أبحاث

العزالي .. هل كان سببا في تدهور الفلسفة في العالم الإسلامي؟

العدد 170 /171 - ?Al-Ghazali, Was he the cause of the decline of philosophy in the Islamic world

توصل بعض الكتاب والباحثين المعاصرين في المجال العربي عند حديثهم عن أبي حامد الغزالي (450-505هـ/1058-1111م) إلى استنتاج مفاده: أن الغزالي وتجربته الفكرية وبعد كتابه (تهافت الفلاسفة)، قد تسبب في تدهور الفلسفة في العالم الإسلامي، وتراجع الحركة العقلية في ساحة الفكر العربي الإسلامي بعد القرن الثاني عشر الميلادي إلى اليوم.

هذا الاستنتاج ظل يتردد في مقالات وتأليفات وأطروحات، جاءت من أشخاص لهم وزنهم الفكري والأكاديمي، وينتمون إلى بيئات اجتماعية متعددة في مشرق العالم العربي ومغربه. ولعل أسبق من أشار إلى هذا الاستنتاج الأديب المصري الدكتور زكي مبارك (1892-1952م) إذ عرض له في رسالته للدكتوراه التي ناقشها في الجامعة المصرية سنة 1924م، موسومة بعنوان: (الأخلاق عند الغزالي)، معتبراً أن الغزالي كان سبباً لخمود الفلسفة في الشرق(1).

ومن بيئة أخرى هي لبنان، أشار إلى هذا الاستنتاج كذلك الدكتور ماجد فخري (1923-2021م) أستاذ الفلسفة ورئيس دائرتها في الجامعة الأمريكية في بيروت، متطرقاً إليه في مقدمة كتبها سنة 1962م لكتاب الغزالي (تهافت الفلاسفة)، وضمها لاحقاً في كتابه: (دراسات في الفكر العربي) الصادر سنة 1970م، معبراً عن رأيه قائلاً: (مما لا مراء فيه أن “تهافت الفلاسفة” كان عاملاً من العوامل الفعالة في تدهور الحركة الفلسفية في العالم الإسلامي بعد القرن الثاني عشر، فقد أوجز فيه الغزالي إيجازاً دقيقاً محكماً أهم مآخذ الفقهاء والمتكلمين على الفلسفة اليونانية، وأعرب إعراباً بليغاً عما كان يعتلج في ضمير العالم الإسلامي من التبرم بها، وبما شاكلها من الحركات أو البدع الدخيلة)(2).

ومن بيئة ثالثة هي المغرب، أشار لمثل هذا الاستنتاج أيضاً الدكتور محمد عابد الجابري (1935-2010م)، متحدثاً عنه في مداخلة قدمها لندوة عن الغزالي عقدت في كلية الآداب بالرباط سنة 1987م، حملت المداخلة عنوان: (فكر الغزالي.. مكوناته وتناقضاته)، وأعاد نشرها لاحقاً في كتابه: (التراث والحداثة) الصادر سنة 1991م، إذ اعتبر أن الغزالي ضرب الفلسفة فعلاً ضربة قاضية لم تقم لها بعده قائمة(3).

لا شك أن هذا الاستنتاج في الموازين الفكرية والتاريخية ليس عادياً على الإطلاق، ولا يمكن البوح به ببساطة، كما ليس من السهولة التوصل إليه والبناء عليه. ومن ثم فإن التعامل مع هذا الاستنتاج بحاجة إلى نوع من التحرز والتدقيق، لكونه استنتاجاً يؤرخ لتحول خطير في تاريخ تطور الفلسفة الإسلامية أو تاريخ تطور الفلسفة في العالم الإسلامي.

كما أن هذا الاستنتاج لخطورته فهو بحاجة بين وقت وآخر إلى مراجعة، بقصد التبصر فيه، والتثبت منه، والتوقف عنده مع كل بحث يتناول بالتحقيق تاريخ تطور الفلسفة والفكر الفلسفي في المجالين العربي والإسلامي، خصوصاً وأن التجربة الفكرية للغزالي ما زالت تستقطب اهتمام الباحثين والدارسين على اختلاف مللهم ونحلهم، وذلك لظرافة هذه التجربة، وشدة مفارقاتها، وقوة تحولاتها.

وبعد المراجعة والفحص، وجدت أن هذا الاستنتاج المذكور، لا يمكن التسليم به، أو الاتفاق معه، أو الركون إليه، وبالإمكان مناقشته وتخطئته استناداً إلى المسائل والحقائق الآتية:

الغزالي بين المنطق والفلسفة:

أولاً: في تجربة الغزالي الفكرية هناك مفارقة مدهشة تستدعي الانتباه بشدة، فمن جهة نرى الغزالي معارضاً بقوة للفلسفة، ومن جهة أخرى نراه مدافعاً بقوة عن المنطق. والفلسفة والمنطق هما من العلوم العقلية، وبينهما وشائج وطيدة لا تنفصل ولا تنفك، فمن يقترب من الفلسفة يكون قريباً من المنطق على تخومه أو أكثر من ذلك، ومن يقترب من المنطق يكون كذلك قريباً من الفلسفة على تخومها أو أكثر من ذلك. كما أنهما من العلوم الوافدة على المسلمين من الخارج، وينسبان نشأة وتطوراً إلى أهل اليونان المعروفين بأصحاب علوم الأوائل.

والسؤال ما الذي جعل الغزالي يبتعد عن الفلسفة ويقترب من المنطق؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر