أبحاث

تقييد السلطة بين النموذجين الإسلامي والغربي

العدد 81

تقديم :

الأصل فى أى نظام سياسى أنه مجموعة من قواعد عمل وصيغ تنظيمية يرتكزان إلى قيم عمل وفلسفات تأتى جميعاً لحل المشكلة السياسية ،ومن هنا فإن تقويماً صادقاً لنظام سياسى ما يتعين أن يتمثل فى تقويم قدرته على تقديم الحلول الفعالة لهذه المشكلة ،وهكذا فإن موضوع هذا البحث يقتضى البدء بتحديد مضمون المشكلة السياسية حتى يتناول الباحث فى ضوء هذا المضمون معايير الحل الغربى المعاصر، متمثلة فى المبادئ والأشكال التنظيمية التى تشكل مرتكزات ودعائم النظم السياسية الغربية المعاصرة ولمى نرى إلى مدى أفلح النسق فى تحقيق الحل الأمثل للمشكلة السياسية .

وحتى إذا ما انتهى الباحث من ذلك انتقل إلى دراسة النموذج الإسلامى فى حلة للمشكلة السياسية من خلال القواعد العامة والقيم الحاكمة التى يمكن استقراؤها من الأصول (قرآناً وسنة ) والصيغ التنظيمية التى قدمتها الخبرة التاريخية الإسلامية كحل للمشكلة السياسية .

وعلى هذا فإن هذا البحث ينقسم إلى ما يلى :

أولاً: جوهر المشكلة السياسية من خلال دراسة طبيعة الدول الحديثة .

ثانياً :مقارنة بين كل النموذجين الغربى والإسلامى فى حله المشكلة السياسية من خلال الأشكال التنظيمية القواعد الحاكمة والمناهج التى يستند إليها كل منهما فى تعامله مع المشكلة السياسية .

أولاً : جوهر المشكلة السياسية (1) .

إن صلب المشكلة السياسية ينطلق من أنه ما من إنسان إلا وفى طبعه درجة من الرغبة فى التسلط على الآخرين ،وإن تولى السلطة بما يتضمن من احتكار لأدوات العنف فى المجتمع يهيئ بالتدلى بتلك الرغبة إلى التعسف فى استعمال السلطة ،بل وإلى الانحراف بها ،ومن هنا تبرز المشكلة السياسية بمضمون قوامه : ما الوسائل التى إن اتبعت حالت دون ذلك التسلط ؟

بعبارة أخرى: إن السلطة السياسية ضرورة اجتماعية يقتضيها قيام المجتمعات الإنسانية وقدرتها على الاستمرار ،غير أن هذه الضرورة الخيرة قد تجاوز مقتضيات خيريتها بأن تنطلق بما أوتيت من احتكار لأدوات العنف إلى الاستبداد ،وهنا تظهر المشكلة السياسية بمضمون مؤداه : ما الوسائل التى إن اتبعت أوقفت قوة السلطة عند خيريتها ؟

ويضاف إلى نزوع الأفراد نحو التسلط طبيعة الدولة الحديثة التى تتصف بالسمات التالية :

1- تضخم أجهزة الدولة وتشعبها حتى وصلت إلى مختلف أنشطة الحياة ،فالدولة لم تعد أدوات “العنف المشروع ” فقط ،بل أصبح لها القدرة على التلاعب بالعقول وإعادة تشكيلها بما تملك من أدوات وأجهزة التعليم والإعلام .

2- تشكل قطاع اجتماعى واسع من موظفى الدولة المتعايشين من العمل فى أحد أجهزتها ،حتى أصبح ضخماً عدداً ،وضخماً قدرة وسلطة وصلاحيات ،ولم يعد هذا القطاع وسيلة لتصريف أمور الدولة والمجتمع ،وإنما أصبح حالة تقتضى الخروج على المجتمع بكل فئاته والتحكم بالدستور والقانون .

3 – ينزع الواقع الموضوعى والنفسى لأجهزة الدولة وأفرادها من القمة حتى القاعدة ،نحو التضخم وزيادة السلطة والصلاحيات والارتفاع فوق المجتمع وإخضاعه ،ويتفاقم هذا الأمر إذا امتكلت الدولة أدوات الإنتاج وأصبحت قيمة على تسيير اقتصاد الأمة وفق خططها وتحت إشرافها .

– الدولة تملك هامشاً عريضاً من التحرك خارج الطبقات والمجتمع ،بل فوق الطبقات والمجتمع فى أكثر الأحيان .

– الدولة تنزع دائماً نحو توسيع الصلاحيات وتغزيز السلطان والتحكم فى المجتمع .

– الدولة تنزع دائماً نحو مزيد من مركزة السلطة ،فالقانون الذى يحكم طبيعة الدولة – أية دولة – هو الاتجاه والميل نحو توسيع الصلاحيات ونحو التحكم فى المجتمع ،ونحو التحول إلى قوة فوق المؤسسات والمجتمع ، بل فوق الدستور والقانون ،وهذا ما جعل الصراع بين اتجاه الدولة نحو السيطرة واتجاه المجتمع عموماً ، خصوصاً القوى الاجتماعية الأقوى يشكل قانوناً ملازماً للعلاقة بين الدولة والمجتمع .

ويلاحظ أول ما يلاحظ من بسط إشكالية العلاقة بين الدولة والمجتمع أن القانون الموضوعى أو السنة الجارية يتمثل بوجود تجاذب متعاكس بينهما (الدولة والمجتمع) تكون الغلبة فيه للدولة عموماً ،عدا بعض الفترات قصيرة العمر التى تهب فيها عواصف الانتفاضات الشعبية والتغيير الثورى ،أو فى فترات بناء الأنظمة الجديدة أو إذا كان المجتمع يملك قدرات اقتصادية واجتماعية وتنظيمية وسياسية وأيدولوجية وثقافية تسمح له بالتحدى والموازنة مع قدرة الدولة ،بينما يميل الميزان فى مصلحة الدولة فى حالات الحروب الخارجية أو إعلان حالة الطوارئ والحالات التى يسيطر فيها الجيش أو الحزب الواحد على الدولة (3) .

والخلاصة :أن سمة نزوع الأفراد نحو التسلط على الآخرين وسيطرة الدولة على المجتمع تتطلب وجود قيم وأشكال تنظيمية تخلق توازناً بين السلطة باعتبارها ضرورة اجتماعية وبين حرية الأفراد ،ويمتد التوازن ليحكم علاقة الدولة بالمجتمع ويمنع من تحقيق غلبتها عليه .

ثانياً : حل المشكلة السياسية بين

النموذج الغربى والإسلامى :

إن عقد المقارنة بين كل من النموذج الغربى والنموذج الإسلامى فى تعاملها مع المشكلة السياسية ،ينقسم فى نظر الباحث إلى جزأين ،يتعلق أولهما : بمنهج تعامل كل منهما مع المشكلة السياسية بينما يختص الثانى : بالأشكال التنظيمية والقواعد الإجرائية التى اضطلعت ببلورتها الخبرة التاريخية لكل منهما .

1- منهج التعامل مع المشكلة السياسية :

إن نقطة الارتكاز فى هذا المنهج تتمثل فى الموقف من “حاكمية الله ” باعتبارها النقطة المرجعية التى يتم الاحتكام إليها من خارج الجماعة ،بعبارة أخرى فإن الأساس الفلسفى الذى يستند إليه النموذج الغربى فى تعامله مع المشكلة السياسية وسائر المشاكل الأخرى يمكن فى موقفه من الخالق وجوداً وعدماً ،وما علاقته الإنسان والواقع المادى ؟

فالنموذج الغربى يستعبد الله من النموذج المعرفى ،ومن ثم من النموذج الأخلاقى ومن عمليات التعامل مع الواقع (الحياة الدنيا) ويخضعها جميعاً للقوانين الطبيعية الكامنة فى المادة ،حتى وإن اعترف به على مستوى القول ،بمعنى عدم إنكار الخالق بشكل قاطع ومباشر ،ويترتب على ذلك استبعاد كل القيم المطلقة والمثاليات والقيم الخلقية من النموذج المعرفى ومن التعامل مع الواقع المادى .

إلا إن النتيجة الأهم التى تتعلق بما نحن فيه (المشكلة السياسية) أن الضمانات التى يقدمها النموذج الغربى هى من صنع الجماعات وتقع جميعاً فى داخل النظام القانونى للدولة ذاته ،تتقرر داخل أجهزة الجولة ومؤسساتها ويصبح سند الالتزام بطاعة السلطة فى مجرد الاقتناع بأن القواعد الوضيعة الصادرة عن الدولة قد تمت طبقاً للإجراءات المحدد لذلك فى نظامها القانونى والدستور (3) ،بعبارة أخرى : فالدولة تصبح المطلق وصالحها أو ما يسمى بالصالح العام يصبح هو الهدف النهائى من حركة المجتمع ،فعلم السياسة الغربى خصوصاً منذ ميكافيللى وهوبز يؤكد أنه لا توجد أهداف نهائية ولا غايات مطلقة لوجود الإنسان ،فالخير هو مصلحة الدولة العليا ،ومن ثم فلا يمكن الحديث عن ضمانات تقيد سلطان الدولة العليا ،ومن ثم فلا يمكن الحديث عن ضمانات تقيد سلطان الدولة المطلق ،فالشرعية فى الفقه القانونى الغربى يشير مدلولها الدقيق إلى شرعية السلطة القائمة من حيث صلاحيتها كسلطة للأمر الذى يستوجب التكليف بالطاعة ،وأن الشرعية لذلك تقع فى جملتها ووفقاً لهذا الفقه فى مجال الفلسفة السياسية (الأيدولوجيا) ،ومن ثم فى مجال سابق على مجال المشروعية التى تعنى فى إطار الدولة الغربية الحديثة ،قيام السلطة من ناحية ،وقيام نظام قانونى من ناحية أخرى ،والتزام الأولى بذلك النظام فى كل ما يصدر عنها ،ومن هنا فإن المشروعية ككل فى ظل الدولة الغربية الحديثة – هى من شأن النظرية القانونية للدولة ،بينما تقع الشرعية بكل قضاياها فى خارج الإطار القانونى للدولة ،وهى وفقاً لهذا الفقه سابقة فى الوجود عليها ؛لأن الشرعية تدور حول مدى صلاحية السند الذى يرتكز إليه النظام القانونى للدولة فى جملته .

ولقد تمثلت ضمانات مبدأ الشرعية فى الدولة الغربية المعاصرة فى ضمان قانونى صرف يتحرك فى إطار النظام القانونى للدولة ذاته ويتقرر مصيره داخل أجهزتها ومؤسساتها ،إنه نظام الرقابة على دستورية القوانين وهى إما أن تمثلها هيئة سياسية تقوم على التحقق مسبقاً من دستورية القوانين ،وليس بخاف أن انحراف هذه الهيئة أمر متصور تبعاً لكونها هيئة سياسية ،وإما أن تستند هذه الرقابة إلى هيئة تضامنية تمارسها ،وليس بخاف أن الهيئات التضامنية القائمة على تلك الرقابة هى فى النهاية من أجهزة الدولة (4) .

والخلاصة فى شأن الرقابة على دستورية القوانين أنها تقع فى داخل النظام القانونى للدولة وتتحرك فى إطاره فكيف تكون رقيبة على الشرعية بالمدلول الدقيق لها ،أى تلك القيم الأساسية والأهداف العليا للدولة التى هى فى ذلك التصور الغربى للشرعية سابقة على ذلك النظام .

جملة القول فى شأن الشرعية كدعامة أولى لنظام الدولة الغربية المعاصرة أنها تقف عند مجرد المشروعية فى إطار النظام القانونى للدولة فلا تتجاوزه تاركة بذلك مضمون الشرعية الدقيق من غير ضمانه حقيقية ، وهكذا ينتهى الأمر فى ظل الدولة المعاصرة إلى مشروعية بمدلول ضيق ،وضمانة وضعية هزيلة هى الرقابة على دستورية القوانين التى مؤداها الموضوعى هو التزام الدولة بنظامها القانونى الذى هو من وضع أجهزتها ثم الاحتكام إلى هيئات تنتمى إليها أيضاً فى شأن مدى التزامها بذلك النظام ،فهى عادلة طالما التزمت بنظامها القانونى الذى هو من وضعها والذى تستطيع التعديل والتبديل فيه كلما شاءت(5).

  أما الضمانات فى النموذج الإسلامى فهى “ضمانات شرعية ” مستمدة من الشريعة لا من قرارات الأغلبية وبذلك لا تكون تحت رحمة سلطة الأغلبية أو من هو قادر على تشكيل وصنع الأغلبية بالأساليب والوسائل المختلفة ،فهى مبادئ ثابتة تفرضها الشريعة وتتأسس على العقيدة وتلتزم بالأخلاق الثابتة ،وهذا يحميها من الانحراف والتحول ،وهذه الطبيعة الأهلية للضمانات أو المبادئ التى تحكم حل المشكلة السياسية تحول الضمانات إلى التزامات قبل الله رسوله ،أو بتعبير آخر يجعل منها “ضرورات ” “وحرمات ” لا مجرد

حقوق (6) ،ضرورات تدخل فى إطار الواجبات الدينية التى لا سبيل لحياة الإنسان – حياة تستحق معنى الحياة – بدونها ،ومن ثم فإن المحافظة عليها ليس مجرد للإنسان ،بل هو واجب عليه أيضاً يأثم هو ذاته فرداً أو جماعة إذا هو فرط فيها ،ذلك فضلاً عن الإثم الذى يلحق كل من يحول بين الإنسان وبين تحقيق هذه الضرورات. وأهمية الطابع الإلهى لهذه الضمانات أو المبادئ أن المجتمع الخاضع للشريعة تخضع فيه الدولة أيضاً بجميع سلطاتها ونظمها وأجهزتها لهذه المبادئ ،فلا تستطيع أن تعطلها بتغيير الدستور والقوانين . إن هذه الصفة الإلهية هى للشريعة فقط وليست للحكومة أو الدولة ،وينتج عن ذلك أن القداسة والخلود والثبات يكون صفة للمبادئ التى قررتها الشريعة والضمانات التى قدمتها ،ولا يجوز خلع هذه الصفة (الإلهية ) على الهيئات أو السلطات التى تنفذها ،بل إنها جميعاً هيئات وسلطات مدنية تنوب عن الجماعة وتعمل باسمها ،وتلتزم هى أيضاً بالخضوع لمبادئ الشريعة بما يعنيه ذلك من عدم إمكان قيامها بتغييرها أو تبديلها .

والحاكمية التى تعنى أن الله مصدر جميع الأحكام التكوينية والتشريعية ،بل ولسلطة الأغلبية فى النظام الديمقراطى (7) ،ومن ثم فلا تستطيع الأغلبية بما أوتيت من سلطات تنفيذيه وتشريعية – أى فى المجالس التى تتكون بغرض التشريع – أن تبدل فى هذه الضمانات أو تزيد أو تنقص منها، فالحاكمية تعنى تقييد سلطة المشرع الوضعى وحماية الأفراد والمجتمعات من طغيان الحكام الذين يتخذون القوانين وسيلة لفرض سلطانهم واستبدادهم ،وهذا هو معيار التفرقة بينها وبين “سيادة القانون ” الذى يعنى حماية الأفراد والمجتمع من مخالفة مؤسسات الدولة وحكامها للقوانين الوضيعة التى أصدرتها السلطات المختصة فى الدولة ،ولكن يبقى الباب مفتوحاً للحكام أو الأغلبية لإصدار القوانين الوضيعة التى تغطى الاستبداد والطغيان بصورة قانونية .

بعبارة أخرى ،فإن الفرق بين سيادة الشريعة وسيادة القانون هو أن المبدأ الأول تلتزم به السلطة التشريعية الوضيعة (كالبرلمان أو رئيس الدولة أو أى هيئة أخرى خاضعة أو ممثلة له ) ،أما المبدأ الثانى فتلتزم به السلطة التشريعية ؛لأن وظيفتها هى مصنع القوانين وتعديلها ،ولا يعتبر هذا التعديل خروجاً عليه (8) .

وكنتيجة لكون الدولة خاضعة للشريعة تكون الصحة ،صحة القوانين مقترنة بمواطأة المبدأ الذى تتخذه الجماعة عقيدة متحققة بصرف النظر عن جهة الإصدار ،فلو أجرى أحد الأفراد أو أحد صغار العمال تصرفاً موافقاً للشريعة ومخالفاً لأمر الخليفة ،صح تصرف الفرد أو العامل ولم يعتد بما أصدره أمير المؤمنين ؛ لأنه باطل لمخالفته الشريعة (9).

ولا يقتصر تقييد الحاكمية لسلطات الدولة وسلطان الأغلبية ،بل يمتد ليشمل جميع المجتهدين والاجتهادات الفقهية مما يضفى على الضمانات التى تقر حقوق الأمة وحريات الأفراد وتمنع الاستبداد ثباتاً وقداسة تخضع لها جميع الاجتهادات (فى الفقه) كما تلتزم بها الدولة وحكامها فى السياسة .

وهكذا فإن النتيجة العلمية لمبدأ الحاكمية هى أن الأساس الذى يقوم عليه نظام الحكم الإسلامى مستمد من مصدر أعلى من الدولة ومهيمن عليها ،فليست الدولة الإسلامية أو الأغلبية فيها أو مجتهدوها أحراراً فى تقييد أو إلغاء المبادئ الشريعة التى تحدد مقومات الحكم الشرعى أو خصائصه أو أصوله ،وإذا فعلت إحدى الدول أو الحكومات أو أحد الأطراف ذلك وهو ما يحدث من حين لآخر ،فإن هذا الطرف بخرج فى نظر جمهور المسلمين عن حدود الشريعة ،ويلتزمون جميعاً أو من يملك القدرة على ذلك السعى لتصحيح الوضع المخالف للأحوال والمبادئ الشريعة.

كما أن إعمال مبدأ الحاكمية يرفع من قيمة الأحكام المستمدة منها ،ويجعل تنفيذ تلك الأحكام والالتزام بطاعتها طاعة للخالق المعبود ،وبذلك تصبح للمبادئ الشريعة والضمانات التى تتأسس عليها قداسة وحرمة تضمن الالتزام بها وتعصم المؤمنين من الخروج عليها أو مخالفتها ؛لأن الوازع الدينى والعقدى هو الذى يقوم بالدور الأول والأساسى لالتزام الناس باحترام الشريعة والتزام أوامرها ونواهيها التزاماً طوعياً.

بعبارة أخرى ،فإن الضمانات – ضمانات تقييد السلطة فى النموذج الإسلامى لابد أن تتأسس علة الوازع الدينى والعقدى ،وهذا يفرض منهجاً مختلفاً فى التعامل مع المشكلة السياسية ،فلابد أن نبدأ أولاً بإصلاح خلق الأفراد وسلوكهم وعقيدتهم ،ثم بعد ذلك تعدل النظم والدساتير والقوانين لتضيف إلى الضمانات الدينية والأخلاقية ضمانات دستورية .

فصلاح المجتمع واستقامة أفراده ،والتزامهم المنهج الخلقى الكامل هو الذى يكفل أن تحقق الضمانات فعاليتها وأن تكون القرارات أو الإجراءات المستمدة منها عادلة وصالحة وراشدة .

