أبحاث

في مواجهة الاستشراق

العدد 65- 66

تمهيد :

التحديات التى تواجه الإسلام والمسلمين فى العصر الحاضر كثيرة ومتعددة ،فقد جندت كل القوى فى العالم الغربى شتى وسائل الإعلام الغربية التى تصل إلى كل مكان فى الدنيا لتشويه صورة الإسلام والمسلمين فى العالم . وبعد أن انهار الاتحاد السوفيتى ،وهو العدو التقليدى القديم للعالم الغربى يصرح المسئولون فى الغرب بأن العدو البديل المحتمل هو العالم الإسلامى

 ،ويتحدثون عن القنبلة الذرية الإسلامية التى تمثل تهديداً للعالم الحر ،ولا يتحدثون عن القنبلة اليهودية فى إسرائيل ، أو الهندوسية فى الهند ،أو المسيحية فى الغرب ،أو الشيوعية فى الصين . والإسلام فقط من بين كل الديانات هو الذى هو الذى يهاجم ،والمسلمون من بين كل شعوب الأرض هم العدوانيون الإرهابيون . كل ذلك يحدث والعالم الإسلامى غائب عن الإسهام بفاعلية فى بناء ما يسمى بالنظام العالمى الجديد ،وغائب عن رسم مستقبل هذا العالم ،ويراد له أن يظل على هامش الأحداث .

فإلى متى يرضى العالم الإسلامى لنفسه أن يظل فى مقاعد المتفرجين ؟

وإلى متى يظل مسلوب الإرادة يراد له ولا يريد لنفسه ؟

إن هذا الوضع المهين لا يجوز له أن يستمر ،ولكن التغيير لن يسقط علينا من السماء ،إنه يخضع لقانون قرآنى ثابت يتمثل فى قوله تعالى : {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } ،وإذا تم التغيير الداخلى من جانب الإنسان المسلم فإن الله سيشهد من أزر المسلمين ،ويمدهم بعونه ،ويرعاهم بعنايته ،ويحقق لهم وعده {وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبذلنهم من بعد خوفهم أمنا } .

وهذا التمكين فى الأرض والأمن والاستقرار الذى وعد به القرآن والأمن والاستقرار الذى وعد به القرآن يقتضى جهادا نفسيا وعملا متواصلا على كافة الجبهات ،بوعى وفاعلية حتى تتبدل الأحوال . وقبل ذلك هناك خطوة هامة على الطريق تتمثل فى التعرف على مواطن الضعف فى الكيان الإسلامى ،وتشخيص علل المجتمع الإسلامى تشخيصا دقيقا ،وممارسة النقد الذاتى ،ثم اقتراح الحلول الناجعة التى تقضى على المرض قضاء مبرما .

والإعلام الإسلامى يتحمل مسئوليتة ضخمة فى هذا المجال فعليه أن يوقظ الهمم ،ويشخذ العزائم ،ولا يكتفى بالضرب على أوتار العواطف ،وإلهاب المشاعر ،بل ينبغى أن يخاطب العقول والأفهام ،وأن يسهم بفاعلية فى مكافحة السلبيات والتركيز على الأولويات والارتفاع بوعى شباب الأمة ،وعدم الدخول فى جدل عقيم حول الهامشيات .

وليس من غرضنا اليوم أن نتحدث عن كل التحديات التى تواجه الأمة الإسلامية ،ولكننا نختار تيارا واحد فقط من بين التيارات العديدة التى تمثل تحديا للإسلام والأمة الإسلامية . وهو تيار الاستشراق ،وهذا التيار الفكرى يعد تيارا مؤثرا وفعالا ،ولا يجوز الاستهانة بأمره ،أو التقليل من شأنه ،فالتخطيط الغربى يعتمد فى جانب كبير منه على الدراسات الاستشراقية ،وسنحاول فى هذا البحث أن نلقى لمحة سريعة على قضية الاستشراق ،وفى هذا الصدد سنقوم بإيجاز شديد بعرض المشكلة والإشارة إلى أبعادها المختلفة ونعرض أيضا الحلول المقترحة فى هذا المجال ،ومن نافلة القول أن نشير إلى أن دور الإعلام الإسلامى فى هذه القضية دور هام وحيوى . ويتمثل ذلك فى إلقاء الضوء على المشكلات والتحديات ،وتوعية الأذهان وتثقيف العقول ،وتحصين الشباب بالأفكار الإيجابية البناءة حتى لا يكون عرضة للوقع فريسة للأفكار الهدامة وفيما يلى نعرض لقضية الاستشراق بإيجابياتها وسلبياتها :

مدخل :

ليس هناك شك فى أن الاستشراق له أثر كبير فى العالم الغربى وفى العالم الإسلامى على السواء ،وإن اختلفت ردود الأفعال على كلا الجانبين . ففى العالم الغربى لم يعد فى وسع أحد يريد أن يكتب عن الشرق ،أو يفكر فيه ،أو يمارس فعلا مرتبطا به أن يتجاهل الثورة العلمية الهائلة التى أنتجها الاستشراق على مدى قرون عديدة .

وفى العالم العربى الإسلامى المعاصر لا يكاد المرء يجد مجلة أو صحيفة أو كتابا إلا وفيها ذكر أو إشارة إلى شئ عن الاستشراق ،أو يمت إليه بصلة قريبة أو بعيدة .

وهذا أمر ليس بمستغرب ،ذلك أن الاستشراق كان ولا يزال له أكبر الأثر فى صياغة التصورات الغربية عن الإسلام ،وفى تشكيل مواقف الغرب إزاء الإسلام على مدى قرون عديدة .

والاستشراق قضية تتناقض حولها الآراء فى العالم العربى الإسلامى ،فهناك من يؤيده ويتحمس له إلى أبعد الحدود ،وهناك من يرفضه جملة وتفصيلا .

وكمثال قريب لهذا الفريق الأخير أذكر أننى ألقيت محاضرة بعنوان (الإسلام والاستشراق ) منذ بضعة أعوام فى إحدى الدول العربية ، وقد جاء فى حديثى ثناء على ما بذله المستشرقون من جهود لحفظ المخطوطات العربية التى جلبت إلى أوروبا ،وتسهيل الاستفادة منها ،وفهرستها فهرسة دقيقة ،وذكرت أن ذلك يعد من الجوانب التى تذكر للمستشرقين .

ولكن محاضراً آخر بعض ذلك ببضعة أشهر فى نفس المكان ماضرة عن التراث العربى الإسلامى ،وفى حديثه عن المخطوطات العربية التى جلبت إلى أوروبا ذكر أنه كان يتمنى أن تحرق هذه المخطوطات ،ولا تقع فى أيدى المستشرقين ،لأنهم قد استخدموها ضد العرب والمسلمين .

والواقع أن كلا من هذين الاتجاهين :

المتحمس للاستشراق بلا حدود ،والرافض له بلا حدود غير منصف فيما ذهب إليه ،فكل منهما يمثل تيارا غير علمى وغير نقدى .

فالاستشراق من ناحية غير معصوم من الخطأ ،كما أنه من ناحية أخرى ليس كله شرا بالنسبة للإسلام والمسلمين .

فالاتجاه الأول مبهور بالحضارة الغربية والتقدم العلمى والتكنولوجى فى الغرب ، وبالتالى فإن كل ما يأتى من الغرب لابد أن يكون – من وجهة نظر هذا الاتجاه – سليما وعلميا وموضوعيا .

أما الاتجاه الثانى فهو اتجاه رافض للحضارة الغربية ،وإن كان يأخذ بأسباب التقدم العلمى . ورفضه للاستشراق مبنى على أسباب عديدة ،من بينها الظروف التى أدت إلى نشأة الاستشراق ،وارتباط أهدافه فى مراحل معيبنة بالتبشير ،ومواقفه العدائية ضد الإسلام منذ العصر الوسيط ،وكذلك ظروف الصدمات العسكرية التى حدثت بين الغرب والشرق الإسلامى على مدى قرون عديدة ،وأخيراً فى العصر الحديث ما كان من ظروف الصدمات العسكرية التى حدثت بين الغرب والشرق الإسلامى على مدى قرون عديدة ،وأخيرا فى العصر الحديث ما كان من ظروف الاستعمار الغربى للبلاد الإسلامية وإذلاله لشعوبها ،وتحقيره لدينها وحضارتها ،وما صحب ذلك من نظرة الاستعلاء الغريبة فى علاقة الغرب بتلك الشعوب المغلوبة على أمرها .

وقد لعب بعض المستشرقين أدوارا هامة ساعدت الاستعمار الغربى ،وساعدت على ترسيخ نظرة الاستعلاء الغربية إزاء الإسلام والمسلمين ،وقد سخروا معلوماتهم عن الإسلام وتاريخه فى سبيل مكافحة الإسلام والمسلمين . وهذا واقع مؤلم يعترف به المستشرقون المخلصون لرسالتهم بكل صراحة .

وهكذا يستطيع المرء أن يفهم الأسباب التى أدت إلى وجود تيار قوى فى العالم العربى الإسلامى يرفض الاستشراق رفضا تاما .

والواقع الذى لا يمكن إنكاره هو أن الاستشراق له تأثيراته القوية فى الفكر الإسلامى الحديث إيجاباً أو سلباً ،أردنا أو لم نرد ،ولهذا فإننا لا نستطيع أن نتجاهله أو نكتفى بمجرد رفضه وكأننا بذلك قد قمنا بحل المشكلة .

إننا لو فعلنا لكنا كالنعامة التى تدفن رأسها فى الرمال .

ولهذا فإنه ليس هناك بديل عن مواجهة المشكلة ،وطرحها على بساط البحث ،ودراستها واستخلاص النتائج وطرح ومن هنا تأتى ضرورة المواجهة العلمية الجادة للاستشراق ،تلك المواجهة التى لا تكتفى بنعم أو لا ،بل تسلك سبيل الدراسة المتعمقة والبحث الدءوب فى جذور الفكر الغربى لمعرفة الأسباب الحقيقية للمواقف الغربية من الإسلام .

فالصورة السائدة ليست مجرد صورة وقتية عارضة ،ولا هى بنت اليوم ،وإنما هى صورة صاغتها قرون طويلة من الصراع الحضارى بين الإسلام والغرب .

وإذا كنا لم نحاول أن ندرس التراث الغربى ونحلله وننقده كما فعل الغربيون بتراثنا : فلا أقل من أن ندرس ما كتبوه عنا حتى نعرف الأسباب التى من أجلها كانت حملتهم الظالمة علينا ،وعلى ديننا ومقدساتنا .

ومن هنا تتضح حاجتنا الماسة إلى دراسة كل ما يكتب عنا وعن ديننا فى الغرب ؛لأن هذه الكتابات تمس أقدس ما لدينا :تمسنا فى أخص خصائصنا وهو عقيدتنا التى نعتز بها ،وتمس شخص نبينا صلى الله عليه وسلم ،وتمس القرآن الكريم والسنة النبوية ،وبصفة عامة تمس تاريخنا كله .

وحيث إن كلا من الاتجاهين المشار إليهما وهما : الاتجاه المتحمس للاستشراق بلا حدود ،والاتجاه الرافض له على طول الخط ،غير منصف فيما ذهب إليه ،فإنه كان لابد من ظهور تيار ثالث يحاول أن يكون لنفسه رؤية موضوعية عن الاستشراق وأهدافه وأعماله ومنشوراته العلمية ،ويحاول جاهدا أن ينقد ما يراه سلبياً من وجهة النظر الإسلامية ،ولا ينسى فى الوقت نفسه أن يذكر الإيجابيات التى تذكر للاستشراق فى المجالات العلمية المتعلقة بالدراسات العربية والإسلامية .

وهذا الاتجاه الثالث هو فى حقيقة الأمر الاتجاه الذى يمكن أن نسميه اتجاها إسلاميا حقيقيا ؛لأنه هو الذى يتفق مع ما يطلبه الإسلام فى مثل هذه الأحوال انطلاقا من قول القرآن الكريم : {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } .

وهذا الاتجاه وحده هو الذى يمكن أن يجبر المستشرقين على احترام وجهة النظر الإسلامية ،وحتى إذا لم يستطيع أن يغير من أفكار المستشرقين فى المستقبل القريب فعلى الأقل سيشعرهم بأن هناك اتجاها علميا حقيقيا على المستوى الإسلامى ،وأن من الخطأ البالغ تجاهله أو المرور عليه مر الكرام – ومن ناحية أخرى سيتيح لنا هذا الاتجاه العلمى القويم أن نقتحم بفكرنا الأبواب المغلقة فى الفكر الغربى .

والمواقف الاستشراقية تشمل من غير شك على بعض الجوانب الإيجابية التى يجب أن نذكر للمستشرقين ،كما تتمثل فى المواقف الاستشراقية طائفة أخرى من الجوانب السلبية التى يجب أن تسجل عليها . وحتى نكون موضوعيين فإنه لا بد لنا من الإشارة إلى مالهم من إيجابيات ،والتنبيه على ما لديهم من سلبيات ،حتى تتضح الأبعاد المختلفة للمشكلة . ولا ضير على المرء إذا اعترف بما لعدوه من مزايا ،إذا أن ذلك ربما يكون حافزا لنا على النهوض والاستعداد من جديد ،وقبول التحدى الذى تفرضه علينا – نحن المسلمون – ظروف العصر .

أما هذه الإيجابيات التى سنذكر طرفا منها هنا فأود أن أنبه إلى أن بعضها يعد أمورا تحض المستشرقين ،وتتصل بأسلوب عملهم ومدى ترابطهم ،والقصد من ذكرها هو مجرد الاعتبار بها فقط ،وبعضها الآخر أمور تتصل بإنتاجهم العلمى الذى يعود بعضه بالفائدة على الدارسين العرب ،وإن كان المستشرقون قد قصدوا به فى المقام الأول خدمة أنفسهم ،ولكنهم مع ذلك لم يحجبوه من غيرهم . وسنحاول فيما يلى أن نلقى أولا نظرة تاريخية على نشأة الاستشراق وتطوره ،ثم بعد ذلك نلقى نظرة على المواقف الاستشراقية بما لها وما عليها ثم نتحدث بعد ذلك عما يمكن للمسلمين أن يقوموا به من خطوات فى مواجهة الحركة الاستشراقية.

نشأة الاستشراق وتطوره :

البدايات الأولى :

الاستشراق هو علم الشرق أو علم العالم الشرقى ،وكلمة ((مستشرق))بالمعنى العام تطلق على كل عالم غربى يشتغل بدراسة الشرق كله : أقصاه ووسطه وأدناه ،فى لغاته وآدابه وحضارته وأديانه . ولكننا هنا لا نقصد هذا المفهوم الواسع ،ولا يعيننا هنا أن نتعرض لبحثه ،كما لا يعنينا أيضا أن نتعرض للتغيرات الجغرافية والحضارية التى طرأت على مفهوم الشرق فى مختلف العصور ،وإنما كل ما يعنينا هنا هو المعنى الخاص لمفهوم الاستشراق الذى يعنى الدراسات الغريبة المتعلقة بالشرق الإسلامى فى لغاته ، وآدابه ،وتاريخه وعقائده ،وتشريعاته ،وحضارته ،بوجه عام . وهذا المعنى هو الذى ينصرف إليه الذهن فى عالمنا العربى الإسلامى عندما يطلق لفظ استشراق ومستشرق ،وهو الشائع أيضاً فى كتابات المستشرقين المعنيين . ومن الصعب تحديد تاريخ معين لبداية الاستشراق ،وإن كان بعض الباحثين يشير إلى أن الغرب النصرانى يؤرخ لبدء وجود ((الاستشراق الرسمى))بصدور قرار مجمع ((فيينا))الكنسى فى عام 1312 م بإنشاء عدد من كراسى اللغة العربية فى عدد من الجامعات الأوربية ، ولكن الإشارة هنا إلى ((الاستشراق الرسمى))تدل على أنه كان هناك استشراق غير رسمى قبل هذا التاريخ ،فضلا عن أن هناك باحثين أوربيين – كما سنذكر فيما يلى – لا يعتمدون التاريخ المشار إليه بداية للاستشراق، ولذلك تتجه المحاولات فى هذا الصدد لا إلى تحديد سنة معينة على وجه التقريب يمكن أن تعد بداية للاستشراق .

وليس هناك شك فى أن الانتشار للإسلام فى المشرق والمغرب قد لفت بقوة أنظار رجالات اللاهوت النصرانى إلى هذا الدين ،ومن هنا بدأ اهتمامهم بالإسلام ودراسته . ومن بين العلماء النصارى الذين أظهروا فى وقت مبكر اهتماما بدراسة الإسلامى – لا من أجل اعتناقه ،وإنما من أجل حماية إخوانهم النصارى منه – كان العالم النصرانى يوحنا الدمشقى (676- 749هجرى) ،ومن بين مصنفاته فى هذا الصدد لإخوانه فى الدين كتاب (محاورة مع مسلم) ،وكتاب (إرشادات النصارى فى جدل المسلمين) .

ولكننا لا نستطيع أن نعد مثل هذه المحاولات بداية الاستشراق فيوحنا الدمشقى كان رجلا شرقيا عاش فى ظل الدولة الأموية ،وخدم فى القصر الأموى ،ولهذا سنصرف النظر عن مثل هذه المحاولات من جانب النصارى الشرقيين ،ونقصر حديثنا على العلماء الغربيين .

وهنا نجد أيضاً أنه ليس هناك اتفاق على فتره زمنية لبداية الاستشراق ،فبعض الباحثين يذهب إلى القول بأن البدايات الأولى للاستشراق ترجع إلى مطلع القرن الحادى عشر الميلادى ،بينما يرى (رودى بارت )أن بدايات الدراسات الأسلامية والعربية فى أوربا تعود إلى القرن الثانى عشر الذى تمت فيه لأول مرة ترجمة معانى القرآن الكريم إلى الغة اللاتينية ،كما ظهر أيضا فى القرن نفسه أول قاموس لاتينى عربى . وما ذهب إليه بارت فى هذا الصدد سبق أن عبر عنه كتاب المستشرقين فى أوربا من القرن الثانى عشر حتى القرن التاسع عشر ) الذى صدر فى باريس فى نهاية الستينات من القرن الماضى .

وهناك من الباحثين من يجعل بداية الاستشراق قبل ذلك بقرنين ،أى فى القرن العاشر الميلادى ،ولعل هذا هو السبب الذى أدى بنجيب العقيقى إلى إن يجعل كتابه عن المستشرقين – فى أجزائه الثلاثة – سجلاً للاستشراق على مدى ألف عام ،بدء من الراهب الفرنسى جربردى أورالياك ( 938- 1003) الذى قصد الأندلس ،وتتلمذ على أساتذتها فى أشبيلية وقرطبة حتى أصبح أوسع علماء عصره فى أوروبا ثقافة بالعربية والرياضيات والفلك ،ثم تقلد فيما بعد منصب البابوية فى روما باسم سلفستر الثانى (999- 1003) .

وعلى أية حال فإن الدافع لهذه البدايات المبكرة للاستشراق كان يتمثل فى ذلك الصراع الذى دار بين العالمين الإسلامى والنصرانى فى الأندلس وصقلية ،كما دفعت الحروب الصلبية بصفة خاصة إلى اشتغال الأوربين بتعاليم الإسلام وعاداته ،ولهذا يمكن القول بأن تاريخ الاستشراق فى المرحلة الأولى هو تاريخ للصراع بين العالم النصرانى فى القرون الوسطى والشرق الإسلامى على الصعيدين الدينى والأيدولوجى، فقد كان الإسلام كما يقول (ساذرن  southern) يمثل مشكلة بعيدة المدى بالنسبة للعالم النصرانى فى أوربا على المستويات كافة .

فباعتباره مشكلة عملية استدعى الأمر اتخاذ إجراءات معينة كالصليبية والدعوة إلى النصرانية والتبادل التجارى ،وباعتباره مشكلة لاهوتية تطلب بإلحاح العديد من الإجابات على العديد من الأسئلة فى هذا الصدد ،وذلك يقتضى معرفة الحقائق التى لم يكن من السهل معرفتها . وهنا ظهرت مشكلة تاريخية صار من المعتذر حلها ،كما ندر إمكانية تناولها دون معرفة أدبية ولغوية يصعب اكتسابها ،وصارت المشكلة أكثر تعقيداً بسبب السرية والتعصب والرغبة القوية فى عدم معرفتها خشية الدنس .

اتجاهان مختلفان :

وقد نشط  اللاهوتيون النصارى فى ذلك الوقت المبكر ضد الإسلام ،وراحوا ينشرون الافترءات والأكاذيب حول الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم ،وزعموا فيما زعموا أن الإسلام قوة خبيثة شريرة ،وأن محمد صلى الله عليه وسلم ليس إلا صنما أو إله قبيلة أو شيطاناً ،وغزت الأساطير الشعبية والخرافات خيال الكتاب اللاتينين . ولم يكن الهدف بطبيعة الحال هو عرض صورة موضوعية عن الإسلام ،فقد كان هذا أبعد ما يكون عن أذهان المؤلفين فى ذلك الزمان .

وهناك فى هذا الصدد حكايات فى وصف الإسلام مغرقة فى الخيال وفى الضلال اخترعها الكتاب فى ذلك

 ،وغيرها من آثار أدبية تصف المسلمين بأنهم The songof roland :العصر مثل أنشودة رونلاد الشهيرة

عباد أصنام ،أو أنهم يعبدون آلهة ثلاثة هى ( تيرجفان  tervagan) ،(ومحمد وأبو للو ). وقد اعترف المسؤولين عن هذا الأدب وهو (جيبتر النوجنتىnogent   guibert de) بأنه لا يعتمد فى كتاباته عن الإسلام على أية مصادر مكتوبة ،وأشار فقط إلى آراء العامة ،وأنه لا يوجد لديه أية وسيلة للتمييز بين الخطأ والصواب ،ثم قال مبرراً كتاباته غير العلمية عن الإسلام ونبيه : ((لا جناح على المرء إذا ذكر بالسوء من    يفوق خبثه كل سوء يمكن أن يتصوره المرء )).                               

وقد أطلق ساذرن على هذه الفترة فى كتابه (نظرة الغرب إلى الإسلام فى القرون الوسطى) عنوان ((عصر الجهالة))  ،وهو عصر كان أبعد ما يكون عن روح العلم والموضوعية ،وفى ذلك يقول ساذرن :

((على أن الشئ الوحيد الذى يجب أن لا نتوقع وجوده فى تلك العصور هو الروح المتحررة الأكاديمية ،أو البحث الإنسانى الذى تميز به الكثير من البحوث التى تناولت الإسلام فى المائة سنة الأخيرة )).

وفى مقابل تلك الصورة البغيضة للإسلام كانت هناك جهود أخرى للوصول إلى معرفة موضوعية فى مجال العلوم العربية مثل الفلسفة والطب والعلوم الطبيعية .

وبداء من عام  1130 م كان العلماء النصارى فى أوربا يعلمون جاهدين على ترجمة الكتب العربية فى الفلسفة والعلوم ،وكان لرئيس أساقفة طليطلة وغيره الفضل فى إخراج ترجمات مبكرة لبعض الكتب العلمية العربية ،بعد الاقتناع بأن العرب يملكون مفاتيح قدر عظيم من تراث العالم الكلاسيكى . وهذه الحركة التى قامت فى أروبا لترجمة العلوم العربية إلى اللاتينية تشبه تلك الحركة التى قامت من أجلها حركة الترجمة فى العالم الإسلامى ،والتى تتمثل فى نشر العلم ،ورفع المستوى الثقافى من أجل خدمة الحياة الإنسانية ،وبناء الحضارة ،ولكن هذا الاتصال العلمى بحضارة الإسلام لم يكن له تأثير فى تغيير النظرة الغربية للصورة العقيدية أو الإلهية أو التاريخية للإسلام .

وقد كان هناك فى القرن الثالث عشر أيضا بعض المحاولات للتعرف على الإسلام بقدر من الموضوعية ،ولكن مع الهدف الواضع والمعلن وهو محاربة هذه التعاليم الإسلامية الإلحادية ،ومن أجل ذلك قام بطرس الموقر (ت 1156 م) رئيس رهبانى كلونى بتشكيل جماعة من المترجمين فى أسبانيا يعلمون كفريق واحد من أجل الحصول على معرفة علمية موضوعية عن الدين الإسلامى ،وقد كان بطرس الموقر وراء ظهور أول ترجمة لمعانى القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية فى عام  1143 م ،تلك الترجمة التى قام بها العالم الإنجليزى روبرت أوف – Robert of ketton  ويمكن القول بصفة عامة بأنه قد كان هناك فى هذه الفترة المبكرة للاستشراق اتجاهان مختلفان فيما يتعلق بالأهداف والمواقف إزاء الإسلام . أما الاتجاه الأول فقد كان اتجاها لاهوتيا متطرفا فى جدله العقيم ،ناظرا إلى الإسلام من خلال ضباب كثيف من الخرافات والأساطير الشعبية . أما الاتجاه الثانى فقد كان نسبيا بالمقارنة إلى الاتجاه الأول أقرب إلى الموضوعية والعلمية ،ونظر إلى الإسلام بوصفه مهد العلوم الطبيعية والطب والفلسفة ،ولكن الاتجاه الخرافى ظل حيا حتى القرن السابع عشر وما بعده . ولا يزال هذا الاتجاه للأسف حياً فى العصر الحاضر فى كتابات المستشرقين عن الإسلام ونبيه .

الثقافة العربية فى قصر الامبراطور :

وبين حين وآخر كانت تظهر هناك بعض شخصيات أوربية مستنيرة لها وزنها تتخذ إزاء الإسلام بعض المواقف الإيجابية ،ومن بين هؤلاء القلائل الذين كانوا يتبنون إزاء الإسلام موقفا أقرب إلى الاعتدال نجد فريدريك الثانى حاكم صقلية الذى أصبح إمبراطورا لألمانيا عام  1215 م . وقد كان فريدريك هذا يعرف العربية ،ويتشبه بالعرب فى لباسهم وعاداتهم ،ويتحمس للفلسفة والعلوم العربية . وقد كانت هذه العلوم تدرس بشغف فى قصره فى (بالرمو) ،وبذلك أصبحت فى متناول اللاتينين . وقد أهدى هذا الإمبراطور وابنه (مانفرد) إلى جامعات بولونيا وباريس ترجمات لكتب فلسفية مترجمة عن العربية .

وفى عام  1224 م أسس الإمبراطور جامعة نابولى ،وجعل منها أكاديمية لإدخال العلوم العربية إلى العالم الغربى .

وقد كان نصيب هذا الإمبراطور أن طرده البابا جريجورى التاسع gregorgyمن الكنيسة عام 1239 م، وقد كانت إحدى التهم وجهت إليه هى ما يبديه من مظاهر الود تجاه الإسلام .

الاستشراق والتنصير :

إذا كان الاستشراق لا يقوم إلى على أساس معرفة اللغات الشرقية التى هى الوسيلة للتعرف على عقائد وحضارات الشرق ،فإن التنصير يتفق مع الاستشراق فى هذا الصدد ،ويحتم أيضا معرفة لغات من يراد تنصيرهم ،وقد كان هناك اقتناع تام لدى دعاة التنصير فى القرن الثالث عشر بضرورة تعلم لغات المسلمين أن تؤتى ثمارها بنجاح . وقد كان هذا الاقتناع – الذى ترجم فيما بعد إلى خطة عمل – عاملا هاما بالنسبة لتطور الاستشراق . ولم يكن من السهل فى ذلك الزمان فصل الاستشراق عن التنصير أو عن الدافع الدينى بصفة عامة . فالدافع الدينى كان هو السبب الأول فى نشأة الاستشراق .

وقد كان من بين الدعاة المتحمسين الذين طالبوا بضرورة تعلم لغات المسلمين لغرض التنصير

 (روجر بيكون) ( 1214 م- 1294م) الذى كان يرى أن التنصير هو الطريقة الوحيدة التى يمكن بها توسيع رقعة العالم المسيحى . ولبلوغ هذا الغرض لا بد من توفر شروط ثلاثة هى :

1- معرفة اللغات الضرورية .

2- دراسة أنواع الكفر ،وتتميز بعضها من بعضها الآخر .

3- دراسة الحجج المضادة حتى يمكن دحضها .

وقد شارك بيكون فى أفكاره (رايموندلول Raymond luli) ( 1235- 1316) الذى ولد فى جزيرة ميورقة الأسبانية ،وتعلم العربية على يد عبد عربى ،وكانت له جهود كبيرة فى إنشاء كراسى لتدريس اللغة العربية فى أماكن مختلفة ،وكان الهدف من كل هذه الجهود فى ذلك العصر وفى العصور التالية هو التنصير ،وهو إقناع المسلمين بلغتهم ببطلان الإسلام واجتذابهم إلى الدين النصرانى .

وقد صادق مجمع ((فيينا))الكنسى فى عام 1312 م على أفكار بيكون ولول بشأن تعلم اللغات الإسلامية ،وتمت الموافقة على تعليم اللغة العربية فى خمس جامعات أوروبية هى جامعات باريس ،وأكسفورد ،وبولونيا ،وسلمنكا ،بالإضافة إلى جامعة المدينة البابوية ،وقدر لرايموندلولأن يعيش حتى يشهد تحقيق حلم طالما نادى به ،وكان يعتقد أن الوقت بذلك قد حان لإخضاع المسلمين عن طريق التنصير ،وبذلك تزول العقبة الكبيرة التى تقف فى سبيل تحويل الإنسانية كلها إلى العقيدة الكاثوليكية .

وقد ساعد على تقدم الدراسات الاستشراقية فى نهاية العصر الوسيط تلك الصلات السياسية والدبلوماسية مع الدولة العثمانية التى اتسعت رقعتها حينذاك ،وكان للروابط الاقتصادية لكل من أسبانيا وإيطاليا مع كل من تركيا وسورية ومصر أثر كبير فى دفع حركة الدراسات الاستشراقية .

وفى القرن السادس عشر الميلادى وما بعده أدت النزعة الإنسانية فى عصر النهضة الأوربية إلى دراسات أكثر موضوعية من ذى قبل ،ومن ناحية أخرى شجعت البابوية الرومانية دراسات لغات الشرق من أجل مصلحة التنصير .

وفى القرن السابع عشر بدأ المستشرقون فى جمع المخطوطات الإسلامية ،وأنشئت كراسى للغة العربية فى أماكن مختلفة ،ومما هو جدير بالذكر أن قرار إنشاء كرسى اللغة العربية فى جامعة كمبردج عام 1636 م قد نص صراحة على خدمة هدفين أحداهما تجارى والآخر تنصيرى .

ومن هنا يتضح أنه قد كان هناك تجاوب متبادل بين الاستشراق والتنصير إن لم يكن هناك تماثل فى القصد بين المستشرق الأكاديمى والمبشر الإنجيلى ،ويمكن القول بأن التحالف بين الجانبين لا يزال مستمرا بشكل من الأشكال حتى العصر الحاضر .

محاولات جادة نحو فهم الإسلام :

وعلى الرغم من هذه الأهداف التنصيرية الواضحة والمعادية فى طبيعتها للإسلام ،فقد شهدت نهاية القرن السابع عشر من ناحية أخرى اتجاها آخر مختلفا استمر أيضا فى القرن الثامن عشر ،وقد نظر هذا الاتجاه إلى الإسلام نظرة موضوعية محايدة فيها شئ من التعاطف مع الإسلام ،وقد شجع على ذلك ظهور النزعة العقلية الجديدة التى بدأت تسود أوروبا حينذاك ،والتي كانت فى عمومها مخالفة للكنيسة .

وهكذا سنحت الفرصة أمام بعض العقلاء من الأوروبيين للوقف فى وجه الظلم والإجحاف الذى لقيه الإسلام فى الغرب فى القرون الوسطى ،وظهرت بعض المؤلفات العامة المعتدلة عن الإسلام والحضارة الإسلامية ،وحل محل الآراء التى تبناها الللاهوتيون حتى ذلك الوقت التى تمثلت فى وصف محمد صلى الله عليه وسلم بأنه شيطان ،وفى وصف القرآن الكريم بأنه مزيج من اللغو الباطل ،وحل محلها آراء أخرى أقل عنفا وأقرب إلى الاعتدال والإنصاف للإسلام والمسلمين .

وأهم محاولة رائدة فى الاتجاه الجديد نحو الفهم الصحيح للإسلام كانت على يد (هادريان ريلاند ت 1718 م) أستاذ اللغات الشرقية فى جامعة أوترشت بهولندا ،فقد صدر كتابه باللغة اللاتينية عن الإسلام عام 1705 م بعنوان (الديانة المحمدية) فى جزأين : عرض فى أولهما العقيدة الإسلامية معتمدا على مصادر بالعربية واللاتينية ،وفى الجزء الثانى قام بتصحيح الآراء الغربية التى كانت سائدة حينذاك عن تعاليم الإسلام ،وقد أثار الكتاب اهتماما عظيما لدرجة أدت إلى أثارة الشبهات حول المؤلف باتهامه بأنه يريد القيام بعمل دعائي للإسلام ،فى حين أنه لم يكن يقصد إلا الوصول إلى فهم الدين الإسلامى فهما صحيحاً ،ممهداً بذلك السبيل إلى محاربته من جانب النصرانية بطريقة أفضل من ذى قبل .

ولكن الكنيسة الكاثوليكية أدرجت الكتاب فى قائمة الكتب المحرم تناولها ،وعلى الرغم من ذلك ترجم الكتاب إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والهولندية والأسبانية ،ويشير ريلاند فى مقدمة الكتاب إلى ما تتعرض له كل الأديان باستمرار من جانب خصومها ،إما بعدم فهمها أو برميها بكل سوء بطريقة تنبئ عن قصد خبيث ،وقد تعرض الإسلام إلى مثل ذلك من جانب خصومه مثلما تعرضت الأديان الأخرى ،ويقول ريلاند : ((إن المرء يصح له أن يبحث عن الحقيقة حيثما كانت )) ولهذا يريد أن يعرض الإسلام لا كما يظهر من خلال ضباب الجهل وخبث الناس ،وإنما كما يدرس حقيقة فى مساجد المسلمين ومدارسهم ،فلم يحدث أن تعرض دين من الأديان فى هذا العالم فى أى عصر من العصور إلى مثل ما تعرض له الإسلام من جانب خصومه من الاحتقار والتشويه والوصف بكل أوصاف السوء .

وقد وصل الأمر إلى حد أن من يريد أن يصف نظرية من النظريات بوصف مشين ،يصفها بأنه نظرية محمدية … كما لو كان الأمر أنه لا يوجد فى تعاليم محمد شئ صحيح ،وأن كل ما فيها فاسد . وإذا أبدى أحد رغبة صادقة فى التعرف على الإسلام لا تقدم إليه إلا الكتب المضادة الخبيثة والمليئة بالضلالات .

ولكن محاولة ريلاند وغيرها من محاولات فى التعرف على الإسلام من قرب ،وبلا أحكام سابقة لم تستطع أن ترسخ فى الفكر الأوروبى تيارا عاما ،ولم تستطع بالتالى أن تقضى تماما على الصورة المشوهة للإسلام فى أذهان الأوروبيين بصفة عامة ،تلك الصورة التى رسختها القرون الوسطى فى الأذهان ،ولاتزال أثارها عالقة بالعقول حتى اليوم ،فقد بقيت الصورة فى إطارها العام على مر العصور كما هى ،وإن حدث فيها بين الحين والحين – بفعل بعض الظروف بعض التعديل فى الظلال والألوان((والرتوش))الخفيفة ،والدليل على ذلك هو أن صورة الإسلام فى أذهان الأوروبيين لا تزال حتى اليوم صورة مشوهة بعيدة عن الحقيقة .

ولسنا ننكر أن الاستشراق فى ذلك العصر بدأ يتخفف من أثقال اللاهوت ،وأن حدة الاتهامات ضد الإسلام قد خفت عن ذى قبل ،كما أعيد النظر فى الاتهامات السابقة ،ولكن هذا الانفتاح الفكرى كان فى محصلته النهائية محدود الأثر .

ويعد القرن التاسع عشر والقرن العشرون عصر الازدهار الحقيقى للحركة الاستشراقية .

وفى نهاية القرن التاسع عشر أصبحت الدراسات الإسلامية تخصصا قائما بذاته داخل الحركة الاستشراقية العامة ،وكان كثير من علماء الإسلاميات والعربية فى ذلك الوقت – مثل :نولدكه وجولد تسيهير – مشهورين فى الوقت نفسه بوصفهم علماء فى الساميات على وجع العموم أو متخصصين فى الدراسات العبرية أو فى دراسة الكتاب المقدس .

من مظاهر النشاط الاستشراقى :

بدأ المستشرقون فى النصف الأول من القرن التاسع عشر فى مختلف بلدان أوربا وأمريكا بإنشاء جمعيات لمتابعة الدراسات الاستشراقية ،فقد تأسست أولا الجمعبة الآسيوية فى باريس عام  1822 م ،ثم الجمعية الملكية الآسيوية فى بريطانيا وأيرلندا عام 1823 م ،والجمعية الشرقية الأمريكية عام   1842 م ،والجمعية الشرقية الألمانية عام 1845 م .

وسرعان ما نشطت هذه الجمعيات فى إصدار المجلات والمطبوعات المختلفة ،وقد كان (هامر برجشتال) قد أصدر أول مجلة استشراقية متخصصة فى أوروبا وهى مجلة (ينابيع الشرق) التى صدرت فى فينا من عام 

1809م إلى عام 1818 م .

وفى عام 1895 م ظهرت فى باريس مجلة تمنح اهتمامها بصفة خاصة للعالم الإسلامى وهى مجلة الإسلام ،وقد خلفتها فى عام 1906 م مجلة العالم الإسلامى التى صدرت عن البعثة العلمية الفرنسية فى المغرب ،وقد تحولت بعد ذلك إلى مجلة الداراسات الإسلامية .

وفى عام  1910 م ظهرت مجلة الإسلام الألمانية  der islam،وفى بطرسبرج ب ((روسيا)) ((ظهرت مجلة عالم الإسلام mir idismsعام 1912 م ،ولكنها لم تعمر إلا وقتاً قصيراً ،وفى بريطانيا ظهرت مجلة العالم الإسلامى عام 1911 م على يد صمويل زويمو (ت 1952م) الذى كان رئيس المبشرين فى الشرق الأوسط .

وللمستشرقين اليوم من المجلات والدوريات عدد هائل يزيد على ثلاثمائة مجلة متنوعة بمختلف اللغات .

وقد شهد القرن التاسع عشر أيضاً بداية المؤتمرات الدولية للمستشرقين ،وقد أتاحت هذه المؤتمرات للمستشرقين فى كل مكان الفرص لزيادة التنسيق وتوثيق أواصر التعاون ،والتعرف بصورة مباشرة على أعمال بعضهم بعضا ،وتجنب ازدواج العمل حرصا على تجميع الجهود وعدم تبديدها فى أعمال مكررة .

وقد تم عقد أول مؤتمر دولى للمستشرقين فى باريس فى عام  1873 م ،وتعقد هذه المؤتمرات منذ ذلك الحين بصفة منتظمة ،وقد بلغ عددها حتى الآن أكثر من ثلاثين مؤتمرا ،وهذا عدا المؤتمرات والندوات والقاءات الإقليمية التى يرجع بعضها إلى تاريخ أقدم من تاريخ أول المؤتمرات الدولية ،فقد عقد أول مؤتمر للمستشرقين الألمان فى مدينة درسدن بألمانيا فى عام 1849 م ،ولاتزال مثل هذه المؤتمرات تعقد بانتظام حتى اليوم .

وتضم هذه المؤتمرات الجولية للمستشرقين مئات العلماء فمثلا مؤتمر أكسفورد كان يضم تسعمائة عالم من خمس وعشرين دولة ،وخمس وثمانين جامعة ،وتسع وستين جمعية علمية ،ومجموعات العمل فى كل مؤتمر تبلف أربعة عشرة مجموعة تختص كل منها ببحث مجال معين من الدراسات الاستشراقية ،وتنشر بحوث هذه المؤتمرات فى مجلدات ((للاهتداء بها كنم ومناهج ووسائل ،ثم أصبحت – مع دراسات مؤتمراتهم الموضوعية والإقليمية – أصولا وأمهات وأسانيد للباحثين)).

الاستشراق … والاستعمار ..

لقد كان للمد الاستعمارى فى العالم الإسلامى دور كبير فى تحديد طبيعة النظرة الأوروبية إلى الشرق وخصوصا بعد منتصف القرن التاسع عشر ،وقد أفاد الاستعمار من التراث الاستشراقى ،ومن ناحية أخرى كان للسيطرة الغربية على الشرق دورها فى تعزيز مزاقف الاستشراق ،وتواكبت مرحلة التقدم الضخم فى مؤسسات الاستشراق وفى مضمونه مع مرحلة التوسع الأوروبى فى الشرق .

وقد شهد القرن التاسع عشر استيلاء المستعمرن الغربيين على مناطق شاسعة من العالم الإسلامى .

ففى عام 1857 م تم استيلاء الإنجليز سياسيا على الهند ،وأصبحت الهند بذلك تابعة للتاج البريطانى رسميا ،بعد أن كانت حتى ذلك الحين واقعة تحت نفوذ شركة الهند الشرقية منذ القرن السابع عشر ،وفى عام

 1857 م أيضا تم استيلاء فرنسا على الجزائر كلها بعد أن كان الفرنسيون قد بدؤوا غزوها عام 1830 م

كما احتلت هولندا قبل ذلك – فى بداية القرن السابع عشر – جزر الهند الهولندية ،وبعد عام 1881 م تم احتلال مصر وتونس ،وظل الاستعمار يقم بتقطيع أوصال البلاد الإسلامية شيئاً فشيئاً ،ويضعها تحت سيادته حتى استطاع فى النهاية أن يطوق العالم الإسلامى من الشرق والغرب ،وبعد الحرب العالمية الأولى كان العالم الإسلامى كل تقريبا خاضعا لنفوذ الاستعمار الغربى .

وقد استطاع الاستعمار أن يجند طائفة من المستشرقين لخدمة أغراضه ،وتحقيق أهدافه ،وتمكين سلطانه فى بلاد المسلمين ،وهكذا نشأت هناك رابطة رسمية وثيقة بين الاستشراق والاستعمار ،وانساق فى هذا التيار عدد من المستشرقين ارتضوا لأنفسهم أن يكون علمهم وسيلة لإذلال المسلمين ،وإضعاف شأن الإسلام وقيمه ؛وهذا عمل يشعر إزاءه المستشرقون المنصفون بالخجل والمرارة .

ولم تكن علاقة الاستشراق بالاستعمار – كما يظن – هى مجرد إضفاء طابع التبرير العقلى على المبدأ الاستعمارى ،بل كان الأمر كما يقوله إدوارد سعيد أيضا – أبعد من ذلك وأعمق ،فالتبرير الاستشراقى للسيادة الاستعمارية قد تم قبل حدوث السيطرة الاستعمارية على الشرق ،وليس بعد حدوثها . فقد كان التراث الاستشراقى بمثابة دليل للاستعمار فى شعاب الشرق وأوديته من أجل فرض السيطرة على الشرق وإخضاع شعوبه وإذلالها .

((فالمعرفة بالأجناس المحكومة أو الشرقيين هى التى تجعل حكمهم سهلا ومجديا ،فالمعرفة تمنح القوة ،ومزيد من القوة يتطلب مزيدا من المعرفة))فهناك باستمرار حركة جدلية بين المعلومات المعلومات والسيطرة وهكذا اتجه الاستشراق المتعاون مع الاستعمار – بعد الاستيلاء العسكرى والسياسى على بلاد المسلمين – إلى إضعاف المقاومة الروحية والمعنوية فى نفوس المسلمين وتشكيك المسلمين فى معتقداتهم وتراثهم ،حتى يتم للاستعمار فى النهاية إخضاع المسلمين إخضاعا تاما للحضارة والثقافة الغربية .

اليهود …والاستشراق …

لقد اتضح لنا مما تقدم أنه قد كانت هناك أسباب معينة على مر العصور دفعت بالباحثين الغربيين النصارى إلى الاستشراق ،وحملتهم على تحقيق أهداف علمية أو غير علمية ،وهنا يمكن لسائل أن يسأل :

ما هى الأسباب التى دفعت اليهود إلى الإقبال على الاستشراق .. وما الدور الذى قاموا به فى إطار الحركة الاستشراقية ؟

والإجابة على هذا السؤال ليست سهلة ،فمن الصعب الحصول على إجابة صريحة فى هذا الصدد ،وذلك لأن المراجع التى تتحدث عن الاستشراق وتطوره قد أغفلت الحديث عن هذا الجانب ،ونعتقد أن سبب إغفال الحديث عن هذا الموضوع يرجع إلى أن المستشرقين اليهود قد استطاعوا أن يكيفوا أنفسهم ليصبحوا عنصرا أساسيا فى إطار الحركة الاستشراقية الأوروبية النصرانية . فقد دخلوا الميدان بوصفهم الأوروبى لا بوصفهم اليهودى .

وقد استطاع (جولد تسيهير) فى عصره – وهو يهودى مجرى – أن يصبح زعيم علماء الإسلاميات فى أوروبا بلا منازع ،ولا تزال كتبه حتى اليوم تحظى بالتقدير العظيم والاحترام الفائق من كل فئات المستشرقين

وهكذا لم يرد اليهود أن يعملوا داخل الحركة الاستشراقية بوصفهم مستشرقين يهود حتى لا يعزلوا أنفسهم وبالتالى يقل تأثيرهم ،ولهذا عملوا بوصفهم مستشرقين أوربيين ،وبذلك كسبوا مرتين : كسبوا أولا فرض أنفسهم على الحركة الاستشراقية كلها ،وكسبوا ثانيا تحقيق أهدافهم فى النيل من الإسلام ،وهى أهداف تلتقى مع أهداف غالبية المستشرقين النصارى .

مستقبل الاستشراق :

وفى ختام هذا المدخل التاريخى تبرز أمامنا بعض الأسئلة الملحة حول مستقبل الاستشراق : هل لايزال الاستشراق يعيش الآن عصر ازدهاره ،أم أن نجمه بدأ يأفل وتأثيره بدأ يقل ونشاطه بدأ يتضأل .. وخاصة بعد أن انحسر المد الاستعمارى عن العالم الإسلامى ؟

أين يقف الاستشراق الآن فى العصر الحاضر ؟

ما موقف الحكومات الأوروبية اليوم من دعم النشاط الاستشراقى ؟

إن طرح الأسئلة له ما يبرره ؛فهناك بالفعل وجهات نظر تتحدث عن نهاية الاستشراق .

لقد عاش الاستشراق عصر ازدهاره فى النصف الثانى من القرن الماضى والنصف الأول من هذا القرن ،وشهدت تلك الفترة جيل العمالقة من المستشرقين ،وقد ظهرت الآن أجيال جديدة تسير على الدرب نفسه ،وتترسم خطى السابقين .

وتهتم الحكومات الأوروبية بدعم الحركة الاستشراقية فى أوروبا ،ولا تبخل عليها بالمال اللازم لاستمرار نشاطها .

فهناك إذن ارتباط وثيق بين مصالح الغرب واهتماماته ودعم الحركة الاستشراقية ،وهذا أمر يجعل استمرار الاستشراق متوقفا على استمرار الدعم المالى الذى تقدمه الحكومات والهيئات المختلفة ،واستمرار الدعم المالى يتوقف على مدى تشبت الغرب بمصالحه فى العالم العربى والإسلامى ،والتشبت بهذه المصالح حقيقة واقعة تؤكدها جميع الشواهد ،وليس هناك أى بارقة تلوح فى الأفق توحى بأن الغرب على استعداد للتخلى عن هذه المصالح ،وما دام الأمر كذلك فإن الحاجة إلى الاستشراق فى الغرب سنظل قائمة بل ستزداد إلحاحا.

الجوانب الإيجابية :

وتتمثل الجوانب الإيجابية للمستشرقين فى الأمور التالية :

يخدم المستشرقون أهدافهم التي وضعوها لأنفسهم بإخلاص تام لهذه الأهداف وتفان إلى أقصى حد وبكل الوسائل وعندما أراد المستشرق الهولندي سنوك هورجرونيه أن يكتب كتابا عن مكة لم يثنه عن عزمه لدراسة مكة على الطبيعة أنه مسيحي لا يجوز له أن يدخل مكة ،فانتحل اسما إسلاميا هو عبد الغفار ،وزار مكة عام  1884 ،وأقام هناك مدة خمسة أشهر ،وكان يجيد العربية كأحد أبنائها ،وبعد هذه الرحلة كتب عن مكة كتابين أولهما : الحج إلى مكة ،وثانيهما : مكة وجغرافيتها فى القرن التاسع عشر – فى جزأين – وصف فيه مكة وصفا دقيقا شاملا مع خرائط عديدة ،والمستشرقون بصفة عامة لديهم صبر عجيب ونادر فى البحث والدرس وإحاطة تامة بالعديد من اللغات القديمة والحديثة ،وقد أشار الشيخ مصطفى عبد الرازق إلى الإعجاب بصبرهم ونشاطهم وسعة اطلاعهم وحسن طريقتهم )) .

وقال الشيخ أمين الخولى بعد حضوره مؤتمر المستشرقين الدولى الخامس والعشرين((لقد قدمت السيدة كراتشكوفسكى بحثا عن نوادر مخطوطات القرآن فى القرن السادس عشر الميلادى . وإنى أشك فى أن الكثيرين من آثمة المسلمين يعرفون شيئا عن هذه المخطوطات . وأظن أن هذه مسألة لا يمكن التساهل فى تقديرها)).

(1) : هناك ترابط تام بين جماعات المستشرقين فى مختلف البلدان وتنسيق مستمر وتعاون وتكامل فى مجالات الدراسات العربية والإسلامية ،فقنوات الاتصال بينهم قائمة ومستمرة عن طريق المؤتمرات المنتظمة والدوريات والحوليات والمجلات والنشرات والمطبوعات المختلفة ،وقد بلغ عدد المؤتمرات الدولية للمستشرقين من عام 1873 م حتى عام 1968 م ثلاثين مؤتمرا ،وهذا عدا المؤتمرات والندوات واللقاءات الإقليمية ،وتضم المؤتمرات الدولية مئات العلماء ،فمثلا مؤتمر أكسفورد كان يضم 900 عالم من 25 دولة و85 جامعة 69 جمعية علمية ،ومجموعات العمل فى كل مؤتمر تبلغ أربعة عشرة مجموعة تختص كل منها ببحث قطاع معين من الدراست الاستشراقية .

(2) : التوفر على موضوع معين من الدراسات العربية والإسلامية ،وقضاء العمر كله فى البحث والاستقصاء لاستيفاء شتى جوانبه ؛ولهذا نجد أن لديهم معرفة جيدة بكل ما ينشر عن الدراسات الإسلامية والعربية فى بلادنا العربية ،ومكتباتهم الخاصة والعامة عامرة بشتى المراجع العربية والإسلامية قديمها وحديثها ،وهناك حقيقة يعرفها كل من خالط المستشرقين وهى أن المستشرق المتمكن لا تأخذه العزة بالإثم إذا ما نبهته إلى خطأ وقع فيه نتيجة لعدم فهمه لروح اللغة العربية .

(3) : دائرة المعارف الإسلامية – على ما لنا نحن المسلمين عليها من مآخذ – ثمرة من ثمار التعاون العلمى الدولى بين المستشرقين ،وقد إصدارها فى طبعتها الأولى بالإنجليزية والفرنسية والألمانية فى الفترة من عام 1913م إلى عام 1938م وقد ترجمت إلى العربية حتى حرف العين ،وقد أصدر المستشرقون طبعة جديدة أعيدت فيها كتابة المقالات بناء على ما صدر من بحوث حديثة وما نشر أو اكتشف من مخطوطات ،وقد ظهرت هذه الطبعة الجديدة فى الفترة من عام 1954م إلى عام 1977م . وقد أشار نجيب العقيقى إلى أن اللجنة العربية لترجمة دائرة المعارف ترجع الآن إلى الطبعة الجديدة ابتداء من حرف العين بدلا من الرجوع إلى الطبعة القديمة التى تقادمت بعض معلوماتها .

(4) : تاريخ الأدب العربى لبروكلمان (ت 1956) وهو كتاب أساسى فى الدراسات العربية والإسلامية ،وهذا الكتاب لا يقتصر على الأدب العربى وفقه اللغة ،بل يشمل كل ما كتب باللغة العربية من المدونات الإسلامية فهو سجل للمصنفات العربية المخطوط منها ،والمطبوع ،ويكتمل بمعلومات عن حياة المؤلفين ،وقد صدر أولا من مجلدين عام 1898م وعام 1902م ثم أتبعه المؤلف بثلاث مجلدات تكميلية كبيرة فى الفترة من 1973م إلى 1943م وعام 1949م فى طبعة أخرى معدلة ليتناسب تعديلهما مع المجلدات الثلاثة التكميلية ،وقد وافق المؤلف على طلب الجامعة العربية على ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية ،ولكن المشروع لازال للأسف يتعثر حتى الآن ،ويقوم الباحث التركى المسلم فؤاد سيزكين ،تلميذ المستشرق الألمانى هلموت ريتر – بعد اكتشاف آلاف المخطوطات – يقوم بإكمال عمل بروكلمان ،وذلك فى كتابه (التراث العربى) بالألمانية الذى ترجم بعضه إلى العربية ،ومنح عليه جائزة الملك فيصل منذ بضع سنوات والحق يقال إنه لولا كتاب بروكلمان لما كان كتاب فؤاد سيزكين .

(5) : جمع المخطوطات العربية من كل مكان وبشتى السبل ،والعمل على حفظها وصيانتها من التلف والعناية بها عناية فائقة ،وفهرستها فهرسة نافعة تصف المخطوط وصفا دقيقاً ،وبذلك وضعت تحت تصرف الباحثين الراغبين فى مقر وجودها أو طلب تصويرها بلا روتين أو إجراءات معقدة ،وقد قام مثلا ألوارد Ahlardبوضع فهرس للمخطوطات العربية فى مكتبه برلين فى عشرة مجلدات بلغ فيه الغاية فنا ودقة وشمولا ،وصدر هذا الفهرس فى نهاية القرن الماضى واشتمل على فهرس لنحو عشرة آلاف مخطوط . وقد قام المستشرقون فى كافة الجامعات والمكتبات الأوربية بفهرسة دقيقة ،وتقدر المخطوطات العربية الإسلامية فى مكتبات أوروبا بعشرات الآلاف بل قد يصل عددها إلى مئات الآلاف .

وهنا أيضا كلمة حق يجب أن تقال وهى أن انتقال هذا العدد الهائل من المخطوطات إلى أوروبا بوسائل شرعية أو غير شرعية قد هيأ لها أحداث وسائل الحفظ والعناية الفائقة والفهرسة الدقيقة ،وعندما أقول هذا أشعر بالأسى والحسرة لحال المخطوطات النادرة فى كثير من بلادنا العربية والإسلامية ،وما آل إليه حال الكثير منها من التلف والتآكل وصعوبة أو استحالة الاستفادة منها .

(6) : للمستشرقين باع طويل فى مجال المعاجم ،وأخص بالذكر هنا المعجم المفهرس لألفاظ الحديث الشريف ،الذى يشمل كتب الحديث الستة المشهورة بالإضافة إلى مسند الدرامى وموطأ مالك ومسند الإمام أحمد بن حنبل ،وقد تم نشره فى سبعة مجلدات فى الفترة من عام 1936 م حتى عام 1961 م ،وتفيد منه كافة المعاهد والجامعات الإسلامية فى العالم . وقد تعاون على إخراجه عدد من المستشرقين المعروفين . ونشير أيضا إلى الجهد الذى بذله أوجست فيشر (ت 1949) فى معجم اللغة العربية القديمة مرتبا على المصادر ، فقد قضى فيشر أربعين عاما فى جمعه وتنسيقه وتعاون معه عدد من المستشرقين .

(7) : قام المستشرقون بنشر الكثير من أمهات كتب التراث ،وقد عرفنا الكثير من هذا التراث محققا ومطبوعا على أيديهم ،ولم يقتصر الأمر على نشر النصوص العربية بل قاموا أيضا بترجمة مئات الكتب العربية الإسلامية إلى كافة اللغات الأوروبية .

الجوانب السلبية :

وبعد هذه النظرة التى ألقيناها على ماللمستشرقين من إيجابيات يحق لنا الآن أن ننبه إلى الجوانب السلبية فى تكفيرهم ودراساتهم ،وتنصب النواحى السلبية بصفة أساسية على دراساتهم عن الإسلام وما يتصل به ،وفيما يلى نعرض نماذج من هذه السلبيات :

1- يعد الاستشراق أسلوبا خاصا فى التفكير ينبنى على تفرقة أساسية بين الشرق والغرب ،فالشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا ،كما قال الشاعر الاستعمارى المشهور كبلنج kipling،فالغربيون عقليون ،محبون للسلام ،متحررون منطقيون ،وقادرون على اكتساب قيم حقيقية ،أما الشرقيون فليس لهم من ذلك كله شئ .

ولكن هناك حقيقة هام يتجاهلها المستشرقون ببساطة ،وهى أن الحضارة الغربية التى يصفونها باعتزاز بأنها حضارة مسيحية قامت فى الأصل على تعاليم رجل شرقى وهو المسيح عليه السلام ،وعلى ما نقلوه عن العرب من علوم عربية ،ومن تراث قديم تطور على أيدى العرب ،وهذه الحقيقة تجعل هذه التفرقة المبدئية إلى شرق وغرب والتى يعتمد عليها الاستشراق أمرا مخالفا للمنطق ،فالمسيحية دين شرقى ،والزعم بأن الغرب متقدم لأنه يدين بالمسيحية ،والشرق متخلف لأنه يدين بالإسلام ،زعم لا أساس له من العلم ولا من الواقع ،فالتقدم الذى يشهده الغرب اليوم فى مجال العلم والتكنولوجيا لا علاقة له بالمسيحية كدين ،والتخلف الذى عانى من الشرق لا يتحمل الإسلام وزره ،فهذا التخلف يعد – كما يقول المرحوم مالك بن نبى – عقوبة مستحقة من الإسلام على المسلمين لتخليهم عنه لا لتمسكهم به كما يزعم الزاعمون .

2- الاستشراق – من بين شتى العلوم الأخرى – لم لم يطور كثيرا فى أساليبه ومناهجه . وفى دراسته للإسلام لم يتخلص قط من الخلفية الدينية للجدل اللاهوتى العقيم الذى انبثق منه الاستشراق أساسا ،ولم يتغير شئ من هذا الوضع حتى اليوم باستثناء بعض الشواذ ،وتقوم اليوم وسائل الإعلام المتعددة فى الغرب على تأكيد وتقوية الوضع التقليدى الذى لا يزال ينظر إلى الإسلام إلى حد كبير بمنظار القرون الوسطى ،ولعل هذا هو ما دعا السكرتير العام للمجلس الإسلامى الأوروبى فى شهر يناير 1979 م إلى التنديد بوسائل الإعلام الغربية لموقفها من الإسلام ،ووصفه لهذا الموقف بالإجحاف والافتراء على حقائق الدين وتشويهها . وهذا كله يحدث على الرغم من أن مجلس الفاتيكان قد أشاد فى أكتوبر 1965م بالحقائق التى جاء بها الإسلام والتى تتعلق بالله وقدرته ويسوع ومريم والأنبياء والمرسلين ،وعلى الرغم أيضا من قول المستشرق الألمانى المعاصر رودى بارت : إن الدراسات الاستشراقية منذ منتصف القرن التاسع عشر تنحو نحو البحث عن الحقيقة  الخالصة ،ولا تسعى إلى نوايا جانبية غير صافية .

وللمستشرق الفرنسى العاصر رودنسون وجهة نظر أخرى حيث يذهب إلى القول بأن هناك ثورة فى التفكير قد حدثت فى التصورات الأوروبية للإسلام ،الأمر الذى جعل التقييم المسيحى لمحمد صلى الله عليه وسلم مسألة حساسة ،فلم يعد بإمكانهم الزعم الكاذب بأنه (محتال شيطانى) كما كان عليه الحال فى العصور الوسطى . وفى الوقت الذى نجد فيه بعض المفكرين المسيحين الذين يهتمون بالمشكلة يعقلون الحكم بحذر فإننا نجد بعض الكاثوليك المتخصصين فى الإسلام يعتبرون محمدا صلى الله عليه وسلم (عبقريا دينيا) ويسأل آخرون عما إذا كان فى الإمكان اعتباره بطريقة ما نبيا حقيقيا مادام القديس توماس الأكوينى يقول بالنبوة التوجيهية التى لا تعنى بالضرورة العصمة والكمال . ومعنى هذا الكلام هو عدم الاعتراف بالنبوة الحقيقية للنبى صلى الله عليه وسلم التى تعنى اصطفاء إلهيا ،ووحيا سماويا ،وعصمة ربانية  .

والواقع أنه ليس بالأمر الغريب أن يختلف المستشرقون معنا – نحن المسلمين – فى الرأى حول الإسلام وإنما الغريبأن يتفقوا معنا فى الرآى ،وذلك أن منطلق تفكيرهم بالنسبة للإسلام ونبيه يختلف عن المنطق الذى يصدر عنه تفكير المسلمين ولهذا تختلف وجهات النظر بيننا وبينهم وستظل مختلفة فلا ننتظر منهم أن يتبنوا وجهة نظرنا التى تنظر إلى الإسلام على أنه دين سماوى ختم به الله الرسالات السماوية ،وأن محمدا خاتم النبين ،وأن القرآن وحى الله الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلقه ،لأنهم لو فعلوا ذلك بالنسبة للبعض منهم ممن تحول إلى الإسلام .

وهذا التحول إلى الإسلام يعنى فى الوقت نفسه التحول عن الخط الاستشراقى ،ونحن لا نطلب من كل مستشرق أن يغير معتقده ،ويعتقد ما نعتقد عندما يكتب عن الإسلام ،ولكن هناك أوليات بديهية يتطلبها المنهج العلمى السليم ،فعندما أرفض وجهة نظر معينة لا بد أن أبين القارئ أولا وجهة النظر هذه من خلال فهم أصحابها لها ،ثم لى بعد ذلك أن أخالفها ،وعلى هذا الأساس نقول : إن الكيان الإسلامى كله يقول على أساس الإيمان بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم الذى تلقى القرآن وحيا من عند الله ،ويجب على العالم النزيه والمؤرخ المحايد أن يقول ذلك لقرائه عندما يتعرض للحديث عنه الإسلام حتى يستطيع القارئ أن يفهم سر قوة هذا الإيمان فى تاريخ المسلمين ،ثم له بعد ذلك أن يخالف المسلمين فى معتقداتهم وتصوراتهم ،أما أن يعرض المستشرق الإسلام بادئ ذى بدء من خلال تصورات سابقة مبنية على خيالات وأوهام ،فهذا ما لا يقره علم ولا خلق ،وهذا ما يجعلنا نقول – مع الدكتور حسين مؤنس – : إن محمدا الذى يصوره المستشرقون ليس هو محمد الذى نؤمن برسالته ،وإنما هو شخص آخر من صنع خيالهم ،والإسلام الذى يعرضونه فى كتبهم ليس هو الإسلام الذى ندين به ،وإنما هو الإسلام من اختراعهم .

وهكذا يمكن القول بأن الاستشراق – فى دراسته للإسلام – ليس علما بأى مقياس علمى ،وإنما هو عبارة عن أيدلوجية خاصة يراد من خلالها ترويج تصورات معينة عن الإسلام بصرف النظر عما إذا كانت هذه التصورات قائمة على حقائق أو مرتكزة على أوهام وافتراءات ،وهذا يذكرنا بما كان يفعله السوفسطائيون قديما ،فإذا وصفنا المستشرقين فى دراستهم للإسلام – إلا بعض الشواذ منهم – إذا وصفناهم بأنهم السوفسطائيون الجدد ،فنحن بذلك لم نتجن عليهم على الإطلاق .

ولكن الإنصاف يقتضينا أيضا أن نقول : إن الدراسات الاستشراقية كلما كانت بعيدة عن مجالات العقيدة الإسلامية كلما كانت أقرب إلى الموضوعية وأبعد عن التحامل .

3- يعمد المستشرقون إلى تطبيق المقاييس المسيحية على الدين الإسلامى وعلى نبيه فالمسيح – فى نظر المسيحين – هو أساس العقيدة ،ولهذا تنسب المسيحية إليه . وقد طبق المستشرقون ذلك على الإسلام واعتبروا أن محمدا يعنى بالنسبة للمسلمين ما يعنيه المسيح بالنسبة للمسيحية ،ولهذا أطلقوا على الإسلام – اسم المذهب المحمدي Mohammed anismولكن هناك سببا آخر لاستخدام هذا الوصف لدى الكثيرين منهم ،وهو إعطاء الانطباع بأن الإسلام دين بشرى من صنع محمد ،وليس من عند الله ،أما نسبة المسيحية إلى المسيح فلا تعطى هذا الانطباع لديهم لاعتقادهم بأن المسيح ابن الله ،وتتم مقارنة أخرى بين محمد والمسيح يكون المسيح فيها هو المقياس ،فمحمد مزواج وشهوانى فى مقابل المسيح العفيف الذى لم يتزوج ،ومحمد محارب وسياسى أما يسوع فهو مسالم مغلوب ومعذب يدعو إلى محبة الأعداء . وهكذا .

4- الخلط بين الإسلام كدين وتعاليم ثابتة فى القرآن الكريم والسنة الصحيحة ،وبين الوضع المتردى للعالم الإسلام فى عالم اليوم ،فإسلام الكتاب والسنة يعد فى نظر مستشرق معاصر مثل كيسلنج إسلاما ميتا . أما الإسلام الحى الذى يجب الاهتمام به ودراسته فهو ذلك الإسلام المنتشر بين فرق الدراويش فى مختلف الأقطار الإسلامية ،هو تلك الممارسات السائدة فى حياة المسلمين اليوم بصرف النظر عن اقترابها أو ابتعادها من الإسلام الأول .

5- التأكيد على أهمية الفرق المنشقة عن الإسلام كالبابية والبهائية والقاديانية والباكشية وغيرها من فرق قديمة وحديثة ،وتعميق الخلاف بين السنة والشيعة ،ودائما يعتبرون المنشقين أصحاب فكر ثورى تحررى عقلى ،ودائما يقيسون ما يرونه فى العالم الإسلامى على ما لديهم من قوالب مصبوبة جامدة ،وقد أشار المستشرق رودنسون إلى ذلك حين قال : (ولم ير المستشرقون فى الشرق إلا ما كانوا يريدون رؤيته ،فاهتموا كثيرا بالأشياء الصغيرة والغريبة ،ولم يكونوا يريدون أن يتطور الشرق ليصل إلى المرحلة التى وصلتها أوروبا ،ومن ثم كانوا يكرهون النهضة فيه ) .

6- يفتقد المرء الموضوعية فى كتابات معظم المستشرقون عن الدين الإسلامى فى حين أنهم عندما يكتبون عن ديانات وضعية مثل البوذية والهندوكية وغيرها يكونون موضوعيين فى عرضهم لها . فالإسلام فقط من بين كل الديانات التى ظهرت فى الشرق والغرب هو الذى يهاجم ،والمسلمون فقط من بين الشرقيين جميعا هم الذين يوصفون بشتى الأوصاف الدنيئة ،ويتساءل المرء : لماذا ؟

ولعل تفسير ذلك يعود إلى أن الإسلام كان يمثل بالنسبة لأوروبا صدمة مستمرة ،فقد كان الخوف من الإسلام هو القاعدة ،وحتى نهاية القرن السابع عشر كان ((الخطر العثمانى))رابطا عند حدود أوروبا ،ويمثل – فى اعتقادهم – تهديدا مستمرا بالنسبة للمدنية المسيحية كلها ،ولهذا يمكن القول – كما يقول إدوارد سعيد – بأن الاستشراق من الناحية النفسية يعد صورة من صور جنون الاضطهاد ،فالإسلام إذن حتى فى عصر ضعف أتباعه لا يزال يمثل تحديا على كافة المستويات . فهل يعى المسلمون هذه الحقيقة ؟

ومن هنا يمكن فهم ما يقوله موير muir: ((إن سيف محمد والقرآن هما أكثر الأعداء الذين عرفهم العالم حتى الآن عنادا ضد الحضارة والحرية الحقيقية ))،وما يزعمه فون جرونباوم من أن الإسلام ظاهرة فريدة لا مثيل لها فى أى دين آخر أو حضارة أخرى ،فهو دين غير إنسانى وغير قادر على التطور والمعرفة الموضوعية وهو دين غير خلاق وغير علمى واستبدادي .

وهكذا يتضح الحقد الدفين على الإسلام باستمرار بمثل هذه الافتراءات التى ليس لها فى سوق العلم نصيب .

7- يعطى الاستشراق لنفسه فى دراسته موقف ممثل الاتهام والقاضى . فبينما نجد مثلا أن علم التاريخ يحاول أن يفهم فقط ،ولا يضع موضع الشك أسس المجتمع الذى يدرسه ،نجد الاستشراق يعطى لنفسه حق الحكم ،بل وحتى الاتهام والرفض للأسس الإسلامية التى يقوم عليها المجتمع الإسلامى ،وذلك ناتج عن نوايا مسبقة لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون نوايا علمية صافية كما يدعى المستشرق رودى بارت .

8- تحالف فريق من المستشرقين مع الاستعمار الذى أذل العالم الإسلامى حقبة من الزمان فى العصر الحديث ويقول المستشرق المعاصر إشتيفان فيلد بصدد الإشارة إلى تلك الفئة من المستشرقين :

والأقبح من ذلك أنه توجد جماعة يسمون أنفسهم مستشرقين ،سخروا معلوماتهم عن الإسلام وتاريخه فى سبيل مكافحة الإسلام والمسلمين ،وهذا واقع مؤلم لا بد أن يتعرف به المستشرقون المخلصون لرسالتهم بكل صراحة )).

ومن بين الأمثلة العديدة فى هذا الصدد نذكر المستشرق كارل هيزيش بيكر (ت 1933) مؤسسة مجلة الإسلام الألمانية ،فقد قام بدراسات تخدم الأهداف الاستعمارية الألمانية فى أفريقيا . أما برتولد Barthold

(ت 1930) مؤسس مجلة Mir Islamالروسية فقد تم تكليفه عن طريق الحكومة الروسية بالقيام ببحوث تخدم مصالح السيادة الروسية فى آسيا الوسطى . أما عالم الإسلاميات الهولندى الشهير سنوك هورجرونيه (ت 1936) فقد لعب دورا هاما فى تشكيل السياسة الثقافية والاستعمارية فى المناطق الهولندية فى الهند الشرقية ،وشغل مناصب قيادية فى السلطة الاستعمارية الهولندية فى أندونيسيا ،أما المستشرق الفرنسى المعروف ماسنيون فقد كان مستشارا لوزارة المستعمرات الفرنسية فى شؤؤن شمال أفريقيا ،وغير هؤلاء كثيرون وضعوا أنفسهم وعلمهم ودراساتهم فى خدمة الاستعمار ضد الإسلام والمسلمين .

9- الدعوة إلى إصلاح الإسلام :

يزعم المستشرقون أن الإسلام دين جامد ،وأنه لم يعد مسايرا لروح العصر ،ولذلك فهو فى حاجة إلى إصلاح جزرى . وفى ذلك يقول أحد المستشرقين ((إن على الإسلام أما أن يعتمد تغييرا جزريا فيه ،أو أن يتخلى عن مسايرة الحياة)). وهذه دعوة يوجهها إلى المسلمين غريب عنهم بشأن ما ينبغى عليهم أن يفعلوه فى دينهم وهذا الإصلاح المزعوم يمثل محاولة من محاولات تغيير وجهة نظر المسلم عن الإسلام ،وجعل الإسلام أقرب إلى المسيحية بقدر الإمكان .

ولعله من نافلة القول أن نشير هنا إلى أن الإسلام يشتمل على أصول لا يملك أحد أن يغير فيها شيئاً ،هى عقائد الإسلام الأساسية ،ويشتمل على فروع وهى قابلة للتغيير حسب المصلحة الإسلامية ،وأن الإصلاح الذى نفهمه نحن المسلمين هو إصلاح للفكر الإسلامى الذى هو فى حاجة إلى المراجعة المستمرة حتى يتلاءم مع متطلبات العصر وحاجات الأمة ،فى إطار من التعاليم الإسلامية .

ولكن الدعوة إلى إصلاح الإسلام أو تحديثه كما يقال أحيانا ليست بهذا المفهوم ،وإنما هى عبارة عن تفريغ الإسلام من مضمونه ،وعزله كلية عن تنظيم أمور المجتمع ،وجعله مجرد تعاليم خلقية شأنه فى ذلك شأن الديانة المسيحية .

ويتورط البعض من أبناء المسلمين فى حمل لواء الدعوة إلى إصلاح الإسلام ،كما يفهمهاا المستشرقون ،ومن أحداث الكتب ،فى هذا الشأن كتب صدر فى ألمانيا الغربية منذ أكثر من عشرة أعوام بعنوان ((أزمة الإسلام الحديث))،لمؤلف عربى مسلم يعمل أستاذا فى جامعة فرانكفورت بألمانيا ،يدعو فيه بحماس إلى الأخذ بالنموذج الغربى فى الإصلاح المتمثل فى جعل الدين مجرد تعاليم خلقية لا تكاليف إلزامية ،فذلك فى نظره هو الحل الوحيد لأزمة الإسلام ،وبذلك يتم إبعاد الدين كلية عن التدخل فى شؤون الحياة حسب النموذج العلماني الغربي .

وهكذا نوفر نحن أبناء المسلمين على المستشرقين بذلك الجهد فى هذا السبيل ،ونتولى نحن الدعوة إلى تحقيق الأهداف التي عاشوا قرونا طويلة يعملون من أجلها دون جدوى .

4– موقفنا من الاستشراق :

والآن – وبعد أن اتضحت لنا بعض الشيء أبعاد المواقف الاستشراقية بخيرها وشرها – لابد لنا من الحديث عن موقفنا – نحن المسلمون – من الاستشراق ،وهذا يستدعينا أن نتذكر ما كان يفعله أسلافنا فى مثل هذه المواقف .

لقد كانت التيارات الفكرية الأجنبية القديمة – التى كانت تمثل تحديا للإسلام والفكر الإسلامى الأصيل فى عصور الإسلام الزاهرة – كانت حافزا للمسلمين فى تلك الأيام الخوالى للوقوف أمامها بقوة وصلابة ،وقد كانت المواجهة على مستوى التحدى بل تفوقه ،فقد هضم الفكر الإسلامى تلك التيارات هضما دقيقا واستوعبها استيعابا تاما ،ثم كانت له معها وقفته الصلبة وبنفس الأسلحة الفكرية ،فالمواجهة إذا كانت مواجهة فكرية ،وكأن التاريخ الآن يعيد نفسه فالحرب الآن بين الإسلام والتيارات المناؤئة له حرب أفكار والمعركة معركة فكرية ،ولهذه المعركة أدواتها التى يجب التسلح بها ،فالخسران فى هذه المعركة أشد وطأة وأقوى تأثيرا ،وأعظم فتكا من خسارة أى معركة حربية أيا كان حجمها ،لننظر مثلا نموذجا رائد فى تاريخ الفكر الإسلامى … إنه حجة الإسلام الغزالى الذى خاض غمار معارك فكرية عديدة ،وخرج منها جميعا منتصرا،فماذا كان يفعل ؟يقول الغزالى فى كتابه (المنقذ من الضلال) : ((إنه لا يقف على فساد نوع من العلوم من لايقف على منتهى ذلك العلم ،ثم يزيد عليه ويجاوز درجته فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم .. وإذا ذلك يمكن أن يقول ما يدعيه من فساد حقا )).

وقياسا على ما يقوله الإمام الغزالى نجد أن استيعاب الإنتاج الاستشراقى حول الإسلام ،ودراسته دراسة عميقة هو الخطوة الأولى لنقده نقدا صحيحا ،وإثبات ما يتضمنه من تهافت أو زيف .

الأمر الذى يجعل المستشرقين يفكرون ألف مرة قبل أن يكتبوا تحسباً لما قد يواجههم من نقد علمى يعريهم ويثبت زيف ادعاءاتهم ،ويؤكد هذه الحقيقة المستشرق الفرنسى مكسيم رودنسون حين يشير إلى أن هناك طريقا واحدا فقط لنقد المستشرقين ،وهذا الطريق يسير عبر دراسة تفصيلية لمؤلفاتهم ،ويجب أن يرتبط نقدنا لإنتاج المستشرقين بنقد ذاتى حقيقى بصفة مستمرة ،ويجب أن نواجه أنفسنا مواجهة حقيقية بعيوبنا وقصورنا وتقصيرنا ،وأن نكون على وعى حقيقى بالمشكلات التى تواجهنا فى هذا العالم المعاصر .

وقد يتمثل الجانب الإيجابى للاستشراق فى صورة الهجوم علينا وعلى أمجادنا ،وليس فى صورة المدح ،وكلنا يعلم أن هناك عددا لا بأس به من المستشرقين قد مدحوا حضارتنا فى مؤلفاتهم وأثنوا على علمائنا ومجدوا تراثنا وآخرهم المستشرقة الألمانية المعاصرة زيجريد هونكه فى كتابها (شمس الله تسطع على الغرب) ،ولكن جتنب المدح والثناء قد يكون له تأثير تخديرى علينا ،فيجعلنا نغمض عيوننا مستسلمين لتلك الأحلام السعيدة التى تذكرنا بالعز الذى كان ،ونركن إلى ذلك ونعيش على صيت آبائنا وأجدادنا كانوا عظماء ورحم الله جمال الدين الأفغانى الذى كان يقول : –

((إن المسلمين أصبحوا كلما قال لهم الإنسان : كونوا بنى آدم ،أجابوه إن آباءنا كانوا كذا وكذا ،وعاشوا فى خيال ما فعل آباؤهم ،غير مفكرين بأن ما كان عليه آباؤهم من الرفعة لا ينبغى معه ما هم عليه من الخمول والضعة . إن الشرقيين كلما أرادوا الاعتذار عما هم فيه من الخمول الحاضر قالوا : أفلا ترون كيف كان آباؤنا ؟ نعم قد كانوا آباؤكم رجالا .

ولكنكم أنتم أولاء كما كنتم ،فلا يليق بكم أن تتذكروا مفاخر آبائكم إلا أن تفعلوا فعلهم)).

ومن هنا نقول إن الجانب الهجومى التنفيذى الاستفزازى فى إنتاج المستشرقين قد يكون بالنسبة لنا خيرا من جانب المدح تأكيداً للمثل المعروف (رب ضارة نافعة) ،فقد يكون هذا الاستفزاز حافزا لنا لنخرج من حالة الركود الفكرى التى وصلنا إليها لننطلق من جديد ،فننهض نبنى أفكارنا من جديد ونعيد ترتيب صرح ثقافتنا ، وبذلك نقبل التحدى ونستجيب له فننهض من كبوتنا ،ولعل هذا ينطبق على تفسير توينى للحضارة بأنها استجابةللتحدى بمعنى أنها رد معين يواجه به شعب من الشعوب تحديا معينا .

وهذا الرد ليس مجرد استنفاذ الطاقات فى رد الهجوم وترقب الطعنات للرد عليها ،وإنما هو الرد الفعال الذى ينتقل إلى الموقف الأقوى ،فلا يجوز أن نقف دائما موقف المتعدى عليه ،فالمتعدى عليه ،غالبا ما يكون ضعيفا ،ولهذا لابد من أن نغير وضعنا ،وذلك لن يكون إلا بتغيير أفكارنا ،فنحن لسنا متخلفين لقلة أشيائنا ،ولكن تخلفنا لقلة أفكارنا ،وتبدد جهودنا ،ولن تتغير أحوالنا إلا بتغيير ما فى نفوسنا : {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } .

ولابد لنا من أن نعترف بأن الاستشراق يستمد قوته من ضعفنا ،ووجوده نفسه مشروط بعجز العالم الإسلامى من معرفة ذاته. فالاستشراق فى حد ذاته كان دليل وصاية فكرية ،ويوم أن يعى العالم الإسلامى ذاته وينهض من عجزه ويلقى من على كاهله أثقال التخلف الفكرى والحضارى – يومها سيجد الاستشراق نفسه فى أزمة ،وخاصة الاستشراق المشتغل بالإسلام ،ويومها لن يجد الجمهور الذى يخاطبه لا فى أوروبا ولا فى العالم الإسلامى . ولكن نكون أكثر وضوحا وأكثر تحديدا فى تصوير ما ينبغى علينا أن نقوم به لمواجهة الاستشراق نذكر فيما يلى بعض النقاط التى نعتقد أنها أمور أساسية فى هذا المجال :-

1- علينا أن ننظر إلى حركة الاستشراق بكل جدية ،ونأخذ فى حسابنا أن لها آثار عظيمة على قطاعات عريضة من المثقفين فى العالم الإسلامى وفى العالم الغربى على السواء ،ولهذا لابد من التوفر على دراسة عميقة ،وليس يكفى أن نقول إن ما يكتبونه كلام فارغ فهذا الكلام الفارغ مكتوب بشتى اللغات الحية ،ومنتشر انتشارا واسعا على مستوى عالمى ،ومواجهته لابد أن تكون على نفس المستوى العالمى ،وبالكلام المليان على حد تعبير الدكتور حسين مؤنس .

2- بدلاً من أن نظل نقتات فكريا من دائرة المعارف الإسلامية التى قام بإعدادها المستشرقون قبل الحرب العالمية الثانية ،والتى تجاوزها هم ،وانتهوا منذ بضع سنوات من إصدار دائرة معرف إسلامية جديدة : علينا أن نقوم نحن المسلمون بإصدار دائرة معارف إسلامية باللغة العربية واللغات الأوربية الرئيسية تقف على الأقل فى مستوى دائرة المعارف الإسلامية للمستشرقين تخطيطا وتنظيما وتتفوق عليها علميا ،وتنقل وجهة النظر الإسلامية والعربية إلى المسلمين وغير المسلمين على السواء .

فكل فراغ فكرى لدينا لا نشغله بأفكار من عندنا يكون عرضة للاستجابة لأفكار منافية ،وربما معادية لأفكارنا  فلا نلومن عندئذ إلا أنفسنا .

3- علينا أن نوحد جهودنا فى العالم الإسلامى لإقامة مؤسسة إسلامية علمية عالمية ،لا تنتمى بالولاء إلى بلد إسلامى معين ،بل يكون ولاءها الأول والأخير لله وحده ولرسوله صلى الله عليه وسلم ،وتستطيع استقطاب الكفاءات العلمية الإسلامية فى شتى أنحاء العالم ،وتقف على قدم المساواة مع الحركة الاستشراقية ،ويكون لها دوريات ومجلات علمية ذات مستوى رفيع تنشر بحوثها بلغات مختلفة ،وتعمل على استعادة أصالتنا الفكرية واستقلالنا فى ميدان الأفكار الرئيسية لا يمكنه على أية حال أن يصنع المنتجات الضرورية لاستهلاكه ولا المنتجات الضرورية لتصنيعه .

والأمر الذى يؤسف حقا هو أننا على امتداد العالم الإسلامى بسكانه الذين تجاوزوا الألف مليون وبكل مالنا من إمكانات هائلة لا نملك مؤسسة علمية دولية لها نفس الإمكانات العلمية والمادية التى تملكها المؤسسة الاستشراقية ،أليس هذا من الأمور التى تدعو إلى الأسى والحسرة ؟

4- لابد أن تكون لنا مؤسسة تبشيرية عالمية ،وأعنى بذلك جهازا للدعوة الإسلامية فى الخارج ،يدعو الإسلام من ناحية ،ويرعى المسلمين الجدد من ناحية ثانية ،ويحمى المسلمين بالوراثة من ناحية ثالثة ،ولابد من إصدار كتب إسلامية باللغات العالمية الحية تصحح التصورات الخاطئة عن الإسلام فى الأذهان ،وتعرض الإسلام بأسلوب علمى يتناسب مع العقلية المعاصرة ،وتقدم الحلول الإسلامية لمشكلات المسلمين العصرية .

5- لابد من إعداد ترجمة مقبولة لمعانى القرآن باللغات الحية نسد بها الطريق على عشرات الترجمات المنتشرة الآن بشتى اللغات ،والتى قام بإعدادها المستشرقون ،وصدورها فى غالب الأحيان بمقدمات مملوؤة بالطعن على الإسلام ،ولابد أيضا من اختيار مجموعة كافية ومناسبة من الأحاديث النبوية الصحيحة ، وترجماتها أيضا ،لتكون مع ترجمة معانى القرآن فى متناول المسلمين الذين يريدون فهم الإسلام من منابعه الأصلية .

6- العمل على تقنية التراث الإسلامى حتى يكون غذاء فكريا صالحا للمسلم ،فتراثنا فيه الغث وفيه السمين .

ومع أن الإسلام لا يتحمل وزر الخرافات والأوهام والإسرائيليات التي تشتمل عليها بعض كتب التراث لدينا فإن المستشرقون يستخدمون هذا التراث بكل ما فيه ،ويكفى أن نشير فى هذا الصدد إلى مثال واحد وهو قصة الغرانيق المذكورة فى كتبنا ،والتي ركز عليها المستشرقون ،فإذا اتهمناهم بالتجني حق لهم أن يردوا الاتهام ويقولوا : نحن لم نخترع شيئا من عندياتنا ،أليست القصة واردة فى مصادركم المعتمدة ؟

7- محاولة اقتحام مجالات تدريس العلوم العربية والإسلامية فى الخارج عن طريق الاتفاقات الثقافية التى تعقد بين بلدان العالم الإسلامى ودول أوروبا وأمريكا ،وذلك بإرسال أساتذة أكفاء من الأقطار الإسلامية إلى معاقل الاستشراق للتدريس فيها …

وبذلك يمكن بالتدريج تصحيح التصورات الأوروبية عن الإسلام بالعمل العلمى الدؤوب ،ليس عن طريق الشعارات فقط … وأعتقد أن ه

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر