كلمة التحرير

قضايا مقاصدية

العدد 154

(1)

الشريعة الإسلامية – من منظور العقل الفقهي- جزئي وكلي.

جزئي محوره حدود الأحكام، وكلي جوهره قصود الأحكام، والصلة بينهما عضوية فالحد الذي يلغي القصد موهوم، والقصد الذي ينتفى به الحد معدوم. وفي قسم النزول من التشريع يولد الحد ويتدرج ويكتمل؛ لأن الحدود وهي الأوامر والنواهي تكليفًا ووضعًا، ترتبط بالوحي الذي لا مُبلغ له إلا رسول الله r. وفي قسم التنزيل من التشريع توجد القصود وهي ترتبط بالوعي الذي سبيله العقل، ومن لم يتفطن بعقله لوقوع المقاصد في الأوامر والنواهي – كما يقول «الجويني» إمام الحرمين- فليس على بصيرة في وضع الشريعة، وسبيل العقل هذه أقرها الأصوليون منذ عصر «الشافعي» الذي يقول في الرسالة «ولا يكون له أن يقيس حتى يكون صحيح العقل» إلى «ابن تيمية» الذي قال: «جعل الله العقل السليم من الشوائب ميزانًا يزن به العبد الواردات، فيفرِّق بين ما هو من قبيل الحق، وما هو من قبيل الباطل، ولم يبعث الله الرسل إلا إلى ذوي العقل، ولم يقع التكليف إلا مع وجوده».

فالحدود ناطقها الوحي، وهي تتعلق بالمبنى والقصود حاملها الوعي وهي تتفاعل مع المعنى ولكن «على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص، ولا بالعكس» كما أشار الإمام «الشاطبي» في «الموافقات» وهي منهجية اعتمدها الإمام «الشاطبي» في الرد على الباطنية والظاهرية والزنادقة خاصة في كتابه «الاعتصام».

والرأي عندي أن الحدود وهي الأوامر والنواهي البحث فيها بحث «عن الحكم»، أي في أركانه وموجباته، وأن القصود وهي الغايات والأهداف البحث فيها بحث «في الحكم» أي في المصالح والمفاسد، ولا يخفى- كما يقول «العز بن عبد السلام»- التفاوت بين المصالح والمفاسد، فيجب البحث عن ذلك بطرقه الموصلة إليه. باعتبار أن الهدف الأكبر من الشريعة هي تحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها، وقد عنّف «الإمام العز» من قال إن في الشريعة عدل وجور، يقول «العز بن عبد السلام»: «بلغني أن بعض الزنادقة الذين أعمى الله قلوبهم قال في الشريعة عدل وجور، ومثَّل الجور بإيجاب الدية على العاقلة» وقد رد الإمام عليهم قائلاً: «كيف يكون هذا جورًا؟ والأموال كلها لله، والعباد كلهم ملكه وطوع يديه، وقد دفع هذا المالك الأعظم والسيد الأعلم بمصالح عباده أموالاً إلى عباده، وشرط عليهم في أمواله أن يصرفوا بعضها في مصالحهم، وأن يصرفوا بعضها إلى فقرائهم، وبعضها إلى أهل ضروراتهم، وأن يصرفوا بعضها إلى من أخطأ من جناتهم جبرًا للمجني عليه، وإحسانًا إلى الجاني بإرفاقه لأجل خطئه، وصلة لرحمه، ودفعًا لما يُتوقع من مفسدة قتل الجاني، فمن زعم أن السيد إذا تصرف في أمواله بما يصلح عبيده بالجهات المذكورة كان جائرًا، فإنه أعمى البصر والبصيرة».

(2)

كثر الحديث عن مجالات المقاصد ونحن أمام اتجاهين وكلا الاتجاهين حديث وقديم في نفس الوقت.

اتجاهيريد حصر المقاصد في مجال الأحكام الشرعية العملية – أي ما يسمى بالفقه بالمعنى الدقيق- وهذا المجال يستطيع فيه الفقيه أن يسأل عن علة الحكم ومصلحته ومآلاته- وأن يستعين بذلك كله في استنباط الحكم، وفهم النص، وتنزيل الأحكام على أرض الواقع.

واتجاهينظر إلى الفقه نظرة أوسع، ويرى أن الأحكام الشرعية بما تتضمنه من الأوامر والنواهي ليست هي الأحكام العملية فقط بل هي أحكام العقائد أيضًا، وبالتالي فإن مفهوم المقاصد – درسًا وتطبيقًا- يتسع ليستوعب مقاصد العقائد إلى جوار مقاصد الأحكام الشرعية العملية، لأن مسائل الإيمان والتوحيد والإيمان بالغيب لها تأثيرها في نهاية المطاف على الأحكام الشرعية العملية.

والرأي عندي أننا أمام مسألة منهجية.

فالذين يتعاملون مع الشريعة الإسلامية باعتبارها دينًا يجعلون المقاصد متحركة بالضرورة في كل الأحكام عقائدية أو عملية وهم على حق في ذلك المنظور الديني العام.

أما الذين يرون أن العلوم الإسلامية تم تدوينها وتقسيمها ووضع مناهجها، فهم لا يستحسنون تسييل الحدود بين العلوم الإسلامية المختلفة، فالعقائد دراسة لها منهجها، والحديث مجال له منهجه، والفقه العملي مجال له منهجه. المسألة منهجية إذن ولابد من فهمها في هذا السياق العلمي بعيدًا عن فكرة الصواب والخطأ.

(3)

سال مداد كثير حول الكليات الخمس: حماية الدين – حماية النفس – حماية العقل – حماية العرض – حماية المال – هل هي على سبيل الحصر؟ أم تقبل الزيادة والنقصان؟

والرأي عندي أنها – مثل سابقتها- سؤال في المنهج، لأن الزيادات المتصورة أو التي قال بها البعض فعلاً ليست إضافة بقدر ما هي إضاءة، فلا يمكن القول إن الحرية تنفصل عن كلية الدين أو كلية النفس وكلية المال، ولكن الواقع الاجتماعي في زمن «ابن عاشور» – والذي كان الاستعمار جاثمًا فيه على صدر الأمة- جعله يُعلي من شأن الحرية، وهو إعلاء ظرفي ومؤقت، سرعان ما يعود بها إلى مكانها في المقاصد عندما تصبح الأمور على طبيعتها. وعلى المقاصديين ألا ينظروا إلى المقاصد وكأنها تتعلق بالأفراد كلٌ على انفراد، بل لابد من قراءتها في سياق اجتماعي عام يتدرج من المحلي إلى الإقليمي إلى الدولي لأن الإسلام دين الإنسانية، وعندما ننظر إلى المقاصد في إطار هذه الفضاءات الأوسع يصبح الاستغناء عن التشقيقات الكثيرة للمقاصد مما يفرضه المنهج ويستدعيه ضرورة العلم، فالتوسع يكون في الدلالات لا في المصطلحات، ولأن جوهر المقاصد لُحمته وسداه الوعي بالمصالح والمفاسد فإن مجالات المقاصد منذ نشأتها بل منذ كانت ظاهرة تعددت مجالاتها لتستوعب كل ما فيه مصلحة وما فيه مفسدة، بل تستوعب العلوم المختلفة «باعتبار ما فيها من مصالح ومفاسد» وهي هنا تتحرك على كل المجالات البيئية كما رأينا عند «أبي زيد البلخي» في كتابه «مصالح الأنفس والأبدان» والسياسية كما أدرجها «الجويني» في كتابه «غياث الأمم» والاقتصادية كما تقرأ في كتب «الخراج» منذ الإمام «أبي يوسف» في القرن الثاني الهجري، وكما نجدها في الحيوات الاجتماعية المختلفة بدءًا من الأوبئة إلى المجاعات كما عالجها كل من «ابن خلدون» وتلميذه المصري «تقي الدين المقريزي» ومن هنا تصبح جميع علوم تدبير الأمة داخلة في المبحث المقاصدي.

وإذا كان الأمر على هذا النحو فمن الأفضل أن تظل دائرة التقسيم المقاصدي مغلقة تنفتح من خلال مجالاتها ومفاهيمها، وليس من خلال تقسيماتها ومصطلحاتها؛ لأن فتح التقسيم يصيبه بالترهل والتفرق فيصعب جمعه وتقعيده. فنحن كلما أدخلنا على تقسيم المقاصد في المجال الضروري أنواعًا جديدة كلما أدخلنا عليها ظنية أقل من المستوى الذي كانت عليه، وكلما ابتعدنا عن القطعية التي استهدفها الاستقراء الأول، وهذا التدرج في الظنون قد ينتهي بنا إلى ما أسماه الإمام «الغزالي» بالمقاصد الوهمية.

إن المقاصد تتحرك من داخلنا باعتبارها «وعيًا» لا يُراد له أن يكون جزءً من كتاب أو مبحثًا في نظرية، وإنما هو منهج ينبغي الارتقاء به ليكون منهج حياة لا منهجية فكر فحسب.

(4)

منذ عام 2003م والذي صدر فيه عدد لمجلة المسلم المعاصر محوره مقاصد الشريعة إلى عام 2015م الذي يصدر فيه عدد جديد للمسلم المعاصر يتناول مقاصد الشريعة أيضًا، جرت مياه كثيرة في الفكر والحياة جعلت العودة إلى الحديث عن المقاصد – تفعيلاً وتأصيلاً- جزءًا من تيار النهضة، وأساسًا من أسس إصلاح الشأن العام.

وإذا كان اهتمام عدد عام 2003م الرئيس هو المقاصد الكلية فإن الاهتمام الأكبر في عدد 2015م وجهته المقاصد الجزئية، فحملت فيه البحوث عناوين عملية، مثل «تأمين التنشئة الاجتماعية للطفولة في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية»، و«أثر التشريع الجنائي في حفظ المجتمع وحماية مقاصد الشريعة»، و«المقاصد السياسية لصلاة الجماعة»، و«المنحى المقاصدي عند العلماء المعاصرين»، إضافة إلى بحث في النظرية عند «الإمام الطوفي وتأثيره على الشاطبي في نظرية المصالح»، وبحث آخر في فلسفة المقاصد «ما قبل المقاصد والنسق الغائب».

والقاسم المشترك بين هذه البحوث جميعها الجدة في التناول، والنظر إلى فقه الواقع استدعاءً لهمزة وصل بين منهج يُرجى تحريره وواقع يُراد تغييره، وأعتقد أن الأمة وهي في حالة من السيولة والغليان في كل جوانبها بحاجة إلى نسق مقاصدي متكامل يعيد لها توازنها، ويضبط زوايا الرؤية فيها، ويضع المعايير الصحيحة والموازين الدقيقة لضبط المفاسد التي ينبغي مقاومتها والانتصار عليها، والمصالح التي ينبغي حمايتها والدفاع عنها.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات،،

* * *

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر