أبحاث

تعليم القيم فريضة غائبة في نظم التعليم

العدد 65- 66

تمهيد :

أحسب أننى لا أغالى كثيراً إن قلت إن كثيراً من مظاهر الاضطراب فى المجتمعات المعاصرة يمكن أن يرد فى التحليل النهائى إلى غياب الالتزام بنظام متسق للقيم التى تدفع الأفراد والجماعات والمجتمعات والدول إلى القيام بأنماط معينة من السلوك . وأزعم دون مبالغة – أيضاً – أن هذا القول يصدق على كل المجتمعات ، متقدمة كانت أو نامية ،غريبة كانت أو شرقية.

فمنذ أكثر من ثلاثين عاماً وصف أحد علماء النفس المرموقين فى الولايات المتحدة الأمريكية العصر الحالى بأنه عصر ((انعدام المعايير))وعصر ((الفراغ))وأنه عصر((بلا جذور))يفتقد فيه الناس الأمل ،ويعوزهم وجود ما يعتقدون فيه ،ويضحون في العمل من أجله (1)Maslow ,1959,VI)

وفى منتصف السبعينات استشراق مؤرخ اقتصادى أمريكى أن العالم مواجه بثلاث كوارث : الإبادة النووية ، والجوع العالمى ،وتخريب للنظام الأيكولوجى .

وأضاف أنه يعتقد أن أعظم ما يكر جيل الكبار فى أمريكا هو عجز المجتمع عن نقل قيمه الأصلية إلى الأجيال الناشئة . (Heibroner,1974,15).

وتشير الإحصائيات الصادرة عن معهد جالوب فى عامي 1975 ،1980 إلى أن 79% ممن أستطلع رأيهم فى شأن غايات التعليم فى أمريكا يرون أن التعليم فى المدارس يجب أن يضطلع بتعليم الطلاب الأخلاق ،وأن ينمى فيهم السلوك الخلقي .

ولذا نجد أن الاهتمام العام لدى المواطنين فى الولايات المتحدة موجه إلى تنمية الشخصية ،وإلى زيادة الوعى بأن كثيراً من مشكلات الجماهير يمكن أن تفهم ،وأن يتم التوجه إلى حلها ،إذا نظر إليها على أنها ناشئة عن عيوب فى تكوين الشخصية الأمريكية (Wilson, 1985,3)   .

وإزاء هذا كان طبيعياً أن نرى قادة الولايات المتحدة – برغم اختلاف توجيهاتهم السياسية – يستحثون المؤسسات التعليمية على أن تدرس للطلاب بصورة مكثفة القيم التقليدية فى المجتمع الأمريكى  (Rayan ,1989,4) .

هذا ،والتحويلات السياسية والاقتصادية الحادثة الآن فى الاتحاد السوفيتى ،وفى دول أوروبا الشرقية تعتبر محاولات للتعديل فى نظام القيم الذى عاشت وله هذه المجتمعات منذ عام 1917، وأنها تمثل دعوة إلى تبنى قيم إنسانية منها : قيمة ((الحرية)) ،وقيمة العدل الاجتماعى))،وقيمة ((تحقيق الذات ))،وقيمة ((المشاركة الإيجابية))فى تسيير الحياة فى المجتمع . ولعل هذا هو ما عناه الزعيم السوفيتى ((جوربا تشوف))فى إجابته عن أسئلة لمحرر مجلة ((تايم))الأمريكية حين قال : أنا أعتقد أن كون المرء شيوعياً يعنى أن يجعل أفكاره وخطط عمله عرضة للاختبار الأخلاقى ،وأن يضع القيم الإنسانية الشاملة فوق كل شيء (الأهرام القاهرية 461990) .

وفى مصر عنى رئيس الجمهورية فى مناسبات عديدة بلفت نظر رؤساء الوزارات والوزراء بتنمية البشر : وزراء التعليم ،والثقافة ،والإعلام ،إلى ضرورة العناية بأن يكون للتعليم وللتثقيف والإعلام دور فى تنمية الشخصية المصرية (راجع خطابات تكليف وزراء الدكتور على لطفى ،والوزارة السابقة والحالية برئاسة الدكتور عاطف صدقى) .

وشدد رئيس الجمهورية فى مناسبتين أخريين (ذكرى المولد النبوى الشريف والاحتفال بيوم الدعاة) على ضرورة أن نحرص على إعادة تشكيل حياتنا وفقاً للتعاليم وللقيم التى يدعو إليها الإسلام فى مختلف جوانب الحياة .

وكان من بين ما قال فى ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم (الصحف اليومية 24101988) ما يلى:

((تذكرنا الذكرى العطرة بأن أول ما قامت عليه رسالة الرسول العظيم صنه الإنسان الصاعد إلى الذروة .. الذى يؤمن بأن الخلق هو الركيزة الأولى لكل رقى وتحضر ))،وأضاف : ((ليس من شك فى أن مكارم الأخلاق : الصدق ،والأمانة ،والعفة ،والسماحة ،والوفاء ،والانتماء ،واحترام حقوق الآخرين ،ومعاونة المحتاجين والمستضعفين ،وشعور الفرد بهموم الجماعة التى ينتمى إليها ،والعمل من أجل خيرها ..مع ما يتطلب ذلك من محبة وتراحم وإيثار وتعاون)).

((ليكن احتفالنا بذكرى ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم دعوة شاملة وعاجلة إلى إعادة النظر فى أحوال الأمة الإسلامية الراهنة ،ومطالبة ملحة للنهوض بهذه الأمة اجتماعياً وفكرياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً وأخلاقياً )).

((وإنني لأرجو أن تبدأ الهيئات والمنظمات والمؤسسات فى الاتصال والحوار والدراسة على الفور ،وذلك لتشخيص الداء ووصف ناجح للدواء )).

وفى ذات المناسبة الكريم عام 1989 أشار الرئيس فى حديثه إلى بعض القيم الأخلاقية السمحة التى يجب أن توضح للمسلمين ،وأن تجسد فى سلوكياتهم :

النقاء، والاستقامة ،والصدق ،والأمانة ،والسماحة ،والرحمة ،والتواضع ،والمساواة ،والأخوة ،والعدالة ، والتكافل .

وأضاف ((أقول – ولا أمل التكرار- أن كل أجهزة التربية والتثقيف والإعلام والتوجيه ،والدعوة والإرشاد مسئولة مسئولية مباشرة عن تحقيق هذا الذى نرجوه وندعو إليه قصداً )).

ولا أعتقد أن دعوة السيد رئيس الجمهورية قد تمت الاستجابة إليها فى أعمال أى الوزارات المعينة بطريق عقلانية مخططة ،يرجى أن تحدث أثراً فى تغيير الواقع الأليم لسلوكيات الناس فى مصر .

وافتقاد القيم فى المجتمع المصرى تعبر عنه وجهة نظر الأديب الكبير نجيب محفوظ فى كثير من كتاباته ، ومن أحداثها وجهة النظر التى كتبها تحت عنوان((دعوة للأنانية)) والتى صور فيها ما يحدث فى المجتمع المصرى من كثرة مظاهر((اللامبالاة))بأنه محاولة للفتك بغريزة ((الأنانية – وأن هذه الغريزة ،التى تتهم بالمغالاة فى حب الذات ،قد تحولت إلى غريزة أخرى تضمر الكراهية والفناء لصاحبها وذويه – ويضيف – فى سخرية لاذعة – لنبدأ بالدعوة للأنانية العاقلة الذكية ، التى تتسم بالفطنة والحكمة ،حتى إذا آتت الأنانية ثمرتها ،انتقلنا إلى مطلب جديد من مطالب الإنسان العاقل ،وأمكننا أن نتخاطب بلغة الدين والإنسانية (الأهرام القاهرية ،31مايو 1990)

وأختتم هذا التمهيد بتأكيد أن ثمة اتجاهاً قوياً فى المستويات العالمية والمحلية للدعوة إلى بذل جهود منظمة لتأصيل أن يعتمد الناس فى أقوالهم وأفعالهم على مجموعة من القيم ،وقد يختلف الناس فى النعوت التى توصف بها هذه القيم ،إلا أنها تبقى فى التحليل النهائى الموجهات الأساسية للسلوك ،ولذا يجب أن تعنى بها المؤسسات التربوية ،وفى القلب منها مؤسسات التعليم النظامى .

وتهدف هذه الدراسة إلى الإجابة عن الأسئلة التالية :

1- ما الإطار الفكرى العام الذى تجرى فى نطاقه معالجة موضوع القيم ؟

2- ما طبيعة القيم أو ماهيتها؟

3- ما القيم التى يجب أن تعلم فى مؤسسات التعليم ؟

4- ما أنواع المواقف أو التدخلات التى يمكن أن تهيوها مؤسسات التعليم بهدف تعليم القيم ؟

5- ما المعالم الرئيسية للطرق التى يجب أن يتبع فى تعليم القيم ؟

وسوف نعالج الموضوع فى فصول مستقلة من هذه الدراسة ،وذلك على الوجه التالى :

أولاً : الإطار العام لمعالجة القيم

يستلزم التصديق لمعالجة القيم أن يكشف الباحث عن الصيغة الكلية paradigmأو الإطار العام ،الذى تتم فى حدوده معالجة موضوع القيم . والصيغة الكلية – هنا – تعنى الافتراضات الأساسية ،والمفاهيم الجامعة ،التى يتبناها الباحث بالنسبة للكون ،والحياة ،وللإنسان ،وللعقل ،وللعلم والمعرفة .

وأبادر فأقول إن الصيغة الكلية التى يوظفها الباحث فى هذه الدراسة ليست الصيغة السائدة فى الفكر الغربى ، وإنما هى صيغة مناهضة ،أو قل مناقضة للصيغة الغربية فى كثير من جوانبها .

والقسمات الفارقة بين الصيغة الغربية ،والصيغة الإسلامية التى تجرى هذه الدراسة فى حدودها يمكن أن نوجز معالمها الرئيسية فيما يلى :

1– الكون والخالق  :

تؤكد الصيغة الإسلامية أن الكون مخلوق لله ،وأن كل ما فيه من أشياء ،وظواهر ،وأحياء ،خاضع لسلطان الله الواحد الأحد . (الله الخالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل ) . [الزمر : 62]

أى أن الإلوهية واحدة ،لا تتعدد ،ولا تقع فيها أية شركة ،وفهم الكون على هذا النحو مناقض لما يقول به أنصار الفلسفة الطبيعية .

وتؤكد الصيغة الإسلامية أن الكون عالمان : عالم الغيب ،وعالم الشهادة ،وهما عالمان يتداخلان ويتفاعلان دائماً ،ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر ،وإن للحياة سنناً تجرى على الأشياء والظواهر والأحياء ،سواء فى خلقها وحركتها ونموها وتحولاتها ،وأن هذه السنن – فى اطرادها وتخلفها – مرهونة بمشيئة الله وقدره . وهذا يعنى أمرين : أولهما أنه لا موضع للصدفة فى حركة الكون ،وثانيهما أنه ليست هناك حتمية طبيعية أو بيولوجية أو اجتماعية (2)كما يقول بعض أنصار الثقافة الغربية وأتباعهم .

2– الإنسان :

الإنسان أكرم مخلوقات الله ،ميزه على سائر الأحياء بقدرته على إدراك المؤثرات الكونية والانفعال بها ،وبما فطره الله عليه من قدرة على التفكير والتأمل ،والتذكر ،والتوقع ،والتخيل ،والاختيار الحر المسئول فى الفكر وفى الفعل ،ومن قدرة على تجاوز محددات السياق ((الزمكانى))واختزان المعارف ،واستخدامها ،وتوليد معارف جديدة ومتجددة .

واستناداً إلى هذا التميز فى البناء العقلى والنفسى للإنسان ،استخلف الله الإنسان فى الكون لإعماره ،وفقاً لعهد الله وميثاقه ،ووصولاً إلى تنمية الحياة وترقيتها ،والانتفاع بمثرات كل ما خلق الله فى الكون . (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً) . [الأحزاب : 72] .

والإنسان بتكوينه الفطرى فيه قابليات ،ترتفع به إلى منزلة الملائكة ،وتنحدر به إلى درك الحيوان

(ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها). [الشمس : 8]،(لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون ) . [التين : 4- 6] ،ويتوقف موقعه بين هذين الطرفين على ما يبذل من جهد فى إعلاء ذاته أو تخفيضها ،وعلى الأواصر التى تجمع أفراد جنسه لتحقيق غايات الوجود البشرى فى الكون . وأفراد الجنس الإنسانى متساوون فى عبوديتهم لله لا تمايز بينهم إلا بتقوى الله (إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)[الحجرات :13]

ويقر الإسلام اختلاف الأمزجة والطبائع بين البشر ،كما يقر تعدد الأنماط والنماذج فى أوضاع الحياة الاجتماعية ،مادامت تجرى فى إطار ثوابت الدين (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم)[هود :11]

وليس فى الإسلام خطيئة موروثة (Human sinning)(وكل إنسان ألزمناه طائرة فى عنقه ) [الإسراء :13] .

فالمسئولية فى الإسلام فردية ،(ولا تزر وازرة وزر أخرى). [الأنعام:164].

والمعصية فردية، مقرونة دائماً بباب مفتوح للتوبة، (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) . [آل عمران:135]

3– العقل والعلم والمعرفة:

للعقل فى الإسلام مكانة عالية ،بوصفه أداة للإيمان ،وأداة للعلم ،وانحياز الإسلام للعقل تشهد به آيات كثيرة فى القرآن الكريم ،جعلت أحد متكلمى المعتزلة ،القاضى عبد الجبار الهمدانى يقول :

إن الأدلة الشرعية أربعة : أولها دلالة العقل ؛لأن به يميز الحسن والقبيح ،ولأن به يعرف أن القرآن الكريم حجة ،وكذلك السنة ،والإجماع (عمارة ،1986، 78) .

وحقيقة الإلوهية ،وهى جوهر الإيمان بالله ،لا سبيل إلى إدراكها إلا بالعقل ؛والقرآن الكريم معجزة عقلية . فالعقل والنقل متلازمان فى التصور الإسلامى ،وليسا متناقضين ؛وهذا هو ما سوغ لعلماء ((الكلام الإسلامى))أن يجعلوا الشك طريقاً للوصول إلى اليقين فى أصول الدين .

وللعلم فى التصور الإسلامى مفهوم شامل ،يتضمن كل معرفة منظمة يصل إليها الفكر الإنسانى من خلال : الإلهام ،والنظر والتأمل ،والملاحظة ،والتجريب .

والعلم فى الإسلام يشمل علوم الدين وعلوم الدنيا ،أو علوم النقل وعلوم العقل ،و((العقل))هو الحاكم الحاسم فى علوم الدنيا ،وهو الدليل الهادى حتى فى أمور الإلوهية والدين . (عمارة ،84 ،17) .

والمعرفة المنظمة ليست قاصرة على معرفة الماهيات Know Whatومعرفة الكيفيات know How؛ كما يقول بعض المفكرين ؛ولكن هناك نوع ثالث ؛هو المعارف التى تعين على تحديد الغايات ،ورسم المسارات ، سواء فى إنتاج المعارف أو فى استخدامها فى النمطين السابقين .

ويطلق علماء الغرب على هذا النوع الثالث من المعارف (Jantaseh ,1975,7) (Know – Where)

ويدخل فى هذا النمط – فى رأيى – المعتقدات الدينية والمعارف النقلية ،والقيم الإنسانية ،والأخلاق .

وليس لاكتساب المعارف طريق واحدة هى الملاحظة والتجريب ؛كما يقول دعاة منهج ((التجريب والتحليل))وإنما تكتسب المعارف بأساليب الجمالية Aestheticوالإلهامية Intuitiveوالعلمية practicalوالروحية (Eisner,1985 NSSE Spiritual.Yearbook 1985)

4– التنوع داخل الوحدة :

وقد يفيد فى تحديد الإطار العام لهذه الدراسة أن أنهيه بتأكيد أن الصيغة الإسلامية تقوم على وحدة الكون ، وتؤمن بالتنوع داخل هذه الوحدة ،والتنوع لا يعنى التناقض أو التصادم على النحو الذى نجده فى كثير من الثنائيات التى أفرزتها ((الفلسفة الطبيعية))و((الوضعية المنطقية))فى الفكر الغربى ؛فالإسلام لا يتبنى التفكير ذا القطبين ؛ ((إما …وإما ))بحيث لا يرى الدنيا مناهضة للدين ،ولا الحياة الآخرة نقيضاً للحياة الدنيا ،ولا الفرد مواجهاً للمجتمع ،ولا العقل مناقضاً للممارسة العملية ،ولا الرجل مناهضاً للمرآة ،ولا الماضى قيداً على الحاضر أو المستقبل ونحو ذلك من الثنائيات المقيتة التى تسيطر على عقول بعض المفكرين . ويقف الإسلام من كل هذه الثنائيات موقفاً وسطاً ،تحقيقاً لقوله تعالى :

 (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس )[البقرة : 143] . والوسطية الإسلامية ليست وسطية حسابية ؛وإنما هو وسطية تتسم بالدينامية ،وسطية تؤمن بالمثال ،وتؤمن فى الوقت نفسه بالواقع ، وتحاول أن تحرك الواقع تجاه المثال ،ضماناَ لحركة الحياة ،ولإعمار الكون . فى حدود الفطرة الإنسانية ، ومن هنا يمكن القول : إن الصيغة الإسلامية صيغة ((مثالية))– فى حدود ما شرع الله – ((واقعية))فى إطار ما هو مهيباً للأفراد والجماعات والمجتمعات . وأداء الأمانة التى استخلف فيها الإنسان يتمثل فى أن يحاول – قدر وسعه – أن يسعى إلى تطوير الواقع ،وإعادة صياغته من منظور مثالى .

ثانياً : ماهية القيم

القيمة فى اللغة واحدة القيم ،وهى ثمن الشئ بالتقويم ،وفى القرآن الكريم :(ذلك الذين القيم)[التوبة :36]

أى المستقيم ،والمقوم لأمور الناس . وفيه أيضاً (يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة)[البينة : 3] أى ذات قيمة رفيعة ؛لأنها جامعة لما ذكر فى كتب الله جميعاً . وكلمة قيمة مشتقة أصلاً من القيام ،ونقيضه القعود ، والقيام فى معانيه هو العزم (وإنه لما قام عبد الله يدعوه)[الجن :19] أى لما عزم .

والتقويم يعنى الترجيح ،وبيان فضل شئ أو معنى على شئ أو معنى آخر ،فالراجح – معنوياً – يعنى الفضل والفضلية ،وهما ضد النقص والنقيصة ،ومن هنا ارتبطت القيم فى جانبها الإيجابى بالفضائل الخليقة ،وفى جانبها السلبى بالنقائص أو الرذائل . هذا هو بعض ما قيل فى التعريف اللغوى لكلمة القيمة .

والتعريفات اللغوية مفيدة ولكنها ليست كافية ؛ولذا يجب أن ننظر فى المعنى الاصطلاحى للكلمة . وفى هذا الصدد يجد المرء أن ((القيم))غدت مبحثاً أصيلاً فى عدد غير قليل من أنظمة المعرفة ؛فهى مبحث مهم فى الدراسات التاريخية – ثقافية أو كانت مادية – وهى مبحث يحتل مكانة بارزة فى الدراسات الدينية ، والأخلاقية ،والنفسية ،والاجتماعية ،والاقتصادية .

واستقصاء معنى ((القيم))فى تلك المجالات المعرفية جميعا عمل يخرج عن نطاق هذه الدراسة . وقد يكفى أن نحدد ماهيتها ،بتحديد أبعادها ،وذكر شروط تحقيقها ،بصورة تميز مفهومها عن غيره من المفاهيم :

● القيمة مفهوم تجريدى ،أى أنها معنى عقلى ،له وجود ذهنى ،ليس الزمان ولا المكان جزءاً فيه ،وما يتحقق من هذا المفهوم فى الزمان والمكان هو أفراد من ماهية القيمة – وفى عبارة أخرى أقول : إن القيمة ليس لها وجود عيانى ،وإنما هى تصور ذهنى .

● ويشير مفهوم القيمة إلى حالة عقلوجدانية ،يمكن تعرفها فى الأفراد والجماعات والمجتمعات ،من خلال مؤشرات هى : المعتقدات والأغراض ،والاتجاهات ،والميول ،والطموحات ،والسلوك العلمى .

(تدفع الحالة العقلوجدانية) صاحبها إلى أن يصطفى بإرادة حرة واعية ،وبصورة متكررة نشاطاً إنسانياً – بتسق فيه الفكر والقول والفعل – يرجحه على ما عداه من أنشطة بديلة متاحة ،فيستغرق فيه ،ويسعد به ، ويحتمل فى غيره دون انتظار لمنفعة ذاتية .

وتعريف القيم على النحو السابق يعنى أن التحقيق الكامل لماهية ((القيمة))يحتم توفرعدد من الشروط أو المحكات ،وذلك على الوجه التالى :

(1) الحرية :

أولى الخصائص التى يجب أن تتوفر لتحقيق القيم هى ((الحرية))؛ولذلك حيث تدل خبرات الأفراد والجماعات والأمم ،على أن الأعمال التى تفرض على البشر من سلطة خارجية عن ذواتهم تزول بمجرد زوال السلطة الفارضة . ويستوى فى هذا الصدد أن تلجأ السلطة إلى الإغراء والترغيب أو أن تعتمد إلى التهديد والترهيب . ولعل هذا هو ما جعل علماء الفقه الإسلامى يتفقون على كراهية صلاة الحاقن وصلاة الجائع . أى أن ممارسة الفضائل تحتاج إلى مناخ يسوده الأمن النفسى والأمن المادى .

ودعوة الإسلام إلى ضرورة توفر الحرية فى الاعتقاد ،ونفى الإكراه فى أمور الدين مائلة فى قوله تعالى :

(لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى )[الأعراف :175] ،(إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل)[الزمر :41]

(وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين تاراً)[الكهف :29] ،(ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)[سورة يونس :آية 99]

وفى التاريخ الإسلامى شواهد كثيرة لتأصيل حرية البشر ،وتجنب الضغط والإكراه ،فسعد بن عباده وهو صاحبى جليل عاش عهد الخليفة الراشد أبى بكر ولم يبايعه على الخلافة ،ومات دون أن يبايع عمر بن الخطاب رضى الله عنه .

(2) تعدد البدائل :

والشرط الثانى لتحقيق القيمة أن يكون اختيار المرء لها اختيارا من بين عدد من البدائل المتاحة ،وقديما قال الشاعر العربى ساخراً :((ومن العفة ألا تجد)). ولكن العفة كل العفة أن تتاح بدائل مختلفة للسلوك ؛فيتجنب المرء البدائل الخبيثة ،ويختار البديل الطيب النافع للناس وللمجتمع . وتعدد البدائل وتفاضلها ،هو الاختيار الحقيقى للطبيعة البشرية ،التى عبر عنها القرآن الكريم بقوله :(ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وخاب من دساها )[الشمس :7/10] فالنفس البشرية ذات قابليات متساوية للخير وللشر، للهدى وللضلال . والذكي هو من يزكى نفسه ،ويرتفع بقيمة الإنسان ،ويختار نجد الهدى والحق ،ويعف عن نجد الضلال والباطل (ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين) [البلد :8-10].

(3) العقلانية :

من خصائص القيم الإنسانية أنها عقلانية ،فإذا كان الشرطان السابقان ينفيان الجبر والقسر والإكراه ،وتحديد السلوك فى مسار واحد تنعدم معه فرصة الاختيار الحر المسؤول ؛فإن هذا الشرط يعنى أن القيمة لا تنشأ عن تقليد أعمى ،ولا تكون إفرازاً مشعوذاً ،غير منضبط بمقياس العقل والمنطق ،وهما مزية الإنسان على ما عداه من الكائنات الحية . وقد قدمت فى مقام الإطار الفكرى الذى تعتمد هذه الدراسة ما يؤكد تشديد الإسلام على إعمال العقل فى أمور الدين وأمور الدنيا على السواء ،وإعمال العقل بالنسبة للقيمة يعنى أن يتدبر الإنسان عواقب البدائل المختلفة للسلوك ،وأن يختار من بينها أكثرها خيراً ،وأعظمها نفعاً للجماعة وللمجتمع

(أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)[محمد :24] وأعيد فى هذا المقام الإشارة إلى تآخى العقل والنقل فى الصيغة الإسلامية للحياة . وفى هذا يقول ابن رشد كلمات جامعة وحاسمة ((إنا معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدى النظر البرهانى إلى مخالفة ما ورد به الشرع ؛فإن الحق لا يضاد الحق ،بل يوافقه ،ويشهد له ؛أعنى أن الحكمة هى صاحبة الشريعة ،والأخت الرضيعة ))(عمارة فى تحقيقه ((فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال 1981، 67)).

(4) التكرار والاستمرار :

ومن الخصائص الأساسية فى القيمة تكرار حدوثها بصفة مرة أو مرات لا يوصف بأنه فاضل فى سلوكه ؛ وإنما تتأكد القيمة وتبرز الفضيلة الخلقية فى سلوك الإنسان إذا تكرر حدوثها بصورة تجعلها عادة مستحكمة ، أو جزءاً من النسيج العقلى والسلوكى لصاحبها ،وعنواناً لهويته .

ومن هنا كان تنديد القرآن بأولئك الذين لا يثبتون على اتباع طريق الهجى والحق ،ويتراوح سلوكهم بين الحق والباطل ،وبين الهدى والضلال (الذين آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً)[النساء :137]

وكان تنديد القرآن بالنموذج البشرى الذى لا يستقيم على فعل الخير ويؤدى منه القليل ،ثم يعقد عن مواصلته أو يكف عنه (أفرأيت الذى تولى وأعطى قليلاً وأكدى)[النجم :33 -34] أى ضعف عن الاستمرار فى العطاء أو كف عنه مع توفر مقوماته .

وفى تأكيد معنى العادة المستحكمة فى القيمة ،ينعى القرآن على آل فرعون عادة الكذب ،وهى نقيض الصدق فى سلوكهم (كذاب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب)

[آل عمران :11].

(5) اتساق العمل مع العقل :

ومن المحكات الأساسية لاختبار القيمة فى السلوك الإنسانى أن تترجم المقولات اللفظية التى تعبر عنها إلى السلوك عملى ،وذلك حيث تدل المشاهدة على أن كثيراً من الناس يتحدثون بأفواههم عن الفضائل الخليقة كالصدق والأمانة ورعاية الصالح العام ،فإذا خاوا إلى أعمالهم أو إلى شياطنهم ،كان سلوكهم مناقضاً لما يتحدثون به ، وتوشك هذه الحالة فى الأفراد وفى الجماعات وفى المجتمعات أن تشكل نوعاً من انفصام الشخصية ،وهو مرض مشهود فى خاصة الناس وعامتهم ،ويمثل ضرباً من النفاق والتناقض اللذين نهى عنهما القرآن الكريم ،وجعلهما صفة تهدد الإيمان (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)[الصف :2 ،3]واقتران الإيمان القبلى بالعمل الفعلى دعوة مؤكدة فى كثير من آيات القرآن الكريم (وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا )

[الكهف :88]وقد توعد القرآن الكريم الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا بعذاب أليم (ولا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم )

[آل عمران :188] .

(6) الاعتزاز بالقيمة :

ومن المحكات الأساسية التى تميز القيمة ،أن يعتز بها أصحابها ،وأن يسعدوا بها ،وأن يسعوا إلى إشاعتها بالعمل الدائب ،وبالحكمة والموعظة الحسنة .وقد يصل هذا الاعتزاز إلى النضال فى سبيل تأكيد القيمة ، وتثبيتها فى واقع الحياة ،وتحمل الأذى فى سبيلها . تلك كانت سنة الله فى نشر دعوات الإصلاح ممثلة فى الأديان السماوية . ومن أمارات عدم الإيمان الارتياب والتردد، والقعود عن إشاعة الفضائل

(إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله أولئك هم الصادقون )[الحجرات :15] .

(7) الإيثار :

ولعل آخر شرط أو خاصة تميز القيمة عن مجرد العمل المشروع هو إيثار الآخرين ،فسعى الرجل على رزقه ورزق عياله عمل مطلوب ومشروع ،ولكنه لا يشكل قيمة ؛لأن مراد به منفعة الذات ،ورعاية الأهل الأقربين ومجرد أداء العمل واستيفاء متطلباته الشكلية أمر مطلوب ولكنه يختلف عن القيمة وهى إتقان العمل ،وإيثار الآخرين على النفس مع حاجتها إلى ما يبذله صاحبها يمثل قيمة رفيعة ،وكانت هذه القيمة دعامة من دعامات بناء أمة الإسلام ؛حيث تخطى الأنصار فى المدينة المنورة ما هو غريزى فى البشر ،وآثروا المهاجرين على أنفسهم (والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون فى صدورهم حاجة مما أوتوا ويوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون )[الحشر :9]

ومعن هذا بالنسبة للقيمة ،هو أن يكون ما يبذله الإنسان من جهد ،أو مال ،أو عاطفة ليس مراد به منفعة ذاتية

أو مراعاة الناس (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذين ينفق ماله رثاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر)[البقرة :246]

فالإنفاق يجب أن يراد به وجه الله ،ومنفعة الجماعة ،ولا يجوز أن تكون النية فيه هى إرضاء حاكم أو لفتاً لأنظار الناس (وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله )[البقرة :273] .

ثالثاً : القيم التى يجب أن تعلم فى المدارس

حديثى عن القيم التى ينبغى أن تنهض المدارس بتعليمها يستند على عدد من المسلمات أوجزها فيما يلى :

(1) مصادر القيم :

إن مصادر القيم فى حياة البشر – فى ضوء الإطار الفكرى العام الذى قدمته – مصادر عديدة يتضافر بعضها مع بعض ،ولا يناقض بعضها بعضاً . وأول هذه المصادر هو الدين ،والإسلام خاتم الأديان ،وذلك حيث يحدد الوحى الإلهى الحلال والحرام فى صورة حاسمة ،ويحدد السلوك بوصفه طاعة لأوامر الله ؛وتوجيهاً للإنسان الذى استحلفه الله فى إعمار هذا الكون . وفى هذا الصدد يلجأ إلى القرآن الكريم ،وإلى السنة النبوية قطعية الثبوت قطعية الدلالة . وثانى هذه المصادر هو العقل الجمعي (يلاحظ أن معظم الآيات القرآنية التى وردت فيها مادة : يعقل جاءت بصيغة الجمع مثبتة ((يعقلون))و ((تعقلون))ومستفهم عنها على سبيل الإنكار

 ((أفلا تعقلون))،وتلك قرينة على أن يكون الاعتماد فى التدليل العقلى على عقل الجماعة وليس عقل الفرد . وثالث هذه المصادر هو الخبرة التاريخية التى مرت بها الأمم ،وفى القرآن الكريم تفصيلات كثيرة عن قصص الأمم السابقة . وفى الدراسات التاريخية والاجتماعية للأمم والشعوب زاد يمكن أن يستفاد منه فى تحديد القيم . ورابع هذه المصادر هو التراث العربى الإسلامى .

ونحتاج فى هذا المصدر إلى نظرة نقدية ؛تسوغ لنا أن نختار منه القيم الرفيعة التى تتجلى فى مجريات الأمور فى عصور الازدهارالعرب الإسلامى ،وكذلك القيم التى يمثلها سلوك الشخصيات التاريخية التى أسهمت بالفكر وبالعمل فى إرساء معالم الحضارة العربية الإسلامية بوصفها حضارة إنسانية . وخامس هذه المصادر هو المجتمع الذى يراد تعليم القيم لأبنائه ،ويستلزم اللجوء إلى المجتمع – فيما رأى – تشخيص الواقع الراهن للمجتمع ،وتحديد النواقص والثغرات التى تتجلى فى سلوك خاصة الناس وعامتهم ،وتقارن نتائج فحص هذا الواقع وإمكاناته بالوضع المثالى ،أى بما ينبغى أن يكون عليه هذا الوضع ،وذلك على النحو الذى يتم استخلاصه من البحث فى المصادر الأربعة الأولى .

(2) وحدة القيم وتنوعها :

الحديث عن وحدة القيم وتنوعها مبحث مهم فى الدراسات الفلسفية . وسوف أفترض – لأغراض هذه الدراسة أن القيمة الجامعة يمكن أن يعبر عنها بأنها قيمة ((تحقيق الإنسان))لذاته وإنجاز مسؤولياته ،بوصفه مستخلفاً عن الله سبحانه وتعالى فى تعمير هذا الكون ،وتندرج تحت هذه القيمة الكلية قيم دونها فى المستوى النظرى والعلمى مثل : الحرية ،والمساواة ،والعدل ونحو ذلك . ثم تندرج تحت قيمة الحرية قيم أخرى تختلف تبعاً لاختلاف مجال النشاط الإنسانى الذى يتم فيه التعبير عن الجانب الإيجابى أو السلبى فى القيم مثل : حرية العبادة ،حرية التعبير ،والحرية السياسية ،وتحت قيمة المساواة أو تكافؤ الفرص تندرج قيم مثل :تكافؤ فرص التعليم ،وتكافؤ فرص التعبير ،وتكافؤ فرص المشاركة فى اتخاذ القرار وهكذا .

وفى مثل هذا السياق نجد أننا بصدد مفهومين يتصلان بالقيم ،أولهما مفهوم ((التسلسل))،وأعنى به الترتيب الهرمى لنظام القيم ،الذى يحدد درجاتها فى تسلسل رأسى تكون كل قيمة فيه أعلى من القيمة التى تسبقها فى نظام تصاعدى أو تنازلى ،وثانيهما مفهوم تصنيف القيم ،هو العملية التى يتم بها توزيع القيم فى مجالات أفقية كأن يقال : قيم اجتماعية ،وقيم اقتصادية ،وقيم أخلاقية ،وقيم دينية ،وقيم رياضية .

وسوف أفترض أن عملية ترتيب القيم فى نظام  تعاقبى ،وعملية تصنيفها فى فئات أورمز ،يمكن أن يدعى لكل منها صفتا الجمع والمنع ،عملية لا جدوى منها لتحقيق أغراض الدراسة الحالية .

(3) مسؤولية تعليم القيم :

أفترض – لأغراض هذه الدراسة – أن مسؤولية تعليم القيم مهمة يجب أن تعنى بها كافة القوى التربوية فى المجتمع : الأسرة ،والمدرسة ،ومؤسسات المجتمع المختلفة :

السياسية ،والإدارية ،والإعلامية . ومن الضرورى أن تنسق كل هذه القوى التربوية فى أهدافها وأنشطتها بحيث لا تناقض مؤسسات المجتمع مثلاً ما تقوم به المدرسة أو تناهضه .

وفى ضوء هذه المسلمات أنتقل إلى المهمة الأصلية لهذا القسم من الدراسة ،وهى تحديد القيم التى يجب أن تُعلٌم فى مؤسسات التعليم النظامى وتشمل المدارس والجامعات . وفى هذا الصدد أقدم الاقتراحات التالية :

الاقتراح الأول: حقوق الإنسان فى الإسلام :

فى 21 من ذى القعدة 1401 هجرى (19 ستبمبر 1981) أصدر المجلس الإسلامى الدولى للعالم وثيقة جعل عنوانها ((البيان العالمى عن حقوق الإنسان فى الإسلام)).

وهى وثيقة تعون فى إعدادها نخبة صالحة من كبار مفكرى العالم الإسلامى .

واستخدام فى الوثيقة مصطلح((حقوق))دون ذكر للواجبات استناداً إلى أن ((حق))كل فرد هو ((واجب))على فرد آخر ،أو جماعة أو هيئة أخرى .

وقد صدرت الوثيقة بمدخل يبين الأصول العامة والمبادئ الإسلامية التى صيغت الحقوق فى ضوئها ،كما يتضمن هذا المدخل تصوراً شاملاً لكل من الفرد والمجتمع فى نظر الإسلام .

وسوف أورد فيما يلى قائمة بهذه الحقوق ،ولن أحدث فى هذه القائمة أى تعديل سوى أنى سوف أستبدل كلمة قيمة بكلمة ((حق)).

(1) قيمة الحياة : بمعنى أن حياة الإنسان مقدسة لا يجوز الاعتداء عليها أو سلبها إلا بسلطان الشريعة ،وأن للإنسان كياناً مادياً ومعنوياً تحميه الشريعة فى حياته وبعد مماته .

(2) قيمة الحرية :بمعنى أن الحرية صفة طبيعية يولد بها الإنسان ،ويجب ألا يعتدى عليها ،ويجب توفير ضمانات كافية لحماية حرية الأفراد والشعوب .

(3) قيمة المساواة :بمعنى أن الناس سواسية لا تمايز بينهم ،وأن تفاضلهم يجب أن يكون وفقاً لأعمالهم ، وتتجلى المساواة فى حق الانتفاع بالموارد فى المجتمع دون تفرقة بين من يبذلون جهداً واحداً .

(4) قيمة العدالة :بمعنى حق كل فرد فى أن يتحاكم إلى الشريعة ،وحقه فى أن يدفع الظلم عن نفسه ،وواجبه فى دفع الظلم عن غيره . هذا بالإضافة إلى حق الفرد وواجبه فى الدفاع عن حقوق الآخرين وحق الجماعة .

(5) قيمة المحاكمة العادلة :بمعنى أن البراء هو الأصل ،ولا تجريم إلا بنص شرعى ،ولا تجريم إلا بأدلة قطعية تقررها هيئة طبيعية قضائية ،وألا يؤخذ إنسان بجريرة غيره ،ولو كان من ذويه الأقربين .

(6) قيمة حماية الفرد من تعسف السلطة أيا كانت .

(7) قيمة الحياةمن التعذيب .

(8) قيمة الحياةعرض الفرد وسمعته .

(9) قيمة كفالةحق اللجوء للمضطهدين والمظلومين .

(10) قيمة حمايةحقوق الأقليات على الوجه الذى أصلته شريعة الإسلام .

(11) قيمة المشاركةفى الحياة العامة :

بمعنى حق الفرد فى المعرفة بما يجرى فى مجتمعه ،وحقه فى تولى المناصب والوظائف وحقه فى أن يختار حاكمه بإرادة حرة .

(12) قيمة حرية التفكير والاعتقاد والتعبير: بمعنى حق كل فرد فى التعبير عن فكره ومعتقده بحرية كاملة وحقه فى التعبير عن رفض الظلم ،وحقه فى نشر المعلومات مادامت لا تمثل خطراً على أمن المجتمع والدولة ،وواجبه فى احترام مشاعر مخالفيه فى الدين .

(13) قيمة الحرية الدينية : بمعنى حرية الاعتقاد وحرية العبادة وفقاً لمعتقد الفرد .

(14) قيمة الدعوة والبلاغ :بمعنى حق إنشاء المؤسسات اللازمة للدعوة إلى الحق ،وحق الفرد وواجبه فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .

(15) القيم الاقتصادية:بمعنى الانتفاع بثروات الطبيعة وواجب عدم إفسادها.

وقيمة العمل والإنتاج ،وقيمة الملكية الخاصة ،وحق الفقراء فى مال الأغنياء ،وتوظيف مصادر الثروة ووسائل الإنتاج لمصلحة الأمة ،وترشيد النشاط الاقتصادى عن طريق منع الغش والضرر والجهالة ، والاستغلال ،والتغابن ،والاحتكار ،والربا ،ورعاية مصلحة الأمة والتزام قيم الإسلام بعامة .

(16) قيمة حماية الملكية:وعدم انتزاعها إلا بتعويض مناسب .

(17)قيمة العمل وإتقانه.

(18) قيمة استيفاء الفردلكفايته من مقومات الحياة مادية كانت هذه المقومات أو صحية أو عقلية.

(19) قيمة بناء الأسرة : بمعنى الحقوق والواجبات فى بناء الأسرة وحقوق الأفراد وواجباتهم داخلها .

(20) قيمة الزوجية :بمعنى أن حق الزوجة فى الإسكان وفى الإنفاق عليها ،وحق الزوجية فى إنهاء عقد الزواج ودياً ،وحقها فى طلب التطليق أمام القاضى ،وحقها فى الميراث ،وواجب كل من الزوجين فى حفظ غيبة صاحبه .

(21) قيمة التربية :بمعنى حق الأولاد على الآباء فى التعليم ،وحق جميع المواطنين فى التعليم فى إطار سياسة تتكافأ فيها الفرص .

(22) قيمة حماية :خصوصيات الإنسان بمعنى تحريم التسور والتجسس ،وتتبع عورات الناس .

(23) قيمة إتاحة حرية الارتحال والإقامة : بمعنى حرية الحركة والتنقل وتجريم الإبعاد عن الوطن ،واعتبار أن الإسلام يمثل داراً واحدة .

هذه قائمة من القيم يمكن أن تكون موضوعات للتعليم فى المؤسسات التعليمية ،وتحتاج هذه القائمة إلى توزيعها على مراحل التعليم المختلفة ،ملائمة ما يقدم منها فى كل مرحلة لمستوى نضج المتعلمين ،وللمطالب الملحة فى كل مجتمع  من رصيد القيم التى تضمنها هذا البيان .

الاقتراح الثانى :جعل النصوص القرآنية والأحاديث النبوية محوراً لتعليم القيم .

قدم الدكتور عادل العوا (1987) تصوراً عن ((قضايا القيم))فى دراسة أعدادها لكتاب : الفكر التربوى العربى الإسلامى : الأصول والمبادئ ذكر فيه أن النظرة الإنسانية فى الإسلام قائمة على المساواة بين الناس ،وأنه لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى ،وألمح إلى أن بعض القيم الإسلامية يسهل اشتقاقه من آيات القرآن الكريم . وذكر مثلاً لذلك الآيات من (13-37) فى سورة الإسراء ابتداء من قوله تعالى :

(وكل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه)إلى قوله تعالى 🙁إنك لن تحرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً) وحين يتأمل المرء هذه الآيات الكريمة يجد أنها تتضمن مجموعة القيم التالية :

((قيمة المسؤلية الفردية ،وقيمة الاعتقاد فى الحساب ،وقيمة حرية الاعتقاد ،وقيمة طاعة الوالدين ،وقيمة صلة ذوى القربى والمساكين ،وقيمة الحياة ونقيضها قتل النفس ،وقيمة المحافظة على مال اليتيم ،وقيمة الوفاء بالعهد ،وقيمة الأمانة ،وقيمة عدم اتباع الهوى ،وقيمة مجانبة التكبر والعدوان (العوا ،1987 ،229- 230) ثم أضاف قيماً أخرى تشتق من القرآن الكريم ومن السنة المشرفة ،وهى قيم : عالمية الإسلام ،والحرية ،والسلام والتعاون على البر والتقوى والتكافل ، الصدق ،والاستقامة ،والعفو ،ونصرة المظلوم ،واتقاء شح النفس .

وأعتقد أن هذا التصور هو الذى يجرى عليه العمل الآن فى تعليم مادة التربية الدينية ،وأن معلمينا غير مؤهلين لاستنباط القيم من الآيات على النحو الذى قدمناه هنا . هذا بالإضافة إلى أن جعل النص القرآنى ،أو نص الحديث النبوى هو البداية يغرى بعض المعلمين بالتركيز على المعانى اللغوية والتفسيرات اللفظية دون الاهتمام بتعليم القيم على نحو يمكن أن يعمقها فى نفوس المتعلمين بطريقة حوارية على الوجه الذى سوف أعرضه فى مكان تال بهذه الدراسة .

الاقتراح الثالث : تصور أهل التصوف عنى أبو حامد الغزالى باستخلاص القيم الإسلامية من نصوص القرآن الكريم وحده ،وخصص فى كتابه((جواهر القرآن))قسماً مستقلاً سماه كتاب((الأربعين فى أصول الدين))وفيه عرض لما سماه الأعمال الباطنة ،وقسمها إلى أخلاق مذمومة يجب تزكية النفس منها وهى عشرة : شره الطعام ،وشره الكلام ،والغضب ،والحسد ،وحب المال ،وحب الجاه ،وحب الدنيا ،والكبر ،والعجب ،والرياء . وإلى أخلاق محمودة وهى – أيضاً – عشرة : التوبة ،والخوف ،والرجاء ،والزهد ،والصبر ،والشكر ، والإخلاص ،والصدق ،لتوكل ،والمحبة ،والرضا بقضاء الله .

ويرى صاحب كتاب((الدر المنثور فى تفسير أسماء الله الحسنى بالمأثور))أن الله سبحانه وتعالى قد وضع الجنس البشرى سبعة معان ،تمثل كل واحدة منها قيمة من القيم العليا ،وهى : الحياة ،والعلم ،والقدرة ، والإرادة ، والسمع ،والبصر ،والكلام ،كما وضع سبحانه فى الصورة الإنسانية أضداد هذه القيم وهى على الترتيب : الموت ،والجهل ،والعجز ،والإباء ،والصمم ،والعمى ،والبكم .

(عبد العزيز يحيى ،1348 هجرى ،24524) .

وتمثل هذه المحاولات الصوفية محاولات مبكرة جداً فيما يسميه علماء المناهج مراكز تنظيم المنهج organizaticn centers،وتقديم هذا التصور بالإضافة إلى الاقتراحين السابقين أردت به أن أدلل على أن هناك محتويات كثيرة يمكن أن تعلم فى إطار ما تتحدث عنه هذه الدراسة وهو ((تعليم القيم)).

والواقع هو أن الفكر التربوى فى المستوى العالمى وفى المستوى المحلى قد أهمل أمر تعليم القيم إهمالاً كبيراً ووجهت العناية فى التعليم إلى الجانب المعرفى الوسيلى ،وأعنى بذلك المعارف التى يوظفها المتعلمون فى كسب الرزق ،وإلى جانب مهارات الأداء المختلفة ،أما الجانب الوجدانى ،وتقع القيم فى التصميم منه ،فقد أهمل ؛إلى درجة يظن معها أن ((تعليم القيم))يمكن أن يكون ناتجاً ثانوياً عارضاً لتعليم المواد الدراسية ،أو أمن يترك أمره لمؤسسات أخرى هى : الأسرة ودور العبادة (المساجد والكنائس) ،وقد ذلت مشاهدات عامة الناس وخاصتهم على أن الاعتماد على الأسرة ودور العبادة وحدها فى تعليم القيم عمل قليل الجدوى .

وأنتقل الآن إلى الإجابة عن السؤال التالى من أسئلة الدراسة وهو :ما المواقف المدرسية التى يمكن أن تتيحها المدرسة لتعليم القيم ؟

رابعاً : المواقف المدرسية التى

يمكن أن تستغل فى تعليم القيم

من الحقائق الثابتة الآن فى مجال التعليم أن مناهج التعليم تنقسم إلى منهجين : أحدهما صريح معلن ،والثانى ضمنى مستتر . والمنهج الأول هو الصورة الرسمية التى تقررها السلطات المسؤولة فى هيئة مواد دراسية ذات أهداف معينة ومحتويات تغطى جوانب المعرفة البشرية المتاحة ؛اللغات ،والإنسانيات والعلوم الطبيعية والحيوية والرياضيات وهكذا . أما المنهج الثانى فيعنى المعايير والقيم والمعتقدات غير المعلنة ،والتى تستند إليها القواعد والإجراءات التى تشكل الأعمال النمطية ،والعلاقات الاجتماعية ،داخل المدرسة ،وفى الفصول الدراسية .

واستناداً إلى فهم المنهج على هذا الوجه فإن المواقف التى يمكن أن يتم فيها تعليم القيم داخل المدرسة يمكن تصورها موزعة على الوجه التالى :

(1) التعليم العابر غير المقصود لذاته :

ويتكفل بهذا النوع من التعليم – بصورة واعية أو غير واعية – التنظيمات الإدارية والعلاقات الاجتماعية داخل المؤسسة التعليمية الدراسية . وسوف أكتفى فى هذا الجانب بذكر أمثلة لهذه المواقف وللقيم التى يشتربها المتعلمون منها :

● تركيز السلطة داخل المدرسة فى فرد واحد أو فى عدد محدود من الأفراد يترك فى نفوس التلاميذ شعوراً بأن قيمة ((القيادة))محكومة بالتعيين ،دون نظر إلى المعرفة والخبرة ،ولاستفادة من جميع العقول المتاحة فى بيئة المدرسة .

● نمط العلاقات السائدة بين إدارة المدرسة والمعلمين يمكن أن يكون استبدادياً أو ديمقراطياً أو متسيباً ،ويتعلم التلاميذ قيمة كل نمط من هذه الأنماط من خلال متاعتهم للنشاط اليومى فى المدرسة .

● يختلف نوع التفاعل الذى يحدث داخل الموقف التعليمى ذاته . وقد دلت نتائج عدد من البحوث أن التلاميذ يتعلمون من سلوك معلميهم داخل الفصل الدراسى أو خارجه القيم التالية :

– الود والتعاطف أو ما يقابلهما من تباعد عن الناس وانطواء على الذات .,

– فهم المسؤوليات وإنجاز متطلباتها بناء على تخطيط سابق ،أو ما يقابل ذلك من – قيمة احترام الآخر وتشجيعه ،فى مقابل إهانته والتقليل من شأن إنجازاته . (rayans ,1964,67-1027) .

هذا بالإضافة إلى أن المدارس ومؤسسات التعليم عامة تنظم أنشطة اجتماعية ورياضية وكشفية ورحلات علمية وترفيهية ،ومن خلال تنظيم هذه الأنشطة والممارسات التى تتم فى كل منها يمكن أن يتعلم التلاميذ قيماً كثيرة منها : التعاون ،والتكافل ،والضبط الذاتى ،وإنجاز الواجب فى حينه ،وإتقان العمل ،ورعاية صالح الجماعة ،وإيثار الآخرين ،ونحو ذلك .

ويلاحظ على هذا النوع من التعليم أنه عابر ،وغير مقصود لذاته ؛وإنما يتك بصفة عارضة ،دون أن يتأمل المتعلمون المواقف البديلة المتعددة التى يمكن أن تتاح فى كل موقف ،وما ترتب على كل منها . وهذا النوع من التعليم مرغوب فيه ومطلوب ،ولكنه غير كاف ،ونتائج هذا التعليم العابر – فى مثل المواقف التى أشرنا إليها – تستوى فيها مؤسسات التعليم وفى مؤسسات الرعاية الاجتماعية ،ورعاية الأحداث ،والسجون .

(2) تعليم القيم من خلال المواد الدراسية المختلفة :

يتيح تعليم المواد الدراسية المختلفة فرصاً شتى لتعليم القيم ،ففى تعليم المواد الطبيعية والبيولوجية تتاح مواقف كثيرة يمكن أن يتعلم منه التلاميذ قيمة ((العلم))فى اكتشاف أسرار الكون وقيمة ((المحافظة على البيئة))وقيم ((ترشيد استخدام الموارد)).

وفى الدراسات التاريخية تتاح مجالات كثيرة لتعليم قيم ((العدل))فى مقابل الظلم ،و((الديمقراطية))فى مقابل الاستبداد ،وقيمة الهجرة فى طلب الرزق ،وقيمة ((السلام))فى مقابل الحرب ونحو ذلك .

وفى الدراسات الأدبية : الشعر والنثر (القصة والمسرحية والرواية ونحوها) يمكن أن يتوقف الطلاب والمعلمون أمام النماذج البشرية التى تعرض فى هذه المواد ،والقيام بتحليل مقولاتها ،واتجاهاتها وأفعالها ، وتحديد القيم البارزة التى تتصف بها كل شخصية كالعدل ،والصدق ،والأمانة ،وإيثار الآخر ،ورعاية الصالح العام ونحو ذلك .

وفى مقررات التربية الدينية تتاح فرص عديدة لاستخلاص القيم من النصوص القرآنية ،والأحاديث النبوية ، وتتيح سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ،وتاريخ الخلفاء الراشدين ،وتاريخ الشخصيات القيادية فى الحضارة الإسلامية مناسبات مختلفة لتعليم القيم .

وتعليم القيم فى السياقات المختلفة للمواد الدراسية من شأنه أن يترك للفرص التى تعرض فى كل مادة ، ويصعب فى هذه السياقات إعداد تخطيط سابق لتعليم القيم .

هذا بالإضافة إلى المختلفة يتوقف على فهم المعلم للأغراض المتوخاة من تعليم مادته ،وأكثر المعلمين – عادة – لايرون فى تعليم المواد إلا تحقيق أغراض معرفية صرفة .

وتقديم مقررات التربية الدينية فى المدارس عليه مآخذ كثيرة : منها الاعتماد – فى المقام الأول – على الحفظ والتلقين ،وإعطاء أولوية للتحليلات اللغوية والأدبية فى النصوص ،وشبه الانقطاع بين ما يعلم فى التربية الدينية وما تزخر به وقائع الحياة العملية فى المجتمع الذى يعيش فيه الطلاب .

(3) تعليم القيم بصورة مباشرة مقصودة :

أتى على التعليم فى مصر حين من الدهر كانت تتاح فيه للمعلمين والطلاب فى بعض مدارس التعليم

(تحديداً : مدرسة الأورمان النموذجية ، ومدرسة النقراشى النموذجية) فرصة للتنور ،والتدرب على إصدار الأحكام ؛حيث كان يحدد فى الجدول المدرسي الأسبوعي ساعتان للمناقشة والحوار بين المعلمين والطلاب تحت اسم ((التعليق على الأحداث الجارية))وفى هذا الصدد كان المعلمون والمتعلمون يتعاونون فى جمع المعلومات عن الأحداث الجارية عالمياً ومحلياً ،من الصحف والمجلات والإذاعات ،وكانت هذه الأحداث تتراوح بين الصراعات والنزاعات الدولية مما هو مناسب لمستوى نضج الطلاب ؛أذكر منها مثلاً محاولة مصدق تأميم بترول إيران والأحداث الداخلية مثل : اغتيال أمين عثمان ،واغتيال النقراشى ،واغتيال حسن البنا ،وتزوير الحكومة للانتخابات ،وما يجرى فى مجلس النواب المصرى آنذاك ،وحوادث القتل والسرقة ومظاهر السلوك المنحرف الأخرى التى كانت تنشر فى المصحف ،وكانت المناقشات فى ((التعليق على الحوادث الجارية))تجرى بين مجموعة من الطلاب وفريق من المعلمين

(مدرس مواد اجتماعية ،ومدرس لغة عربية ،ومدرس علوم) وكان الهدف من هذه المناقشات أن يكتشف الطلاب من خلال حوار صريح بينهم وبين معلميهم بعض القيم الخلقية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التى توجه سلوك خاصة الناس وعامتهم (3).

أعتقد أن التنظيم الذى أشرت إليه كان يمثل محاولة لتعليم القيم الاجتماعية بصورة مباشرة ،تتسم بالعقلانية ، وتهدف إلى تدريب الطلاب على التحليل ،وإصدار الأحكام الخلقية ،وتحفزهم على إعمال مقتضيات القيم فى سلوكهم .

ومن أمثلة التعليم المباشر للقيم مشروع تم تنفيذه بمعرفة إدارة التعليم فى ولاية كاليفورنيا فى الولايات المتحدة الأمريكية . (california state department of education ,1988)

كان الهدف منه معاونة الطلاب على فهم الآخرين ،وتصعيد القيم الاجتماعية فى وجداناتهم وسلوكهم . واتخذت مادة الأدب والقراءة محوراً مع التركيز على القيم وفهم الآخرين من خلال النماذج البشرية التى تعرض فى الأدب وفى برنامج تعليم اللغة فى المرحلة الابتدائية .

وقد استخدمت فى تقديم هذا البرنامج خطة شاملة ضمت إجراء مقابلات مع الطلاب ،وتطبيق استبيانات عليهم للكشف عن الاتجاهات والقيم والمهارات الاجتماعية ،وملاحظة سلوك الطلاب فى جامعات صغيرة للعمل ، وفى الفصل الدراسى  ،وفى الملاعب .

وقد دلت ملاحظة سلوك الطلاب الذين انتظموا فى ذلك البرنامج – مقارنة بسلوك آخرين مناظرين لهم فى كل المتغيرات ولم ينتظموا فى البرنامج – على أنهم قد أصبحوا أكثر استغراقاً فى معاونة بعضهم لبعض ،وأكثر تعاوناً فى إنجاز الأعمال الجمعية ،وأنهم يتسمون بالتعبير المتكرر عن حب بعضهم بعضاً ،وعناية بعضهم بعضاً ،وعناية بعضهم ببعض ،ودعم بعضهم بعضاً ،وتبادل التشجيع فيما بينهم .(nucci .1989,82.83)

ومن أبرز ما تؤكده الأدبيات المنشورة عن هذا البرنامج ما يلى :

● عناية المعلمين بتعليم التلميذ كيف يكون عادلاً ومهتماً ومسؤولاً فى الفصل الدراسى .

● إتاحة فرصة كافية للتلاميذ كى يفكروا ويناقشوا معنى القيم الاجتماعية الأساسية .

● إتاحة فرص للممارسة ما تدعو إليه القيم فى الفصل بخاصة ،وفى المدرسة بعامة ،وفى المنزل والمجتمع بوجه أعم .

● تأكيد أن مزيجاً من التعليم المباشر ،والممارسة الفعلية للسلوك ،وتأمل عواقبه يمثل طريقة فعالة فى تعلم القيم .

● تأكيد أن تعليم القيم يحتاج إلى مناخ آمن ودود داخل المدرسة وفى الفصل الدراسى وداخل الأسرة .

● وأخلص من عرض خبرتى الشخصية القديمة فيما يعرف باسم((التعليق على الأحداث الجارية))ومما عرضته بإيجاز – عن مشروع ولاية كاليفورنيا إلى تأكيد أن القيم يمكن تعليمها بطريقة مباشرة ومقصودة . والسؤال الذى يتبادر إلى الذهن هو كيف يكون ذلك .

وهذا ما يتكفل بإيضاحه القسم التالى والأخير فى هذه الدراسة .

خامساً : طرق تعليم القيم

أنتقل الآن إلى الحديث عن كيفية تعلم القيم ؟ وفى هذا الصدد يمكن أن أقول :

إن القيم يمكن أن تعلم بطريقة غير مباشرة كما يمكن أن تعلم بطريقة مباشرة مقصودة.

(1) تعليم القيم بطريقة مباشرة :

لتعليم القيم بطريقة غير مباشرة صور شتى يمكن إيجازها فيما يلى :

أ – المثال :

يتعلم الأطفال والمراهقون كثيراً من القيم عن طريق تقليدهم – بطريقة واعية أو غير واعية – للكبار فى المجتمع العام الذى يعيشون فيه ،وفى مجتمع الأسرة ،وفى مجتمع المدرسة (المديرون والمعلمون) ولذا فإن العاملين فى مهنة التعليم ينبغى أن يكونوا سلوكهم نماذج إيجابية يحاكيها تلاميذهم .

ب بيئة المدرسة :

يتشرب التلاميذ كثيراً من الاتجاهات والقيم من الثقافة السائدة فى المدرسة ،وأقصد بالثقافة هنا المعارف والاتجاهات والقيم والاهتمامات السائدة فى بيئة المدرسة ؛فالمدرسة التى لا يفرق العاملون فيها بين التلاميذ وفقاً لمستويات آبائهم الاقتصادية أو مكانتهم الاجتماعية تعلم تلاميذها قيمة المساواة ،وقيمة احترام الإنسان لذاته ،وليس لمال أبيه أو حسبه .

والمعلم الذى لا يهتم بأداء مسؤوليته فى مواعيدها أو لا يتقن عمله يعلم التلاميذ الجانب السلبى لقيمة العمل وقيمة الإتقان .

ج- التقييم الذاتى :

ويدخل تحت فكرة التقييم الذاتى ممارسات كثيرة منها : دعوة المعلمين لتلاميذهم بين فترة وأخرى أن يقوموا بتقديم ذواتهم ؛وذلك عن طريق تقدير إنجازاتهم المدرسية ،وتقدير علاقات بعضهم ببعض ،وذلك بهدف أن يصل المتعلم بذاته إلى تحديد مواطن القوة ومظاهر الضعف فى أدائه المدرسى والاجتماعى والرياضى وهكذا .

ويدخل فى ذلك التقييم الذاتى – أيضاً – تطبيق نظام الحكم الذاتى داخل المدرسة ،وأن يشكل الطلاب فى إطار نظام الأسرة المدرسية ((محكمة))تتولى النظر فى المخالفات أو الانحرافات التى تقع من الطلاب ،وتتم ((المحاكمات))فى المدرسة وفقاً لنظام ،وقواعد مكتوبة يضعها الطلاب أنفسهم تحت إشراف أعضاء هيئة التدريس فيها .

د – تعليم القيم من خلال الخبرة :

يمكن أن تنظم مؤسسات التعليم برامج مشتركة مع المؤسسات الاجتماعية والصحية وباقى مؤسسات الخدمات فى الحى أو فى المجتمع المحلى الذى تخدمه المدرسة (المستشفيات ،مراكز الخدمة الاجتماعية ،الملاجئ) كما يمكن أن تقوم المدرسة يتولى فيها التلاميذ المتفوقون تعليم زملائهم الضعاف .

هذا ،وقد سبق أن أشرت – قبلا – إلى أمثلة لتعليم القيم من خلال المواد الدراسية المختلفة .

(2) تعليم القيم بطريقة مباشرة مقصودة :

يعاب على تعليم القيم بطريقة غير مباشرة – على الوجة الذى أوردته  هنا – أنه يتم بصورة عشوائية ،غير مخططة ،وأنه عمل متروك لإيمان المعلمين أنفسهم بأهمية تعليم القيم ،وأنه يتم بصورة عارضة  وعابرة ،

غير مضبوطة  ،غير قابلة  للحكم عليها ،أو لقياس مدى نجاحها  .

واسناداً إلى ذلك فإن الأدبيات التربوية الحديثة تدعو إلى أن تعلم القيم بطريقة مباشرة ومقصودة لذاتها (ratho et – al,1956’).

ويستند هذا الاتجاه فى تعليم القيم إلى عدد من الافتراضات الأساسية أو جزها فيما يلى :

● أن السلوك الخلقى – على النحو الذى حددنا به القيمة فى هذه الدراسة ليس إلا وظيفة لحكم خلقى ،ويؤدى التعليل العقلى دوراً لا غنى فى الحكم الخلقى (piag ,1932)

● أن نمو القيم فى اتجاهاتها الإيجابيه ليس وظيفة مباشرة لاكتساب معايير المجتمع وقيمه . وإنما هو وظيفة لجهود عقلوحدانية يبذلها الإنسان نفسه ،ولذلك حين يستغرق فى تأمل البدائل المتاحة ،ويلجأ إلى تقييم وجهات النظر المختلفة فى موقف يتسم بالصراع ،أو تباين المزاعم والادعاءات ،أو تعدد الحاجات وتعارض بعضها مع بعض . وهذا يعنى أن النماء المعرفى والنماء الخلقى ،وثيقا الصلة ،وأن البناء الخلقى يتم نتيجة للتفاعل الاجتماعى ،وللتأمل ،والتحليب العقلى . (kohlberg ,1960,1976)

● برغم ما للمجتمع ،وما للكبار فيه من دور نشط فى تشكيل الخلق – فإن تنمية القيم لا تتم بصورة يرجى لها الدوام والاستقرار إلا إذا كان نموها نابعاً من داخل الفرد ذاته . وهذا هو ما تؤكده المدارس الحديثة – نسبياً – فى علم نفس النمو (التحليل النفسى) ،والمدخل الإنسانى فى علم النفس أو ((علم نفس الأعماق))والمدخل البنائى فى تكوين الشخصية (راجع مثلاً maslow ,1957) .

ولا أعنى بإيراد هذا الافتراض الأخير أن استخدام النمو المعرفى سبيلاً للنمو الخلقى (أو النمو فى نظام القيم) يتناقض التطبيع الاجتماعى التقليدى داخل الأسرة وفى المدرسة وفى المجتمع ،وإنما أريد أن أؤكد حقيقتين مهمتين :

أولاهما :أن المجتمعات والمؤسسات الاجتماعية المختلفة تطرأ عليها عوارض الانحلال والتسيب . وفى مثل هذا الموقف يتخذ بتعليم القيم للأفراد والجماعات سبيلاً إلى تعديل نظام القيم المختل فى المجتمع ذاته ،وهنا ينتفى الاعتماد فى تعليم القيم على معايير مثل هذا المجتمع المختل فى نظام قيمه .

وثانيهما :أن التطبيع الاجتماعى التقليدى يمثل نوعاً من التقييد أو التحديد أو القسر ،وذلك من خلال اللجوء إلى نظام الثواب والعقاب أو الترغيب والترهيب . وتلك وسائل تناقض معظم المحكات التى قدمتها على أنه شروط للقيمة .

وأعود إلى السؤال : كيف تعلم القيم بصورة مباشرة مقصودة ؟

فأقول : إن القيم تعلم بصورة مقصودة من خلال تعريض المتعلمين لمواقف تعليمية قيمة مخططة ،يستخدم فيها خطاب تربوى معبأ بالقيم . وذلك على الوجه التالى :

الموقف القيمى :

يمكن أن يحدد الموقف القيمى بأنه موقف تعليمى هادف ،يتم تخطيطه بعناية ؛بحيث تبرز فى مكوناته أنماط للسلوك ،تختلف فى دوافعها ،وفى أحداثها ،وفى عواقبها ؛هدفه أن يتبادل المتعلمون فيما بينهم التأثير والتأثر فى بنيانهم المعرفية ،وفى  نظام القيم ومؤشراته ،وفى السلوك العلى . وفى عبارة أخرى يمكن القول إن المواقف القيمية مواقف تستدعى اتخاذ قررات يحكمها نظام القيم .

وقد أسلفنا القول فى أن هذه المواقف يمكن أن تستقى مادتها من الأحداث الجارية التى تذيعها وسائل الاتصال الجماهيرى فى المجتمع المحلى أو الإقليمى أو العالمى ،كما يمكن اشتقاقها من المقررات الدراسية ،وخاصة ما يعرض فى القصص والروايات والمسرحيات ،وكذلك من التمثيليات التى تقدمها الإذاعتان المسموعة والمرئية .

وتتطلب هذه المواقف إعداداً سابقاً ،يكفل أن تتوافر فى عناصرها سمة الصراع فى نظام القيم ؛بحيث يبرز فيها التباين فى السلوك وفى دواعيه ونتائجه ،وأعرض فيما يلى مثالاً لهذا الموقف فى صورة حالة الطالب ((أمين صادق)). وتلك هى إحدى الصورة التى تقدم بها المواقف ،ويمكن أن تقدم على شريط فيديو يعرض على الطلاب  . كما يمكن أن تعد أفلام تعليمية هدفها تعليم القيم .

حالة الطالب ((أمين صادق )).

((أمين صادق))كان طالباً فى كلية ((الشريعة والقانون))بجامعة((الصلاح)).

وأثناء أدائه امتحان ((الليسانس))ضبطه أحد المدرسين وه يغش ،وحاول المدرس أن يسحب منه ورقة الامتحان ،ولكن أمين تشبث بها بشدة ؛فتركه الأستاذ ،حتى لا يفسد على بقية الطلاب الجو الهادئ الذى يجب أن يتوفر لأداء الامتحان .

وحينما انتهى الوقت ،وقام أمين بتسليم ورقة إجابتها للمدرس تساقطت منها أوراق صغيرة مطوية (برشام) فالتقطها المدرس بسرعة . فصاح أمين منزعجاً وقال : هذا البرشام ليس ملكاً لى ،أنا لم أعده ولم سأرفعه إلى عمادة الكلية للتصرف فيه ،وحين سمع الطالب ذلك هدد الأستاذ بأنه سيقتله وسمع المدرسون الآخرون والطلاب هذا التهديد ،وما لبث أمين أن انخرط فى بكاء عميق نقل بعده إلى المستشفى . وقرر الأطباء المعالجون أن الطالب مصاب بانفصام بسيط فى شخصيته ،وقرر مجلس التأديب الذى عقدته الجامعة للطالب فصله من الجامعة ،والتوصية بعدم قبوله طالباً فى أية جامعة حكومية  .

أما زملاء ((أمين))فإنهم لم يخفوا سعادتهم ما حدث ،حيث قال بعضهم هذا الجزاء الغشاش ،وقال آخرون : نحمد الله أننا لم نضبط ونحن نغش .

الخطاب المعبأ بالقيم :

وأعنى به الخطاب الذى يتم فيه تحليل المواقف والحالات التى تتصارع فيها القيم ،وجوهر هذا الخطاب هو أنه يتوجه دائماً إلى البحث عن معانى الأحداث والأقوال ،ومعرفة آثارها على الفرد ،وعلى الجماعة ،وعلى المجتمع ،وهدفه أن يجلى المتعلمون بأنفسهم ولأنفسهم القيم الكامنة وراء الأحداث والأقوال ،وأن يتأملوها ويفسرها بحرية تامة .

ونجاح هذا الخطاب فى تحقيق أهدافه تستدعى أن تتوافر فيه الشروط التالية :

1- أن يستثير فى المتعلمين رغبى تلقائية فى إصدار حكم قيمى .

والسبيل إلى هذا فى الحالة التى مثلنا بها (حالة أمين صادق) هو أن يدعو المعلم المتعلمين بعد سماع الحالة أو قراءتها إلى أن يسجل كل واحد منهم مستقلاً عن الآخرين أهم خمس كلمات أثارتها هذه الحالة عنده ،وأن يتبادل الخطاب حول الأوصاف التى كتبها كل طالب .

2- إشراك جميع المعلمين فى عمليات التبرير والتعليل العقلى للأحداث والأقوال؛ ففي الحالة التى مثلنا بها يمكن أن يتبادل الخطاب حول خطأ أو صواب ما فعل أمين وما قال ،ومدى سلامة موقف المدرس ،ومدى سلامة مواقف مجموعات الطلاب الذين تباينت استجاباتهم وتعددت اتجاهاتهم نحو أمين .

3- أن يصل المتعلمون من خلال تبادل الخطاب إلى معايير إيجابية مشتركة بالنسبة للقيم المائلة فى الموقف. ففى حالة أمين ومثيلاتها  مجال لحوار حول معايير الأمانة ،والصدق ،واتساق الفعل مع القول ،وأداء المسؤولية ،ونحو ذلك .

ويجدر بى أن أؤكد أن عرض الموقف أو((الحالة))ليس إلا بداية للخطاب ؛وعدم الالتزام بالعدل التى تقع فى خبرات المتعلمين وفى عبارة أخرى أقول : إن ((الحالة))التى تعرض يجب أن ينظر إليها على أنها نقطة انطلاق إلى خطاب يجب أن يطول ،وأن يتسع، وأن يتعمق ؛بحيث تتاح للمتعلمين فرص كافية لتحليل أنظمة القيم التى يترجمها سلوك الأفراد والجامعات فلا بيئات المتعلمين المختلفة .

4- يجب أن يقتصر دور المعلم فى الخطاب التربوى المعبأ بالقيم على إدارة الحوار بطريقة ديمقراطية ، ومعاونة المتعلمين على الربط بين الاختيارات التى يقوم بها الأفراد والجماعات ،والقيم التى تكمن  وراء هذه الاختيارات ،والنتائج التى تترتب على كل اختيار . وفى عبارة أخرى أقول إن دور المعلم فى مثل هذا الخطاب هو دور المحفز إلى حورات تستخدم فيها المهارات العقلية العليا فى أمور تتصل بالقيم .

أما بعد :

فأود أن أختتم هذه الدراسة بإيراد بعض المقولات ذات العلاقة بما قدمت فيها ،وأوجزها فيما يلى :

(1) أن التسليم بماهية القيم ،وبأهمية تعليمها على لنحو الذى عرضته هنا يسوغ لى أن أقول : إن تعليم القيم فريضة غائبة فى نظم التعليم العربية ،وأنها غائبة – أيضاً فى كل محاولات التطوير التى تضطلع بها وزارات التربية والتعليم فى بعض البلاد العربية (مثلاً : مصر ،والأردن ، والكويت – راجع :

 أحمد المهدى ،1889) وأن برامج التنمية بعامة ،وبرامج تطوير التعليم بخاصة إذا لم تؤسس على أعمال مقصودة تهدف إلى تنمية القيم لدى الناس عبث لا جدوى منه ،ومضيعة للوقت وللجهد وللمال ؛لأن القيم هى الموجهات الأساسية لكل ما يحرز المتعلمين فى مجالات العلوم ،والتطبيقات التقنية .

(2) هناك حقيقة يجب تأكيدها ،وهى أن تعليم القيم فى معاهد التعليم يحتاج إلا تتناقض مجريات الأمور فى المؤسسات العامة بالمجتمع مع القيم التى يراد تعليمها ؛فالحرية لا تعلم فى مدارس مجتمع يستبد حكامه بالناس ،والعدل لا يعلم فى مجتمع تنتشر فى ممارسات مؤسساته مظاهر الظلم السياسى والاقتصادى والاجتماعى ،وقيمة ((الاستقلال))وهو ((الاعتماد على الذات))لا تعلم فى مجتمع تزداد فيه مظاهر التعبية السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية .

ولا أعنى بهذه المقولة أن تكف نظم التعليم عن تعليم القيم حتى تتوفر القيم فى المجتمع العام الذى تخدمه هذه النظم ،وإنما أعنى بها إبراز هذا التناقض الذى يجب أن يؤخذ فى الاعتبار عند التخطيط لتعليم القيم .

(3) إن ما قدمت فى هذه الدراسة يمثل جهداً متواضعاً ،أردت به أن أستنفر المعنيين بالتعليم – حكومة ، وجماعات وجمعيات مهنية ،وأفراداً – ليبذلوا جهوداً عقلانية مقصودة ومتسقة ،فى سبيل تنمية البشر ،وتجديد طاقاتهم فى إطار القيم الإنسانية العليا . وأرجو فى هذا الصدد أن تنظر الجمعية العربية للتربية الإسلامية والمعهد العالمى للفكر الإسلامى فى الإعداد لمؤتمر موسع تدعى للمشاركة فيه نخبة من علماء الدين والسياسة ،والقانون ،والاقتصاد ،والاجتماع ،والتعليم والثقافة والإعلام ويكون موضوعه : القيم الإنسانية فى الحضارة الإسلامية : من المنظورات إلى التطبيقات ((ولدى تصور لأهداف مثل هذا المؤتمر والإجراءات التى تتخذ بشأنه ،والقضايا والمشكلات التى تناقش فيه يمكن أن أعرضه فى الوقت المناسب .

(4) أعتقد أن جوهر ما تدعو إليه هذه الدراسة يمثل تغييراً جذرياً يجب أن يحدث فى أهداف التعليم ،وبناه ومضامينه ،وأساليب تقديمه . وأن الحكمة تقتضى أن تبدأ كليات التربية ،ومعاهد إعداد المعلمين فى جعل موضوع ((تعليم القيم))أحد المساقات الرئيسية فى برامجها ،وأن تتسابق هذه الكليات والمعاهد فى توفير الطرق والوسائل التى تكفل حسن إعداد المعلمين للقيام بمسؤليات((تعليم القيم))فى مراحل التعليم المختلفة ، وفى أنواعه المتعددة .

ويتوازى مع هذا الجهد عمل مماثل يجب أن تضطلع به مراكز تدريب المعلمين فى أثناء الخدمة .

والله المستعان ،والهادى إلى طريق الرشاد

الهوامش

(1) يجرى التوثيق فى هذه الدراسة على ذكر ثلاث معلومات بين قوسين :الأولى بقب المؤلف ،والثانية تاريخ النشر ،والثالثة رقم الصفحة أو الصفحات . ثم يجد القارئ ثبتاً بالمراجع فى نهاية البحث ،رتب وفقاً لنظام الفباء ،وللترتيب الزمنى فى آن واحد .

(2) توالت فى السنوات الأخيرة كتابات كثيرة تنفى هذه الحتمية المزعومة (راجع فى ثبت المراجع ،مصطفى إبراهيم فهمى ((مترجم))،وكمال خلايلى ((مترجم))،يمنى طريف الخولى)).

(3) لا أملك فى هذا المقام إلا أن أترحم على أستاذى محمد فؤاد جلال ،الذى كان يشرف على مدرسة الأورمان النموذجية ،وأن أدعو الله أن يمد فى عمر أستاذنا الدكتور عبد العزيز القوصى الذى كان يشرف على مدرسة النقراشى النموذجية .

ثبت المراجع

أولاً فى اللغة العربية :

(1) خلايلى ،كمال – مترجم (1989) العلم فى منظور الجديد . تأليف روبرت م .

(2) عمارة ، محمد – (1988) الغزو الفكرى وهم أهم حقيقة . القاهرة : دار الشروق .

عمارة ،محمد – (1984) الإسلام والمستقبل . القاهرة : دار الشروق .

(3) العوا ،عادل (1987) ((قضايا القيم فى كتاب)) الفكر التربوى الإسلامى : الأصول والمبادئ . تونس : المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم . ص 213 – 295 .

(4) فهمى ،مصطفى إبراهيم – مترجم (1990) علم الأحياء والأيدولوجيا والطبيعة البشرية . تأليف ستيفن روز وآخرين . الكتاب رقم 148 فى سلسلة عالم المعرفة – الكويت .

(5) المجلس الإسلامى الدولى للعالم (1981) البيان العالمى عن حقوق الإنسان فى الإسلام .

(6) المهدى ،أحمد (1988) ((إصلاح التعليم بين صيغة غالبة وصيغة غائبة ))القاهرة ،مجلة دراسات فى المناهج وطريق التدريس – العددان : الثالث والرابع .

(7) يحيى ،عبد العزيز (1348 هجرى) الدُر المنثور فى تفسير أسماء الله الحسنى . القاهرة نقلاً عن العوا ، مرجع سابق ذكره .

المراجع الأجنبية

1- Eisner ,E. ed (1985) Learningand Teaching the ways of knewing . Chicago

= the university of Chicago press . NSSE 1985 Yearbook  part II .

2-Heibroner ,R (1947) An Inquiry into human prospect . New York : W . Norton .

3- Jantasch , E (1975) Design for Evo lution . Engaland : Cambridge University press .

4- Kohlberg , L . (1976)Moral stages and Moralization <<in Lickona (ED) Moral development and Behavior : Theory , Research and Social Issues . New York : Holt ,Rinehart and Winstion .

5- Maslaw , A,H (1959)New Knowledge in Human Values . New York : Harpper and press .

6- Nucci , Larry p . (ed)(1989) Development and character Education . Berkeley , colifornia : Mc Cut – Chan Publishing Corpration .

7- Os/er . f.k (1986) <<Moral Education and Value Education >>in Wittrock ,

M.C .ed . Hand book of Research on Teaching . Third edition . New York : Macmillan Publishing co .,

8- piaget ,G(1932) The Moral Judgment of the child . New York : Free Press .

9- Rath , L.E etal (1966) Values and teaching U.S.A : Acharles E. Merrill Publictions .

10- Rayan , D . (1964) Research on Teacher Behavior <<in Biddle and Ellena (eds) Contenporary Research on teacher Effectivenss New York : Wolt , Rinchart .

11- Rayans , k . (1986) The Moral Education  phi Delta Kappan . No68 (November 1976).

12- Wilson , J.Q (1985) <<the rediscouery of Character : private Virtue and Public policy>> Public Interest . Vol 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر