صفحة من تاريخ الخطاب الإسلامي المعاصر – هوامش وإضافات علي: “معالم الخطاب الإسلامي الجديد” للدكتور عبد الوهاب المسيري
العدد 87
-1-
قليلة هي تلك الدراسات التي تتناول تأريخ الأفكار عامة، وأقل من القليل تلك التي تتناول الفكر الإسلامي خاصة، فكيف بالتي تتناول الخطاب الإسلامي؟.
وموانع تأريخ الخطاب الإسلامي «الجديد» كثيرة منها:
أن تأريخ الخطاب الإسلامي منذ بداية الإسلام لم يحظ بعناية الكُتَّاب فيما عدا فترة الوحي التي حظيت وما زالت ببعض الدراسات الجادة، والخطاب الإسلامي «الجديد» لا يسهل رصده منبتًا عن مثيله على مر التاريخ.
ومنها أن التفاعل بين الأفكار خاصة بين المتعاصرين تجعل من الصعب تصنيف المفكرين تصنيفًا حاسمًا، فالتأثير متبادل بينهم، بل إن الأستاذ قد يأخذ من أفكار تلاميذه بمثل ما يأخذون من فكره.
ومنها أن الخطاب الإسلامي «الجديد» يشمل في مفرداته ما يتعلق بالاستراتيجية والتكتيك أو بوسائل التطبيق، وهذا الجزء يُضْن العاملون في الحقل الإسلامي بتسجيله لأسباب تتعلق بأمن الحركات الإسلامية في مواجهة من يتربص بها الدوائر… هذا إذا أحسنّا الظن بها ولم نصدق من يرى غياب هذا الفكر الاستراتيجي أو ضبابيته.
ومنها أنه في غياب الفكر المدون من أصحابه يخلو الميدان لكتابات الآخرين؛ سواء الآخر المستشرق أم الآخر الأمني والاستخباراتي الداخلي والخارجي، أو أخيرًا الصحفي الذي يكتب ما يحلو له أو للجهة التي يكتب لحسابها.
وأمام هذه الموانع والصعوبات تأتي ورقة الدكتور المسيري كمحاولة جادة تستحق التقدير، ومن مظاهر التقدير والاهتمام هـــذه «الهوامــــش والإضافات».
وورقة الدكتور المسيري ليست أول كتابة في تاريخ الخطاب الإسلامي المعاصر، فقد سبقتها كتابات نذكر من بينها البحوث المقدمة إلى ندوة الفكر الحركي الإسلامي وسبل تجديده المنعقدة بالكويت (٨-۱٠/ ۲ / ۱۹۹۳) (انظر خلاصة لها بمجلة إسلامية المعرفة، العدد ٢ ص ١٩١ – ٢٠٤)، وبحث الدكتور إبراهيم عبد الرحمن رجب المقدم إلى المؤتمر الثالث للتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية المنعقد بالإسكندرية (5- 7/ 8/ 1995) والمنشور بمجلة إسلامية المعرفة العدد 3 ص 47 – 83، والذي قام بعرض مجمل لتطور الفكرة، أرجو أن يكون في هذه الورقة توضيح لبعض ما جاء بها.
وتظل أهمية ورقة الدكتور المسيري في أنها محاولة لتحقيب الفكر الإسلامي المعاصر وتنزيل (إسقاط) الفكر العالمي عليه، وهو ما دعاني إلى كتابة هذا التعقيب.
–۲–
صنف الكاتب الخطاب الإسلامي إلى فترتين تاريخيتين:
الأولى تبدأ مع ظهور الاستعمار حتى ١٩٦٥، والثانية بعد ذلك حتى الآن. ولم يبين السبب في اختيار عام ١٩٦٥ فاصلاً بين المرحلتين: فحينًـا يفهم من كلامه أن هذا تاريخ دخول الحضارة الغربية مرحلة الأزمة، وحينًا يفهم منه أنه بدء احتكاك الإسلاميين بالحضارة الغربية، وحينًا ثالثًا يفهم أنه التاريخ الذي اتجه فيه بعض الإسلاميين إلى العمل من خلال القنوات الشرعية. ولعله يقصد أن الظواهر الثلاث معًا قد التقت في هذا التاريخ.
وإذا كان تحديد هذا التاريخ يبسط الأمر لدى الكاتب فيما ذهب إليه من تحليلات واستنتاجات إلا أنه يطمس الحقيقة التي هي في الأصل صعبة التحديد، فالفكر لا يمكن أن يتغير من سنة لأخرى، وإنما تكون هناك إرهاصات وأحداث تؤدي إلى التعبير عن الفكر الجديد وأسباب تبرر هذه التغيرات.
غير أن الكاتب كان واضحًا حين صرح بأن نقطة الاختلاف بين الخطاب الإسلامي القديم (قبل ١٩٦٥م) والخطاب الإسلامي الجديد (بعد ١٩٦٥م) هو الموقف من الحداثة الغربية.
وإذا ســايرنا الكاتب في هذه النقطة فإننا نجد أن سنة 1928م وليس 1965م هي النقطة الفاصلة في الموقف من الحداثة الغربية، ففي هذه السنة بدأ حسن البنا دعوته التي ترفض الغرب وتندد بمن دعا إلى أخذ الحضارة الغربية بحلوها ومرها وخيرها وشرها، والتي تبشر برؤية شاملة للإسلام على أنه حضارة تنظم جميع جنبات الحياة، وأنه دعوة عالمية للناس كافة، وليس للعرب أو المسلمين فحسب، كما أنه احتوى الدعوة للقومية على أساس أنها إحدى الدوائر التي ينطلق إليها العمل الإسلامي، واعتبر تجديد الدين ضرورة بكل مــا تشمله كلمة التجديد من عودة إلى الأصول، واجتهاد لمقتضيات العصر، وهو في هذا كله دعوة إلى تحديد الهوية والانتماء.
وإذا كانت هذه الأفكار قد سبقه إلى بعضها الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا؛ إلا أنه هو الذي بلورها ونقلها من مجال الفكر إلى مجال الحركة، ولا يمكن – إذن – تجاوز سنة ١٩٢٨م إلى سنة ١٩٦٥م التي لا تمثل أية نقلة نوعية في هذا الصدد.
–3–
وإذا أردنا أن نتجاوز معيار الموقف الحداثة لنكمل رسم الصورة التاريخية للفكر – في خطوطها العامة – فسنجد أن سنة ١٩٤٧م تمثل محطة ثانية ينبغي لمؤرخ الفكر أن يقف عندها ليسجلها.
كان حسن البنا واعيًا لأهمية الجانبين التربوي والعلمي، بل لعل الجانب التربوي كان من مميزات الحركة التي أنشأها – حركة الإخوان المسلمين – إذا قورنت بغيرها من الجمعيات كالشبان المسلمين مثلاً، ولكن ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية والمناخ السياسي المطالب باستكمال استقلال مصر والبلاد العربية الأخرى – خاصةً سوريا ولبنان وفلسطين – وإلغاء معاهدات الحماية وجلاء القوات الأجنبية، والدور الهام الذي قام به الإخوان المسلمون في هذه القضايا فتح الباب على مصراعيه لإقبال جماهيري واسع للانضمام إلى صفوف الإخوان؛ مما أثر على مستوى البرامج التربوية داخل الحركة لعدم توافر الكوادر الناضجة بعدد كاف لاستيعاب هذه الأعداد الكبيرة، فكانت الحاجة ماسة إلى برنامج طوارئ لسد هذه الفجوة خاصةً في أوساط الشباب الجامعي. هذا من الناحية التربوية.
أما من الناحية العلمية فقد كان واضحًا كذلك لحسن البنا أن نشاط الإخوان التربوي والاجتماعي والرياضي والسياسي يستوعب جميع الطاقات ولا يترك فرصة لمبدأ ﴿ فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾.
وقد حاول – وإن كان متأخرًا بعض الشيء – أن يستدرك هذه الفجوة، فجاء إنشاء مجلة «الشهاب» بداية لتوجه جديد يعاد فيه النظر في توزيع اهتمامات الجماعة عامة وحسن البنا خاصةً، وكان كثير التحدث إلى إخوانه عن رغبته في هذا الشأن.
في هذا الجو تداعي تسعة شباب الإخوان – وكانوا لايزالون في مرحلة دراستهم الجامعية – للتفكير معًا في هموم الدعوة ومشاكلها. وخلال العديد من اللقاءات الطويلة التي تدارسوا فيها أوضاع العمل الإسلامي خارج ساحة الإخوان وداخلها، وفي مصر وخارجها، وتحليل العلل والأمراض، وبحث الاقتراحات والحلول، توصلوا إلى صورة للعمل تتدرج من البدء بأنفسهم إلى العناية بصفوة يختارونها لتلقي برامج مركزة ينقلون بعدها خبرتهم وثقافتهم إلى من يليهم. وعرف هذا العمل باسم «المشروع»، وقد عرض هذا النفر من الشباب خطة هذا «المشروع» على حسن البنا فباركه ووافق عليه وأمر بتفرغهم من أي أعمــــال أخرى في الجماعة للقيام بهذه المهمة، وقد تم بالفعل اختيار سبعين من صفوة الشباب، وبدأ العمل معهم واستمر حتى داهمت الجماعة أحداث ١٩٤٨ من حل الجماعة واستشهاد حسن البنا والاعتقالات والقضايا التي توالت وشغلت الجميع وشتتت شملهم في مختلف البلدان.
خلاصة القضايا التي اهتـم بهـا المشروع كانت تدور حول التربيــة والعلم والتخصص والاجتهاد.
وقد بدأ بعضهم مشروعًا للنشر والتوزيع باسم «مكتبة لجنة الشباب المسلم» وهو الاسم الذي شاع إطلاقه على المجموعة بأكملها بعد ذلك. وكان من أهم ما قامت الدار بنشره رسائل أبي الأعلى المودودي، وكتاب العواصم من القواصم لابن العربي تحقيق وتعليق محب الدين الخطيب.
أما من الناحية الفكرية فقد دفعت جهود هذه المجموعة الكثير من المشروعات في اتجاه أكثر نضوجًا وتبلورًا، فأنشئ على مستوى المركز العام للإخوان قسم للأسر، مهمته العناية بالبرامج التربوية، وقسم للخريجين، مهمته تنظيم عمل الخريجين ومتابعة نشاطهم في مهنهم ونقاباتهم، فضلاً عن تركيز العمل مع قسم الطلاب الذي كان قائمًا منذ زمن بعيد.
كان التركيز في هذه الأقسام الثلاثة على بلورة الأفكار والانتقال بها من مرحلة العموميات إلى مرحلة أكثر تحديدًا، سواء على مستوى الأهداف أم الوسائل، وكان طبيعيًا أن يستفاد بالكفاءات ذات التوجه الإسلامي من خارج دائرة أعضاء الجماعة، فكان التردد على مجالس العلماء والإفادة منهم بدءًا بعباس محمود العقاد، ومحب الدين الخطيب، ومحمود شـاكر، وعلى الطنطاوي، ومحمد عبد الهادي أبو ريده وغيرهم[1].
لقد تابع معظم هؤلاء الشباب السبعين دراساتهم العليا وتخصصوا في مختلف الفروع، وتابع بعضهم – كل على قدر استطاعته – رحلة العلم إنتاجًا وممارسة على أساس من التربية الرصينة التي تلقوها، وكان لهم أثرهم في البيئات التي تحيط بهم وفي الأجيال التي أثروا فيها.
ومن بلاد المهجر واصل أصحاب هذا الاتجاه سعيهم إلى إيصال رؤيتهم إلى الآخرين، وكان الحل الذي توصلوا إليه بعد سعي عدة سنوات هو إصدار مجلة فصلية تكون منبرًا للتعبير عن رؤيتهم، وندوة مطبوعة يتبادلون على صفحاتها الرأي، فكان ميلاد «المسلم المعاصر» سنة ١٩٧٤م محطة جديدة في هذه الرحلة الفكرية، وقد عبر مقالها الافتتاحي في عددها الافتتاحي عن أهم ملامح هذه الرؤية في مجال الاجتهاد، والحركة الإسلامية، والرؤية العالمية، وإقامة جسور الحوار والتعاون، وحرية الفكر، ووحدة الأمة الإسلامية، وتخطي رد الفعل الدفاعي إلى الإنتاج المبدع البناء، والفهم الأصيل للإسلام مستقلاً عن التأثر بالتيارات الاشتراكية والرأسمالية… إلى آخر هذه الملامح التي نؤثر أن ننشرها كملحق لهذه الكلمة مع كلمة التحرير في العددين ٣٠، ٤٠ أغسطس ۱۹۸۱م، أغسطس ١٩٨٤م (بمناسبة مرور عشر سنوات على إنشائها) وتقرير ندوة المجلة في ٢/ ٩ /۱۹۹۰م، وتحليل المضمون في العدد ٧٨ (يناير ١٩٩٦م).
لقد تابعت المجلة مسيرتها منذ عددها الافتتاحي في نوفمبر ١٩٧٤م لتصل إلى العدد ٨٦ في يناير ١٩٩٨م مكونة بذلك مدرسة فكرية من مدارس تيار الصحوة الإسلامية المعاصرة.
–4–
لقد أطلت بعض الشيء في ذكر حركة الإخوان والتيار الفكري بها لأنها صفحة مجهولة لم يكتب فيها، ولا يعني ذلك إنكار وجود حركات أخرى سواء داخل مصر أم خارجها، فهناك داخل مصر، الجمعية الشرعية وأنصار السنة المحمدية وجمعية الشبان المسلمين وغيرها، وهناك خــارج مصر العديد من الحركات: ففي سوريا وجد عدد من العلماء كان لهم أثر واضح في تخريج أجيال من الشباب المسلم الواعي المتمسك بدينه.
نجد نفس الشيء في الجزائر مع ابن باديس وجمعية العلماء الجزائريين، وفي تونس مع ابن عاشور، وفي الأردن مع تقي الدين النبهاني (١٩٥٣م)، وفي العراق محمد باقر الصدر وحزب الدعوة، وفي تركيا مع النورسي وجماعة النور، وفي الهند مع ندوة العلماء وأبي الحسن الندوي، ومع جماعة التبليغ (۱۹۲۷م)، والجماعة الإسلامية للمودودي.
وبطبيعة الحال، تتفاوت هذه الجماعات في منظورها للإسلام، فبعضها يقتصر اهتمامه على جانب العبادات والأخلاق، والبعض الآخر له نظرته الشاملة التي تتجاوز ذلك إلى الجانب الاقتصادي والسياسي، وإذا كان هذا النوع الأخير هو موضوع هذه الدراسة المقارنة، إلا أن ذلك لا يقلل من أهمية النوع الأول الذي كان له فضل الحفاظ على هوية الأمة وتمسكها بدينها وأخلاقها؛ مما يمهد لعمل النوع الثاني، سواء في مجال التوعية بالمفهوم الشامل، أم في مجال تكوين الكوادر تكوينًا متكاملًا.
–5–
إلى جانب الحركة الإسلامية بمفهومها العام أو التيار الفكري الذي أشرنا إليه – وكلاهما ينتمي إلى المفاهيم الإسلامية الشاملة – كان يوجد مفكرون إسلاميون غير منتمين إلى جماعة بعينها، ويصعب تصنيف هؤلاء جملة، إذ لا نجزم بقناعتهم بالمفاهيم الشاملة، وقد سبق أن أشرنا إلى بعض الأسماء التي كان يتردد عليها بعض الأفراد لالتماس الرأي، أو اكتساب المنهج، أو التعرف على المراجع الأصلية، ولا يستبعد حدوث تأثيرات لبعض الأفراد من كثرة ترددهم على بعض هؤلاء الأساتذة، ولكن ذلك لا يشكل القاعدة وإنما الاستثناء، وتبقي القاعدة أن الاتصال بالأساتذة غير المنتمين إلى جماعة بعينها، وكذلك قراءة الكتب الإسلامية المعاصرة كان له – بلا شك- آثار إيجابية؛ من حيث توسيع المدارك، وقبول التعددية الفكرية في إطار الأصول الإسلامية. وتحضرني هنا أسماء عبد الرحمن عزام، ومحمد أسد، ومحمد إقبال، ووحيد الدين خان، وأبي الحسن الندوي، ومحمد أبو زهرة، وغيرهم من الرعيل الأول، كما تجدر الإشارة إلى العديد من المؤتمرات الإسلامية العالمية التي عقدتها السعودية في السبعينيات ودعت إليها المئات من العلماء من جميع أنحاء العالم؛ مما كان له أثره في التعرف إلى أشخاص وأفكار العديد من المفكرين. ولا يفوتني هنا أن أتوقف عند بعض الكتاب المنتمين إلى جماعة الإخوان أو إلى التيار العام للصحوة الإسلامية من أمثال الشيخ محمد الغزالي ويوسف القرضاوي ومحمد عمارة، الذين صاغوا فكر الجماعة وفكر الفصيل المعتدل من الصحوة، والذين يعتبرون لذلك متحدثين باسم هذا التيار الآن.
–6–
كما لا يفوتني أن أتوقف عند اسمين، دار كثير من اللغط حول دورهما في صياغة فكر الفصيل المتطرف من الصحوة الإسلامية، وهما أبو الأعلى المودودي وسيد قطب.
والذي يهمني في هذا السياق هو توضيح الفروق بين فصائل الصحوة الإسلامية من حيث الأهداف ومن حيث وسائل تحقيق هذه الأهداف:
فمن حيث الأهداف: هناك اتفاق کامل حول الهدف العام وهو تحقيق الحياة الإسلامية.
ثم تتنوع الرؤى بعد ذلك:
فالبعض يهتم بتطبيق أحكام الشريعة -خاصة الحدود- في صورها التقليدية التي تركها لنا فقهاء المذاهب، وهذا هو رأي التيــار الغـــالب في الصحوة الإسلامية.
والبعض الآخر يرى التمسـك بثوابت الشـريعة والاجتهاد فيما استحدث من أمور الحياة، وكذلك يهتم بتخصيص القادرين على القيام بعبء الاجتهاد، وتهيئة المناخ المعين على ذلك من تفرغ ومعاهد بحوث، وإقامة حلقات النقاش، وإصدار المجلات العلمية لمناقشة هذه الأمور، وهذا هو اتجاه جماعة «المشروع» ومن يرى رأيهم ويتعاون معهم من العلماء والمفكرين.
وتمثل مسألة شمولية الإسلام أهمية خاصة عند هذا الفريق، بحيث يفضلون استعمال مصطلح المشروع الحضاري الإسلامي بديلاً عن مصطلح تطبيق الشريعة الإسلامية، والذي يوحي بالمعني الضيق للحدود.
وبطبيعة الحال تحتل مسألة الفنون والآداب مكانًا خاصًا في منظومة الحضارة مع ما يثيره ذلك من خلافات فقهية حول الضوابط الشرعية لهذا المجال.
هذا من حيث الأهداف.
أما من حيث الوسائل الموصلة لتحقيق هذه الأهداف: فهناك اتفاق كامل حول أهمية مرحلة التربية الأساسية لكوادر العمل الإسلامي، وأهمية توسيع قاعدة هذه الكوادر، وما يتطلبه ذلك من وسائل الاتصال والدعوة والإعلام.
ثم تتنوع الرؤى بعد ذلك:
فالبعض يرى الاستمرار في عملية الدعوة والتربية، وأن هذا كفيل بإصلاح المجتمع على مستوى القاعدة بطريقة مؤسسات المجتمع المدني، بل وعلى مستوى القيادة، على أساس أنه “كما تكونوا يول عليكم”. وقد يرى البعض أن مشاركة القاعدة الشعبية الواعية في التصويت لأحسن المرشحين يحقق نوعًا من الرقابة الشعبية قد يغني عن دخول الحركة الإسلامية بمرشحيها إلى البرلمان، ويرى البعض الآخر أن هذا الرأي مشروط نجاحه بسماح السلطة بحرية الدعوة وحرية إقامة مؤسسات المجتمع المدني، وأن طبيعة من يتولى السلطة أن يحاول المحافظة على بقائه فيها، وأن يخشى من أية قوة شعبية نامية، فلا بد من تغيير السلطة ووصول من هو مقتنع بالأهداف الإسلامية لحراسة العمل الشعبي، وأن الوصول إلى السلطة في ظل النظم الديموقراطية متاح لمن يحظى بتأييد أغلبية الناخبين، ومن هنا كان العمل السياسي وسيلة لحراسة العمل الدعوي والتربوي من ناحية، وأقصر الطرق لتنفيذ الإصلاحات الرسمية وإيقاف الفساد الحكومي من ناحية أخرى.
ویری فريق ثالث أن ممارسة اللعبة الديموقراطية بهذه الصورة مشروطة بوجود وعي شعبي عميق بالديموقراطية رافض لأي عبث بقواعدها، خاصةً مسألة تزييف إرادة الشعب الذي يهدم الديموقراطية من أساسها، ومثال الجزائر شاهد تاريخي على أن القوى المعادية للإسلام لا تسمح بوصوله إلى السلطة بالطريق الديموقراطي، وفي رأي هذا الفريق أننا نكون في هذه الحالة أمام عدوان من الأقلية الحاكمة على حق الأغلبية في الوصول إلى الحكم يبرر الدفاع الشرعي، ويكون استعمال القوة هنا – إذا توافرت – دفاعًا عن الديموقراطية وحقوق الأغلبية؛ بإزاحة الأقلية الطاغية المستبدة من الطريق، وليست بحال فرضًا للنظام الإسلامي بالقوة، فالفرض هو أن الأغلبية راغبة في النظام الإسلامي، وقاعدة الديموقراطية الأساسية هي حكم الأغلبية. وفي ضوء ذلك يمكن أن نفهم رأي المودودي وسيد قطب ومدى اتفاقهما مع رأي الفصائل الأخرى ومجال الاختلاف.
-7-
ونتوقف مرة ثالثة عند رافد آخر من روافد الصحوة الإسلامية، وهو الشباب المثقف المغترب في أوروبا وأمريكا للدراسة والعمل أو الهجرة النهائية.
تجمع هؤلاء – رغم انتماءاتهم السابقة (إخوان أو جماعة إسلامية أو غيرها)، أو عدم وجود انتماءات سابقة لهم بالمرة – ظروف مشتركة أهمها اغترابهم في مجتمع يتحدى هويتهم الوطنية والدينية واللغوية والثقافية والحضارية عمومًا، وردود الفعل بالبحث عن الهوية والاحتماء بها، خاصةً حماية الجيل الثاني من أطفالهم، ووجود مراكز إسلامية هناك تقدم لهم ما يلزمهم من عناية سدًّا لهذه الحاجة، وأخيرًا تقدمهم في تخصصهم العلمي والمهني بما يضعهم أمام تساؤلات كثيرة ليس هنا محل بحثها. يمثل هؤلاء القاعدة الشعبية للعمل الإسلامي في المهجر: لديهم التصور الإسلامي العام الذي يقابل القاعدة الشعبية للحركات الإسلامية في الوطن الأم مع الفوارق التي أشرنا إليها، وما يترتب عليها من مشاكل، ومن بين صفوة هذه القاعدة الشعبية – والتي هي أصلاً أعلى مستوى من مثيلتها في الوطن الأم بسبب الثقافة والمهنة واللغة وغيرها – نشأت فئة تضم أفرادًا من انتماءات سابقة متعددة صهرتهم ظروف العمل الإسلامي في المهجر وشعروا بالحاجة إلى خدمات لا تقدمها المراكز الإسلامية العادية، فأقاموا عددًا من المؤسسات، يهمنا منها هنا المؤسسات ذات التوجه العلمي والفكري، ومن أهمها جمعية علماء الاجتماع المسلمين التي أسست سنة ۱۹۷۲م لمساعدة الأساتذة على التعرف إلى صلة تخصصاتهم بالإسلام من خلال حلقات النقاش والندوات والمؤتمرات السنوية والمجلة الفصلية التي تصدرها منذ سنة ١٩٨٥م (المجلة الأمريكية للعلوم الاجتماعية الإسلامية(.
ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى إنشاء الجماعة الإسلامية (باكستان) ذراعًا علميًا لها في بريطانيا (المؤسسة الإسلامية / ليستر)، وإلى إنشاء ندوة العلماء (الهند) ذراعًا علميًا لها في بريطانيا كذلك (مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية سنة ١٩٨٥م) ومجلتها، مجلة الدراسات الإسلامية التي تصدرها منذ ۱۹۹۰م. كما نشير إلى العديد من الجمعيات المتخصصة، كالجمعية الإسلامية للتقدم العلمي التي تصدر مجلة }العلم الإسلامي 1985) { Islamic Science م)، وإلى المجلات العلمية مثل: مجلة الدراسـات الموضوعية (۱۹۸۹م)، والمجلة الفصلية للتربية الإسلامية (١٩٨٤م)، وعشرات غيرها.
كما لا يفوتنا الإشارة إلى الجامعات الإسلامية الجديدة التي نشأت في كل من إسلام أباد، وماليزيا، وقسنطينة، فضلاً عن توجه بعض الجامعات الإسلامية القديمة كجامعة الإمام محمد بن سعود إلى تطوير دراساتها في مجال العلوم الاجتماعية إلى المنظور الإسلامي.
–8–
وعلى صعيد آخر طرح موضوع تطوير العمل العلمي الإسلامي فقدمت مذكرة باقتراح إنشاء أكاديمية دولية للبحوث الإسلامية إلى اللقاء الثالث للندوة العالمية للشباب الإسلامي بالرياض، أتبعتها بمشروع للنظام الأساسي لهذه الأكاديمية عمم على عدد من أقطاب الفكر الإسلامي لتلقي ملاحظاتهم، وكان ذلك في أواخر ١٩٧٦م وأوائل ۱۹۷۷م.
وكان من نتيجة إثارة الاهتمام بالمشكلة في أوساط المفكرين الإسلاميين خاصةً في بلاد المهجر، أن وجد الشعور بضرورة الحوار الوثيق حول ما ينبغي عمله، فكان ترتيب اللقاء الذي عقد في لوجانو بسويسرا في يوليو ١٩٧٧م، والذي ضم أكثر من ثلاثين شخصًا، واستمر أسبوعًا كاملاً، خرج بعده المشاركون برؤية محددة لما ينبغي عمله.
كان من أهم خصائص هذا اللقاء أنه ضم عناصر بعضها له انتماءاته السابقة أو الحالية وبعضها ليس له انتماءات؛ مما جعله لقاء نخبة المفكرين الإسلاميين، والتي نتج عنها تقارب المفاهيم والاتفاق على الحل الواجب الاتباع، والمتمثل في تنظيم عمل علمي إسلامي دائم على المستوى العالمي وبشكل مؤسسي يكون امتدادًا لتعاون هذه المجموعة.
–9–
لم تتحقق فكرة التنظيم المؤسسي لهذه المجموعة، وكانت العقبة الأساسية هي عدم توافر تمويل خال من الشروط، فانطلق البعض في تنفيذ بعض المشروعات بتمويل ذاتي محدود ودون إطار رسمي كمشروع فهرس أصول الفقه بالقاهرة، ومشروع موسوعة الحديث بالكويت، أو في إنشاء إطار رسمي دون تمويل (كتسجيل المعهد العالمي للفكر الإسلامي تسجيلاً رمزيًّا على عنوان سكن د. الفاروقي سنة ١٩٨١م).
لذلك كان طبيعيًا أن ينظم لقاء جديد لتنسيق هذه الجهود المتناثرة فتم اجتماع في لوكسمبورج (٩-١٢ /7 /۱۹۸۱م) تأكد فيـه ضرورة مواصلة السعي لإنشاء العمل المشترك وهو تأسيس ندوة عالمية دائمة للأنشطة العلمية الإسلامية، ووزعت الأعمال التأسيسية على المؤسسات المشاركة في هذا اللقاء، والتي كان من بينها اختيار د. إسماعيل الفاروقي رئيسًا مؤقتًا ويعهد إليه بتكليف من يراه لإنجاز الأعمال الضرورية خلال المرحلة التحضيرية، وتكليف د. جمال الدين عطية بمتابعة إجراءات التأسيس وتعبئة الموارد المالية، وتكليف المعهد العالمي للفكر الإسلامي بالبدء بمشروع الصياغة الإسلامية للعلوم وإعداد سلسلة كتب دراسية جامعية في الحضارة والثقافة الإسلامية.
–10–
انطلق المعهد العالمي للفكر الإسلامي في مشروع الصياغة الإسلامية للعلوم فعقد بالتعاون مع الجامعة الإسلامية العالمية في إسلام أباد مؤتمرًا سنة ١٩٨٢م عن إسلامية المعرفة، قدم خلالها د. الفاروقي ورقة أصبحت هي خطة عمل المعهد بعد ذلك. وقد حصل على تمويل لنشاطه من الشيخ سليمان عبد العزيز الراجحي مكنَّه من مواصلة العمل، فعقد مؤتمرين آخرين: أحدهما سنة ١٩٨٤م بالتعاون مع وزارة الشباب والثقافة الماليزية في كوالالمبور، والآخر سنة ١٩٨٧م بالتعاون مع شعبة علم النفس بجامعة الخرطوم، واستمر في فتح مكاتب لـه وتفريغ العاملين في عدد من البلدان لتنفيذ خطته، حتى تغلبت الخطة الأمريكية؛ بتجفيف منابع العمل الإسلامي في أوائل التسعينيات، فانقطع عنه التمويل وتقلص نشاطه إلى الحد الرمزي الذي يبقي على وجوده القانوني.
–11–
من ناحيته تابع د. عطية ما كُلِّف به من تأسيس الندوة الدائمة حتى تم ذلك سنة ١٩٨٢م باسم المجلس العالمي للبحوث الإسلامية، واختير السيد أبو الحسن الندوي رئيسًا للجنة الإدارية، ود. محمود أبو السعود، ود. إسماعيل الفاروقي نائبين للرئيس، ووضعت اللجنة في اجتماعها الأول الذي استمر ست جلسات خطة عمل المجلس. وواصل المجلس تنفيذ خطته في حدود التمويل المحدود الذي أتيح له…
–12–
كان هذا عرضًا سريعًا لتاريخ الخطاب الإسلامي المعاصر – ولا أصنفه كما فعل د. المسيري إلى قديم وجديد – من حيث أشخاصه ومؤسساته ونشاطه..
أما من حيث مضمون الخطاب فلعله قد اتضح من هذا العرض – خاصةً ما ورد تحت رقم ۷- أن هناك اتفاقًا عامًّا على الأهداف، وأن الخلافات في هذا الصدد ناتجة عن ضبابية الرؤية لدى الجماهير ووضوحها لدى المفكرين ومن يقرأ لهم من المثقفين، وأن الخلاف على الوسائل مرتبط بمدى تحقق شروط ممارسة اللعبة الديموقراطية.
أما الزوايا التي عالجها د. المسيري فنسجل عليها الملاحظات التالية:
أ. أن المراحل التي مر بهــــا الخطاب الإسلامي المعاصر لا تؤيد تصنيف الخطاب إلى قديم (قبل ١٩٦٥م) وجديد (بعد ١٩٦٥م).
ب. أن موقف الفكر الإسلامي المعاصر من الحضارة الغربية ومن الحداثة لم يتغير بدخول الحضارة مرحلة الأزمة، أو باحتكاكه بالعلمانية الجزئية والشاملة، أو باطلاعه على نظريات الحداثة وما بعد الحداثة؛ إذ موقف الفكر الإسلامي المعاصر موقف مبدئي من هذه المسائل، كما أنه موقف موحد، وما نلمسه من اختلافات على الصعيد الجزئي ناتج عن اختلاف الرؤية لمعايير الأخذ والرفض والتي هي في الأصل محل اتفاق. فنقاط الثبات في الشريعة وشروط المصلحة والضرورة وغيرها ليست محل خلاف، وإنما يكون الخلاف في تنزيل هذه الشروط على الواقع، ومن هنا كانت أهمية بلورة آليات التطبيق ونظام الأولويات وهي مسائل نابعة من داخل المنظومة الإسلامية وليست نتيجة احتكاك بنظريات الحضارة الغربية.
ج. أن الخطاب الإسلامي المعاصر ليس جزءًا من التيار العالمي بل هو استمرار لرسالة الإسلام التي هي جزء من سلسلة الخطاب الإلهي إلى البشرية عبر الرسل والأنبياء، وما يمر به هذا الخطاب من مراحل له أسبابه الذاتية: فقد مر بمرحلة اعتذارية في بداية الهجمة الاستعمارية والاستشراقية الشرسة، ثم بدأ مرحلة التثقيف الجماهيري العام، ثم دخل أخيرًا في مرحلة البناء التخصصي لمعالم الحضارة الإسلامية في مجتمع معاصر، ومازال أمامه مرحلة الخطاب العالمي التي لم يتناولها إلا القليلون.
وهو في تجديده في مجال المنهج – وأصول الفقه أحد أجزائه – أو فروع الفقه والعلوم الاجتماعية إنما ينطلق من تسلسل ذاتي يحرص على التأصيل وتحقيق المقاصد واحترام القيم واتباع الأولويات… كل ذلك بمنطق إسلامي وآليات إسلامية مؤصلة من الكتاب والسنة ومتميزة عن نظائرها في التيار العالمي.
د. أن مشكلة استعادة الثبات للنص المقدس مشكلة غربية؛ حيث اهتز عندهم النص المقدس وبدأوا يحاولون تثبيته، ولكنها مشكلة غير قائمة أصلاً في الفكر الإسلامي، وما المحاولات المتأخرة من بعض الشرقيين ذوي العقول الغربية إلا محاولة خلق مشكلة حيث لا مشكلة، وهي بدايات للاستشراق الشرقي بعد أن فشل الاستشراق الغربي في دسائسه، وهي لا تمثل مشكلة في الفكر الإسلامي المعاصر على الإطلاق. وقد تكفلت علوم السنة بحفظ نصوصها، وتكفلت قواعد اللغة بتفسيرها، كما تكفل أصول الفقه ببيـــان طـرق الاستنباط منها، ولا توجد لدينا مشكلة اسمها (استعادة الثبات للنص المقدس).
هـــ. قرر د. المسيري أن الإسلاميين «تصوروا إمكانية تبني منظومة الحداثة الغربية ومزجها بالإسلام…»، «وأن المنظومة الإسلامية تراجعت وتقلصت أبعادها وفقدت شمولها باعتبارها رؤية للكون وبدلاً من طرح تصورات إسلامية لكل مجالات الحياة أصبحت القضية هي «أسلمة» بعض جوانب الحداثة. وكانت هذه الأسلمة تأخذ في معظم الوقت شكل حذف المحرمات بلا إضافة ولا إبداع، وتأكيد الجوانب الحلال في الحضارة الغربية أو البحث عن تلك الجوانب في المنظومة الإسلامية التي لها ما يقابلها في تلك الحضارة الغربية (الأمر الذي يعني ضمور الجوانب الأخرى التي تشكل صميم خصوصية المنظوم الإسلامية).
والدكتور المسيري يعني هنا ما يسميه الخطاب القديم؛ لأنه كان قبل ذلك يتحدث عن رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده، ولأنه تحدث بعد ذلك عن أن حملة الخطاب الإسلامي الجديد لا يشعرون بالإعجاب نفسه تجاه الحداثة الغربية، وأن خطابهم ينبع من نقد جذري لها..
والدكتور المسيري في هذا قد خانه التوفيق في أكثر من جانب:
- فدون محاولة مناقشة كتابات الطهطاوي وعبده أو الدفاع عنهما فإنهما ببساطة لم يفقدا يومًا الرؤية الشاملة للإسلام.
لقد اتهم الدكتور المسيري رفاعة الطهطاوي بالصمت عن احتلال فرنسا للجزائر، بسبب إعجابه بالحضارة الغربية. والحقيقة تقول: إن إعجاب الطهطاوي كان بالعلوم الطبيعية المحايدة التي سماها «علوم التمدن المدني» والتي سبق للغرب أخذها من الحضارة الإسلامية.. وفي ذات الوقت رفض الفلسفة الوضعية الغربية، التي تقف بالمعارف عند العقل والتجربة وحدهما، واشترط دليل الشرع مع العقل والتجربة، ووصف هذه الفلسفة الوضعية بأن “بها حشوات ضلالية مخالفة لكل الكتب السماوية”… كذلك رفض القانون الوضعي الغربي (كود نابليون) ودعا لإحياء القانون الإسلامي بالاجتهاد والتقنين الحديث.. وهاجم استعمار فرنسا للجزائر، بل وشمت في شارل العاشر ورجال الكنيسة الذي اعتبروا احتلال الجزائر فوزًا للنصرانية على الإسلام عندما أطاحت بهم ثورة ١٨٣١م.. وكتب ذلك في (تخليص الإبريز) أي وهو مقيم بباريس، إبان بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر.
أما محمد عبده، فبريء من هذه العبارة المزعوم نسبتها إليه، التي تتحدث عن الغرب باعتباره إسلامًا بلا مسلمين.. وعلى العكس من ذلك له نقد عميق لمادية الحضارة الغربية.. التي وصفها بأنها حضارة الذهب والفضة والجنيه والليرة والبهرج والفخفخة التي لا علاقة لها بالإنجيل وروحانياته، والتي تتميز عنها الحضارة الإسلامية بالوسطية الجامعة بين المادة والروح.
- كما أنهما لم يحـاولا «أسلمة» بعض جوانب الحداثة، فقضية «الأسلمة» جاءت متأخرة بواسطة الفصائل المتأخرة من تيار الصحوة الإسلامية على النحو الذي أوضحناه تفصيلاً فيما سبق.
- ثم إن حذف الحرام وتأكيد الحلال منهج إسلامي أصيل، فقد استبقي الرسول من الجاهلية ما لا يخالف أحكام الإسلام وضمنه في نسيج الشريعة كالمضاربة، واستبعد ما يخالفها كالربا، وأحل مكانه البديل الإسلامي، كما صرح القرآن ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾.
- إن القضية التي يشير إليها د. المسيري هي قضية منهج «الأسلمة» وهي قضية لم يتعرض لها الطهطاوي أو عبده، وإنما هي من هموم الخطاب الإسلامي الذي أسماه بالجديد والذي برأه من الإعجاب بالحداثة الغربية!!
- تخلو قائمة الأسماء التي ذكرها د. المسيري على أنها أمثلة على حملة الخطاب الإسلامي الجديد من أسماء هامة، هي رموز لهذا الخطاب بل هي التي أعطت هذا الخطاب شرعيته، خاصةً في النواحي التي اعتبرها د. المسيري معالم لهذا الخطاب، كالشيخ الغزالي رحمه الله، والدكتور القرضاوي، والدكتور عمارة، والأستاذ عبد الحليم أبو شقة رحمه الله، والدكتور حسن الترابي، والدكتور كمال أبو المجد، وغيرهم.
لقد طال هذا التعقيب أكثر من المعتاد، ولكن القضايا الهامة التي أثارها د. المسيري تستحق أكثر من هذه الإشارات. وأنا أكرر شكري له وأدعوه إلى إعادة النظر في الموضوع.
–13–
ولا يسعني قبل ختام هذه الورقة إلا أن أسجل نقدي لها، فهي أولاً غير شاملة، إذ إنني لم أقصد إلى حصر جميع روافد الخطاب الإسلامي المعاصر؛ لما يتطلبه ذلك من جهد في معرفة هذه الروافد، ولكني قصدت تسجيل ما أعرفه مما قد ينساه التاريخ إذا لم يسجل، واكتفيت فيما عدا ذلك بإشارات إلى أسماء بعض المدارس الفكرية لعل غيري ممن كان له بها احتكاك يكمل الصورة.
وبطبيعة الحال فإن هذا الأسلوب ينتج عنه عدم التوازن بين الروافد مما لا يعكس أهميتها فضلاً عن أنه غير مقصود.
وهي ثانيًا غير دقيقة لأني لم أعتمد فيها على مصادر مكتوبة وإنما على الذاكرة الكليلة التي قد تند عنها بعض التفصيلات بعد مضي عشرات السنين، وإن بقيت حافظة للخطوط العريضة، وهي بالتالي قابلة لإضافة مزيد من الضبط والتحديد فضلاً عن التصويب.
[1] – يهمنا الإشارة هنا إلى وجود رافد هام للفكر الإسلامي هو أبو الأعلى المودودي والحركة التي أنشأها (الجماعة الإسلامية) في الهند، وسيأتي الحديث عنها فيما بعد.