أبحاث

جمال الدين عطية – المسلم المعاصر كما تمناه مالك بن نبي

العدد 163

من الصعب أن تكتب عن إنسان عايشته وتأثرت به فصار لك قدوة معاصرة تخللت كيانك وسكنت عقلك حتى شعرت أنه معك دائمًا حتى لو تباعدت بينكم المسافات، فرغم سفري إلى خارج مصر فإنني لم أنقطع عن الاتصال به أبدًا، ولم أزر مصر إلا وزرته في بيته أستمد منه السكينة والاطمئنان وأعرض عليه ما استجد في حياتي العلمية والعملية، فينصح بهدوئه المعتاد وبكلماته القليلة ذات المعاني الكبيرة.

بدأت علاقتي بأستاذي الدكتور جمال الدين عطية منذ ما يزيد على عشرين عامًا تقريبًا، وكان أول لقاء معه في يوم لا يمكن أن أنساه، إذ كنت أطالع جريدة (الأخبار) المصرية التي نشرت أسماء المعينين من دفعتي في مجلس الدولة المصري، حيث كان التعيين فيه هو حلمي الوظيفي الأول، ولما أفقت من صدمة عدم تعييني وفرغت من الاتصال بأصدقائي المعينين لأهنئهم، وجدت خبرًا صغيرًا في الصفحة الثانية من الجريدة عن عقد حلقة نقاشية مساء ذلك اليوم حول “تجديد الفقه الإسلامي” يحضره عدد من المفكرين والعلماء، ولم تذكر الجريدة حينها إلا اسم الجمعية التي تنظم الحلقة التي سأكتشف فيما بعد أن علمي بها وحضوري إياها كأنه إشارة من المولى Uلي بأن مستقبلي يبدأ من هنا وليس هناك (في مجلس الدولة).

ذهبت إلى مكان انعقاد الحلقة النقاشية فوجدت أستاذا هادئًا لم أره من قبل يتحدث حول تجديد الفقه الإسلامي، بينما فوجئت أن الحضور يكاد يقتصر على أساتذة بحجم: الدكتور توفيق الشاوي –رحمه الله، والدكتور محمد عمارة، والمستشار طارق البشري، والدكتور محمد كمال إمام، والدكتور علي جمعة، والشيخ جمال قطب وغيرهم من النظراء، إلا أنا، كنت مجرد شاب صغير يشعر بالحرج لوجوده فجأة وسط هذه الكوكبة على حين غرة، بينما هم يلمحونه وكأنهم يتساءلون باستغراب من هذا!

بعد نهاية اللقاء وجدتني أذهب إلى المتحدث الذي علمت أنه الدكتور جمال الدين عطية رئيس تحرير مجلة المسلم المعاصر، فجلست بين يديه أعرفه بنفسي وباهتمامي بالقضية محل النقاش، ومن حينها لم أستطع أن أفارقه أبدًا، حتى أنني تركت وظيفتي المؤقتة لأعمل معه باحثًا مساعدًا إلى أن سافر إلى مدينة “جدة” في المملكة العربية السعودية ليُشرف على معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية هناك، فاكتفيت بلقائه حين يزور مصر، ثم حين أزورها بعد سفري خارجها وعودته إليها.

لماذا جمال الدين عطية؟

تأملت في هذا السؤال مليًا لأعرف بالضبط ما الذي جعل هذا العالم (بكسر اللام الثانية وبفتحها كذلك) هو محور اهتمامي واهتمام الكثيرين غيري ممن هم مشغولين بالهمِّ الإسلامي –إذا صح التعبير- فكانت الإجابة عندي هي أنه –رحمه الله- كان نموذجًا لما ينبغي أن يكون عليه “المسلم المعاصر”، إنه بالضبط “المسلم” الذي تمناه (مالك بن نبي) ليقيم الحضارة الإسلامية من جديد، إذ إن الرجل قد توافرت فيه –من وجهة نظري- غالبية الصفات الإيجابية التي ينبغي أن يتحلى بها أفراد الأمة الإسلامية في عالمنا المعاصر ليعيدوا إلى الحضارة الإسلامية ريادتها، بحسب ما انتهى إليها مالك بن نبي في كتاباته المختلفة، مثل: فاعلية العقيدة الدينية وتوهجها لتكون ذات تأثير اجتماعي متدفق، والاستثمار الأقصى للعناصر الثلاث اللازمة للنهوض الحضاري، وهي: “الإنسان والوقت والتراب”، وتقديم الاهتمام بالأفكار على حساب الأشخاص والأشياء، والتزام الصمت الإيجابي قدر الإمكان للتفرغ للعمل الجاد المنظم تنظيمًا دقيقًا، والحرص على إقامة شبكة قوية للعلاقات الاجتماعية تربط بين الحاملين للهم الحضاري الإسلامي، والعمل الحكيم على الاستفادة من الحضارة الغربية الحديثة والموروث الثقافي الإسلامي على حد سواء، وتشجيع الشباب على الإبداع والتألق.

وسأعرض الآن لبعض ما لمسته من تلك الصفات في أستاذي الدكتور جمال الدين عطية ومواقفه المختلفة التي لمست بعضها بنفسي، ولمسها من أهم أفضل مني ممن تعاملوا معه من قديم:

1) فاعلية العقيدة في الحياة العلمية والعملية:

إذا كان المسلم في عصر التخلف الحضاري يؤخذ عليه إجمالا الانفصام بين الروح والعمل، وبين ما يؤمن به وما يتغنى، وبين ما يقول وما يفعله في الواقع، على النحو الذي أشار إليه مالك بن نبي مرارًا “انظر على سبيل المثال كتابيه مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ووجهة العالم الإسلامي) فإن الراحل د. جمال الدين عطية -رحمه الله- كان فيه اتساق عجيب بين ما يعتقد وما يفعل، وكان الدافع الرئيس لديه للعمل هو العقيدة الإسلامية التي كان توهجها في فؤاده يدفعه دائمًا –بحسب ظني- للالتزام بالعمل لخدمة الإسلام حتى آخر لحظة في عمره.

روى لي أ. عبد العزيز طاهر (المحامي الكويتي الذي عمل مع د.جمال في الكويت في الفترة من 1969 حتى مغادرته لها بعدها بسنوات والذي حرص على تواصله مع الدكتور وزيارته حتى وافته المنية رحمه الله، ويعتبر نفسه تلميذًا له، حيث كان الدكتور جمال قد بدأ العمل في المحاماة سنة 1955 تحديدًا)، أن الدكتور جمال الدين عطية لم يكن فقط يتجنب ما يغضب الله في عمله في المحاماة، بل كان يتحاشى كل ما قد يؤدى إلى المعصية ولو كان مباحًا في ذاته، سدًا للذريعة، حتى إنه كان يوجه العملاء إلى ما يحقق مصالحهم ولو كان ذلك سيؤدي إلى عدم حصوله على أتعابه، فقد جاءه عميل -على سبيل المثال لا الحصر- طالبًا منه أن يرفع له قضية اكتشف د.جمال أنه قد فات ميعاد رفعها المحدد قانونًا على سبيل الوجوب، فإذا بالدكتور جمال يصارحه بالحقيقة وينصحه بعدم رفع القضية من البداية وعدم الذهاب لمحام غيره، طالبًا منه –عوضًاعن ذلك- الصلح مع خصمه وتسديد الالتزامات التي عليه.

ويعد الإيمان القوي هو النموذج التفسيري عندي لهذا التوهج المستمر للدكتور جمال، وهذه الهمة العالية للعمل في خدمة الدين منذ أن كان شابًا ينضم إلى جماعة الإخوان المسلمين لما رأى أنه الطريق الأفضل حينها لعودة الإسلام، مرورًا بهجره للجماعة تفرغًا لدراسة تجديد الإطار الفكري والفقهي للعمل الإسلامي، ثم في طرحه لأفكار موسوعية لتجديد الفقه الإسلامي في مجالات مختلفة ومتنوعة، وفي إنشائه لمجلة المسلم المعاصر والتزامه حتى وفاته بسياسة تحريرية للمجلة تعمل على المواءمة بين الإسلام والعصر بحيث تنضبط مستجداته بالدين فلا تنفلت منه.

ويلاحظ أن مجلة المسلم المعاصر تكاد تكون هي المجلة الإسلامية الوحيدة المستمرة طوال ما يزيد على أربعين عامًا (من عام 1974 ولاتزال مستمرة بفضل الله) دون توقف تقريبًا، وكان استمرارها نتيجة دأب الرجل وحرصه الدائم على أن يؤدي رسالته من خلالها حتى النهاية.

ومن الطريف أن د. جمال الدين عطية قد كتب بنفسه في كلمة التحرير لمجلة المسلم المعاصر (السنة العاشرة، العدد 40) متعجبًا من استمرار المجلة في الصدور المنتظم لعشر سنوات رغم أنها لا يوجد بها موظفون، ولا تحقق ربحًا ماديًا، خاصة وأنها لا تحصل على دعم من حكومة من الحكومات أو من شخصية موسرة من الشخصيات، ولكن أسرة تحرير المجلة أفصحت بعد ذلك، في الذكرى الأربعين لصدورها (في العدد 151 تحديدًا)، عن دور د.جمال نفسه “في تجاوز العديد من المشكلات المادية ومشكلات التحرير والتوزيع والمشكلات القانونية”.

ويلاحظ أن أثر العقيدة لا يظهر فقط في تدفق عطاء د. جمال الدين عطية واستمراريته، بل في البركة والنماء الذي تميزت به أفكاره الإبداعية، ومن ذلك مثلا أن جهده لأجل إنشاء البنوك الإسلامية نما ولا يزال حتى لا تكاد تخلو دولة من إنشاء بنك إسلامي بها على الأقل، كما أن فكرته بإنشاء موسوعة فقهية أثمرت ونمت حتى صدرت هذه الموسوعة في خمسة وأربعين مجلدًا، أما فكرته في إعداد موسوعة القواعد الفقهية والأصولية فقد اكتملت إلى نهايتها وصدرت في 40 مجلدًا!

وذكر لي الأستاذ عبد العزيز طاهر واقعة بالغة الدلالة على مدى إخلاص دكتور جمال الدين عطية وتجرده في عطائه، مؤداها أنه اكتشف أن هناك كتابًا تذكاريًا صدر عن الموسوعة الفقهية الكويتية، ولم يرد فيه اسم الدكتور جمال رغم كونه صاحب فكرتها والأمين العام الأول لها، فطلب من د. جمال أن يخطرهم لإصلاح الخطأ متعهدًا أن يتابع الموضوع، فإذا بالدكتور جمال يرفض إثارة الأمر من الأساس أصلاً مكتفيًا بأن الله وحده يعلم وهذا فيه الكفاية!

2) استثمار العناصر الثلاثة المكونة للحضارة:

تقوم الحضارة – بحسب مالك بن نبي- على عناصر ثلاثة ينبغي استثمارها معًا: الإنسان، والوقت، والتراب (أي الإمكانات المادية والموارد الطبيعية)، وتحتاج دومًا إلى عقيدة دينية دافعة ورافعة (انظر كتبه: مشكلة الأفكار..، ووجهة العالم الإسلامي، وشروط النهضة)، وقد أشرت في العنصر السابق إلى مدى فاعلية العقيدة الدينية لدى الدكتور جمال الدين عطية، ولذا فمن الطبيعي أن تكون لذلك ثمار واضحة في تكوين إنسان حضاري مثله يستثمر طاقاته وإمكاناته وأوقاته كلها في خدمة حضارته الإسلامية، وهناك أمثلة كثيرة تبرز هذه الحقيقة وتؤكدها.

روى لي -على سبيل المثال- أ.عبد العزيز طاهر أن مكتب المحاماة الخاص به هو والدكتور جمال الدين عطية كان عبارة عن خلية نحل لا تنقطع عنها الزيارات والاجتماعات لأجل تحقيق أهداف شتى، مثل سَنّ التشريعات الكويتية وتطويرها (ذكر أن د. جمال هو من صاغ تشريع يمنع المجاهرة بالإفطار في نهار رمضان)، وإجراء الدراسات عن إنشاء البنوك الإسلامية بمعية نخبة من الأكاديميين، وأيضًا التخطيط للموسوعة الفقهية الكويتية، وكان يزور د. جمال الأكاديميين ورجال العلم والمثقفين في أواخر الستينات وأوائل السبعينات، وكان بعض رجال القضاء يستعينون بمكتبته الكبيرة المتنوعة المتضمنة الكثير من المراجع. وكان مكتبه للمحاماة من المكاتب المعروفة والهامة في دولة الكويت لكفاءة الدكتور جمال العلمية من ناحية، ولكونه من المكاتب القليلة التي كانت تشتغل بالمهنة في الكويت حينذاك من ناحية أخرى. (كان الدكتور جمال مقيدًا منذ سنة 1955م في الجدول المؤقت الذي وضع في بدايات العمل بمهنة المحاماة بالكويت رغم أنه لم يكن يحمل الجنسية الكويتية، بينما حمل تلميذه أ. طاهر رقم (17) في جدول المحامين الكويتيين، أي أن عدد المحامين الكويتيين قبل قيده كان  16 محاميًا فقط).

وعلى الرغم من النجاح الكبير للدكتور جمال في مهنة المحاماة (كما يشهد أ. عبد العزيز طاهر) إلا أنه قرر أن يعتزل المهنة ليتفرغ لرسالته الأكبر في خدمة الإسلام في المجالين الفكري والفقهي تحديدًا، فإذا بالرجل يستثمر كل وقته وإمكاناته في الإبداع الحضاري، حتى لا تكاد تتصور أنك قد ألممت بكل إنتاجه العلمي ومساهماته المختلفة في تطوير المؤسسات والمراكز الإسلامية فإذا بك تكتشف أن له إبداعات أخرى!

والعجيب أن الرجل ظل محافظًا على عاداته في العمل حتى أجبره المرض في نهاية حياته على تغييرها، فقد كان يستيقظ دائمًا قبل شروق الشمس ويبدأ عمله بعد الصلاة حتى لو لم يكن يلتزم بدوام معين، ثم يعمل حتى يتناول غذائه ويرتاح قليلا وقت القيلولة، ثم يستأنف عمله من جديد، ولقد اعتدت على ذلك حتى أنني كنت أتصل به أحيانًا في السابعة صباحًا، وقبل وفاته بفترة ليست كبيرة اتصلت عليه في التاسعة فوجدته نائمًا فلما كلمته ظهرًا علقت عفويا بأنني لم أعتد معه على ذلك، فإذا به يعتذر ضاحكًا ويفسر ذلك بالمرض وحده، رحمه الله.

وإذا ما أخذنا استثماره للوقت بمفهوم أشمل سنجد أن الدكتور جمال قد استفاد من حياته كلها في العمل الجاد المبدع، ففضلا عما أشرت إليه من كيفية الاستفادة من وقته في عمله في المحاماة ومشاركاته العديدة في أعمال موسوعية ومبتكرة، فإنني في زيارتي الأخيرة له (التي أصر فيها على أن أَشرُف بزيارته حينها وكأنه يشعر بدنو أجله، حيث توفي بعدها بثلاثة أشهر فقط) وجدته يواصل عمله رغم اقترابه من بلوغ التسعين من عمره، واعتلال صحته إلى درجة أنه لم يكن يستطيع أن يتنقل داخل سكنه، وقد أمسك القلم ليشرح لي كيف أنه استنبط بعض الأفكار من رسالتي للدكتوراه ويريد أن نتشارك في تطويرها!  

بل والأعجب من ذلك ما رواه لي أحد تلاميذه، وهو الأستاذ أشرف عبد الله الذي عمل تحت إدارته في مشروعين كبيرين، هما: مشروع “معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية” ومشروع “مدونة الأسرة وفق المعمول به في المملكة العربية السعودية” بخلاف أعمال أخرى كان يسترشد برأي الدكتور فيها، حيث ذكر لي واقعة تثبت مدى استثمار هذا العالم لأقصى قدر من إمكانياته الإنسانية والصحية والعمرية، أُفضِّل أن أرويها على لسانه شخصيًا:

“هذا وما كنت أعجب من شيء من صفات هذا العلم الراحل فترة عايشته عجبي من نظامه والتزامه وتفانيه في العمل، ومن أعجب المواقف التي وقعت لنا أثناء عملنا في مشروع معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية، عندما أصيب بجلطة في المخ، وكان قرار الأطباء هو حتمية إجراء جراحة عادلة، وبعد مداولات وإقدام وإحجام خوفًا عليه لخطورة الوضع لتقدم سنه، تقرر إجراؤها، فكان – رحمه الله تعالى- يأمرني أن آتيه يوميًا في المستشفى رغم حالته الصحية المتأخرة، فنراجع الأعمال ويعمل بكل جد وجهد، ويأخذ مني كمية من الملفات عند رحيلي ليعمل عليها وحده مساء، وأرجع في الصباح فأجده قد أتمها ووضع ملاحظات العمل عليها، وإن تعجب فعجب أنه في صباح اليوم الذي دخل فيه غرفة العمليات طلب مني بإلحاح أن أجلب له ملفات معينة من العمل، وراح يشتغل عليها معي وكأنه سليم معافى، وكأنه ليس الرجل الذي تعد له الآن المقصات والمشارط لفتح جمجمته وإمرار هذه الأسلحة عليها، وكأن هذه المشارط والمقصات تعد لشخص آخر، وظل على هذه الحالة معي، وأنا أحاول أن أثنيه عن هذا ليستريح، فيقول لي: دعنا نموت على عمل صالح، ولم يترك العمل معي حتى حضر الأطباء والممرضات فأخذوه مني لتخديره”!

يا الله… ما هذا؟!

ترى لو عاد مالك بن نبي ورأى مثل هذا “المزج العقيدي” لعناصر الحضارة الثلاثة في أصعب اللحظات التي يمكن أن تمر على الإنسان في حياته قاطبة، ماذا كان يقول؟!

3) تقديم الأفكار على الأشخاص والأشياء:

تستطيع أن تقول أن الدكتور جمال لم يكتف بتقديم الأفكار على الأشخاص والأشياء فقط، بل استطاع أن يسخر الأشخاص والأشياء لخدمة الأفكار، فتجده يستخدم علاقاته الاجتماعية الكبيرة دومًا لخدمة فكره، حتى أنه كان يكره الواسطة والمحسوبية، كما أنني لم أشعر مرة واحدة أنه يقدس شخصًا ما على حساب فكرة يؤمن بها، ولذا فقد كانت أفكاره دائمًا مرتبطة برسالته في الحياة لا بشخص بعينه حتى لو اعتز ببعض الشخصيات على أسس موضوعية دائمًا.

هذا التقديم للأفكار عند الدكتور جمال لا يحتاج للتدليل أكثر من استعراض إنتاجه الفكري الغزير(*)، ومن كونه لم يسع وراء المال، وإلا لكان استقر في مكتبه في المحاماة في الكويت مثلاً، أو توقف عن حمل هم مجلة فكرية رائدة واستفاد من وقته وجهده الذي بذله في إدارتها والمسئولية عن شأنها، كي يجني الأموال، وقد كان ذلك في استطاعته لا ريب.

وأذكر في هذا المقام أن د. جمال -رحمه الله- روى لي أن أحد أثرياء العرب المشهورين دعاه يومًا للركوب معه في سيارته الفخمة وعرض عليه إدارة مركز مرموق للاقتصاد الإسلامي، ولكن د. جمال رفض طلبه لإدراكه أنه لا يصلح لدور المدير الذي لا هم له سوى إرضاء الكفيل، ولو على حساب ما يؤمن به من قيم ومبادئ، وما يقتنع به من أفكار حرة.

4) تكوين شبكة علاقات اجتماعية قوية:

كان لي شرف تحرير بعض (سيمنارات) الدكتور جمال الدين عطية لنشرها في مجلة المسلم المعاصر، وكنت أستمع (وأستمتع) لها بعناية، ورأيت من خلال المتحدثين كيف كان –رحمه الله- يقيم شبكة علاقات قوية من المفكرين والفقهاء والباحثين، تخدم رسالته في الحياة، وأنه كان غالبًا ما يجمع هؤلاء للحوار والنقاش حول قضية أو مسألة ما ويقدم هو ورقة العمل اللازمة.

مربع نص: (*) لم أشأ استعراض عناوين أعمال الدكتور جمال الدين عطية، منعًا للتكرار؛ لأنها ستذكر بالتأكيد ضمن العدد التذكاري المقرر نشر هذا المقال فيه بإذن الله. ويبدو أن د. جمال الدين عطية كان ناجحًا اجتماعيًا في كافة مراحل عمله، وقد سلفت الإشارة إلى ما ذكره تلميذه في دولة الكويت (أ. عبد العزيز طاهر) كيف كانت علاقاته متشعبة حين كان هناك، وكذلك أخبرني ببعض علاقاته التي كونها في قطر، وفي لوكسمبورج، وفي جنيف، وفي لبنان. وأذكر أنني التقيت مؤخرًا في الكويت أحد رواد الاقتصاد الإسلامي، وهو الأستاذ الدكتور  عبد الحميد البعلي، وذكرت له عَرضًا اسم الدكتور جمال الدين عطية، فإذا بالرجل ينظر إليّ مهتما ويقول أنه من أعز أصدقائه، ولما عرف بوفاته، حزن، وأخبرني أنه تعرف عليه مذ كان الدكتور جمال يعمل في المعهد العالمي للفكر الإسلامي.

أليس ذلك يصدق بالضبط ما قرره مالك من ضرورة وجود شبكة علاقات اجتماعية من شأنها أن تقوم بتركيب العوالم الثلاثة المكونة للحضارة: عالم الأفكار، وعالم الأشخاص، وعالم الأشياء (انظر كتابه الذي شرح فيه هذه الفكرة بالتفصيل: “ميلاد مجتمع”)، فالرجل أوجد رابطة اجتماعية وعلمية متناغمة تربط بينه وبين كثير من العلماء والباحثين تتوجه لتحديد أهداف حضارية مشتركة، حيث أحسب أنه استثمر هذه الشبكة في تحقيق الكثير من الإسهامات الكبرى في خدمة الحضارة الإسلامية.

5) الصمت الفعال:

كتب مالك بن نبي يقول: «إن من الصعب أن يسمع شعب ثرثار الصوت الصامت لخطى الوقت الهـارب» (شــروط النهضة، دار الفكر- دمشق، 1986، ص 141)، وذكر أن المسلم المعاصر ينقصه المنطق العملي في التفكير، بل إنه أحيانًا “يبغض أولئك الذين يفكرون تفكيرًا مؤثرًا، ويقولون كلامًا منطقيًا من شأنه أن يتحول في الحال إلى عمل ونشاط (المرجع نفسه، ص 96).

وكل من يعرف د. جمال الدين عطية جيدًا يدرك إلى أي مدى كان الرجل استثناءً من حال المسلم المعاصر الذي يكره المنطق العملي، فقد كان يفضل الصمت على الكلام، وكنت إذا حدثته في أمر أجده صامتًا حتى إذا هممت بتغيير الموضوع ظنًا مني أن صمته دلالة على رفضه التعليق، وجدته يعلق بحكمة وإيجاز.

وكان صمت الدكتور جمال من النوع الإيجابي الذي يعني أن صاحبه يهتم بالعمل الجاد على حساب لغو الكلام، وليس هناك دليل على ذلك أهم من غزارة إنتاجه العلمي وتنوعه بين مجالات مختلفة، وهذا بالضبط ما نحتاجه في المسلم المعاصر، ألا يكون ثرثارًا يكثر من الحكي والكلام على حساب العمل.

وقد روى لي أستاذي الدكتور أحمد كمال أبو المجد كيف لاحظ من قديم “صمت د. جمال الحكيم وهدوئه الذي يجعله منظم الفكر، غير فوضوي، ولا ينفعل بسهولة”، حيث قرر أنه “كان في جولة في البحر مع د. جمال وآخرين، وإذا بالأمواج تعلو والمركب يهتز بشدة، فاشتد قلقنا وجزعنا بينما ظل الدكتور جمال هادئًا يدعو ربه، حتى انزاحت الغمة وعادوا سالمين بفضل الله”!

6) التفاعل الإيجابي الحكيم مع الحضارة الغربية الحديثة والموروث الثقافي الإسلامي:

كان مالك بن نبي يحرص دائمًا على التأكيد على ضرورة التركيز على البناء الذاتي للحضارة الإسلامية، غير أنه لم يدع أبدًا (المسلم المعاصر) إلى عدم الاستفادة من التقدم الغربي، أو من الموروث الثقافي الإسلامي بالطبع، غير أنه أكد على تجنب الاعتماد على تكديس منتجات الحضارة الغربية والتعويل عليها في عملية البناء الحضاري، خاصة وأن كثيرًا من أفكارها قد تعد بنَّاءة في بلادها، فإذا نقلناها إلى بلادنا فستتحول إلى أفكار قاتلة (مميتة) تعيق النهوض، وهو ما حذر منه كذلك بشأن استدعاء أفكار من الموروث الثقافي للحضارة الإسلامية ربما كانت صالحة (أو مبررة) في زمانها ولكنها لم تعد كذلك في زماننا، بل باتت أفكارًا “ميتة” لا نفع فيها، ولذا فقد دعا إلى الأخذ عن الإثنين ما يساعد فقط في عملية تشييد الحضارة الإسلامية من جديد (انظر كتاباته في هذا الشأن في غالبية كتبه، وخاصة: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، وشروط النهضة، ووجهة العالم الإسلامي…).

هذا الفكر – في ظني- يجد ضالته عند د. جمال الدين عطية –رحمه الله- الذي كان طوال حياته نموذجًا لكيفية إحداث التفاعل البنَّاء بين ما سمي بالأصالة والمعاصرة، أو بالقديم والجديد، بحيث يخدم المزج بينهما الساعين إلى النهوض الحضاري الإسلامي من جديد.

وأظن أن البداية كانت عن طريق إبداعه فكرة البنوك الإسلامية وإسهامه الفكري الجاد في إنشاء “بنك فيصل الإسلامي”، وكذلك بإسهاماته الجادة والعميقة في مشروع “إسلامية المعرفة” وخاصة في مجالي الشريعة والقانون، حيث أبدع كتابيه: “النظرية العامة للشريعة الإسلامية”، و”التنظير الفقهي”، وبعض أبحاثه الأخرى التي كان له السبق في طرحها، مثل بحثه المنشور في العدد الأول لمجلة “أوقاف” التي تصدرها الأمانة العامة للأوقاف بدولة الكويت (المنشور في نوفمبر 2001م)، وعنوانه: “الوقف والنظم الشرعية والحديثة ذات العلاقة- محاولة للتصنيف ومقترحات للتفعيل والتعاون”.

والدكتور جمال الدين عطية رغم إتقانه لأكثر من لغة أجنبية، وحصوله على الدكتوراه من جنيف (سويسرا) إلا أنه لم يقع في فخ الذوبان في عشق الحضارة الغربية أو في أسر محاولة تقليدها، بل نجح فيما نجح فيه مالك بن نبي من قبل، أن يوظف ما استفاده من إيجابياتها في خدمة دينه ووطنه وليس العكس، كما حدث لكثيرين حيث عادوا من هناك أسرى للفكر الغربي يريدون أن يفرضوه بحذافيره على واقعنا المعاصر.

أما على الجانب الآخر –جانب التراث الإسلامي- فإن د. جمال -رحمه الله- لم يدع يومًا إلى الاستعانة بالأفكار الميتة من هذا التراث، بل على العكس من ذلك، كان يتجنب تلك الأفكار في صمته الإيجابي المشار إليه من قبل، فهو مثلاً تجنب فكرة “الطائفية” والاستقطاب المذهبي، خاصة بين السنة والشيعة، فتجد أنه كان صاحب فكرة أن تقوم الموسوعة الفقهية الكويتية على المذاهب الثمانية (أي لا تكتفي فقط بالمذاهب السُنية الأربعة)، وهو الاقتراح الذي طبقه القائمون على الموسوعة من قبل حين كان أمينًا عامًا لها، غير أنه جرى التراجع عنها فيما بعد واقتصرت على المذاهب الأربعة فقط.

وقد لمست عن قرب أن هذا النهج الذي يرفض الأفكار الميتة التي تقسم الأمة الإسلامية تقسيمًا صراعيًا لا تعاونيًا تعدديًا، لم يقتصر على الجانب الفكري فقط عند د. جمال الدين عطية، بل كان منهج حياة، ويكفي أن أذكر الآن أن تلميذه الكويتي الذي رويت عنه من قبل –وهو المحامي عبدالعزيز طاهر- (شيعي). كما كانت له مجالات تعاون ومراسلات كثيرة بينه وبين الأستاذ عبد الجبار الرفاعي (الشيعي كذلك) رئيس تحرير مجلة “قضايا إسلامية معاصرة” كما روى لي شخصيا د. جمال.

7) تشجيع الشباب وتبنيهم علميًا:

إن من سمات أصحاب الرسالات أن يكونوا حريصين على نقل خبراتهم – متجردين- إلى الشباب عسى أن يستكملوا المسيرة، ولذلك تجدهم يشعرون بسعادة عجيبة حين يبزغ نجم شاب جديد في مجاله، وكان مالك بن نبي من هؤلاء الذين كانوا يضعون آمالهم في شباب العالم الإسلامي وكان يقيم لهم “مجالس علمية” أو “صالون ثقافي” كل أسبوع تقريبًا سواء في وطنه أو في دمشق أو الجزائر أو في مصر، ولولا أنه يثق في أنهم هم أمل الأمة ما ضيع وقته معهم وتبناهم فكريًا وثقافيًا.

أما دكتور جمال الدين عطية فإنه لم يكن من هواة تنظيم الصالونات الثقافية، بل كان تأثيره على الشباب من خلال اللقاءات المباشرة والنصح غالبًا، فضلاً عن كتاباته ومجلته المرموقة بالطبع.

وسأضرب مثلين فقط الآن لتبين مدى كان حرص الدكتور جمال على تقديم النصح للشباب وتشجيعهم على المبادرة والانطلاق:

أما المثال الأول فهو تلميذه الكويتي الأستاذ عبد العزيز طاهر الذي أكد فخره بأن الدكتور جمال أستاذه وقدوته منذ أن تعرف عليه سنة 1969 حتى وفاته، وذكر أنه تعلم منه كيف يكون الإنسان محاميًا ناجحًا دون أن يقترب من المعصية، ورأى بعينه كيف يعمل الإنسان لخدمة دينه حتى تكون حياته كلها تقريبًا لله، وشاهد كيف كان د.جمال يدرس القضايا المعروضة عليه مع أسرة المكتب على شكل حوار مفتوح يعقده في أحد المطاعم مثلاً، مما ينتج تلاقحا للأفكار ويوطد العلاقات الإنسانية كذلك بين العاملين، وذكر أ. عبد العزيز أنه تعلم من الدكتور جمال كذلك كيف يكون منظمًا في عمله ودقيقًا، فقد كان يكلفه بجمع كافة التشريعات وتحديثها دائمًا حتى كان القضاة أنفسهم يأتون للاطلاع على التشريعات التي لا يعثرون عليها خارج المكتب.

وتعلم الأستاذ عبد العزيز كذلك من الدكتور جمال المنطق العملي في التفكير، فأخذ بنصيحته بالتركيز الكامل في عمله والتفرغ له، ولذا نجح الرجل في مهنته وقام بتأسيس “مجموعة طاهر” مع أخيه والتي تعتبر من أقدم مكاتب المحاماة في الكويت، كما حاول أن يكون امتدادًا لمسيرة الدكتور جمال فاتجه إلى التأليف العلمي والقانوني، حيث ألف كتابين في مهنة المحاماة، أحدهما سفر كبير يقترب من ألف وثلاثمائة صفحة من القطع الكبير.

وأما المثال الثاني فهو كاتب هذه السطور الذي لا يستطيع أن يحصي هنا أفضال الدكتور جمال عليه، ويكفي الآن أن أذكر أن الدكتور جمال هو الذي حول حياتي كلها لأتفرغ للبحث العلمي في مجال الدراسات الإسلامية والقانونية معًا، وذلك حين شرفني بطلب العمل معه باحثًا مساعدًا له، فوافقت على الفور تاركًا وظيفتي الحكومية، وبدأت معه بجمع المادة العلمية لبحثه “نحو فقه جديد للأقليات” الذي صدر أولا ضمن حولية “أمتي في عام” الصادرة عن مركز الحضارة للدراسات السياسية، ثم إذا به يكلفني مشكورًا بالمشاركة معه -هو والأستاذة الفاضلة مهجة مشهور- في الكتابة معه في كتابه الذي صدر بعد ذلك تحت عنوان “إسلامية المعرفة- الخبرة والمسيرة”، وأذكر حينها أنني تهيبت في البداية ولكنه شجعني بقوة وأصر على أن أكتب الجزء التاريخي كله، ثم عقد سيمنارًا لمناقشة مسودة الكتاب حضره عدد كبير من المفكرين والباحثين على رأسهم الدكتور عبدالوهاب المسيري والدكتور محمد عمارة والدكتور محمد كمال الدين إمام والشيخ علي جمعة والدكتور محمد أحمد سراج، فكان من حسن حظي أن تُعرض أول كتاباتي على هؤلاء الكبار مما أفادني كثيرًا فيما بعد وكان الفضل في ذلك بعد الله عز وجل للدكتور جمال – رحمه الله-.

ولقد استمرت بعد ذلك أفضال أستاذي الدكتور جمال علي، فإذا به يفاجئني بنشر أول بحث أكتبه في حياتي في مجلة رائدة وهي “المسلم المعاصر”، وكان عن “مالك بن نبي”. وقد استمر دعم الدكتور جمال وتشجيعه لي حتى إنني حين أرسلت له خاتمة رسالتي للدكتوراه راجعها واقترح بعض التعديلات التي أدخلتها فعلا، وقد أصر على حضور المناقشة بنفسه وهو من لا يغادر كرسيه إلا لضرورة قصوى لولا أن اشتد عليه المرض يومها!

هذان مثالان فقط على مدى عناية الرجل بالشباب منذ بداية حياته المهنية حتى وفاته، ولا أظن أن المسلم المعاصر مطلوبًا منه أكثر من ذلك فيما يخص حرصه على إعداد الشباب للقيام بدورهم الحضاري المنشود.  

وختامًا فإن الحديث عن الدكتور جمال الدين عطية لا يمكن أن يستوفيه مجرد مقال أو بحث أو حتى كتاب، بل ينبغي أن تعد عنه وعن فكره ودوره الثقافي الفعال رسائل للماجستير والدكتوراة، ولكن كانت هذه فقط بعض الملامح من كون هذا العالم الجليل نموذجًا للمسلم المعاصر الذي إذا ساد عالمنا الإسلامي فإنه سيتمكن يقينًا إلى العودة مجددًا إلى الريادة الحضارية في العالم أجمع وقيادة الإنسانية نحو ما يرقيها ويضبط سلوكها ويرشد حركتها في التاريخ.

* * *

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر