في الموازنة بين مصالح التعبير عن الإرادة العامة ومفاسدها (دراسة تأصيلية على الثورات العربية)
العدد 148
مقدمة:
يمثل موضوع التعبير عن الإرادة العامة أو سيادة الأمة أحد أهم الموضوعات التي أصبحت لها الأولوية في التفكير السياسي الإسلامي المعاصر؛ من خلال ضرورة إعادة النظر في نطاق ومجالات إعمالها وضوابط الاحتكام إليها، وصولا إلى تحديد الطرق والوسائل المعبرة بحق وصدق عن الإرادة العامة في المجتمع السياسي الإسلامي؛ ذلك أن كل ما كتب حول مفهوم السيادة أو الحاكمية الإلهية؛
هو في الواقع نوع من التنظير البعيد عن الواقع السياسي؛ وكأنّي بمنظّري ومقّعدي نظرية الحاكمية في الفقه الإسلامي في معرض الرد والدفاع عن أصالة النظرية السياسية الإسلامية؛ فكانوا في تنظيرهم بمعزل عن صاحب السيادة الفعلي في دنيا الناس؛ وحتى الفقهاء وعلى رأسهم طه جابر العلواني الذين نادوا بحاكمية القرآن كبديل للحاكمية الإلهية المستفادة من قوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ)؛ لم يقدموا جوابا يشفي الغليل؛ عن مكانة الإرادة العامة ونطاقها من هذه الحاكمية، رغم واقعية الفكرة، باستثناء قلة من الباحثين ممن درسوا فكرة الأغلبية وأثرها في وضع الأحكام الدستورية والسياسية ونقل السلطة كالريسوني؛ وكذا بعض الدراسات المصاحبة للثورات العربية من أجل التأصيل لها من خلال الاعتراف بسيادة الأمةكضمانة لتطبيق الشريعة ومقوما لنجاح تمكينها وتنـزيلها على الواقع.
وتثير مسألة التعبير عن الإرادة العامة إشكالية الموازنة بين المصالح والمفاسد المرجوة منها، مما يتطلب إعمال فقه الموازنات قبل تقرير مدى مشروعية طرق التعبير عن سيادة الأمة في ميزان مقاصد الشريعة الإسلامية، ولذلك فإنَّ الثورات الشعبية كما يمكن أن تكون فُرَصَ مكاسب، يُمْكن أن تكون أيضا منشأَ مَخاطر، وهنا تتعدد أنواع قواعد فقه الموازنات الحاكمة في حل الإشكالية.
وفقه الموازنات فقه وليد بحث طويل، ونتاج إمعان دقيق واستقراء تام لنصوص الوحي، وفهم كامل لمقاصد التشريع ومبادئه وقواعده الكلية، باعتباره المنهج الأمثل لإزالة التعارض على مستوى ما يتعلق بالمجتمع وقضايا الشأن العام من مصالح ومفاسد، خصوصا في ظل المستجدات المعقدة، إلا أن إعمالها واستثمارها وتنـزيلها على الواقع والنوازل المستحدثة يظّل أمرا صعبا؛ ومعتركا ضنكا؛ قد يثير في مآله مخاطر ومزالق تشوه سمعة الدين؛ وتشكك في صلاحيته لكل زمان ومكان؛ مما دفع بعض الفقهاء إلى التوجس منه خيفةً وتورعًا، وفي المقابل وجد من الفقهاء والعلماء من خاض في استثماره في مختلف النوازل المعاصرة خاصة السياسية منها؛ فكان عرضة للتضليل والتشكيك في سلامة منهجه وكفاءته التنـزيلية؛ الأمر الذي يجعل من المسألة مزلة أقدام ومضلة أفهام في التقدير والتنـزيل؛ لا غنى فيها لسلامة الفهم وصواب الحكم من حسن إدراك فقه الواقع وفقه الأولويات وفقه التيسير وفقه الوسطية وفقه الاعتدال وفقه الآخر وفقه الحوار وفقه المرحلة وفقه الممكن، وذلك قبل الشروع في استثمار هذا المنهج الأصولي على النوازل. ولقد برزت ضرورة إعمال هذا الفقه مع التحولات السياسية الأخيرة التي شهدتها المنطقة العربية؛ فقيام تلك الثورات أثار إشكالية في التكييف الشرعي لها، من حيث مدى مشروعيتها، فهل هي داخلة ضمن مسمى النهي عن المنكر الواجب شرعا إنكاره، أم هي صورة جديدة للخروح على السلطة الحاكمة الممنوع شرعا؟ وهل هي بدافع تطبيق الشريعة وما تقتضيه من استرداد للكرامة والحرية، ورفض للظلم والإفساد ولمنع التعدي على الآخرين بغير حق، بما يمثل استردادًا لمقاصد الإسلام العليا والحفاظ عليها، أم هو مؤامرات خارجية بغية تمزيق الأمة والقضاء على وحدتها ونظامها(1).
إن فقه هذا الواقع الثوري المعاصر لا يخلو من ملاحظة عدة مصالح ومفاسد متعارضة واقعة ومتوقعة، والذي يحكم ذلك هو اعتبار المقاصد وتفعيل الفكر المقاصدي، فملاحظته تبين أي المصلحتين أكبر فنحصلها وتقدم على غيرها، وأي المفسدتين أعظم خطراً فيقدم درؤها بارتكاب أقلها ليتبين لأي الغلبة من المصلحة أو المفسدة – عند تعارضهما- تلك ما ستحاول معالجته هذه الورقة من خلال مبحثين:
المبحث الأول: إشكالية التعبير عن الإرادة العامة في الفقه السياسي الإسلامي
المبحث الثاني: الموازنة بين المصالح المتوقعة من التعبير عن الإرادة العامة والمفاسد المحتملة.
المبحث الأول
إشكالية التعبير عن الإرادة العامة بين المصالح والمفاسد في الفقه الدستوري الإسلامي
خلا تراث الفقه السياسي من مفاهيم وإجراءات المشاركة الشعبية في القرار والحكم رغم وجودها في مصادر التأصيل الإسلامي كمبدأ الاستخلاف الإنساني، ومبدأ الشورى السياسي، ومبدأ الإجماع التشريعي؛ فلم يتطرق فقهاؤه بجدية لحقوق الشعب والمواطنة وأحكام المعارضة السياسية، كما لم يلتفتوا إلى مسألة التداول السلمي على السلطة مما انعكس سلبيا على غياب تنظير محكم لمسمى التعبير عن الإرادة العامة ومكانتها في النظرية الدستورية في التصور الإسلامي.
فلم تتحدث المراجع الفقهية عن مسمى الإرادة العامة بلفظه، وان عرفت معناه خصوصا من خلال تحكيم مبدأ الشورى التي لا خلاف في وجوبها، وان كان هناك خلاف في الاحتجاج بنتيجة الشورى حيث انقسم الفقه إلى مؤيد ومعارضٍ لنظام التصويت بالأغلبية، فبينما يرى مؤيدو العمل بنظام الأغلبية بعد التشاور والتداولٍ للأمورِ؛ يرى معارضوها أن الأقليّة قد يكون معها الحق أيضا، فالحق له وجود موضوعي غير متوقف علي عدد الناس، وأن العمل بالأغلبية في نصوص الكتاب غالبا ما يكون مذموما، في حين يرى البعض أن فكرة التعبير عن الإرادة العامة محتواة في مبادئ وأصول قطعية في الشريعة كالإجماع الأصولي وعقد البيعة.
كما أنها في جلّها لا تعير اهتماما كافيا لنظام الحكم في الدولة النبوية كمصدر تشريعي لها؛ ولا لحكومات دولة الخلافة الراشدة كأنموذج للاجتهاد المصلحي السياسي إما عزوفا عنها لبساطتها وعدم تعقد الحياة السياسية فيها، وإما مسايرة لأنظمة الحكم السياسية المعاصرة(2). لقد وقفت غالبية الدراسات في القانون العام الإسلامي طويلا عند مسائل عرضية وجزئية بعيدا عن أصول القضايا ومصادر التأصيل وقواعد أصول الفقه الحضاري أو العمراني أو ما يسمى بالفقه الكلي(3)، فنجدها تهتم بأوصاف النظام السياسي الإسلامي هل هو نظام ديمقراطي أم ثيوقراطي أم له ذاتية مستقلة خاصة به، في محاولة لمجاراة الأنظمة المعاصرة دون مناقشة قضايا فقه الواقع السياسي؛ كقضية التعبير عن الإرادة العامة وحدودها في ظل قاعدة الحاكمية لله ومنـزلتها في النظام الدستوري وقضية الحرية؛ وقضية المشاركة السياسية وحقوق المعارضة وفقه الاحتجاج أو التظاهر وما يتعلق بها من حقوق المواطنة.
ومن بين تلك الأسباب التي ساهمت في تغييب إرادة الأمة في النظام الإسلامي ظاهرة الاستبداد السياسي التي عطلت الشورى، وصادرت الحرية، وشلت فاعلية الإجماع في التعرف على إرادة المجتمع، والمشاركة به في صنع القرار، وتدبير الشأن العام، كما أن استسلام الفقهاء في أغلبيتهم وعدم اعتراضهم على تعطيل الشورى في اختيار الحكام وعزلهم ومحاسبتهم، – ساهم في إقصاء مؤسسة الشورى رغم اعتبار إرادة الأمة الحرة مصدر شرعية كل السلطات العامة الموكل إليها رعاية الشئون الجماعية(4) وهذا ما سنحاول إبرازه من خلال هذه الفروع المستقلة.
المطلب الأول: دور طرق التعبير عن الإرادة العامة بالدفاع عن الحقوق والحريات العامة (مصالح الإرادة العامة)
تعتبر فكرة التعبير عن الإرادة العامة من أشهر الأفكار الدستورية التي تفتخر بها الحضارة الغربية وتعتبرها أساسا لنجاح وتطور الحياة السياسية فيها؛ باعتبارها الفكرة التي استطاعت أن تنـزل السلطة من السماء إلى الأرض وتنقل مصدر السيادة من الإله – كما في النظرية الثيوقراطية أو الغيبية أو ذات المصدر الإلهي – إلى الشعب المالك الأوحد لها، كما هو في النظريات العقدية أو الديمقراطية.
وفي أصول الاجتماع السياسي الإسلامي تمتعت فكرة التعبير عن الإرادة العامة بقبول فقهي وشرعي في دولة المدينة والخلافة الراشدة، إلى أن تعرضت للانكماش في عصور الملك العضوض الوراثي والملك الجبري الاستبدادي، حيث كان هناك أكثر من سبب أدى لوأد هذه الفكرة، مما أسهم في إضمار التعبير عنها في الممارسة الاجتماعية والسياسية.
الفرع الأول: الأساس الفلسفي لفكرة التعبير عن الإرادة العامة وعلاقاتها بأولوية الحرية السياسية:
تعتبر فكرة الإرادة العامة مدخلا منهجيا للفكر الديمقراطي السياسي مما يستوجب البحث عن ماهية هذه الفكرة في أصل نشأتها وبيئة ظهورها في محاولة لمعرفة كنهها وتأصيلها من منظور إسلامي.
أولا: فكرة العقد الاجتماعي كمصدر لنظرية الإرادة العامة:
لقد جاءت فكرة العقد الاجتماعي كمحاولة لتفسير أصل نشأة الدولة حيث تعتبرها ظاهرة وليدة إرادة الأفراد التعاقدية؛ وهو إما عقد سياسي بين الأفراد من جهة والحاكم من جهة ثانية؛ أو عقد اجتماعي بين الأفراد فيما بينهم دون أن يكون الحاكم طرفا في العقد، وتنسب هذه النظريات إلى كتابات فرسان العقد الثلاث: توماس هوبز في كتابه المارد سنة 1651؛ وجون لوك في كتابه الحكومة المدنية سنة 1690 وجان جاك روسو؛ من خلال كتابة الشهير العقد الاجتماعي؛ سنة 1762(5).
لقد مثلّت نظرية العقد الاجتماعي بداية عصر التنوير في أوروبا ونهاية عصر الكنيسة المتألهة لما حققته من نهضة علمية استرجع من خلالها العقل الأوروبي رشده لصالح الفكر الديمقراطي التحرري؛ وغدت الدولة ظاهرة اجتماعية وسياسية وليدة الإرادة الشعبية(6).
ورغم قوة هذا التحليل عند روسو إلا أنه يعترف صراحة بأنه مجرد افتراض بدليل أنه لم يعط مثلا على دولة نشأت حسب نظريته؛ ومع ذلك لا ينكر دور العقد الاجتماعي في توجيه وتفجير الثورة الفرنسية التي كان شعارها: “الحرية والمساواة والإخاء”، وما ترتب عنها من إقرار فرنسا في الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن بالسلطة المقيدة للحاكم، ومن ثم صح عندهم اعتبار كتاب العقد الاجتماعي لروسو إنجيلا للثورة الفرنسية، ليكون بذلك أول من مهد لفكرة الديمقراطية الغربية بشكل واضح، حيث الشعب يحكم نفسه بنفسه لنفسه(7). وبذلك فقد انتقل العقد الاجتماعي خصوصا بعد الثورة الفرنسية من فرضية أو نظرية إلى نص دستوري عرف باسم “إعلان حقوق الإنسان والمواطن”، وهو الإعلان الذي أصدرته الجمعية التأسيسية الفرنسية في أغسطس 1789 في المادة السادسة: “القانون هو التعبير عن الإرادة العامة، وجميع المواطنين لهم الحق في المساهمة في وضع القانون إما بأنفسهم وإما بواسطة ممثليهم، ويجب أن يكون القانون واحدا بالنسبة للجميع سواء في حالة حماية الأشخاص أو في حالة العقاب، وجميع المواطنين متساوون أمام القانون، وهم أيضا مرشحون لجميع المراتب والمناصب والأعمال العمومية حسب مقدرتهم وبدون أي تمييز آخر إلا ما يرجع إلى خصالهم ومواهبهم”.
وعموما فإن جوهر مدرسة العقد الاجتماعي هو تقييد السلطة المطلقة بالإرادة العامة؛ فقد استطاع فرسان العقد رغم خيالية أفكارهم أن يجعلوا السلطة مصدرها الشعب وليس الإله أو الطبيعة أو الصراع، فالدولة عندهم ظاهرة قانونية تعاقدية إرادية الصنع وليست دينية المصدر، وما السلطة إلا خادم للشعب أوجدها بنفسه ويغيرها بإرادته(8).
فلا ينكر منصف فضلها ودورها في تقييد السلطة المطلقة للحكام واعتبارهم مجرد نواب عن الشعب في أوروبا، خصوصا في القضاء على سلطة آباء الكنيسة؛ وإن كان النقاد يعتبرون نظرية روسو من أدق النظريات العقدية على الإطلاق، لتصير أشهر نظرية كتب لها التاريخ النجاح، حتى قال البعض إنها أكبر أكذوبة سياسية ناجحة حيث تمثل الإرادة العامة جوهر النظرية إلى حد أنها تعتبر موروثًا إنسانيًا.
ورغم إعجاب كثير من الفقهاء بنظرية روسو لما حققته في تصوير الصورة المثلى لممارسة الحرية السياسية تطبيقا لمبدأ سيادة الشعب؛ إلا انه في الواقع العملي تصطدم بصعوبات مادية وفنية؛ تجعل من الأخذ بها أمرا صعب المنال؛ بل مستحيل التحقيق في واقع الحياة؛ وهو ما يقره روسو نفسه في كتابه العقد الاجتماعي؛ ولذلك فإن أغلب الدساتير المعاصرة مالت إلى المزج بين مفهومين للسيادة؛ الذي أفرز نوعا جديدا من الديمقراطية تعرف بالديمقراطية التمثيلية التي يظهر أنها لم يسبقها أي تنظير فقهي؛ وإنما خرجت إلى الوجود السياسي كمنهج دستوري لاعتبارات عملية أفرزها الفكر السياسي المعاصر استجابة لمنطق الملائمة السياسية(9).
ذلك هو العقد الاجتماعي، كل فرد تنازل للمجموع الذي تتشكل منه الإرادة العامة، التي ليست مجموعا حسابيا بسيطا لإرادات الأفراد الخاصة، بل هي الإرادة التي تقتضيها المصلحة العامة وتتأسس عليها الدولة، كتعبير مجسم لهذه الإرادة العامة.
وعليه نستطيع القول أن إدراك مسمى الإرادة العامة مرتبط باختراق ضمير الجماعة والكشف عن طريقة تفكيرها والقيم التي تحكمها؛ ثم اختراق ضمير المشرع باعتباره المعبر عنها؛ خصوصا المؤسس الدستوري ثم المشرع العادي؛ وليس دائما يكون مدرك الإرادة العامة هو ما عبرت عنه إرادة الغالبية؛ فقد تكون إرادة الدولة بما تملكه من مؤسسات استشارية أصدق تعبيرا عن الإرادة العامة؛ ولا شك أن الوصول إلى وضع تعريف جامع ومانع لها من الصعب إن لم يكن مستحيلا، وبالتالي فإنه من الصعوبة بمكان إيجاد تعريف مكتوب لمصطلح الإرادة العامة سوى أوصاف وغايات لها.
ثانيا- دور الإرادة العامة في الـتأسيس للدولة في الإسلام – بيعة العقبة وصحيفة المدينة أنموذجا-:
يكاد يتفق الفقه في مجال التطبيق لمفهوم دولة والإرادة العامة والاستدلال عليها بأن مثالها، الذي لم يستطع روسو التمثيل به والتدليل على نظريته العقدية، يوجد في أول دولة أسسها الرسول عليه الصلاة والسلام عقب هجرته إلى يثرب؛ فقد كانت وليدة إرادة عامة؛ تمثلت في بيعة العقبة الثانية وانتهت بتأسيس دولة الحكومة النبوية؛ حيث كان هناك شعب يقيم بصفة دائمة على إقليم المدينة وما جاورها مكوَّن من الأنصار – أوسا وخزرجا – ومن المهاجرين ومن اليهود الذين رضوا بمعاهدة المدينة كمواطنين فيها؛ وكان لهذا الشعب حكومة نبوية يمثلها الرسول عليه الصلاة والسلام بعد مبايعته في بيعة العقبة على السمع والطاعة وإقامة الدولة؛ فكانت سلطته ذات سيادة كاملة لا تخضع لغيرها من الدول المجاورة السائدة آنذاك(10).
ومن هذا المنطلق فإن أول دولة قامت على أساس عقد اجتماعي تمثل في البيعة والمؤاخاة والدفاع المشترك عن العقيدة، التي تمثل تجسيدا حقيقيا للإرادة العامة المؤمنة بالدين الجديد في نصرة الدين وتأسيس وطن له، وليس كماذهب بعضهم إلى القول بـ”النص والوصية”، بينما استند آخرون إلى “إجماع الصحابة” على مبايعة أبي بكر بالنسبة لدولة الخلافة الراشدة. ومن ثم فإن ذاتية نظام الحكم في الإسلام تقوم علي ركنين: السلطة للأمة والسيادة للشريعة؛ مما يؤكد اعتبارها مصلحة معتبرة شرعا.
ولهذا فقد مثلت فكرة تأسيس المدينة(11) عن طريق الاختيار والشورى في بيعة العقبة مرحلة حاسمة في التاريخ السياسي الإسلامي بحيث تميزت الدولة باعتبارها اجتهادا بشريا تعاقديا للناس مدخل فيه(12)؛ وبذلك كانت المرحلة المدنية من عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- بداية لبناء المؤسسات الدستورية، وعلى رأسها مؤسسة الدولة، باعتبارها حكما شرعيا وسنة عملية يجب على الأمة إقامتها؛ ومن ثم يكون وجوب نصب الإمام وضرورة قيام الدولة لرعاية شؤون الأمة من مسائل أصول الدين وقطعيات الشريعة؛ وهذا اصطلح على تسميته في الفكر الإسلامي بالخلافة الإسلامية، قال الماوردي: “الإمامة أو الخلافة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع”. فقد قال أبو بكر-رضي الله عنه- في اجتماع السقيفة: “لا بد لهذا الأمر من قائم؛ فانظروا وهاتوا آراءكم”. فلما لم ينكر عليه هذا القول؛ كان إجماعا قطعيا(13).
وحول هذا المعنى يقول العلامة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة(14): “ثم إن نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين لأن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر وتسليم النظر إليه في أمورهم؛ وكذا في كل عصر من بعد ذلك؛ ولم تترك الناس فوضى في عصر من العصور؛ واستقر ذلك إجماعاً دالاً على وجوب نصب الإمام؛ وقد ذهب بعض الناس إلى أن مدرك وجوبه العقل؛ وأن الإجماع الذي وقع إنما هو قضاء بحكم العقل فيه، قالوا: وإنما وجب بالعقل لضرورة الاجتماع للبشر؛ واستحالة حياتهم ووجودهم منفردين ومن ضرورة الاجتماع التنازع لازدحام الأغراض(15).
وكما قال الإمام الماوردي: “إذ لولا الولاة لكانوا فوضى مهملين وهمجا مضاعين”(16). وعلى هذا يمكن تبني الاستقراء الذي نقله العلامة الطاهر بن عاشور حيث يقول: “أنبأنا استقراء الشريعة من أقوالها وتصرفاتها بأن مقصدها أن يكون للأمة ولاة يسوسون مصالحها ويقيمون العدل فيها وينفذون أحكام الشريعة بينها، ولهذا تعين إقامة ولاة لأمورها وإقامة قوة تعين أولئك الولاة على تنفيذها”(17).
والواقع أن الأمة وان كانت في الأصل هي المسؤولة عن تحقيق مصالحها العامة ورعايتها؛ بأن يترك الأمر لاختيار كل مكلف وإرادته؛ إلا أن ذلك يؤدي إلى مفاسد؛ فكان لابد من أن تنيب الأمة عنها من يدبّر الأمر فيها؛ ويتولى النهوض بمصالحها إنشاء ورعاية؛ ولذا كان إقامة الدولة في الإسلام كما يقول د.الدريني: “من المقاصد الأساسية التي تربو على كل مقصد ومصلحة؛ إذ لا يتصور إسلام بلا دولة؛ وهي قضية الدين؛ كما أنها قضية العقل” لأن ما لا يتم الواجب إلا به؛ فهو واجب”(18).
ومن هذا المنطلق يؤسس الفكر السياسي المعاصر لفكرة الدولة في الإسلام على أساس إجماع الفقه على وجوب نصب الخليفة بمقتضى الأمر الشرعي؛ يقول القرضاوي(19): “إن الإسلام لو لم تجئ نصوصهالمباشرة بإيجاب إقامة الدولة لكانت حاجته إلى دولة لا ريب فيها” وهو ما يقتضي اعتبار الإرادة العامة مصدرا لسلطة الدولة.
ولا شك أن التنظير لمفهوم الدولة ينطلق من فكرة العقد الاجتماعي والسياسي الذي أبرمته القيادة النبوية مع قبائل الأوس والخزرج بتنازلهم عن حقوقهم لصالح الحاكم الجديد الذي يلتزم بإخراجهم من جاهلية الحروب والفوضى إلى حياة النظام والأمن القانوني عن طريق العقد الذي يصطلح عليه في كتب السياسة الشرعية بعقد البيعة كأحد أهم وسائل التعبير عن الإرادة العامة في الفقه الإسلامي، حيث تعتبره الغالبية العظمى من الفقه، باستثناء الشيعة، وسيلة إسناد السلطة إلى الحاكم؛ وسند مباشرة السيادة نيابة عن الأمة؛ فدل ذلك على أن البيعة عقد رضائي بين الأمة صاحبة الإرادة العامة؛ وبين الحاكم الذي يلتزم به وفقا للكتاب والسنة.
الفرع الثاني: التحقيق في مدى اعتبار مصالح التعبير عن الإرادة العامة في ميزان مقاصد الشريعة الإسلامية
برز بعد ثورات الربيع العربي مفهوم “الشعب يريد إسقاط النظام”، انطلاقا من مبدأ “سيادة الأمة” الذي ظهر إلى السطح لينذر بخلاف حقيقي بين التيارات الإسلامية، خصوصا التي استطاعت الوصول إلى سدة الحكم في بعض الدول العربية كما في تونس ومصر والمغرب، وأمام هذا التطور الذي يتطلب منهج فقه الموازنات للتحقيق في مدى اعتبار الشريعة للمصالح التي يعوّل عليها دعاة فتح قنوات التعبير عن الإرادة العامة أمام الشعوب.
أولا: اعتبار مصلحة تقديم سيادة الأمة على سيادة الفرد:
تتميز دولة الإرادة العامة بأنها دولة مؤسسات وليست دولة أشخاص؛ حيث السيادة للمؤسسات التي تمثل الشعب عن طريق الانتخاب؛حيث يركز الاتجاه الغالب في الفقه القانوني بعد الثورة الفرنسية على عنصر الأمة في ظهور الدولة الحديثة حيث حلت الأمة مكان الملك؛ وأصبحت العنصر الحقيقي المكون للدولة؛ والمصدر الوحيد للسلطة ذات السيادة؛ بحيث صارت الدولة هي “التجسيد أو التشخيص القانوني لأمة ما”(20)؛ عملا بمبدأ سيادة الأمة؛ وفي ضوء ذلك فإن الأمة ليست فحسب أحد العناصر المكونة للدولة بل هي بذاتها العنصر الرئيس المكون للدولة بحكم تجسدها فيها.
وفي الواقع فقد جبلت الطبيعة البشرية على عدم خضوع الإرادة لإرادة أخرى خضوعا غير مكره إلا إذا كانت تلك الإرادة الأخرى تمثل قيمة عليا وحسب عبارة ديجي الواقعية أنه: “لا يستطيع كمفكر واقعي أن يرى كيف يمكن أن تكون إرادة إنسانية بذاتها أعلى من إرادة إنسانية أخرى؟” لقد نجحت أفكار روسو من خلال نظريات العقد في التنظير الإرادي لمؤسسة السلطة؛ من حيث اعتبارها عملية إرادية وقانونية؛ فكان تنظيره هذا كاشفا لحقيقة مأسسة السلطة، ليتم من خلالها الانتقال من مقولة لويس “أنا الدولة” إلى مقولة روسو “نحن الدولة”(21). مما يعني الاعتراف بالدور الحيوي لفكرة الحرية السياسية فهي وسيلة ضرورية لا غنى عنها في قيام الحياة الاجتماعية على أساس النظام والعدل المحقق للصالح المشترك(22).
ومن ثم فإنه يتأكد حق الأمة واعتبارها مصدر السلطة واثبات دورها في المشاركة السياسية، خلافا لبعض الفقه السياسي الذي يرى أنّ حق الاختيار للرئيس الذي يُولّى عليها ليس بحقّ عام لجميع أفرادها، بل هو حقّ مخوّل لعدد قليل من الأفراد قد ينتهي أحيانا إلى الفرد الواحد كما أشار إليه إمام الحرمين في قوله: “فإذا لم يُشترط الإجماع في عقد الإمامة لم يثبت عدد معدود ولا حدّ محدود، فالوجه الحكم بأنّ الإمامة تنعقد بعقد واحد من أهل الحلّ والعقد”(23).
ثانيا: مصالح تفعيل عقد البيعة كصورة من صور التعبير عن الإرادة العامة في النظام السياسي الإسلامي:
تثير مسـألة التعبير عن الإرادة العامة في الفقه الإسلامي مسمى “عقد البيعة”، وهو نوع من العقد السياسي أو هو “عقد الإمامة”، والذي يتقاطع في مضمونه مع نظرية “العقد الاجتماعي” إلا في اعتبارها نظرية تفسر أصل الاجتماع والدولة، فهو مما لم يكن محل دراسة وبحث فالذين خاضوا في مسألة “الإمامة” و”الخلافة”،لم يتطرقوا لأصل وجود الاجتماع السياسي، وإن أسهبوا في نظام البيعة؛ يقول ابن خلدون: “واعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة؛ كأن المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له في أمر نفسه؛ وأمور المسلمين؛ لا ينازعه في شيء من ذلك؛ ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره؛ وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيدا للعهد”(24) فدل ذلك على أن البيعة عقد رضائي بين الأمة صاحبة الإرادة العامة؛ وبين الحاكم الذي يلتزم به وفقا للكتاب والسنة وصالح الأمة(25). فهل تعد البيعة تعبيرا عن الإرادة العامة في الفقه الإسلامي؟ لعل المقصد الكبير هو إخضاع الحاكم لسلطان الشريعة(26).
وعلى هذا يعتبر نظام البيعة أحد أهم وسائل التعبير عن الإرادة العامة في الفقه الإسلامي؛ حيث تعتبره الغالبية العظمى من الفقه باستثناء الشيعة وسيلة إسناد السلطة إلى الحاكم؛ وسند مباشرة السيادة نيابة عن الأمة؛ يقول القاضي أبو يعلى الفراء: “وصفة العقد أن يقال له: قد بايعناك بيعة رضا؛ على إقامة العدل والإنصاف والقيام بفروض الإمامة ونحو ذلك”؛ فدل ذلك على أن البيعة عقد رضائي بين الأمة صاحبة الإرادة العامة؛ وبين الحاكم الذي يلتزم به وفقا للكتاب والسنة وصالح الأمة(27).
وإن المتأمل في العهد النبوي يلامس أنواعا من “العقود السياسية والاجتماعية” أبرمها الرسول صلى الله عليه وسلم، منها:
1- عقد بيعة العقبة الأولى والثانية: حيث بايع فيهما ممثلو أهل يثرب (المدينة) الرسول عليه السلام رئيساً عليهم، فكانت الهجرة إليهم على أساس هذه البيعة الاختيارية المشروطة حيث شرط عليهم وشرطوا عليه، وهذا لا يكيّف إلا بكونه عقدا سياسيا.
2- عقد وثيقة المدينة المعروف بـ”الصحيفة” فهو يجمع بين الاثنين فقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم، عند وصوله إلى المدينة مهاجرا، كتابا “بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة”، كما “وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم”(28).
وعليه فان انتقال السلطة واختيار الحاكم وفقا لأصول الفقه السياسي الإسلامي لا يكون إلا عن طريق الشورى واختيار الأكفأ والأصلح عبر مرحلتين: مرحلة الترشيح، وهي من اختصاص أهل الحل والعقد وتسمى فقهيا بالبيعة الخاصة أو “بيعة الترشيح”- وهي بمثابة بيعة صغرى له؛ ومرحلة المبايعة العامة أو “بيعة الانتخاب”، وهي بمثابة تصديق على الترشيح من طرف العامة، فلا تكفي بيعة الخاصة ولا يصير بها إماما بل لابد من بيعة السواد الأعظم فلا تقوم الشوكة إلا بموافقة الأكثرين، بحيث أنه إذا لم يحز هذا المترشح على ثقة الأمة بالبيعة الكبرى؛ فإن البيعة الصغرى تعتبر ملغاة كأن لم تكن، وعلى هذا فإن مهمة أهل الحل والعقد هو تبصير المسلمين بمن تتوفر فيهم شروط الصلاحية لولاية أمر المسلمين كالمرشد والدليل وليس بالوكالة عن الأمة(29) يقول الإمام الغزالي: “وإنما الغرض قيام شوكة الإمام بالأتباع والأشياع، ولا تقوم الشوكة إلا بموافقة الأكثرين من معتبري كل زمان..، ولو لم يبايع أبا بكر غير عمر، وبقي كافة جميع الخلق مخالفين له لما انعقدت الإمامة، فإن المقصود الذي طلبنا له الإمام جمع شتات الآراء”، وهذا ما يؤكده ابن تيمية في منهاج السنة: “ولو قُدّر أنّ عمر وطائفة معه بايعوا أبا بكر وامتنع سائر الصحابة عن البيعة لم يصر أبو بكر إماماً بذلك، وإنما صار إماماً بمبايعة جمهور الصحابة الذين هم أهل القدرة والشوكة”(30). ويقول أيضا في بيعة عثمان: “إنّ عثمان لم يصر إماماً باختيار بعضهم، بل بمبايعة الناس له، وجميع المسلمين بايعوا عثمان بن عفان ولم يتخلف عن بيعته أحد. قال الإمام أحمد: ما كان في القوم من بيعة عثمان كانت بإجماعهم، وإلاّ لو قدر أنّ عبد الرحمن بن عوف بايعه ثم لم يبايعه علي ولا غيره من الصحابة أهل الشوكة لم يصر إماماً. ثم إنّ ابن عوف حلف أنه أقام ثلاثاً لم يغتمض فيها بنوم يشاور السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان ويشاور أمراء الأنصار فأشار عليه المسلمون بولاية عثمان. وقدموا عثمان وبايعوه لا عن رغبة أعطاهم إياها ولا عن رهبة أخافهم بها”(31). وقد أصرّ عمر بن عبد العزيز على أن يأخذ البيعة من الناس على الرغم من أنه لم يكن يحتاج إلى ذلك عندما آل إليه الحكم(32).
وفي الواقع فان الفقه السياسي الإسلامي، وكما أوضحه الماوردي ومن جاء بعده من فقهاء السياسة الشرعية، أن أهل الحلّ والعقد: “إذا أدّاهم الاجتهاد إلى اختيار حاكم؛ عرضوها عليه، فإن أجاب إليها بايعوه عليها، وانعقدت ببيعته له الإمامة، فلزم كافّة الأمّة الدخول في بيعته، والانقياد لطاعته”(33). والمعوّل عليه هو أنْ تكون الشورى مُقدّمة للبيعة، حتى يكون اختيار الحاكم عن رضا وقبول من الخاصة والكافة(34)، وهذه كلها مصالح سياسية معتبرة ومن جنس المقاصد الشرعية.
وجدير بالإشارة تقسيم بعض الفقه للبيعة بمثابة الإجماع العام الذي يكون بالأكثرية أو الأغلبية، كبيعة الرؤساء والملوك وخلعهم، والاستفتاءات في القضايا المصيرية والقضايا الدستورية تمارسها الأمة بنفسها أو المجتمع دون قيود علمية أو مالية، ولا يمكن تفويضها لأحد كائنا من كان، وهي من قضايا الإجماع السياسي العام وهذا هو مقتضى الحديث: “عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الأَعْظَمِ”؛ أما الإجماع الخاص، فهو الإجماع التشريعي عن طريق شورى أهل العلم والرأي الذين يقدرون الأعراف المستقرة، ويشرعون للحاجات الطارئة بالاجتهاد الجماعي في مؤسساته المعتبرة. كما تجدر الإشارة الى التنبيه إلى حجية الإجماع بالأغلبية عند بعض علماء الأصول؛ فقد ذهب الطبري، والرازي، وابن حنبل في احدي الروايتين عنه إلى انعقاد الإجماع برأي الأكثرين إذا قل مخالفهم، وذهب بعضهم إلى انعقاد الإجماع برأي الأكثرية إذا كان مخالفوهم لا يبلغون حد التواتر، وذهب بعضهم إلى القول الأكثر حجة ولكن لا يسمي إجماعا، ورأى آخرون أن إتباع رأي الأكثرية أولى فقط، ومن الأمثلة على اعتبار الإجماع حجه شرعية ومصدرًا من مصادر الترجيح إجماع أقطاب الفكر السياسي الإسلامي على أن إجماع الصحابة هو المصدر الوحيد لشرعيـة السلطة السياسية(35).
وخلاصة لهذا المطلب حول مصالح حاكمية الإرادة العامة يظهر مدى المصالح المعتبرة شرعا من وراء القول بمشروعية تفعيل طرق ووسائل التعبير عن الإرادة العامة حيث أظهرت مدى مقاصدية الحرية من خلال قاعدة الشورى السياسية ونظام البيعة وفكرة الإجماع.
غير أن تقرير أولوية هذه المصالح على المفاسد المحتملة يتطلب التريث إلى غاية الكشف عن تلك المفاسد ودرجة خطورتها ومدى تسعيرتها الشرعية وخطورتها.
ثالثًا: مصالح تفعيل مبدأ الشورى في التأسيس لمكانة الإرادة العامة في الفكر السياسي الإسلامي
من القضايا المهمة التي تتطلب المراجعة الفقهية في الموروث السياسي الإسلامي؛ تهميش دور الأمة المحوري في ممارسة السلطة حيث تستبعد الأمة من مواقع الاختيار والقرار والمشاركة الفعلية، لدرجة انه توجد في بعض المراجع عبارات استصغارية لدورها في اتخاذ القرار، كنعتها بوصف العامّة والغوغاء والدهماء وأمثالها، رغم أن شرعية السلطة ورضا المحكومين عنهاجزء لا يتجزأ من مضمون “تطبيق الشريعة”(36).
ومن ثم فإن قضية الشرعية السياسية تعتبر مدخل مقاصدي مهم غاب عن بال فقهاء الدولة السلطانية، فنسوا أن الشرعية هي الطريق والضمانة إلى تطبيق الشريعة، بمعنى أن إقامة حكم ديمقراطي يحترم إرادة الأمة وحرية الفرد هو السبيل إلى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وقد فهم بعض رجال الفقه المعاصر أهمية الشرعية فقالوا بتقديم إقرار الحريات خاصة السياسية منها، على تطبيق الشريعة إيمانا منهم بأنه أهم جزء من هذا التطبيق(37)؛ فلن تقام أحكام الشريعة إلا إذا احتضنتها الغالبية من أبناء الشعب، وأصبحت تعبيرا إجرائيا عن إرادة أمة حرة، يلتزم بها جميع السياسيين طوعا وكرها؛ ولن ينجح مشروع سياسي لا يجعل حرية الإنسان وكرامته همه الأهم(38).
فالشورى قيمة أساسية في الحياة السياسية للأمة؛ وتنظيمها واجب في مواطن النـزاع ومظان الصراع تجنبا للفتن الحادثة للناس بقدر ما أحدثوا من فجور؛ ولهذا يسمي بعض الباحثين المعاصرين الحكومة الإسلامية بحكومة الشورى؛ وشريعتها بشريعة الشورى؛ تنبيها إلى أنها دولة الشورى والاستشارة معا؛ لما يقوم به أهل الشورى من مشاركة في تسيير شؤون السلطة من خلال عقد البيعة الدستورية(39)؛ فهم يشكلون بحق مؤسسة دستورية قرآنية قائمة بذاتها أوجبها الله عز وجل فقال: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ).
فالشورى نظام للحكم تستهدف استطلاع رأي الأمة أو من ينوب عنها في الأمور المتعلقة بها؛ انطلاقا من الاعتراف بمكانة الأمة في العملية السياسية باعتبارها صاحبة الحقّ في ممارسة القيادة السياسية والاجتماعية في المجتمع بتطبيق أحكام الله، وفقا للاستخلاف الربّاني، المستفاد من القاعدة القرآنية: (الّذينَ إن مَكّنّاهُم في الأرْضِ أقامُوا الصّلاةَ وآتوا الزّكاةَ وأمَرُوا بالمعروفِ ونَهُوا عن المُنْكَر)(40). مما يجعلها أصلا عظيما في الدين والعنصر الأساس الذي يعتمد عليه نظام الحكم في الإسلام فهي أساس التعبير عن الإرادة العامة للأمة(41).
وبهذا يكون للأمة في الفكر السياسي الإسلامي دوراً فعّالاً في الحياة السياسية وفق مبادئها ومصالحها العامّة. ومن خبر الصحابة في ممارستهم للشورى في اختيار الحاكم، أنّ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بقي يشاور ثلاثة أيام وأخبر أنّ النّاس لا يعدلون بعثمان، وأنه شاور حتى العذارى في خدورهنّ(42)، وقوله: (يا قَوْمِ اعبِدوا اللهَ ما لَكُمْ مِن إله غَيرِهِ هُوَ الّذي أنْشَأَكُم مِنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُم فيها) (43) فالخلافة عامة للناس يتم توكيلها إلى فئة متخصصة منهم لممارستها نيابة عنهم فهي بهذا المضمون علاج لمشكلة الاستبداد السياسي وآلية من آليات التعبير عن الحرية الدستورية؛ وهي النتيجة التي توصل إليها الكواكبي بعد دراسته لطبائع الاستبداد حيث نجده يقول: “قد تمحص عندي أن أصل الداء هو الاستبداد السياسي ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية(44).
فأهمية الشورى في نظام الحكم الإسلامي في كونها أصل من أصول الدين؛ ومقتضى من مقتضيات الاستخلاف؛ ومن ثم كانت الشورى العمود الفقري في سلطان الأمة ونهوضها بأمانة الحكم”(45) فمقاصد الشورى وروحها العامة كامنة في جعل أمر الأمة وولايتها بيدها؛ فتختار حاكمها عن اقتناع وتبايعه عن رضا؛ وتحاسبه وتراقبه بأمانة ودقة؛ وهذا ما يؤكد أن السلطة كامنة في الأمة ومنها تصعد إلى الرؤساء(46). ولهذا فلا يتحرج البعض من الفكر الإسلامي المعاصر في وصف الدولة الإسلامية بأنها دولة شورية تتوافق مع جوهر الديمقراطية(47)، نظرا لكون النظام الديمقراطي من هذا الجانب يمثل أفضل الأنظمة التي تمخض عنها تطور الفكر البشري؛ ومن ثم فلا يجب الالتفات إلى عيوبه من أجل رفضه لحساب الديكتاتورية لان حرية منقوصة خير من الاستبداد؛ كما أن مجتمعا محكوما بقانون ناقص؛ أفضل من مجتمع قانونه إرادة الطغاة وأهوائهم”(48).
وبالرغم من مركزية مبدأ الشورى في النظام السياسي الإسلامي إلا أنها لم تحظ بدراسات مقاصدية سوى ما ذكره بعض المفسرين من فوائدها(49)، كقولهم أنها طريق الوصول إلى الرأي الصواب والتدبير السديد؛ كما أنها طريق الخروج من الأهواء والمؤثرات الذاتية التي تتسلط على الحاكم؛ غير أن أعظم مقاصد الشورى على حد تعبير د. الريسوني منع الاستبداد والطغيان والانفراد بالأمر؛ فالشورى في مقصودها نقيض للاستبداد إذا حضرت غاب؛ وإذا غابت حضر؛ فالاستبداد داء والشورى وقاية ودواء؛ فهو يحمي الشعوب من استبداد حكامها كما يحمي الحكام من نـزعة الاستبداد كما قال تعالى واصفا فرعون: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ)(50) ومن مقاصدها أيضا إشاعة جو الحرية خاصة حرية التعبير عن الآراء من غير خنق للمعارضة؛ وحرية التفكير من غير حجر على العقول؛ فالشورى الحقيقية هي التي تعزز وتخدم الحريات السياسية.
ورغم أهمية هذه المقاصد إلا أن الفقه السياسي الإسلامي غير جازم حول مسألة مدى إلزامية الشورى وهل هي للإعلام أم للإلزام؛ وهي المسألة التي يترتب على الفصل فيها معرفة منـزلة قاعدة حكم الأغلبية، لأن القول بإلزامية الشورى هو قول مآله إلى الأخذ بمبدأ الأغلبية في التعبير عن الإرادة العامة.
وأمام هذا لم نعدم من كبار العلماء من قرر بصراحة ووضوح أن إخلال الإمام والسلطة بالشورى يعد مبررا كافيا لعزله، وهو رأي الإمام القرطبي، حيث يعتبر رائدا بالنسبة لما ساد في هذا الشأن في الفقه السياسي الشرعي؛ فلم يكن صلّى الله عليه وسلم يقطع برأي في الشأن السياسي إلاّ عن مشورة من أصحابه، وكثيرا ما كان يتصرّف بمقتضى رأيهم المخالف لرأيه، والتزم ذلك النهج الخلفاء الراشدون في عموم تصرّفاتهم، بحيث يتقرر معه أن الزمن الذي منح فيه الفقه السياسي لمنصب رئيس الدولة صلاحيات واسعة هو بداية الاستبداد والملك العضوض حيث نتج ذلك المستبد في الحكم دون مشورة الأمّة.
إن هذا التأصيل الشرعي لقضية تقييد سلطة الإمام بالشورى الملزمة يدفع إلى ضرورةالتأسيس لأن يكون إخلاله بالشورى سببا كافيا لعزله عن منصب الرئاسة، يقول ابن عطية في تفسيره المحرر الوجيز: “والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب”(51)، لأن في الاستبداد بالرأي مفسدة بل إن جل المفاسد التي تنشأ في ممارسة الحكم متأتية منه.
المطلب الثاني: أثر استعمال طرق التعبير عن الإرادة العامة في إحداث الفتنة وتهديد وحدة الأمة “مفاسد الإرادة العامة”
في مقابل المصالح المقررة والمرجوة من إعمال طرق التعبير عن الإرادة العامة من نشر للحرية وإقرار بحق الأمة في المشاركة السياسية في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاحتساب على الحكام خصوصا بعد ثبوت مقاصدية حفظ الحرية داخل المقاصد الشرعية؛ فإن هناك لدى الطرف المقابل تخوف من حصول مفاسد متوقعة أو محتملة تضر بالأمة ونظامها وتهدد وحدتها وبيضتها تجعل إطلاق المشروعية على وسائل التعبير عن الإرادة العامة محل شك وريبة في مدى جوازها استنادا لمخاطر المعتبر شرعا وجوب درئهاخصوصا مع إعمال قاعدة حفظ النظام.
الفرع الأول: مشروعية الثورات العربية بين الإقدام رفعا للظلم وبين الإحجام خوفا من الفتنة.
لقد تشعبت الأمور واختلط الحابل بالنابل على كثير من أبناء الأمة الإسلامية وعلى بعض فقهائها وأصبح الجميع يتطلع لإنقاذ الأمة من واقعها السيئ؛ سعيا للحصول على التغيير الإيجابي الذي يحقق لها المصالح ويدرأ عنها المفاسد، وفق معتقداتها وأخلاقها؛ لذا فقد اختلفت مدارس التغيير وانقسمت رؤى الإصلاح والتغيير السياسي وفق منهجين:
1- منهج الدعوة إلى التغيير عن طريق تغيير ما بالأنفس بالتربية والتزكية والمرحلية بدءا بمرحلة الدعوة ووصولا إلى مرحلة الدولة لقوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) وهم السواد الأعظم في كل زمان، منهم السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان.
2- منهج الدعوة إلى التغيير عن طريق تغيير الأنظمة القائمة بالمعارضة السياسية ومناكفة الأنظمة القائمة سلمياً، وإذا تطلب الأمر اللجوء إلى الثورة المسلحة والعصيان والاحتجاج وتطور الأمر ببعضهم إلى التكفير والتفجير، بل أجاز بعضهم الاستعانة بالكفار لإسقاط النظام؛ ومنهم من أفتى بحل سفك دماء بعض الحكام.
وبين المنهجين موافقات وفروق في مدى مشروعية اعتماد وسائل الاحتجاج والتظاهر على السلطة النظامية؛ ونطاق حاكمية الإرادة العامة في إطار حاكمية الشريعة؛ وما هي المصالح والمفاسد المحتملة إذا تم الاحتكام إلى منهج فقه الموازنات حيث يظهر الاختلاف حول تكييف الثورة الشعبية السلمية، هل هي خروج على الحاكم؟ أو هي مظاهرات سلمية؟ أو مظاهرات عنف؟ أو اعتصامات احتجاج؟ وبهذا يظهر أنَّ إشكالية التكييف، أحد أهم أسباب الخلاف الفقهي بين بعض العلماء في هذه النازلة(52).
أولا: مدى شرعية مقاومة السلطة الحاكمة وإسقاطها بالثورة في الفكر الإسلامي
تعتبر فكرة المقاومة المسلحة لعزل الإمام الطاغية والخروج على السلطة عند جنوحها إلى هاوية الاستبداد والطغيان واحدة من المسائل الفقهية التي دار حولها جدل كبير في موروثنا السياسي والدستوري، بعـد أن تحولت السلطة من خلافة راشدة إلى ملك عضوض؛ وقد تبلور هذا الخلاف الفقهي إلى نظرية سياسية يمكن تسميتها “نظرية الدفاع الشرعي العام”(53) فالخروج على الحاكمين، يعتبر جريمة كبرى تعرف بجريمة الحرابة عند بعضهم كما يعتبره البعض جهادًا واجبًا، ولقد عرف الفكر السياسي الإسلامي اتجاهين متضادين في مدى الخروج على السلطة مع علمهم بثبوت وصحة الأسانيد و الأدلة.
1 – القائلون بوجوب الخروج والمقاومة الإيجابية (نظرية الثورة)
وإلى هذا الرأي ذهبت الخوارج والمعتزلة والزيدية والكثير من المرجئة وبعض أهل السنـة، فعندهم أن الإمام الفاسق أو الجائر الذي لا يرضخ للعزل يتعين عزله بالقوة وبالثورة عليه إذا اقتضى الأمر ذلـك، وهو ما يسمى بالخروج نسبة إلى فرقة الخوارج في التاريخ الإسلامي(54)، وهو الرأي الذي يقول به أيضا ابن حزم، بل نقل أن هذا هو مذهب طوائف من أهل السنة وجميع المعتزلة والخوارج والزيدية، فالكل يذهب إلى أن سلّ السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، إذا لم يمكن دفع المنكر إلا بذلك، وهذا هو قول علي ابن أبي طالب، وكل من كان معه من الصحابة، وقول عائشة وطلحة والزبير وكل من كان معهم من الصحابة، وقول معاوية وعمرو بن العاص والنعمان بن بشير وكل من كان معهم من الصحابة، وكذلك هو قول جميع الذين خرجوا على الخلفاء الأمويين والعباسيين مثل الإمام الحسين وعبد الله بن الزبير -رضي الله عنهم- (55).
وظاهر من خلال هذه النقول التي أوردها ابن حزم القول مع ابن حجر: “إن مذهب السّيف مذهب للسلف قديم، ولكن استقر الأمر على ترك ذلك”(56). إذ أن منطق السيف الذي تعامل به الملك العضوض مع الرأي المخالف لتوجهاته الخارجة عن القيم الشرعية التي تؤمن بها الجماعة قد أدى إلى رد فعل مساو من حيث الوسيلة. وقدرجح الدكتور ضياء الدين الرّيس هذا الرأي قائلا هـو رأي أئمة الفقه وهذا نص قوله: “وهو الذي تدل عليه أقوال الفقهاء…، إما ناطق بذلك فتواه وإما فاعل لذلك بسل سيفه في إنكار ما رأوه منكرا”(57).
يقول الدكتور خالص جلبـي: “فالخوارج آمنوا بالثورة المسلحة لتغيير الحاكم المنحرف وهو ما تـفعله جماعة الإسلام السياسي في الوقت الحاضر حيث أحيت مذهب الخوارج من جديد، خلافا لمنهج الأنبياء الذين حرموا صناعة الحكم بالقوة المسلحة وبالعنف، فاللاشرعية لا تُزال باللاشرعية، والخطأ لا يزال بالخطأ بل يقوَّم بالعمل الصحيح، وهذا ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام الذي غيّر المجتمع بالفكر وسلميا، فحين فشل في إختراق مجتمع مكة والطائف نجح في نشر دعوته في أهل يثرب فلم يذهب إليهم بانقلاب عسكري بل خرجوا لاستقباله في مظاهرة ضخمة معلنين خضوع مجتمع المدينة للفكرة الجديدة دون سفك قطرة دم واحدة”(58).
ومع سلامة المقصد لأنصار هذا الاتجاه إلا أنهم قد جانبهم الصواب إما في الغاية أو في الوسيلة فكان سببا في حدوث الكثير من الفتن والاضطرابات والتي كان لها أثرها الكبير في ظهور الاتجاه الفقهي الداعي إلى الصبر والاكتفاء بالمعارضة السلبية(59).
2- القائلون بوجوب الصبر وعدم وجوب الخروج و الثورة (المقاومة السلبية) نظرية الصبر السياسي:
يرى أكثر رجال الحديث والمتأخرون من أهل السنة والجماعة أن الصبر على طاعة الإمام الطاغـيـة أولى من الخروج عليه(60)، من ثم فلا يجوز الخروج على السلطـة الـظالمة ومقاومتها بحد السيف ولو تعدت على حقوق الناس وارتكبت فسقا صريحا، وأن الذي يجوز فقط هو الإنكار باللسان(61)، ويعد الإمام أحمد بن حنبل من أشهر أعلام مدرسة الصبر السياسي، وتبعه في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: “إن المشهور من أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف؛ وإن كان فيهم ظلم، لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة؛ فيدفع أعظم الفسادين بالتزام الأدنى.
وبمراجعة سريعة للتاريخ وحياة الإمامين نعرف أن وقتهما كان في خضم الخطر التتري والمغولي وربما مصحوبا أيضا بالخطر الصليبـي على الأمة، فهذه المخاطر الخارجية الحقيقية التي هددت الدولة والحضارة؛ أدت إلى هذا الموقف المناهض للثورة(62) مع التمسك بالمقاومة السلبية، فلا يسقط حق تقويم الاعوجاج القائم بالتعريف والنصح، والتعنيف والاعتزال والامتناع وإسقاط حـقوق الحاكم في الطاعة والنصرة، وإسقاط السلطة بالوسائل السلمية(63)، وفقا لثلاثة مبادئ وضوابط(64):
أ- تحمل الضرر الأقل في سبيل دفع الضرر الأكثر، فإن ظهر أن بقاء الإمام الجائر فيه ضرر أكـثر من الخروج عليه فحينئذ يجب دفع الضرر الأكثر بالخروج عليه.
ب- الخروج على الإمام الجائر لا يعد بغيا؛ لأن البغي كما عرفه ابن خلدون وسائر الفقهاء بأنه “الخروج على الإمام الحق (العادل) بغير حق”، وبالتالي فإن الخروج على الإمام غير الحق لا يعد بغيا، فخروج الحسين لا يعد بغيا، بل أن ابن خلدون حكم على أنه شهيد مثاب.
ج- ليس معنى الصبر الرضا بأعمال الطاغية كيفما كانت بل يبقى واجب الأمر بالمعروف ولا يُزال بتاتا.
وأمام هذا التعارض بين أدلة مذهب الصبر وأدلة مذهب الخروج والثورة، خاصة وأن أدلة الفريقين كلها صحيحة الإسناد ومعروفة عند أقطاب الفريقين معا، ظهر رأي ثالث موازن يتقاطع مع الرأيين معا في مقاصدهما، يقضي مضمونه بالموازنة بين الأحوال والنظر في المآلات، فيجوز الخروج عند القدرة وأمن الفتنة إعمالا للأحاديث الداعية إلى الثورة متى تحققت الاستطاعة؛ويمنع إعمالا للأحاديث الداعية إلى الصبر والطاعة في الحالة التي لا يمكن الوثوق فيها من النصر والوصول إلى الأهداف المرجوة من الخروج أو الثورة، أي تنصرف أحكامها إلى حالة الضرورة(65).
هذا ما أجاب عليه أصحاب النظرية التوفيقية، ردا على دعوى ابن حزم بالنسخ على أساس أن أحاديث الثورة ناسخة لأحاديث الصبر،كونها موافـقة لمعهود الأصل؛ فأحاديث الثورة واردة بشريعة زائدة وهي القتال(66). فالنسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع بين هـذه الأحـاديث، وما دام أن الجمع بينهما ممكن لأن الأصل العام في تغيير المنكر بالقوة أنه مقيد بالاستطاعة والقدرة، وبذلك تكون أحاديث الصبر صالحة لحالة عدم الاستطاعة وخشية الفتنة، وأحاديث الخروج صالحة إذا تأكدت الأمة من أسباب النصر بأن تحققت لها القدرة على التغيير(67). فقالوا يجوز الخروج من حيث المبدأ ولكن ينبغي قبل الإقدام عليه التأكد من إمكان نجاح الثورة فأدلة الصبر تنصرف إلى حالة الضرورة، أما أدلة الخروج فهي مقيدة بالاستطاعة والقدرة(68).
وبعد هذا التحقيق في المسألة يمكن القول أنّه ليس في الفكر السياسي الإسلامي إلا مدرسة واحدة هي مدرسة فقه الموازنات بين المصالح والمفاسد، وهو ما لا يمكن إلا بوجود أهل الحل والعقد الذين يقدرون شرط التمكن والقدرة على التغيير، ويحققون المناط من خلال دراسة فقه الواقع والمتوقع، فإذا كانت نتائجها محتملة فيمنع سدا لذريعة انقسام الأمة وحفظا لحرمة الدماء، وأن ما قيل عن وجود اتجاهين متضادين فهو بحسب الظرف والعصر والبيئة والملابسات التاريخية والفهم الخاص لدلالات النصوص الشرعية وظروف إعمالها؛ وهي المدرسة التي تتماشى أصولها مع منهج فقه الموازنات كما سيفصل لاحقا.
ثانيا: التكييف الفقهي للثورات العربية في ضوء فقه الواقع:
من يتأمل الثورات العربية المعاصرة، ويراجع التاريخ السياسي للثورات الشعبية العالمية عموما، يجدها أوسع شأناً من المظاهرات والاحتجاجات الأخرى، كما يلاحظ بينها وبين غيرها فروقا، فهي انتفاضة شعبية عامة لا تمثل تياراً بعينه؛ كما أنَّها سلمية لا عسكرية، فلا سلاح فيها ولا شوكة، كما أنها عفوية وتلقائية ظهرت مفاجئة يعسر توقعها بدقة إن لم يكن غير ممكن، وكما وصفها د. سعد العتيبـي أنَّها مثل الثورات كالزلازل الخطيرة، لا يمكن التنبؤ بها قبل وقوعها في الغالب، كما لا يغني التحذير منها، ولا يصح الاكتفاء بالتفرج على آثارها، دون إنقاذ أو مساهمة في البناء(69). ومع ذلك فإنها تشترك مع باقي صور التعبير عن الإرادة العامة بواسطة الثورة المسلحة في أهدافها ومبرراتها حيث تستهدف إسقاط النظام والتغيير الجذري كما أن لها أسبابا رئيسة من أهمها تردي الأوضاع المعيشية وانتشار الظلم الاجتماعي ومصادرة الحقوق والحريات وغياب العدالة الاجتماعية(70).
1- شبهة إثارة الفتنة بسبب عدم انضباط أحداث الثورة:
في الواقع العربي مثلّت الثورة العربية في حقيقتها خروجا للشعب بمختلف أطيافه وفئاته إلى الميادين العامة بشكل سلمي، والاعتصام بها، كوسيلة للضغط على السلطة، وهو ما يعد فعلامشروعا بلا خلاف، من باب قوله تعالى: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا)(71). فللمظلوم أن يجهر بالقول السوء على من ظلمه، وأن يرفع مظالمه، وأن يتصدى لمن ظلمه، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (72) وقال: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(73).
يقول الريسوني: “ومفهوم الآية أن من ظلم جاز له أن يفعل ما لا يجوز لغير المظلوم فعله، وجاز له أن يقول وأن يرفع صوته وأن يعبر التعبير القوي الذي يبلغ ويوصل مظلوميته، فله أن يرفع من سقف احتجاجه، ومن سقف مقاومته للظلم”، ويضيف “فليس هناك حد لهذا الاحتجاج، بل هو الاحتجاج على الظلم، والاحتجاج بدون شك هو نوع من إنكار المنكر، ونوع من تغيير المنكر، وتغيير المنكر كما يقول العلماء من ضوابطه عند العلماء ألا يأتي بمنكر أكبر متوقع، يعني الإنسان قد يصل إلى نتائج غير متوقعة، وهذا لا يلام عليه أحد،… وهذا الاحتجاج يجوز” فمقصد الجهر بالسوء أمام كل ظالم حكمته توضيح عاقبة الظالمين وشناعة الظلم. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلاً تَقَاضَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَغْلَظَ لَهُ فَهَمّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: “دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالاً، وَاشْتَرُوا لَهُ بَعِيرًا فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ” وَقَالُوا: لاَ نَجِدُ إِلاَّ أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ، قَالَ: “اشْتَرُوهُ، فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ، فَإِنَّ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً”(74).
إن هذه الثورات هي ثورات ضد الظلم والطغيان والفساد، ونوع من التعاون على البر والتقوى، وعدم الركون إلى الظالمين (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)، فالواجب التعاون على البر والتقوى، والأخذ على يد الظالم، ونصرة من ثار عليه، كما أنها ثورة على حكومات خائنة للأمة، موالية لعدوها، عميلة له، وهذا في حد ذاته موجب لخلعها والثورة عليها، عند كل أمم الأرض مؤمنهم ومشركهم ووثنيهم، كما قال تعالى: (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)، وإنما اشترط الله لمشروعية السلطة أن تكون منا (وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)، وقد أسلمت هذه الأنظمة الأمة وأرضها وحقوقها ومصالحها للعدو يتصرف فيها كما يشاء، وقد تجلى ذلك في أوضح صوره في حرب غزة، وفي احتلال العراق، واحتلال أفغانستان، وهذه الخيانة للأمة ولشعوبها كافية وحدها في وجوب تغيير هذه الحكومات على فرض شرعيتها(75)!
ولا حجة لمن يرى أن الصبر على الظلم خير من مقاومته درءا للفتنة استشهادا بحوادث تاريخية جزئية دون إدراك خطورة الظلم ذاته؛ وأن ما يترتب عليه من نتائج أشد على المدى البعيد من الآثار السلبية التي تنتج عن مقاومته ومن ينظر في تاريخ الأمم يجد ذلك جليا واضحا، وكل الأمم اليوم التي تنعم بالحرية والعدالة الاجتماعية وحماية حقوق الإنسان لم يتحقق لها ذلك إلا بعد الثورة على الظلم ومقاومته ورفضها له؛ وهو ما عبر عنه ربعي بن عامر بقوله: (إن الله أخرجنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة) فلا يمكن تحقيق نهضة إصلاحية قبل تحرير الشعوب من الظلم والاستبداد(76).
2- الثورات العربية ليست خروجا مسلحا:
يعتبر البعض ما هو كائن في المنطقة العربية عمل غير مسبوق، وإبداع فكري جديد في تغيير نظام الحكم السياسي، فهو بمثابة الجهاد المدني وهو الخروج إلى الميادين العامة لأجل التظاهر والاعتصام سلميا إلى أن يسقط الاستبداد أو الفساد، حسب ظروف كل دولة عربية.
لقد استطاعت شعوب كثيرة تحقيق الإصلاح عن طريق الضغط السياسي السلمي والمطالبة بحقها في المشاركة في الحكم لتدير شئونها بنفسها، ولكنها ظاهرة جديدة في المشهد العربي تدخل في جملة الوسائل المؤدية إلى رفع الظلم(77).
ولهذا عدها بعض المقاصديين المعاصرين كالريسوني نازلة من النوازل الشرعية، حكمها الجواز مادام هناك سلم وعدم رفع للسلاح، بل تكون واجبا أحيانا، وخلافا لجمهرة العلماء الذين حرَّموا الثورة واعتبروها خروجا على الحاكم، يرى د. الريسوتي ود. عمارة ود. المطيري -ردا على المعارضين للثورات السلمية- أنهم لم يفهموا كلمة (الخروج) فالخروج هو ما يكون مسلحا، أما الثورات السلمية كما حدث في الدول العربية، فهذه لا تعد خروجا على الحاكم حتى ولو كان حاكما شرعيا، وذلك لأن أبا بكر الصديق الخليفة الأول قال في خطبته الأولى: “أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم”(78).
وبالتأمل في نتائج الثورة العربية المستهدفة يظهر أنَّ الثورات الشعبية غرضها التغيير- لا مجرد التعبير – في النظام الحاكم، فهي ليست مجرد مظاهرات جماعية أو نقابية أو نحوها، تخرج للتعبير عن مطالبها؛ بل هي عملية يتم من خلالها التغيير الجذري لنظام الحكم؛ وهذه نقطة مهمة جداً في التكييف الفقهي كونها غير مضبوطة مثلها مثل الثورة المسلحة، وهي بذلك معبرة عن إرادة الشعب التلقائية؛ بخلاف المظاهرات التي تبدأ عادة وفق قوانين تسمح بها، وقد تحمل تراخيص لتنفيذها، وعليه فإنَّ هذه الفروق وغيرها تجعل الثورة الشعبية السلمية، مسألة مستقلة بذاتها، تقع على نحو معين(79).
ومن ثم فإنَّ مصطلح الثورة الشعبية السلمية يتطلب تكييفا مختلفا عن غيرها من وسائل التعبير عن الرأي المعروفة عالميا.. فهي في الحقيقة من نوازل هذا العصر التي يعسر إلحاقها بحكم بعينه من الأحكام الفقهية المعتادة؛ ففي ظل الثورة العارمة، وفي ظل عدم التأكد من المصالح المرجوة وفي ظل خطر التدخل الدولي باسم حماية حقوق الإنسان وحقوق الأقليات؛ ينبغي أن يدرك الثائرون ومنظرو الثورة – إن وجدوا- أنَّ لحظة الانتصار قد تكون هي ذاتها لحظة الخطر الأكبر والمفسدة الأعظم كما حصل في ليبيا ويكاد يقع في سوريا، إذ هي محل للتدخل الدولي بحجة حماية المستضعفين، في ظل عدم وجود ضمانات قوية(80).
ونفى د. محمد عمارة ما جاء على لسان بعض العلماء من تحريم الثورة بزعم أنها خروج على الحاكم، مؤكدًا أن هؤلاء الحكام ليسوا حكامًا شرعيين ولم يأتوا بإرادة الشعب ولم يحكموا بشرع الله والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأَمْرِ مِنْكُم). فجاء مصطلح (أولى الأمر) كما يشير الدكتور عمارة في مرتين فقط في القرآن الكريم وجاء بصيغة الجمع ولم يأت مصطلح «ولى الأمر»، كما أن لفظ (منكم) يعبر عن شرعية الأمة وعن هوية الأمة وكيانها. ومن ثم فإن أي حاكم ليس من الأمة ولا يمثل هوية الأمة ولم يأت بالشورى والتي هي العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم فلا شرعية له، وفى تاريخنا الإسلامي والسياسي يسمى حاكما متغلبا أو “حكومات التغلب” وهى حكومات لا شرعية لها(81).
أما الخروج الذي حرَّمه العلماء فهو الخروج المسلح من فئة تفتات على الأمة وتخرق إرادتها؛ لذلك عُرِف الخوارج في التاريخ الإسلامي بهذا الاسم؛ لأنه هـو الاسـم الموافق للحال الـذي كـانوا عليــه وهـو الحـــرب المسـلحة على الحكـام، ولا بد – لكي يكون خروجاً – أن يتحقق فيه معنى الخروج على الجماعة؛ لأن الخروج على الحكام هو في حقيقته خروج على الجماعة وغصب لأمرها قبل أن يكون خروجاً على الحكام؛ لذلك جاء في بعض الأحاديث ذكر الجماعة للتعبير عن السلطان الذي لا يصح الخروج عليه، مثلما ورد عن ابن عباسٍ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئاً فَكَرِهَهُ فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ شِبْراً فَيَمُوتُ، إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»(82)، ومن هنا فان هذه الثورات العربية ليست من الخروج في شيء -كما هو قول جمهور العلماء المعاصرين- بالنظر إلى اندلاعها، فقد تميّزت بـ:
1- سلمية الوسائل المستعملة في الثورات: حيث كانت سلمية غير داعية إلى العنف، ولم يحمل أصحابها السلاح ابتداء، وإنما اضطر بعضهم لحمل السلاح دفاعا عن أنفسهم وأعراضهم.
2- عمومية الأفراد المشاركون في الثورة: فلم تكن متحيزة بخروج شخص له أتباع أو طائفة؛ بل ثورة أمة.
3- شرعية مطالب الثورة: فهي ثورة على الظلم المحرم شرعا، من أجل إقامة العدل الواجب شرعا، كما في قوله تعالى: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ)، وهي ثورة على الفساد المحرم شرعا، من أجل تحقيق الإصلاح الواجب شرعا، فعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لاَ يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ”(83). وهي ثورة على الجوع والفقر والخوف، من أجل تأمين العيش والحياة الكريمة، وهي ثورة على الذل والمهانة والعار الذي لحق بالشعوب العربية؛ فثارت على حكوماتها بعد أن فقدت شرعيتها ومشروعية وجودها.
ولذلك فإن الذي ترجَّح للعلماء هو أن هذه الثورات أقرب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منها للخروج، ولا يخرجها عن هذا الأصل بعض الخروقات والمخالفات الشرعية؛ فإن المخالفات الشرعية قد تقع في جهاد العدو الكافر ولا تمنع شرعيته(84).
وبناء على ما سبق فالثورة العربية المعاصرة ثورة إسلامية في وسائلها وأهدافها، وهذا ما نوّه به بيان الأزهر الشريف الصادر بتاريخ 3 ذي الحجة 1432هـ موافق لـ 30 أكتوبر 2011م، الذي اعتبرها انتصارا لحق الأمة في تقرير مصيرها، باعتبارها كما جاء في البيان “مصدر السلطات جميعا، وهي مانحة الشرعية وسالبتها عند الضرورة”(85).
والخلاصة من هذا كله أن هذه الثورات السلمية الشعبية التي يقوم بها المسلمون في العالم العربي اليوم ثورات مشروعة، بل هي من الجهاد في سبيل الله، فكما شرع الله الجهاد لحفظ الدين، شرعه كذلك لحفظ الدنيا ولحفظ حقوق العباد ومصالحهم وهذا من الدين أيضا.. فثبت أنها ثورة عربية إسلامية شرعية في أسبابها وغاياتها وممارساتها، وهي في أول طريقها، والواجب على علماء الأمة ومفكريها ترشيدها وتوجيهها حتى تستكمل الثورة عناصر نجاحها ولو بعد سنين(86).
لأن الوسائل والأساليب والأدوات ليست توقيفية؛ فالثورات والمظاهرات والاحتجاجات الجماعية والاعتصامات والإضرابات وما شابه ذلك وسائل وأدوات للتعبير أو التغيير أو الإنكار أو الضغط على المسؤولين لتحقيق مطالب عادلة، ولم يقل أحد بأن الوسائل والأدوات توقيفية؛ وإلا لكان ذلك حاكماً بتوقف عجلة الحياة، ومحال أن يكون هذا العِوَج في دين الله؛ وإنما الوضع الصحيح لها أنها اجتهادية، يشتَرَط لجوازها شرطان: الأول: ألا تصادم حكماً شرعيا، والثاني: أن تكون محقِّقَة للمصلحة في غلبة الظن؛ ولو سلمنا جدلا بأن في الثورة فتنة؛ فإن في بقاء النظم المستبدة الجائرة فتنة أشد وأفحش وأدوم(87).
والتكييف الصحيح للثورات هو أنها شكل من أشكال ممارسة الأمة لسلطانها في التولية والعزل والمحاسبة والمراقبة، والصورة المثلى التي تمارس الأمة بها هذا السلطان هو قيام أهل الحل والعقد بممارسة ذلك نيابة عن الأمة، فإذا لم يكن لهيئة أهل الحل والعقد وجود أو لم يكن لهم اجتماع ولا رابطة فإن الأمة لا سبيل إلى ممارستها هذا السلطان إلا أن تمارسه بنفسها بلا إنابة ولا تمثيل؛ لأن الأصيل أحق بممارسة حقه من الوكيل، وممارستها بنفسها تكون بسوادها الأعظم؛ لأن الجماعة هي السواد الأعظم(88)..
الفرع الثاني: التحقيق في مدى اعتبار مفاسد إعمال التعبير عن الإرادة العامة عن طريق الثورة في ميزان الشريعة.
مما سبق يتبيّن كيف أسس المانعون لأسلوب الثورة المسلحة في التغيير السياسي على مصلحة حفظ نظام الأمة وعدم إثارة الفتنة والحفاظ على وحدتها مرهوبة الجانب قوية في منظار أعدائها؛ وهي مفاسد معتبرة شرعا ولكنها تحتاج إلى تحقيق في موازنتها بمصالح التعبير عن الإرادة العامة السابقة.
أولا: مفسدة اختلال وحدة الأمة:
من مقاصد الشريعة توخي تحقيق الوحدة الإسلامية، ولا شك أنَّ هذا المفهوم مقتبس من توحيد الله عز وجل، وأن هذه الأمَّة أمَة توحيد واتحاد، كما في قوله تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِِ)(89)، وفي آية أخرى: (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)(90)، ورغم أهمية مقصد الوحدة إلا أنه ظل غائبا عن منظومة الأحكام السلطانية، إذ لا يوجد في حدود المراجع المستقرأة من القدامى أومن المعاصرين من نبه صراحة إلى مقصد الشريعة في أن تتحول الدولة أو الأمة الإسلامية إلى قوة عظمى، مثلما فعل المفكر ابن عاشور رحمه اللَّه فقد عقد فصلاً خاصا في كتابه «مقاصد الشريعة» عنونه بـ “مقصد الشريعة من نظام الأمة أن تكون قوية مرهوبة الجانب مطمئنة البال”(91)؛ وقد عبر عن ذلك في موضع آخر بـ “انتظام أمر الأمة وجلب الصالح إليها، ودفع الضر والفساد عنها”.
ثانيا: مفسدة الخوف من وقوع الفتنة:
ولعل من أعظم الأسباب التي يرتكز عليها كثير من الفقهاء في القول بعدم مشروعية طرق التعبير عن الإرادة العامة بواسطة الاحتجاج والتظاهر والثورات السلمية، التخوف من وقوع الفتنة باعتبارها في الميزان القرآني أشد من القتل؛ ذلك أن إسقاط أي سلطة سيترتب عليه قيام حرب أهلية ومواجهات عسكرية تستحل فيها الدماء ويختل معها أي نظام، ومن ثم كانت قاعدة نصب الإمام وطاعته(92)، مهما كانت الأحوال، تجنبا للفتن السياسية من أمهات المسائل في الفقه السياسي السني خوفا من حالةما يعرف في القانون الدستوري بالفراغ الدستوري؛ وعلى هذا يتفق أهل الملة باستثناء النجدات من الخوارج- على ما نقله ابن حزم- على وجوب إقامة الإمامة، وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيها أحكام الله ويسوسها بأحكام الشريعة؛ لأن في إقامة هذا النظام جلبًا للمصالح الشرعية العامة ودفعًا للمفاسد المنهي عنها، وهذا لا يتحقق إلا في ظل مجتمع سياسي منظم تقوده سلطة قائمة على المنعة والقوة التي تمكنها من حفظ كيان الأمة واستقامة أمرها واستتباب الأمن فيها وإقامة العدل الشامل بين أبنائها صونا للنفوس والأموال والأعراض(93).
وهو الأمر الذي دفع بفقهاء السياسة الشرعية كالماوردي؛ والجويني وابن خلدون إلى تجويز “إمارة التغلب” ولو من غير بيعة ولا شرعية، وأحيانا من غير مشروعية لتصرفاته حفاظا على مصلحة عليا هي حفظ نظام الأمة من شرور الفتنة النائمة.
وقد برروا ذلك بقيام حالة الضرورة وخوف الفتنة، ولذلك فهم مجمعون على التساهل في أمر العدالة صغراها وكبراها، ويجيزون إمامة الفاسق المتغلب للمصلحة المرسلة؛ وفي ذلك يقول النووي: “الإمام لا ينعزل بالفسق على الصحيح”؛ ويقول الزركشي: “لا تبطل ولاية الإمام الأعظم بالفسق لتعلق المصالح الكلية بولايته، بل تجوز تولية الفاسق ابتداء إذا دعت إليها ضرورة”(94).
وإلى ذلك أيضا يذهب بدر الدين بن جماعة حين يرى أن كل من تصدى للإمامة وليس من أهلها، وقهر الناس بشوكته وجنوده، بغير بيعة واستخلاف، كان إماما شرعيا لزمت طاعته، ولا يقدح في إمامته كونه فاسقا أو جاهلا. وإذا انعقدت الإمامة بالشوكة والغلبة لواحد ثم قام آخر فغلب الأول، انعزل الأول وصار الثاني إماما. وهذا النظام مشابه لظاهرة الانقلابات العسكرية والوثوب على السلطة بالشوكة على قاعدة “الإمامة للمتغلب”، وهو ما له أصل لدى الحنابلة بروايتهم على ما ذكر الفراء في مقدمة أحكامه السلطانية “الجمعة مع من غلب”؛ وكذلك الإمام النووي، يقول: “إذا ثبتت الإمامة بالقهر والغلبة فجاء آخر فقهره انعزل الأول وصار الثاني إماما”(95).
وبذلك يظهر أن الفقهاء والمتكلمين وإنْ أطنبوا في تفصيل شرائط الإمامة وصفات الخليفة، قد ألغوا في المجال الواقعي كل تلك الشروط والصفات عندما أقروا إمامة الغلبة والقهر.
إن استقراء أحداث التاريخ الإسلامي، والفتاوى السياسية للفقهاء، يكشف بوضوح أن أساس الحكم واقع عملي وفكر سياسي، وكان لديهم هو الغلبة والقهر، خوفا من فتنة إذا بويع لإمامين فاقتلوا الثاني منهما”، وكان في مقدمة من قال بهذا كل من الماوردي والغزالي والتفتازاني وابن حزم؛ ولعل في هذا ما يعد تأصيلا لأهمية حفظ النظام العام في الشريعة الإسلامية وأولويته في منظومة مقاصد الشريعة.
إذ رغم أهمية ومحورية هذه القاعدة إلا أنهابقيت مرسلة إرسال المسلّمات؛ ولم تشغل بال الفقهاء وعلماء الأصول والمقاصد كما شغلتهم سائر القواعد الفقهية والأصولية والمقاصدية من حيث تأصيلها و مجالات استثمارها وبيان مستندها(96).
وغير أن من الجدير بالإشارة التنبيه إلى ما ذكره د. الريسوني بتقريره انه ليس كل نـزاع أو اضطراب أو صراع أو قتال يعد فتنة، وإلا لبطل الجهاد وبطل تغيير المنكر باليد، وحتى باللسان، “ذلك أن مناهضة المفاسد والمظالم والانحرافات، إذا ما استفحلت واطردت، ولم ينفع معها نصح ولا صبر، قد تتطلب إسقاط شرعية الحاكم وإعلان خلعه وتنحيه، وأن ذلك ليس من باب الفتنة، بل هو من باب دفع الفتنة وقطع دابرها”(97).
ثالثا: مفسدة الخوف من العدو وضعف هيبة الدولة أمام العدو:
أكثر الفقهاء القدامى والمحدثون من الحديث عن حوزة الإسلام وبيضته كمجاز عن أمته، حيث شبهت ببيضة الطائر في حرص وليّها على حفظها وهو بمعنى الأمن القومي بلغة العصر، وقد عرفّها العلامة ابن عاشور بقوله: “حدود بلاده (أي الإسلام) ونواحيها لأنها في حوزته وملكه وبيضة الإسلام، فالدفاع عن الحوزة وحماية البيضة هو حفظ الأمة الإسلامية من اعتداء عدّوها عليها، وحفظ بلاد الإسلام من أن ينتزع عدّوها قطعة منها، أو يتسرّب إليها. وهذا الدفاع من أوّل أعمال الحكومة الإسلامية…”(98).
ويدرج ابن عاشور مسألة حفظ البيضة أو الأمن القومي ضمن المقصد العام لحفظ الدين بالنسبة لعموم الأمة، بمعنى دفع كل ما من شأنه أن ينقض أصول الدين القطعية، ويدخل في ذلك حماية البيضة والذب عن الحوزة الإسلامية، بإبقاء وسائل تلقّي الدين من الأمة حاضرها وآتيها. وفي موطن آخر يقول بأن: “المصلحة العامة لجميع الأمة قليلة الأمثلة، وهي مثل حفظ البيضة، وحفظ الجماعة من التفرّق، وحفظ الدين من الزوال، وحماية الحرمين مكة والمدينة من أن يقعا في أيدي غير المسلمين ونحو ذلك ممّا صلاحه وفساده يتناول جميع الأمة وكل فرد منها…». أمّا الإمام بدر الدين بن جماعة فقد أضاف في كتابه: “تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام” بأن اتخاذ الأجناد وحماية الثغور من أهم المصالح وعزم الأمور، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ)، وفي الجملة فإن ابن جماعة يعلل من جملة ما يعلل به وجوب تنصيب الإمام على المسلمين، لحفظ البيضة وإقامة الأمن القومي الإسلامي.
ويعتبر الفقهاء أن أوّل حقوق الرعية على إمامهم هو حفظ الأمن الداخلي عبر ردع المفسدين وقطاع الطرق والسرّاق ونحوهم، والأمن الخارجي الذي هو حفظ البيضة وحماية ثغور الإسلام(99). وقد عبّر عن هذه الواجبات أبو المعالي الجويني في كتابه الأشهر “غياث الأمم عند التياث الظلم” بأن من واجبات الإمام تجاه الثغور والحدود من أهم الأمور؛ وذلك بأن يحصنّ أساس الحصون والقلاع ويستذخر لها بذخائر الأطعمة ومستنقعات المياه واحتفار الخنادق وضروب الوثائق وإعداد الأسلحة والعتاد وآلات الصدّ والدفع، ويرتب في كل ثغر من الرجال ما يليق به، ولا ينبغي أن يكثروا فيجوعوا أو يقلوا فيضيعوا”.
أمّا على المستوى الداخلي فإن من واجبات الإمام (أو الدولة بلغة العصر): “أمن أهل الإقامة والأسفار من الأخطار والأغرار فإذا اضطربت الطرق وانقطع الرفاق، وانحصر الناس في البلاد، وظهرت دواعي الفساد، ترتب عليه غلاء الأسعار وخراب الديار وهواجس الخطوب الكبار، فالأمن والعافية قاعدتا النعم كلها، ولا يُهنأ بشيء منها دونها… فلينهض الإمام لهذا المهم”(100).
المبحث الثاني
الموازنة بين المصالح المتوقعة
من التعبير عن الإرادة العامة
والمفاسد المحتملة
مما سبق بيانه في المبحث الأول يظهر أن جلّ مصالح التعبير عن الإرادة العامة من أصغرها إلى أعظمها تدور حول تحقيق مصلحة شرعية معتبرة يمكن التعبير عنها بمقصد حفظ الحرية كمقصد ضروري من مقاصد الشريعة التي يجب على الدولة أن تكفلها للجميع.
كما أن مفاسدها من قليلها وكثيرها تنحصر في درء مفسدة واجب شرعا دفعها وهي خشية اختلال نظام الأمة، حيث يعتبر حفظ النظام العام للأمة من مختلف مصادر التهديد والاختلال التي تؤدي إلى الفوضى والاضطراب والفتنة من مقاصد التشريع الإسلامي.
وبينهما يقف الفكر الإسلامي موازنا بين مقصد حفظ الحرية المرجو تحقيقه من وراء الثورة السلمية، وبين مقصد حفظ النظام المطلوب استتبابه من وراء منع صور وأشكال التعبير عن الإرادة العامة خشية الفتنة.
وهنا تظهر أهمية فقه الموازنات باعتباره من الأسس المهمة المرتبطة بفقه الترجيح بينهما من خلال البحث عن قيمة كل منهما في ميزان مقاصد الشريعة الإسلامية، ثم إحداث مقارنة بين المنافع والأضرار عند تقديم أحدهما وتأخير ثانيهما؛ فضلا عن دراسة فقه الواقع والمتوقع ومعرفة معظم المسائل التي قد تؤول إليها، فإن ضبط فقه الموازنات يعين الفقهاء على تحديد الأولويات.
ولما كان فقه الموازنات يصعب على العوام وأمثالهم، فإن مسألة التعبير عن الإرادة العامة أو ما يعرف بسيادة الأمة أو الثورة السلمية تمثل أهم النوازل المعاصرة؛ فهي تحتاج إلى أهل الاختصاص، فإن إعمال منهج الموازنات الشرعية في الترجيح والتقريب والتغليب؛ وما يتطلبه من إقرار بتفاضل الأعمال ومعرفة أحقها بالتقديم وأحقها بالترجيح عند التزاحم، يكون عاملا حاسما في الوصول إلى سلامة النتائج.
وهذه الموازنة الترجيحية عملية صعبة ليست بيسيرة خاصة في هذا الزمان لتداخل المصالح والمفاسد واختلاطها واشتباه الواقع بالمتوقع والعكس، وللاختلاف في الرؤى المستقبلية، يقول ابن تيمية: “هذا باب واسع جدا، لاسيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة البنوة فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم وأقوام ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمنت سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات ويرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون ينظرون للأمرين وقد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة، أو يتبين لهم ولا يجدون من يعينهم على العمل بالحسنات وترك السيئات لكون الأهواء قارنت الآراء، فينبغي للعالِم أن يتدبر أنواع هذه المسائل”. من هنا كان علينا أن نبحث عن الصورة التي عاشتها التجربة الإسلامية في أزهي عصورها مستلهمين منها القيم والمبادئ في صورتها العملية لحاضرنا المتعسر عن تحقيق السبل لحماية الحقوق السياسية للشعوب.
المطلب الأول: إشكالية الموازنة بين مقصد حفظ نظام الأمة عند دعاة منع الثورة ومقصد حماية الحرية عند دعاة الثورة
في عمق التاريخ الإنساني صراع طويل بين السلطة والحرية بين مد وجزر؛ شهدت خلاله البشرية ضروبا من الصراعات والثورات المريرة والطويلة؛ بحثا عن الصالح العام المشترك؛ فالسلطة تبرر وجودها بحفظ نظام الأمة ووحدتها، والحرية يناضل روّادها في تحقيق المزيد من الحريات العامة وضمانات لحمايتها؛ وهي المعادلة التي قلما يستطيع المشرع غير المعصوم من موازنتها؛ خاصة أيام الفتن السياسية والأمنية.
ومن هذا المنطلق دخل التعسف في تسخير فكرة حفظ نظام الأمة لترجيح وتغليب كفة السلطة على الحرية، فقد سخرت هذه الفكرة كمصدر لامتيازات السلطة لتصفية معارضي النظام؛ بدعوى اشتباههم وخطورتهم على المثل العليا وقيم الجماعة الأساسية؛ وهذا ما جعلها مصبوغة عند بعض الفقه بالصبغة السياسية؛ ولهذا لا يثير لفظ “النظام” -رغم أهميته – حماس المحكومين لعلمهم أن هذا المصطلح غالبا ما اتخذ مطية للطغاة في انتهاك الحريات، وذريعة يتأسس عليها الحكام للتضييق على الأفراد على حد تعبير د. داود الباز.
الفرع الأول: موازنة رتبة ودرجة حفظ الحرية مقارنة برتبة ودرجة حفظ النظام في الشريعة:
تقتضي الموازنة الحقيقية معرفة القيمة الشرعية لكل من الحرية والنظام حتى يمكن الجمع أو الترجيح بينهما؛ ومن هنا يمثل حفظ النظام في المجتمع شرطًا جوهريًا وضمانة أساسية لممارسة الأفراد لحقوقهم الفردية وحرياتهم العامة؛ ويظهر التلازم بينهما في كون أن مقاصد فكرة النظام العام ترمي في حقيقتها إلى توفير المناخ المناسب لممارسة جميع الأفراد لحرياتهم؛ مما يعني أن الحرية هي الأصل والنظام العام هو الاستثناء؛ فلا يجوز التضحية بالحرية التي هي غاية بدعوى متطلبات حفظ النظام التي هي وسيلة، مما يجعلها بحق أمانة يجب على السلطة النظامية أداؤها إلى أصحابها؛ بل أن بعض الحريات هي تكليف وواجب يجب أن يمارس ممارسة إيجابية بإتيان الأمر واجتناب النهي.
أولا: قيمة حفظ الحرية كهدف من التعبير عن الإرادة العامة في ميزان مقاصد الشريعة الإسلامية:
الحرية من أشرف مقاصد كلمة التوحيد لا إله إلا الله، فالعبودية إنما هي لله ثم الخلق بعد ذلك أحرار مع من سواه، فالخضوع والطاعة والرغبة والرهبة هي لله وحده الذي له الخلق والملك والأمر والحكم كما قال تعالى: (وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ)، وقد فسر النّبي عليه الصلاة والسلام معنى الربوبية هنا بطاعة الرؤساء والأحبار والرهبان والخضوع لهم وجاء في الحديث “إنما السّيد الله” فهو الذي له السيادة المطلقة، وليس للخلق على بعضهم سيادة ولا طاعة ولا خضوع إلا بإذن الله وهذا هو معنى قاعدة: (الأصل في الإنسان الحرية) المقررة في الشريعة.
ومما يؤكد عناية الشريعة بحرية الإنسان وتحريره من كل أشكال العبودية لغير الله كلمة عمر الخالدة دفاعا عن قبطي مسيحي ظلمه بعض الأمراء (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا)، فسمى عمر الظلم استعبادا مع أن القبطي لم يكن عبدا ولا رقيقا بل كان حرا إلا أن استذلاله وظلمه استعباد معنوي له؛ وقد جعل الإسلام الحرية بجميع أشكالها حقا محفوظا بل واجبا مفروضا، فقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار في العقبة قبل الهجرة على (أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم)، وقال في شأن يهودي انتقد النبي صلى الله عليه وسلم علانية (دعوه فإن لصاحب الحق مقالا) ليؤكد بذلك مبدأ حرية الكلمة وحرية نقد السلطة(101).
وعليه يعد الإسلام ثورة تحررية شاملة على الطواغيت والظلمة تحريرا لإرادة الإنسان من كل عبودية لغير الله؛ وما كان للإنسان ليصل إلى حريته لولا نـزول الوحي؛ وأنه لم يخلق حرا وإنما ليكون حرا. فهي غاية مقصودة يجب أن تستهدفها وسائل التعبير عن الإرادة العامة.
1- منـزلة الحرية في نظام الحكم الإسلامي:
لقد كانت ولا زالت الحريةأثقل عبئا على الظالمين والجبابرة والمخادعين؛ إذ ما فتئ هؤلاء منذ أقدم العصور يبتكرون الحيل للضغط على الحريات وتضييقها أو خنقها، واستعانوا على ذلك برسوم وثنية ابتدعوها ونسبوها إلى الآلهة ليكمموا الأفواه عن الشكاية والضجيج.
كما لا تزال الحرية هي مفتاح الحل لكثير من المشكلات التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية المعاصرة، والتي لن تجد لها حلاً إلا بأن تستعيد الأمة الولاية على نفسها، وتمتلك وسائل التعبير عن حريتها، حيث تفرض الشريعة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يتجسد عمليا في أحد أبعاده فعلا سياسيا، فتحقيق المعروف ومنع المنكر ليس دعوة فحسب، بل تدافع اجتماعي وسياسي.
فصفحات التاريخ شاهدة بفصيح اللسان وصريح البيان أن الحرية كقيمة شورية هي معيار قياس درجة التقدم أو الانحطاط، فان الأولوية في إقامة المشروع الإسلامي ستكون لها، يقول الكواكبي في طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد أنه: “بعد ثلاثين عاما تمحص عندي أن أصل الداء هو الاستبداد السياسي ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية”، ولهذا نجده ينعى على الفقهاء عدم الاهتمام بقيمة الحرية دفعا لداء الاستعباد، مطالبا إياهم بالخروج من فقه الأفراد إلى فقه الجماعات، فلو قال الفقهاء في تعريف المساكين وفي الرقاب كأحد المصارف الثمانية التي تصرف لهم بأنهم هم عبيد الاستبداد لشمل ذلك الرق الأكبر.
لقد أدت عوامل كثيرةإلى انكشاف عورة بنية الدولة السلطانية الاستبدادية مما ساهم في إحداث نوع من الوعي بداء الاستبداد إلى الوعي بضرورة تقرير الحريات العامة؛ ويمكن الاسترشاد على ما تقرر بما صاغه الإمام الكواكبي في كتاب طبائع الاستبداد الذي صدر في سنة 1900م حيث جاء فيه بنظرات جريئة أبرزها صياغته لمصطلح الاستبداد الديني(102) واعتبار هذا الأخير مدخلاً للاستبداد السياسي؛ فقد تحدث بإسهاب عن شعبتين متآلفتين يقوم عليهما الاستبداد: شعبة الاستبداد الديني وشعبة الاستبداد السياسي؛ وما تمخض عن ذلك من تبرير للدولة السلطانية المهيمنة على الرعية المحكومة بسيف الدين المسخر لخدمة السلطان؛ فضاعت بذلك قيمة الحرية.
والمجتمع الحر تزدهر فيه الإرادة العامة وتتنوع طرق التعبير عنها؛ ونحن إذا قسنا ذلك على مجتمع المدينة المنورة الذي تكوّن بعد هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام نجده الأنموذج الأول الذي عبر عن وصول جماعة بشرية إلى مستوى الولاية على نفسها، وفي هذا النموذج كانت الحرية هي القيمة المحورية التي ارتكز عليها المجتمع لبلوغ مستوى الولاية على نفسه(103).
ومن ثم عد الإسلام ثورة تحررية ضد المعبودات البشرية؛ وقد لا نكون بحاجة إلى التأكيد بأن حقوق الإنسان في الإسلام إنما شرعت بأصل الخلق، ولم تأت ثمرة لمعاناة أو مظاهرات أو صراعات بين الحاكم والمحكوم، أو ثمرة للثورات والحروب، فانتزعت انتزاعًا، وإنما هي مقاصد الدين وغاياته العليا، ورسالة النبوة التاريخية، وعلى دروب إخراج الناس من تعبيد بعضهم لبعض جاء الأنبياء والمرسلون والمصلحون لتقرير أولوية الحرية في الإصلاح والتغيير السياسي.
ومن هنا يمكن تقرير أن لحظة الانقلاب على جوهر الإسلام وبداية سلسلة التراجعات في المجال الدستوري والسياسي – خصوصا فيما يخص النظرية العامة للحريات العامة وبناء الحكم الراشد – يعود إلى اللحظة التي قرر فيها الفقهاء والمتكلمون تجاهل مفهوم العدل والشورى في الإسلام، مما أنتج فقها سياسيا مكرسا لمصادرة حق الأفراد في المشاركة السياسية ومهمشا لدور الشورى الملزمة للحاكم(104).
فعزوف الحكام عن تحصيل الرضا الجماعي عن طريق البيعة؛ قابله تجاهل الفقهاء عن تناول مباحث الرضا الشعبي وطرق تحصيل شرعية الحكم، وتحديد صاحب السيادة والمالك الحقيقي لها؛ كما أن تخلي ولاة الأمر عن فضيلة المشاورة واستقبال وجوه الآراء، قابله تجاهل الفقهاء لمباحث الحرية والحقوق العامة والمشاركة الشعبية من التنظير الفقهي، فلم نجد لهم بيانا شافيا وكافيا لطرق التعبير عن الإرادة العامة في الفقه السياسي الإسلامي؛ فلا يمكن التعرّف على رأي الأمة وتحقيق مبدأ الشورى في المجتمعات المعاصرة بغير طريقة الانتخاب العام؛ إذ إنها الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تظهر عن طريقها مزايا المرشحين، ويُترك بعدها للشعب حق الاختيار.
لقد تمخضت هذه الممارسات في المشهد الإسلامي العام عن تغييب فقه الحرية، وليت ضررها توقف عند تعطيل إمكانية محاسبة الحُكام وفقط؛ أو حتى تعطيل قدرة الفرد على ممارسة الحرية ومزاولة الأنشطة السياسية بحرية وطلاقة فقط، بل عطلوا إمكانية ولادة عقل سياسي ديني قادر على إنماء فكر سياسي اجتهادي، وتقاليد سياسية ثابتة، تُرسخ فعل المشاركة، وتقر بأصالة الحرية، وتمنع أي اعتداء أو تطاول عليها.
للأسف كان المستفيد من كل ذلك هو الاستبداد الذي جعلنا في مؤخرة قافلة دعاة الحرية الإنسانية، ومن ثم لم تعتبر الحضارة الغربية تراثنا السياسي والعمراني في فن الحكم والتحضر في عداد مصادر فقه العمران وحماية حقوق الإنسان وحرياته العامة، فكل ما يمتلكه المسلمون في الوقت الراهن من زاد الحرية كالانتخاب والرأي العام وحرية التعبير وحق مساءلة السلطة والتداول عليها وأحكام الرقابة القضائية عليها هو بالنسبة إليهم في حقيقته من فضل مائدة الغرب وليس من صميم موائدهم.
2- مقاصدية الحرية:
باعتبار أن حقوق الإنسان وحرياته العامة هي فروع عن نظرية المقاصد الشرعية التي خطها الإمام الشاطبي في رائعته الموافقات، والتي حظيت بقبول وتزكية لدى الفكر الإسلامي المعاصر، فإنها تنـزل منـزلة المقاصد في التصور الإسلامي، فلا غرابة من أن يتلقى المعاصرون الحرية كمقصد عام للشريعة ويولوه عنايتهم في تقرير حقوق الإنسان وحرياته العامة،بل جعلوها أولوية في الخطاب الإسلامي الحديث؛ لأن التحدي الحضاري اليوم، جاء عبر آلية الحرية ومشتقاتها؛ وإغرائها وإغوائها؛ وما لم يدافع مثقفو الأمة عن الدين والهوية عبر آلية الحرية؛ بضوابطها الإسلامية القطعية؛ فستحتل العلمانية الغربية كثيرا من حصوننا التي نظنها منيعة.
فمقصود الشارع في كثير من أحكامه ما نطق به سفير الإسلام إلى ملك الفرس رستم: “جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد”، وهي الحقيقة أيضا التي يشهد لها صدر الإسلام، فقد كانت قضية تحرير الإنسان ورد كرامته إليه بإخراجه من عبادة العباد إلى طاعة رب العباد القضية الجوهرية والمعركة الأولى للإسلام، يشهد لذلك كلمة التوحيد نفسها؛ ففي غيبة الحرية لا يمكن للتفكير الإسلامي أن يستقيم؛ ولا يمكن للاجتهاد أن يزدهر ويتقدم؛ وهو يستوجب ضرورة إعادة ترتيب الأولويات في العمل والبناء الإسلامي فلاشك أن الانشغال بإطلاق الحريات له الأولوية في الإصلاح السياسي(105).
ومن ثم فلا مجال للتشكيك في مقاصدية الحرية لأنها كفيلة بتكريم الإنسان وسوقه إلى العبادة وأحسن مراقيها إخلاصا وعملا وعمارة وعدلا وقوة ووحدة وأمانة وخلقا(106).
وعليه فان التأصيل لوجود إرادة عامة حرة في الفقه الإسلامي مرتبط بقيم الاستخلاف البشري في الأرض تعميرا وتحكيما في إطار القواعد العامة للشريعة ومقاصد الشارع الحكيم من الخلق والتشريع، وتجنب الخوض في قضايا الحكم والسياسة المفصلية في حياة الأمة، وهو ما انتهى إلى تعطيل البحث في أحكام الحرية والإدارة السياسية وشؤون الحكم، وعلى كل حال فقد ساهم الطرفان المناوئ للسلطة والمداهن لها في تعطيل فقه الحرية ورسوخ حكم الاستبداد.
فالحرية في التصور الإسلامي أمانة، والتزام بأن نمارسها ممارسة إيجابية، وهي داخلة في جملة غايات الشريعة التي يجمعها تحقيق المصالح الكبرى للبشرية، وهي مصنفة إلى ضروريات، وحاجيات، وتحسينيات، وفي الصنف الأول حفظ الدين والنفس والعقل والنسب والمال، وهي في الإطار العام لحقوق الإنسان في الاعتقاد والحياة والتعليم والحرية والتعبير، وإقامة أسرة، وحقوق اقتصادية واجتماعية(107). وعليه تظهر أن قيمة الحرية في الإسلام أنها غاية تسعى السلطة الحاكمة إلى تحقيقها.
ثانيا: قيمة حفظ نظام الأمة ضمن منظومة مقاصد الشريعة فيما يخص الدولة:
لم تحظ فكرة النظام العام وحفظ فاعليته باهتمام وعناية علماء الأصول بالدرجة التي تتبوؤها المنظومة الخماسية لأصول المصالح، وربما يرجع ذلك كما يرى د. عبد المجيد النجار إلى أنهم كانوا ينتحون في ضبط المقاصد وترتيبها منحى أقرب إلى التركيز على المصالح الفردية استجابة للمنحى الفقهي العام الذي تضخم فيه الفقه الفردي على حساب الفقه الاجتماعي؛ ومما يستدل به على أهمية النظام في المجتمع الإسلامي ما نقله الإمام بدر الدين ابن جماعة عن الطرطوشي في تفسيره لقوله تعالى: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ) قيل في معناها: “لولا أن اللَّه تعالى أقام السلطان في الأرض يدفع القوي عن الضعيف، وينصف المظلوم من ظالمه، لتواثب الناس بعضهم على بعض، ثم امتنّ اللَّه تعالى على عباده بإقامة السلطان لهم بقوله: (وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (108). فالحاكم هو المقيم للنظام العام وهو وان كان جائرا إلا أن ضرورة إيجاده أولى من حياة الفتنة الهرجية والمرجية؛ فلا توجد فرقة ولا ملة عاشوا وبقوا بلا قائم أو رئيس يقاتلون به عدوهم ويقيمون به مصالحهم ويمنع التظالم فيما بينهم.
مما سبق يلاحظ أن الفقهاء قد اعتبروا حفظ نظام الأمة مقصدا مسلما للشريعة على مستوى الجماعة، دون أن يصرحوا بذلك؛ بل أنهم أعطوه الأولوية في الرعاية والتقديم في اجتهاداتهم، فبحكم ما أفرزه التاريخ الإسلامي من حركات الخروج المسلح على السلطة التي منيت بها الأمة؛ قرر فقهاء عصر الجمود من بعدهم قاعدة من اشتدت وطئته وجبت طاعته؛ وأن الجمعة مع من غلب” للإشارة إلى أهمية الشوكة في حفظ نظام الأمة؛ ومن ثم تمنع فتنة الخروج على السلطة سدا لذريعة حفظ ضروريات الحياة؛ كونها ما هي إلا جزئيات تتكامل معاً لإرساء مظاهر النظام العام، فمكونات حفظ النظام تتجلى في حفظ الدين، والنَّفس، والعقل، والنَّسل، والمال على المستويين الفردي، والجماعي.
مما سبق يتقرر أن النظام العام قاعدة مقاصدية لا غبار عليها تأصيلا وتطبيقا باعتبارها عنصرا رئيسا من عناصر المصلحة العامة المعتبرة شرعا، ولكن الإشكال حول محل ترتيب مقصد حفظ نظام الأمة بعد أن ثبت باستقراء تطبيقاته أنها مقصد ضروري على نحو ما قرره الإمام ابن عاشور(109). وهو ما يدفع إلى البحث عن قيمة ورتبة مقصد حفظ النظام العام ضمن مقاصد الشريعة وتصنيفاتها، ومن هذا القبيل يمكن التأسيس لمقاصدية النظام العام كأحد أهم أوصاف الشريعة التي تدخل في مسمى مقاصد الشريعة مثلها مثل الفطرة والسماحة والحرية والعدل، فكل أوصاف لشريعة الله يجب أن تتغياها الحكومة الشرعية.
1- مضمون قاعدة حفظ النظام العام الشرعي:
يعتبر الفقهاء القدامى أن حفظ النظام كامن في الكليات الخمس، ومن ثم فهو مدرك من المدركات القطعية والمقررات العقلية الوجدانية المستغنية عن البرهان، مما يجعلها في مصاف القضايا الضرورية التي لا يشكّك أحد في بداهتها ولا يتجشّم عناء الاستدلال عليها، لأن العقل يدرك حُسن حفظ النظام وقبح الإخلال به؛ وعليه فإذا ثبت اعتبار حفظ النظام العام مقصدا ضروريا من حيث أثره على الحياة فإن دليل إثباته مستمد من أدلة إثبات الكليات الخمس التي حكى الشاطبي وغيره الإجماع على رعايتها فقال: “اتفقت الأمة بل سائر الملل؛ على أن الشريعة وُضعت للمحافظة على الضروريات الخمس؛ وهي الدين والنفس والنسل والمال والعقل، وعلمها عند الأمة كالضروري؛ ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين؛ ولا شهد لناأصل معين يمتاز برجوعها إليه؛ بل علمت ملاءمتها للتشريع بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد”(110).
على أساس أن هذا الأصل يقع في منـزلة ما يقصد لغيره، بمعنى أنه وسيلة لمقاصد أخرى، والوسيلة أخفض منـزلة من المقاصد، يقول العز بن عبد السلام(111): “فالمقاصد هي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها؛ والوسائل هي الطرق المفضية إليها؛ و الوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل؛ والوسيلة إلى أرذل- أقبح- المقاصد هي أرذل وأقبح الوسائل، وإلى ما يتوسط متوسطة، وأنه كلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة، فإنها تبع في الحكم”. ومن ثم يرى الفكر المقاصدي المعاصر أن حفظ النظام مقصد معتبر من مقاصد الشَّرِيعة الإِسلاَمِية على مستوى الأمة يجب أن يأخذ مكانته في مصادر التشريع كقاعدة مقاصدية ضمن مقاصد الشريعة العامة التي تختص بالأمة وتظهر سماته في كليات الشَّرِيعة المسماة بالضروريات الخمس في متعلقاتها الفردية والجماعية(112).
2- مقاصدية حفظ الأمة:
يعتبرالمفكر المقاصدي ابن عاشور أول المنظرين لفكرة مقاصدية النظام العام في منظومة مقاصد الشريعة على مستوى الدولة بحيث تشكل مقصدا ضروريا في مباحث القانون العام الإسلامي أو فقه الدولة في الشريعة الإسلامية؛ حيث يقول: “إذا نحن استقرينا موارد الشريعة الدالة على مقاصدها من التشريع استبان لنا من كليات دلائلها ومن جزئياتها المستقرة أن المقصد العام من التشريع فيها هو حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه؛ وهو نوع الإنسان… ثم يقول بعد استعراض ستة عشرة آية من القرآن: “ومن عموم هذه الأدلة حصل لنا اليقين بأن الشريعة متطلبة لجلب المصالح ودرء المفاسد معتبرا ذلك قاعدة كلية ومقصدا أعظم” ثم يقول: “وقد استشعر الفقهاء في الدين كلهم هذا المعنى في خصوص صلاح الأفراد، ولم يتطرقوا إلى بيانه وإثباته في صلاح المجموع العام؛ ولكن لا ينكر أحد منهم؛ أنه إذا كان صلاح حال الأفراد وانتظام أمورهم مقصد الشريعة؛ فان صلاح المجموع وانتظام أمر الجامعة أسمى وأعظم… وهل يقصد إصلاح البعض إلا لإصلاح الكل(113).
وقد خصص -رحمة الله عليه- كتابا مستقلا لأصول النظام الاجتماعي في الإسلام تحدث فيه بإسهاب عن أصول الإصلاح الاجتماعي؛ حيث أكد على أهمية مقصد حفظ نظام الأمة وأن “مراد الله في الأديان كلها؛ منذ النشأة إلى ختم الرسالة واحد؛ وهو حفظ نظام العالم وصلاح أحوال أهله”(114)؛ وبيّن فضيلته أن أصول نظام سياسة الأمة تقوم على أساس فنين أصليين: فن القوانين الضابطة لتصرفات الناس في معاملاتهم؛ والفن الثاني؛ فن القوانين التي بها رعاية الأمة في مرابع الكمال؛ والذود عنها أسباب الاختلال(115).
يقول د. عبد المجيد النجار(116) مثمنا لنظرة ابن عاشور المقاصدية إلى فكرة النظام العام: “أنها جماع مقاصد الشريعة؛ بل أنها المقصد العام الجامع لكل التكاليف الشرعية؛ والذي ينحل إلى مقاصد كلية تؤدي إليه؛ درج العلماء إلى تقسيمها إلى ثلاثة أنواع: ضرورية لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا؛ وحاجية يفتقر إليها في التوسعة ورفع الضيق؛ وتحسينية يلزم الأخذ بها من باب محاسن العادات؛ وتنحل هذه المقاصد الكلية المتفرعة عن المقصد العام بدورها إلى مقاصد جزئية وفرعية وهي المعروفة بعلل الأحكام التي تنتهي كلها إلى تحقيق المقصد العام كما حدده الإمام الطاهر ابن عاشور”. ومما قرره علاّل الفاسي في هذا الصدد أن المقصد العام للشريعة الإسلامية هو “عمارة الأرض وحفظ نظام التعايش فيها وصلاحها بصلاح المستخلفين فيها وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة ومن صلاح في العقل وفي العمل وإصلاح في الأرض واستنباط لخيراتها وتدبير لمنافع الجميع(117)؛ وذلك إنما يكون بتحصيل المصالح واجتناب المفاسد على حسب ما يتحقق به معنى المصلحة والمفسدة” وهو في ذلك يسير على خطى الإمام ابن عاشور في تقرير مقاصدية النظام العام.
ويمكن التمثيل لكيفية رعاية الشريعة الإسلامية لهذا المقصد قياسا على كيفية رعايتها للمقاصد الخمس على نحو تقسيم الشاطبي؛ بتقسيم قواعد حفظ النظام إلى قواعد حفظه من ناحية الوجود (قواعد التأسيس) وقواعد حفظه من ناحية العدم وهي القواعد التي تدرأ الخطر الواقع أو المتوقع (قواعد استبقاء النظام وإعادة استتبابه)
أ- قواعد حفظ النظام من ناحية الوجود: وهي قواعد التأسيس(118) وعلى رأسها قاعدة تكليف الأمة بإقامة أولي الأمر فيها؛ وأداء الواجبات الكفائية العامة المنوطة بأصحاب الولايات العامة باعتبارها أمانات ينبغي أن تؤخذ بحقها وتوسد إلى أهلها.
ب- قواعد حفظ النظام من ناحية العدم: بتشريع أحكام مقاتلة البغاة وقطاع الطرق؛ ومنع إشعال الفتن وايقاظها؛ وتحريم الخروج المسلح على السلطة إلا إذا أمنت الفتنة وكان هناك كفر بواح؛ وبتشريع الجهاد وإعلانه على المحاربين والمحتلين للأوطان والديار؛ وبوضع طرق سلمية للوصول إلى السلطة دون حصول حرب أهلية ولا ثورة شعبية، من أجل التداول السلمي على السلطة.
لكن ثمّة سؤال هام: أيهما أهم في مقصود الشارع عند تعارض وتزاحم وسائل دفع مفسدة الإخلال بالنظام مع وسائل جلب مصلحة حفظه؟ الأكيد أن تقديم حفظ النظام على سائر الأحكام بما في ذلك تنفيذ بعض الحدود؛ أمر مقرر شرعا لأن قانون باب التعارض والترجيح يقضي بتقديم الأهم على المهم، ولا ريب أن حفظ النظام من أهم الواجبات، فلا يزاحمه حرام إلا صار حلالاً على حدّ تعبير بعض الفقهاء، والوجه في أهميته قد اتضح مما سلف، فإنّ أمراً هدفت النبوات إلى إرسائه وتحقيقه في المجتمع، وشكّل محوراً لكل التشريعات السماوية وغيرها، من الطبيعي أن يكون من الأهمية بمكان لا يوازيه شيء(119).
ثالثا: معايير الموازنة لحل إشكالية التوفيق بين حفظ النظام وحماية الحرية:
سبق تقرير واعتبار كل من حفظ النظام العام؛ وحماية الحرية العامة؛ مقصدين للشريعة التي تخص الدولة؛ فضلا عن مبدأ العدل السياسي والاقتصادي والاجتماعي كقاعدة لتحقيق مبدأ الموازنة بين المضار والمنافع.
غير أن تحقيق هذا التوازن ليس على إطلاقه؛ لكونه مرتبطًا كثيرًا بالظروف الزمنية والمكانية؛ ومن ثم تكون الأولوية للنظام العام على حساب الحريات العام في ظل الظروف الاستثنائية وأيام الفتن؛ بحيث يمكن تقييد ممارسة الحرية بل مصادرتها إذا اقتضى الأمر؛ وذلك بخلاف الظروف العادية؛ حيث الأولوية للحرية باعتبارها أصلا وغاية في ذاتها؛ يسهر النظام على توفير البيئة المناسبة للتمتع بها.
ومن هنا يجب على السلطة الحاكمة في أي دولة أن تحافظ على هذه العلاقة بينهما من حيث كونهما وجهين لعملة واحدة يستحيل الفصل بينهما؛ فالنظام العام شرط كامن في الحرية، متعين الوجود لأجل ممارستها كونه ليس سوى تنظيما لحركة ونشاط الإرادات الفردية داخل الجماعة دون تعارض بينها، فهي ليست إلا أداة لتنظيم الممارسة الحقوقية بما يحقق التوازن في التمتع بكامل الحريات بالمساواة في إطار كليات الجماعة وأصولها الفلسفية. فإذا تعذر الجمع والدرء معا قدم أرجحهما(120).
1- دفع المضرة وإن فاتت المنفعة: إذا كانت المضرة والمفسدة أعظم من المنفعة لا يبالي بفوات المنفعة، قال الشاطبي: “إن المفسدة إذا أربت على المصلحة فالحكم للمفسدة”(121). فإذا كان اضطراب النظام العام يؤدي فتنة محققة تربو على مصلحة ومنفعة ممارسة الأفراد لحرية التظاهر والتعبير عن إرادتهم؛ فان منع المظاهرة حفظا للنظام العام أولى وأوجب من الإذن بها كحرية عامة.
2- جلب المنفعة وان ارتكبت المضرة: وهذا إذا كانت المنفعة أعظم من المضرة، فيكون جلبها أولى في الميزان الشرعي، يقول الشاطبي:”إن المصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتبار فهي المقصودة شرعا ولتحصيلها وقع الطلب على العباد”(122).
3- رعاية المقاصد تعين على التحديد الصحيح للمآل: من الأمور الخطيرة وبالغة الأهمية في تصرفاتنا جميعًا أن نراعي المآل الذي سيؤول إليه الفعل أو التصرف، وإذا كان هذا في التصرفات والأفعال العادية خطيرًا، فإنه يبلغ من الخطورة منتهاها إذا كان في واقع ثوري كالذي تحياه الأمة اليوم؛ فكم من مصيبة حدثت وكان سببها عدم رعاية المآل، وكم من أرواح أزهقت، ودماء سالت، وجراحٍ جرحت، لو راعينا مآل فعلنا أو نتيجة تصرفنا لما وصل الحال إلى ما وصل إليه؛ ولهذا فإنه من الذكاء والفطنة وتمام الحكمة أن ننظر إلى مآل الفعل قبل اختياره والتلبس به؛ ولقد تنبه الإمام الشاطبي لخطورة المآلات وأهمية اعتبارها فقال في كلام مفصَّل منضبط: “النظر في مآلات الأفعال مُعْتَبَرٌ مَقْصُودٌ شَرْعًا، سواءٌ كانت الأفعال موافقةً أو مخالِفَةً،.. فلا يحكم على فعلٍ من الأفعال الصادرةِ عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلاّ بعد نَظَرِهِ إلى ما يئول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعًا لمصلحةٍ فيه تُسْتَجْلَبُ، أو لمفسدةٍ تُدْرَأُ…وهو مجالٌ للمجتهد صَعْبُ الْمَوْرِد، إلا أنه عَذْبُ المذاق، مَحْمُودُ الغِبِّ، جارٍ على مقاصد الشريعة”(123).
4- رعاية المقاصد تضبط الموازنة بين المصالح والمفاسد: ليس الفقيه من عرف المفسدة من المصلحة، وإنما الفقيه هنا من جلب أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أكبر المفسدتين بارتكاب أخفهما. ومن الفوائد المهمة التي نستثمرها من تفعيل المقاصد في الواقع الثوري المعاصر، وكل واقع، أنها تضبط الموازنة في الاختيار بين المصالح بعضها وبعض، وبين المفاسد بعضها وبعض، وبخاصة أن واقع الثورات يحكمه- في أغلب أحكامه واختياراته- مبدأ المصلحة والمفسدة، فبتحكيم المقاصد ورعايتها في التفكير والحركة والاختيار يمكننا أن نختار المصلحة ونرفض المفسدة، ونختار أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وندفع أعظم المفسدتين بارتكاب أخفهما.
وعليه فان الترجيح بين المصالح والمفاسد مرتبط بعدة معايير كالنظر إلى رتبتهما المقاصدية “المعيار الرتبي (الضروريات، الحاجيات، التحسينيات)”، فإذا كانا ضروريين كما هو الحال مع مقصد الحرية ومقصد حفظ النظام نظرنا إلى أعلاهما نوعا “المعيار النوعي (الدين، النفس، النسل، العقل، المال)”، فإذا كانا كلاهما مشترك في الارتباط بحفظ الدين والنفس معا؛ نظرنا في أعظمهما نفعا وفق “معيار مقدار شمول المصلحة والمفسدة (خاصة، عامة)”، ثم أيهما أطول زمنا وفق “معيار الامتداد الزمني”، ثم معيار القطع والظن، ومعيار المتفق عليه والمختلف فيه، ومعيار تعلقها بالنفس أو بالغير وأكثرهما تحققا(124).
وهذه الموازنات في معالجة الأحداث الواقعية تتطلب رؤية عميقة؛ تنبثق من معادلة (المصالح) و(المفاسد) جلبا للأولى ودفعا للثانية، وهي لا شك قاعدة من قواعد السياسة الشرعية تكاد أن تكون قاعدة مجمعا عليها.
وفي كل الأحوال فإن أصل الموازنة مقدم في النظر على قاعدة الاحتياط والورع، فلا يسوغ للمفتي أن يرشد إلى الورع والاحتياط من المشاركة في الثورة السلمية أو أن يوازن بين المقتضيات والموانع، أو بين المصالح والمفاسد.
كما يقدم أيضا أصل الموازنات على إعمال قاعدة: “درء المفاسد أولى من جلب المصالح” عند القائلين بها، ذلك أن الراجح عندهم أنها لا تطبق إلا في حال تساوي المصلحة والمفسدة، بل منهم من جعلها خاصة بحال رجحان المفسدة، ومن ثم فلا معنى لتنـزيلها فيما غلبت مفسدته على مصلحته؛ ومن ثم قام بعض المقاصديين المعاصرين بقلب نصها جلب المصالح مقدم على درء المفاسد؛ والصحيح أن موضعها في الموازنات هو حال التساوي بين المصلحة والمفسدة، ولا تصلح لغيره. فلا يجب أن تكون هذه القاعدة أول ما يرجع إليه إذا تعارضت المصالح والمفاسد، بل يقدم اعتبار الجهة الغالبة، مصلحة كانت أو مفسدة، فيقدم درء المفسدة الغالبة، وجلب المصلحة الراجحة اتفاقا، أي إن أصل الموازنة مقدم على هذه القاعدة. وقد أساء كثير من المفتين إعمال هذه القاعدة حينما أغفلوا شروط تنـزيلها، وضوابط إعمالها(125)، وخصوصا في الحكم على حرمة الثورة الشعبية مطلقا لقاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح دون إعمال أصل الموازنات.
الفرع الثاني: تفعيل منهج الموازنات الشرعية في بيان مدى مشروعية الثورات العربية. “فقه الواقع وفقه المتوقع وفقه الممكن”
من المسائل التي كثر حولها الخلاف مسألة الخروج على السلطة الجائرة كنوع من التعبير عن الإرادة العامة بالثورة والخلع والعزل، حيث ترى بعض الفرق الإسلامية كالخوارج والمعتزلة وبعض أهل السنة كالشافعي والجويني وابن حزم؛ خلافا لمذهب الجمهور القائل بوجوب الصبر عليه ولا يجوز الخروج عليه لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فرغم صراحة وصحة أدلة المجيزين لوسائل الاحتجاج باستعمال القوة إلا أن الجمهور يرى بأنها أدلة عامة مخصوصة عند أهل التحقيق بالنصوص التي تفيد السمع والطاعة للحاكم الفاسق(126).
وبين مدرسة الصبر السياسي وعدم الثورة على النظام السياسي خشية الفتنة وبين المجيزين لاستعمال القوة تحقيقا للحرية والكرامة والعدالة ورفعا للظلم، ظهر الاتجاه التوفيقي الذي يستثمر فقه الموازنات للجمع والترجيح بين منافع الثورة ومضارها؛ ومنافع الصبر على الظلم ومضاره من خلال توظيف فقه الواقع وفقه الممكن وهو الاتجاه الداعي إلى مقاومة الطغيان بشرط القدرة والتمكن.
ويتلخص هذا الاتجاه في أن الخروج أو الثورة على ظلم الحاكمين هو أمر مشروع في حد ذاته من حيت المبدأ، ولكن ينبغي قبل الإقدام على هذه الخطوة الخطيرة أن يتدبّر الخارجون أو الثائرون في المآلات ويستشرفوا المستقبل، فينظروا هل هناك إمكان لإقامة نظام صالح بعد قلب النظام المنصرم وتغييره أم لا؟ فإذا أسفر التدبير والإعداد عن إمكان نجاح الثورة كان للأمة أن تثور وتخرج على ظلم الظالمين، أما إذا تبين عدم إمكان ذلك فإن الثورة غير جائزة، وعلى الأمة أن تعد العدّة إلى أن يتم لها التمكن(127)، وكان الأولى التعبير عن هذا الاتجاه، بالقول بحرمة الخروج المسلح وغير المسلح على السلطة إلا إذا غلب على الظن القدرة على منعه من الجور(128) لأن اعتناء الشارع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات.
وقد عبَّر الإمام أبو حامد الغزالي عن هذا المذهب بوضع مسألة سياسية فرضية تتلخص في أن حاكما وصل إلى قمة السلطة بالشوكة والغلبة ولم يكن أهلا لتولى منصب الخلافة، فما الحكم في هذه الحالة؟ أيطاع أم تثور عليه الأمة فتخلعه؟ ويجيب عن هذه المسألة بقوله: “الذي نـراه ونقطع بـه أنه يجب خلعه، إن قدر على أن يستبدل به من هو موصوف بجميع الشروط من غير إثارة فتنة وتهييج قتال، وإن لم يكن ذلك إلا بتحريك قتال وجبت طاعته وحكم بإمامته لأن في تقليد غيره تهييج لفتنة لا ندري عاقبتها وربما يؤدي ذلك إلى هـلاك النفوس والأموال…” (129).
وهو بذلك يرى في طاعة الإمام الجاهل الظالم مكاسب تتحقق للأمة تفوق الآمال المعلقة على خلعه بالثورة؛ ويتساءل: “كيف نفوّت رأس المال في طلب الربح(130)؟! وفي ذلك يقول ابن خلدون: “إن الذين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه والأمر بالمعروف رجاء في الثواب عليه من الله يكثر أتباعهم والمتشبثون بهم من الغوغاء والدهماء، ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك وأكثرهم يهلكون في ذلك السبيل مأزورين غير مأجورين لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم، وإنما أمر به حيث تـكون القدرة عليه، قال صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم منكرا فليغيره”، ويرى في مقام آخر أن عدم القدرة هذه؛ والغلط في تقديرها وحسابها كان وراء النهاية المفجعة التي انتهى إليها خروج الحسين، إذ كان يظن القدرة على ذلك وظنها من نفسه بأهله وشوكته، فأما الأهلية فكانت كما ظن وزيادة، وأما الشوكة فغلط لأنها كانت في بني أمية(131).
وجدير بالإشارة أن ابن خلدون لم يغفل التنبيه على أن ذلك الخروج من طرف الحسين كان “خطأ دنيويا، وليس دينيا”،-حسب تعبيره-(132) أي أنه قصور في الخطة والأداء، وليس تقصيرا في الشرع والمبدأ، فهو خطأ لا خطيئة، بخلاف ما فعله أعداؤه، فهو جريمة وخطيئة منكرة، ومما يؤيد هذا الاتجاه ما ذكره الإمام المودودي أن الإمام أبي حنيفة امتنع عن الخروج والقـتال مع الإمام “زيد” في ثورته هذه رغم مناصرته للثورة وتشيعه لتوجهاتها في إسقاط السلطة الظالمة، وقد كانت حجته الأساسية في عدم الخروج والقتال هي اعتقاده بإخفاق الثورة، وعدم حسن نتائجها(133). وعليه يعدّ الإمام الغزالي تقريبا هو الوحيد الذي كان له رأي يدعم فكرة الخروج بدون سلاح؛ فكل الآراء الموضحة أعلاه هي آراء لأئمة عاشوا فترات صراع وحروب وانقسامات وانقلابات دموية على الحكم في ظروف تاريخية تختلف كلية عن معطيات حاضرنا الذي نعيش فيه، فقد رأينا من الثورات ما تم بغير سلاح.
ويميز بعض الفقهاء المعاصرين(134) بين وضعين في تقرير مدى مشروعية الخروج وتحديد معيار ذلك؛ فالوضع الذي يكون فيه النظام الحاكم مخالفا للشرعية الإسلامية يختلف عن الوضع الذي يتم فيه إهدارها بدرجة الكفـر البواح بحيث يزول التعارض الظاهري بين مذهب الصبر ومذهب الخروج عن طريق جعل مجال أدلة مذهب الصبر في حالة مخالفة الشرعية الإسلامية، ومجال أدلة مذهب الثورة في حالة إهدار الشرعية الإسلامية، بل أن التفرقة السابقة صرحت بها السنة الشريفة(135)،كما في حديث جُنَادَةَ ابْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ ابْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ مَرِيضٌ، قُلْنَا: أَصْلَحَكَ اللَّهُ حَدِّثْ بِحَدِيثٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِ سَمِعْتَهُ مِنْ النَّبِيِّ قَالَ: دَعَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ إِلا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ”(136). وفي رواية للإمام أحمد “ما لم يأمرك بإثم بواحا”.
والكفر البواح هو على ما يرى الإمام الخطابي الكفر الظاهر البادي، وهو كما جاء في حديث عـبادة المتقدم، ما فيه من الله برهان أي نص من القرآن أو من خبر صريح لا يحتمل التأويل، ومقتضى ذلك أنه لا يجوز الخروج على نظام الحكم ما دامت أفعال الحاكم تحتمل التأويل(137). ويرى الإمام النووي أن المراد بالكفر البواح هو المعصية، ومعنى ذلك عدم منازعة أولياء الأمور من الحكام أو الاعتراض عليهم إلا إذا رأى المسلمون من هؤلاء الحكام منكرا محققا معلوما من قواعد الإسلام، فـإذا وقع من الحاكم الكفر الصريح فلا يجوز طاعته فـي ذلك، بل تجب مجاهدتـه لمن قدر على هذه المجاهدة؛ وفي شرحه لصحيح مسلم يقول ما نصه: “وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام وإن كانوا فسقة ظالمين وسبب التحريم ما يترتب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء وهذا ما عليه جمهور العلماء“(138).
وعليه فإنه من خلال ما تقدم فإن الرأي الذي يظهر أنه الأقرب إلى مقاصد الشريعة هو الاتجاه الثالث المضبوط بأن تتوفر للأمة إمكانات ووسائل تحقق التمكن من محاربة الطغيان؛ فالثورة لا تكتسب الصفة الشرعية إلا إذا وصل الفساد السياسي والاجتماعي في الـنـظـام القائم إلى درجة الكفر البواح، وتحقق فشل وعقم الوسائل السلمية وتحقق شرط التمكن؛ ولا يشترط عندئذ التيقن من نجاحها وتحقيق هدفها، وإنما يكفي الظن الراجح، لأن التيقن من النجاح أمر عسير، فإذا رجحت كفة فشل الخروج قدّمت ضرورة الحفاظ على وحدة الأمة من الفتن، وضرورة حفظ النفوس لأن الخروج عندئذ لن يؤدي إلى المقصد منه(139).
ومن ثَمَّ فإن الحكم لا يكون واحداً بالنسبة لكل الثورات العربية؛ ولكن ينظَر إلى الحال وإلى المآل، ويقارَن بين الحال والمآل؛ فإن كانت الثورة ستنقل الأوضاع من حال سيئ إلى مآل أسوأ لم تجز، لا لأنها خروج على الحكام، ولكن لكونها مصادِمة للمصلحة التي بُنيَت عليها الشريعة، وإن كان المآل راشداً والانتقال إليه ضروريٌّ صارت جائزة، بل وواجبة عند القدرة عليها وعند أيلولة الحكم إلى الكفر البواح(140).
ويشترط للحكم على مدى مشروعية أي ثورة أو تغيير أن يغلب على الظن تحقٌّق المصلحة ولو بمفاسدَ أقل؛ لأن المصالح والمفاسد إذا تعارضت قُدِّم الراجح منها؛ فالقاعدة أنه: “إذا تعارضت المصالح والمفاسد قُدِّم الأرجح منها على المرجوح”(141).
ومع ذلك فإن قواعد السياسة الشرعية كقاعدة اعتبار الذرائع والنظر إلى المآلات، وقاعدة الموازنة بين المصالح و المفاسد تدل على أولوية الاستقرار السياسي عند الموازنة؛ لمنع فتنة الخروج المسلح على السلطة كأحد مقاصد الشريعة، كما أنه باستقراء أحداث التاريخ الإسلامي حول شرط القدرة يتبين أن حالات الخروج عـلى الأئمة التي منيت بها الأمة لم يحالفها التوفيق، بل فتحت على الأمة أبوابا من الشرور والفتن لا يعلم مداها إلا الله، ولقد أحصى أبو الحسن الأشعري نحوا من خمسة وعشرين (25) خارجا من آل البيت لم يكتب لأحـد منهم في خروجه نجاح(142). قال ابن تيمية: “وقلّ من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير كالذين خرجوا على يزيد في المدينة، وحركة ابن الأشعث وابن المهلب وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة، فغاية هؤلاء إما أن يغلبوا وإما أن يغلبوا ثم يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة”.
وعليه فان استثمار مقاصد التشريع في الجمع والترجيح بين أدلة الفريقين تكشف عن اعتبار معيار مدى حفظ وتحقيق السلطة الجائرة لمقاصد الإمامة؛ فمتى كان فسقها وظلمها خاصا بها غير مضيعة لحراسة الدين وقمع الفساد وحفظ الأمن العام لا يجوز الخروج عليها؛ أما إذا كان جورها وفسقها متعديا لمقاصد الإمامة كتفويت مصالح العباد ونشر الفساد في البلاد جاز الخروج إذا أمنت الفتنة(143).
كما أن مسألة الخروج على السلطة مرهون أيضا بأغلبية الإرادة العامة، فإذا كانت أقلية مُنع الخروج عليها باعتبار المآل، كما هو مصرح به من تعليل امتناع عبد الله بن عباس-رضي الله عنه- من الخروج مع الحسين- رضي الله عنه – بقوله: “يا ابن عم؛ إني أتخوّف عليك من هذا الوجه الهلاك؛ إن أهل العراق قوم غدر فلا تغترنٌ بهم”. وهو نفس المعنى الذي نطق به الإمام أبو حنيفة معللا لزيد بن علي – رضي الله عنه- عدم مشاركته في الثورة: “لو علمت أن الناس لا يخذلونك ويقومون معك قيام صدق لكنت اتبعتك… ولكني أخاف أن يخذلوك كما خذلوا أباك”(144).
وقريبا من هذا المعنى فتوى الإمام ابن باز رحمه الله: “لا يجوز الخروج على السلطان إلا بشرطين، أحدهما: وجود كفر بواح عندهم من الله فيه برهان. والشرط الثاني: القدرة على إزالة الحاكم إزالة لا يترتب عليها شرٌ أكبر منه”(145). قلت وهذا عين إعمال ضابط أصل الموازنة.
المطلب الثاني: ضوابط التعبير عن الإرادة العامة في ضوء منهج الموازنات الشرعية
جاء التشريع الإسلامي بتحصيل المصالح العامة وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، إذ مبناها على الإتيان بما فيه صلاح البشر، في العاجل والآجل في جميع ما أمرت به، وهذه القاعدة لا إشكال فيها، وكذلك عند اجتماع المصالح والمفاسد فإن الشارع يرجح خير الخيرين ويدفع أعظم المفسدتين.
وانطلاقا من أن الأمة الإسلامية تعيش مرحلة حاسمة في تاريخها السياسي خاصة بعد الثورات الشعبية الأخيرة في محاولة بناء نظام سياسي على أسس صحيحة فإنها بحاجة إلى معرفة موقف الشريعة الإسلامية من تلك المظاهرات أو الاعتصامات والاحتجاجات في النظام السياسي الإسلامي، ذلك أن مشروعية الثورة السلمية على الأنظمة الظالمة المستبدة، لعدم شرعيتها من جهة، ولطغيانها يحتاج إلى تبصر ومراعاة الضوابط الشرعية.
أولا: ضوابط النصيحة للحكام – نحو فقه النصيحة السياسية-.
أوجب الإسلام نصيحة الحاكم والمحكوم، واعتبر ذلك من صلب الدين، ففي صحيح مسلم عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ”. ولم يزل ذلك دأْبَ كثير من الصحابة والتابعين وأهل العلم على مرور الأيام وتعاقب الدول، إذ مارس كثير منهم هذا الواجب، فنصحوا الولاة والأمراء، وجهروا أمامهم بالحق، وعارضوهم في كثير مما أبرموا، ولذلك فلا بأس من معارضة أولي الأمر؛ بل يجب تنبيههم ونصحهم والإنكار عليهم فيما خالفوا فيه أمر الله وأمر رسوله صلي الله عليه وسلم، أو ضيعوا فيه مصلحة الأمة، أو قصروا في حماية الأوطان، أو بددوا ثروات الأمة، أو أساؤوا للناس، أو غير ذلك من المنكرات التي قد تدفعهم إليها الحمية لآرائهم والتعصب لوجهات نظرهم مع ثبوت خطئها وفسادها، والقيام بهذا الواجب هو لون من ألوان التعاون على البر والتقوى.
وينبغي أن يتم ذلك من غير إهانة لهم أو تطاول عليهم أو خروج بالسيف عليهم أو احتشاد لقتالهم، فإن الإمام الغشوم خير من الفتنة التي تدوم، واحتمال العدل مع استقرار أمور الأمة ممكن، بخلاف الحال إذا تقاتلت الأمة وخرج بعضها على بعض بالسيف، فالفتنة عمياء دهماء لا يفرق الناس فيها بين الحق وبين الباطل.
ومن الأفضل أن يكون ذلك سرًّا إذا كان الوصول إلى الحاكم الجائر ممكنا، وكان نصحه متيسرا، وكان قبوله للنصيحة مرجوّاً، لما رواه أحمد عن هِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ، عن رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَح لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ فَلا يُبْدِ لَهُ عَلانِيَةً، وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ فَيَخْلُوَ بِهِ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ، وَإِلاَّ كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ». وذلك ما فعله أسامة ابن زيد مع عثمان بن عفان رضي الله عنهم جميعا. ولكن لا يمنع الإسلام من إعلان هذه النصيحة متى كان الخطأ شائعا والضرر واقعا على العامة، بل أوجب الإسلام إعلان النصيحة والإنكار على الظالم إذا تجاوز حدود الشرع، ومن هذا الباب جاءت الثورات العربية السلمية من التظاهر السلمي المطالب بإزالة النظام الفاسد ورحيل الحاكم الجائر الظالم بأسلوب سلمي حضاري.
ولم يزل أهل العلم يعظِّمون العلماء الناصحين الذين اشتهروا بالجرأة في وعظ الحكام والسلاطين، بل وُصِف العز بن عبد السلام بسلطان العلماء لمواقفه القوية الرائعة ضد أمراء المماليك الذين اضطروا للخضوع لما نادى به حين رأوا صدقه وجرأته ودعم جماهير الأمة له، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ: إِذَا رَأَيْتُمْ أُمَّتِي تَهَابُ الْظَالِمَ أَنْ تَقُولَ لَهُ: إِنَّكَ أَنْتَ ظَالِمٌ؛ فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ”(146).
ثانيا: ضوابط إعمال رأي الأغلبية كتعبير عن الإرادة العامة للأمة
من المسائل الفقهية التي لم تحسم ويكثر الحديث عنها مسألة الأغلبية؛ والتي كانت محل نقاشات داخل المجامع الفقهية حيث أقرت العمل بنظام الأغلبية سواء مجمع البحوث في مصر؛ أو مجمع الفقه الإسلامي في جدة، حيث يكون تصويت العلماء والباحثين بعد تدارس المسائل الفقهية المستجدة في العالم، بمثابةِ إجماع للعلماء؛ ذلك أن حكم العمل بالأغلبية في الحقيقة فرع عن حجية العمل بمبدأ الإجماع الأصولي(147) وممّن تناولها بالمتابعة والتحقيق د.الريسوني ليخلص بقوله: “والذي تعيّن عندي في المسألة هو الاعتداد بالأغلبية في مواضعها وبشروطها”(148). ويقول أيضا: “إن العلماء قد أخذوا بالأكثرية العددية، واعتبروها مرجحا، فيما ليس فيه مانع معتبر؛ وقد عملوا بهذا المبدأ في مجال الرواية ومجال الدراية معا”(149)؛ ولذلك قرر السرخسي أن: “الترجيح بالكثرة… أصل في الفقه، فإن للأَكثر حكم الكمال”(150).
وربما صح عقلا أن رأي الأكثرية خاطئ ورأي الأقلية صواب، ولكن هذا نادر، والنادر لا حكم له، والمفروض شرعا رأي الأكثرين هو الصواب مادام كله يبدي رأيه مجردا لله، وأساس ذلك قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “لا تجتمع أمتي علي ضلالة ويد الله مع الجماعة”، فهي وصية النبي عليه الصلاة والسلام، فقد أوصى أمته أن يلتزموا عند الفتنة برأي الجماعة “الأغلبية”، لقوله صلى الله عليه وسلم: “عليكم بالسواد الأعظم”، أي بالجمهور أو الكثرة(151). وإنما يرجح رأي الأغلبية بحكم المساواة بين البشر والحفاظ علي وحدة المجتمع الذي يبرر ترجيح رأي الأغلبية على أن تبقى للأقلية حرية المعارضة والنقد والدعوة إلى رأيها وإقناع الناس بصحته بأدلة قد تستقيها من أثار ممارسة الأغلبية، يقول الشيخ محمد رشيد رضا: “ومنه يعلم أن ما شرعه الله من العمل برأي الأكثرية فسببه أنه هو الأمثل في الأمور العامة لا لأنهم معصومون منها”(152).
ويلاحظ أن نطاق إعمال فكرة الأغلبية في المجال السياسي أكثر رحابة وتوظيفا منه في المجال الفقهي، فقد نص العلماء على العمل بفكرة الأغلبية في المجال السياسي بصيغ وعبارات مختلفة؛ خصوصا في اشتراطهم لانعقاد البيعة الصحيحة، أن يؤيدها ويلتف حولها من الناس، ما تحصل به الشوكة والمنعة والانقياد العام(153). ويعد الإمام الغزالي أكثرهم تصريحا وتوضيحا في التنصيص على اشتراط الأغلبية لذلك، فهو يرى أن مبايعة عمر لأبي بكر لم تصبح لازمة نافذة إلا بالتأييد الواسع والفوري الذي حظيت به، فيقول: “فإن شرط ابتداء الانعقاد قيامُ الشوكة، وانصرافُ القلوب إلى المشايعة، ومطابقة البواطن والظواهر على المبايعة، فإن المقصود الذي طلبنا له الإمام جمعُ شتات الآراء، في مصطدم تعارض الأهواء؛ ولا تتفق الإرادات المتناقضة والشهوات المتباينة المتنافرة، على متابعة رأي واحد، إلا إذا ظهرت شوكته، وعظمت نجدته، وترسخت في النفوس رهبته ومهابته، ومدار جميع ذلك على الشوكة، ولا تقوم الشوكة إلا بموافقة الأكثرين من معتَبَري كل زمان”(154).
ومن أقوى ما يحتج به المؤيدون لإلزامية رأي الأغلبية ما انتهت إليه نتيجة الشورى في غالبية الغزوات التي وقع فيها القتال؛ فقد استشار النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة في شأن الاستعداد لملاقاة قريش ومناجزتها في غزوة بدر؛ فتكلم أبو بكر وعمر والمقداد بن عمرو، وكلهم أيدوا الرأي النبوي لمواجهة قريش، ولكن هؤلاء الثلاثة كانوا كلهم من المهاجرين، وكان – عليه الصلاة والسلام- يريد أساسا معرفة رأي الأنصار، فاستمر يقول: “أشيروا علي أيها الناس”. قال ابن إسحاق: “وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس”(155)، حرصا منه في معرفة رأي أكثريتهم(156)؛ فلما علموا هذا وفهموه، قاموا فأعلنوا تأييدهم وجاهزيتهم للمعركة. فلما ضمن ذلك وتأكد منه، بتصريح سادتهم وزعمائهم أمر بالانطلاق قائلاً: “سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم”(157).
وكذا في قضية استشارة الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد المسلمين في الخروج لمقاتلة قريش أو البقاء في المدينة، وهي كما قال الريسوني: “من أشهر وأظهر ما يشهد للعمل بمبدأ الأغلبية؛ حيث نـزل عند رأي أغلبية المسلمين وجمهورهم الذين رأوا الخروج دفعا لتهمة الخوف والعجز والجبن عن سمعة المسلمين في أعين المترقبين(158)، فأخذ الرسول برأيهم نـزولا لقاعدة الأغلبية، قال الحافظ ابن حجر: “وأبى كثير من الناس إلا الخروج”؛ وقال الحافظ ابن كثير: “وشاورهم في أحد في أن يقعد بالمدينة أو يخرج إلى العدو، فأشار جمهورهم بالخروج إليهم”؛ وبناء على هذه الأدلة وغيرها قعّد الفقهاء لقاعدة الترجيح بالكثرة ومن أقوالهم: “الأكثرية مدار الحكم عند فقدان دليل آخر”… وقال ابن تيميه في مبايعة أبى بكر: “وإنما صار إماما بمبايعة جمهور الصحابة؛ وإذا جرت الشورى فلم تحقق إجماعاً، لجأ النّاس إلى الفصل في الأمر برأي الأكثرية الراجح(159).
فإذا تقرر الأخذ برأي الأكثرية في فروع المسائل دون ثوابتها وقطعياتها كقاعدة من قواعد العمل السياسي في الفكر الإسلامي، فإن فكرة الإرادة العامة بمضمونها الروسوي لن تكون غريبة عن الثقافة الإسلامية، فقد حفل بها التراث الإسلامي بمواقف نبوية كثيرة نـزل فيها على رأي الأغلبية، مثل نـزوله في غزوة أحد على رأي أكثرية المسلمين المتحمسين لملاقاة العدو خارج المدينة على خلاف رأي النبي عليه الصلاة والسلام؛ وقد شعر القوم هذا وعرفوا أنهم استكرهوه على الخروج؛ فأظهروا الرغبة في النـزول على رأيه صلى الله عليه وسلم ولكنه قال كما في سيرة ابن هشام: “ما كان لنبي لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه”، التزاما منه صلى الله عليه وسلم بنتيجة الشورى(160). وفي حصار الطائف نـزل علي رأي الأكثرية في البقاء على الحصار؛ رغم أن رأيه كان لا جدوى من إطالة الحصار فوق خمسة عشر يومًا؛ وقد استبان لهم ذاك الأمر متأخرين وعرف منهم ذلك، فقال لهم: “إنا قافلون غدا” فسروا بذلك وفرحوا”.
كما أن هناك مواقف في سيرة الخلفاء الراشدين احتكموا فيها للإرادة العامة للمسلمين اعترافا منهم بحق الأمة في اختيار الحاكم ومحاسبته وعزله وعدم طاعته بل تقويمه إذا حاد عن جادة الحق، كما في خطبة أبي بكر وعمر عند توليهما الخلافة(161)، وبهذا كان عصرهم معيارا صحيحا لبناء نظام سياسي راشد ودليلا على أن الأمة مؤهلة في جميع الظروف للمشاركة السياسية وممارسة الحرية والديمقراطية.
غير أن توظيف سيادة الأمة في النظام الإسلامي بعد تأصيل فكرة الأغلبية سيثير إشكال مدى توافق قاعدة سيادة الأمة وحقها في التعبير عن الإرادة العامة مع قاعدة حاكمية الشريعة حيث السيادة لإرادة الله وحاكميته الإلهية، خلافا للأنظمة الديمقراطية التي تقوم على أساس أن السلطة ترجع إلى الشعب وأنه هو صاحب السيادة، أي أن الديمقراطية في النهاية هي مبدأ السيادة الشعبية.
والحقيقة أن هناك مأزقا عويصا في الموازنة بينهما في التطبيق خصوصا لدى المدرسة الأصولية السلفية؛ فالديمقراطية تقتضي أن تكون السيادة والكلمة العليا للإرادة العامة للشعب وللناخبين، فتجعل إرادة البشر فوق إرادة الله، فتـُحل ما حرم الله، وتحرم ما أحل الله، وتلغي ما فرض الله وتجعل تشريعاتهم فوق شريعة الله، وهذا كله مرفوض أصوليا مما دفع بغالبية هذه المدرسة لرفض الديمقراطية واعتبارها كفرا بواحا، وفي المقابل يقول بعض العلمانيين عن الإسلاميين أنهم يكفرون بالديمقراطية عندما يحتكمون للشريعة دون استطلاع الإرادة العامة مما يعد من وجهة نظرهم نقضًا للديمقراطية، بل هو كفر بها. وقد برز هذا الجدل الفقهي وأحيانا العقدي نتيجةً لغموض مفهوم مدنية الدولة وطبيعة السلطة فيها، بالإضافة إلى إشكالية الموائمة بين الشريعة وحق الشعب في اختيار حكومته المنتخبة، وما يترتب على هذه السيادة الشعبية من التصويت الحر لأي القوانين يخضعون، وفي حال افترضنا اختيار الشعب لغير الشريعة في بلد إسلامي، فهل يعتبر هذا الخيار حقا للأمة تُمكّن من تنفيذه، أو أنها ستخرج عن إسلاميتها بتحكيمها قوانين لم ينـزلها الله تعالى؟(162).
وفي الواقع هناك خلط بين السلطة السياسية والسيادة، إذ السيادة صفة للسلطة(163)، ومن بين الآراء التي حاولت التوفيق بينهما ما كتبه د.جمال الدين عطية في مجلة المسلم المعاصر(164) حيث انطلق من مقدمة مفادها انفراد واستقلال الإسلام بموقف متميز في نظرته للحكام؛ فإذا كانت الديمقراطية تنطلق من أن الأمة مصدر السلطات بحيث يصبح تسلسل السلطات كما يلي: الأمة؛ فالحاكم دون اعتبار لموقف الله وإذا كانت التيوقراطية تنطلق من مبدأ التفويض الإلهي للحاكم في الأرض بحيث يصبح تسلسل السلطة هو الله ثم الحاكم ثم الأمة؛ فان الإسلام ينطلق من قاعدة السيادة والحاكمية لله أصلا والناس مستخلفون عن الله في عمارة الكون وإقامة الشريعة؛ بحيث يغدو معه تسلسل السلطة كالتالي: الله؛ ثم الأمة؛ ثم الحاكم.
وعليه فقد انتهى مبدأ الأغلبية في الفكر المقاصدي إلى أن عدّه بعض المقاصديين كلية من الكليات التشريعية الأساسية(165) حيث يعتبر علماء المسلمين العمل بالأكثرية أحد وجوه الترجيح بل هو أمر مسلم عندهم(166)، قال أبو حامد الغزالي: “والكثرة.. أقوى مسلك من مسالك الترجيح؛ وبذلك يتضح أنه لا خلاف بين الشورى والديمقراطية في الأخذ بمبدأ الأكثرية أو الأغلبية، لأن الإسلام يضبط رأي الأغلبية ويقيده بميزان الشرع والوحي(167).
بل إن مبدأ الأغلبية نجد له تطبيقا عمليا من خلال نظام البيعة كأحد أهم وسائل التعبير عن الإرادة العامة في الفقه السياسي الإسلامي؛ حيث تعتبره الغالبية العظمى من الفقه- باستثناء الشيعة- وسيلة إسناد السلطة إلى الحاكم؛ وسند مباشرة السيادة نيابة عن الأمة؛ وقد نقل ابن القيم في إعلام الموقعين عن البيهقي قوله فيما اختلف فيه الصحابة: “وإن اختلفوا بلا دلالة نظرنا إلى الأكثر”(168)؛ وهذا لا يعني أن هذه الأكثرية معصومة لأن العصمة عند العلماء ما أجمعت عليه الأمة فهي معصومة فيه؛ أما ما اختلفت فيه الأمة؛ فالخطأ فيه وارد؛ لكن الذي يقوله العلماء ويقوله الفقهاء والأصوليون والمحدثون هو أن الصواب مع الأكثرية أكثر، وإذا كان الصواب مع الأكثرية أكثر فإذن يبقى أن قول الأكثرية مرجح فيما تختلف فيه الآراء(169).
وقد زاد الاحتكام إلى رأي الإرادة العامة أيام الفتن حيث الاختلاف والفرقة خصوصا في خلافة الإمام علي -كرم الله وجهه- أثناء حرب الصفين وبعدها، فنجده -رضي الله عنه- ينـزل عن رأيه في عدم قبول التحكيم لصالح رغبة الأمة في قبول التحكيم بعد حادثة رفع المصاحف في جند معاوية -رضي الله عنه-، وقد كان هذا الموقف منهجا له في الحكم عند كل اضطراب في أمر الحكومة فيقول: “لقد كنت أمس أميرا فأصبحت اليوم مأمورا وكنت أمس ناهيا فأصبحت اليوم منهيا وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون”، ليقرر بذلك حق الأمة في الأخذ برأيها حتى في الشئون العسكرية وهذا ما يمثل الشورى في أعلى مستوياتها(170).
أن الجمع بين مبدأ سيادة الأمة وسيادة الشريعة يمكن تحققه دون التباس، إذا قدّرنا أن المرجعية العليا في الإلزام والأحكام للشرع، فإن المرجعية في الحكم والتنـزيل والتطبيق هي للأمة بمجموعها وليس لفرد الحاكم، ومن هنا يحسن أن نفرق بين مصدر السلطة السياسية ومصدر النظام القانوني، فالسلطة السياسية مصدرها الأمة، والنظام القانوني مصدره الشرع، فإذا كانت الحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الشرع، فإن السلطة في التولية والرقابة والعزل للحاكم السياسي هو لمجموع الأمة، ولهم في إطار سيادة الشريعة مطلق الحق في ذلك لا ينازعهم فيه إلا ظلوم، ولا يسلبه منها إلا مستبد مراغم لمقاصد الشريعة.
يظهر مما سبق أن سيادة الأمة يمكن اعتبارها من مقاصد الشريعة الجزئية إذ متعلقها هو أبواب السياسة وتراتيبها الإدارية، ويظهر مقصود الشرع في تحقيقها للعدالة ومنعها لظلم السلطان وإشراكها الأمة في الرقابة والمحاسبة لمن تعدى وبغى في صلاحيته الممنوحة من الأمة، وفي عصرنا الحاضر أضحى هذا الدور أكثر فاعلية وآكد في نجاحه على مستوى تحقيق الحريات وإقامة الحدود والمصالح المجتمعية، وترك الأمر لفرد الحاكم بمنحه مطلق السلطة قد يغري بالاستبداد والانحراف عن غايات الولاية.
هذه الفكرة بالرغم من أهميتها لم تنضج في الفقه السياسي الشرعي مع تطورها النظري في الفقه الدستوري الوضعي، لذلك هي محاولة لتطوير هذه النظرية، وتخفيف المفاصلة الشديدة بين دور الأمة ودور الشريعة وافتراض أن سيادة الأمة هي قرين الكفر والخروج عن الملة. ولعل بوادر النضح لهذه المفاهيم تأتي من حسن رعاية التنـزيل بقيام الحكومات العربية الصاعدة بعد ثورات الربيع العربي بتقديم الأنموذج الصالح لها.
ثالثا: ضوابط المظاهرات والاعتصامات “الإرادة العامة الثائرة” – نحو فقه للاحتجاج الجماعي السلمي-
بين مجوّز ومانع للثورة السلمية قياسا على مدى تحقق مناط حرمة الثورة المسلحة عند أهل السنة والجماعة، لم تتمخض الآراء المعاصرة عن الحل الإسلامي في كيفية استرداد الشعب لكرامته ورفع الظلم الاجتماعي الواقع عليه ووقف استنـزاف الطغاة لكلِّ الحقوق الإنسانية(171)، والكرامة البشرية، وسوقها الأمّة الإسلامية إلى الدمـار والتبعية بسبب داء الاستبداد السياسي.
وفي هذا الصدد تمثل المظاهرات والثورات الشعبية من بين أهم وسائل التعبير عن الإرادة العامة فهي توصف بأنها الحل الأخير لاسترداد السيادة أو ما يمكن تسميته “الإرادة العامة الثائرة”؛ فلا تخلو النصوص الشرعية من مخاطبة الناس بصيغة الجمع من أجل دفع الظلم الواقع وإصلاح الفساد وذلك عمارة للأرض وإصلاحًا للحال وحمايةً للمستضعفين ونصرةً للحق كما في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً)؛ وقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ)(172)، وقوله: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(173).
وبعيدا عن ظاهرة العنف في إسقاط السلطة وإعادتها إلى الإرادة العامة لتتصرف فيها من جديد؛ فإن الفكر الإنساني لم يعدم وسائل للاحتجاج السلمي أثبت الواقع المعاصر فعاليتها في الانتقال الديمقراطي؛ يتعلق الأمر بالحق في التظاهر ودوره في التغيير السلمي في ظل تزايد الوعي السياسي للمواطنين؛ حيث يرى جمهور العلماء أن المظاهرات حق يكفله الدستور وينظمه القانون، ويجيزه الشرع الحنيف؛ فالمظاهرات وسيلة تأخذ أحكام الوسائل، والأصل في الوسائل الإباحة، فهي وسائل جماهيرية جديدة للتعبير عن الرضا، أو السخط على تصرفات الدولة يراد بها توصيل رسالة جماعية، أو شعبية إلى الحكومة، أو الجهة المعنية، فلا يمكن وصفها بأنها بدعة محرمة، أو أنها تَشَبُّه بالكفار، بل هي وسيلة للتعبير عما تريده الغالبية يمكن استعمالها في الخير، وفي الشر، فهي معتبرة بمآلاتها ومقاصدها(174)، فإن كان المقصود من هذا التظاهر إظهار الحق، ورفض الظلم، وكشف الجرائم، وشحذ همم الناس وألسنتهم وأقلامهم وأيديهم بما يملكون فعله؛ فهي مشروعة مندوبة، بل قد تصل إلى الوجوب أحيانًا؛ من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسعي إلى تغييره؛ فالدين النصيحة ولا خير في قوم لا يتناصحون؛ ولا بأس أن يتجمع المسلمون ويخرجوا في مظاهرات لاستنكار أمر معين، ويعلنوا رفضهم له، ويطالبوا بالتدخل لمنعه إذا كانت هذه الطريقة مجدية ونافعة، جاء في الأثر الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي تميم الداري قال: “قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم”. غير أن هذا الحق مقيد بألا يترتب عليه ضياع حق الغير، فلا يجوز أن تحدث المظاهرات ضررًا بالغير أو ائتلافًا لماله أو ممتلكاته؛ بل يجب أن تمارس في إطار القيم والآداب الإسلامية، فلا سب ولا قذف ولا إيذاء، وعلى قوات الأمن التعاون مع المتظاهرين لإنجاح هذه المظاهرات وإخراجها بشكل حضاري لائق بتعاليم الإسلام والأعراف والتقاليد الإسلامية والعربية(175).
الخاتمة:
دخلت المنطقة العربية في واقع جديد لم يرس بعد على حال يمكن الحكم عليها، وان كانت في بعضها قد أخذت خطوة أولى في طريق العدل وهي الامتناع من التزوير في الانتخابات، ومع ذلك لم تنته بعد تداعياتها، وما زالت احتمالاته مفتوحة في شتى الاتجاهات؛ فما شهدته هذه الأحداث تحمل مواصفات الثورات في بعض جوانبها لجهة الأسباب والمسببات، كما تحمل سمات الانتفاضات الاجتماعية المتواصلة من جهة عدم توفر قيادات تدير وتوجه، ولكنها في كل الأحوال حدث تاريخي كبير كانت له مفاخره الآنية ومخاطره المآلية على المنطقة في ظل عدم وجود رؤية إصلاحية توافقية يساهم الغرب في جعلها قاتمة غير مرغوب فيها.
فما حدث سيظل دليلاً على أن العرب دخلوا مرحلة جديدة في تاريخهم عنوانها الأكبر الحرية والكرامة والتوزيع العادل للثروات، تنتقل فيها من حكم الفرد إلى حكم الأمة، ومن الاستبداد إلى الحرية، ومن الديكتاتورية إلى التعددية، ومن تحكيم قوانين البشر الوضعية في واقع الأمة إلى تحكيم شريعة (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
وقد كان من تداعيات هذه الثورات حدوث مناقشة علمية حول أيهما أولى وفقا لمنهجية التدرج في التغيير السياسي والتحول الديمقراطي الحقيقي نحو سيادة الأمة بمختلف آلياتها الدستورية ووسائل التعبير عنها، ومنها فكرة الإرادة العامة كاصطلاح غربي لا وجود له في الفقه الإسلامي، في ظروف مختلفة تماما عن نشأة الاجتماع السياسي في الإسلام، لقد كشفت هذه الدراسة أن التأمل في مكنون ومضمون مصطلح الإرادة العامة ونطاق إعمالها وضوابط الاحتكام إليها يكون استعمالها في الفقه السياسي الإسلامي المعاصر لا غبار عليه ما دام توظيفها يعبر عما لا يتعارض مع حاكمية الشريعة المطلقة؛ فهي فكرة محتواة ضمنيا في القواعد الفقهية كقاعدة الترجيح بالكثرة وقاعدة الأغلبية وقاعدة البيعة في اختيار الحاكم؛ فضلا عن أنها صورة من صور الشورى فيما لا نص فيه كمبدأ ثابت في نظام الحكم في الإسلام بل أنها فكرة تتماشى مع مقاصد الشريعة في تحرير الإنسان وتقرير ولايته في الاستخلاف الرباني.
إذ إنه يلاحظ رغم التجربة الإسلامية الثّرية في فن الحكم الإسلامي وطرق ممارسة السلطة فيها وسياسة الرعية على أساس من الحرية والعدل والمساواة، إلا أنها لم تواكبها صناعة فقهية تعكس ذاتية الفقه الحضاري والعمراني في إدارة الحياة السياسية والدستورية؛ الأمر الذي جعل الفقه الناقد المعاصر يصف فقه الدولة في الإسلام بالفقر في التّنظير؛ كونه لم يحسم مسائل وإشكالات كثيرة في الدولة المسلمة المعاصرة المنشودة؛ حيث لازال منطق السلاح والعضلة سيّدا بدلا من أسلوب الحوار وتحكيم العقل؛ كما هو ملاحظ من خلال تلك الحروب الأهلية والثورات الشعبية بين أبناء الجلدة الواحدة في القطر الواحد؛ فبدل أن يؤصل الفقه التأسيسي المنهجي مثلا لفقه الاحتجاج السلمي للتعبير عن الإرادة العامة كرسوا لفقه الفتنة لتستمر الأمة الإسلامية بعيدة عن حالة الرشد السياسي الذي عاشته دولة الخلافة الراشدة لتصدق عليه مقالة الشهرستاني المشهورة في الملل والنحل: “وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة؛ إذ ما سلّ سيف على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة في كل زمان”(176). كتعبير عن انشغال الكافة بمسألة الخلافة ومتوليها وانصرافهم عن مسألة فرض النظام وتحقيق الوفاق ووحدة الأمة.
وعند التأمل في التكييف الشرعي للثورات العربية ظهر أن ثمة فرقاً في الحكم على الحال قبل خروج الناس وعلى حالهم بعد خروجهم، فالواجب قبل الخروج تحكيم قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح اعتبارا لجسامة المخاطر التي هي ثابتة باستقراء تاريخي لحركات الخروج المسلح على السلطة ومن ثم وجب التحذير من مغبة الخروج، حفظا لوحدة الصف وقوة الجبهة الداخلية للمسلمين، وأما بعد الخروج وبعد حدوث الافتراق، وتمكّن الفتنة، واليأس من الحسم لإحدى الطائفتين إلا بإهراق الدماء فإن الشرع والعقل يحكمان بأن الواجب حينها هو السعي في الصلح بين المسلمين والحكم بالعدل بينهم، لا تحريض بعضهم على بعض، ولا إفتاء الظالم بأحقيته بالحكم وإعطائه الصبغة الشرعية ليفتـك بالرعية، والأصل في هذا قول الله تعالى: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)، ثم ما حدث أثناء الفتنة بين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وأهل الشام ثم بين الحسن بن علي -رضي الله عنهما- وأهل الشام وعلى رأسهم معاوية -رضي الله عنه-، فقد كانت الوفود والمصلحون بين الطائفتين، وتوصلت إلى الصلح بين المسلمين وجمع الكلمة في الأولى والآخرة؛ بل إن الحسن -رضي الله عنه- تنازل عن الخلافة من أجل جمع الكلمة ووحدة الصف، ولم يكن منه طريق ولا عليه غبار؛ ولكنه آثر مصلحة الأمة وجمع كلمتها على التمسك بحقه في الخلافة؛ بل إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أثنى على حسن صنيع الحسن -رضي الله عنه- بقوله: “ابني هذا سيّد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين” رواه البخاري ومسلم. فواجب القادرين بالكلمة أو الفعل هو السعي لجمع كلمة المسلمين، وإزالة الفتنة، مصداقا لقوله -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ” رواه مسلم، وفي هذا دليل قوي على أن حكم ما بعد قيام الفتنة غير ما قبلها، وإلا فإن الأصل هو تمسك الخليفة بخلافته حتى بعد قيام الفتنة، لكن النظر بعدها للمصلحة ودرء المفسدة؛ لهذا أثنى النبي -صلى الله عليه وسلم- على صنيع الحسن -رضي الله عنه-.
وعليه يمكن للفقيه أن يحاول الوصول للترجيح من خلال مرجحات وموجهات وضوابط منها:
1- أن المصالح والمفاسد لا تعرف إلا بالتقريب لا بالتحديد، فلا يمكن أن يجزم فيها الإنسان لشيء يقيني في الغالب لارتباطها في المستقبل وارتباطاته واشتباكاته المتعددة.
2- الترجيح بين المصالح والمفاسد من موارد الاجتهاد التي يختلف النظر فيها لكن يدور بين الأجر والأجرين.
3- التحفظ قدر الاستطاعة، والاستعانة بالله، واستشارة أهل الخبرة وإخلاص القصد، فإن الباب مزلة أقدام، ومدحضة أفهام، وكثيراً ما يقع فيه الاشتباه، وليتحر النظر في المآلات وعموم المفاسد والمصالح وخصوصها، وتناولها للضرورات أو للحاجيات ونحو ذلك حتى يصل لنتيجة الاجتهاد التي تبرأ بها ذمته.
والحمد لله رب العالمين
* * *
الهوامش
1- د/ وصفي عاشور أبو زيد، الفكر المقاصدي وتفعيله في الواقع الثوري المعاصر http://www.abolfotoh.net/articles/religion-
2- حقيق أن الفقه السياسي الإسلامي لم يأخذ حقه من العناية والاجتهاد مثلما أخذ فقه التعبد وفقه المعاملات حظه؛ حيث يلاحظ أن كل ما كتب حوله هو تقرير لما هو كائن لا ما يجب أن يكون؛ فلا توجد نظريات سياسية تواجه بها بضاعة الغرب في ميادين الحكم والإدارة؛ مما ورث فينا تقليدا؛ وتبعية لنظم الغرب وشرائعه وصنائعه وكأن الشريعة الإسلامية لم تقرر للأمة دورها الاستخلافي في التعمير والحكم؛ لقد أصيب الفكر السياسي الإسلامي بالجمود فظلت الكتب تتناول الخلافة والبيعة ووجوب الطاعة؛ أنواع الإمارة وصور الوزارة بطريقة منفصلة عما يجري في الحياة السياسية للدولة؛ بل أن بعض ما كتب في نقد السياسة التي عاصرها الفقيه لم يطبع وينشر إلا بعد موته بوصية منه؛ كما هو مروي عن عميد الفقه الدستوري الإسلامي الإمام الماوردي وكتابه الأحكام السلطانية. ينظر لمزيد من التفصيل د/ محمد سليم العوا؛ في النظام السياسي للدولة الإسلامية؛ دار الشروق ط3؛ 2008؛ ص45.
3- د/ سيف الدين عبد الفتاح؛ فقه الاحتجاج سلاح الأمة الغاضبة، حوار أجراه إسلام عبد العزيز وعبد الله الطحاوي، بتاريخ/ 19-08-2008 .
4- د/ إبراهيم البيومي؛ أصول المجال العام وتحولاته في الاجتماع السياسي الإسلامي؛ مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية العدد 15؛ سنة 2010؛ ص 179.
5- د/محمد كامل عجلان؛ أطروحة العقد الاجتماعي والحرية الفردية؛ مقالة منشورة على مجلة الحوار المتمدن؛ العدد:2951؛ بتاريخ: 21مارس2010؛ على الربط الالكتروني: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid
6 – د/أيمن أحمد الورداني؛ حق الشعب في استرداد سيادته؛ مكتبة المدبولي القاهرة؛ طبعة 2008؛ ص58.
7- د/ ثروت بدوي، النظم السياسية؛ ص 61-64-65.
8- د/محمد كامل عجلان؛ أطروحة العقد الاجتماعي والحرية الفردية؛ مقالة منشورة على مجلة الحوار المتمدن؛ العدد:2951؛ بتاريخ: 21 مارس 2010.
9 – د/ صالح حسن سميع، أزمة الحرية السياسية في الوطن العربي؛ دار الزهراء؛ القاهرة؛ سنة 1982؛ ص 11.
10- د/ داود الباز؛ النظم السياسية؛ الدولة والحكومة في ضوء الشريعة الإسلامية؛ المرجع السابق؛ ص20.
11- ينظر في مراحل نشأة الدولة الإسلامية بدءا من العهد المكي إلى العهد المدني مرورا بالهجرة لتأسيس الدولة الإسلامية ودستورها وتحديد وظائفها؛ واجتماع السقيفة كدلالة على استمرار الدولة الإسلامية بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام ينظر كل ذلك برؤية عصرية تقريبية عند د/ عبد الحميد متولي؛ مبادئ نظام الحكم في الإسلام؛ مرجع سابق؛ ص134 د/ محمد سليم العوا؛ في النظام السياسي للدولة الإسلامية؛ ص51؛ ص48؛ ص69.
12- د/ محمد عمارة؛ الإسلام والسياسة؛ دار السلام؛ القاهرة ط1؛ 2005؛ ص40.
13- الإمام أبو الحسن الماوردي؛ الأحكام السلطانية والولايات الدينية؛ دار الفكر العربي؛ طبعة1983؛ ص5.
14- ابن خلدون؛ المقدمة؛ ص193.
15 – ينظر د/ القرضاوي؛ من فقه الدولة في الإسلام؛ دار الشروق؛ ص17؛ وابن عاشور؛ أصول النظام الاجتماعي في الإسلام؛ ص 194؛ حيث يقول فضيلته: “فإقامة حكومة عامة وخاصة للمسلمين أصل من أصول التشريع الإسلامي؛ ثبت بدلائل كثيرة من الكتاب والسنة بلغت مبلغ التواتر المعنوي؛ مما دعا الصحابة بعد وفاة الرسول إلى الإسراع بالتجمع والتفاوض؛ لإقامة خلف عن الرسول في رعاية الأمة الإسلامية”؛ المرجع نفسه؛ ص 194 وما بعدها.
16 – الماوردي؛ أدب الدنيا والدين؛ ص149.
17- ابن عاشور؛ مقاصد الشريعة الإسلامية؛ ص 194.
18- د/ فتحي الدريني؛ المناهج الأصولية؛ ص414؛ هامش رقم 1.
19- د/ يوسف القرضاوي؛ الحل الإسلامي فريضة وضرورة؛ ص 71.
20- د/ داود الباز؛ النظم السياسية؛ ص14 ود/ مصطفى أبو زيد فهمي؛ مبادئ الأنظمة السياسية؛ ص24 و25.
21- د/عبد الله سعيد الذبحاني؛ مأسسة السلطة السياسية كنظرية قانونية للدولة؛ رسالة دكتوراه؛ جامعة القاهرة؛ سنة 2009؛ ص152.
22- د/نعيم عطية؛ مرجع سابق؛ ص48.
23- إمام الحرمين؛ الإرشاد؛ الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية؛ بيروت 1985؛ ص357.
24- ابن خلدون؛ المقدمة؛ ص 209.
25- ينظر د/ منير حميد البياتي؛ النظام السياسي الإسلامي مقارنا بالدولة القانونية؛ دار وائل؛ عمان؛ ط1؛ سنة 2003؛ ص209
26 محمد بن المختار الشنقيطي الشرعية قبل الشريعة؛ مركز الراية للتنمية الفكرية” في دمشق أو جدة المصدر: الجزيرة نت .
27- د/ منير حميد البياتي؛ النظام السياسي الإسلامي مقارنا بالدولة القانونية؛ مرجع سابق؛ ص209
28- الجابري، العقد الاجتماعي و”عقد البيعة” وتغييب صحيفة النبي عليه الصلاة والسلام؛ http://hem.bredband.net
29- د/ نصر محمد عارف؛ نظريات التنمية السياسية المعاصرة؛ ص288.
30- ابن تيمية؛ منهاج السنة النبوية، ج1؛ ص 530.
31- ابن تيمية؛ المصدر نفسه؛ ج1؛ ص 532.
32- أبو يعلى؛ الإمامة؛ ص 214.
33- الماوردي؛ الأحكام السلطانية، ص17.
34- د/ أحمد علي الإمام؛ الشورى والمؤسسات التشريعية الحديثة؛ بحث مقدم للدورة السادسة عشرة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث- اسطنبول – جمادى الآخرة 1427هـ / يوليو 2006م.
35- ينظر مثلا إلى: الغزالي؛ إحياء علوم الدين؛ ج4؛ص 65 والجويني؛ غياب الأمم في التياث الظلم؛ ص47 والإمام الماوردي؛ الأحكام السلطانية؛ ص 6.
36- محمد بن المختار الشنقيطي، الشرعية قبل الشريعة؛ مركز الراية للتنمية الفكرية في دمشق أو جدة: المصدر: الجزيرة نت .
37- د/ أحمد القديدي؛ إقرار الحريات مقدم على تطبيق الشريعة: تعليق على موقع الجزيرة نت؛ حول حصة الشريعة والحياة 02/12/2004 .
38- د/ محمد بن المختار الشنقيطي الشرعية قبل الشريعة؛مركز الراية للتنمية الفكرية” في دمشق أو جدة المصدر: الجزيرة نت.
39- د/ توفيق الشاوي؛ فقه الشورى والاستشارة؛ ص421؛ وينظر أيضا؛ المرجع نفسه؛ ص459.
40- سورة الحج آية 41.
41- ينظر تفصيلا مهما في ذلك د/ محمد عمارة؛ الدولة الإسلامية- بين العلمانية والسلطة الدينية- دار الشروق؛ القاهرة؛ طبعة 1988؛ ص14 وما يليها.
42 – ابن تيمية؛ منهاج السنة، ج3؛ ص233، وابن كثير؛ البداية والنهاية، 1/146 حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهنّ.
43- سورة هود آية 61.
44 – ينظر عبد الرحمن الكواكبي؛ طبائع الاستبداد ومصارع العباد؛ مركز دراسات الوحدة العربية؛ طبعة 1995؛ ص 430.
45 – د/ راشد الغنوشي؛ الحريات العامة في الدولة الإسلامية؛ بيروت؛ مركز الدراسات الوحدة العربية؛ ط 1992؛ ص109.
46 – د/القرضاوي؛ من فقه الدولة؛ ص 35.
47 -د/القرضاوي؛ الدين والسياسة؛ دار الشروق؛ ط1؛ 2007؛ ص171.
48 – الغنوشي؛ مرجع سابق؛ ص 87.
49- الريسوني؛ الشورى في معركة البناء؛ ص 35 حيث خصص لمقاصد الشورى وفوائدها مبحثا كاملا قرر فيه عشرة مقاصد وفوائد. ينظر من ص 35 إلى ص 49.
50- د/ الريسوني؛ الشورى في معركة البناء؛ مرجع سابق؛ ص 40.
51- ينظر: ابن عطية؛ تفسير المحرر الوجيز: طبعة قطر 1977؛ ج3؛ ص 197.
52 – د/ سعد بن مطر العتيبي؛ “الثورة السلمية” وإشكالية التكييف الفقهي ؟http://www.saaid.net/Doat/otibi/90.htm
53- ينظر تفصل النظرية إلى: د/فتحي عبد الكريم؛ الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي؛ ص336 وما بعدها. د/علي جريشة؛ المشروعية الإسلامية العليا؛ ص273 وما بعدها. د/ أحمد صديق خان؛ البيعة في النظام السياسي الإسلامي؛ ص140 وما بعدها.
54- د/فتحي عبد الكريم، الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي، ص400.
55- ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج4، ص144 ومابعدها.
56- تهذيب التهذيب، ج2؛ ص250
57- نقلا عن د/صالح حسن سميع؛ المرجع السابق؛ ص638.
58- د/ خالص جلبـي؛ سيكولوجية العنف؛ ص 125.
59- محمد بن عبد التواب؛ الدفاع الشرعي في الفقه الإسلامي، ص475.
60- د/ أحمد صديق عبد الرحمن، البيعة في النظام السياسي الإسلامي، ص139.
61- الماوردي؛ الخلافة والملك؛ ص178 .
62 – أحمد عبد الحميد؛ الإسلام والثورة د/ محمد عمارة:
http://www.ahmedabdelhamid.com/arblog/?p=1148
63- د/علي جريشة؛ المشروعية الإسلامية العليا؛ ص280.
64- د/ضياء الدين الريس؛ النظريات السياسية الإسلامية؛ ص353 و355.
65- د/صالح حسن سميع، المرجع السابق، ص650.
66- الإمام ابن حزم؛ الفصل في الملل والأهواء والنحل؛ ص181 وما بعدها.
67- د/فتحي عبد الكريم؛ المرجع السابق؛ ص404.
68- د/ محمد يوسف موسى؛ نظام الحكم في الإسلام؛ ص 96 ود/ فتحي عبد الكريم؛ الدولة والسياسة في الفقه الإسلامي، ص407.
69- د/ سعد بن مطر العتيبي؛ “الثورة السلمية” وإشكالية التكييف الفقهي:
؟http://www.saaid.net/Doat/otibi/90.htm
70- د/ محمد فتحي محمد العتربي؛ فقه الثورة -رؤية مقاصدية: مصر نموذجا- مجلة الحقوق الإسكندرية عدد خاص بأعمال المؤتمر الدولي “الثورة والقانون”؛ أيام 21-22 ديسمبر 2011؛ ص965.
71 – النساء: 148.
72- الشورى: 39.
73- الشورى: 41 – 42.
74- حديث متفق عليه .
75- د/ حاكم المطيري، الثورة العربية – رؤية شرعية:
http://www.islamicnews.net/Document/ShowDoc08.asp
76- د/ حاكم المطيري السنن الاجتماعية الإلهية في تغيير المجتمعات الإنسانية؛ موقع بوابة العرب بتاريخ 15-5-2003: http://www.dr-hakem.com/Portals/Content/?info
77- د/عطية عدلان؛ النوازل الفقهية في الثورات العربية؛ مجلة البيان؛ العدد 294 على الرابط: http://albayan.co.uk/MGZarticle.aspx
78- د/ أحمد الريسوني، ” فقه الثورة، مراجعات في الفقه السياسي الإسلامي”، الناشر مركز نماء للبحوث والدراسات، الطبعة الأولى 2012 الحلقة الثانية من السلسلة الموسومة بالمراجعات، مراجعة سليمان صدقي:
http://ssidki.blogspot.com/2012/08/blog-post_25.html
79- د/ سعد بن مطر العتيبي؛ “الثورة السلمية” وإشكالية التكييف الفقهي:
؟http://www.saaid.net/Doat/otibi/90.htm
80- ويظهر ذلك في فقه التعامل مع الثورة المصرية؛ وبه تفسر مطالبة الرئيس المصري بالتنحي من بعض من يمنع التظاهر من العلماء، سواء كان منعه منعاً للمظاهرات عموما تغليبا لجانب مفاسدها، أو لما يعتقد من كونه جزءاً من خطة تقسيم جديدة للعالم العربي والإسلامي؛ وذلك إدراكاً منهم للفرق بين الحكم على أصل الشيء قبل وقوعه، وحكم التعامل معه بعد الوقوع. د/ سعد العتيبي؛ “الثورة السلمية” وإشكالية التكييف الفقهي؟ http://www.saaid.net/Doat
81- د/ محمد عمارة؛ الإسلام والثورة مقالة سابقة:
http://www.ahmedabdelhamid.com/arblog/?p=1148
82- الحديث صحيح: رواه البخاري، كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية ينظر د/ عطية عدلان؛ النوازل الفقهية في الثورات العربية؛ مجلة البيان؛ العدد 294 على الرابط: http://albayan.co.uk/MGZarticle.aspx
83- أخرجه ابن حبان في صحيحه وإسناده قوي.
84- محمد صالح باكارمان؛ الخروج على الحاكم الظالم.. وثورات الربيع العربي؛ http://www.salehbakrman.com/?p=566
85- د/ أحمد الريسوني، “فقه الثورة، مراجعات في الفقه السياسي الإسلامي”، الناشر مركز نماء للبحوث والدراسات، الطبعة الأولى 2012؛ ص31.
86- هل الثورات العربية ثورات عربية إسلامية، على الرابط:
؟http://www.almokhtsar.com/node/14668
87- د/محمد المصلح؛ الثورات الشعبية في العالم العربي.. رؤية شرعية:
http://www.hadielislam.com/arabic
88- د/ عطية عدلان؛ النوازل الفقهية في الثورات العربية؛ مجلة البيان؛ العدد 294 على الرابط: http://albayan.co.uk/MGZarticle.aspx
89- سورة الأنبياء: الآية 92 .
90- سورة المؤمنون: الآية 52 .
91- ابن عاشور؛ المرجع السابق؛ ص300 .
92- معلوم أن مصطلح الإمام يقصد به جهاز الحكم في الدولة بمؤسساته المختلفة بما فيهم الخليفة؛ والأمراء والوزراء والمستنابون وبالتالي فان حكومة الإمام ليست حكومة شخصية على نحو ما هو مقرر في تقسيم نظام الحكم في القانون الدستوري إلى (الحكم الفردي؛ حكومة الأقلية؛ حكومة الأغلبية أو الجمهورية) ينظر تفصيلا في ذلك. د/ ضياء الدين الريس؛ النظريات السياسية الإسلامية؛ ص204.
93- د/فتحي الدر يني؛ خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم؛ مؤسسة الرسالة- بيروت؛ ط1؛1982؛ص329 .
94- عبد الكريم الحمداوي؛ في النظام السياسي الإسلامي فقه الأحكام السلطانية؛ ص168.
95- عبد الكريم الحمداوي؛ المرجع نفسه؛ ص191.
96- ويذكرني هذا بما ذكره هوبـز عن ملوك فارس القدماء الذين كانوا يزعمون أنهم يحكمون كالآلهـة قال هوبـز: “جرت العادة عندما يموت الملك في بلاد فارس في العصور القديمة، أن يترك الناس خمسة أيام بغير ملك، وبغير قانون، بحيث تعم الفوضى والاضطراب جميع أنحاء البلاد، وكان الهدف من وراء ذلك هو أنه بنهاية هذه الأيام الخمسة، وبعد أن يصل النهب والسلب والاغتصاب إلى أقصى مدى، فإنه من يبقى منهم على قيد الحياة بعد هذه الفوضى الطاحنة، سوف يكون لديهم ولاء حقيقي وصادق للملك الجديد، إذ تكون التجربة قد علَّمتهم مدى رعب الحالة التي يكون عليها المجتمع إذا غابت السلطة السياسية! د/حامد بن عبدالله العلي http://www.anaqamaghribia.com/vb/showthread.php?t=178858
97- د/ الريسوني؛ من فقه الثورة؛ مرجع سابق؛ ص34. وص38-39.
98- الإمام ابن عاشور، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام؛ تحقيق محمد الطاهر الميساوي؛ عمّان: دار النفائس، 2001 ص337.
99- طارق الشامخي؛ الأمن الجماعي الإسلامي- مقاربة مقاصدية:
http://chamkhi.maktoobblog.com/765398/ 7-
100- أبو المعالي الجويني، غياث الأمم عند التياث الظلم؛ بيروت؛ دار الكتب العلمية، 1997؛ص97.
101- د/ حاكم المطيري؛ الحرية هي التوحيد؛ صحيفة الرأي العام24/6/2003 http://www.dr-hakem.com/Portals/Content/?info=
102- وجيه كوثراني؛ الدولة السلطانية؛ مقالة على الانترنت على موقع الإسلام أون لاين.
103- د/ ابراهيم البيومي؛ أصول المجال العام وتحولاته في الاجتماع السياسي الإسلامي؛ مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية العدد 15؛ سنة 2010؛ ص 161.
104- ينظر راشد الغنوشي؛ الحريات العامة في الدولة الإسلامية بيروت؛ مركز دراسات الوحدة العربية، 1993 مقالة على الانترنت على موقع الإسلام أون لاين.
105- ينظر تفصيلا دقيقة لمسألة وقضية الحرية أولا وآخرا في العمل الإسلامي؛ فهمي هويدي؛ القرآن والسلطان؛ دار الشروق؛ ط5؛ سنة 2003؛ ص 20-26.
106- ينظر مقالة د/ الهادي بريك؛ تفعيل مقاصد الشّريعة في معالجة القضايا المعاصرة للأمة؛ على موقع إسلام أون لاين.
107- راشد الغنوشي؛ الحريات العامة في الدولة الإسلامية؛ بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1993 مقالة على الانترنت على موقع الإسلام أون لاين.
108- الإمام ابن جماعة، تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام؛ الدوحة؛ دار الثقافة، 1988؛ ص94.
109- ابن عاشور؛ مقاصد الشريعة الإسلامية؛ تحقيق: الطاهر الميساوي؛ ص292 .
110- الشاطبي؛ الموافقات؛ ج1؛ ص37 .
111- العز ابن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، ج 1، ص43؛ والطاهر بن عاشور؛ مرجع نفسه؛ ص301.
112- حسام إبراهيم حسين أبو الحاج؛ تدابير الأمن الداخلي وقواعده العامة في الدولة في ضوء مقاصد الشريعة؛ رسالة دكتوراه كلية الدراسات العليا الجامعة الأردنية أيار، 2006؛ ص 51
113- الطاهر بن عاشور؛ مقاصد الشريعة؛ ص 190
114- الطاهر بن عاشور؛ أصول النظام الاجتماعي في الإسلام؛ دار السلام؛ القاهرة؛ ط2؛ سنة 2006؛ ص08
115- الطاهر بن عاشور؛ المرجع نفسه؛ ص114.
116- د/ عبد المجيد النجار؛ خلافة الإنسان بين الوحي والعقل؛ – بحث في جدلية النص والعقل والواقع؛ إصدارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي؛ فرجينيا؛- أمريكا-؛ ط3؛ سنة 2000؛ ص118 وما بعدها.
117- علال الفاسي؛ مقاصد الشريعة ومكارمها؛ دار البيضاء؛ مكتبة الوحدة لعربية؛ دون تاريخ نشر؛ ص41.
118- د/ فوزي خليل؛ المصلحة العامة من منظور إسلامي؛ ص265.
119- حسين الخشن؛ مدخل إلى فقه النظام العام: محاولة تقعيد فقهية جديدة؛ مركز البحوث المعاصرة بيروت: http://www.nosos.net/main/pages/news.php?nid=108
120- د/ محمد عبد رب النبي حسين محمود؛ نظرية الموازنة بين المنافع والمضار؛ دار السلام؛ الإسكندرية ط1؛ سنة 2008؛ ص 345.
121- الشاطبي؛ الموافقات؛ ج1؛ ص125.
122- الشاطبي؛ الموافقات؛ ج2؛ ص21.
123- الشاطبي؛ الموافقات؛ 2/440.
124- د/ محمد عبد رب النبي حسين محمود؛ نظرية الموازنة بين المنافع والمضار؛ مرجع سابق؛ ص 347.
125- أ/ محمد أمين سهيلي؛ أصل الموازنات؛ على الرابط:
http://www.islamfeqh.com/News/PrintNewsItem
126- ينظر تفاصيل أدلةكل فريق رسالة د/يمينة ساعد بوسعادي؛ مقاصد الشريعة وأثرها في الجمع والترجيح بين النصوص؛ دار ابن حزم؛ ط1؛ 2007؛ص 306 وما يليها.
127- د/صالح حسن سميع؛ المرجع السابق؛ ص648.
128- د/ محمد فتحي محمد العتربي؛ فقه الثورة -رؤية مقاصدية: مصر نموذجا- مجلة الحقوق الإسكندرية عدد خاص بأعمال المؤتمر الدولي “الثورة والقانون”؛ أيام 21-22 ديسمبر 2011؛ ص984.
129- الإمام الغزالي؛ الاقتصاد في الاعتقاد، ص150 نقلا عن محمد خان؛ البيعة في النظام السياسي الإسلامي؛ ص142.
130- الغزالي؛ الاقتصاد في الاعتقاد؛ ص137 و إحياء علوم الدين؛ ص 893.
131- ابن خلدون؛المرجع نفسه؛ ص177 و178.
132- مقدمة ابن خلدون، ص 217.
133- ابن حزم؛ المرجع السابق؛ ص171 .
134- د/علي جريشة؛ المرجع نفسه؛ ص281.
135- محمد سيد عبد التواب، الدفاع الشرعي في الفقه السياسي الإسلامي، ص481.
136- أخرجه الشيخان، البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: سترون بعدى أمورا تنكرونها، ج2، ص154، ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها.
137- الشوكاني؛ نبل الأوطار؛ ج7، ص198.
138- د/محمد يوسف موسى؛ نظام الحكم في الإسلام، ص146.
139 د/ علي جريشة، المرجع السابق؛ ص 257. د/ محمد سيد عبد التواب – المرجع نفسه – ص 485.
140- د /عطية عدلان؛ النوازل الفقهية في الثورات العربية؛ مجلة البيان؛ العدد 294 على الرابط: http://albayan.co.uk/MGZarticle.aspx
141- مجموع فتاوى ابن تيمية (24/269).
142- ابن خلدون، المقدمة، ص 403.
143- د/يمينة ساعد بوسعادي؛ مرجع سابق؛ ص 317 وما بعدها.
144- ينظر هذه الأقوال: ابن كثير البداية والنهاية؛ ج8؛ ص 173 والمودودي؛ الخلافة والملك؛ ص 180.
145- مجموع فتاوى ابن باز؛ ج8؛ ص206.
146- أخرجه أحمد والبزار وصححه الحاكم والذهبي والهيثمي.
147- وتعد رسالة د/ الريسوني حول: “نظرية التقريب والتغليب وتطبيقاها في العلوم الإسلامية”، التي نوقشت سنة 1992 من أوائل الدراسات التي تناولت مسألة العمل بالأكثرية حيث خصص لها فصلا خاصاوهو الفصل الثاني سماه: “حكم الأغلبية” ضمن الباب الثالث الموسوم بـ: “تطبيقات جديدة للتقريب والتغليب” تناول فيه بالتفصيل والتدليل والتمثيل مجالات العمل بالكثرة وضوابطها في الفقه الإسلامي؛ حيث كشفت الدراسات مجالات كثيرة يعمل فيها بحكم الأغلبية سواء في علم الحديث من خلال مسألة الترجيح بين الأحاديث المتعارضة الواردة في الموضوع الواحد، أو بين الروايات المختلفة للحديث الواحد، هل يقدم الترجيح بالأحفظية، أم يقدم الترجيح بالأكثرية؟ لينتهي إلى أن زيادة عدد الرواة الثقات، له مزية ورجحان على رواية الواحد الثقة، وعلى رواية العدد الأقل من الثقات؛ استدلالا من ترجيح الحديث المتواتر على الحديث الآحاد في إفادة قطعية الثبوت وعلى حد تعبير الإمام الفخر الرازي في المحصول: “فالخبر الذي يكون رواته أكثر؛ راجح على الذي لا يكون كذلك”. ينظر الريسوني؛ نظرية التقريب والتغليب وتطبيقاتها في العلوم الإسلامية؛ الناشر دار الغرب الإسلامي؛ تونس؛ ط1؛ سنة 2009؛ ص؛ 503 وص497.
148- د/ أحمد الريسوني؛ نظرية التقريب والتغليب وتطبيقاها في العلوم الإسلامية؛ ص 449.
149- د/ أحمد الريسوني؛ العمل بالأغلبية؛ على موقعه الشخصي بتاريخ: الجمعة: 10 كانون1/ديسمبر 2010 .
150- السرخسي؛ المبسوط؛ ج3؛ ص93.
151- د/ أحمد الريسوني؛ العمل بالأغلبية؛ على موقعه الشخصي بتاريخ: الجمعة: 10 كانون 1/ديسمبر 2010.
152- د /صبري محمد خليل؛ الفكر السياسي الإسلامي ومفهوم الأغلبية:
http://www.soufia.org/vb/showthread.php
153- ينظر: الغياثي، للجويني ص19؛ ومنهاج السنة، لابن تيمية 1/526 – 527.
154- الغزالي؛ فضائح الباطنية؛ ج1؛ ص 177 نقلا: عنالريسوني؛ نظرية التقريب والتغليب؛ ص 514.
155- ابن هشام؛ السيرة النبوية؛ ج2؛ ص653.
156- د/ أحمد الريسوني؛ نظرية التقريب والتغليب وتطبيقاها في العلوم الإسلامية؛ ص 454.
157- ابن هشام؛ السيرة النبوية؛ج2؛ ص653 – 654.
158- د/ أحمد الريسوني؛ نظرية التقريب والتغليب وتطبيقاها في العلوم الإسلامية؛ ص 457.
159- د/أحمد علي الإمام؛ الشورى والمؤسسات التشريعية الحديثة؛ بحث مقدم للدورة السادسة عشرة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث – اسطنبول جمادى الآخرة 1427 هـ / يوليو 2006؛ ص 8.
160- محمد الغزالي؛ فقه السيرة؛ دار الشروق؛ طبعة 2003؛ ص191.
161- بعد وفاة الرسول -عليه الصلاة والسلام- اختار المسلمون أبا بكر خليفة عليهم فكانت أول خطبة يقولها تطبيقا لهذه النصوص حيث يقول: “أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم؛ إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم”. ولما ولي عمر الفاروق رضي الله عنه أمر المسلمين بعد أبي بكر رضي الله عنه كان حريصا على إظهاره معاني تلك النصوص وتثبيتها في الأذهان فخطب يوما قائلا: “لو وددت أني وإياكم في سفينة في لجة البحر تذهب بنا شرقا وغربا؛ فلن يعجز الناس أن يولوا رجلا منهم فإن استقام اتبعوه، وان جنف قتلوه”، فقال طلحة: “وما عليك لو قلت: وإن عوج عزلوه؛ فقال: لا، القتل أنكل لمن بعـده”. يقول الغزالي: “إن عمر يريد أن ينكل بالحاكم الطائش ليكون لمن بعده عبرة، ذلك أن التلاعب بمصير الجماعة مصيبة نكراء، ولذلك فالإسلام يعتبر الحكم تكليفا لا تشريفا”، محمد الغزالي؛ الإسلام والاستبداد السياسي؛ تحقيق: أ/ مسعود فلوسي؛ دار الريحانة؛ الجزائر؛ ط 1999 ص 199،200.
162- د/ مسفر بن علي القحطاني؛ سيادة الأمة في سياق النظر المقاصدي؛ http://www.sauress.com/alhayat/363758
163- ينظر دراسة أ/عبد الله المالكي؛ سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة أصلها مقال ثم طوره صاحبه إلى كتاب ردا على ما آثرته من ردود وأحدثته من نقاش حول قضية دور الإرادة العامة في تطبيق الشريعة؛ وأيهما أسبق؛ حيث طرح إشكالية كيفية نقل مبدأ إلزامية الشريعة من المستوى الشخصي إلى المستوى العام (=الحيّز العام) بالمفهوم القانوني أي الدولة؟ حيث اقترح سيادة الأمة كوسيلة لفرض الشريعة وحسب رأيه فلم يكن الأنبياء عليهم السلام يمارسون (الإلزام والإجبار) مع أقوامهم بل كان منهجهم وفق مسار: (بشيرا ونذيرا)، لأن الإلزام والإجبار فرع عن السلطة التي هي فرع عن السيادة، ولهذا النبي صلى الله عليه لم يطبق مبدأ الإلزام في الشريعة إلا حين تقلّد السلطة في المدينة عبر تفويض أهلها له، في بيعة العقبة الأولى والثانية ووثيقة المدينة، فسيادة الأمة مقدِّمة ضرورية شرعية لأجل تطبيق الشريعة. وهي الأطروحة التي يؤيدها الفقه المقاصدي وعلى رأسهم القرضاوي والريسوني من حيث اعتبار الحرية مقصدا للشريعة لها الأولوية في التقرير والحماية قبل تطبيق الحدود الشرعية وفقا لفقه الأولويات وفقه التدرج في تطبيق الشريعة. ينظر د/ أحمد القديدي؛ إقرار الحريات مقدم على تطبيق الشريعة على الرابط: http://www.alwihdah.com/issues/istibdad/2010-04-26-1969.htm
وهو رأي جريء غاية في الأهمية، يعتبر ثورة حقيقية في الفكر الإسلامي، وهو تقديم مبدأ إقرار الحريات والديمقراطية في المجتمعات المسلمة على مبدأ تطبيق الشريعة. وهي الفكرة نفسها التي نماها الواقع الثوري العربي حيث نادي المالكي صاحب الكتاب أعلاه بتغيير شعار الإسلام هو الحل بشعار سيادة الأمة هي الحل ذلك أن تطبيق الشريعة لا يمكن أن يكون إلا تعبيرًا عن سيادة الأمة وإرادتها بعيدًا عن استغلال الشريعة من قبل الحاكم الفرد المستبد.سيادة الأمة تحرر الشريعة من قبضة الاستبداد. ينظر قراءة في كتاب سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة على الرابط: http://aafaqcenter.com/index.php/post/1169
وفي الواقع ليس هناك تقابل ولا معاندة بين المطالبة بسيادة الأمة وتطبيق الشريعة، ذلك أن سيادة الأمة مقدمة ضرورية لضمان (نجاح) محاولات تطبيق الشريعة؛ فهي درجةٌ في سُلَّم توفير الإمكانات ووسائل الاستطاعة التي تضمن تأثير تطبيق الشريعة ورسوخه. وهو نوع من الاجتهاد من قبيل تحقيق المناط ! فليس الخلاف في وجوب تطبيق الشريعة ولا في لزومها على المستوى الشخصي بل في كيفية تحصيل الضمانات اللازمة لتحقيق تطبيق قانون الشريعة على مستوى النظام العام في الدولة!. ينظر وائل الحارثي؛ سيادة الأمة مُقدِّمةٌ لضمان نجاح تطبيق الشريعة! http://www.muslm.net/vb/showthread.php?461271-.
164- نقلا عن فهمي هويدي؛ القرآن والسلطان؛ ص 143.
165- آدم يونس، العمل بالأغلبية: مفهومه وتأصيله ومجالاته- على الرابط الالكتروني: http://somaliatodaynet.com/news
166- د/ أحمد الريسوني؛ نظرية التقريب والتغليب وتطبيقاها في العلوم الإسلامية؛ ص 501.
167- د/القرضاوي؛ من فقه الدولة في الإسلام، ص ـ144و د/ منير البياتي؛ الدولة القانونية، ص 270.
168- د/ أحمد الريسوني؛ نظرية التقريب والتغليب؛ مرجع سابق؛ ص 495. وابن القيم؛ اعلام الموقعين؛ ج4؛ ص 122.
169- د/ الريسوني؛ رأي الأكثرية في الشريعة الإسلامية؛ حصة الشريعة والحياة؛ قناة الجزيرة يوم الأربعاء 22/8/2007 : http://www.aljazeera.net/mob
170- وقد وجدنا تركيا حين الغزو الأمريكي للعراق رفضت استخدام أمريكا لمجالها الجوي وذلك نـزولا علي رغبة نواب البرلمان ورضخت أمريكا لقرار تركيا في الوقت التي خذلت فيه أنظمة الفساد والاستبداد في منطقتنا العربية شعوبها وضربت بإرادتها عرض الحائط نـزولا علي رغبة أمريكا وهوانها واستضعافا لشعوبها وإذلالا لهم واحتقارا لا يليق بشعوب أكرمها الله بالإسلام.
171- د/ محمد فتحي محمد العتربي؛ فقه الثورة -رؤية مقاصدية: مصر نموذجا- مجلة الحقوق الإسكندرية عدد خاص: “الثورة والقانون”؛ ص 965.
172- سورة الشورى آية 39.
173- سورة آل عمران آية 104.
174- أ.د/ علي محيى الدين القره داغي؛ التأصيل الشرعي للمظاهرات السلمية، أو الثورات الشعبية،ما يجوز منها وما لا يجوز، مع مناقشة الأدلة؛ على الرابط الالكتروني لموقع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
175- سوسن مسعود؛ حق التظاهر بين الفكر الدستوري والقانوني والشريعة؛ بتاريخ /1-7-2009 على الرابط الالكتروني:
http://www.shareah.com/index.php?/records/view/action
176- الشهرستاني؛ الملل والنحل؛ ج1؛ ص 24.