أبحاث

الأسس الفلسفية للمذهب المادي

العدد 8

 

مقدمة:

في العالم الإسلامي اليوم دعوة إلى التأسي بالغرب لا في تقدمه العلمي أو الصناعي فحسب ولكن في مناهجه الفكرية وأساليب حياته أيضاً. وأصحاب هذه الدعوة لا يريدوننا بالطبع أن نقلد الغرب في مسيحيته أو يهوديته أو خرافاته اليونانية وإنما يريدون لنا أن نأخذ عنه ما يعتبرونه سبب تقدمه العلمي وتفوقه.

ولكن ما كل من يدعو هذه الدعوة بقادرٍ على أن يقدم لنا فكرة متكاملة متناسقة عما يعتبره المنهج الفكري أو المذهب الحياتي الذي أدى إلى التفوق الغربي والذي يريد لنا أن نأخذه عنهم. ولذلك فإن الكثيرين منهم يكتفون بترديد بعض الشعارات. فالغرب تفوق بزعمهم لأخذه بمبدأ فصل الدين عن الدولة، أو لإطلاقه الحرية للإنسان يفكر ويعبر ويسلك كيف شاء، أو لاتباعه المنهج التحليلي، أو لقدرته على التجربة أو لتركيزه على الواقع المشاهد، بينما نحن لا نزال نعاني من عقابيل المنهج التكاملي، والعجز عن التجريد، والاستغراق في الغيبيات، وتقييد الفكر والتعبير والسلوك بقيود الدين والخلق والأعراف…..الخ.

وأما حين يحاولون تقديم فكرة متكاملة فإنهم إنما يدعون إلى الأخذ بالمذهب المادي في صورة من صوره المتعددة.

فهل يصلح هذا المذهب بديلاً عن الدين الإسلامي؟ وهل يفي باحتياجات البشر وهل يحقق لهم السعادة التي ينشدون؟

لكي نجيب على هذه الأسئلة ينبغي أن نعرف أولاً وبشيء من التفصيل ما هي العقائد الأساسية التي يقوم عليها هذا المذهب ثم ننظر فيها لنتساءل أهي حقائق تدركها الحواس أم هي نتائج تستخلصها العقول؟ أهي متناسقة فيما بينها؟ أهي موافقة لحقائق العلم ومناهجه؟ أهي كافية للتدليل على بطلان الدين.

أسس المذهب المادي:

فيما يلي نحاول أن نعدد العقائد الأساسية التي يدين بها الماديون ولكن ينبغي أن نذكر أنه إذا كان بعضهم يؤمن بكل هذه العقائد فما كلهم يفعل ذلك، فالبعض منهم يؤمن ببعضها وينكر أو يتوقف في الإيمان بسائرها.

والعقائد هي:

أولاً: لا موجود إلا المادة.

ثانياً: المادة أزلية لم تخلق ولا تفنى.

ثالثاً: كل ما في الوجود من أشياء تكونت بمحض المصادفة من حركات هذه المادة الأزلية.

رابعاً: وإذن فلا إله ولا ملائكة ولا جن وإذن فالأديان كلها باطلة.

خامساً: وإذن فلا بعث ولا نشور ولا حساب ولا جزاء.

سادساً: طبيعة كل شيء وخصائصه إنما هي نتيجة تركيب معين لذارت هذه المادة.

سابعاً: كل ما نسميه عقلاً أو نفساً أو روحاً أو فكراً إنما هو شكل من أشكال المادة.

ثامناً: تشكيلات المادة وحركاتها خاضعة لقوانين طبيعية لا تتخلف، وبها يمكن أن نفسر كل الظواهر الطبيعية والحالات النفسية والحوادث التاريخية، من غير حاجة إلى الإيمان بقوة وراء الكون تحفظه وتسيره.

تاسعاً: المادية مذهب علمي وليس مجرد أيدلوجية كسائر الأيدلوجيات والفلسفات والأديان.

عاشراً: الإنسان سيد نفسه ومالك مصيره فهو وحده المسئول عن أن يشرع لنفسه في السياسة والاقتصاد والاجتماع وسائر نواحي حياته. وهذا هو المقصود بعبارة Humanism “الإنسية”.

مناقشة هذه الأسس:

الأساس الأول:

عبارة (لا موجود إلا المادة) التي تكاد أن تكون المبدأ المشترك بين كل الماديين- ما الدليل عليها؟

أ- أهي نتيجة بحث علمي استقرائي للكون أثبت أنه لا يوجد فيه إلا ما هو مادي؟

كلا فإن شخصاً يلتزم بالمنهج العلمي لا يمكن أن يدعي هذه الدعوى العريضة فما أحد يستطيع أن يستغرق ببحثه وتفتيشه الكون كله ليصل إلى مثل هذه النتيجة.

ب- قد يقول المادي إن ما ذكرتموه (في الفقرة السابقة) حجج ولكن الذي أعنيه أنا بهذه العبارة هو أنني وغيري من العلماء والماديين فتشنا بقدر طاقتنا ووسعنا فلم نجد في الكون شيئاً غير مادي. ولكن إذا كان هذا ما يعتقده المادي فكان ينبغي أن يكون دقيقا فيعدل العبارة لتصير (نحن لا نعرف موجودا غير مادي) أما أن يستنتج من عدم علمه بموجود غير المادة أنه غير موجود فهو استنتاج باطل، وقديما قال علماؤنا “عدم العلم ليس علما بالعدم”.

ج- وإما إذا عدل عبارته كما اقترحنا لتصير “نحن لا نعرف موجودا غير مادي” فإنه يهدم الأساس الذي تقوم عليه المادية إذ إن العبارة الجديدة لا تنفي وجود أشياء غير مادية بل تترك الباب مفتوحا للبحث عنها وفيها.

د- قد يقول المادي أن من الأسباب القوية لإيماني بالعبارة في شكلها الأصلي أن الذين يؤمنون بموجودات غير مادية لم يفلحوا في التدليل العقلي أو العلمي على وجودها وأنا لا أستطيع أن أومن بشيء لا دليل لي على وجوده من عقل أو حواس. ونقول له إذا كان من تعرفه من المؤمنين في بيئتك مؤمنين بغيب لا يملكون وسائل إثباته العقلية أو العلمية فما كل المؤمنين بالغيب كذلك، وما كل الأديان تستوي في ذلك، فنحن ندين بدين يقيم الأدلة العقلية القاطعة على صدق مبادئه الأساسية.

ثم إن هناك مسألة في غاية الأهمية فالذي يقول عن شيء ما إنه موجود أو غير موجود أو إنه لا موجود غيره ينبغي أن يكون لديه تصور معين له بحيث نستطيع أن نتثبت بالبحث الحسي أو العقلي من صحة دعواه. الماديون يقولون إنه لا موجود إلا المادة ولكن ما هي هذه المادة التي لا موجود غيرها؟ لقد ظل الماديون كما سنرى يتراجعون القهقرى في تصورهم أو تعريفهم للمادة. فكلما قالوا إنها كذا وكذا ثبت أن ما وصفوه ليس بالموجود الوحيد.

قالوا أولاً كما يقول عوامهم اليوم أن المادي هو الذي تدركه الحواس وما لا تدركه فهو غير مادي وبالتالي غير موجود وأرادوا بذلك أن يقولوا إن الله تعالى وملائكته لا يدركون بهذه الصفة فهم غير موجودين ولكن تصورهم هذا لا ينفي وجود الله تعالى فحسب بل ينفي معه وجود الفكر والعقل والمشاعر الخ وهي أشياء يدركها كل منا ويدرك أنها ليست مادية بهذا المعنى.

لقد حاول الماديون السابقون أن يجدوا مبررات تخرجهم من هذا المأزق فحاولوا أن يقولوا إن الفكر صورة من صور المادة، ولكن هذا أيضاً لا يجدي لأنه إذا كان الفكر وهو شيء غير محسوس صورة من صور المادة، وإذن فالمادة يمكن أن تكون غير محسوسة. وقال آخرون إن الفكر أثر من آثارها وليس صورة من صورها ولكن هذا أيضاً لا يجدي لأنه يعني أن في الوجود أشياء غير مادية ولن يغير من الحقيقة شيئاً كونها أثرا من آثار المادة. المهم أن في الوجود أشياء غير مادية وهذا متناقض مع الأساس الأول للمذهب المادي الذي يقول بأنه لا موجود إلا المادة.

ولكن العلم الحديث زاد من إحراج الماديين. فالعلماء يتعاملون مع أشياء لا يصدق عليها وصف المادية بذلك المفهوم الذي يعتبر المادي هو الذي تدركه الحواس. إن الذرات وجزئياتها لا تدرك بالحواس وبعضها كما سنرى لا كتلة لها. فهل نقول إن العلم يتعامل مع كائنات وهمية؟ هذه نتيجة لا يرتضيها الماديون لأن مذهبهم يعتمد على دعوى التوافق بينه وبين العلم. فكيف الخروج من هذا المأزق إذن. اقترح لينين تعريفاً جديداً للمادة يواكب في رأيه كل تطور علمي. المادي في رأيه هو كل شيء يوجد وجودا موضوعيا أي أنه الشيء الذي لا يعتمد في وجوده على عقلنا أو على وعينا به.

هذا التعريف اللينيني للمادة يخرج الماديين فعلا من مأزق مخالفة العلم ولكنه يوقعهم في مأزق موافقة الدين. إنهم كما رأينا يريدون أن يعرفوا المادة تعريفا تكون نتيجته أن الله تعالى ليس موجودا ولذلك قالوا أولاً إن المادي هو المحسوس وبما أن الله غير محسوس فهو غير موجود. ولكن هذا التعريف أخرج –كما رأينا- من دائرة الموجودات أشياء يتعامل معها العلم. ثم جاء تعريف لينين ليدخل هذه الأشياء العلمية ولكنه أدخل معها –من غير أن يشعر- أشياء دينية. كيف؟ إن الله تعالى لا يعتمد في وجوده على وعينا به. هذه من البدائية الدينية، فالله هو خالق الإنسان وخالق وعيه وكان الله تعالى ولم يكن إنسان. ويبقى وكل من عليها فان، فإذن وجوده لا يعتمد على شيء سواه فضلاً عن أن يعتمد على وعينا به.

فتعريف لينين للمادي يدخل فيه وجود الله تعالى. ولعل السبب في أن لينين لم يلتفت إلى المأزق الذي وقع فيه وهو اعتقاده بأن كل من لا ينتمي إلى المذهب المادي فهو مثالي والمثالي هو الشخص الذي يعتقد بأن الوجود الحقيقي للإنسان إنما هو وجود عقلي وأن وجوده الموضوعي الخارجي تابع لهذا الذهني ويعتمد عليه. ولكن هذا إن كان مذهباً لبعض شذاذ الفلاسفة فهو ليس المذهب السائد عند جماهير المؤمنين. فالمؤمن بالله تعالى ليس مثالياً بهذا المعنى بل هو واقعي يؤمن بأن الأشياء لا تعتمد كلها في وجودها على كونها مدركة لعقل من العقول.