فالشورى على سبيل المثال ليست مجرد ضمانة نظام الحكم العادل ،بل هى ذلك أساس البناء الاجتماعى للأمة لأن نظام الحكم حتى ولو قام على الشورى فى اختبار الحكام لا تكون له قيمة إذا كان الأفراد الذين يتولون هذا الاختيار (الناخبون أنفسهم) غير صالحين لهذه المسئولية وغير قادرين عليها ،ولا يمكن ضمان ذلك إلا إذا توافر لدى أفراد الأمة قدر كاف من الصلاح والاستقامة يزود جمهورها وغالبيتها بالحد الأدنى من القيم الخلقية والكفاءات والقدرات اللازمة لإقامة العدل والإحسان ،أما إذا لم يتوفر لدى أغلبية الأمة هذا القدر من الخلق الصالح فإنها سوف تضع فى المسئولية من هو على شاكلتها من حيث القصور والنقص والانحراف أو العجز والفساد ،ذلك أن الشورى ليست إلا مرآة الأمة ترى فيها صورتها وتبرز بها قدراتها وتجعل قرارتها متناسقة مع ما يشبه حالها ويتناسب مع مستواها العقدى والخلقى والفكرى (10) .

إن فقه الشريعة لا يفصل القانون العام عن المبادئ المتعلقة بنظام المجتمع وعقيدته وقيمه الخليقة والدينية التى تحكم علاقات الأفراد (11) ويتأسس منهجها على شحذ فعالية المبادئ الخلقية والروحية فى نفوس الناس مع إقامة الرادع الذى يوفره القانون وقواعده الملزمة ،ولا يكتفى بإحداهما عن الآخر ،ففى التصور الإسلامى لا تكون “المثالية ” بديلاً عن وجود الضوابط التى تحكم الفعل البشرى فى سكناته وحركاته وحالات الضعف البشرى التى تعتريهم بسبب ما ركب فى جبلتهم من حب التسلط عن الآخرين {كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى } (12) إلا أنه فى نفس الوقت لا يمكن أن تكون الأشكال التنظيمية والقواعد الإجرائية بديلاً عن القيم فلا يعنى وجودها تحقق القيم فى أرض الواقع ،بل لابد من الاطمئنان إلى تحقيقها لهذه القيم فى الواقع السياسى ،ففى النظم العربية ،على سبيل المثال ،أصبح التنظيم بديلاً عن مبدأ حرية الشورى بدلاً من أن يكون مكملاً وضماناً لها .

الأشكال التنظيمية والقواعد الإجرائية للتعامل مع المشكلة السياسية :

أوضح الباحث فى الصفحات فى الصفحات السابقة أن الأشكال التنظيمية والقواعد الإجرائية للتعامل مع المشكلة السياسية يجب النظر إليها فى ظل مجموعة من القواعد تمثل المنهج الذى يتعامل به كل من النموذجين الغربى والإسلامى مع هذه المشكلة ،بل وسائر المشاكل الأخرى .

أول هذه القواعد هو النظر لهذه القواعد وتلك الإجراءات فى إطار الأساس الفلسفى الذى تستند إليه تلك القواعد وأشكالها التنظيمية ،فالنموذج الإسلامى يعترف بالله ويجعل من الإيمان به سبحانه وبحاكميته نقطة الارتكاز التة تدور حولها وتتأسس عليها كافة مناحى الحياة الإنسانية ،بينما لا يعترف النموذج الغربى بالله ويجعل من الإنسان مركز الكون الذى تدور حوله وتتأسس به كافة مناحى الحياة ،ومن ثم فإن الضمانات فى الأول “شريعة إلهية ” ،وفى الثانى وضيعة بشرية .

ويرتبط الأمر الأول ويتعلق به أمر آخر له أهميته فى هذا الصدد ،إن الأشكال التنظيمية والقواعد الإجرائية يجب رؤيتها فى ظل إطار متكامل من القيم التى يرسيها الأساس الفلسفى والتصور الاعتقادى ،وهذا يعنى فى نهاية الأمر أن التنظيم لا يمكن أن يكون بديلاً عن القيمة أو المبدأ ككل ،وأن المثالية لا تعنى عدم وجود ضوابط أو قواعد نظامية أو أشكال إجرائية لمراقبة الحكام .

وفيما يلى يعرض الباحث لأمرين هما بمثابة حجر الزاوية فى حل المشكلة السياسية فى كلا النظامين : أولهما يتعلق بتوزيع السلطات فى النظامين ،وثانيهما يختص بالرقابة فى النظامين .

أ- توزيع السلطات فى النظامين الغربى والإسلامى :

“يتم توزيع العمل الواحد بين العديد من الأجهزة والمؤسسات فلا يستقل فرد أو مؤسسة واحدة بالعمل العام ، وإنما يتناول العمل الواحد عدداً من الأجهزة يتداوله كل واحد منها فى مرحلة محددة من مراحل تكونه حتى يصدر فى النهاية ولك لمن هذه الأجهزة سهم شائع فى تكوينه وإصداره ،وهذا التوزيع للعمل الواحد يمكن من مشاركة تخصصات فنية كثيرة ومتنوعة فى إعداد العمل ودراسته من وجوهه العديدة ،كما أنه يحفظ العمل العام من أن يكون مستوعباً فى إدارة فردية واحدة أو فى إطار النظرة المحدودة لجهاز واحد ،ويجعل مجال السلطة موزعاً على العديد من المؤسسات ” (13) .

وقد رؤى أنه إذا ذكرت السلطة – سلطة إصدار القرار العام – فى مؤسسة وحيدة أو فرد واحد ،فإنه يتولد ميل لدى هذه الجهة – مؤسسة كانت أم فرداً – لأن تضفى ذاتيتها على مكانتها فى إنشاء العمل العام الأمر الذى يؤثر فى مدى رعايتها للصالح العام للجماعة ككل عند النظر والتقرير .

والتعدد أو توزيع السلطات المقصود به هو تثبيت سلطة واحدة لإصدار القرار العام ولكنه يوزع هذه السلطة الوحيدة على لعديد من المؤسسات بحيث لا تكتمل ممارسة السلطة الواحدة إلا عن طريق نشاط هذه المؤسسات مجتمعة ،فالتعدد هنا هو أقرب إلى التقسيم الموضوعى لأنماط العمل المختلفة بحيث يفيد تخصصاً لكل مؤسسة فى بعض مراحل العمل العام (14) .

والتنظيمات الحديثة تنتهى إلى تحديد ثلاث جهات يتوزع عليها العمل العام أو النشاط العام ،بحيث يكون من يصدر القرار أو يصوغ الإدارة العامة غير من ينفذ هذه الإدارة ،غير من يشرف على صحة تطبيقها .

التصور الغربى لفكرة الفصل بين السلطات (15) إنما يرد من التصور الفلسفى للنظام الوضعى العلمانى، الفلسفى فحيث يكون النظام القانونى نظاماً وضعياً مفصولاً عن التصور الدينى وجب أن تقام أبنيته ومؤسساته على توزانات بين العديد من هذه المؤسسات والهيئات ،وهى توازنات تكفل القدر المعقول من الضبط المتبادل والتقييد المتبادل لهذه المؤسسات بعضها مع بعض ،بحيث إن كلاً منها يحد سلطة الآخر ويقيدها ،وفى هذا التصور فإن استقلال السلطة التشريعية يعتمد من الناحية النظرية على أنها ذات اتصال وثيق بالرأى العام وجماعاته فى المجتمع ،واستقلال السلطة التنفيذية يعتمد على ما تملكه من قوة مادية من حيث المال أو سائل العنف ،أما القضاء فإن استقلاله يرد من التوازن الذى يقوم به سلطة التشريع والتنفيذ، فالسلطة التشريعية تضع القوانين التى يطبقها القضاء ،والسلطة التنفيذية هى التى تعتمد القضاة وتوفر لهم رواتبهم وتهيئ للوظيفة القضائية وجودها المادى ،والقاضى يطبق قوانين السلطة التشريعية ويعتمد على السلطة التنفيذية فى تنفيذ أحكامه. والسلطة التنفيذية محتاجة دائماً إلى إقرار بشريعة تصرفاتها وسلوكها المادى وهو إقرار يرد إليها من خارجها ،سواء من السلطة التشريعية أو من جهات القضاء ،لذلك فهى إن عينت القاضى فقد صارت كل رقابة منه موضوعاً لإشرافه ؛لأنه يحكم سلوكها فى ضوء ما أصدرته السلطة التشريعية من قرارات وقوانين.

لذلك فإن المشكلة تنشأ فى النظام الوضعى العلمانى إذا ما اندمجت الوظيفتان التشريعية والتنفيذية ،وكثيراً ما تندمج فى العالم الثالث ،أو أمكن استيعابها معاً فى كيان واحد ،فإنه يكون قد أحبط بالوظيفة القضائية معلقاً بمشيئة من استوعب الوظيفتين الأخريين.

النظام الإسلامى لم يعرف توزيع السلطة بالصورة السابق شرحها (16) .وهذا مرده إلى أن أسس النظام الإسلامى تختلف اختلافاً جذرياً عن أسس النظام السائد الآن من حيث أن النظام لحديث نظام وضعى لا يعترف بشريعة أو شرعية للحكم منزلة من السماء ،فى حين أن النظام الإسلامى يبدأ من مقولة أساسية هى مصدرية السماء فى التشريع للأرض ،وبهذه المقولة الأساسية استقامت فى الإسلام خريطة متميزة فى توزيع السلطات.

فإذا نظرنا إلى وظيفة الإمام فى النظام الإسلامى نجد أن وظيفته الأساسية وسلطته هى حراسة الدين وسياسة الدنيا بالشرع ،فالإمام حارس سائس ،وهى معان أقرب إلى العمل التنفيذى وإلى الواجبات التى تلقى على مسؤولية السلطة التنفيذية بالمصطلح الحديث ،فمسئولية الخليفة سياسة وشريعة فى نفس الوقت ،ويرجع الأساس الشرعى لمسؤوليته إلى أن الأوامر والنواهى الإلهية تستوجب من المخاطب بها أن يقوم بتنفيذها ؛ لأن ذلك هو المقصود من الأمر أو النهى ،فتلك هى إدارة التشريع أو إرادة التكليف التى يستلزمها الأمر أو النهى “فحقيقة إلزام المكلف : الفعل أو الترك ،فلابد أن يكون الإلزام مراداً ،وإلا لم يكن إلزام ولا تصور معنى مفهوم ” (17) .

وعند جمهور مجتهى الأمة تنعقد الإمامة بالبيعة ،والبيعة دائماً تصدر للإمام على أساس أن يعمل بكتاب الله وسنة نبيه ،فهى بيعة مشروطة دائماً ،وشرطها يعنى أن سلطة الإمام سلطة مقيدة وأنها تجرى فى إطار نظام قانونى مضروب عليها من أحكام التشريع الإسلامى المنزلة .

ويترتب على هذه السلطة المقيدة التزام الخليفة أو الإمام فى أوامره وأحكامه التى يصدرها بأن تتم وفقاً للكتاب والسنة والإجماع ،فلا يجوز لفرد أو ررئيس دولة أو لكافة أفراد الأمة أو جميع مجتهديها أن يضعوا قانوناً أو تشريعاً ،أو يصدروا أمراً أو حكماً يخالف ما ورد فى الكتاب والسنة ،كما أنه يخضع كغيره من أفراد الأمة للأحكام الشريعة الجنائية وسريان هذه الأحكام عليه أيا كان نوع العقوبات التى تقررها هذه الأحكام .

وبالمقابل فإن عدم طاعة المسلمين لأوامر الإمام وتشريعاته التى تخالف حكم الشرع من الأمور المقررة فى الإسلام ،فطاعة المسلمين لأولى الأمر مشروطة بموافقتها لحكم الشرع ،أما إن خالفت هذه الأوامر أو تلك التشريعات أحكام القرآن والسنة فإنها لا تكون واجبة الطاعة.

فإذا انتقلنا إلى السلطة التشريعية فإن فقهاء الإسلام وواقع التجربة التاريخية للنظم الإسلامية توضح أنهم نظروا لهذه السلطة بحسبان أن للدولة الإسلامية قانوناً أساسياً إلهياً شرعه الله بالقرآن والسنة ،فحيث وجد القرآن أو فى السنة نص يصدق حكمه على وضع معين أو حالة مخصوصة أو كان قطعى الدلالة قطعى الثبوت وجب على كل أمرئ أن يطبقه طالما ينطبق على حالته ،وشرعيته فى التطبيق مستمدة من أصل نزوله فى القرآن أو صدروه عن النبى صلى الله عليه وسلم دون أن يتطلب موافقة أو اعتماداً أو تصديقاً من جهة ما ،وهو واجب النفاذ يتمثل له الكافة وعلى رأسهم إمام المسلمين ،بل إن طاعة المسلمين له مشروطة ، كما قدمنا، بإتباع هؤلاء أحكام القرآن والسنة ،وأصل شرعيته رهن بأن يحرسوا هذه الأحكام . وهذا ما يمكن أن ينطلق عليه التشريع من الدرجة الأولى (18) .

إلا إن كانت هناك مهمة أخرى هى مجال نشاط المجتهدين وأهل الفتيا ،فيقوم هؤلاء بالنظر فيما ليس فيه نص صريح من الحالات والأوضاع وذلك لبيان الحكم بشأنه بمناهج استخراج الدلالات الشرعية من الأحكام المنزلة ،”وهؤلاء فيما يستخرجون من الأحكام لا يصدرون عن محض النظر الدنيوى فى شؤون العباد ، إنما يعرضون لذلك عن طريق النظر فى أصول الشريعة وأحكامها الثابتة ويعلمون وسائل الاجتهاد المتعارف عليها بينهم من الناحية الشرعية العقلية ليصير ما ينتهون إليه مستمداً من أصول الشريعة قائماً بها ، وهذا ما يمكن أن نسميه التشريع من الدرجة الثانية “(19) .

والقاضى فى التصور الفقهى الإسلامى وإن تولى وظائفه بالإنابة عن الإمام أو الوالى فهو لا يخضع لمن عينه عندما يستقى أحكامه مباشرة – واجتهاده – من القرآن والسنة ،فالأصل فى هذا التصور هو حرية الاجتهاد بالنسبة للقاضى إذا لم يجد فى كتاب الله أو سنة النبى حكماً فى المسألة المعروضة عليه ، بعبارة أخرى فالقاضى وإن استمد ولايته من إنابة الوالى وتعيينه إياه فهو بعد ذلك يتصل بأحكام الشريعة اتصالاً مباشراً غير مستمد من مشيئة الوالى ،والوالى لا يملك من الناحية النظرية الشريعة أن يدخل إرادته بين القاضى وبين ما يقضى فيه ويرى فيه رأيه أو اجتهاده (20) .

ويكسب القاضى توازنه المؤسسى من صيغة التوازن تلك التى تقوم بين جهة التشريع فى المجتمع الإسلامى وجهة التنفيذ وبحسبان أن وظيفة القاضى فى النظام الإسلامى كانت تمتد لتشمل بعض ما يعتبر اليوم من وظائف جهات التشريع وبعض ما يعتبر من وظائف جهات التنفيذ ” ومن شأن هذا الوضع أن يثقل كفته ويعزز كفة المشروعية بعامة فى صالح التوازن بين جهات التنفيذ المسيطرة على الوسائل المادية وبين جهات الرأى والنظر المسيطر على وسائل المشروعية (21) .

ولقد كان مبدأ الفصل بين السلطات فى الشريعة والخبرة التاريخية الإسلامية قوياً (فصل عضوى )(22) بدرجة حالت دون اعتصاب الحكام حق الاجتهاد أو سلطة التشريع بالرغم من اغتصابهم لسلطة التنفيذ . ففى التنظيم الذى عرفه المجتمع الإسلامى قام العمل التشريعى بعيداً عن سلطة المؤسسة الحاكمة ،فالتشريع هو كتاب الله وسنة نبيه ،ثم ما يتولد هذين المصدرين الرئيسين باجتهاد الفقهاء ممن لا تسيطر عليهم مؤسسات الدولة التنفيذية حيث تتحدد مكانتهم بموجب اندماجهم فى الرأى العام المؤثر الفعال فى مجتمعاتهم وبجوارهم وجدالهم مع بعض البعض يتولد اقتناع عام بوجه الصواب فى أية مسألة فقهية ،فيتكون ما يطمئن إليه رأى الجمهور فى المجتمع ،وهى بهذا تندمج تلقائياً فى مجمل الهيكل التشريعى القائم والذى يلزم المجتمع كله حاكماً ومحكوماً ،”ومن هنا جاءت صيغة التوازن بين المشروعية من جهة وقوة الدولة المادية من جهة أخرى ،بينما حلتها النظم الغربية بتوزيع السلطات “(23) .

والاختصاصات والواجبات المنوطة بالخليفة أو الإمام تدلنا على أنه ليس من بين هذه الاختصاصات اختصاص التشريع ،فالخليفة له أن يجتهد دون أن يلزم باجتهاده أحداً ،وله الترجيح وتبنى الاجتهادات المتعلقة بالسياسة العامة للدولة ،ولكن لا يلغى الاجتهادات الأخرى ،كما أن الخليفة ليس له أى اختصاص قضائى ، فالبرغم من أنه هو الذى يولى القضاه إلا إنه لا يملك أن يعزلهم ،كما أنه لا يملك أن يلغى أو يعدل حكماً (24) .

كما نشأ فصل عضوى بين النيابة عن الأمة فى المستوى السياسى ، كاختيار الحكام والرقابة عليهم – حيث تولاها المجتهدون والعلماء (25) .

ب – الرقابة فى النظامين الغربى والإسلامى :

المؤسسة التشريعية فى النظم الغربية (26) تعرف وظيفتين : الأولى أنها المؤسسة التى تصدر القوانين والتشريعات فى المجتمع ،والثانية : أنها المؤسسة التى تراقب أعمال السلطة التنفيذية ،ولها عليها وجه إشراف ونوع سلطة تختلف فى حجمها ونوعها حسب الدول والمجتمعات .

وبالإضافة إلى السلطة التشريعية التى تمارس نوعاً من الرقابة بالنسبة لسياسات الحكومات توجد أجهزة أخرى لرقابة النشاط الإدارى لجهاز الدولة فى الأعمال اليومية التى يقوم بها ،وهى أنواع رقابة تتنوع فى كل نظام ،فمنها الرقابة الذاتية التى تنشئها أية مؤسسة بداخلها لتراقب عمل رجالها ،ومنها إيجاد أجهزة رقابية مركزية على مستوى الدولة كلها لتراقب أجهزة الدولة التنفيذية على تنوعها وتعددها ،فتتكون أجهزة لرقابة الشئوون المالية أو لمراقبة الشريعة فى سلوك عمال الدولة ،ومنها أجهزة رقابة خارجية أى تراقب أجهزة رقابة خارجية أى تراقب أجهزة التنفيذ وتنتمى إلى سلطة بعيدة عن السلطة التنفيذية .

أما الرقابة فى النظام الإسلامى (27) فتستند إلى مبدأ الحاكمية أو الشريعة الإسلامية الذى يعنى مسؤولية الحكام عن الالتزام بالشريعة فى التطبيق والحكم .

ومبدأ الحاكمية فى جوهره يستلزم أو يعنى وجود سلطة عليا مستقلة قادرة على محاسبة الحكام فى حالة الخروج على الشرع أو قرارات الشورى ،والسلطة العليا التى تتولى الرقابة على أعمال الحكام هى فى الإسلام إرادة الله سبحانه وتعالى صاحب الحاكمية والذى له الخلق والأمر .

لكن حساب الله لا يغنى عن وجود هيئات دستورية وشعبية تتولى الإشراف على عمل الحكومة ومحاسبة أولياء الأمر ،وهذه الهيئات هى إحدى الجهات الآتية :

1– القضاء : القضاء فى النظام الإسلامى – كما قدم الباحث – يتمتع باستقلال كاف عن الحكام ؛لأنه فرع عن الفقه والاجتهاد فهو يمثل استقلال الشريعة وسيادتها . واستقلال القضاء فى الإسلام مرتبط باستقلال الفقه والفقهاء ؛لأن القاضى يجب أن يكون صاحب أهلية للاجتهاد فى الفقه أو عالماً مجتهداً فيه ،ولذلك فإن جميع الضمانات التى تكفل استقلال الفقه وسيادة الشريعة هى أكبر صائن لاستقلال القضاء فى المجتمع الإسلامى .

2-الرقابة الشعبية : إن أساس رقابة الأمة على سلطات الحاكم هى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهدفه الأول ومقصده الأساسى أن تتولى الجماعة كشخصية معنوية محاسبة الحكام ومنع انحرافهم وظلمهم، فالأمة تختار الحاكم وهذا الاختيار يعطيها الحق فى أن تقيد سلطته بالقيود التى تراها ضرورية لضمان مصالحها ،ويعطيها الحق فى مراقبته ومحاسبته على عمله .

وهذه الرقابة باستنادها إلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا تنتهى بانتهاء انتخاب أو بيعة القائمين على أمر السلطة وإنما تستمر بعد انتخابهم ،فواجب النصح لولاة الأمور ،والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا يرتبط بزمن معين أو وقت محدد ،إنما هو فرض يستمر وقته طالما أن هناك مقتضى له .

3– رقابة نواب الأمة (أهل الحل والعقد ) : هيئة أهل الحل والعقد هيئة سياسية مهمتها اختيار الحكام ومحاسبتهم وعزلهم عند الاقتضاء ،ومهمة هذه الهيئة سياسة بالأساس فهى قاصرة على اختيار الحكام فقط ومحاسبتهم دون اختيار العلماء أو القيام بوظيفة تشريعية ،فالوظيفة التشريعية فى الدولة الإسلامية هى من اختصاص العلماء والمجتهدين ،وهذا شرط ضرورى حتى تستقل عملية التشريع عن الاعتبارات السياسية ، إلا أنه يجب أن توجد صيغة توازن بين أهل الحل والعقد ومجلس العلماء أو المجتهدين حتى لا ينفرد أى منهم بالتشريع من دون الآخر (28) .

إلا أن تحقيق هذه الرقابة فعاليتها على مستوى الواقع والتطبيق يتطلب توفير مجموعة من الشروط والاعتبارات التى تصب فى مجرى تقوية المجتمع إزاء السلطة أو الدولة .

1- لا يفترض الإسلام أن تحل الدولة محل الناس فى القيام بالأعمال ،فالإسلام لا يلغى السوق ليولى الدولة مهامه ،ولا ينفى مبادرة الأفراد والجماعات فى التملك أو التصرف أو الإشراف على الإنتاج ،وفى نفس الوقت لا يترك للأغنياء أو الرأسماليين أو للإقطاعيين باب الاحتكار والثراء غير المشروع واستغلال الناس ولا يجعل الدولة شريكاً لهم وحامياً لاحتكارهم واستغلالهم ،فهو يطالب الدولة بمنع الاحتكار والضرب على يد الاستغلال ،ويجعل من المشاع والأحباس والوقوف وملكية عموم المسلمين لغالبية الأرض طريقاً لتشكيل الجماعات القوية ،فيجب ألا تقوم الدولة بما يجب أن يقوم به الأفراد أو الجماعات (29) .

ويرتبط بهذه النقطة ضرورة فصل الشؤون المالية عن الإدارة والسياسة بما يعنى ذلك ضرورة إعطاء بيت المال شخصية مستقلة تحت إشراف القضاء الذى يتمتع بسلطة كبيرة فى شؤون الزكاة وبيت المال ،واستقلال هاتين المؤسستين (القضاء وبيت المال) عن الحكومة ناتج عن أن الدور الأساسى فيها هو للشريعة وعلمائها وفقهائها الذين ابتعدوا عن الخلفاء بعد عهد الراشدين وتحصنوا باستقلال الفقه وسيادة الشريعة (30) .

2- استقلال المؤسسات الاجتماعية أو ما أطلق عليه البعض (31) “مؤسسات الأمة ” بسبب الزكاة والأوقاف وإشراف الفقهاء ،بالإضافة إلى استقلال العلم والتعليم وما ارتبط بذلك من حرمة المساجد ،فما تمتعت به هذه المؤسسات من ذاتية مستقلة عن الإدارة الحكومية كان نتيجة لمبدأ عام ساد المجتمع الإسلامى هو أن الأمة لم تسلم للإدارة بالسيطرة على النشاط الاجتماعى أو العلمى الذى بقى مستقلاً وكان مركزه المساجد التى بقيت حصن تشاور فى مجال الفقه والعلم وتحققت بحرمة وحصانة استفادت منها حلقات العلم والفقه ،وقد ساعد على ذلك الاستقلال المالى الذى تمتع به العلماء كنتيجة للوقف والزكاة ،إذا مثل هذين المصدرين حركة حضارية فاعلة لضمان الاستقلال الحركى لمؤسسات مجتمعية مختلفة تتعلق بالعلم والتعليم والإفتاء ،إذا مثلت هاتان الأداتان مصدراً وأداة للاستقلال التمويلى عن السلطة بما يضمن حركة استمرار واستقرار لتلك المؤسسات ،بعبارة أخرى فقد سمح الاستقلال الاقتصادى عن السلطة باتساع العمل الشعبى ،بينما تم تحديد اختصاصات الإدارة وسلطاتها .

وهكذا فإن الحل الإسلامى للمشكلة السياسة يتجه إلى تقوية المجتمع من خلال تقوية أفراده ومؤسساته وجماعاته ،فإلى جانب تقويتهم من خلال العقيدة والإيمان وتقويتهم بواجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ،وتقويتهم بحق الشورى وإعطاء البيعة وسحبها ،وتقويتهم بجعل العلماء مرجعهم فى إدارة شؤون حياتهم ،ثم تقويتهم من خلال عدم حرمانهم من حق التصرف فى الأرض وحق الملكية الخاصة ،ومن خلال الملكيات العامة التى تعد لعموم المسلمين أو لجماعات محددة منهم (قرية ،قبيلة ،مدينة ،حرفة ) .. ومن ثم يوجب على الدولة ألا تسلبهم هذه الميزات ،فلا تمد يدها إلى عمل أو مهنة يمكن أن يقوم به أو بها المسلمون أفراداً أو جماعات (32) .

○○○

الهوامش

(1)حول هذه النقطة انظر : د . محمد طه بدوى ،بحث فى النظام السياسى الإسلامى رداً على المستشرق الإنجليزى أرنولد ،ج2 ص 107 – 108 ،د . منير شفيق ،الإسلام فى مواجهة الدولة الحديثة ،تونس ،دار البراق ،نوفمبر 1988 ،ص ص 5،22 .

(2) منير شفيق ،المرجع السابق .

(3) د . عبد الوهاب المسيرى ،العلمانية ،ورقة غير منشورة .

(4) إلا أن هذه التفرقة غير ذات موضوع ؛لأن الاثنين (الشرعية والمشروعية) هما فى النهاية من صنع البشر .

(5) د . محمد طه بدوى ،بحث فى النظام السياسى .. مرجع سابق ،وانظر أيضا : د . توفيق الشاوى ،سيادة الشريعة فى مصر .

(6) انظر حول مفهوم الضرورات واستخدامه بدلاً من الحقوق : د . محمد عمارة ،الإسلام وحقوق الإنسان – ضرورات لا حقوق ،الكويت : المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب ،سلسلة عالم المعرفة 89 : شعبان 1405 / مايو 1985 ،وخاصة ص 13 – 17 .

(7) وفى هذا الإطار يمكن فهم حقوق أهل الذمة باعتبارها حقوقاً مقررة لهم من قبل الله ورسوله ” ذمة الله ورسوله ” ،وبالتالى لا تستطيع الأغلبية نقضها أو التناقض منها .

(8) حول هذه التفرقة انظر : د . توفيق الشاوى ،سيادة الشريعة فى مصر ،مرجع سابق ،ص 14 .

(9) د . جمال الدين عطية ،النظرية العامة للشريعة ،مرجع سابق ،ص ص 14 – 15 ،بينما يكون التدرج فى النظم الوضعية تدرجاً شكلياً ،أى بالنظر إلى جهة الإصدار .

(10) حول هذه النقطة انظر : د . توفيق الشاوى ،فقه الشورى ،مرجع سابق ،ص 560 ص 625 .

وانظر أيضاً : منير شفيق ،الإسلام فى مواجهة الدولة الحديثة ،مرجع سابق : ص ص 29- 30 ،حيث يؤكد على روحانية الضوابط والممارسات للأجهزة السياسية المختلفة ،ويتخذ من أسلوب عمر بن الخطاب مثالاً على ذلك .

(11) د . توفيق الشاوى ،المرجع السابق .

(12) سورة العلق آية 6 .

(13) طارق البشرى : منهج النظر ،مرجع سابق : ص 78 .

(14) المرجع السابق .

(15) طارق البشرى ،منهج النظر ،مرجع سابق ص ص 90 / 97 ،وانظر أيضاً د . عبد الغنى بسيونى عبد الله ،النظم السياسية “الدار الجامعية ” د . ت ص ص 261 – 269 .

(16) طارق البشرى ،المرجع السابق ،وانظر ايضاً د . توفيق الشاوى فقه الشورى والاستشارة ،مرجع سابق

(17) أبو إسحاق الشاطبى ،الموافقات : ج3 ،ص81 ،وانظر أيضاً : صلاح الدين دبوس ،الخليفة توليته وعزله – إسهام فى النظرية الدستورية الإسلامية – دارسة مقارنة بالنظم الدستورية الغربية ،الإسكندرية ، مؤسسة الثقافة الجامعية / د . ت : ص ص 41- 48 .

(18) طارق البشرى : منهج النظر ،المرجع السابق .

(19) طارق البشرى : منهج النظر ،المرجع السابق .

(20) المرجع السابق ،وانظر : ما تقدم بشأن الشرعية القانونية كأحد مكونات الحاكمية .

(21) طارق البشرى ،المرجع السابق ص 109 .

(22) انظر فى هذه النقطة : طارق البشرى ،المرجع السابق د . توفيق الشاوى ،فقه الشورى والاستشارة ، مرجع سابق .

(23) طارق البشرى ،منهج النظر ،مرجع سابق ،ص ص 108 – 109 .

(24) حامد عبد الماجد ،الوظيفة العقيدية للدولة الإسلامية ص 143 .

(25) د . توفيق الشاوى ،مرجع سابق ،432 .

(26) حول هذه النقطة انظر : طارق البشرى ،منهج النظر ،مرجع سابق ،ص ص 96 – 99 .

(27) حول هذه النقطة انظر : د . توفيق الشاوى ،فقه الشورى والاستشارة ،مرجع سابق ص ص 466 – 474 ،طارق البشرى ،منهج النظر ،مرجع السابق ص ص 97 – 113 ،د . طه بدوى ،بحث فى النظام السياسى الإسلامى ،مرجع سابق ،ج2 ،ص ص 124- 131 .

(28) انظر حول هذه النقطة انظر : ،منير شفيق ،الإسلام فى مواجهة الدولة الحديثة ،مرجع سابق ، ص ص 15 – 26 .

(29) حول هذه النقطة انظر ،منير شفيق ،الإسلام فى مواجهة الدولة الحديثة ،مرجع سابق ،ص ص 15 – 26 .

(30) د . توفيق الشاوى ،مرجع سابق .

(31) انظر : د . سيف الدين عبد الفتاح ،المجتمع المدنى فى الفكر والممارسة – بيروت مركز الدراسات الوحدة العربية : 20 – 23 يناير 1992 .

(32) منير شفيق ،الإسلام فى مواجهة الدولة الحديثة ،مرجع سابق / ص ص 32 – 33 .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر