وسلكن مسالك الشجعان، إلا أنهن سيئات العواقب، وقل أن خلت إحداهن في بعض الأفعال من نقصان. فإذا كان حالهن كذلك، فكيف يجوز وراثتهن للخلافة والسلطنة، ومن تقلد منهن السلطنة وأفلح فيها فلم يكمل لها الفلاح، وإذا كمل فهو من النادر الذي لا حكم له، فحديث: “لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة” صادق بالمضمون، مؤيد بالتجارب، وتولية شجرة الدر، التي لم تسبق في الإسلام سلطنة لغيرها، كانت من قبيل الضرورة التي تبيح المحظور(48).
لكنه بعد ذلك مباشرة يعقب بقول لأحد الحكماء من أنصار التقبيح والتحسين العقليين ممن لا يتبعون النص الشرعي – وعلي ما يبدو أنه أحد أصدقاءه من الأجانب، لأنه يصف الفرنسيين بأنهم من أنصار التقبيح والتحسين العقليين ، بأن النساء من قديم الأزل في مصر رئيسات منازلهن، يسسن أمور المنزل دون مشاركة الرجل من تدبير شئون البيت إلى تربية الأبناء، رغم أن العقل والطبع لا يوافقان علي ذلك لما فيها من ضعف، فيكتسب الأولاد منهن قلة الشهامة وعدم التعود علي الشجاعة.
لكن العقل والطبع لا يمنعان المرأة من تولي الحكم والرئاسة، لأن ما فيهن من ضعف، هو الذي يكسبهن الرفق والرحمة والحلم وكل ما يليق برتبة الحكم والرئاسة من خصائص تقوم علي الرأفة والشفقة بالرعية، وهي أمور لصيقة بطبع المرأة، بعكس الرجل الذي يتصف بالشدة والعنف والجبروت وغيرها من الأخلاق الجافية التي هي لصيقة بالرجل، وهى صفات لا تليق بالملوك في تأليف قلوب الرعية، ومن ثم فلا موجب لحرمان النساء إذن من توليها نظام الحكم والرئاسة، خصوصاً وقد أثبت كثير منهن حكمة ونجاحاً في حكمها وتميزن بمآثر و أحسنت في حكمها.
ثم يعقب الطهطاوي علي هذا الرأي بقوله قد فهمت رده، ويظل يطرح الحجة الشرعية ويثبت عكسها بحكم الواقع، فمثلاً يتحدث عن سعة أبواب الشريعة والسياسة التي تخص الملوك وكيف أنها لا تطيقها عقول النساء، لتعذر مخالطتهن بصفة مستمرة للموظفين المتصلين بشئون الحكم من المدنيين والعسكريين.
غير أنه يؤكد مرة أخرى، علي أن النساء لا يعدمن القدرة علي ممارسة هذه المهام السلطانية، فإن السيدة عائشة – علي سبيل المثال – استجمعت من الأمور الشرعية والسياسية كفاءة الخلافة. ويروي ما يؤكد مثل هذا الكلام عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه(49).
وكأن الطهطاوي في صراع نفسي حول أحقية المرأة في الحكم والخلافة، فيري أن مؤهلاتها من حيث هي إنسان لا تمنع، لكن المحاذير الشرعية تحول دون ذلك، فيبسط وجهتي النظر بحياد وتجرد، دون تعصب ولا تسفيه لوجهة نظر. ويبدو أنه كان يتناقش حول هذا الأمر مع أحد من أصدقائه الغربيين، الذي لا يرى مانع من تقلد المرأة لهذا المنصب – رئاسة الدولة – ويستمع لوجهة نظره، ثم يقرر رأي الشرع في المنع وعلة ذلك.
لكنه في ختام هذا الفصل ينتهي لرأي حاسم في هذا الموضوع، يفهم منه أنه مع الرأي الشرعي بالمنع، حينما يقرر بوضوح أن من أجاز لها هذا الأمر هم أنصار التقبيح والتحسين العقليين ممن لا يلتزمون بالشريعة، ويقصد بهم الغرب، حيث كانت توجد مجموعة دول غربية تتبع النظام الملكي وتتولي الملكية فيها نساء.
ورأي الطهطاوي في هذا الموضوع الذي ختم به هذه المناقشة، مما يعد بمثابة نتيجة تلخص مجمل رأيه بشكل قاطع هو قوله:
(وأما السلطنة الرسمية علي الرعية – يقصد للنساء – فهي لا تكون إلا في البلاد التي قوانينها محض سياسة وضعية بشرية، لأن قوانين مثل هذه الممالك، تنتج اختلاط الرجال بالنساء، بناء علي قانون الحرية المؤسس عليه تمدن تلك البلاد، و إلا فتمدن الممالك الإسلامية مؤسس علي التحليل والتحريم الشرعيين، بدون مدخل للعقل تحسيناً وتقبيحاً في ذلك، حيث لا حسن ولا قبيح إلا بالشرع).
ولا يسوغ لمتولي الأحكام أن يحكم في التحريم والتحليل بما يلائم مزاجه، مما يخالف الأوضاع الشرعية المنقولة عن الأئمة المجتهدين، ولا عبرة بالاستكراه النفساني، والاستحسان الطبيعي، والأخذ بالرأي من غير دليل شرعي، بل يعتمد متولي الأحكام علي فتاوى العلماء وأقوال المجتهدين في الدين، فإن الإمامة إنما تخلف النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا(50).
وهذا يعد خلاصة رأيه في القضية وهو رأي حاسم في هذا الباب، في أنه كان يقف مع الشرع في منع المرأة من ولاية الحكم، ولا يمكن أن نحمل الطهطاوي في هذا الوقت المبكر من تاريخ فكرنا الحديث والمعاصر بأكثر مما يحتمل.
وحقيقة الأمر أن موقف رجال الفكر والدعوة المعاصرين مازال متوافقاً مع رؤية الطهطاوي، من حيث منع المرأة من منصب الحكم، فسعيد رمضان البوطي يؤكد علي (إننا إذا استثنينا رئاسة الدولة التي كان يعبر عنها بالخلافة عن رسول الله r، فإن سائر الرتب والأنشطة السياسية الأخرى، تعد في الشريعة الإسلامية، مجالات متسعة لكل من الرجل والمرأة)(51).
ويستدل بحديث الرسول (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) علي المنع وهو ما استدل به جمهور علماء الشريعة علي حرمة إسناد مهام الخلافة أو رياسة الدولة إلي المرأة أيا كانت، ولا يجوز أن تعقد لها البيعة شرعاً.
والحكمة من وراء ذلك، أن قسما كبيرا من مهام الخليفة أو من يحل محله مهام دينية محضة، وليست مجرد سياسة، ومنها جمع الناس لصلاة الجمعة وخطبتها، والمرأة غير مكلفة بذلك ولا حتى بالحضور كما لا يجوز أن توكل من يقوم بذلك طبقاً للقاعدة الشرعية: لا تصح الوكالة إلا ممن يستوي مع الوكيل في المطالبة بذلك الحكم وشرائط صحته وانعقاده. ومن مهام الخليفة إعلان الحرب وقيادة الجيش في القتال، والمرأة غير مكلفة بذلك إلا في حالة النفير العام عند مداهمة العدو دار الإسلام، وغير ذلك من القضايا التي نقتضي عدم الزج بالمرأة في هذه المواقف المحرجة، التي لا ضرورة لها(52).
وممن تعرض لقضية الحرية برؤية جديدة في تاريخنا الفكري المعاصر، عبد المتعال الصعيدي، الذي تناول بوضوح وصراحة حرية الفكر والعقيدة، بصورة غير معهودة من قبل في ثقافتنا الدينية الحديثة والمعاصرة، خصوصاً وأن رأيه كان اجتهادا فكرياً متكأ علي التراث، حتى وهو ينفرد برؤى جديدة أثارت عليه أنصار الرؤى التقليدية. وقد جاء رأيه بعيداً عن التأثيرات الأيديولوجية، أو بدافع هوي شخصي يهدف إلي حب الشهرة أو الخروج علي المألوف، أو يهدف للمعارضة من أجل العارضة. وهذا ما سنناقشه في الصفحات التالية.
قضية الحرية عند الصعيدي:
هل الحرية في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر تجاوزت نطاق التأصيل النظري، والدفاع عن النفس في تبديد التهم التي توجه إلي الإسلام بأنه يقيد الحرية؟ وهلا فعلاً الواقع العملي في حياتنا لا يبدد هذه التهمة؟ هذه الأسئلة وغيرها طرحها الباحثون المعاصرون في الفكر الإسلامي، وهذا ما أكد عليه احدهم في قوله:
( أعتقد أننا مازلنا ندور في حلقة التأصيل مأخوذين بالحالة الدفاعية التي تحاول أن تنفي عن الإسلام تهمة تقييد الحرية الفكرية. فيما الواقع العملي لا يبدد هذه التهمة. والسبب في ذلك عدم وضوح الحدود التي ترسم سقف الممارسة العملية، ويعود الأمر إلي تخلف الفقه السياسي بالقياس إلي فروع الفقه الأخرى)(53).
في واقع الأمر فإن الدفاع عن الإسلام، بالتركيز علي عيوب الليبرالية غير مجدي شيئاً للإسلام، وذلك لأن المعركة تكون قد جرت علي أرض الإسلام، وبما أن نموذج الليبرالية قائم بالفعل وله أنصاره ومؤيدوه، فمن الأولى التركيز علي أن الإسلام له رؤيته الخاصة، فيما يتصل بقضية الحرية ويضع حدوداً علي ممارستها والتعبير عنها، ويرفض الحرية المطلقة، فلا يسمح بأدب خليع، ولا بفكر يعادي الغيب والتوحيد والإيمان، أو يشكك في أساسيات الدين، بدعوى العقل والعلم .
وهذا الواقع يعبر عن نفسه كلما صودر كتاب أو رواية تتضمن تشهيراً بالثوابت والقيم الدينية من قبل العلمانيين والأيديولوجيين الذين يتدثرون بشعار حرية الفكر للتهجم علي الإسلام بحجة معاداته لحرية الفكر والرأي، وهو ما تكرر كثيراً وفى كل مرة تشتعل الهجمة علي الإسلام وقيمه وضيقه بالرأي الآخر، وهي هجمات مصطنعة تهدف من وراء هذا الهجوم المتكرر، إلي وضع الإسلاميين في موقف حرج، ويحشرهم في زاوية المدافع بصفة دائمة.
ومن ثم فالأجدى فتح الأبواب لكل صاحب رأي، يعبر عن نفسه بحرية، فالرأي الفاسد سوف يزوي ويضمحل، فما أكثر ما اندثر من أفكار ومذاهب وفرق ضالة ذهبت أدراج الرياح. إن التضييق علي الفكر ومقارعته بغير الفكر والبرهان، دليل علي توجس وخوف، والإسلام أقوي من كل هذا، وأكبر من أن تنال منه فكرة باطلة أو رأي فاسد، لكن المشكلة في الذين ينصبون أنفسهم حماة الإسلام فيضعوا القيود والحدود، ويلجموا الناس عن التعبير عن أنفسهم بحرية وصراحة(54).
هذه المقدمة تمثل تعبيراً حقيقيًّا عن واقع الحال المأزوم في واقعنا المعاصر في العالم العربي والإسلامي، الذي لا تهدأ فيه غبار المعارك الوهمية حول حرية الفكر وال