الأساس الثاني: أزلية المادة:

إن تطور –أو بالأحرى تقهقر- فكرة أزلية المادة من أطرف ما يقرأ الإنسان في دحض الادعاء بأن العلم التجريبي يسند قضية الإلحاد؛ إذ الواقع عكس ذلك تماما فتطور هذا العلم يؤازر قضية الإيمان ويضعف بل يقوض أهم الأسس التي يقوم عليها الإلحاد وهو الزعم بأن المادة أزلية لا بداية لها، أبدية لا فناء لها. ولكن ما هي هذه المادة الأزلية؟

هل الماديون طوال القرون في أمر مختلف بالنسبة لأزلية المادة.

فقد ظنوها بادئ الأمر هذه النجوم والكواكب الضخمة التي يشاهدون. والتي يخيل لمخلوق ضعيف معدود الأيام كالإنسان أنها أزلية، لأنها فيما يظن بقيت على حالها التي عرفها آباؤه وأجداده، وكل البشر قبله فما المانع إذن من أن كانت على هذه الحال منذ الأزل؟ وما المانع من أن تظل هكذا إلى الأبد؟ وإذا كانت أزلية فإنها لا تحتاج إلى خالق وهذا ما عناه الفلاسفة القدماء من أمثال أرسطو حين قالوا بقدم العالم. وإذا كان الفلاسفة قد قالوا بقدم هذه الأجرام السماوية فإن آخرين –منهم البابليون الذين جادلهم سيدنا إبراهيم- قد قالوا بألوهيتها وعبدوها.

وقد كان المفكرون المتدينون فيما مضى يجهدون أنفسهم في استخراج الأدلة العقلية على بطلان هذه الفكرة من ذلك قول الغزالي في تهافت الفلاسفة (تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، الطبعة الثانية 1374هـ- 1955م، ص 112):

“ما يمسك به جالينوس إذ قال لو كانت الشمس مثلا تقبل الانعدام لظهر فيها ذبول في مدة مديدة، والأرصاد الدالة على مقدارها منذ آلاف السنين لا تدل إلا على هذا المقدار، فلما لم تذبل في هذه الآماد الطويلة دل على أنها لا تفسد”. الاعتراض عليه من وجوه:

الأول- أن شكل هذا الدليل أن يقال إن كانت الشمس تفسد، فلا بد أن يلحقها ذبول، لكن التالي محال –وهذا قياس يسمى عندهم الشرطي المتصل- وهذه النتيجة غير لازمة، لأن المقدم غير صحيح… ولا نسلم له أنه لا يفسد الشيء إلا بالذبول فالذبول هو أحد وجوه الفساد ولا يبعد أن يفسد الشيء بغتة وهو على حال كماله.

الثاني- أنه لو سلم له هذا، وأنه لا فساد إلا بالذبول. فمن أين عرف أنه لا يعتريها الذبول؟ أما التفاته إلى الأرصاد فمحال، لأنها لا تعرف مقاديرها إلا بالتقريب، والشمس التي يقال إنها كالأرض مائة وسبعين مرة أو ما يقرب منه، لو نقص منها مقدار جبال مثلاً، لكان لا يتبين للحس، فلعلها في الذبول وإلى الآن قد نقصت مقدار جبال فأكثر والحس لا يقدر على أن يدرك ذلك لأن تقديره في علم “المناظر” لا يعرف إلا بالتقريب.

وهذا كما أن الياقوت والذهب مركبان من العناصر عندهم وهي قابلة للفساد، ثم لو وضعت ياقوتة مائة سنة، لم يكن نقصانها محسوساً. فلعل نسبة ما ينقص من الشمس في مدة تاريخ الأرصاد كنسبة ما ينقص من الياقوتة في مائة سنة، وذلك لا نظير للحس فدل أن دليله في غاية الفساد.

وهذا الذي ذكره الغزالي احتمالاً قد أثبته العلم الآن يقيناً. فمن المسلم به الآن أن الإشعاع الصادر عن الشمس من كتلتها وإن كان القدر الذي ينقصه ضئيل جداً “تحويل 1% من كتلة الشمس من الهيدروجين إلى الهليوم يمدها بطاقة تكفي لإبقائها مضيئة لمدة 1.000.000.000 عاما” (دائرة المعارف البريطانية طبعة 1963).

وإذا كانت كل هذه الأجرام الكبيرة من شمس وقمر وأرض وسائر النجوم والكواكب ليست أزلية بل إن لها تاريخاً –ولها بالضرورة نهاية فما هو الأزلي إذن؟

أهو العناصر التي تتكون منها هذه الأجسام من ذهب وحديد وهيدروجين وهليوم….إلخ؟ ربما كان هذا المظنون بادئ الأمر ولفظة عنصر تشير إلى هذا المعنى. ولكن العلم في تطوره اكتشف أن هذه العناصر هي بدورها مركبة من جزئيات وأن الجزئيات مركبة من ذرات.

فهل الأزلي هو هذه الذرات؟ هكذا ظن العلماء إلى ما بعد زمان نيوتن بسنين، فالذرة كانت تسمى بالجزء الذي لا يتجزأ وكان المظنون أنها جسم صغير مستدير مصمت لا فجوات فيه فلا أجزاء له.

ولكن العلم أبطل هذا الظن أيضاً فقد تبين أن الذرة نفسها مركبة من أجزاء أخرى عرفنا منها أولاً الإلكترون والنيوترون والبروتون ثم تبين أن ما تحت الذرة من أجزاء أكثر من هذا بكثير فقد وصل تعدادها حتى الآن إلى ما بعد المائة بقليل.

قد يقول قائل وإذن فقد وصلنا أخيراً إلى المادة الأزلية، إلى الجزء الذي لا يتجزأ أنه هذه الأجزاء التي تكون الذرة.

والرد على هذا من ناحيتين:

أولاهما: أنه قول بغير علم إذ ليس في أجزاء الذرة ما يستدل به على أزليتها بل إن بعض العلماء يعتقد أنها هي الأخرى مركبة وهم يبحثون عن مكوناتها.

ثانياً: إذا كان الشيء أزلياً لا بداية له فهو بالضرورة مستغن عن غيره. أعني أنه لا يعتمد في وجوده ولا استمرار وجوده على غيره.

وإذا كان الشيء قائما بنفسه مستغنيا في وجوده عن غيره فإنه لا يفنى ولا يتغير ولا يتبدل.

لماذا؟

لكي نجيب على هذا السؤال يحسن أن نسأل سؤالاً آخر هو متى يفنى الشيء وينتهي من الوجود؟

خذ مثلاً عود ثقاب وأشعله. إنه يستمر مشتعلاً لمدة ثوان ثم ينتهي. فلماذا انتهى؟ انتهى إما لأن العود الذي كان يمده بالوقود قد احترق كله وإما لأن الأكسجين قد انتهى وإما لأن أحداً نفخه نفخاً شديداً فأبعد الشعلة عن العود وإما… وإما….

ملخص القول أن الشعلة انقضت حين تخلف شرط من شروط وجودها، فالشعلة لا تستمر متقدة إلا إذا وجدت وقوداً فالوقود إذن شرط ضروري لوجودها ولا تستمر إلا إذا وجدت الأوجسين فهو إذن شرط ضروري لوجودها وهكذا.

نعود إلى سؤالنا.. متى يفنى الشيء؟

والجواب الآن واضح أنه يفنى إذا تخلف شرط من شروط وجوده. ولكن هذا لا يعني أن الشيء الذي يفنى هو بالضرورة شيء يعتمد في وجوده على غيره فهو إذن غير مستغن بنفسه. ولكنا قلنا إن الشيء الأزلي من الضروري أن يكون مستغنياً بنفسه وإذن فكل شيء جاز عليه الفناء استحالت عليه الأزلية. وإذن فإذا أردنا أن نختبر شيئاً ما لنعرف ما إذا كان أزلياً أم لا، فما علينا إلا أن نتساءل أهو شيء يمكن أن يفنى وينقضي. فإذا كان الجواب نعم فالنتيجة أنه غير أزلي.

والآن هل نعرف مادة معينة يصدق عليها القول بأنها لا تفنى؟

لقد رأينا أن المادة في شكل أجسام كبيرة وفي شكل عناصر وفي شكل جزئيات وذرات قابلة للفناء بل إنها لتفنى فعلاً واستدللنا بذلك على أنها لا يمكن أن تكون أزلية.

ولكن ماذا نقول عن أجزاء الذرة؟

إن العلم كما قلنا لم يثبت بعد أن لها مكونات ولكنه أثبت ما هو بالنسبة لموضوعنا أهم من ذلك. لقد أثبت أن هذه الأجزاء قابلة لأن تتحول إلى طاقة وأن الطاقة نفسها قابلة لأن تتحول إلى مادة. ولكن قابلية التحول هذه تعني أن بقاءها في هيئتها المعينة كان معتمداً على ظروف خارجة عن ذاتها فلما زالت تلك الظروف زالت تلك الهيئة وإذن فهي ليست معتمدة في وجودها على نفسها وإذن فقد استحال أن تكون أزلية.

وإذن فالمادة في كل شكل من أشكالها المعينة قابلة للفناء فهي إذن حادثة.

وإذن فالمادة تستحدث وتفنى…

ولكن هذه النتيجة تخالف تلك الكلمة التي يحفظها الطلاب منذ المرحلة الثانوية وصورت لهم على أنها الدعامة التي يقوم عليها البناء العلمي كله، بل على أنها هي نفسها حقيقة علمية لا شك فيها، أعني قولهم: المادة لا تستحدث ولا تفنى.

إن كثيراً من الأساتذة يرددون هذه العبارة تقليداً وعن حسن نية ولا يعرفون أنها إذا صحت تهدم الأساس الذي يقوم عليه الدين كله وتعتبر أكبر نصر للفكر المادي. والطلاب بدورهم يحفظون العبارة ويرددونها ولا يفكرون في نتائجها الخطيرة.

ما معنى هذه العبارة؟

إذا كانت المادة لا تستحدث فمعنى ذلك أنه لم يحدثها –لم يخلقها- أحد. أي أن الله لم يخلقها. ولكن هذا يتناقض مع إيماننا بأن “الله خالق كل شيء” وإذا كانت لا تفنى فمعنى ذلك أن أحداً لا يستطيع إفناءها وهذا يعني أن الله تعالى لا يقدر على إفنائها. فكيف نوفق بين هذا وبين إيماننا بأن الله على كل شيء قدير وأنه لا يعجزه شيء؟.

المسألة إذن واضحة فإما أن تكون هذه العبارة المشهورة صحيحة فيكون الدين باطلاً وإما أن يكون الدين صحيحاً فتكون هي باطلة ولا يمكن الجمع بين الإيمان بصوابها وبصواب القول بأن للكون خالقاً.

ولكن الذي لا شك فيه أن العبارة غير صحيحة وأن العلم لا يحتاج إليها وأنها ليست من نتائجه ولا قواعده وإنما هي عقيدة فلسفية يونانية تزيت بزي العلم وجازت على كثير من الناس وإليك بيان هذا كله:

1-أما أن العبارة غير صحيحة فهو أمر قد فرغنا منه من قبل حيث أثبتنا أن المادة في كل شكل من أشكالها المعينة التي يمكن أن تشير إليها –ليست أزلية بل هي قابلة للتحلل أو التحول إلى مواد أو طاقات أخرى. وكل ما يتحلل فليس بأزلي غير حادث بل هو بالضرورة حادث. وإذن فالمادة المعينة حادثة فانية.

لقد كررت عبارة المعينة لأميز بين المادة التي نشاهدها أو نعرف آثارها ونتعامل معها في حياتنا اليومية أو في مجالاتنا العلمية والمادة الفلسفية الذهنية التي لا وجود لها واقعياً لها. وكثيراً ما يخلط طلاب العلوم بل وكبار العلماء بين المادتين فيتحدثون عن المادة الذهنية الفلسفية في الوقت الذي يريدون الحديث عن المادة الواقعية.

إذا قلت الإنسان له إلمام بعلم الكيمياء أو الفيزياء أن المادة تفنى وضربت له مثالاً على ذلك بموته هو مثلا أجابك على الفور أنني لم أفن وإنما تحولت إلى مواد أخرى، فإذا قلت له ولكن هذه المواد الأخرى أيضا تفنى قال محتجاً ولكنها هي بدورها تتحول إلى مواد أخرى. فإذا استمررت قائلاً وهذه بدورها تفنى وما تتحول إليه يفنى ظل مصراً على رأيه بأن هنالك وراء كل هذا مادة لا تفنى، فإذا قلت له وما هي؟ لم يستطع أن يجيبك لأنه في الحقيقة لا يتحدث عن مادة واقعية وإنما يتحدث عن مادة ذهنية فلسفية، ولكي يتضح لك هذا أضرب لك مثالين فقط:

أولاً: هب أنه مات لامرأة طفلها العزيز فهل يعزيها أن تقول لها إن ابنك لم ينته ولم يفن وإنما تحول إلى مادة أخرى؟ بالطبع لا. لماذا؟ لأن الذي فقدته وأسيت على فقده هو مادة في صورة معينة وخصائص معينة ومما لا شك فيه أن هذه المادة إذا افترضنا جدلاً أن الإنسان مادة فحسب قد فنيت وانتهت. وما يقال عن الإنسان يقال عن كل مادة معينة أخرى فكل مادة في شكل معين لها خصائص تعرف بها فإذا تحللت أو تحولت زالت هذه الخصائص فزالت بزوالها تلك المادة التي كنا نعرفها؟ وإذن فكل مادة ذات خصائص وصفات معروفة فهي قائمة كما تدلنا التجارب العلمية على التحلل أو التحول.

فما هي المادة الأزلية إذن؟ إنها المادة التي لا خصائص ولا صفات لها ولكن هذه مادة موجودة في الأذهان ولا وجود لها في الأعيان ونحن في حياتنا اليومية والعلمية إنما نتعامل مع مادية عينية لا مادة ذهنية.

ولكي يصير الأمر أكثر وضوحاً فهب أنه لا وجود للمادة إلا في ثلاثة أشكال فقط، هي م1، م2، م3، وأن كل واحد من هذه قابل لأن يتحول إلى الآخر فإذا انتهى م1 صار م2 أو م3 وإذا انتهى م2 صار م1 الخ فما هي المادة الأزلية؟ إنها ليست م1 وليست م2 لأن م2 قابل لأن يصير م1 وليست م3. وبما أن كل واحد منها قابل للتحول والفناء فكل واحد منها مستحدث.

وإذا افترضنا أن فناء كل واحد منها إنما يعني تحوله إلى أحد الأشكال الأخرى فكل ما نستطيع أن نقوله هو أنه لن يزال في الوجود م1 أو م2 أو م3 وأن هذه الثلاثة لا تفنى كلها جميعاً. ولكن هذا نفسه يعني وبالضرورة أنها تعتمد في وجودها على غيرها لأن تحولها من شكل إلى آخر يدل على أنها ليست مستغنية بنفسها بل معتمدة على غيرها.

2- إذا أحرقت رطلاً من الورق ثم وزنت رماده فوجدته أوقيتين فقط فأين تكون ذهبت العشر أوقيات؟ إن الرجل الذي لا معرفة له بالكيمياء أو الفيزياء قد يظن أن كمية المادة الموجودة في العالم نقصت بمقدار عشر أوقيات. ولكن آلاف التجارب التي نجريها تثبت أن هذا الظن غير صحيح لأننا إذا جمعنا كل المواد التي تحلل إليها الورق المحترق ووزناها في نفس المكان الذي وزنا فيه الورق كان الوزن رطلاً كاملاً، وإذا حللنا تلك المواد إلى أخرى واستطعنا أن نجمعها ونزنها في نفس المكان كان وزنها أيضاً رطلاً كاملاً. وهذا هو الذي دعا العلماء إلى افتراض أن كمية المادة الموجودة في العالم ثابتة.

وعبارة “المادة لا تستحدث ولا تفنى” المقصود منها أن تعبر عن هذا المبدأ ولكنها كما ترى لا تقتصر على تقريره وإنما تقول أكثر منه بكثير. وهذه الزيادة التي تقررها العبارة لا يحتاج إليها العلم وهي التي تخالف الدين. فهي لا تقتصر على القول بأن كمية المادة ثابتة ولكنها تقول إن هذا الثابت هو مادة أزلية لم تخلق ولا تفنى والفرق بين الاثنين كبير كما أن من الواضح أن أولاهما لا تستلزم الثانية.

يقول الأستاذ أنتوني كونتيون Antony Quinton ناقداً هذه العبارة “الحقيقة أن مبدأ ثبات كمية المادة لا يتضمن القول بمذهب ذري متكامل لأشياء أزلية. إن حساباً جارياً بالمصرف قد يبقى كما هو لا يتغير إذا كانت كل المسحوبات تعوض حالاً بإيداعات، وحجم المادة بالصهريج قد يظل كما هو إذا كان الماء المصبوب فيه من جانب مساوياً للماء الخارج عنه في الجانب الآخر. وقد أوضحت هذا بعض التأملات الكونية الحديثة فنظرية الخلق المستمر تقول إنه بالرغم من أن الطاقة تفنى بالفعل في عمليات التحولات الذرية تحت درجات الحرارة الهائلة فإن هذا النقص يعوض بخلق طاقة جديدة في مكان آخر”.

الأساس الثالث:

1) هذا الأساس مبني على مفهوم للمادة مضى عليه الزمن وهي كونها مركبة في النهاية من ذرات.

2) لقد أثبتنا أن المادة يستحيل أن تكون أزلية في أية صورة معينة من صورها.

3) هذه النظرية هي مجرد افتراض وتخمين لا يسنده علم ولا برهان فكيف يبني عليها الإنسان تصوره للكون وفلسفة حياته؟ إن كثيراً من المادين يتبجحون بالعلمية ويتطاولون على المؤمنين مطالبين إياهم بإقامة الدليل على وجود الخالق زاعمين أن الذي يمنعهم من الإيمان به هو عدم هذا البرهان، ولكنهم يسنون أن فلسفتهم المادية كلها قائمة على افتراضات هي مجرد خيالات وتخمينات لا دليل على صدقها بل كل الدلائل تشير إلى بطلانها.

4) ولنحاول أن نساير الماديين في افتراضاتهم الخاطئة فنتصور معهم كيف تكونت هذه الأشياء التي نراها؟ كانت هنالك ذرات سابحة في الفضاء –ذرات أزلية لم يخلقها إله ولم يحركها محرك. ذرة فيها هائمة على وجهها لا تسير إلى غاية مقصودة ولكنها في هيامها هذا تلتقي بذرة أخرى ومن هذا اللقاء تتكون جزئيات Molecules ومن الجزئيات تتكون عناصر وهكذا إلى أن نصل إلى طور هذه الكائنات التي نشاهدها الآن..

من الاعتراضات المعروفة على هذا الرأي أن تكوين كائن كالإنسان من تلك الذرات بالمصادفة أبعد احتمالاً من قرد يخبط على آلة كاتبة فيخرج لنا بالمصادفة معلقة امرئ القيس مثلاً.

ومن الاعتراضات أيضاً أن المصادفة وحدها ولا سيما في مثل هذه الحال –لا تجدي، بل لا بد من أن يكون وراءها تصميم. هب أن لديك عدد ًكبيراً من اللبن بدأت ترمي به على غير هدى فتكونت منه بالمصادفة حجرة. فالحجرة هنا جاءت من اجتماع اللبن بالمصادفة ولو كان الذي نلقي به بيضاً مثلاً لما تكونت منه حجرة، وهكذا الحال مع تلك الذارت فإن تكوين الكائنات منها بالمصادفة يقتضي أنها كانت مصممة بحيث إذا اجتمعت بهذه الطريقة تكون منها ذهباً وإذا اجتمعت بتلك الطريقة يتكون منها ماء وهكذا وإذن فالمصادفة وحدها لا تحل الإشكال لأنها لا تغني عن التصميم.

وإذا كانت هذه النتيجة لازمة لكل من يقول بتكوين الكائنات من ذرات فإنها ألزم ما تكون للذي يقول كما يقول بعض الماديين أن خصائص الكائنات إن هي إلا خصائص مكوناتها الأولية بلا زيادة ولا نقصان.

الأساس الرابع:

ما قلناه في نقض الأسس الثلاثة السابقة يكفي لنقض هذا الأساس الرابع وذلك أنه إذا ثبت أن المادة ليست أزلية أو ثبت بالبرهان العقلي القاطع –وهو ثابت- أن للكون خالقاً واحداً متصفاً بالصفات الواردة في القرآن الكريم، وثبت صدق دعوى الأنبياء في تكليم هذا الخالق لهم ووحيه الرسالات إليهم، وجاء في هذه الرسالات الخبر عنه تعالى بوجود موجودات ذات طبائع غير التي نعرفها في عالمنا المشهود هذا، فلا مجال لنا إلا الإيمان بوجودها.

وهنا مسألة ينبغي التنبيه إليها فمن المقطوع به أن الله تعالى ليس موجوداً مادياً لأنه تعالى “ليس كمثله شيء” ولكن عدم المماثلة هذه من خصائصه سبحانه وتعالى وحده، وكل ما عداه فهو يماثل غيره في شيء وإن خالفه في أشياء.

ولم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة عبارة أن الملائكة أو الجن مخلوقات غير مادية. فكل ما نعرفه عن ذواتها، أن الملائكة مخلوقة من نور والشياطين من نار كما أن الإنسان من طين فإذا أجرينا ألفاظ النور والنار على ظواهرها، فهي في عرف العلم الحديث أشياء مادية.

وليس بكثير على الإله الذي خلق من الطين والماء المهين إنساناً يسمع ويبصر ويريد ويعقل، أن يخلق من النور ملائكة أو من النار جناً فكونها ليست كالمخلوقات التي نشاهدها وكونها لا تدرك في صورها الأصلية بحواسنا العادية، كل هذا لا ينتج عنه بالضرورة أن العنصر الذي تتكون منه شيء مخالف تماماً للمادة التي تتكون منها المخلوقات التي ألفناها وإذن فحتى لو كانت الملائكة وكان الجن مخلوقات مادية فإنها مخلوقات غير مرئية ولا تناقض في هذا فقد مضى الوقت الذي كان يقال فيه أن المادي هو الذي تدركه الحواس إدراكا مباشراً.

الأساس الخامس:

إن المذهب المادي باختلاف صوره ليس مذهباً أصيلاً أدى إليه علم أو أثبته نظر وإنما هو مجرد رد فعل ضد الدين، وتعريفات كثير من الفلاسفة ومفاهيمهم المقصود الأول منها هو إسقاط الدين من الحساب وبيان أنه لا محل له في مجال العلم، ومما يظهر هذا حماسهم الشديد في إنكار البعث وهو إنكار لا تستلزمه –فيما أرى- حتى فلسفتهم المادية نفسها.

وذلك أن الفلسفة لها نظرية في الخلق الأول، والبعث إنما هو خلق ثان.. فلماذا يكون الأول ممكناً والثاني محالاً؟ إذا كان الإنسان قد خلق بزعمهم من تلك الذرات مصادفة فما الذي يمنع أن يخلق مرة ثانية مصادفة؟ لو كان الماديون أصلاء في تفكيرهم لقادهم منطقهم إلى هذه النتيجة ولقالوا إن البعث ليس محالاً وليس أبعد احتمالاً من الخلق الأول ولكننا لا ندري أكائن هو أم لا.

الأساس السادس:

طبيعة كل شيء وخصائصه إن هي إلا المادة المكونة له:

أ- هذا القول يفترض أن المادة مكونة من ذرات أزلية لا تتجزأ وهو مفهوم قديم، فالعلم الحديث كما قلنا لا يعرف مادة بهذه الصفة ولا يضع حداً فاصلاً بين المادة والطاقة.

ب- إن “العمارة” مكونة من حجارة ولكن لا يمكن إرجاع خصائص “العمارة” كلها إلى الحجارة المكونة لها فتنظيم هذه الحجارة بطريقة معينة يعطي العمارة خصائص لا نجدها في مجموعة حجارتها. كذلك الأشياء لو افترضناها كلها مكونة من ذرات لا تتجزأ فهي ليست مجرد أكوام –مختلفة الأحجام- من الذرات. ولكنها ذرات مختلفة التنظيم والتكوين وهذا التنظيم لا تقل أهميته في إعطاء الشيء خواصه عن أهمية المادة التي يتكون منها.

ج-وبالإضافة إلى التنظيم فهنالك العلاقات الناشئة بين الأشياء المكونة وهي بحكم كونها علاقات بين أشياء فلا يمكن أن توجد في الشيء الواحد. وأظهر مثال لذلك هو مثال الساعة. فخصائص الساعة لا يمكن ردها كلها إلى خصائص الأجزاء المكونة لها. وما يقال عن الساعة يقال عن سائر “الماكينات” وعن الأحياء من باب أولى.

نخلص من هذا كله إلى أن الشيء يكتسب صفات جديدة حين ينضم إلى غيره، وإذن فخصائص الكل المكون لا يمكن إرجاعها كلها إلى مجموعة خصائص الأشياء المكونة له في حال انفرادها.

الأساس السابع:

كل ما نسميه عقلاً أو نفساً أو روحاً أو فكراً إنما هو شكل من أشكال المادة:

إذا كان المقصود بهذا أن العقل والنفس والروح والفكر أشياء مادية محسوسة أو معلومة القدر والعدد فهو بالطبع غير صحيح.

وإذا كان المقصود أن هذه الظواهر متصلة بأشياء مادية كالكائنات الحية فهو بالطبع صحيح ولكنه لا يخدم للمادين قضية. وإذا كان المقصود أن هذه الأشياء كلها لا توجد إلا متصلة بهذه الكائنات المادية بالطريقة التي نعدها فهو قول بغير علم.

ثم ماذا يعني أن نقول إن العقل مثلاً شكل من أشكال المادة ما دامت المادة نفسها لم تعد “مادية” بالطريقة الغليظة التي كان يتصورها غلاة الماديين؟.

الأساس الثامن:

تشكيلات المادة وحركاتها خاضعة كلها لقوانين طبيعية لا تختلف، وبها يمكن أن نفسر كل الظواهر الطبيعية، والحالات النفسية، والحوادث التاريخية، من غير حاجة إلى افتراض قوة وراء الكون تحفظه وتسيره.

1.    لقد أثبتنا من قبل أن الإيمان بالخالق أمر تستلزمه طبيعة المادة نفسها إذ ما دامت المادة حادثة ويستحيل أن تكون أزلية كما أثبتنا فلا بد لها من خالق أزلي غير حادث.

2.    وإذا ثبت وجود هذا الخالق فإن ما يسمى بالقوانين الطبيعية التي تحكم سير الكون إنما هو عادة هذا الخالق أو سنته في تصريف شئون خلقه.

3.    وإذا كانت القوانين إنما هي سنن الله تعالى فإن اطرادها إنما يدل على أن الله تعالى لا يغير من عادته هذه، وتخلفا أحياناً إما أن يدل على أن السنة التي عرفناها ليست هي السنة المهيمنة بل فوقها سنن تحكمها، وإما أن يدل على أن أحد شروط تلك السنة قد تختلف وكل هذا يجعل الباب مفتوحاً لأن تحدث الحوادث بغير الطريقة التي عهدناها والتي –لذلك- نتوقعها ونستغرب غيرها. ولكن حدوث مثل هذه “الخوارق” إنما هو خرق للعادة التي عرفناها ولا دليل فيه على أن الكون يسير بلا انتظام ولا اتساق.

الأساس التاسع:

المادية مذهب علمي:

من الحيل المعروفة على مدى التاريخ أن المدافعين عن المذاهب الباطلة والأفعال الفاسدة والسلع الضارة لا يسمون أشياءهم بمسمياتها بل يلبسونها زوراً أزياء زاهية جذابة.

ولما كان العلم الطبيعي سلعة رائجة في زماننا فإن كل صاحب مذهب باطل يحاول أن يلتجئ إليه ويلوذ بحماه ولكن هيهات. فالمادية كما قدمنا مذهب تقوم قاعدته الأولى على مجرد الدعوى التي لا يسندها دليل بل التي يبطلها الدليل، فأين العلم من هذا؟ والمادية كما أوضحنا مذهب يسير العلم في خط مضاد له، فالعلم هو الذي ما فتئ يبطل تعريفاتهم للمادة حتى ما يستطيعون أن يقولوا ما هي هذه المادة التي يريدون لها الاستغناء عن الخالق الذي جاءت بالدعوة على الإيمان به رسل الله تعالى، والعلم هو الذي هدم دعواهم بأزلية الأجرام السماوية ثم بأزلية الجزء الذي لا يتجزأ، والعلم هو الذي اقترب من المنهج الديني حين اتخذ الأثر دليلاً على طبيعة المؤثر، ولم يشترط رؤية الأخير رؤية مباشرة.

والعلم هو الذي يتجه الآن لتفسير ظواهر طبيعية وقوى بشرية لا تقع تحت نطاق ما عرف من قوانين الطبيعة الحسية.

الأساس العاشر:

الإنسان سيد نفسه ومالك مصيره فهو وحده المسئول عن أن يشرع لنفسه في السياسة والاقتصاد والاجتماع وسائر نواحي حياته:

هذا كلام لا يصح إطلاقه حتى على افتراض أن الإنسان لا خالق له فكيف وقد ثبت أن له خالقاً؟

وهو لا يصح على ذلك الافتراض لأن الواقع الذي يحسه كل فرد منا أنه رغم قوى الإنسان العقلية الفائقة ورغم اطراد تقدمه العلمي واتساع فهمه للكون الذي يعيش فيه فإنه مازال محكوماً في الجزء الأكبر من حياته بعوامل خارجة عن ذاته. فلا أحد منا كان مختاراً في أن يجئ إلى هذا الكون، ولا أحد منا يدري متى يفارقه، ونحن نجئ إليه بتكوين طبيعي لم نصنع ولا قدرة لنا على تغييره، وهذا التكوين الطبيعي يفرض علينا نظاماً معيناً للحياة فلا بد من أكل وشرب ونوم ويقظة وعمل الخ. ونحن لا نجئ إلى الكون مكتفين ذاتياً بل إن متطلبات حياتنا خارجة عن ذواتنا وليست بخاضعة لقوانا وإرادتنا.

تلك بدائية ما ينكرها عاقل فما ينبغي له إذن أن يقول إنه سيد نفسه وماله ومصيره.

ثم إن تجربة الإنسان الذي افترض أنه سيد نفسه وذهب يضع لنفسه مناهج حياته ويخطط مسار سلوكه تجربة مؤسفة باعتراف أصحابها الذين ذاقوا ويلاتها. أفلا يكفي هذا دليلاً على بطلان الافتراض الذي قامت عليه؟

المادية مذهب الحادي فماذا يقدم الإلحاد للإنسان؟ إنه يقول له إنك جئت من لا شيء، وإن كنت جئت من شيء فقد جئت مصادفة، فليس لوجودك غاية، ولا لك في الحياة مهمة، وإنك صائر إلى لا شيء، فما بعد الموت من حياة.

والإلحاد بهذه العقائد السلبية يزيح عن قدمي الإنسان الأرضية التي تقوم عليها حياته كلها.

فالإنسان بطبعه مخلوق ذو غاية وهدف لا يكاد يعمل عملاً لا يعرف الغرض منه والغاية من ورائه، والإلحاد يقول له ولكن الواقع أن حياتك في مجملها لا هدف لها.

والإنسان مفطور على حب الخير وكراهية الشر وعلى جزاء الإحسان بالإحسان، ولكن الإلحاد يقول له أن مصير المحسنين والمسيئين في النهاية واحد، فيخلق في نفسه صراعاً بين نزوعه الطبيعي نحو فعل الخيرات وعبث هذا الفعل الذي يقتضيه استواء مصير المحسنين والمسيئين.

والإنسان بطبعه مخلوق ضعيف لا تكاد حياته تسلم من داء مؤلم أو عدو مؤذ أو عيش ضنك أو فراق صديق عزيز أو قريب حميم وهو في حالات ضعفه هذه كلها بحاجة إلى ملجأ يلوذ به ويعتمد عليه وينشد عنده العزاء والسلوان. ولكن الإلحاد يقول له: الواقع أنك تقف وحدك لا خالق لك تعتمد عليه وتصدق الملجأ إليه.

وحين يسحب الإلحاد من تحت أقدام الإنسان هذه الأرضية فإنه يجعل حياته تعيسة ويمزق ذاته شر ممزق، فلا غرو أن يحاول الهروب من نفسه بالمسكرات والمخدرات والملهيات المزعجات، ولا غرو أن يهرب من بني جنسه فيعيش وحده ذرة تائهة بين ذرات، ولا غرو أن تتفاقم لهذا كله مشاكله وأدواؤه النفسية.

إن الارتباط بين فلسفة العبث التي يقتضيها الإلحاد وبين مشاكل الإنسان المعاصر التي أشرنا إلى طرف منها فأصبح من المسلمات عند المفكرين الغربيين.

خاتمة:

وبعد.. فإذا كانت تلك هي الأسس التي تقوم عليها الفلسفة المادية وكانت هذه هي نتائجها على معتنقيها فما هو المسوغ لاستجلابها لنا والدعوة إليها بيننا؟ إن إنساناً عاقلاً يعرف طبيعة تلك الأسس وآثارها لا يمكن أن يقدم على عمل كهذا، ولكن المشكلة أنه ما كل الناس يعقلون وما كل العقلاء يعملون، فاللهم عقلاً هاديا ًوعلماً نافعاً.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر