أبحاث

الدكتور جمال الدين عطية وجهوده في تطوير الفكر الإسلامي

العدد 163

يعد الدكتور جمال الدين عطية (22-11-1346هـ / 12-5-1928م- 15 من ربيع الآخر 1438هـ، / الثاني عشر من يناير 2017م)، أحد أهم أعلام الفكر والفقه الإسلامي في النصف الثاني من القرن العشرين، الذين قضوا حياتهم في خدمة الفقه والفكر والدعوة الإسلامية، ومحاولة بلورة معالم مشروع حضاري يحقق لأمة الإسلام شهودها الحضاري من جديد.

نحاول في هذه المقالة، أن نتوقف عند المحطات الرئيسية في حياة عالمنا الراحل، ونحاول بيان أهم معالم التجديد الفكري والفقهي لديه.

الدكتور عطية في سطور(1):

درس الدكتور جمال عطية، القانون في كلية الحقوق بجامعة “فؤاد الأول” (القاهرة حالياً)، وتخرج فيها عام 1367هـ/ 1948م، ثم حصل على دبلوم الشريعة من كلية الحقوق عام 1369هـ/ 1950م، وبعد أزمة الإخوان مع عبد الناصر، سافر إلى الكويت عام 1954م، ومنها إلى سويسرا ليحصل على الدكتوراه من جامعة جنيف عام 1379هـ/ 1960م.

ثم عاد، إلى الكويت ليعمل بالمحاماة خلال عقد الستينيات، وعمل أستاذا زائرًا بالجامعة الليبية سنة 1393هـ/1973م. وبعدها عاد إلى القاهرة خلال الثلث الأول من السبعينيات من القرن الماضي (1974م)، حيث ساهم مع آخرين في إنشاء بعض الشركات، بجانب تأسيس مجلة المسلم المعاصر، ثم انتقل إلى لوكسمبورج، حيث بدأ نشاطه في مجال البنوك (1406–1408هـ/1986-1988).

ثم عاد للقاهرة ليدير المعهد العالمي للفكر الإسلامي حتى نهاية عام 1992م. ليعود مجدداً للتدريس في كلية الشريعة بقطر حتى نهاية عام 1998حيث بلغ السبعين من عمره، ثم سافر إلى جدة للعمل كمدير ومستشار لمعلمة زايد الفقهية حتى عام 2013م، ليعود للقاهرة ويستقر بها متفرغاً لرئاسة تحرير مجلة المسلم المعاصر حتى وفاته -رحمه الله- في مطلع هذا العام. ومن أهم مؤلفاته: التنظير الفقهي – النظرية العامة للشريعة الإسلامية – نحو تفعيل مقاصد الشريعة – البنوك الإسلامية – تجديد الفقه الإسلامي- إسلامية المعرفة.

المحطة الأولى: مجلة المسلم المعاصر(2)

منذ نشأتها انصب اهتمام مجلة “المسلم المعاصر” الأول على قضايا الاجتهاد المعاصر، حتى أنه وصفها في العدد التجريبـي بأنها “مجلة الاجتهاد”، وأنها: “تنطلق من ضرورة الاجتهاد، وتتخذه طريقًا فكريًّا، ولا تكتفي بالبحث في ضرورة فتح باب الاجتهاد في فروع الفقه، بل تتعداه إلى بحوث الاجتهاد في أصول الفقه”. فمنذ العدد الافتتاحي لها، أطلقت صيحة التجديد في أصول الفقه، كمفتاح لحركة التجديد الكبرى في الفقه ذاته، وفتحت آفاق البحث في فروع جديدة كالاقتصاد وعلم النفس والتربية والسياسة والإدارة والإعلام والفنون.

وقد كانت “المسلم المعاصر”، في بدايات ظهورها، هي المجلة الوحيدة التي تناقش القضايا المعاصرة من منطلق إسلامي، وكان رد فعل ظهورها مفاجئاً، فقد كانت كالحجر الملقى في الماء الآسن، ثم قامت بعدها مجلات أخرى من أجل نفس الهدف.

ومنذ بدأت المجلة وحتى اليوم ظلت تدار تطوعاً، لا يتقاضى رئيس تحريرها ولا هيئة التحرير أي مكافآت. ومع هذا الأثر الكبير الذي أحدثته، والجهد الكبير الذي بذله حتى تستمر مؤدية دورها طيلة ما يزيد على أربعة عقود، يقول عنها “ليست مجلة “المسلم المعاصر” إلا قطرة من بحر مما يحتاجه العمل الإسلامي المعاصر في الميدان العلمي”.

آفة المجلات الإسلامية(3):

وقد نبه فقيدنا الراحل – من واقع خبرته الطويلة مع المسلم المعاصر والمشاكل التي واجهها في استمرارها- إلى ضرورة حصول نوع من التنسيق بين المجلات الإسلامية؛ حتى نتجنب تكرار الجهود، ومواجهة المشاكل التي تقابلها أية مجلة من حيث التمويل، والتحرير، والتوزيع، مؤكداً أن كل هذه المشاكل يمكن مواجهتها لو تكاملت المشروعات. وقد دعا إلى اجتماع للتنسيق بين هذه المجلات منذ ما يقارب العشرين عاماً، وكان هذا هو الاجتماع الوحيد، ومع ذلك مازالت المجلات تتزايد، وكل مجلة كأنها هي الوحيدة على الساحة، والأغرب من هذا أن عدد الكتاب محدود، والذي يكتب لهذه المجلة هو الذي يكتب لتلك، وتتكرر الكلام، وتكرر البحوث.

المحطة الثانية: المعهد العالمي للفكر الإسلامي في القاهرة(4)

تعود صلة الدكتور جمال الدين عطية بالمعهد العالمي للفكر الإسلامي إلى عام 1977م، حيث شارك في مؤتمر لوجانو للتفكير في مستقبل العمل الإسلامي، والذي كانت أهم توصياته إنشاء مركز أو معهد بحوث يقوم بهذه المهمة، وتم ترشيح الدكتور جمال لإنشاء هذا المركز، لكنه اعتذر لمشغوليته بمشروع البنوك الإسلامية.

ثم انعقد اجتماع في لوكسمبورج عام 1981م، بعد تأسيس المعهد، ودعا إلى ضرورة مواصلة السعي لإنشاء ندوة عالمية دائمة للأنشطة العلمية الإسلامية، وتكليف الدكتور جمال عطية بمتابعة اجراءات التأسيس وتعبئة الموارد المالية، وقد قام د.جمال بمتابعة ما كلف به من تأسيس الندوة الدائمة حتى تم ذلك سنة 1982م، باسم “المجلس العالمي للبحوث الإسلامية”، وواصل تنفيذ خطته في حدود التمويل المحدود الذي أتيح له.

وظلت صلة الفقيد الفكرية بالمعهد، إلى أن تم استدعائه عام 1988م، ليدير مكتب المعهد في القاهرة، لمدة 4 سنوات (1988-1992م). ولتبدأ مرحلة جديدة من العمل الفكري في حياته، قال عنها: “إنها من أغنى التجارب التي مر بها في حياته، لأنه كان يقوم باعداد مشروعات علمية بحثية، وعقد ندوات وسيمنارات ومؤتمرات في مختلف قضايا الفكر الإسلامي، فتجمع لديه من العلم والخبرة الكثير. وعن هذه الفترة كتب كتابه الموسوم بـ “إسلامية المعرفة” الذي نشرته دار الفاروق في مصر.

المحطة الثالثة: كلية الشريعة في قطر(5)

التحق فقيدنا الراحل، بهيئة التدريس في كلية الشريعة والقانون والدراسات الإسلامية بجامعة قطر أستاذاً زائراً خلال الفترة (1986-1988م)، ثم صار رئيسا لقسم القانون فيها؛ حيث أنشئوا تخصّص القانون في حضن كلية الشريعة، وظل بجامعة قطر حتّى عام 1419هـ 1998م، حين بلغ سن السبعين، وتم إحالته للتقاعد فعاد إلى القاهرة.

يقول عن هذه الفترة: “لما عملت في قطر شعرت أنني وجدت نفسي، وأنها هي الحياة التي يجب أن أبدأ بها، وكانت علاقتي طيبة بالزملاء والطلاب الذين لم تحدث بيني وبينهم أي مشكلة في هذه الجامعة”.

القاهرة أخيراً(6):

عاد إلى مصر عام 1998، وانشغل – بجوار رئاسته لمجلة المسلم المعاصر- ببعض الأنشطة المحدودة وتحكيم البحوث والمقالات في بعض المجلات، حتى استدعاه الدكتور عز الدين إبراهيم لإنجاز موسوعة القواعد الفقهية والتي استمر العمل فيها لمدة عشر سنوات ما بين 2003 حتى 2013م. وفي هذه المرحلة صدر له كتب: تجديد الفقه الإسلامي في حوارية مع الدكتور وهبة الزحيلي، وكتاب الفكر الإسلامي بين الواقع والمثال، وكتاب نحو تفعيل مقاصد الشريعة، وكتابه عن إسلامية المعرفة، ومعلمة القواعد الفقهية.

أهم إسهامات الدكتور جمال عطية في تجديد الفقه وأصوله ومقاصد الشريعة:

المتابع لكتابات الدكتور جمال -رحمه الله- سيجد أن الرابط الأساسي والهم الكبير فيها هو السبيل إلى إنهاض المسلمين وكيفية بلورة مشروع حضاري للأمة يسلكها في عداد الأمم الكبيرة بل يجعلها شاهدة على العالمين. ومن أهم ملامح هذا الاسهام نجد:

أولاً: في مجال الفقه(7)

دعا الدكتور جمال الدين عطية إلى تجديد الفقه عبر تقديم اجتهادات جديدة في المسائل القديمة بما يتفق مع تغير الظروف – تقديم اجتهادات جديدة في المسائل الجديدة والمستحدثة – ضرورة التوسع في مفهوم “الفقه” بحيث نعود إلى المفهوم اللغوي له أو نقترب منه، أي الاستعمال القرآني لكلمة الفقه والتي كانت تطلق على مجموع العقائد والأخلاق إلى جانب العمل والمعاملات – وضع العلوم الاجتماعية تحت مظلة الفقه، أي الأحكام الشرعية الضابطة للنشاط الإنساني في مجالات هذه العلوم -معرفة المنهج الذي كان يتعامل به الفقهاء مع الأمور المستحدثة، وكيف كانوا يعالجون المسائل التي لم تكن داخلة في جسم الفقه بصورته التقليدية الثابتة، وهوما يستدعي مزيد عناية بكتب النوازل والأقضية والفتاوى، بالإضافة لكتابات كبار الكتاب المعاصرين أو طلاب الماجستير والدكتوراه الذين لهم اجتهادات فقهية مهمة، والبحوث العلمية المحكمة في المؤتمرات والمجلات العلمية حول موضوعات فقهية، واجتهادات المجامع الفقهية – وأن تخاطب الكتابات الفقهية جميع المستويات من البشر، ويستطيع عامة الناس أن يطالعوها – وتطوير فقه الأقليات بعد اندماجهم في المجتمع- وتطوير النظرة إلى تقسيم العالم إلى دارين أو ثلاث.

وشدد على ضرورة ربط الفقه بالواقع، لكي تشمل الشريعة كل تطور وتغيّر، ولكي لايكون الواقع في وادٍ والشريعة في وادٍ آخر. ودعا المجتهد إلى عدم حصر دوره في الانتقاء من بين الآراء القديمة، بل دعاه إلى الاجتهاد والوصول إلى رأي لم يصل إليه الأقدمون طالما أن له مستنده الشرعي.

وأكد أن الفقه يجب أن يحتل دوره كقائد للدورة الحضارية للأمة، وأن يكون الفقيه رائداً مصلحاً وليس تابعاً محافظاً.

ودعا إلى حسن إعداد المجتهد المعاصر ، وأن يكون متخصصاً، وأن يعد إعداداً خاصاً، لا في الجانب الشرعي فحسب، وإنما في جانب التخصص الذي يتجه إليه، سواء في الاقتصاد أو الطب أو الاجتماع أو علم النفس أو في باب فقهي دون غيره، وأن يكون لديه الاستعداد الشخصي للقيام بهذه المهمة.

ثانياً:التجديد في أصول الفقه(8)

بيَّن الدكتور عطية، في كتاباته المتعددة، أن العلاقة بين التجديد في “الفقه” وبين التجديد في”أصول الفقه” علاقة وثيقة، فإذا تجددت الأصول، تجدد الفقه والاجتهاد، وفقاً للمناهج الجديدة التي توضع لأصول الفقه. كما دعا إلى عدم ربط التجديد في الفقه بالتجديد في الأصول، فالأمران يمكن أن يسير العمل فيهما معا ومتوازيين دون أن يتم تعليق أحدهما على تحقيق الآخر.

من المسائل التي جعلها مدخلاً للتجديد في أصول الفقه:

1- التوسع في دراسة تاريخ علم أصول الفقه ببيان المراحل التاريخية التي مر بها التجديد في هذا العلم والإرهاصات المعاصرة.

2- إنشاء علم منهجي جديد يكون أصول الفقه جزءًا منه.

3- تطوير العلم في إطار العلوم التي استمد منها شريطة الحفاظ على قواعده القطعية، خاصة مفاهيم بعض المصطلحات الأصولية الأساسية بما ييسر الاستفادة منها في الواقع المعاصر.

4- تحويل بعض المفاهيم الكبرى، كالاجتهاد والإجماع والشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها إلى مؤسسات.

5- استحداث منهجية تطبيقية لتنـزيل النصوص على الواقع بكافة مستوياته.

ثالثاً: الدعوة إلى بلورة نظرية عامة للإسلام(9)

من أهم أفكار عالمنا الكبير، التي تحتاج إلى متابعة وتعميق، دعوته إلى بلورة نظرية عامة للإسلام، تؤدي أغراضاً ثلاثة:

أولها: أن تكون نقطة البداية لنظريات خاصة في كل فرع من فروع المعرفة تنبثق عنها الأحكام الفرعية والتفاصيل.

وثانيها: أن تكون بياناً لتعريف غير المسلمين بالإسلام في كلياته.

وثالثها: أن تكون ميثاقاً للمسلمين ينطلقون من مبادئه المتفق عليها لبناء حضارتهم المعاصرة.

رابعاً: التجديد في مجال المقاصد الشرعية(10)

من أهم إسهامات فقيدنا الراحل، تقسيمه الجديد لمقاصد الشريعة، حيث لم يحصر المقاصد في الخمسة مقاصد التي قال بها قدامى المقاصديين والمتمثلة في: حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال، لكنه قسم المقاصد تقسيماً جديداً إلى أربعة مجالات، فجعل المقاصد الخمسة هي مقاصد الشريعة بالنسبة للفرد، وتبنى مقاصد جديدة للأسرة والأمة والإنسانية ككل، كما سعى إلى تطوير مباحث مقاصد الشريعة وتبويبها، وتفعيل مقاصد الشريعة كما بين بإسهاب في كتابه “نحو تفعيل مقاصد الشريعة”.

معالم المشروع الحضاري الإسلامي عند الدكتور جمال الدين عطية(11):

دعا الدكتور جمال الدين عطية، إلى ضرورة تبني مشروع حضاري معاصر لأمة الإسلام، تلتف حوله بكافة فصائلها ومذاهبها وأحزابها، مبيناً أهم دعامات هذا المشروع الحضاري:

1- المجتمع المؤمن بالله، ويترتب على ذلك الإيمان: تشكيل خططه التربوية والإعلامية والثقافية وفقا للقيم الإيمانية – الاعتراف بالأديان الأخرى واحترام عقائدهم وممارسة عباداتهم – حظر الترويج للأفكار الإلحادية.

2- أن دين المجتمع هو الإسلام، ويترتب على ذلك: اشتراط أن يكون رئيس الدولة مسلماً – ويكون الإسلام مرجعية كل شئونه – والانتماء إلى الأمة العربية والإسلامية.

3- مصدرية الشريعة للتشريعات في الدولة.

4- عدم التعارض بين الانتماء بدوائره المختلفة: للوطن الجغرافي، وللقومية ولأمة الإسلام، ولعالم المستضعفين، وللإنسانية عامة.

5- تبني مفهوم التنمية الشاملة المستدامة المنطلقة من مفهوم عمارة الكون.

6- تحقيق العدالة الاجتماعية، التي توفر الحياة الكريمة للمواطنين.

7- الحفاظ على حقوق الإنسان، وعدم السماح بانتهاكها تحت أي ظرف وبأي ذريعة.

8- النظام السياسي، ديموقراطي جمهوري، يقوم على التعددية الحزبية وتداول السلطة ويفصل بين السلطات، بما يكفل تقييد سلطان الدولة عن التمدد على حساب حقوق الأفراد وحرياتهم ومؤسسات المجتمع المدني من حيث قيامها وازدهارها.

9- قيام الدولة الإسلامية المنشودة في عصرنا في ضوء هذا المشروع الحضاري بمهام أساسية تتمثل في:

أ- تبليغ رسالة الإسلام.

ب- تحرير المستضعفين والمظلومين والمضطهدين في كل مكان.

ج- المساهمة في أي جهد جاد يسعى إلى تصفية الاستعمار القديم والجديد، واستنـزاف ثروات الشعوب، والتفرقة العنصرية، وإلى ضمان حقوق الإنسان، ونـزع السلاح، وتسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية وغيرها من القضايا العالمية.

د- التزام الدولة الإسلامية في عملياتها الحربية، وفي معاملة الأسرى والمدنيين وغير ذلك من شئون الحرب بالضوابط والتوجيهات الشرعية.

ولهذا كانت دعوته لتجديد مقاصد الشريعة من ضمن محاورها مقصد حفظ الأمة الذي يعني(12):

1- ضرورة التنظيم المؤسسي والجماعي للأمة، من أدنى صوره إلى أعلاها. فالأمة هي الأصل والمرجع، والدولة مؤسسة من مؤسستها. فالأمة، كيان متميز له خصائصه ومقوماته وتنظيماته وتدعيم وحدتها المتمثلة في: وحدة العقيدة والشريعة واللغة، ضرورة لا خيار، من خلال:

أ- تدعيم معنى الخلافة الخاصة للأمة (في إطار الخلافة الخاصة لجنس الإنسان)، وقيامها بواجباتها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإيمان بالله.

ب- سيادة للشريعة في المجتمع والدولة. وما يستلزمه ذلك كله من الشورى، باعتبارها خصيصة وأسلوب تسيير أمور الأمة، وفرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لحراسة القيم العليا لها.

ج- قبول التعددية في إطار الوحدة، والتي تعني اليوم الأخذ بالصور الحديثة للتنظيم مثل الأحزاب والجمعيات وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني.

2- حفظ أمن الأمة الداخلي والخارجي، لتصل بها إلى درجتي الأمن والكفاية على مستوى الأفراد والمجتمع. وإقامة العدل الشامل وحفظ الدين والأخلاق والتعاون والتضامن والتكافل بين أبناء الأمة. ونشر العلم وحفظ عقل الأمة؛ وبالخصوص من تأثير وسائل الإعلام التي تغسل العقول بشكل جماعي وتفسد مناهج التفكير، وتشيع تقديس السلطة وتبرر الخطأ والعصبية الجاهلية.

3- عمارة الأرض وحفظ ثروة الأمة، من خلال تحقيق التنمية المستدامة حتى قيام الساعة.

عنايته بالمرأة والأسرة المسلمة(13):

حظيت المرأة والأسرة بقسط وافر من عناية الدكتور جمال عطية، في مقالاته وكتاباته المتعلقة بالمقاصد، فقد دعا في كتاباته المتعددة في مجلة المسلم المعاصر إلى ضرورة أن:

1- تتربى أسرنا على إتاحة قدر من الشورى والاختلاف في الرأي والتعددية في إطارها، لأنه في داخل هذا الإطار يتربى الأطفال على معنى الحرية ومعنى التعددية الذي يمارسونه بعد ذلك خارج الأسرة.

2- وأن على القائمين على الدعوة الإسلامية، أن يوجهوا اهتماماً خاصاً لتكوين المرأة المسلمة وإعدادها، إذ لم تعد قضية المرأة قضية فكرية، بقدر ما هي قضية ممارسة عملية للمبادىء الإسلامية المتعلقة بالمرأة.

3- وتحرير الرجال والنساء معاً من إسار التقاليد التي تعوق ممارسة الإسلام بحرية في هذا المجال، من خلال: إنشاء جمعيات نسائية ترعى المرأة المسلمة، وتبشر بين النساء بمفهوم الإسلام عن المرأة وتطالب باسم الإسلام بما حباها من حقوق.

4- تطوير فقه المرأة بعد أن اختلف وضعها من حيث الاستطاعة والطاقة.

5- وأكد مبكراً (1977م) على أن الوقت قد حان لقيام حركة نسائية إسلامية مستقلة، تنهض بأعبائها رائدات متخصصات في الدراسات الإسلامية والعلوم الاجتماعية الحديثة، وتنتقل بقضية المرأة من مرحلة الدفاع السلبي عن الإسلام في هذا المجال إلى مرحلة الدعوة الإيجابية والبناء العملي للمجتمع الإسلامي.

التربية(14):

دعا الدكتور جمال الدين عطية، إلى ضرورة إيلاء قضية التربية أهميتها الكبيرة في إعادة بناء مجتمعاتنا المعاصرة، فدعا إلى “تطوير مناهج التربية بما يناسب الظروف المتجددة، وكذلك إنشاء سلسلة من المدارس الإسلامية تسير وفق مناهج معدة على أعلى مستويات العلم والخبرة.

أهم التحديات التي تواجه الفكر الإسلامي في مطلع القرن الحادي والعشرين(15):

في حواره مع مجلة المسلم المعاصر، بمناسبة مرور خمسة وعشرين عاماً على إنشائها حدد الدكتور جمال الدين عطية أهم التحديات التي تواجه الفكر الإسلامي في مطلع القرن الحادي والعشرين في ما يلي:

1- ليس لدينا تراكم معرفي عند الأجيال الجديدة، التي لا تعرف جهود السابقين.

2- نفتقد الدقة في وضع الإمكانات المتاحة في مكانها المناسب.

3- لا يوجد مشروع ضخم على الصعيد العام للأمة يمثل قيم الفكر الإسلامي ومقوماته على المستوى النظري والتطبيقي.

من أقواله:

-من مظاهر التخلف – وأسبابه في نفس الوقت – ما نشغل به جل أوقاتنا من”كلام” تحول إلى “صناعة” لها أصولها وقواعدها، تستهلك عدة ساعات يوميا من جميع المواطنين، ألا تستحق هذه الآفة الرقابة والتوجيه الذاتي والاجتماعي، فلا ينفض مجلس أو اجتماع إلا ويسأل الحاضرين أنفسهم: ماذا أنتجنا أو ماذا أنجزنا، حتى نحول الطاقات المضيعة إلى الإنتاج المفيد(16).

– ما أكثر المشروعات التي يمكن أن نترجم بها تعاليم الإسلام وقيمه وآدابه إلى مؤسسات واقعية منتجة عاملة تغير حال المسلمين وتجعلهم صورة حية للإسلام(17).

– ليس مقياس قرب أو بعد دولة ما عن الإسلام، هو في مدى وجود”رجال الدين” أو ممثل”الحركة الإسلامية” في الحكم، ولا حتى في تسمية رئيس الدولة بالخليفة، وإنما المقياس هو في مدى وجود الإسلام في حياة الأفراد والمجتمعات وأجهزة الحكم(18).

– أول ما ينبغي عمله – حين نفكر في المستقبل- هو أن ننظر إلى الماضي، لنأخذ العبرة من أخطائنا فلا نكررها، ولنقيم وسائلنا فنصلح المعوج ونستبدل غير الصالح ونطور الصالح المفيد. والأمر الثاني، هو أن نراعي الواقعية في تفكيرنا وحكمنا على الأمور. والأمر الثالث، هو مراعاة المتغيرات عند وضع خطط المستقبل وتنفيذها(19).

– إن ابتعاد المجتمعات الإسلامية، عن الإسلام قد تم خلال فترة طويلة، غطت عدة أجيال من المسلمين، ولا يمكن تصور عودة هذه المجتمعات إلى الحياة الإسلامية خلال شهور أو أعوام قليلة، مما يستدعي التخطيط المرحلي لهذه العملية وما تستتبعه هذه العملية المرحلية من تدرج، وأولويات تتقرر بعددراسة، وتنصرف أجهزة العمل الإسلامي إلى تنفيذه مرحلة بعد مرحلة(20).

– يخطىء من يظن أن نهاية التاريخ في انتصار نظام أو هزيمة نظام(21).

– ما أكثر المداد الذي يراق، بل والدماء أحياناً، لتسجيل إسهام المسلمين السابقين في حل القضايا الإنسانية في الماضي، وما أقل ما يسهم به مسلمو اليوم في حل قضايا الساعة(22).

– ماذا ينقص المسلمين؟ أشياء كثيرة، منها وضوح الرؤية: رؤية الفكر، ورؤية الواقع، ورؤية الطريق(23).

مشروعات تنتظر من ينفذها(24):

ترك عالمنا الكبير مشروعات كثيرة مازالت بحاجة لجهود كل المخلصين من علماء وشباب وأغنياء الأمة للقيام بها، ومن أهم هذه المشروعات:

1- الأكاديمية الإسلامية الدولية: التي تعمل لتبليغ رسالة الإسلام بمنطق العلم، وللعمل على مساهمة المسلمين باسم الإسلام ومنهجه في دفع حضارة الإنسان المعاصر، وللعمل على رسم أطر الحياة الإسلامية التطبيقية. فقدم مذكرة باقتراح إنشاء أكاديمية دولية للبحوث الإسلامية للقاء الثالث للندوة العالية للشباب الإسلامي، أتبعها بمشروع للنظام الأساسي لهذه الأكاديمية، كان من نتيجتها انعقاد مؤتمر لوجانو الذي انبثق عنه فكرة المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وأسس “المجلس العالمي للبحوث الإسلامية” كنواة لهذه الأكاديمية، لكن حالت الموراد المالية دون إكمال المشروع.

2- إنشاء معهد عال لإعداد الكوادر العلمية المعاصرة: تكون مهمته تخطي الأثر السيء لازدواج الثقافتين الشرعية والعصرية، لمن أتموا تخصصاتهم سواء منها الشرعية أو العصرية على أعلى المستويات، كي يكمل كل منهم ما ينقصه من العلوم الأخرى (على حسب الأحوال)، وفي نطاق تخصصه فقط (اهتداء بشروط المجتهد الخاص لا العام)، حتى تتكون من خريجي هذا المعهد وحدات متخصصة في كل فرع تجمع في كل فرد من أفرادها – لا بالتكامل بين أفرادها فحسب- بين الثقافتين العصرية والشرعية ممتزجة متفاعلة، وتكون هذه الوحدات المتخصصة هي معقد الأمل في الاجتهاد المعاصر ضمن إطار مجمع علمي إسلامي، وأن تكتمل لهذا المعهد مقدماته التمهيدية ومقوماته الرئيسية وأهمها: تكوين أفراد وحداته المتخصصة، ثم رسم منهج الاجتهاد المعاصر الذي هو حصيلة المشروعات التمهيدية وأساس الإنتاج المنشود لهذا المجمع العلمي الإسلامي.

3- إنشاء مجمع المؤسسات الإسلامية: الذي يضم عدداً من المؤسسات التي لا تدر ربحاً بطبيعتها كالمدارس، ولا يجوز تأخير تنفيذها لحين تغطية تكاليف تأسيسها ثم تكاليف تشغيلها من التبرعات والهيئات لأنها مصدر غير مضمون ولا مستمر، فلا يجوز الاعتماد عليه وحده، وإنما ينبغي إقامة مؤسسات استثمارية تضم مختلف المشروعات، ما يدر منها ربحاً وما لا يدر، حتى تتكافل المشروعات فيما بينها ويساند بعضها بعضاً على الأمد الطويل بطريقة عضوية.

4- مركز المعلومات الإسلامي: للعمل الإسلامي- والإعلامي منه بوجه خاص- يقوم بصورة مباشرة بجمع ما يهم المسلمين من أخبار والتعليق عليه من وجهة النظر الإسلامية.

خاتمة:

لو تتبعنا مسيرة عالمنا الكبير-رحمه الله- منذ شبابه حتى لقاء ربه تعالى في مطلع عامنا هذا، سنجد أنها تمحورت حول هدف كبير هو: إعادة الحياة الإسلامية للفرد والمجتمع المسلم، عبر الانطلاق من منهجية ورؤية إسلامية واضحة، تنير الطريق للعاملين للإسلام من خلال منظومة: التربية والعلم والاجتهاد الملائم للعصر، وتكوين المؤسسات والمراكز والتنظيمات القادرة على حمل عبء هذه العملية بأناة وصبر.

وأخيراً، على كل محبي وعارفي فضل دكتورنا الراحل جمال الدين عطية، أن يتدارسوا مع هيئة تحرير مجلة “المسلم المعاصر”، تلك الشجرة الطيبة التي تركها لنا: أمانة ووديعة بين أيدينا، كيف يمكن أن تستمر مؤدية دورها القادم في ترشيد وتجديد وتطوير العمل للإسلام فكراً وتطبيقاً بعد غياب مؤسسها وحامل تبعات استمرارها حتى لحظة كتابة هذه السطور. وحتى لا يصيبها، ما أصاب أخوات سابقات لها من قبل، بموت بُناتها ورعاتها مثل المنار وغيرها.

رحم الله الدكتور جمال عطية، وأجزل له العطاء، لقاء ما قدم من جهود طيلة أكثر من ستين عاماً في خدمة الإسلام وأبناء آدم من المسلمين وغير المسلمين.

* * *

الهوامش

(1) راجع اللقاء مع الدكتور جمال الدين عطية بأجزائه الخمسة على الرباط التالي، حيث استقينا منه السيرة الذاتية للدكتور -رحمه الله-:

https://www. youtube. com/watch?v=WwI1imSvJ2s&list=PL_67Dn4w0pPcC_C6-L8Y3a-jyzQweBreQ

(2) راجع قصة المجلة في العدد التذكاري (93-94) بمناسبة 25 عاما على صدورها، واللقاء مع الدكتور جمال الدين عطية على الرابط التالي:

https://www. youtube. com/watch?v=FF_Gxc1MDMo

عطية، جمال الدين. الواقع والمثال في الفكر الإسلامي، مرجع سابق، ص251-274.

(3) عطية، جمال الدين. حركة الفكر الإسلامي المعاصر خلال القرن العشرين، مجلة المسلم المعاصر، العدد (93-94)، ص142-143.

(4) راجع في ذلك:

عطية، جمال الدين. الواقع والمثال في الفكر الإسلامي، مرجع سابق، ص108-110.

شهادات على طريق الدعوة على الرابط التالي:

https://www. youtube. com/watch?v=FF_Gxc1MDMo

(5) راجع في ذلك، الحوار مع الدكتور جمال الدين عطية على الرابط التالي:

شهادات على طريق الدعوة:

https://www. youtube. com/watch?v=doEASF-e-Uo&list=PL_67Dn4w0pPcC_C6-L8Y3a-jyzQweBreQ&index=2

(6) راجع في ذلك، الحوار مع الدكتور جمال الدين عطية على الرابط التالي:

شهادات على طريق الدعوة:

https://www. youtube. com/watch?v=TmXdGbu5fgQ

(7) عطية، جمال الدين. . الواقع والمثال في الفكر الإسلامي، بيروت: دار الفكر، ط1، 2000م، ص134-145، ص157-164.

(8) راجع في ذلك بالتفصيل:

عطية، جمال الدين، الواقع والمثال في الفكر الإسلامي، ص157.

عطية، جمال الدين. المسلم المعاصر وتجديد الفقه على الرابط التالي:

http://almuslimalmuaser. org/index. php?option=com_k2&view=item&id=716:tagded

عطية، جمال الدين. النظرية العامة للشريعة الإسلامية، مطبعة المدينة: القاهرة، ط1، 1988م. ص189-219.

(9) عطية، جمال الدين. الواقع والمثال في الفكر الإسلامي، بيروت: دار الفكر، ط1، 2001، ص264-265.

(10) عطية، جمال الدين. نحو تفعيل مقاصد الشريعة، ص91-172 حيث يعرض بالتفصيل لذلك، وراجع أيضاً:

حديث الذكريات مع الدكتور جمال الدين عطية على الرابط التالي:

https://www. youtube. com/watch?v=lq_6wT7Rf64

(11) عطية، جمال الدين. المشروع الحضاري الوطني، مجلة المسلم المعاصر، العدد (86)، ص5-11.

عطية، جمال الدين. مستقبل العمل الإسلامي، مجلة المسلم المعاصر، العدد (12)، ص11.

عطية، جمال الدين. نحو تفعيل مقاصد الشريعة، ص170.

عطية، جمال الدين. النظرية العامة للشريعة الإسلامية، ص278-279

(12) عطية، جمال الدين. نحوتفعيل مقاصد الشريعة، دمشق: دار الفكر، ط1، 2001م، ص155-164.

(13) عطية، جمال الدين. الواقع والمثال، مرجع سابق، ص69، ص78، ص86، وراجع أيضاً:

عطية، جمال الدين. التعددية، مجلة المسلم المعاصر، العدد (105)، ص14.

(14) عطية، جمال الدين. الواقع والمثال في الفكر الإسلامي المعاصر، مرجع سابق، ص67-68، ص77-78، ص97-98.

(15) عطية، جمال الدين. حركة الفكر الإسلامي خلال القرن العشرين، مجلة المسلم المعاصر، العدد(93/94)، ص142.

(16) عطية، جمال الدين. صناعة، مجلة المسلم المعاصر، العدد (33)، ص5-6.

(17) عطية، جمال الدين. الواقع والمثال، مرجع سابق، ص 87.

(18) المرجع سابق، ص 92.

(19) عطية، جمال الدين. مستقبل العمل الإسلامي، مجلة المسلم المعاصر، العدد (12)، ص5-6.

(20) عطية، جمال الدين. الواقع والمثال، مرجع سابق، ص 23.

(21) المرجع سابق، ص 57.

(22) المرجع سابق، ص33.

(23) المرجع السابق، ص39.

(24) راجع في ذلك:

عطية، جمال الدين. مستقبل العمل الإسلامي، مجلة المسلم المعاصر، العدد (12)، ص11-13.

عطية، جمال الدين. الواقع والمثال ، مرجع سابق، ص260-262.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر