أبحاث

نظرة نقدية للتنمية الثقافية في البلاد العربية

العدد 87

إذا أردنا أن نقرب للأذهان دور الثقافة التاريخي فإنه يمكن استعارة تشبيه مالك بن نبي لهذا الدور بالنسبة للحضارة، ذلك أن دور الثقافة يقوم بوظيفة الدم في الكائن الحي بكرياته البيضاء والحمراء التي تصون حيوية الكائن الحي وتوازنه، كما تكون جهازه في المقاومة الذاتية[1].

ولهذا فإن أى تفكير في مشكلة الإنسان هو في جوهره تفكير في مشكلة الحضارة، وبمعني آخر أن كل تفكير في مشكلة الحضارة، هو تفكير في مشكلة الثقافة؛ ولذلك فإن مصير الإنسان رهن دائماً بثقافة إذا اعتبرنا أن الحضارة لا تعدو أن تكون مجموعاً من القيم الثقافية المحققة في الواقع التاريخي[2]

ولا تخفي اليوم علي أنظار الدارسين للتنمية الشاملة ـ سواء كانوا من العرب أو من غيرهم ـ مكانه البعد الثقافي في أي نموذج من نماذجها المتعددة، فإذا أريد تغيير الإنسان في صورته الفردية أو الاجتماعية، فإن تغييره يكون بتغيير وسطه الثقافي وتجديده.

ونجد ثقافتنا اليوم فقدت موقعها المتميز من بين الثقافات العالمية، ولم يتح لها النجاح في نهضتها منذ قرنين تقريباً حينما اصطدمت بالثقافة الغربية[3]. وما تزال لم تأخذ طريقها إلي المستقبل بوضوح، كراكب لم يكتب له أن يتوازن علي جواده الجامح يميناً وشمالاً. كما نجد هويتنا الثقافية اليوم أيضاً تواجهها ثقافة إمبراطورية متسلطة لا ثقافة حضارة محاورة متفاعلة.

وإذا كان الضمير الإنساني في عصرنا هذا «يتكون علي ضوء الحوادث العالمية فإن مصير أى جماعة إنسانية يتحدد جزء جزء منه خارج حدودها الجغرافية»[4]. ولكن إذا اخترقت هذه الحدود، وتهاوت بفعل طوفان غطرسة الثقافة الغربية واستعلائها وعدوانها علي الثقافات الأخرى بما فيها الثقافة العربية الإسلامية فإن ذلك يؤدي إلي تدمير ثقافي، وإلي منع لأي نموذج من نماذج التنمية الثقافية، إذا لم يؤد ذلك إلي تبعية ثقافية مستسلمة، لا يمكن لها أن تتلاقح، ولا أن يتجدد دمها، كما يقع ذلك إذا كان هذا التفاعل يغذي الثقافة بعناصر جديدة تتمثلها في ذاتيتها؛ مما يزيد حركتها ونموها، والتمسك بالهوية الثقافية هو شرط الحوار بين الثقافات والأخذ والعطاء، ولكن نجد أن العلاقة الراهنة هي علاقة عدوان لا علاقة حوار وتلاقح.

بل إن الثقافة العربية الإسلامية اتخذها بعض راسمي سيناريو المستقبل عدواً عندما اختفي الصراع الأيديولوجي بين الغرب والاتحاد السوفياتي، كأن الصراع شرط لوجود الولايات المتحدة، ولعل هذا السيناريو أخذت عناصر تنفيذه تتهيأ ـ وإن كانت مزيفة ـ لتلويث العالم الثقافي، كما لوث عالم البيئة، فإنهم يريدون أن يوقدوا ناراً للحرب الحضارية كما أوقدها من قبل و سموها بالحرب الباردة الأيديولوجية.

مع أن واقع ثقافتنا واقع متآكل في أعقاب حضارة تكاد تنطمس معالمها يسودها طابع لا عقلاني، وفقر مدقع في الأفكار والمناهج في إدارة التنمية الثقافية التي يمكن لها أن تحاور وأن تواجه للدفاع عن هويتها.

وليس الكتاب والباحثون في البلاد العربية هم وحدهم الذين يخشون من الخطر الداهم، من اجتياح الثقافة الأمريكية للعالم، بل إن أوربا نفسها أصبحت تشكو من خطر ما يمكن أن ينجر علي الثقافة الأوربية من سيطرة ثقافة الصور السمعية والبصرية وما تبثه الأقمار الصناعية، وعبر عن ذلك وزير الثقافة في مجموعة الاتحاد الأوربي في بيانه سنة 1988، كما يمكن القول بوجود تنافس بين الثقافة الناطقة بالإنجليزية والناطقة بالفرنسية[5]

وأود أن أشير هنا إلي بعض الوقائع والحقائق والنتائج المؤسفة التي وصلت إليها محاولات التنمية في البلاد العربية، حيث إنها تخلت عن مكاسب بدلاً من أن تحقق أخرى، فإذا قرأنا مثلاً التقرير المتعلق بالتنمية البشرية الذي أصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي فإننا نرى أن البلاد العربية تعتمد اعتماداً يكاد يكون كلياً علي الخبرة الأجنبية، وتهميش الإمكانات المحلية لترسيخ التبعي، ولم تحقق الأمن الغذائي فهي تستورد نصف احتياجاتها من القمح، ويمثل ما تستورده 30% من إجمالي ما يسوق في التجارة الدولية[6]. وسكان البلاد العربية في إحصاء 1993 وصل إلي 240 مليون نسمة[7]

ويمكن القول بان السكان الآن لا يقلون عن 250 مليون، وهم يمثلون 5% من سكان العالم تقريباً، ويتراوح متوسط العمر بين 60 ـ 65، وتبلغ المساحة الإجمالية ما يقرب من 14 مليون كم2، ولكن الصالح للزراعة 4% منها فقط، وما يزرع باستمرار,4 % من المساحة الكلية و 67,6% منها مدن و صحاري[8].

أما النفط فلا يزيد عن كونه ريعاً لا إنتاجاً، وتحدد أسعاره الدول الأجنبية، ويمكن أن تختفي أهميته في مدى غير بعيد، وأكثر من ذلك فإن عائداته تشترى بها المواد الاستهلاكية من الدول الصناعية، وتوضع في المصارف الأجنبية أو تصرف في شراء أسلحة لا مفعول لها.

وتزداد نسبة البطالة كل سنة، ويبلغ عدد الطالبين للعمل من المتخرجين كل سنة حوالي 2,3 مليون عامل[9]، وأدت شروط البنك الدولي وبنك النقد الدولي إلي زيادة البطالة، وذلك بتسريح العمال والموظفين بإسم الإصلاح الاقتصادي. كما أن 9 مليون طفل عربي لا يتلقون التعليم الابتدائي. وتبلغ نسبة الأمية من 42% في لبنانإلي 90% في اليمن[10].

وفي تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الذي رتب البلدان ترتيباً تنازلياً في التنمية كانت الكويت في المرتبة 51 ومصر 110 والسودان 151 والصومال 165، وكان الترتيب العام من 1-173، وهذه النتائج المؤسفة لمجاولات التنمية كانت من آثار عدم كفاءة الأداء في التخطيط والتنفيذ، ومن عدم ملاءمة النموذج التنموي للوضع الاجتماعي والهوية الثقافية، والاعتماد علي الخبرة الأجنبية والتمويل الأجنبي[11].

وبذلك فإن التنمية عندنا هي في واقعها تنمية للضياع[12] وللتخلف.

ويرى الدارسون للتنمية العربية أنها لا تمثل أى نموذج حقيقي من النماذج التنموية، سواء كان قومياً أو طبقياً أو جماعياً[13] وأن النموذج المقترح الذي يقوم علي تلبية الحاجات الضرورية المادية والمعنوية لم يؤد إلي تحقيق الغاية منه لا في مستوى الصحة ولا التعليم ولا في توفير المواد الغذائية، والمياة الصالحة للشرب، والإسكان.

أما توفير الشروط المعنوية مثل المشاركة السياسية والحرية والعدالة الاجتماعية، ومحو الأمية، والأمن، والتعبير عن الرأي، والتعددية فإنها في مستوى دون الحاجات المادية، فكيف تتحقق التنمية إذا غابت المشاركة الشعبية والحرية وازدادت نسبة الأمية؟

واكتشف بعض الدارسين في فحص نماذج التنمية في البلاد العربية أن المتغير الحاسم الرئيسي فيها هو البعد الدولي أو العامل الخارجي خبرة وتميلاً أحياناً كثيرة بسبب غيا المؤسسات أو عدم فعاليتها وضعفها[14] كما أن القيادات السياسية لم تتغير ثقافتها؛ مما يمكنها من التأثير الفعال في تحريك هذا النموذج التنموي أو ذاك، كما لم تتغير ثقافة الجمهور التي لم تتخلص من العناصر التي تثقل كاهلها عن الحركة النامية.

واقترح بعض الدارسين للتنمية في البلاد العربية فكرة «الاعتماد علي الذات» وتمكين الفرد في المجتمع العربي من أن يقوم بدوره في التنمية، وعدم الاستسلام للاستراتيجيات الغربية في التخطيط والتنفيذ والخبرة، كما أكدوا دور الهوية الثقافية[15] المستقلة، بحيث تقع حركة التنمية في إطارها، وفي نطاق رموزها الحية وبمشاركة شعبية يمكن لها أن تحدث تغييراً جذرياً في الحياة الاجتماعية وفي ديناميكيتها، وأن يشترك في ذلك قادة السياسة وقادة الثقافة كل في مجاله[16]. وليس معنى هذه الاستقلالية التقوقع في الذات وقطع الصلة بالعالم الخارجي والتعاون المتبادل العادل المتكافئ، ولا يجدي رفض الثقافات الأخرى والتنكر لها أو تجاهلها في عصرنا هذا.

وقد يسأل سائل : لماذا يبدو «إقلاع» البلاد العربية والإسلامية بطيئاً في حركته للنهضة والحداثة إذا قاررناها ببعض البلاد كاليابان  أو الصين، والتي يمكن القول بإنهما كانتا متأخرتين عنها كثيراً.

يرى مالك بن نبي أن الذين فسروا هذا أرجعوه إلي نوعين من المعوقات، «فالمدافعون عن الاستعمار يرجعون إلي الإسلام سبب تباطؤ الإقلاع وتأخيره، وأما حاملو لواء النظرية القومية فيعزونه إلي الاستعمار، وفي كلتا النظريتين خطأ جسيم»[17] فالذي يحمل الإسلام المسئولية يتجاهل حقيقة واضحة صارخة وهي مسئولية الاستعمار عن نصيب كبير فيما يسود العالم الإسلامي اليوم من فوضى، أما من يحمل الاستعمار المسئولية كلها فهو يخفي سياسة التملق، لتخدير الشعوب وإلهائها عن مسئوليتها، كما يتجاهل أصحاب التفسير الأول حقيقة تاريخية دامغة أيضاً وهي دور الإسلام في بناء حضارة من أعظم حضارات العالم، وتجاهل التفسير الثاني كذلك أن البلاد التي لم يدخلها الاستعمار أكثر تخلفاً من البلاد التي استعمرت[18].

ويرى أن التفسير الصحيح هو أن العالم الإسلامي لم «يخطط» لعصر نهضته «التخطيط المدروس الذي يأخذ في الاعتبار جميع عناصر الفرقة والإعاقة الموجودة فيه»[19] فسارت حركة المجتمع بعيدة عن المعايير الفعالة، وفي فوضى فكرية؛ فوقع تبديد في الوسائل وضياع في الوقت، وانحرافات كثيرة ناشئة عن «عدم تماسك الأفكار، وطغيان الأشياء أو الأشخاص»[20]؛ لأن عالم الثقافة كما يرى عالم ينطوي علي جدلية بين عناصر ثلاثة : الأفكار، الأشياء، الأشخاص. فإذا طغت الأشياء تصبح الأحكام «شيئية» تقاس كل الأمور بمقاييسها، وهذا يؤدي إلي تبذير في الإمكانات وتبديدها، فيقوم الكتاب مثلاً بعدد صفحاته، وقيمة الموظف بعدد التليفونات وأجهزة التكييف في مكتبه، وتحسم الأفكار في أشخاص ليسوا أهلاً لها، «فالزعيم الأوحد» و «الشئ الوحيد» من نتائج هذه العقلية «الشيئية»، وجسمانية الفكرة في شخص وحيد «الأمر الذي يؤدي إلي أخطار» وبذلك يتمكن صاحب الصراع الفكري وما لم تدرك هذه الحقيقة فإن الداء يبقى عضالا[21].

ولاحظ ظاهرة في النفسية الاجتماعية للمجتمع العربي الإسلامي وهي هذا الاستعداد لأن تؤسس المفاهيم والآراء في عالم الأشخاص لا في عالم الأفكار، فلكي تأخذ الفكرة طريقها فإنها تعتمد علي شخص أو شئ، وضرب لذلك مثلاً بمناداة المصريين بأن «الحماية مع زغلول خير من الاستقلال مع عدلي باشا». وأنه إذا قال شيطان ما : إن 2*2=4كذبوه، وإذا قال أحد «الموثوق بهم» عندهم : إن 2*2=5 صدقوه، وهذا الطغيان للشخص الذي يسيطر علي عقولنا يختفي إذا ما بسطت الأفكار سلطانها في عالمنا الثقافي[22] وصفيت تركه التراث لنفي العناصر الميتة واستعمال العناصر الحية في حركة التنمية.

أما اليابان الذي عاصرت نهضته فجر النهضة في العالم الإسلامي فإن سرعة التنمية يرجع جزئياً إلي تركيز اليابان علي النشاط العملي، فالعقلية اليابانية في أغلب أحوالها لا تتفق مع التفكير المجرد، وإنما تهتم بالدرجة الأولي بالأشياء المحسوسة؛ ولذلك نرى في الثقافة اليابانية تفوقاً واضحاً في الفنون الجميلة وفنون التقنية[23]، ولا يعدو التفكير المجرد عند اليابانين أن يكون لونا من التصوف يرضى حب تطلعهم الذهنى، وتقوم هذه العقلية اليابانية العملية أيضا علي سرعة التكيف مع وجهة النظر الأجنبية عنها لا علي مجرد قبولها، وهذا التكيف عملي في طبيعته، ويدخل ضمن الحياة اليابانية هذا أو ذاك من العناصر الثقافية الأجنبية بسهولة، وليس ذلك تكيفاً ذهنياً مجرداً[24] – كما قلنا ـ إذ إن هذه العقلية ذات اتجاه انسجامي وتآلف وتسامح واضح جداً مع أي عنصر ثقافي أجنبي، ومع الطبيعة أيضاً، معنى هذا أن العقلية اليابانية هي أكثر العقليات تفتحاً على العالم الخارجي وترحيباً بالأفكار والمثل التي تأتي من مصادر ثقافية أجنبية، وتأخذ بها بسهولة وليس لها من نزعة دقماطيقية تقاوم وتدفع بصورة عمياء[25]؛ ولذلك فإن الثقافة التقليدية في هذا المجتمع تساعد علي عملية الانتقال من القديم إلي الحديث، فتقوم عملية التحديث مع الحفاظ علي الخصائص التقليدية في الأسرة والزواج وغير ذلك[26]، فليست كل الثقافات التقليدية معوقة، ولا كل عناصرها معرقلة. نجد كثيراً من العناصر الحية في الثقافة العربية الإسلامية تساعد علي الحركة في التاريخ إذا ما أعيدت إليها الفعالية، وبذلك لا يصح القول بضرورة تبني الثقافة الغربية في أي عملية تنموية أو النصح بالتخلي عن كل عناصر الثقافة التقليدية.

من أهم العناصر التي ساعدت اليابان في التحديث أن ثقافتهم تقدم الواجب علي الحق، وبلغة الاقتصاد الإنتاج مقدم علي الاستهلاك، والميل إلي التوازن والانسجام بين الأشياء، وكذلك التركيز علي الجماعة أكثر من التركيز علي الفرد، والولاء للجماعة والتراتب الهرمي؛ مما أدى إلي قوة الدولة والإخلاص لها إخلاصاً يكاد يكون مطلقاً[27]، والولاء للواجب أمر في غاية الأهمية في حركة التاريخ.

أما الصين فإن تفسير نهضته يمكن أن نستعمل فيه منهج التحليل السوسيولوجي الجديد الذي لا يتخذ المجتمع الكلي وحدة للتحليل كما فعل علماء المجتمع التقليديون، وإنما يتخذ أنماط الحياة المتعددة داخل المجتمع الواحد وحدة للتحليل، كما فعل أصحاب نظرية الثقافة[28]. فدراسة الثقافة السياسية مثلاً، كانت تتم على أساس الثقافات السياسية الفرعية داخل المجتمع الواحد، فكان التنافس في الصين بين ثقافتين : ثقافة كونفوشيوسية نخبوية تدرجية تعلى من شأن السلطة القائمة وتواليها، وثقافة شعبية تحررية مساواتية تميل إلي التمرد وتمجده وتؤمن بالتغيير الاجتماعي والاقتصادي، مع تفاؤل كبير يدفعها إلي الحركة لتحقيقه، رافعة راية المساواة، فحرك ماوتسى تونج هذا الاتجاه، فاحتقر التعليم الرسمي والمؤسسات وغرور من يظن في نفسه أنه أفضل عقلاً وخلقاً، بخلاف الاتجاه الآخر الذي يؤكد المؤسسات لتشكيل السلوك وضبط العواطف، وإن كانا يشتركان في أولوية الجماعة علي الفرد، ويؤكدان جميعاً التضحية من أجل الجماعة[29]، وعندما حاول الحرس الأحمر لماوتسي تونج تدمير المؤسسات باسسم الثورة الثقافية أدى ذلك إلي الانهيار الاقتصادي، وهذا الانهيار مهد لظهور الثقافة التدريجية وإكسابها قوة سياسية[30] وإلي ظهور لون من الفردية بدلاً من الغلو في المساواة الذي لم يحقق ما يترقبه أنصاره من الوعود.

والعكس يقال في الاتحاد السوفياتي الذي كانت العلاقات الاجتماعية فيه هرمية متسلطة؛ مما أدى إلي انتشار النزعة الاستسلامية القدرية، ونظر الناس إلي السياسة نظررة رعب بحيث يجب تجنبها، وأصبحت الاشتراكية مساواتية؛ لأن السلطة إذا لم تواجهها تحديات تنافسها، فإنها تصبح جامدة، وإذا كثرت الأخطاء وتراكمت دون مواجهة تعدل من سلوكها، فإن الهزيمة والانهيار هما النتيجة المنطقية في واقع الأمر، بالرغم من وجود طوباوية شيوعية مستقبلية تسند الحزب الشيوعي في هرميته واستبداده، ولعل ذلك هو مكمن السقوط.

ولما اختفي شخص ماوتسي تونج وهو شخصية قلقة يخاف باستمرار من الخيانة، اختفت ظاهرة القلق المستمر من الأعداء[31]، وحصل بعد ذلك شئ من التوازن الخفي بين الثقافات الفرعية للحضارة الصينية.

وهذا التفسير علي أساس التنافس بين عدة أنماط من الحياة داخل المجتمع هو الذي يفسر التغير الاجتماعي ويفسر الاستقرار أيضاً عندما تتوازن، فإن الأمة تتكون من ثقافات سياسية ـ مثلاً ـ متنافسة لا من اتجاه واحد نحو السلطة.

إن إعطاء الأولوية في التنمية للعناصر المادية والمؤسسات أضر بعملية التنمية للعناصر المادية والمؤسسات أضر بعملية التنمية في بلادنا؛ لأن العنصر البشرى هو الذي يتحكم في العنصر الاقتصادي أو غيره، وإهمال العنصر الثقافي أدى إلي فشل واضح يعترف به الآن في الأوساط السياسية نفسها وفي الأوساط الاقتصادية المعنية بالتنمية في البلدان العربية.

وأصبحت الثقافة غاية التنمية ووسيلتها منذ مؤتمر المكسيك سنة 1982 م؛ لأن النمو الإنساني ليس مساوياً للاقتصاد، واعتقد أنه قد انتهت النظرة إلي الاقتصاد علي انه الغاية، وان الثقافة هي وسيلة له وخادمه، وإنما الاقتصاد عامل من عوامل التنمية في تصورها الشامل، ونحن قد عشنا اتجاهات ثقافية تنموية متعارضة ينفي بعضها بعضاً، فالثقافة العربية والأوربية والأمريكية والاشتراكية يقهر بعضها بعضاً، ولايجد له سبيلاً للتحقيق لا بالقوة السلطوية والفرض ولا بالدعوة والتبشير؛ ولذلك بقي مجتمعنا مجتمعاً واقفاً، تخلى عن السلطة واستسلم لمصيره القدري، أو دخل في عملية انتحار في اعقاب قهر أيديولوجي اشتراكي أو قومي أو رأسمالي، وغالباً ما تكون نخبة معينة هي التي تغني وترقص في مسرح يخلو من جمهورفإنه يرفضها ولا ينقاد لها أو يتفاعل معها تفاعلاً حقيقياً؛ لانعدام الثقة بين المحكوم والحاكم التخبوي السياسي أو الثقافي الذي يدور في فلك أيديولوجية لا صلة لها بالجمهور، ولا تخاطبه خطاباً يتجاوب معه.

والنخب هذه بعضها منبهر بالثقافة الغربية، وبعضها الآخر بالثقافة الاشتراكية، وينزع إلي النقل الحرفي في أغلب الأحيان لمؤسساتها الإدارية والسياسية والمالية والتربوية، ويروج لذلك؛ مما أدى إلي عجز النخبة العربية عن أن تصوغ مشروعاً ثقافياً مستقلاً[32] ومتفاعلاً في الوقت نفسه مع الثقافات المعاصرة تفاعلاً ذكياً، وهذه التبعية حقيقية، وليست مجرد تهمة لا أصل لها كما يدعى بعض أنصارها. بل أزعم أن بعض هؤلاء النخب نقلت بعض المناهج الجاهزة، وبها شوهت الثقافة العربية الإسلامية تشويهاً واضحاً، وطبقت هذه المناهج تطبيقاً آلياً، فيزعم بعضهم في قراءاته للفلسفة الإسلامية أن الفارابي كان مادياً في فلسفته، وأن ابن رشد أيضاً كان مادياً، وأن ابن خلدون أيضاً، وهكذا بإسقاط مقولات معاصرة وأيديولوجيات حديثة علي تاريخ الأفكار والثقافة في حضارتنا، وهذا لون من التخريب من الداخل، والتشويه الذي ينبغي تطهير ثقافتنا من اضراره.

وأما المثقف المستقل الذي يجدد ويفكر في إطار ثقافته الأصلية فإنك تجده علي الهامش لا ناصر له سوي التاريخ الذي يأتي من بعده، ولا ينفي هذا وجود المثقفين السلبيين القدريين أو المناصرين الخادمين للسلطة خدمة انتفاعية.

ومن عوامل ضعف التنمية هجرة عقول متميزة وأموال كبيرة، وعمال ذوي طاقة إلي خارج، وهي كلها كفاءات تجد مساعدة من شركات أجنبية تسهل لهم الهجرة، والسياسة الأمريكية في هذا واضحة في مساعدتها وتشجيعها للشركات في هذا المضمار، وهذه كلها عناصر سلبية في التنمية عندنا.

ولا ننسى القهر الأيديولوجي في مقاومته للدين في بعض البلدان العربية قهراً ومتابعة تسلطية وإبعاداً أدى إلي تولد عنف شديد دموى انفجر بصورة في غاية الشناعة والدمار الذي يمكن أن يفتت المجتمع إلي شظايا يصعب التئامها، وهذا الانفجار اندلع ـ بعد تراكم استبدادي أيديولوجي مس المجتمع في عقيدته التي كانت حصنه وسلاحه في المقاومة في فترة تاريخية ليست بالقصيرة، فتن فيها في صميم ثقفافته وذاتيته؛ مما أكسبه حساسية خاصة في هذا المجال، بالإضافة إلي منع التعددية السياسية، ورفض الاخر أو إلغائه، والنظر إليه نظرة خيانة للثورة.

وزاد الطين بلة قصور الذهنية النخبوية عن إدراك الواقع والاستغراق في أيديولوجيات ليس لها صلة بالمجتمع وتاريخه وثقافته؛ مما يولد الرفض، ويوقف الإبداع وبعض النخب موغلة في محاولة التنظير من خلال الكتب والأيديولوجيات؛ مما يجعل غمامة كثيفة علي أعينهم، فلا يبصرون الواقع ولا الممارسات الحقيقية التي يمكن أن تغير هذا الواقع إلي ما هو أفضل، ولا يوجد ربط واضح بين الغايات والوسائل، إن نهضة ثقافة ما لا يكون إلا بنقد جذري لمقولاتها وتراثها وبنائها من جديد من داخلها بعقول وأيدي أبنائها، ولا يكون تجديدها بالتلقين الخارجي ولا بالانفصام بينها وبين العناصر الجديدة، فالجديد ما لم يندمج ويتحول كعملية التمثيل في الهضم إلي جزء عضوى من الهوية الثقافية فإنه لا أثر له في تنمية الثقافة وتجديدها إن لم يكن ذلك عامل تعويق، خذ مثلاً ازدواج اللغة الذي قد يكون علي مستوى النخبة والجامعات كما في مصر، وقد يتجاوز ذلك إلي مستوى الحياة اليومية كما في الجزائر، أى أن ازدواج اللغة أصبح عميقاً جمع بين القمة والقاعدة، كما يقول مالك بن نبي «فلم يعد في البلدان الواحد«نخبتان» فحسب وإنما مجتمعان متراكبان، أحدهما يمثل البلد التقليدي والتاريخي، والثاني يريد أن يصنع تاريخه مبتدئاً من الصفر»[33] ولذلك نتائج ضارة جداً، فالأفكار لدى النخبة الأولي لا تتعايش مع الأفكار لدى الثانية، وهما يتحدثان بلغتين مختلفتين، وقد يصل ذلك إلي المذياع والصحافة والكتب المدرسية، فلا الطائفة التقليدية استطاعت أن تعيد روح الحياة المتحركة للثقافة والمجتمع؛ لفقدان الصلة الحقيقية مع نماذج ثقافتها المثالية الأصلية المطبوعة، ولا الثانية تمكنت من توثيق الصلة المجددة مع الحضارة الغربية لعدم توفر الفهم الحقيقي الدقيق لروح هذه الحضارة العملية، وهذا الفقدان للأفكار الصحيحة من جهة والافتقار إلي الأفكار الفعالة من جهة أخرى أديا إلي التوقف، ومنذ استقلال الجزائر أصبح المجتمع يتألف من طائفتين متعارضتين تعارضاً واضحاً في القمة، ومن مجتمعين متراكبين في القاعدة، وخاصة المدن[34]؛ ولذلك كان تعريب أدوات الثقافة في التعليم والإدارة معركة حقيقية، وأصبحت نتائج هذه الظاهرة ـ فيما يقول مالك بن نبي ـ تتخذ طابعاً فريداً في الواقع اليومي، ربما لا يوجد في أي بلد آخر، فلنجعل نتائج هذه الظاهرة في عمودين :

النخبة التقليدية

–         أفكار مجتمع ما بعد التحضر.

–         أفكار مشوشة كأنها علي أسطوانة

مطموسة لا توجد عليها دوافع إبداعية.

–         العاطفة هي التي تسيطر علي الواقع في غموض لا تترجم إلي مخطط أو خريطة.

–         الشكل الذاتي الأدبي المخدر الذي يفرض عاداته وآراءه وخرافاته علي أنها تقاليد صحيحة.

–         فكرة فقدت إشراقها الاجتماعي.

–         الركود والسكون.

النخبة الحديثة

الأفكار الموضوعة التي لا تعبر عن شئ واضح مثل الأسطوانة التي عليها أنغام مشتتة عن أفكارها المطبوعة علي أسطوانة أخرى في عالم ثقافي آخر، عاجزة عن توفير وسائل عملية فعالة.

–         أفكار تخلط بين الحركة الوجودية ـ مثلاً ـ التي تعبر عن أعقاب حضارة وبين المجهود الفكري الذي يجب أن يكون نقطة انطلاق الحضارة.

–         الشكل شبه الموضوعي وشبه العلمي.

–         ادعاء الثورية التي لا تثور إلا علي أصدق القيم.

–         فكرة لها إشراق قاتل.

–         الحركة المزيفة والفوضي الصارخة[35].

–         هكذا يمكن تعديد نتائج أخرى من هذه الظاهرة وأهمها الذبذبة، وعدم السير في طريق الحضارة، وقد يتوقع من هذا الازدواج ان يكون بمثابة الفجر أو الملقح الذي يعيد الحركة إلي الدم الثقافي، أما في الجزائر فإنه اصبح بمثابة «الديناميت» الذي إن لم ينسف كل شئ فقد أحدث صدوعاً عميقة وأدى إلي ظهور فئتين في الصفوة المتعلمة وبروز عالم ثقافي مزيف، لا تستطيع فيه فكر أن تنهض علي قدر من الثقة في نفسها لتقود المجتمع إلي مستقبله المشرق؛ لأن الفئة الأولي عجزت عن تربطه من جديد بأصوله، كما لم تستطع الثانية أن تفيده من الغرب، إن لم تكن طابوراً خامساً لإحدي سياساتها[36]، أو فئة تختار الماركسية أو التروتسكية وتضع علي وجهها دهناً صينيا لتحوز إعجاب المتفرجين، أو ممن يسلم القلعة للمهاجمين كجيش خائن[37].

ومن مظاهر الثقافة الميتة، ما يمكن تسميته بالثقافة الحرفية أو اللفظية التي لا تحمل أية فكرة واضحة سوي صور لفظية إنشائية، تلاحظها في كثير مما يكتب ويتخطب به في المحافل، فلا تكون الكلمة المقدسة فعالة، وإنما هي ثرثرة، وهذا يؤدي إلي العدم لا إلي واقع، سواء كان ذلك في صور بيانية بلاغية أو في مداد يسد صفحات ورقية كثيرة. فالمثقف هو الذي يحترم الكلمة فيحدث بها تأثيراً وصدي، فيكون من صانعي الأفكار، لا من مرصفي الألفاظ.

أما إذا عدنا إلي وسائل الإعلام ودورها في تنمية الثقافات فإننا نرى ضجيجاً في صورة السمعى البصرى؛ مما يؤدي إلي هزال المعرفة السريعة الاسترضائية، وسطحية واضحة تصنعها ثقاة السمعى البصرى في إعلامنا، فترى أخباراً مجزأة بلا تحليل، وتسمع دعاية واسعة للبضائع الاستهلاكية لصنع حاجات في النفوس، وترسيخ ثقافة استهلاكية تواكلية شرهة لإبراز المكانة الاجتماعية المزيفة، كما يغلب علي الصحافة الطابع الإقناعي الانفعالي الدعائي التقليدي، وتستعمل الإثارة والمبالغات التافهة، وتخلو غالباً من التحليل والتفسير والنقد، وتبث هذه الوسائل من قنوات فضائية وغيرها الإنتاج الترفيهي الاستهلاكي مما لا يبعث همه، ولا يوقظ وعياً.

مع أن وسائل الإعلام ذات رسالة ثقافي تربوية تعمل في سبيل بث الوعي الحقيقي لعامة الناس لا لتزييف هذا الوعي، والعمل علي غيابه، فهذه الأدوات الفعالة لا تستغل في المجال التربوي إلا جزئياً وبضآلة وضحالة. بالإضافة إلي سيطرة النظم السياسية علي الإعلام؛ مما جعله أحادي الخطاب يخدم قيادة زعيم ملهم أوحد، وتجعله يأخذ مكانه القانون، وتصفه بقدرات فائقة تغني وحدها عن حركة المجتمع وسيادة القانون، كما تخدم سياسة التبرير والتسويغ، وبذلك يهمش الجانب الثقافي الحقيقي، ويغيب الوعي عن الجمهور، فيقف خارج حركة التاريخ، ويتصور الهزائم الكبرى انتصارات عظمى.

أما عملية فرض أفكار وقيم الثقافة الأجنبية وإعدة إنتاجها وبثها فهو أمر واضح، وكذلك الاعتماد الذي يكاد يكون تاماً علي وكالات الأنباء الخارجية التي تصنع الأخبار وتوجهها، فتسرع وسائلنا إلي ترجمتها حرفياً غالباً وإلي بثها دون تأمل ولا نقد، وأحياناً تكون مضادة لمصالحنا مضادة لا تخفي.

في حين أن الإعلام أداة ذات حدين يمكن استغلالها للتنمية الثقافية، ومواجهة هذا الفيض من الثقافة الاستهلاكية التي تتدفق من كل مكان، ومن كل اتجاه، ولكن نرى في الساحة الثقافية عندنا من يغلو في إضفاء السيطرة الكاملة الماحقة الساحقة للإعلام الغربي وثقافته، وأنه لا يعدو أن يكون استعماراً جديداً في مجال الثقافة، وهم جماعة اليسار النقدي الذين يقيمون لوناً من ألوان الترهيب والترويع من هذه الثقافة الغريبة، وبهذا الفهم لا يختلفون عن الغلاة من المتعصبين الماضويين الذين لا يرون في ثقافة الآخر إلا الشر المطلق، والبلاء المبين، فيرهبون الناس منها، ويغلقون كل الأبواب والنوافذ دونها، وكلاهما يقف موقف العداء من الثقافة الغربية عموماً، وهي نظرة قاصرة تخيف الناس باسم التبعية والتغريب، والتنفير من كل ما يؤدي إلي هذا التصور المطلق للتبعية، وإن التفاعل مع الثقافات الأخرى ضرورة تاريخية، وخاصة في عصرنا هذا، أما إطلاق التبعية والغزو الثقافي علي كل لون من ألوان هذا التفاعل، فهو وهم قائم في فكرة المؤامرة في كل شأن كبر أو صغر.

إن الذاتية الأصلية لا يمكن محوها بسهولة كما يتصور هؤلاء، وتجربة الجزائر الحديثة أكبر شاهد علي تحدى سياسة المحو والطمس، فهل اليابان في نهضتها مثلاً سلكت مسلك التبعية، وهل النمور الآسيوية أصبحت في تبعية، وامحت ذاتيتها وثقافتها الخاصة، ويمكن القول بأن اليسار الماركسي واليمين الماضوي[38] الأعمى هما سبب هذا الغلو الذي أصبح مسلماً به عند عدد من المثقفين، سواء كانوا قوميين أو غيرهم؛ مما يولد الإحباط والحيرة احياناً في نفوس الشباب فيتساءلون عن الحل، ليس العيب في التفاعل وإنما ف موقفنا منه وفي طريقة تعاملنا معه، وعدم ذكائنا في التتلمذ علي من تفوق علينا كما تتلمذ أسلافنا ومعاصرونا من الأمم الأخرى دون خشية من الذوبان، وينسى هؤلاء اليساريون ما أحدثته الأيديولوجية الاشتراكية من تدمير في حياتنا الاجتماعية والاقتصادية حين فرضت علينا فرضاً، ونحن نعاني إلي يومنا هذا من آثارها الضارة في النظرة المزيفة الدقماطيقية، وفي الممارسة العمياء.

ونحن نقرأ اليوم مقالات مرعبة عن تأثير وسائل الإعلام الغريبة مما يشعرنا بالضياع بالنظر إلي وسائلنا، ووضعنا الثقافي، ولكن نلاحظ أن الجمهور عندنا ليس فاقداً لكل حس ثقافي يميز به، وليس متلقياً في أغلبه تلقياً اعمى، وإنما يعطي للمضامين الإعلامية، تفسيراً يتناقض أحياناً مع غرض واضعي تلك السياسة الإعلامية، ويدرك الرسالة إدراكاً فيه ذكاء ونفاذ، فهل يؤثر الإعلام الأجنبي في رجل الشارع العربي ويقنعه بقبول تدمير إسرائيل لمنازل الفلسطينيين ونهب أراضيهم واحتلال القدس مثلاً؟ نعم هناك فروق واسعة بين ثقافة شعوب الشمال ووسائلها وبين ثقافة شعوب الجنوب ووسائلها المتخلفة، إلا أن ذلك لا يحملنا علي البكاء والعويل والترهيب مما يؤدي إلي الإحباط والاستسلام القدري، كما نرى ذلك في عدد غير قليل من المقالات والبحوث التي يسميها أصحابها بحوثاً علمية، وهذا يعود إلي عادة مستحكمة فيما يبدو في نفوسنا ألا وهي النظر إلي الأشياء إما بنظرة مستسهلة حتى يتفاقم الأمر فيئول أيضاً إلي الاستحالة، كما في تجربة إنشاء دولة إسرائيل التي كان يقول بعض قادة العرب : إننا سننفخ عليها نفخة واحدة فتذهب أدارج الرياح، حتى وصلنا إلي أنها هي التي تنفخ علينا وتهدد وجودنا بما لديها من أسلحة نووية وغيرها.

كما نقرأ هذه الأيام مقالات مرعبة عن العولمة الاقتصادية وحرية السوق الذي أصبح واقعاً دولياً، والتحذير من مخاطرها علي الدول الصغيرة، مع أنه يجب علي المثقف العربي المسلم أن ينظر إلي الزقائع «من زاويتها الإنسانية الرحيبة ليدرك دوره الخاص ودور ثقافته في الإطار العالمي»[39] ويتهيأ إلي الحوار مع ثقافة الآخر والحوار معه حواراً يحفظ به وجوده، وينمي ثقافته ليكون في مستوى التفاعل الحقيقي لا في مستوى الخضوع والاستسلام، وهذا الحوار يكون سبيلاً للتقدم لا سبيلاً للوقوف علي هامش التاريخ، ويريد بعض الكتاب أن يقنعنا بأن الصراع بين الحضارات حل محل الصراع بين الطبقات وأنه في جوهرة اقتصادي محض.

فالعولمة من شأنها أن تقوي عزمنا علي البحث عن مناهج ترسيخ جذورنا وانتمائنا كما قال Jacques Delars وترقيتها؛ فهذا هو منطق التاريخ، أخشي أن يكون هذا قصوراً في التفكير وخلطاً بين الأمور التي يجب التمييز بينها، فالعالم لا يخلو من صراع بأشكاله المختلفة، بحيث تدافع كل حضارة عن وجودها وتفيد من الحضارات الأخرى، وتختلف درجة الصراع من عصر إلي عصر ولكن الجوهر واحد.

ليس السبيل إلي نجاتنا أن ننسحب من الواقع أو نستسلم له، فلماذا لا نفكر في نسق استراتيجي لتنمية شاملة واقعية في التخطيط والتنفيذ لرفع مستوانا إلي مستوى الحضارة، لماذا لا نفيد من فرصة مهمة هي توفر «الإنترنت» ومن الثورة المعلوماتية في كسر احتكار المعرفة التي أصبحت السلاح الفعال في التقدم الحضاري، ومن ربط المؤسسات العلمية بهذه الشبكات العالمية للمعلومات والمشاركة في النشاط العلمي العالمي، ننطلق من موقف نقدي لعناصر من ثقافتنا التي أصبحت في عدد الأموات تتطلب الدفن في مقابر الأفكار الميتة، والبناء علي العناصر الحية منها بشجاعة وإرادة، ومن موقف نقدي للعمل السياسي السطحي، وما يتسم به من قصر النظر، وبنائها علي العلم بالواقع الاجتماعي، والواقع الخارجي، باعتبار أن السياسة هي توجيه للطاقات الاجتماعية، كما أن التربية هي توجيه للطاقات الفردية.

تتوقف قيادة المجتمع وإدارته علي فهم أعمق لثقافة المجتمع وتاريخه ونفسيته ورموزه، واتخاذ التربية الفعالة أداة لذلك كله، تربية تقوم علي تكوين العقلية العلمية التي تواجه التحديات المعاصرة، لا العقلية التي تستند إلي التلقين والذاكرة ولا تنظر إلي المستقبل، فالنظرة الاستقبالية عنصر واضح من عناصر الثقافة المعاصرة القائمة علي التخطيط علي المستوي الاستراتيجي وعلي المستوى الإجرائى معاً، لتحديد الغايات والوسائل، وسبل التصرف في الموارد وإدارتها، وفي الحاجات وحدودها، دون تجاهل لتوظيف المعرفة ونتائج البحوث الاجتماعية في تخطيط المشروعات وإدارتها؛ إذ كثيراً ما تتجاهل النماذج الفنية المتغيرات الاجتماعية الثقافية في عملية التنمية؛ لتزداد ملاءة المشروع للنسيج الاجتماعي الثقافي للمجتمع. والاستناد إلي نماذج تنموية تضع الإنسان في مقدمتها لإطلاق طاقته بفعالية لتحريك قواه الإنتاجية علي أسس مسلمة واضحة وضعها مالك ابن نبي، وهي :

أ‌-       يجب أن تجد جميع الأفواه قوتها.

ب‌-  يجب علي جميع الأيدي أن تعمل.

ويفترض تطبيقها «تغييراً جذرياً في عالم أفكارنا»[40] وليس من الضروري ان نتبع طريقاً في التنمية سلكه غيرنا، فالطرق مفتوحة وليست مغلقة في اتجاه رأسمالي ولا في اتجاه اشتراكي، ولسنا ملزمين لا بآدم سميث ولا ماركس، فكلما تعددت طرق الرؤى قل ما لا يرى، وطردت العناصر الخرافية والطوباوية من الأفكار وتوفرت فرص القابلية للتحديد الحسابي للمستقبل المرجو، وينبغي أن يتجه الاهتمام إلي تنمية الأفكار لا إلي مجرد نقلها[41] وليست الحلول قائمة علي التأليف بين أيديولوجيات معينة كالناصرية والاشتراكية والإسلامية كما يدعي بعضهم[42] فإن الحل لا يكمن في ترقيع ما لا يرقع، ولا في التلفيق، والضبابية، وتفترض التنمية كما قلنا تغييراً جذرياً في طريقة التفكير لتبسط العقلانية سلطانها، وتستبعد التلقين والاعتماد علي حشو الذاكرة، وترسيخ النقد والتحليل والمقارنة والابتكار، وذلك بتجديد التربية التي ينبغي أن تركز علي العلوم الرياضية والطبيعية والفلسفة التي تعلم الحرية والتسامح مع الرأى الآخر، وباستعمال الوسائل التكنولوجية الفعالة لتقليص الوقت وتفادي نقائص التجارب الماضية، ومن الضروري تفاعل القيادات مع المجتمع؛ لأن انسحاب الشعب من الحياة السياسية عامل يساعد علي تقوية ممارسة التسلط، ويؤدي إلي نوع من الثقافة السياسية المستسلمة القدرية[43] وينبغي أن نعترف باننا نفتقد ثقافة المشروع ورؤية المستقبل المصيري المخطط.

ومن شروط تنمية الثقافة توفر جو ديمقراطي حقيقي، وتعددية سياسية واجتماعية لتحتل الحرية والقانون ورغبات المجتمع مكانة واضحة في التنمية وفي تنشئة الأطفال تنشئة مستقلة تتاح لهم فيها مساحة ملائمة من الحرية في اختيار مصيرهم ونمط حياتهم، وتحتاج الديمقراطية إلي سلطة تتوازن فيها توجهات سياسية متباينة تتداول هذه السلطة، تجمع بين النخبة والمشاركة الشعبية والقانون، كما نرى ذلك مثلاً في بريطانيا[44] ليسود نوع من الثقافة المدنية تجمع بين دور التوجهات السياسية النشطة والتوجهات السلبية الموالية للسلطة، والتغيير في الثقافة إنما يحدث بسبب هذا التنافس بين الأنماط الحياتية المختلقة في داخل المجتمع الواحد؛ إذ لا يمكن تصور نظرية ساكنة في الثقافة عند انتقالها هذا آلياً دون نقد ولا تغيير، إلا في حالة تحنط ثقافة أو موتها، وهذا التنافس والمشاركة هما اللذان يمنعان الانفراد بسلطة القرار أو سلطة المال  أو سلطة المعرفة.

ولكن لا يكتفي بالنموذج السياسي بالمفهوم الضيق؛ لأن الحداثة اختيار تاريخي، ومشروع حضاري لا يتحقق إلا بوضع سلاح المعرفة والثروة والإنسان في خدمته وتحقيقه في الواقع بثقة و تفاؤل، واستبعاد لكل إحباط أو تثاقل أو استرخاء أو يأس؛ ولذلك فإن مسئولية المثقفين عظيمة، فإن القيادة السياسية الحاكمة لا تستطيع أن تحقق مشروعاً مصيرياً تدخل به الأمة التاريخ من جديد، اللهم إلا إذا توفر لهذه القيادة عمق الثقافة وخبرة السياسة، أي فن إدارة الأمة وقيادتها لصنع التاريخ، ومواجهة مجموعة التكتلات الاقتصادية العالمية، وقد كانت لأمتنا تجارب في التاريخ، وتحديات وكوارث ولكنها لم تمت، وهي ذات إمكانات تؤهلها لمواجهة التحدي ذا أحسنت استعمال ما لديها من عقول وأيدي.

 


[1]مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، دمشق، 1406 هـ – 1986 م، ص 104.

[2]المصدر نفسه ص 100 – 101

[3]عبد الله عبد الدائم، >>العالم ومستقبل الثقافة العربية<< مركز دراسات الوحدة العربية، (8/1997) ص30.

[4]مالك بن نبي، المصدر السابق، ص121.

[5]عواطف عبد الرحمن، >>الإعلام العربي بين التبعية والاختراق الثقافي<<، المجلة العربية للثقافة، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ربيع الثاني 1417 هـ – 1996 م، ص 196.

[6]منير الحمش، >>التحديات الاقتصادية التي يتعرض لها المواطن العربي<< دراسات عربية، 7-8 مايو ـ يونيو 1997 ص 10.

[7]رضا عبد الجبار سلمان الشمرى، >>الأهمية الجيبوبوليتيكية للقوة الاقتصادية العربية<<، شئون عربية، مارس 1997 م، ص89، استناداً إلي تقرير الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، والصصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، وصندوق النقد العربي، ومنظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول في التقرير الاقتصادي العربي الموحد الذي أصدرته سنة 1994. نشرته شركة أبو ظبي للطباعة والنشر.

[8]المصدر نفسه.

[9]المصدر نفسه.

[10]المصدر نفسه.

[11]للأستزادة من نتائج التنمية في البلاد العربية يحسن الرجوع إلي المصدر السابق لأهميته.

[12]كتب الدكتور علي الكواري كتاباً بهذا العنوان.

[13]حامد ربيع >>الظاهرة الإنمائية والواقع العربي<<، الندوة الثانية لمشكلات الإنماء في الوطن العربي (البعد الثقافي)، معهد البحوث والدراسات العربية، بغداد 9 مايو 1984، ص 84.

[14]عبد المنعم علي الحسني، >>الثقافة والتنمية : المتغير الثقافي في التنمية العربية<< شئون عربية، مارس 1997، ص84-87.

[15]نادر فرجاني >>عن غياب التنمية في الوطن العربي<< الندوة الثانية لمشكلات الإنماء في الوطن العربي، المصدر السابق ص23. عبد المنعم علي الحسنى، مصدر سابق ص 84.

[16]دار البصام، >>حول مفاهيم المؤشرات الاجتماعية لقياس الإنجاز في جهود التنمية العربية<< ندوة تطبيق المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية علي التخطيط للتنمية في الوطن العربي، تونس، يونيو 1983، نشرها معهد الدراسات والبحوث العربية، بغداد 1987، ص37.

[17]مالك بن نبي>>مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي<<، مكتبة عمار، القاهرة، 1319 هـ / 1971 م، ص 97.

[18]وضرب مثلاً باليمن، المصدر السابق  ص98.

[19]المصدر السابق ص98.

[20]المصدر السابق ص98.

[21]مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، مصدر سابق، ص117.

[22]مشكلة الأفكار، ص164.

[23]Yukawa Hideki, “Modern Trenol of Western Civilization and Cultural Peculiarities in Japan, in the Japanese Mind, University of Hawaii Press, Hnolulu, 1967, P.56.

[24]Ibid, P.295.

[25]Ibid, P. 294.

[26]عبد المنعم علي الحسني، الثقافة والتنمية، مصدر سابق ص79.

[27]The Japanese Mind. P.297.

[28]Michael Thompson, Richard Ellis, Aaron Wildavsky, West View Press, Boulder, San Fransisco, USA and Oxford UK, 1990

[29]نظرية الثقافة، ص364.

[30]المصدر نفسه، ص162.

[31]المصدر نفسه، ص368.

[32]عواطف عبدالرحمن، الإعلام العربي، مصدر سابق، ص 196 ـ 197.

[33]مشكلة الأفكار، ص190.

[34]المصدر السابق، ص 188،192.

[35]المصدر نفسه ص 193 ـ 194.

[36]المصدر نفسه ص 204.

[37]المصدر السابق ص 143.

[38]محمود قنبر، ووضحى السويدي، >>التربية والابتكار في ضوء ثقافتنا العربية الإسلامية<<مستقبل التربية العربية، العدد الأول، يناير 1995 م، ص140.

[39]مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ص116.

[40]مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص154.

[41]نظرية الثقافة، مصدر سابق، ص 185.

[42]دعا إلي هذا محمد عبد الشفيع في ندوة العولمة والتحولات المجتمعية في الوطن العربي، 15-18 مارس 1997م، المستقبل العربي، أغسطس، 1997، ص 167.

[43]نظرية الثقافة، مصدر سابق ص 405.

[44]المصدر نفسه، ص 408، وكذلك الولايات المتحدة قائمة علي هذا التوازن في السلطة السياسية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر