قراءة في العطاء المعرفي للأستاذة الدكتورة منى أبو الفضل
مقدمة:
شهدت الأمة العربية والإسلامية عبر نصف القرن الماضي حركة متصاعدة نحو إعادة ترتيب البيت، ومحاولة استعادة الذات ومكانتها ومكناتها على الأصعدة المختلفة. تحولت مشكلة النهضة بين نصفي هذا القرن
المنصرم من المأخذ الكلي وحمل همّ التخلف والتجزئة والتبعية جُملةً، إلى مستوى تقسيم الجبهة إلى مجالات ومساحات متنوعة ومتكاملة في آنٍ. فبرز إلى الساحة فرق ومجموعات متخصصة في مواجهة بُعدٍ ما من أبعاد الأزمة؛ تشخيصًا وتمحيصًا، وتقويمًا وعلاجًا، وكان في مقدمة هذه المفارز أولئك الذين لمسوا وطأة الأزمة الفكرية العاصفة بالعقل المسلم المعاصر، وفي قلبها أزمة علوم الإنسان والاجتماع وعلوم الأمة والعمران، والتي أضحت تُدْعَى بالعلوم الإنسانية والاجتماعية. فلقد شهدت العقود القليلة الماضية جهودًا كبيرة في فحص حالة هذه العلوم على صورتها التي تطورت إليها ضمن النسق المعرفي الغربي بخصائصه الوضعية والمادية والعلمانية، وسبر أغوارها، وتمييز المستويات التحتية والتصورات الخلفية التي تنتج هذه العلوم وتوجه مناهجها ونظرياتها، ولم يزل نهر هذا الكفاح جاريًا ويتجدد عطاؤه رغم المعوقات والتحديات.
وفي هذا المضمار الشائك كثيرًا ما تختلط المفاهيم وتتوه المعاني، حتى إنه لتلتبس في المقام المعرفي والعلمي مفاهيم كبرى مثل: “العلم” و”المعرفة” و”المنهج العلمي”، و”المنظور” و”النظرية” و”رسالة العالم”، و”مصادر المعرفة والتنظير”، وغيرها؛ ومن ثم تضطرب التناولات، وتتداخل الرؤى. وهنا تتجلى الحاجة الماسة إلى المجدّدين العلميين الذين بمقدورهم إعادة الأمور إلى نصابها، وتأصيل نظرية المعرفة على أسس راسخة جامعة بين الثابت والمتغير، والأصل والعصر.
وفي مقدمة هؤلاء المجدّدين، تأتي الأستاذة الراحلة الدكتورة منى أبو الفضل – أستاذ النظرية السياسية بجامعة القاهرة، وفيلسوفة العلم الكبيرة – وإسهاماتها في الإصلاح العلمي والفكري، لا سيما في الأسس الفلسفية والمعرفية التي تبنى عليها العلوم الإنسانية والاجتماعية، ومناهج نقلها واستعمالها في الدائرة العربية والإسلامية.
فقد جاءت إسهاماتها في وقتٍ سعت فيه العلوم عامة – والعلوم الاجتماعية والسياسية خاصة – لإعادة تعريف نفسها، سواء على مستوى المنطلق والموضوع أو فيما يتعلق بالمنهج والغاية، وهذا، بحثًا عن ضالّةٍ ما، وإن كانت العلوم الاجتماعية – والعلوم السياسية من بينها – قد بدأت تجد ضالتها هذه في إعادة الاعتبار للأبعاد القيمية والحضارية وما تتضمنه من عوامل الدين والثقافة، إلا إن د. منى قد رأت هذه الأبعاد على نحوٍ أكثر عمقًا في ضوء طرحها للمنظور الحضاري، فهي لم تتعامل مع هذه الأبعاد القيمية والحضارية باعتبارها من عوامل الصراع والهيمنة، وإنما عدتها أساسًا للتكامل والاتساق على المستويات الواقعية والنظرية. يتضح هذا من حرص د. منى على التأصيل المنهاجي لتناول هذه الأبعاد في كل فرعٍ علمي درسته، انطلاقا من مبدأ “التوحيد” الذي يُعَد التنوع مطلبًا مشروعًا بالنسبة له. ووفقًا لتأصيل د.منى للمنظور التوحيدي Tawhid Episteme فما يترتب على هذا المبدأ يتجاوز صلته التاريخية بعالم المسلمين، ليكتسب أبعاده المعرفية والاجتماعية والأخلاقية بالعالمي، خاصة وأنه مُجسَّد في منظومة عقدية على المستوى الفكري والتصوري، وفي نظام أخلاقي قانوني على المستوى الاجتماعي والتنظيمي. هذه بعض ملامح أساسية نجدها منطبعة في شتى أطروحات منى أبو الفضل.
وبالتالي، فإنه وإن كان من المؤكد أن تناول أعمال قامةٍ علمية كالأستاذة الدكتورة منى أبو الفضل ليس بالأمر اليسير، إلا إن الأمر قد يكون أيسر إذا ما كانت هذه الأعمال قد صيغت على نحوٍ منظومي كما الحال الذي هو عليه عطاؤها العلمي، والذي من أهم سماته:
– التزام منهاجية محددة ومرنة في ذات الوقت.
– المزج بين الخبرات الذاتية والموضوعية.
– حضور رؤية نقدية موضوعية.
– اتصال مستمر مع الواقع.
هذه السمات التي تمنح هذا العطاء القدرة على التجدد والتواصل مع مختلف التوجهات العلمية.
وسيتم تناول هذه المنظومة الفكرية على النحو الآتي:
إبحارًا في عالم عطاء منى أبو الفضـل نقسم الرحلة إلى مرحلتين: – أولاهما تتضمن القسم التأصيلي حيث نبدأ – أولاً – بالتطرق لرؤيتها لمعنى المنهاج والمنهاجية، هذه الرؤية التي وإن كانت قد تبلورت مع تأسيسها للمنظور الحضاري، إلا أنه من المؤكد أنها كانت حاضرة لديها قبل ذلك، ثم يتم التعرض – ثانيًا – لعملية تأسيس المنظور الحضاري ذاتها، فمصادر التنظير الإسلامية والتي تُمثل حجر الأساس بالنسبة لهذا المنظور.
– وفي المرحلة الثانية يأتي القسم التطبيقي ويشتمل على ركنين مهمّيْن: حيث نحاول – أولاً – الوقوف على أبرز إسهاماتها في حقل العلوم السياسية على وجه الخصوص، والتي تُمثل “العلم الوطن” بالنسبة لها. وقد تميز إسهامها في داخل هذا المجال بالموسوعية في ذاته، فإلى جانب كونها أستاذًا للنظرية السياسية في المقام الأول وما ارتبط بذلك من إسهام امتد إلى النظرية الاجتماعية ككل، فقد كانت لها إضافات ضافية في مختلف فروع علم السياسة الأخرى، لا سيما فيما يتصل بدراسة النظم السياسية (والنظم العربية منها تحديدًا)، كما أن لها إسهامها الخاص في مجال العلاقات الدولية والتي كان أبرزه ما يتعلق بمفهوم “الأمة القطب” وتناول وضع الأمة الإسلامية في النظام الدولي، إلى جانب رؤيتها للعلاقات بين العالميْن الإسلامي والغربي.
ثم يأتي – ثانيًا – اهتمامها بقضايا المرأة من منظور حضاري، وقد مثلت أفكارها في هذا الشأن انعكاسًا لرؤاها على صعيد كلٍ من النظم السياسية والعلاقات الدولية، فهي تعتبر أن حال المرأة يُعد مؤشرًا على أوضاع النظم والمجتمعات في جانب منها، وكذا فإن طبيعة الاهتمام بقضاياها والجدل حولها بمثابة ركنٍ أساسي في التفاعلات ما بين العالمين الإسلامي والغربي، ولا ينفصل عن ذلك تأكيد د. منى على أن “الأم والأمة صنوان”.
هذا وقد كان لائقًا أن نستهل باستعراض للسيرة الذاتية لأستاذتنا، غير أن عيشها حالة الجهاد العلمي واستغراق هذه الرسالة لحياتها العلمية والعملية يجعل الوصل بينهما أولى على نحو ما سنحاول في الأسطر التالية.
- · القسم التأصيلي:
أولاً- في المنهاج والمنهاجية:
إن الوعي المنهاجي بالنسبة إلى د. منى إنما هو ضرورة، ولكن أي منهاج وأية منهاجية؟
المنهاج هو الطريق الموصل للغاية. وتتحفظ د. منى على المنهاج في شرعة العصر، والذي تُعرِّفه بأنه الأخذ بالأسباب الوضعية المادية التي يتوصل إليها العلم والمبنيّ على الظن، والعقلُ المركَّبُ على الهوى، من أجل إصلاح الأمر. هذه الحالة التي تتفق عندها مع قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُون﴾ (البقرة: 11)(1).
وبالتالي، فإن هذا الإصلاح المنشود لن يُدرَك، فتدعو د. منى إلى كسر أسر هذا المنهج بالتوجُّه إلى منهج يُستمد من الحق، ويُؤسس على العلم الذي علّمه العليم، يكون موردًا لليقين، وتستقيم به مساعي الإصلاح.
وهنا بدا كأننا إزاء نسقيْن ترصدهما د. منى كما يلي: نسقٍ حضاريٍّ يقوم على محصلة العلم الظني والهوى ويتبعه بمناهج وضعية، ونسقٍ حضاريٍّ قوامه العلمُ الحقُّ والهدى، وتتبعه مناهجه التي تسترشد بمنابع الحق، وتتقدمه نظم التآلف والتعارف التي تقوم عليها شرعته. هذا النسق الثاني والمفتقَد هو ممكن وإن لم يكن متاحًا، وقابل للتحقق في ضوء ما توافر له من وعي وعزم وسعي(2).
وتحذر د. منى كل أمة تضيع منها الشِّرعة وتغيب عنها الغاية، وكذا كل أمة انقطع فيها المنهاج عن مورده، فمثل هذه الأمة التي تصطنع المورد عند كل باب، ستُرد في النهاية مدحورة مخذولة.
وهذا ما يصدق لديها على الأمة الإسلامية: خير أمة أخرجت على أكمل شرعة وأتم منهاج، حيث تخلت أو تاهت عن الشرعة والمنهاج في ظل تشابك دروب الحياة وتعاقب ظلمات الخطب، لاهثةً وراء أسباب العزة في غير ما أنزل الله، فما كان إلا أن انتهي بها المطاف لأن تقف ملومة مذمومة، حتى إذا استفاقت من فتنتها وأدركت أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، أخذت تجِدّ في تغيير ما بنفسها وعساها أن تدرك شيئًاً مما فاتها، لتعود هي بالمورد تتصدر قافلة الحضارة. ولكن هيهات الرُّجعى دون الاعتصام بالشرعة والتذرع بالمنهاج(3).
هذا في معنى المنهاج وضرورة الوعي به والسعي له. أما المنهاجية فإن د. منى اعتبرتها مفهومًا يتسم في ذاته بقدر غير قليل من الغموض، وإن كان يشير بشكلٍ عام إلى كيفية تناول الأمور، وكيفية الخروج من التركيز على الماهية إلى الآلية. فتعرّف المنهاجية بأنها “علم بيان الطريق والوقوف على الخطوات… أي الوسائط والوسائل التي يتحقق بها الوصول إلى الغاية على أكمل وأفضل ما تقتضيه الأصول والأحوال، وإن كان الطريق قد يطول وتعتريه الكثير من المزالق والعوارض”، وهنا تكون المنهجية مصدرًا لابتغاء الرشد.
تؤكد د. منى أنه وبقدر ما تحيط به المنهاجية من علم الطريق، وبيان الوصل، وبقدر صحة منطلقاتها وسلامة وجهتها، يكون قيامها مقام المرشد الأمين، والدليل الذي يعرِّف كيفيات المسار وفن البلوغ، من خلال تحديد المراحل والتمييز بين المستويات والتحقق من علامات الاستدلال عند المفارق وإدراك مراجع الاتصال، بحيث يُمكِّن السالك من التزام جادة المسار وتعرف مناكب الاستدراك، فالمتابعة واللحاق(4).
إلا أن د. منى حرصت على توضيح شتى المعاني التي قد يُثيرها مفهوم المنهاجية عند إطلاقه في العلوم الاجتماعية، فأشارت إلى أنه ينطوي على عدة معان؛ فقد يُقصد به مناهج وأدوات البحث، أو آليات التعامل مع المصادر وطرق الاقتراب من الظواهر، كما أن هناك معنى آخر يرتبط بكيفية بناء العقل، وكيفية توظيف/ إيجاد كل من اللغة والوسائل التي تمكّن من نقل الفكر إلى الأكاديميا، وبناء جماعة علمية تتواصل في عمليات توليد المفاهيم ونقلها وتشكل قاعدة جديدة للتراكم الأفقي والرأسي، قاعدة ليست معلوماتية بل علمية أكاديمية، وهذه العملية تطلق عليها د. منى مفهوم “تأسيس المدرسة”، هذا المفهوم للمنهاجية هو أحد العناصر التي انطلقت منها د. منى في عملية تأسيس “المنظور الحضاري” من واقع تدريسها مادة النظم السياسية العربية(5).
ومن تحرير مفهوم المنهاجية تأتي قضية المفاهيم، فإن د. منى تعتبرها اللبنات التي تؤسِّس منها المنهاجية، وبالتالي فإنه ما من عمل منهاجي، إلا وتكون عملية “تأصيل المفاهيم” قوامه، وهذا من خلال عمليات البحث والتنقيب والتخريج فيما هو متاح ومتداول من المفاهيم، لأجل التحقق منها وتنقيحها. وتصف هذه العملية في مجال بناء المفاهيم بأنها تقع في مقام الفروض، لاسيما إذا ترتب على غيبة مفهومٍ منها ثغرةٌ في صرح الأمة وعقلها(6).
أما الأطر المرجعية أو النسق القياسي والنماذج التحليلية وغيرها من التركيبات التي يمكن استخدامها عند مراحل مختلفة في العمل الفكري الإنشائي، فتعدّها د. منى بمثابة اللحمة والعصب والخريطة للمنهجية، فهي تتيح وضع المفاهيم في مواضعها، فتخرجها من قوالبها المنفصلة وتوصل فيما بينها على النحو الذي يُشغِّلها في اتجاه معلوم لتحقيق القصد من المنهجية.
وإذا كانت د. منى تؤكد أن “الإطار المرجعي” يُقدِّم الضابط الناظم للمفاهيم، وأن دعائم الإطار تقدمها المفاهيم، فإنها توجز الاختلاف الأساسي بينهما في نقطتين:
أولاهما – أن عملية بناء المفاهيم تقتضي القدرة على التدقيق في الجزئيات، مما يتطلب مهارات تحليلية معينة، على خلاف مقتضيات بناء الإطار المرجعي إذ يكون التعامل فيها منذ البدء مع الأعمدة والهيكل وأوتاد الهيئة والبحث عن خطوط الترابط الأفقية والرأسية.
الفارق الثاني يتعلق بنطاق النظر، ففي حالة بناء المفاهيم تشَبِّه الباحثَ بالخبير في معمل الفحوص الطبية والذي يمسك بالمجهر فاحصًا للعينة، والتي هي في هذا السياق: اللفظ أو الاصطلاح، أما في مجال الإطار المرجعي فإنه يقف موقف الراصد للقبة السماوية عامدًا إلى استيعاب أكبر مساحة ممكنة من الرؤية لئلا يغفل عن ورود أي إشارة قد تحمل ما يُشكّل بُعدًا في البنيان أو مدخلاً إلى الهيئة، وهذا دون أن يُستغرق في التفاصيل، ثم يُرسل النظر باحثًا عن الأنماط التي تتولد عن ارتباط أجزاء الهيئة، وفي كل مرة يزداد مرانًا واستنارة فيزيد ملامح إطاره تبيانًا؛ مستجليًا للكليات ومفرعًًا للجزئيات التي تعتبرها د. منى “كليات أدنى” أو بمثابة كليات على مستوى الجزئيات.
الغرض مما سبق لفت الانتباه إلى حقيقة مهمة تعتبرها د. منى “عقدة المنهجية”؛ إذ عليها يتوقف مصير التوجه في قضية المنهجية، خاصة مع الانتقال بإسلامية المعرفة من الغاية إلى المسعى في لحظة زمنية فارقة. وقد تمثلت هذه العقدة المنهجية في القدرة على الاستيعاب العملي للفارق بين العمليتين المشار إليهما آنفًا؛ إذ إن الاختلاف إنما هو اختلاف نوع وليس درجة.
وهنا ترى د. منى أن لنا في تراثنا الفكري، إذا ما أحسنّا تناوله، ما يساعدنا في مجال “بناء المفاهيم”، بينما يختلف الأمر فيما يتصل “ببناء الأطر المرجعية”؛ ولذا أكدت على أهمية الرجوع إلى مصادر الخبرة الحضارية للأمة الإسلامية والمستمدة أساسًا من القرآن الكريم والسنة النبوية، هذه المصادر التي سيتم تناولها لاحقًا(7).
الجديد والجدير بالتنويه فيما تقدمه د. منى عن المنهاجية والمفاهيم والإطار المرجعي، هو وصلها العميق بين هذه الدوائر الثلاثة ودفعها قضية “المنهج” العلمي إلى موقعها الأليق والأكفأ؛ بتحليلها إلى عمليتين تنظيريتين متكاملتين: إعادة بناء مفاهيم كل حقل علمي على المستوى الجزئي، تضافرًا مع إعادة تشييد الإطار المرجعي أو الرؤية الكلية المؤطرة لهذا الحقل. لاشك أن هذا العمل يجعلها في صدارة التجديد المنهجي الذي يمهّد الأرضية لعمليات تأصيل وتفعيل في علوم الأمة والعمران، من نوعية الصناعات الفكرية الثقيلة. ولقد تجلى هذا التمهيد فيما لحقه من تأسيسها لإطار نظري علمي صار يعرف بالمنظور الحضاري، والدراسات الحضارية في العلوم السياسية.
ثانيًا- في تأسيس المنظور الحضاري:
لم يكن “المنظور الحضاري التوحيدي” لدى د. منى ضربًا من الخيال، أو أمرًا من اليوتوبيا المنفصلة عن سياقات العلم والواقع، إنما كان نتاج خبرة أكاديمية واعية تستحق أن تُجدل في تاريخ العلم، حتى إنها تصف الخوض في هذه الخبرة بأنه بمثابة إحياء ومعايشة لسيرة ممتدة، سيرة حقل وسيرة علم وسيرة ذاتية أيضًا، وهي توجز ذلك بأنها: “سيرة علم وعالِم في آنٍ واحد”.
وتمتد هذه الخبرة بدايةً من تدريسها مادة النظم السياسية العربية في العام الدراسي 80/ 1981، حيث الإرهاصات الأولى لميلاد المنظور الحضاري، وحتى عام 2008 حيث فارقت دارسيها ومريديها إلى خالقها. إلا أنه يجب الانتباه إلى أن هذه الفترة قد شهدت عدة مراحل في تطور حياة “المنظور الحضاري”: بداية من التساؤلات المنهاجية المفضية إليه وتأسيسه تحت عنوان “المنظور التنموي التكاملي”، وحتى تأسيس ما يُمكن أن يُطلق عليه حقل أو مجال “الدراسات الحضارية” والمستمر في الاتساع أفقيًا ورأسيًّا إلى يومنا هذا.
فقد شهدت فترة تدريسها لمادة النظم السياسية العربية تساؤلات منهاجية مهمة مثلت الومضة التي انبثق عنها البحث عن “المنظور الحضاري”، من قبيل التساؤل حول الكيفية التي يتم بها دراسة وتدريس النظم السياسية العربية؟ ولماذا هي على هذا النحو؟ إذ كانت دراسة النظم العربية حتى أواخر السبعينيات تقع بين حقلين رئيسين، هما: حقل دراسات المناطق، وعلم السياسة المقارنة الأمريكي، علمًا بأن علم السياسة الأمريكي قصير الذاكرة وليس له علاقة بمنظور له عمق، أما علم السياسة الأوربي فقد ارتبط بخبرة حضارية مختلفة تمامًا(8).
وليكن البدء في تناول هذه الخبرة والمسيرة العلمية بالتعرف على ماذا تعني د. منى أبو الفضل بالمنظور الحضاري كمفهوم، حتى يتسنى الانتقال بعد ذلك إلى عملية “إبداع المنظور”، والتي كانت خبرة تدريس النظم العربية من أهم العوامل المحرّكة لتفعيلها.
فبالنسبة إلى مفهومها للمنظور الحضاري، فإنه يجب أولاً التطرق إلى أمرين، هما:
– لماذا اختارت مدخل “المنظور”؟ Why Paradigms? ، هذا السؤال الذي طرحته على نفسها في إحدى كتاباتها، وقد أجابت بأن المنظور من شأنه تحديد ما الذي يقع في نطاق كل علم وما الذي لا يقع، وهذا يصدق بالتبعية على “علم السياسة”. كما أن المنظور يُمكِّن من التحليل الدقيق لأي قضية؛ حيث يشير “المنظور” إلى مجموعة من الأسئلة الكلية النهائية التي تنتظم في منظومة من عدة عناصر: الأنطولوجي (ماهية الوجود)، الإبستمولوجي (أصول المعرفة والمعرفة الصحيحة وغير الصحيحة)، الإكسيولوجي (معايير القيم التي على أساسها تؤسِّس الأحكام على الصلاح والفساد)، الإسكاتولوجي (قضية الزمان، والحياة وما وراءها، والغيب والشهادة).
ولذا، فهي تشبّه عدم القدرة على تعريف المنظور في حقلٍ ما بالذهاب في رحلة دون مرشد، فبدون هذه الخريطة التي يُحددها المنظور للعلم تضيع الكثير من الخبرات والجهود(9).
هذا في معنى المنظور أما مفهوم “الحضاري“ فلقد أضفت د. منى معانٍيَ مختلفة على هذا المفهوم؛ إذ توضح كيف أن الفترة عشية عام 79/ 1980، شهدت تيارات المد القومي فالإقليمي فالقطري، ولم يكن مفهوم “الحضاري” عامةً حاضرًا على أي مستوى.
هذا وإن كانت بعض الكليات – ومنها كلية دار العلوم – تدرس مادة “حضارة إسلامية”، إلا أن ذلك كان مختلفًا عن غايتها في إدماج مفهوم “الحضاري” في الأكاديميا، فالمسألة بالنسبة لها لم تكن تهدف إلى تدريس النظم العربية على خلفية لوحةٍ جدارية تسمى “الحضارة العربية”. ولكن د. منى دفعت بشكلٍ كبير إلى تجاوز الاستخدام المتعارف عليه لكلمة “حضاري” إلى استخدامه من أجل تأسيس نسق فكري معرفي يرتبط بتحليل الظاهرة الاجتماعية؛ حيث يمثل هذا النسق نظامًا منهاجيًا متكاملاً قابلاً لأن يُوظف ويُطبق لدراسة – ليس فقط الظاهرة السياسية – بل سائر أبعاد الظاهرة الاجتماعية العمرانية، وتفعيل فكرة “الحضاري” في مفاهيم وأطر مرجعية ومناهج دراسية لإدخالها إلى حيز الأكاديميا، على النحو الذي يُسهم في جعل “المنظور الحضاري” “مدرسة” -حسبما وصفته د. منى- تتعدد فيها المفاهيم والمداخل وقد تحقق من هذا شيء ملحوظ.
ومن ثم فإن المنظور الحضاري بالنسبة إلى د. منى يشكل إطارًا معرفيًّا تتولد ضمنه المناهج، ويمكن من داخله توظيف مناهج قائمة واستنباط أخرى جديدة دون القيام بعملية تكييف ترقيعية مع الخارج(10).
وجدير بالذكر أن المنظور الحضاري بالنسبة لها لا يعني المنظور الإسلامي فقط؛ بمعنى أنه لا يصلح للتطبيق فقط على ظواهر أو مجتمعات إسلامية. فبالرغم من أن هذا المنظور يُستقى من المصادر المعرفية الإسلامية التي طالما ظلت بعيدة عن التفعيل في المجال العلمي الحيوي – والتي سنتناولها فيما بعد- إلا أنه يتجاوز هذه المرحلة ليكون بديلاً للتعامل مع أزمة الأكاديميا العالمية الناتجة عن تطبيق النموذج الحداثي. فالمنظومة المعرفية التوحيدية التي يقوم عليها هذا المنظور تحمل إمكانات وقدرات عالية لإحداث التكامل بين التطورات المختلفة داخل العلم وفي الحركة والممارسة أيضًا(11).
وهنا يكون الانتقال إلى الجزئية الأخرى المتعلقة بعملية إنتاج/إبداع المنظور، والتي جاءت في إطار حالة العلم/ العلوم بشكلٍ عام، فقد أدركت د. منى مفهوم الثورة العلمية التي تحدث عنها “توماس كون” في أوائل السبعينيات، والنتائج التي توصل إليها من خلال دراسته لتاريخ العلوم الطبيعية؛ إذ شكك في التصور القائم على أن التقدم العلمي يأخذ شكلاً خطيًا، وهو بذلك يشكك في موضوعية العلوم الطبيعية التي كانت العلوم الاجتماعية حينذاك تسعى للتأسّي بها، ذلك الإطار الذي ظهرت فيه المدرسة السلوكية في العلوم الاجتماعية وبينها علم السياسة.
وقد دفعها ذلك إلى إعادة النظر والدراسة في جميع ما تعلمته من قبل من زاوية المنهاجية، للتخلص من أسر وقيود الطريقة التقليدية في دراسة العلم ولتخرج من مجال المفردات contents إلى الملامح الخارجية continual، فتضعها في إطار البرادايم(12).
وقد سبقت الإشارة إلى جدْل د. منى حياتها وعالمها الخاص على رسالتها العلمية ومسيرتها العملية، ولقد تبدت هذه الحقيقة في هذا المقام. فقد استبطنت د. منى هذا المنطق في تأملها لسيرتها الذاتية سواء على المستوى الشخصي أو الأكاديمي، حيث البحث عن أسباب النقلة النوعية في الرؤية الكلية Paradigm Shift.
فأما خبرتها الذاتية على المستوى الشخصي، فقد كانت نشأتها -وحسبما وصفتها- في تقاطع حضارتين هما الإسلامية والغربية، إذ نشأت في أسرة تجمع بين العلم والدين من جانب، بينما كانت النشأة الفعلية على أرض أجنبية هي انجلترا التي رحلت إليها ولم يتجاوز عمرها الستة أشهر، فكان أول احتكاكها بالعربية مع القرآن الكريم الذي اعتبرته حصنَها، وقد تعلمت من هذا أنه عندما تحيطنا التحديات في وسطٍ ما، فإن ردّ فعلنا يتوقف على ما لدينا من مخزون.
ومثل هذه التحديات قابلتها على صعيد العلم كما قابلتها على صعيد الحياة(13).
وعلى المستوى الأكاديمي وخبرتها مع دراسات النظم العربية -كما سلفت الإشارة- جاء سعيها لمراجعة الخط المألوف في هذا الصدد، بالرغم من أن تكوينها العلمي وبحثها للحصول على درجة الدكتوراه كان في إطار ما أسمته “العلم المعتاد” Normal Science. فقد نبع تفكيرها في المنظور الحضاري في هذا السياق، عن يقين وإيمان بأن هناك مصادر وخبرات مخزونة في تراثنا وغير موظَّفة، مصادر ارتبطت بالحضارة الإسلامية إبان سيادتها كحضارة رائدة، هذه المصادر التي يُشكل غيابها خللاًَ سواء في دراسة وفهم الواقع أو محاولات تطويره.
وهذه الأمور مجتمعة جعلت د. منى تعيد التفكير بجدية في حالة “النظرية الاجتماعية العامة” ودواعي التجديد فيها بحثًا عن بديل كليّ شامل لا يتوقف عند دراسة النظم السياسية العربية أو حتى العلوم السياسية فقط.
بدأت د. منى إسهامها في هذا الشأن بمراجعة ونقد النظرية الاجتماعية المعاصرة، حيث رأت أن ادعاءات عالمية المشروع الحداثي لهذه النظرية بها الكثير من المبالغة، وهذا نظرًا لواقع ميدانها المعرفي المشروط بقيوده التاريخية وتحيزاته الثقافية. وبالتالي اعتبرت المناخ مهيأ لمثل هذه المبادرة النقدية؛ إذ إن التناقضات الناجمة عن عدم كفاية المعرفة الاجتماعية الغربية وقصور مناهج التعامل مع الظاهرة الاجتماعية يُلقي بظلاله على مصداقية العلم من حيث ارتباطه الواهي بالواقع، بينما المحك لعلم اجتماع جديد يكمن في قدرته على تناول الأبعاد المتشابكة والمركبة لميدانه، ولا سيما أن الخبرة البشرية ذات بُعد عالمي، وفي نفس الوقت تتم هذه الخبرة في إطار من الخصوصيات الثقافية في انسجام مع مبدأيْ المشترك الإنساني والتنوع الحضاري.
ومن ثم كانت الضرورة لإعادة بناء النظرية الاجتماعية بعيدًا عن سيطرة المنظومة المعرفية الوضعية. وقد كان السبيل لذلك هو إعادة طرح هذه النظرية من منظور “الأنساق المعرفية المتقابلة” تمهيدًا للبحث في الرؤية البديلة التي من شأنها إثراء حوار الثقافات في عصر تجتاحه العولمة(14).
ولما كان النظام المعرفي التوحيدي هو البعد المفتقَد في النظرية الاجتماعية في ظل سيطرة النظام المعرفي التجريدي أو العلماني، كان من المهم أن تستعرض د. منى الخصائص الرئيسة لكلٍ منهما. إذ شكلت متوالية هذين النموذجين أرضية لنموذجين ثقافيين أساسيين متجاورين، هما على الترتيب: النموذج الثقافي الوسطي Median –Culture –Type، وهو الجامع للمتقابلات حول ميزانِ حُكْم يضبط العلاقة بين النسب والمقادير، وبين الكل والجزء، والمطلق والمقيد، والثابت والمتحول، والآخر هو النموذج الثقافي المتأرجح Oscillating Culture Type والذي يتذبذب بين طرفي نقيض هما: عالم الروح وعالم المادة ومتوالياتهما، في غيبة عن المعيار الموضوعي وميزان الاعتدال.
ولعل من أهم ما أشارت إليه د. منى فيما يتعلق بهذا الأمر: تجاوز التنميط المكاني المعهود في تصوير العلاقة بين هذين النموذجين والحضارات التاريخية، حيث أقرت أنه لا يوجد تلازم حتمي بين نموذج الثقافة الوسطي والعالم الإسلامي/ المجتمعات الإسلامية، وكذلك بين الغرب التاريخي وثقافة التأرجُح. فأي تلازم موضوعي في هذا الإطار هو من قبيل التزامنات العارضة، فلكلٍ من النموذجين المجرّديْن مبادئ معينة قد تطبق بأي مجتمع(15).
ولما كان النموذج الثقافي المتأرجح هو المسيطر والسائد في خطاب النظرية الاجتماعية المعاصرة، فإن ما يتضمنه من أنماط إدراكية وسُلَّمٍ قيمي على نحو يولد إحساسًا بالوفرة والتنوع، يعد وهمًا، بل إنه في حقيقته خليط مشوش أُحادي الجانب.
قامت د. منى بمراجعة النظرية الاجتماعية المعاصرة في ضوء المقابلة بين النموذجين المتأرجح والوسطى، من خلال تحديدها الافتراضات والممارسات الأساسية في هذه النظرية ومراجعة ممارستها في مجال البحث. ونبسط الكلام قليلاً في هذه الجزئية؛ لما تمثله من تمهيد أساسي لعملية البناء الفكري لدى أستاذتنا من جهة، ولما تكشف عنه من تميزها وتعمقها في فهم العقل العلمي الحديث في الغرب.
فتناولت د. منى المقدمات الفلسفية لعلم الاجتماع المعاصر، والمؤسَّسة على النموذج الثقافي المتأرجح، على نحو يُمكّن من فهم الطابع التجريبـي أو الوضعي المنطقي للعلوم الاجتماعية. حيث استعرضت كيف تأسس نموذج مثالي للمعرفة والعلم هوالنموذج التجريبي، الذي أضحى الخيارَ الوحيد وما دونه هو مجرد أطلال تنتمي لعصر ما قبل العلم. وقد أرجعت نجاح هذا النموذج – بجانب الجهد العلمي- إلى النقد الذاتي الذي مارسته الفلسفة، إلى أن تم إعلان نهايتها حين ضاق نطاقها وانفصلت عنها العلوم الاجتماعية لتصبح علومًا قائمة بذاتها.
وقد أرجعت نهاية الفلسفة إلى النزعة التجريبية البريطانية التي شككت في المعرفة الميتافيزيقية، واعتبرت أن التجربة هي مصدر جميع المعارف. فهناك “لوك” الذي أنكر مقولة الأفكار الفطرية، معتقدًا أن جميع المعارف تأتي عبر الحواس. و”هيوم” الذي أنكر أن تكون لدينا معرفة بأنفسنا أو بالله؛ لأن الانطباعات الحسية لا تعطينا مثل هذه المعرفة، حتى إنه لم ينجُ من نقد “هيوم” سوى المنطق والرياضيات. كما رأى “جون ستيورت مِل” أن المنطق ليس استنباطيًّا بطبيعته بل استقرائي، حتى إن محاولات “كانت” لإنقاذ العلم، وإن أنقذت المعرفة من شك “هيوم” المطلق، إلا أنها أعادت تشكيل موقفه الشكلي إزاء الأمور الغيبية.
وهكذا ضُرِبت القيود على العقل البشري باسم العلم، وأضحت مفاهيم المادة والسبب والوحدة هى المسيطرة على الخبرة، إذ استبعدت الغيبيات واختصرت المعرفة الأخلاقية إلى مجرد مواقف انفعالية فردية.
أيضًا، فإن الاعتماد على المعايير المعرفية للعلوم الطبيعية – كما سلف الذكر- أدى إلى أن تستجيب التخصصات الاجتماعية للنموذج البيولوجي، وذلك حتى عمل أنصار وحدة العلم Unity of Science على تقليص جميع العلوم لتصبح مجرد فيزياء(16).
ولا شك في أن مثل هذه الرؤى المختزلة كان من شأنها إضفاء الروح الصراعية على العلوم الاجتماعية، بل إن الرؤية الكلية السائدة أضحت تنظر إلى الصراع باعتباره لحمة النظام الاجتماعي، فيما أطلق عليه “الداروينية الاجتماعية”. وتستدل د. منى على ذلك من بوابتين: الأولى- “التحليل النفسي”، والذي يمثل بوابة النظرية الاجتماعية؛ حيث يلخص مبدأ الحياة بأصوله الفرويدية بوصفه صراعًا مستمرًا على مختلف المستويات. أما البوابة الأخرى وهي بوابة “الاقتصاد”، فقد عرفت بأنها ميدان الندرة، ومن ثم فهي مسرح صراعي تنافسي، بكل ما لذلك من آثار في الممارسة السياسية والاجتماعية.
وترى د. منى أن هذه الرؤية الصراعية إنما بلغت ذروتها مع الصبغة الماركسية للنظرية الاجتماعية، حيث الصراع الطبقي هو المجسد للمادية التاريخية.
وهذه الروح الصراعية وما تشمله من تحدٍ وتمرد، تؤكد د. منى أنه من شأن عالم الاجتماع أن يجدها متجذرة في الينابيع الأسطورية بالعهود اليونانية والرومانية القديمة، علما بأن المسيحية في الغرب قد استُوعبت في هذه المضامين، ومثال على ذلك اختلاف كلٍ من النصوص التوراتية والإنجيلية عن النص القرآني حول قصة معصية “آدم”.
وقد انتقدت د. منى بالتبعية النسق المفاهيمي للنظرية الاجتماعية؛ إذ إنه يوجه لتعزيز الصراع على نحوٍ تعسفي، حتى صار عبئًا على النظرية الاجتماعية ذاتها. فهذا النسق متأصل في ثنائيات استقطابية ترتكز على ديناميات الصراع والمواجهة، وتضع د. منى في مقدمة هذه الثنائيات ثنائية “القيمة والحقيقة”؛ إضافة إلى ثنائيات الواقع والمثال، والمادي والروحي، والمقدس والمبتذل، والنظرية والتطبيق، والعقل والوحي، (وهي تعتبر على جانب آخر أن ثنائية “الذات والموضوع” أهم من كل ما سبق)، تلك الثنائيات التي أدت إلى مزيد من الاختزال والتبسيط.
ومن أهم مؤشرات هذا الاختزال في النظربة الاجتماعية، ما تبديه علومها من قدرة فائقة على التحليل مع غياب قدرة موازية على التركيب. أيضًا من أهم هذه المؤشرات التصنيف الغربي للحقب الزمنية، حيث عرض “كونت” لعصور التطور الإنساني منتقلا من المرحلة الدينية إلى العقلانية ثم العلمية. وهناك أيضًا صورة “الإنسان البطل المستغني”، والتي تمثل سر الزلات التي يتعرض لها السعي المستمر لإقامة المجتمع الفاضل. وهذا ما نراه في الليبرالية والماركسية على السواء(17).
ولكن ماذا عسى أن يُقِدم نموذج الثقافة الوسطيّ المنبثق عن النظام المعرفي التوحيدي في هذا الإطار؟
تؤكد د. منى على أن عملية إعادة البناء الجذري للنظرية الاجتماعية تستدعي تجاوز الدائرة المغلقة للوضعية وثقافتها، مما يعني اللجوء إلى أنماط معرفية بديلة مثل نمط الثقافة الوسط، حيث إن الحيوية الحضارية عندما تصدر عن النموذج الثقافي الوسطي غالبًا ما تكون آثارها مناسبة للكل المجتمعي، وذلك إنما يأتي في ظل المرجعية الراسخة التي يقدمها الوحي.
ولتوضيح هذا الأمر، طرحت د. منى فكرة “المساقط الثقافية” – والتي تعد من أهم ما قدمت في هذا الصدد- وفيها تحدد لكل نمط قياسي فحواه وتماسكه ووجهته في مسقطه أو قِبلته. وهي تُعرِِّف هذه المساقط أو المرتكزات بالنظر إلى موضع الوحي من تقاطعات الثقافة المعنية، فالثقافة التي يحتل فيها مفهوم الهداية الصادرة عن أصلٍ علوي موقعًا مركزيًا، هي ثقافة ذات مسقط رأسي، أما الثقافة التي ليس فيها لمثل هذا المحور سوى موقع هامشي أو عَرَضي، فهي ثقافة ذات تعلق أفقي تتمحور حول “المطلق الذاتي”.
ولما كان لتمايز المساقط في كل منظومة دلالته، فإنه نظرًا لمحورها المتعالي المتمثل في الوحي – كمصدر تكوينى مجدد لرحابة المعرفة والعلم والقيم – فإن منظومة الثقافة الوسط بمقدورها أن تتلافَى تجاوزات المقالات المعهودة (من الاسمية والمعرفية والمكانية والزمانية) على النحو الذي تفتقده ثقافة التأرجح المحدودة بتعلقاتها الأفقية التي تجعلها مرتهنة بما سبقت الإشارة له من إنسان مطلق في نموذجٍ حبيسِ المسطحات الزمانية والمكانية والعلم المقتصر على ظاهرة الحياة الدنيا.
وبالتالي، فإن حدود المعرفة ذات الدلالة الاجتماعية في حالة نموذج الثقافة الوسط تمتد لتشمل الدنيا والآخرة، والروحي والمادي، والغيب والشهادة وما بين العالميْن. ويرتبط هذا الأمر برؤية كلٍ من النموذجين للتاريخ، فبينما يكون له نهاية وشيكة في النموذج المتأرجح، فهو لا يرى وجودًا لمثل هذه النهاية الاعتباطية على الجانب الآخر(18).
لذا، فمن شأن الخطاب الذي ينطلق من هذه المسلمات للنموذج الثقافي الوسطي أن يفتح آفاقا أوسع للبحث الاجتماعي وأن يستكشف له المزيد من الإمكانيات، كما بمقدوره أن يمهد لاستخدام أكثر رشادة وأصلح أخلاقيًا لموارد الحياة، فضلًا عن تعزيز أدوات البحث الاجتماعي ومعاييره.
فالثقافة الوسطى يمكن أن تقدم أكثر من المبادئ المطلوبة لنقد النظرية الاجتماعية، فهي تتجاوز النقد إلى التأليف والتركيب. وهذا بفضل عدة عوامل تؤهلها لتلك المهمة، حيث التصور الشامل المرتبط بنسقها الثقافي، والذي تعززه الطبيعة المتكاملة لأخلاقها العلمية. وتضرب د. منى مثالاً على ذلك بقيمة “العدالة” في النظام المعرفي التوحيدي، إذ هي ليست مجرد قيمة شكلية، كما هو الحال في نسختها البراجماتية بالغرب، وإنما هي قيمة جوهرية لا يمكن تقليصها تعسفيا(19).
ومثال آخر أوضح يتعلق بمفهوميْ الصراع والاختلاف من منظور الثقافة الوسط، فقد حرصت د. منى على بيان كيف أن انتقاد النمط الوسطي قيام النظام المعرفي الحديث على الصراع لا يعني أنه يغرق في رؤية يوتوبية للانسجام والوفاق الأبدي، ولكن الصراع وفق هذه الرؤية ينجم عن الظلم الفادح وليس عن مجرد التنوع والاختلاف، كما أن استمراره في النظام الاجتماعي لايعني أنه هو القانون.
وتستدل على ذلك بمعنى لفظة “دفع” في القرآن الكريم، إذ تمثل هذه اللفظة مفهومًا كليًا يشتمل على طائفة كبيرة من المعاني التي لا يمكن أن تُترجم أيٌّ منها ترجمةً تجعله مطابقًا لمعنى “الصراع” فى النمط الثقافى الغربي(20)، والأمر نفسه بالنسبة لمفاهيم أخرى كالقوة، وفي هذا، تؤكد على أهمية دراسة “النماذج التاريخية” التي تُوضح هذه المفاهيم ودلالتها وتبايناتها بالنسبة إلى تقديم الطرح التوحيدى البديل.
هذه النظرة بإمكانها أن تمد مجالات البحث فى ميدان الدراسات الاجتماعية بالمعنى والغاية، وبالمحتوى والوجهة التى تفتقد إليها حاليًا، أيضًا يمكن أن تخلى الساحة من فوضى الأبحاث المتشرذمة، والتي لا تقدم سوى المزيد من البيانات. كما أن هذا الأمر يتيح مراجعة جذرية لما يتم من أبحاث حول المجتمعات الإسلامية عامة و”الشرق – أوسطية” منها بشكل خاص، والتي أخفق القائمون عليها فى إدراك ما يجرى في هذه البقعة من العالم نتيجة المنظور أحاديّ الجانب الذي يدور البحث الأكاديمي الغربي في إطاره.
وفى هذا السياق من المهم الإشارة إلى موقف د. منى من إسلامية المعرفة بشكل عام. فهي تراها باعتبارها قوة كبرى للتجديد على المسرح العالمي المعاصر، إذ إنها تعبير دقيق عن العديد من الهموم. فقد وُلِدت هذه الحركة كحركة ثقافية واسعة النطاق تسعى إلى استعادة حيوية الأمة، لاسيما فى ظل الجمود الفكري الذي نعيشه إضافة إلى مأزق الإنسان المعاصر فى الشرق والغرب. وقد أدى ذلك إلى تقدير متنامٍ لأهمية التنسيق والتنظيم والمأسسة لهذه الحركة (21).
وترفض د. منى المجادلات الساذجة الزاعمة بأن كل ما تتطلبه عملية أسلمة المعرفة هو إضافة جرعة من القيم الإسلامية- والتى تشكل فى التحليل الأخير مبادىء أخلاقية كلية وعامة- إلى أي منظومة معرفية قائمة لصبغها بهذا التوجه، إذ على سبيل المثال لا يعدو علم الاجتماع الإسلامي أو علم الاقتصاد الإسلامي – وفق هذا الرأي – سوى توليفة من الفرع العلمي الراهن مضافًا إليها بعض القيم وكلمة “إسلامي” لاسمه. كما انتقدت أي اتجاه يتجاهل الأبعاد الاجتماعية والثقافية لمنظومة المعرفة الإنسانية، حيث إن مثل هذا الرأي لا يعير الاهتمام للبعد البنيوى لمنظومة معينة للمعرفة. وهو في الوقت الذي يدافع فيه عن اعتبار القيم من مقومات تلك المنظومة، يُهوِن من دور تلك القيم فى بنائها(22).
وإنما هي ترى الأسلمة كعملية لها متطلباتها، وأهم هذه المتطلبات أن يُدرِك علماء المسلمين ما عليهم من مسئولية أخلاقية، فهم مطالبون في إرسائهم لأسس الثقافة الوسط في العلم بأن يقوموا بذلك من منظور رسالي. ويرتبط بذلك كون عملية إسلامية المعرفة لا تقتصر على الأمة الإسلامية فقط(23). ومن ثم تحدثت عن أهمية تعرُّف العلماء على الثقافات المختلفة.
وفى ضوء ذلك، ومع دعوتها إلى القيام بعملية عالمية لإعادة التأهيل الثقافي، كان طرحها لما أسمته “اقتراب المغايرة المعرفية” الذي قدمته باعتباره اقترابًا لتقصي الحقيقة فى العلوم الاجتماعية فى حيز جديد من الوصل والتواصل المفاهيمي، حيث يتم دمج المعرفة بشكل نظامي يتبنى رؤية كلية للثقافة مع عدم ربط هذه المعرفة بثقافة معينة بشكل أساسي، إذ أدركت الخطر المتمثل فى “النسبية الثقافية”، والذى بمقدوره إبطال بعض المقدمات العامة التى يتحتم على حركة الأسلمة أن تتبناها(24).
ومن هنا كانت فكرتها حول “الأنماط الثقافية” التي تأسس عليها إسهامها وتجديدها في مجال النظرية الاجتماعية عامة والعلوم السياسية خاصة، حتى صار المنظور الحضاري قادرًا على أن يُوظف في معالجة ودراسة ظواهر عديدة، وأن يتكامل مع غيره في هذا الصدد(25).
ثالثًا- في مصادر التنظير الإسلامي:
ومن مدخل المنهاجية وإيقاظ الوعي المنهاجي، وفي سبيل تطوير بنية المنظور الحضاري لإعادة تشييد علوم الأمة والعمران، تعرضت د. منى لقضية مصادر التنظير الإسلامي، فرسمت خريطة محددة المعالم لها، مؤكِّدةً أن مصادر التنظير الإسلامي تتفاوت فيما بينها، سواء فيما يتعلق بقيمتها الذاتية أو موقعها من مجال وقصد البحث. ومن ثم رأت أنه من الضروري الإلمام بطبيعة هذه المصادر في ذاتها وفي العلاقات التي توجد بينها، بالإضافة إلى الوقوف عند خصائص كلٍ منها، هذه الخصائص التي تجعل لكل مصدر مدخله الخاص به. وهي تؤكد في نفس الوقت على أن استيفاء البنية المنهاجية في علوم الأمة تقتضي تضافر هذه المصادر جميعًا وفق رؤية منهاجية متكاملة(26).
وبناءً على هذا، وفي ظل احتدام جدلية العلاقة بين النص والواقع، فإن د. منى قد ميزت بين اتجاهين في التعريف بهذه المصادر. أما الأول، فيرى أن التراث الإسلامي يشمل النص الإسلامي الموحي المتمثل في كتاب الله وبيانه في سنة الرسول r، إضافة إلى سائر ما أنتجه العقل المسلم من خلال تفاعله مع هذين المصدرين الأساسيين إضافة إلى واقعه ولغته العربية. وترى أن أنصار مثل هذا التوجه إنما يغلب عليهم التأثر بالفهم الاستشراقي للتراث الذي درج على عدم التمييز بين النص المعصوم المحفوظ كالقرآن الكريم وما استند إليه، وهنا يوضع التراث في مقابل المعاصرة وكأنهما نقيضان.
أما الفريق الثاني، فهو الذي يضع مساحة فاصلة بين النص الموحَى – الذي لا يجوز إطلاق لفظة التراث عليه إلا بالمعنى اللغوي كما في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ (فاطر: 32) – وغيره مما هو نتاج العقل البشري، وهذا نأيًا بالوحي – قرآنًا وسنةً – عن الجدال الدائر حول التراث والمعاصرة(27).
وبالتالي فقد قسمت د. منى مصادر التنظير الإسلامي على النحو الآتي(28):
1- مصادر أصلية: وتشمل الوحي الذي على رأسه ومصدره الأول هو القرآن الكريم، وهو التنزيل المحفوظ للآيات البينات التي تم تدوينها لفظًا وحرفًا في صحفٍ مطهرة. أما المصدر الآخر للوحي فهو النبوة وما تشمله من الحديث الصحيح والسيرة الموثقة، والتي تأتي مبينة ومفصلة للقرآن الكريم. وهذان المصدران رغم ما بينهما من علاقة لا انفصام فيها، إلا أن لكل منهما منهجه وأدواته.
2- مصادر مشتقة: وتتكون من رافدين، أما الأول فيتمثل في التراث الحضاري بمختلف إبداعاته وفي مقدمته التراث الفكري والعلمي والذي هو حصيلة تفاعل الزمان والمكان. والثاني، هو الخبرة التاريخية ومحصلة تفاعل الأمة مع البيئة التي أوجدها الإسلام.
أ) مع المصادر الأصلية:
وبالنسبة إلى منهاجية التعامل مع المصادر الأصلية، فقد ركزت د. منى بشكلٍ أساسي على القرآن الكريم، باعتبار أن استبطان المعاني المتعلقة به لابد أن يمتد إلى التعامل مع مصادر التنظير الأخرى. وقد حرصت على تحديد خصائص “الخطاب القرآني”، وذلك على النحو الآتي(29):
– إن القرآن الكريم هو “خطاب” وليس مجرد نص، فنحن لا نرجع إليه بمثل ما يُفعل في الغرب تحت عنوان مراجعة النصوص بما فيها التوراة والإنجيل، ولكن من قبيل التدبر في آياته البينات.
– إن آيات القرآن هي موضع “البينات العملية” دون ما اقتصار على تجريد نظري.
– ولما كان القرآن خطابًا، فإنه يحمل عناصر العملية الاتصالية على النحو الذي يضمن له أداء رسالته.
ولما كانت هذه العناصر متكاملة هكذا، فإنه يُمكن تحليلها إلى مبنى ومعنى ومبعث ومقصد أو غاية. وهذا يجعلنا نتعامل مع القرآن كمصدر حيّ وحيوي في التأصيل لأبعاد المنهاجية المطلوبة، وهنا تكون هذه المنهاجية إزاء درسين: أولهما، في ضرورة تحقيق العناصر الاتصالية في مجالها، والتي هي من وجوه الكفاءة والفعالية المنهاجية، وثانيهما، هو أن المنهاجية التي تستأنس بالمصدر القرآني لابد لها وأن تولي اهتمامًا خاصًا ببعد المقاصد والغايات، ولابد من أن تكون في النهاية بمثابة مسلك تعبدي يسمو بمجال التخصص إلى مقام “العلم النافع”.
وإزاء هذا تنبّه د. منى إلى ملاحظة يجب وضعها في الاعتبار عند التعامل مع القرآن الكريم من موقع “الافتقار في مجال التخصص”، وهي(30):
أن هذه الحيوية القرآنية ترجع في جانب منها إلى الإعجاز البياني للقرآن الكريم، والذي يجمع بين خطاب النفس الإنسانية وخطاب العقل معًا، هذا التضافر الذي ينبغي أن تنطلق مناهجنا في التعامل مع الظواهر الاجتماعية منه؛ أي أن تتعامل مناهجنا مع الإنسان في وحدته المتضمنة لأبعاده المتنوعة. أما المناهج المتداولة فيجب التعامل معها بتحفظ لما تنطوي عليه من وقوع بين الإفراط والتفريط. فتمايز الخطاب القرآني يوجد نسقًا إسلاميًّا في المعرفة قوامه الوحدة والاتساق، بخلاف النسق السائد الذي سبق تصويره ضمن النموذج الثقافي المتأرجح.
ملاحظة أخرى غاية في الأهمية، وتتمثل في ضرورة الاعتبار لما في البيان القرآني من تكافؤ بين “مضمون الرسالة” و”غايتها”، فالقرآن لا يُعنى فقط بمجرد التلبيغ عن الحق والدعوة إليه، وإنما يعمل على إعادة تشكيل نمط الحياة لتخرج نمطًا فذًا من أفراد الأمة. وبالتالي فالمنهجية التي تتعامل مع هذا الخطاب لابد أن تتسم كذلك بالحركة، حيث إن مقصد التنظير الإسلامي ليس مقصد الفيلسوف الحكيم، ولكنه مقصد المجاهد الرابض على ثغرة من ثغور الأمة.
الملاحظة الثالثة- أنه ينبغي تجاوز النظرة الجزئية للقرآن الكريم وإدراك أن المتعة البيانية اللفظية لا يوازيها غير المتعة المعنوية البيانية، وهذا في نظرة كلية تعي الوحدة الموضوعية للخطاب القرآني انطلاقًا من الآتي(31):
– إدراك ما بين المبنى والمعني من تلاحم واتساق، فيجب عدم الوقوف على الجزئيات فقط، إذ إن من أراد التعمق في مقصد القرآن المعنوي، عليه أن يستوعب – قدر استطاعته- مقصد الخالق في النسق القرآني جملةً، حيث هناك علاقات لا يمكن كشفها إلا من خلال هذا المنحى الكليّ، حيث أنماط التجاوز والتقابل والانتقال من موضع لآخر.
– إنه إذا كان علماء الفقه قد بحثوا في القرآن الكريم والوحي جملةً لتخريج الأحكام الفقهية، فإن من هم في موقع التخصص الاجتماعي والإنساني الآن يبحثون فيه عن قواعد وأصول تنشئة الأمة بعد أن لم يبقَ سوى نواتها الأولى، مما يعني أن فقه العصر قد أضحى هو “فقه سنن الاجتماع”. ولذا، فقد دعت د. منى إلى مراجعة شاملة لمفهوم “فقه الأحكام”، حتى ننتقل بالأحكام إلى مقاصدها الشرعية، وبذلك تعتبر الأحكام وسائط فاعلة في تأمين حيوية الجماعة.
وهي لم تدَّعِ سعيًا لتفسير القرآن الكريم وهو له أهله -كما أشارت- إلا أنها ترى أنه – ونحن إزاء جهد تأسيسي وإنشائي في المعرفة المعاصرة – لا سبيل لنا سوى الرجوع إلى مصادر وجودنا الحضاري والكياني. وقد اتخذت د. منى العلوم السياسية مثالاً على ما تقصد وتريد، فتناولتها في إطار القضية التي عدتها القضية الأم في هذا المجال وهي قضية “السلطة” حيث تطرقت لأبعادها ومستوياتها.
– “الوسيط المنهاجي” الذي نستمده من القرآن الكريم ليقوم بربط المباحث المتفرعة في مجال التخصص بالحقل القرآني، إنما يوفر “الرؤية الكلية” المستمدة من طبيعة المصدر، وعلى النحو الذي يفرض المرونة والحيوية بالقدر الذي يتسع لمتابعة عوامل الدفع الحضاري. وبالتالي يقدم “الإطار المرجعي” الذي يحفظ وحدة فروع التخصص من جانب، وكذلك يُمكن من إقامة علاقات النسبة والتناسب بينها ويؤمنها من الانشطار إلى تفريعات بعيدة عن المقاصد والغايات.
وهذا النسق بجانب أنه متعدد المستويات والأبعاد، هو أيضًا متعدد المداخل، فهناك المدخل الفردي لتكوين الجماعة وهو ما استوجبه التتابع الزمني للقرآن، وهناك المدخل الجمعي الذي استلزمه تمام الرسالة واستقامة الجماعة التي خلفها النبي r لتكون علامة لبدء مرحلة جديدة في التاريخ الإنساني.
وهذا التمازج لا يقتصر على الكليات المعنوية وإنما نراه يتخلل التفصيلات والمواضع الجزئية، ويخرج بوسائط تُستمد من استقراء الخطاب القرآني إلى جانب الجماعة الأمة التي هي حجر زاوية في حركة الفعل الحضاري(32)، وهذا على النحو الذي يؤكد الوحدة الموضوعية في خطاب التنشئة القرآني، سواء على مستوى الكليات أو الجزئيات.
أما دعامات الإطار المرجعي الذي حددته للتعامل مع القرآن الكريم، فتتمثل في منظومة “مفاهيم محورية” أو “مفاهيم مركزية”، إذ إنها تمثل مركز الدائرة من المفاهيم الأخرى التي تتداعى وتتصل في إطار المفهوم الأم، وقد تناولت دعامات أربع لهذا الإطار، وهي(33):
1- عقيدة التوحيد، التي عليها قامت الدعامات الأخرى.
2- الاستخلاف، وهو مناط الخلق وغايته ومقياس الأمانة ومنطوقها .
3- الأمة، التي هي وعاء هذا الاستخلاف وأداته وقرار العقيدة ونبتها.
4- الشرعة، والتي تأتي لتؤمِّن للأمة وسائط بلوغ المهمة، وبها تكتمل المنظومة النسقية، ويستوى عليها الإطار المرجعي للتعامل مع القرآن الكريم ومصادر التنظير عامة.
وتسحب د. منى هذا الإطار المرجعي ليكون إطارًا مرجعيًا للفعل الحضاري، بما ينطوي عليه من أركان هذا الفعل، حيث إن لكل فعل حضاري (34):
– منظومة قيمية تشكل البواعث والمنطلقات والدوافع والأبعاد المعنوية لهذا الفعل وأهدافه، وهي عادة ما يطلق عليها: “الثقافة” .
– قاعدة بشرية تحمل هذه المنظومة القيمية وتتفاعل معها ومن خلالها مع البيئة عبر الزمان والمكان، وهذه هي “الجماعة” التي تحمل سمات مميزة أيًّا كانت تسميتها.
– مسالك ووسائل تصطنعها الجماعة وتتغير من حقبة تاريخية لأخرى. وقد تتفاوت فيها الجماعات بقدر تمكنها من بيئتها المادية، وما تدركه من الأسباب الفنية والعقلية.
إن أهم مصدر لتمايز هذا الفعل الحضاري إنما مرجعه إلى تمايز “المنظومة القيمية” المنبثقة بالأساس عن عقيدة “التوحيد”، إذ يكون التوحيد بمثابة الناظم والأساس الذي تنتظم حوله كافة المفاهيم الأخرى، والذي يتخلل مستويات “الإطار المرجعي”. ومن خلال هذا الناظم أيضًا يمكن توليد الأطر المرجعية الفرعية الأخرى على مستويات مختلفة والتحقق من اتساقها، سواء كان ذلك على المستوى الأفقي أي بين المستويات المختلفة، أو على المستوى الرأسي أي داخل كل مستوى.
تستكمل د. منى قضية التعامل مع المصدر القرآني بالانتقال من كلية وبناء الإطار المرجعي القرآني إلى جزئية التعامل مع “المفاهيم القرآنية” على مستويات ثلاثة(35):
– المستوى الأول: المفاهيم الكلية الإطارية، وهي التي تنطوي على المنظومة النسقية للفعل الحضاري الإسلامي.
– المستوى الثاني: سلسلة المفاهيم المحورية التي تنتظم في دائرة محددة من دوائر الفعل الحضاري. وهذا ما يُطلق عليه “مستوى التخصص” كعلم السياسة.
– المستوى الثالث: المفاهيم الفرعية التي يقتضي التخصص الانتقال إليها تعميقًا للمفاهيم الكلية(36). وقد ربطت د. منى خصائص هذه المفاهيم الإطارية بالخصائص العامة للمفاهيم الإسلامية من حيث إنها(37):
– وسيط للتأليف والتواصل بين مجالات الحياة المختلفة مثل مفاهيم: الشورى، البيعة، العقد.
– محتوى لقيم فاعلة.
– مصدر لتأمين قدر من التوازن داخل الجماعة لاستدراك الاختلالات التي تقع في مسار الفعل الحضاري.
– تعكس جملة التصور الإسلامي في بعده الحركي الأدائي.
وبالنسبة إلى التعامل مع الحديث النبوي الشريف، فبالرغم من أنها لم تستغرق الكثير في هذه المسألة، إلا إنها أكدت على عدة أمور في هذا السياق انطلاقًا من أثر الحديث النبوي في مدركات التناول والتناقل، وهذا بوصفه مجال رواية ودراية ومنهجية وأسوة وقدوة قبل أن يكون مجال نص حرفي بمنقوله وموروثه، وهذه الأمور هي(38):
– أنه إذا كان الحديث قد وصلنا في شكل نصوص اختلف في سياق منطوقها ومنقولها بقدر اختلاف المصدر والسند فيها، إلا إن معايشة الأمة لتراث النبوة جاء من خلال تمثل الأحاديث والسنن، ومدلولاتها الفعلية بالنسبة لواقع الحياة اليومية، فجاء أثر الحديث النبوي في تكوين ضمير المسلم العادي، ولم يكن بحال حبيس مجالس العلماء.
– إذا امتاز القرآن بالإطلاق، فإن السنة النبوية محاطة بالوحي وعصمة النبي r من جانب، كما هي محددة من جانب آخر بموقعها الزماني والمكاني في بيان التنـزيل، وكذلك بمكانتها في مواضع التأسي والاقتداء، وهي بهذا تجمع بين بُعدين، هما بُعد الإطلاق وبُعد النسبية، مما يجعلها حجر زاوية في المنظومة المعرفية الإسلامية، وعروة وصل بين المطلق القرآني والمتحول في عالم الشهادة.
ب) مع المصادر المشتقة (التراث):
وعن رؤيتها للتعامل مع مصادر التراث السياسي الإسلامي غير الأصليْن الكتاب والسنة، فإنها نبهت لتصور بديل لاستقراء واستجلاء مصادر الفكر السياسي الإسلامي لأجل تصحيح مسار ومناهج التعامل مع التراث الإسلامي والإنساني عامة، وهذا التصور حددت له قاعدتيْن منهجيتين فريدتيْن(39):
– أن البحث عن الحقيقة يبدأ من ركيزة وسطى، كما أنه لا ينطلق من مركز فراغ. وهذا الوسط تمثله د. منى بمركز لدائرة كونية ويمكن الانطلاق منه أفقيًا لتوسيع مجال الإحاطة بظواهر الكون، أو رأسيًا نفوذًا إلى باطن الظواهر.
– أن التقابل يستوجب الوعي بسنة التدافع، فلا يمكن اختزال التقابل إلى التناقض، كما أن التدافع يتسع ليستوعب الصراع كأحد الأشكال الناجمة عن التقابل دون مصادرة على الأشكال الأخرى لآليات التدافع كمعطى سنني لتيسير العمران في كل أحواله.
من هذين المعنيين يأتي النظر إلى العلاقة بين النص والواقع كعلاقة استيعاب وتجاوز، بحيث لا يكون هناك افتعال لتناقض، بل ترى د. منى أنه بالرجوع إلى مصادرنا المعرفية وتراثنا الفكري المتولد عن سياق الاحتكاك بها، يتبين أن المسافة بين النص والواقع من مقدمات الدافعية الحضارية، مؤكدة أن لا نص في فراغ ولا واقع مقطوع عن بواعث الرشد. فهذا هو الدرس الأول المستمد من تراثنا الفكري المستند إلى المعرفة التوحيدية.
تتناول د. منى التراث – مادةً وموضعًا – كطريق لمعرفة قابلية الأمة للحياة والتجدد، وبما يحمله هذا التراث من تراكمات الماضي ومؤشرات المستقبل. وقد تعرضت د. منى لعدة أمور جدالية مترابطة يُثيرها موضوع “التراث” والتي تراها موضع خطورة، وهي(40):
– بيئة وواقع ومنطلقات “خطاب التراث اليوم”، هذه المشكلة التي تراها ترتبط بواقع الصراع الحضاري المعاصر، وبموقع أمة الكتاب والشهود الحضاري – بما تمثله من تراث – من العالمية. وهي ترى في واقع الصراع الحضاري إشارة لطبيعة المواجهة بين حضارة الاستئصال والغلبة من جانب وحضارة التعايش عبر الاستيعاب والتجاوز من جانب آخر، وآثار ذلك على الموقف من التراث العربي الإسلامي. الأمر الذي يطرح علينا السؤال الآتي: هل سنجعل ما يجري موقفًا ممهدًا للترشيد ولوضع قضية التعامل مع التراث موضعها الحقيقي؟ لاسيما أن حَدّية واستقطابية الخطاب العربي حول التراث ناتجة عن واقع التحدي الحضاري الذي تعيشه الأمة.
إن ما سبق يؤكد الترابط المصيري بين هوية الأمة وتراثها ذاكرةً وتمثلاً وتطلعًا، إلا أن غفلة الخطاب العربي – كما اتضح- عن هذا الأمر أدى لأن تكون المواقف من التراث على طرفي نقيض. وقد رصدت د. منى بعض المفارقات التي تمخض عنها الخطاب العربي في هذا الصدد، وهي:
– أنه بغض النظر عن المنطلقات وتنوع استراتيجيات دعاة الحداثة ونقد العقل العربي، إلا أن هذه الجهود صبت في صالح إثراء خطاب التراث في الفكر العربي المعاصر، حيث الاتجاه إلى محاولات التأصيل وتجاوز الدوائر المغلقة في تناول الرأي الآخر، وربط الدوافع بدلالتها الإستراتيجية في إطارها الحضاري.
– أن زيادة الاستقطاب في خطاب التراث مع تصاعد حدة المواجهة الحضارية، وانتقال ثقل هذه المواجهة إلى داخل صفوف الأمة، أحدث نقلة نوعية في وعي الأمة في اتجاه إعادة ترتيب الأولويات وردّ الاعتبار لقضايا إصلاح مناهج الفكر، وتوظيف الأصول المعرفية في عمليات تحصين وتأسيس مناعة الكيان الحضاري للأمة وتأمين فاعليته التاريخية.
– أن نتائج فتح ملف التراث جاءت على نحوٍ مغاير للمقدمات، فمن أرادوا خيرًا بالتراث أضروه نتيجة ضيق الأفق، والذين أرادوا تحجيمه ساعدوا على نهوض أسس جديدة للمراجعة والنظر.
في ضوء ذلك تتناول د. منى منهاجية قراءة التراث، فتبدأ بنقد الأطر والمفاهيم التي وضعها الاستشراق لقراءة التراث الإسلامي في مجال الفكر السياسي إضافة إلى أدوات البحث ومناهجه، إذ إن هذه القراءة للتراث إنما كان منبعها منظور حضاري ومعرفي مغاير بل مناقض في كثير من الأحيان، فلم يُقرأ جُلّ تراث الفكر السياسي الإسلامي من منظور خاصٍّ أو لائق به، حتى إنه عند تأسيس الأطر المنهجية الخاصة للدراسات السياسية، لم يوجد سوى دراسات معدودة تناولت الفكر السياسي الإسلامي، وكان ذلك أيضًا من مداخل الاستشراق، وإن اختلفت محاور التركيز والتحليل لكل باحث.
ويمتد نقد د. منى أيضًا للآثار التي ترتبت على هذا التعامل مع التراث الفكري والسياسي والتاريخي، إذ كانت دلالات هذا الأمر الأشد فتكًا في روح الأمة ونفسية الجماعة وعقول مفكريها. الأمر الذي وصل إلى حد “فتنة التراث”.
إن كسر حلقة الاجترار السلبي لا يتأتى إلا من خلال استنباط “منهاجية” مختلفة ومتنوعة، مستوعبة للأصول المرجعية الحضارية، وتوظيفها في إعادة قراءة جامعة وناقدة تضع الجزئيات في إطار الكليات، تمهيدًا للترجيح والتنقيح، مما يُضفي أهمية خاصة لقضية “المنهاجية في التعامل مع التراث السياسي ومصادره”، ويجعل منها منفذًًا محوريًّا لتقويم استراتيجيات التدافع لأمةٍ تعثرت.
إنه بإعادة بناء علم السياسة – من منطلق استعادة القدرة على قراءة تراثنا وتراث الآخر من منظور المراجعات النقدية ووفقًا للمغايرة المعرفية – قد نجد أننا أقرب إلى منطلقات تحليلية خلدونية بعد تطويرها. فتضع د. منى ظاهرة نشأة الدولة ودواعيها وأطوارها ووظائفها وبنياتها في إطار ظاهرة “العمران البشري”، حيث تكون أكثر معنى على مستوى التنظير الفكري، وأقرب للواقع على المستوى الحضاري، وأنفذ إحاطة على مستوى المواقف العملية، من المدخل الاختزالي الذي يُقلص الاجتماع البشري إلى الوجود السياسي للجماعة كما هو الحال في الفكر اليوناني القديم.
إن الفكر العربي المعاصر الذي جاء وليد الواقع المزدوج من هيمنة الآخر واستلاب الذات الحضارية، قد حمل كل قسمات هذه النشأة، ومن ثم فإن فاعلية هذا الفكر في واقعه لم تكتمل شروطها وإن بدت تُدرَك بعض بوادرها. تنفي د. منى أي إمكانية للقيام بمراجعة جذرية للفكر السياسي الحديث دون التحرر من هيمنة التراث الغربي حتى يُمكن التحقق من نسبية هذا التراث من جانب ومن تمايز تراثنا من جانب آخر.
وبذلك تكشف د. منى أبو الفضل كيف أن مسألة مراجعة التراث، وخاصة تراث الفكر السياسي الإسلامي، تفتح أعيننا ليس فقط على مفاصل التواصل في الخطاب العربي قديمًا وحديثًا، ولكن أيضًا على ما بينه وبين العالمية المعاصرة من مداخل الاستيعاب والتجاوز.
وبهذه النتيجة تتكامل دائرة التأصيل والتنظير التي قطعتها د. منى أبو الفضل انطلاقًا من الوعي على أزمة الفكر والمعرفة والعلم في الدائرة العربية الإسلامية ومحضنها العالمي المعاصر، إلى مدخل التجديد في المنهج والمنهاجية، والغوص في إشكاليات النسق المعرفي المعاصر، فلسفيًّا ومعرفيًّا وقيميًّا وحضاريًّا، وعلاقةً بالكون والواقع والإنسان، لكي تنتقل إلى رسم مسار “النموذج البديل” ضمن ثقافة الوسط، وتوظفه في العلم الاجتماعي على محوريْ: بناء الأطر المرجعية، وبناء المفاهيم الحضارية، وعلى أساس هذين المحورين تشيّد رؤيتها الدقيقة لشروط التعامل المنهجي مع مصادر التنظير الإسلامي، بصفة عامة، ولإعادة بناء العلوم السياسية والعمرانية بصفة خاصة. لقد تجلى هذا التأصيل والسفر التنظيري في محطات تطبيق عملي نتطرق إلى طرف معبر عنها في الجزء التالي.
- · القسم التطبيقي:
أولاً- في مجال العلوم السياسية:
أ) النظم السياسية العربية:
لقد مثلت خبرة د. منى في تدريس النظم السياسية – كما سبقت الإشارة – البوتقة العملية التي خرج منها المنظور الحضاري، ويتم تناول إسهامها في هذا المجال على النحو التالي:
موضع دراسة النظم السياسية العربية من المنهجية العلمية في ضوء المنظور الحضاري. وقد أجملت د. منى ذلك في النقاط الآتية(41):
– إذا كانت التنمية الشاملة هي في طليعة أهداف النظم السياسية والمجتمعات العربية، فإن الحاجة إلى توظيف المعرفة والعلم لتحقيق هذا الهدف تزيد من قيمة العلم كأداة للتوجيه والتأثير.
– إذا ما وُضع هدف التنمية الشاملة في إطار المنظور الحضاري، فإنها تكون وسيلة للتطوير الحضاري، ويُصبح على العلم توفير أدوات لمواجهة آفات التخلف الحضاري.
– التطوير السياسي يُشكل أحد أبعاد التنمية الشاملة من جانب، وهو أحد مقدمات وشروط التحول الحضاري من جانب آخر.
– المنهجية العلمية مدعوة للقيام بدور محوري في رأب الصدع التقليدي في الكيان الحضاري العربي والمتمثلة في الفجوة بين النظام والمجتمع، وذلك من خلال تقديم الوعي المفهومي الذي تجمع عليه النخب والجماعات الكبرى على اختلافها.
وفيما يتعلق بالتأصيل لدراسة النظم العربية، فقد أرادت د. منى به التأكيد على عدة أمور أهمها(42):
– التعرف على معنى “الدراسة المنهاجية للنظم” في إطار التمييز والمقابلة بين التناولات المختلفة.
– التعرف على “أصول الدراسة المنهاجية”، والربط بين أهداف المنهج الكلي والطرق المؤدية إليها.
– الربط بين دواعي الموقف موضع الدراسة وبين ما يُحققه التأصيل المنهاجي من أدوات للتعامل مع هذا الموقف.
– الربط بين خصائص الحضارة العربية وخصائص التأصيل المنهاجي، وإبراز حقيقة الفراغ المنهاجي بالمنطقة الحضارية العربية وعواقبه.
– التحقق من شروط ملء هذا الفـراغ: كأن يقوم على جهود ذاتية، وأن تكون منطلقاته حضارية أصيلـة؛ كي تتحقـق له إمكانيـة الإبداع والإسهام العلمي الإيجابي على المستوى الإنساني العالمي.
– بيان دلالات التمايز الحضاري وأثره وانعكاساته في مجالات البحث العلمي والتأصيل الفكري، فمثلاً من منطلقات الحضارة العربية الإسلامية أن التمايز والاختلاف ليس للاستعلاء والتفاخر كما شأن الحضارات الوضعية.
وقد ميزت د. منى موضع التأصيل المنهاجي من التأصيل الحضاري كما يلي:
1- قياس فاعلية النظام:
من أهم المفاهيم التي تدخل بها د. منى إلى النظم السياسية العربية مفهوم فاعلية النظام ومفهوم الشرعية. والفاعلية تعني مقدار ما يُحقق النظام من تأمين لحيوية الجماعة ككيان اجتماعي حضاري، علمًا بأن السمة العامة للنظم العربية في ضوء المنظور الحضاري هي: عدم الفاعلية.
وهذه الفاعلية من أهم مؤشراتها: مدى تماسك النظام، والقدرة على الحركة والإنجاز، وصحة النظام، وصلاحيته. وقد حددت د. منى ثلاثة مستويات لقياس هذه الفاعلية، مع الأخذ في الاعتبار طبيعة العلاقات الخارجية للنظم، وهذه المستويات هي:
أ- القياس على النظام السياسي ذاته من حيث قدرته على الاستمرار والبقاء وفرص وجوده.
ب- القياس على النظام السياسي في مواقف محددة عند التعامل مع المجتمع أو البيئة.
حـ- القياس على موقف النظام السياسي من المجتمع.
2- تحديد شرعية النظام:
حيث ترتبط الفاعلية بعناصر الحركة الرشيدة، والتواؤم مع المنطلق المرجعي، والحصول على الرضا العام الداخلي، والاعتراف الخارجي بالحضور لا مجرد الوجود.
وفي هذا الإطار صاغت د. منى مجموعة من الفرضيات هي:
– أنه كلما تعاظمت آثار المؤثرات الخارجية، ارتفع النظام في مقاييس فعاليته وحيويته وتضاءل هامش المؤثرات الخارجية بالنسبة له.
– كلما ارتبط تماسك النظام البنياني بتلاحم أعضائه/متغيراته الذاتية وانبثق عنها، ارتفعت قدراته الأدائية وارتقى في مقاييس الفاعلية والشرعية.
– التبعية في الموارد والإمكانات، ويُمكن الاستمرار في فرض هذه التبعية من خلال التضليل والتعتيم على مراكز الوعي الذاتي، وإبطال مفعول الإرادة الذاتية، مما يدخل في نطاق ما يُعرف بالغزو الثقافي.
– تصب مخرجات النظام في المحيط الإقليمي والدولي في صالح التوازنات القائمة أو في إطار التوازنات التي تخطط لها القوى المهيمنة.
وفي ضوء هذه الرؤية، قدمت د. منى تصويرًا لأهم خصائص كل من النظم والمجتمعات العربية الانتقالية.
فبالنسبة لخصائص النظام العربي الراهن ونظمه القطرية، تذكر(44):
– تعدد النظم السياسية.
– تباين القواعد التنظيمية من قُطر إلى آخر، وداخل نظام الحكم الواحد.
– ميوعة القواعد والإبهام والخلط، وازدواج القواعد السلوكية للنظم
– افتقار التكامل بين القاعدة الاجتماعية للنظام والقاعدة السياسية مع سيادة التجزئة والتفتُت الاجتماعي والسياسي.
وهذه الخصائص تعد أعراضًا ذات دلالة مزدوجة للوضعية الانتقالية للمنطقة، وهي في جملتها أسباب ونتائج لافتقاد عنصر الشرعية للدولة في الواقع العربي المعاصر.
أما عن سمات المجتمعات العربية المعاصرة كمجتمعات انتقالية فتتمثل في أنها:
– تحتوي على جذور تطورها.
– تعيش في علاقة “تبعية”.
– مؤثرات الحركة فيها تأتي بالدرجة الأولى من العلاقة بالغير، أي إن سمتها عدم التكافؤ. (الاستعمار من المنشطات الحيوية في هذا الإطار)، علمًا بأن الانتقال من أولوية التفاعلات الخارجية إلى أولوية التفاعلات الذاتية تعد من مؤشرات الاستواء والتكامل (أي النضوج والتطور الإيجابي). كما أن تفاوت الآثار الناجمة عن الاحتكاك بالغير ينعكس على تفاوت معدلات “النمو” ونوعية الاستجابة لهذه المنشطات.
وهذه الأوضاع هي ما دفعها لتوصيف الواقع العربي بأنه يُعاني “أزمة“. وقد تناولت معنى “الأزمة” ودلالاتها على أساس أن(45):
الأزمة بمثابة وضع تتفاقم فيه الحمولة على النظام على النحو الذي يُفضى إلى شل قدرات النظام على التفاعل في بيئته كمقدمة لانهياره.
إن الأزمة هي حالة اجتماعية وإنسانية تبرز الأبعاد الذاتية. وبخلاف الكوارث الطبيعية بما يترتب عليها من آثار إنسانية اجتماعية، فإن الأزمة تنطوي على فرضية تتمثل في معضلة أخلاقية- معنوية. ومن مؤشراتها:
– عدم الوعي بالمسائل الملُحِّة.
– عدم الاكتراث بالمسائل المَلحة.
– الانقياد للتيارات المساندة دون وعي بعواقبها.
– التعثر في مواقف اندفاع بدلاً من الدفع والمدافعة، وإصابة أجهزة الدافعية في النظام جملة.
وفيما يتعلق بالواقع العربي على وجه الخصوص، فإن من أهم مظاهر الأزمة:
– وجود هوّة بين الإمكانيات المتاحة لتحقيق الوجود الحضاري والإنجازات الفعلية في هذا المجال.
– اتساع الفجوة بين القدرات الكامنة للوجود العربي والواقع العربي المؤثر وقدراته الفعلية.
– امتداد التناقض بين التطلعات العربية والواقع العربي.
مجالات الأزمة:
وتعدد هذه المجالات على النحو الذي يجعل منها في الواقع العربي المعاصر ظاهرة شاملة لكافة أوجه الحياة العامة والخاصة في المجتمع بحيث توصف بأنها “أزمة حضارية”، وهي:
– “حضارية” بمعنى أنها تمس مواطن الذاتية العربية في خصائصها التكوينية وفى مسارها.
– “حضارية” أيضًا بالمعنى الذي يُنبئ عن تخلف الكيان الاجتماعي العربي وعجزه عن التعامل – من موقع التمكن – مع مقومات الفترة التاريخية الراهنة.
ومن خصائص هذه الأزمة: التداخل والتشابك والتداعي بين حلقاتها.
ومن دواعيها: أنها تستوجب مدخلاً منهاجيًا يتجاوز الوقوف عند تحليل الجزيئات ليستوعب الظاهرة في تركيبها وتعقيدها، وكذا يستوعب ظاهرة الأزمة في الواقع العربي المعاصر في جوهرها الحضاري وفى سياقها التاريخي الشامل دون أن يقف عند أعراضها الطارئة والتفصيلات الشكلية والتفريعات السطحية.
وبالتالي، كان رفض د. منى المنهاجيةَ التقليدية في دراسة النظم السياسية العربية. وكان من أهم ما انتقدته تلك المسألة المتعلقة بتعريف هوية المنطقة العربية ذاتها، إذ رأت أن تناول قضية تحديد ماهية المنطقة هو جوهر “التأصيل المنهاجي لدراسة النظم السياسية العربية” من ناحية، وأهم تطبيقات “المنظور الحضاري” بوصفه اقترابًا منهاجيًّا يتعلق بتحديد الهوية من ناحية أخرى.
وقد فندت المقاربات التقليدية في تعريف هذه المنطقة والتعامل معها، وأرجعت بذور هذه المقاربات ورواجها لما تعانيه المنطقة من أزمات – على النحو المشار إليه- حيث فقدانها فاعليتها في محيطها الحضاري الأوسع، الأمر الذي يخالف طبيعة العروبة الرافضة للتحجيم، حيث هي كيان حضاري ينمو في إطار استيعابي لكافه الأجناس والألوان بعيدًا عن قيود الجغرافيا، ولا يؤثر في ذلك ما إذا كان محكومًا من قبل الآخرين أم لا، إلا أنها ترى أنه منذ بداية القرن العشرين فإن النخب السياسية والمثقفين الدائرين حولها قدموا محاولات التكييف الرامية إلى إيجاد هوية جديدة لهذا الكيان، وأهم هذه المحاولات(46):
1-التكييف القومي للمنطقة (القومية العربية): حيث في ظل ظروف تاريخية معينة تخص الأطراف الثلاثة بالمنطقة، (العرب والعثمانيين والأوربيين) بدأت محاولات تعريف العرب قوميًا على مستوى الحركة والفعل إضافة إلى تطورات حركة القوميين الأتراك، ثم اندلاع الحرب العالمية الأولى وما ارتبط بها من استغلال لخريطة التحالفات.
ويمكن القول تبعًا لذلك إن حركة القومية العربية برزت لدواعٍ تتعلق بالعنصر الخارجي وارتباطات النظم السياسية السائدة. إلا أن هذا الخطاب القومي لم يكن الأقوى على الساحة الفكرية في ذلك الحين، حيث كانت دعوات المفكرين إلى إقامة الخلافة العربية أو إصلاح الدولة العثمانية حاضرة، ومن أمثال هؤلاء: عبد الرحمن الكواكبي ومصطفى كامل.
ولكن لظروف سياسية معينة تقدم الفكر القومي في الخمسينيات والستينيات وأوائل السبعينيات في القرن المنصرم، إلا أنه لم يتمكن من التعبير عن هوية المنطقة للأسباب الآتية:
– أن القومية لا تمثل عنصرًا تكوينيًا في كيان هذه المنطقة، ولم تكن أحد أسس نشأتها أو دوافعها.
– أن هذه الأمة لم يثبُت رجوعها إلى أصلٍ عرقي واحد، وإنما العرب شعوب متنوعة في أنماطها الحضارية، وحّدتها اللغة أولاً والعقيدة ثانيًا. وإنه بالرغم من أن الأولى قد حُمِّلت على الثانية، إلا أنها لم تنسخ العقائد الأخرى، بل كان هناك إطار حضاري استوعب جميع الاختلافات.
– ولما كان كذلك، فإن الدعوة القومية حملت من هُمْ من أصول غير عربية كالزنوج والبربر على الارتداد التاريخي للبحث عن هوية أخرى طالما أن المعيار هو الجنس والعرق.
وتأسيسًا على ما سبق، فإنه إذا كان للدعوة القومية أثر توحيدي تجميعي في أوروبا، فإنها أدت إلى أثرين متضادين في المنطقة العربية:
أولهما- تفتيت الدولة العثمانية التي مثلت رابطة سياسية – ولو على المستوى الشكلي- بين الشعوب الإسلامية.
ثانيهما- تفتيت الأمة العربية ذاتها الى كيانات متعددة فى صورة دول تحكم علاقاتها عوامل الصراع أكثر من دوافع التعاضد، بل إن هذه الدول أيضًا أصبحت تعاني ويلات النـزاعات الانفصالية.
إن القومية في معناها العربي تتسم بالإبهام والغموض، فهناك تناقض ذاتي في المفهوم حيث الاختلاف حول تحديد ماهية “العروبة”، فضلاً عن كيفية الجدل حول تحديد العلاقة بين العروبة والإسلام.
2- التكييف الإقليمي للمنطقة: النظام الإقليمى العربي: وهذا الاقتراب مبنيٌّ على مسلمات الاتجاه السابق ولكنه ينظر إلى المنطقة من خلال أبعاد ثلاثة وهي:
– أنها تشكل إقليمًا جغرافيًا واحدًا وهذا تأثرًا بانتشار مفهوم دراسات المناطق.
– أن الوطن العربي يتكون من وحدات أساسية هي الدول، وهي ما ينطلق منه هذا الاتجاه فى تكييف المنطقة.
– هذه الدول تربطها علاقة تنظيمية في منظمة إقليمية عامة الاختصاص (هي جامعة الدول العربية). وقد تراجع هذا الاتجاه تراجعًا كبيرًا أمام محاولات التكييف الأخرى. وقد قامت د. منى بنقده وتقويمه من خلال النقاط التالية:
– إن هذا الاقتراب يقوم على أسس غير راسخة فى واقع المنطقة تاريخيًّا أو تكوينيًّا. فالبعد الجغرافي ليس محددًا أساسيًا لها، فلا يمكن الجزم بأن المجتمعات العربية تنتهى بانتهاء الحدود العربية كما حددتها الخرائط السياسية التى رسمت وفق موازين قوى ومصالح معينة.
– أنه تكييف شكلي يقوم على اعتبار أن الوحدات النظامية المكونة للأمة، هي الدول المستحدثة، الأمر الذي يتناقض مع المسلمات الفكرية لهذا الاقتراب ذاته، إذ إن الأصل في هذه الدول الزوال لقيام الوحدة العربية.
– أن إنشاء أربعة تجمعات عربية فى نظم إقليمية فرعية قد يضع تحفظات على هذا الاقتراب، حيث إن هذه التجمعات من الممكن أن تنفصل عن الكيان العربى إذا تعارض هذا الأخير مع مصالحها.
– أن الجامعة العربية التي هي محور هذا التكييف، قد ثبت فساد الأسس التي قامت عليها، فهي في جوهرها المعرفي جامعة تفتيتية، حيث هي جامعة بين دول مستقلة كل منها تتمسك بسيادتها.
– مفهوم “النظام الإقليمي”، إضافة إلى أنه غير جامع وغير مانع، فإنه يمكن أن يوظّف من إرادات مضادة للإرادة العربية، فهو على سبيل المثال يُخرج من الأمة كيانات تمثل عمقًا استراتيجيًا لها مثل: إيران وتركيا.
3- تكييف المنطقة من منطلق نسبتها للآخر (الشرق أوسطية):
هذه المحاولة منشؤها أفكار تتصل بالتمركز الأوربي، فهي بخلاف المحاولتين السابقتين لا تستند إلى أي أسس في واقع الأمة، ومن ثم كان من أهم الانتقادات التي توجه لهذا التكييف:
– أنه لا ينطلق من الخصائص الحضارية والثقافية للمنطقة، أو من طبيعتها البشرية، أو من شكل نظمها السياسية، وإنما يقدم رؤية الآخر للمنطقة وتكييفه لها وفق مصالحه الاستراتيجية.
– هذا التعريف يساوى بين إيران وباكستان وتركيا وبين إسرائيل كدول جوار جغرافي، في تجاهل لمعنى العمق الاستراتيجي الحضاري الذي تمثله دول كتركيا وإيران، على عكس إسرائيل التي هي كيان استيطاني مصطنع.
– أن هذا المفهوم يتعامل مع المنطقة باعتبارها تفتقد الهوية والوحدة الثقافية، ويرى فيها خليطًا من القوميات والأعراق، فيما يُطلق عليه “المجتمع الفسيفسائي”.
– من تداعيات هذا المفهوم: أنه يرسخ مفهوم الكيانات الصغيرة العرقية أو الدينية ويدفع بالمنطقة في اتجاه المزيد من التفتيت.
تعريف المنطقة العربية من منظور حضاري:
ولذلك، كان من أهم عناصر المنظور الحضارى الذى قدمته د. منى لدراسة النظم السياسية العربية، سعيها لإعادة تعريف المنطقة العربية وفق هذا المنظور. وهذا التعريف الحضاري للمنطقة العربية ينطلق من النظر للعروبة بوصفها رابطة ثقافية حضارية تمثل آصرة التحام بين الشعوب والأفراد في هذه المنطقة. ومضمون هذه الرابطة مضمون ذاتي غير قابل للملء بالقيم العابرة. فهذا المضمون تم تشكيله وإنضاجه عبر خبرة حضارية ممتدة بدأت بالهجرة النبوية الشريفة وانتقال العرب إلى أمة ذات رسالة ووظيفة استوعبت مختلف الثقافات.
وهذا الإطار الثقافي الذي شكله الإسلام لم يحافظ فقط على العقائد الأخرى، بل دفعها للحضور.
ولكن إذا كانت العروبة ذات مضمون إسلامي، فإن الإسلام يتجاوز ذلك إلى محيط أوسع هو أمة الإسلام، وبالتالي فإن تناول الأمة العربية يجب أن يكون مع الإلمام بعلاقاتها بمحيطها الإسلامي.
ومن ثم فإن تعريف المنطقة العربية من منظور حضارى يتجاوز التعريفات السابقة ويستوعبها فى نفس الوقت، وهو ما أرجعته د. منى إلى الأسباب الآتية:
* أن التعريف الحضاري يعد التعدد والتنوع عنصرًا أساسيًّا في نظرته إلى المنطقة، حتى إنه يعده من عوامل الوحدة والتماثل.
– هذا التعريف يتجاوز الانطوائية، ويجدد الجسور التي تكسب الإطار الحضاري عمقًا حضاريًّا استراتيجيًّا.
– وهو يُعيد تقييم المعايير والأوزان في ضوء الخصائص التكوينية للكيانات البشرية التي انصهرت في بوتقة نوعية مشتركة، وبالتالي لا يسوّي بين تركيا وإيران وبين إسرائيل.
– هذا المنظور يسدُّ الثغرة التي تقوم عليها إسرائيل كدولة، ويُواجِه احتمالات تقسيم المنطقة إلى دويلات.
– وهو يبرز تمايز المنطقة العربية وما لها من دور محوري في إطار حضاري أصيل.
وقد كان التعريف الذي طرحته د. منى للكيان الاجتماعي الحضاري العربي هو: أنه قاعدة جماعية بشرية ذات أبعاد معنوية مادية مركبة، تجتمع حول أصول عضوية وحيوية، في بيئة زمنية ذات امتدادات مكانية، يتم خلقها من خلال التفاعل والتواصل عبر المواقف المشتركة(47).
ومع ذلك، فإن د. منى تدرك ما لحق بالمنطقة من تغيرات، الأمر الذي ناقشته في كتابها المعنون “الإسلام والشرق الأوسط” حيث ناقشت الفرضيات الخاطئة الناتجة عن القراءات غير المنضبطة لخريطة المنطقة، والتي أدت إلى تشويه نظامي لمعالمها الأساسية. ومن الخرافات التي تأيدت جراء ذلك، والتي نوقشت ضمنًا فيما سبق، أسطورة عدم ترابط المنطقة وانعدام هويتها، وكأنها عَرَض من أعراض التاريخ والجغرافيا، ولذا فقد ناقشت كيفية استعادة البعد الإسلامي، مستدلةً بالتأمل في الخبرات الماضية والتطرُّق للصور المتعددة للإسلام(48).
ويعدُّ مفهومُ “الكيان الاجتماعي الحضاري” المدخلَ التفسيري الذي أبدعته د. منى أبو الفضل لدراسة “النظم السياسية العربية”، فهو يقدم المداخل المتنوعة والمتكاملة لفهم الظواهر السياسية في المنطقة العربية وشرحها وتفسيرها، خاصة مع ارتباطها بمنظومة “المفاهيم” التي تعتبر أيضًا من أهم ما قدمت د. منى في دراستها للنظم السياسية العربية.
ومما يشار إليه أن هناك من هذه المفاهيم ما صكّته د. منى في هذا المجال، وكان مستجدًا بالنسبة لحقل دراسات النظم السياسية عامة. ومن بين هذه المفاهيم: “البيئة الحضارية“، وهي البوتقة التي تتفاعل فيها مكونات الكيان الاجتماعي حتى تأخذ صورتها النهائية، وتتكون من عناصر الفعل الحضاري المادية والمعنوية. ويوجد الكيان الاجتماعي الحضاري العربي تحديدًا في بيئة إسلامية، للوحي فيها موضع متميز، فهو عامل ثابت تكويني، وعنصر حيوي تاريخي، ومكوّن متجدد يرتبط بفاعلية الكيان الاجتماعي لإعادة التشكيل والتطوير الذاتي والتكامل. وتحكم علاقة الكيان بالبيئة الحضارية عوامل محددة تشكل في مجموعها مفهوم “الفاعلية الحضارية”، وهي الحالة التي يوجد عليها الكيان في لحظة معينة.
أما مفهوم “الدافعية الحضارية“، فإن مدلوله بالنسبة للواقع السياسي العربي يتحدد في ضوء أمرين، هما:
تكييف وتطوير قاعدة السلطة، وتكييف وتوجيه الصراع بالمنطقة. وقد قابلت د. منى بين “منطق الجدلية المادية” و”الدافعية الحضارية” في تحليل التطور والنظرة إلى الحركة التاريخية على النحو التالي:
وجه المقارنة |
الجدلية المادية |
الدافعية الحضارية |
1- المصدر الأساسي للحركة |
المادة هنا هي أساس الحركة على نحوٍ يؤصل للحتمية في الحركة، فلا يكون هناك أي اختيار للإنسان في الإبطال أو الإنشاء. وبالتالي، لا يترتب أي موضع للمسئولية، لا على المستوى الفردي ولا على المستوى الجماعي، بينما “الطبقة” لها مطلق الحرية لتفعل ما تشاء في حرية عبثية مفادها التحلل من القيود. |
المشيئة هنا هي أساس الحركة مما يؤصل للحرية كموقع لتكريم الإنسان في ذاته وفي المجتمع. يترتب على ذلك توافر عنصر الإرادة وقدرة الاختيار ومن ثم تحديد المسئولية، علمًا بأن الحضارة القرآنية تجمع في توازن بين المسئولية الفردية والجماعية، فعلى مستوى الجماعة أيضًا جاءت “الأمة الوسط” لتحمل أمانة الشهادة في عالم الشهادة وبالتالي لتحمل مسئولية الجماعة. |
2– جذور الحركة |
وتتمثل الحركة في التطور الكامن في الموقف، حيث إن الجدلية نشأت تاريخيًا في إطار عصر التعليم ومع بذوخ فجر التحديث والتكنولوجيا، وما بها من قدرات مادية هائلة، لذا جاء التأصيل للحركة في إطار الإيمان بالتقدم الخطي التصاعدي نحو مزيد من القدرة ومزيد من القوة. |
وتتمثل الحركة في التجدد الكامن في ذاتية الكيان، إذ إن الموقف أو الإطار التاريخي للحركة يُقدِم المثيرات والعوامل التي تتفاعل مع مواطن المحركات الذاتية. ومن حيث المبدأ يمكن التمييز بين التغير الذي يطرأ على الموقف (الإطار) وبين التغير الذي يطرأ على الذات. وموقف الإنسان، أو الجماعة هنا يتمثل في تكييف الإطار، والتعامل معه من موقع انطوائه على مصدر مستقل للأخلاقيات تحدد ما يكون عليه هذا الوضع، وليس من موقع الضرورات التي تفرض تكيفه هو بالموقف والإطار. |
ومن أهم المفاهيم المهمة التي طرحتها أيضًا د. منى مفهوم “النسق القياسي” للدولة الشرعية، والذي تصفه بأنه وسيط التجدد والتواصل الحضاري، فهو وسيط بين الماضي والمستقبل وبين الواقع والتطلعات، وهو مفاعِلُ تكاملٍ على مستوى الكليات النظمية مجتمعة .
ووفقًا لهذا النسق القياسي، فإن معياريْ “الفاعلية” و”الشرعية” يتحددان بالقياس إلى موقع النظم من الكيان الاجتمـاعي الحضـاري، فالفاعلية السياسية تقاس بمقدار الحيوية الحضارية للكيان ككل، ولا تقف عند القياس الذاتي للنظام، كما تنصبُّ الشرعية على قيم موضوعية ولا تقف عند القيم الإجرائية أو الأدائية(49).
في ضوء ما سبق تناوله، قدمت د. منى رؤيتها للوجهة المستقبلية للمنطقة العربية، من خلال طرح نموذجين متقابلين للتطور هما “نمط التجزئة” و”نمط التكامل”، وهذا كما يلي:
ب) في مجال العلاقات الدولية: الأمة من الخطاب الديني إلى التحليل السياسي النظمي:
يُعد تناول مفهوم “الأمة” وتحديدًا “الأمة القطب“(50) من أهم إسهامات د. منى أبو الفضل في مجال العلاقات الدولية، حيث دفعت به من كونه مجرد مفهوم قاصر على الإطار الديني لأنْ يصبح مستوى للتحليل في العلاقات الدولية والتحليل النظمي. وقد كانت أهم دوافعها لذلك ما عايشته من تحديات بين مختلف أطراف الخطاب في المشهد الثقافي الأكاديمي، وهذا في لحظة تاريخية فارقة في مطلع الثمانينيات، دفعتها باتجاه إعادة البناء في حقل العلوم السياسية، وقد جاءت استجابتها على هذا النحو وفي هذا الاتجاه نتيجةً لإيمان راسخ بوجود حضارة إسلامية تفتقدها في الواقع، وإن أحست بتأثيرها في مجرى الأحداث، لا سيما أنها وجدت من الشواهد ما يؤكد ذلك، حيث الثورة الإسلامية في إيران وبدايات الجهاد في أفغانستان، والأهم من ذلك الاستجابات التي جاءت على المستوى العام للشعوب الإسلامية. ثم كان عصر العولمة وما فرضه من تحديات استوجب القيام بمراجعة فكرية في أصول النظم والعمران والعقائد، بدءًا بمراجعةٍ في أصول الشرعية الدولية بما تطرحه من مبادئ النظام العام، والعلاقات بين مكوناته، فضلاً عن سيادة جدالات الوحدة والتنوع. وقد كان ذلك في أوج “الصحوة” التي شهدتها الأمة الإسلامية. ولا ينفصل كل هذا لدى د. منى عن رؤيتها للواقع العربي – والسابق تناولها- الذي رأت أنه لا سبيل للتعامل معه دون الرجوع لأصوله التاريخية والتكوينية.
هذه التطورات التي فتحت باب البحث الأكاديمي بشكلٍ عام للبحث في طبيعة العلاقة بين الدين والسياسة، كانت كذلك من أسباب الاتجاه للتقريب بين العلوم الإنسانية والعلوم الشرعية.
وقد كان تعامل د. منى مع هذا المفهوم (الأمة) – وكما وصفته – فاتحة للوعي المنهاجي الحضاري، إذ تراوحت دراستها للأمة ما بين الرصد والتحليل للظاهرة كدافع تاريخي، والتعامل معها كمفهوم قابل للتجريد النظري.
ومن أهم ما توصلت إليه هو أن “الأمة” بهذا المعنى لها من الخصائص ما تشترك فيه مع غيرها من الجماعات، كما أن لها من الخصائص ما يميزها، وعلى رأس هذه الخصائص “القطبية” التي تشير إلى تمكّنها من جذب مختلف العناصر نتيجة نشأتها المرتبطة “بالعقيدة – الدعوة”، والتي جعلت لها وظيفة حضارية، وهنا يبرز البعد الدولي في هذا السياق، إذ إن هذه الأمة بهذا المعنى بمقدورها تأسيس شرعية دولية جديدة، حيث إنها ليست بالقطب التقليدي، وإنما هي الأمة الوسط التي على قدر فاعليتها يرجح الصلاح على الفساد. كما يمكن القول بأن ارتباط “الأمة” “بالعقيدة – الدعوة” يجعل ثمة مسئولية واضحة على هذه الأمة في القيام بالدعوة، وإن كانت عناصر المرونة والقوة لها دور أساس في تحديد مدى قدرة الأمة على القيام بهذه المهمة.
أيضًا فإن المسار التاريخي يؤكد عالمية الأمة، حيث إنها لا تنسب إلى أشخاص وإنما إلى العقيدة، وبالتالي فإن أبرز ما اهتمت به د. منى في هذا السياق “جدلية الاستقطاب” والتي تتم من خلال “المفاعل الاستقطابي” الذي يجذب الوحدات من داخله ومن خارجه دون أن يُذيبها، بل يكون التعامل مع التنوع باعتباره الدافع إلى التكامل.
وكان تناولها لهذا المفاعل من خلال فرضية محورها: التفاعل المستمر والتأثير المتبادل بين “القيم الفردية والجماعية” و”الكيان الحركي العام للجماعة” في كافة أبعادها الإدراكية والحية والانفعالية والسلوكية، ومن حصيلة ذلك تكون الجدلية التي تتجاوز بالفرد المسلم كينونته ليصبح “الفرد الأمة”.
ومن خلال تناول محاور هذا الاستقطاب أبرزت تمايز هذه الأمة، مميزة بين محورين: الأول محور رأسي متمثل في العقائد والعبادات، حيث دور العقيدة في تنشيط خصائص “الأمة-القطب” الداخلية والخارجية، على النحو الذي يجعل من الأمة “الضالة المنشودة لكل من يبحث عن الهوية والانتماء”. أما المحور الآخر فهو المحور الأفقي المتمثل في العوامل التاريخية والجغرافية.
وبناءً على هذه العملية، فإن بقاء الأمة يتوقف على ما أسمته “دورة التنشئة الحيوية” والتي تهدف إلى تحقيق الوحدة والتضامن، وهي تتكامل مع الدورة الاستقطابية، حيث إنه إذا كان في حالة “التنشئة” يكون الانتقال من الفرد إلى الجماعة، فإنه في حالة “الاستقطاب” يكون العكس.
أما المنظومة المفاهيمية التي ارتبطت بمفهوم “الأمة الوسط” أو “الأمة القطب” فقد تمثلت بالأساس في مفاهيم: “التوحيد” الذي هو منبعها، و”العدل” الذي هو غايتها وواجبها، “والجهاد” الذي هو سبيلها لتحقيق الذات.
العلاقات مع الغرب:
لقد كانت العلاقات مع الغرب بل والعلاقات والتفاعلات العالمية عامة في صميم طرح د. منى التوحيدي، فهي ترى أن مضامين عملية إسلامية المعرفة ذات دلالة عالمية، فتتخذ الوضع الثقافي المعاصر إطارًا بُغية إزالة ما به من تشوش، لا سيما مع الديناميكية المخادعة التي تتصف بها الثقافة الغربية(51).
ولذا، فهي توضح كيف أن البحث في خصائص النظرية الاجتماعية المعاصرة من شأنه التأثير فيما يتعلق بالمواجهة بين الثقافات عامة، والمواجهة الخاصة بين العالمين الإسلامي والغربي لما تتسم به من كثافة واستمرارية، على النحو الذي يُسهِم في تشكيل الثقافة المعاصرة. ويرجع ذلك لما من شأن الطرح التوحيدي البديل أن يقدمه من نقدٍ للخبرة التاريخية في هذا الأمر، ثم تقويمها.
فتتبعت كيف تفاعل الغرب مع الثقافات الأخرى خلال المراحل المفصلية في مسار التفاعل الحضاري، وبين هذه المراحل كانت مرحلة انتقال التقليد التجريبي الإسلامي إلى مراكز التعليم الأوربية، حيث أضفى “بيكون” روحه الصراعية عليه، على النحو الذي أضفى مزيدًا من المواجهة، وكذا كانت التجربة في التعامل مع شتى مصادر التراث المعرفي الإسلامي.
هذا بخلاف ما تتضمنه الثقافة الوسط التي هي أساس المنظور التوحيدي، حيث المفهوم المتوازن “للتدافع”، والذي سبق تناوله، وما يتبع ذلك من مفهوم مُتعقِّل للـ”قوة”، فهي ليست قيمة يجب امتلاكها وإنما ترتبط بمجال الممارسة والنشاط، وهو ما يستدعي التحقق من الغايات التي تمارس القوة من أجلها، وهو ما يستدعي بدوره قيمة “الردع” في الرؤية الإسلامية.
وهو ما يُفسِر التسامح الذي ساد فترات الحكم الإسلامي وهو تقليد إسلامي راسخ نابع عن رؤية كلية للإنسان والكون والحياة. فحتى وإن كان الشرق قد عرف التسامح مع الطوائف والأقليات المتنوعة منذ ما قبل الإسلام، فإن منطلقات وطبيعة الممارسة قد اختلفت فيما بعده، حتى إنها وصلت إلى المؤسسية في النموذج التطبيقي النبوي.
إلا أن هذه الرؤية المتوازنة لم تدفع السلطات السياسية في الاجتماع الإسلامي للمساومة مع الآخر حفاظًا على منفعة أو مصلحة، هذه الأمور التي عليها تبنى منظومة الفقه الاجتماعي لعلم الاجتماع التوحيدي(52).
وتتلخص مجمل رؤية د. منى أبو الفضل للعلاقات مع الغرب في كتابها “Where East Meets West” أي “حيث يُقابِل الشرق الغرب” ، إذ أكدت على عدة مبادئ أهمها(53):
– وحدة المرجعية العالمية، حيث إن الله هو رب العالمين، فصدّرت كتابها السابق ذكره بقوله سبحانه وتعالى: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ {55/17} فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ (الرحمن: 17-18) وكذلك قوله تعالى: ﴿ فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ (المعارج: 40-41).
– أهمية المراجعة النظرية والمعرفية والمنهاجية لأسس الحضارة العالمية، ويمكن أن تقوم إسلامية المعرفة بالدور الأكبر في هذا المقام.
– ضرورة التبادل الثقافي والحضاري، ولكن على أسس متوازنة.
– أهمية المؤاخاة الإنسانية .
قضايا المرأة:
وتعد قضايا المرأة من أبرز القضايا الفكرية التي عكست اهتمام د. منى وحرصها على تفعيل المنظور الحضاري على المستويين الفكري والحركي، كما كانت نتاجًا لخبرة ذاتية وحياتية ثرية ما بين الشرق والغرب، فبدا فيها جليًا العمل على توصيف الواقع الخاص بالمرأة المسلمة بحق وكما هو، سعيًا لتأسيس ما أطلقت عليه حقل الدراسات النسوية من منظور حضاري؛ إذ كانت تعتبر أن قضية المرأة إنما هي في قلب وخضم القضايا المحورية للعصر، لما ينعكس فيها من واقع المجتمعات المسلمة في مخاض مواجهتها مع تيارات العولمة تفاعلاً وانفعالاً، لتمثل بذلك نبض عنصر مؤثر في مسارها ومآلها.
وقد تمثلت دوافع الاهتمام بهذه القضية لدى د. منى في عدة أمور منها ما تعلق بخبرتها الذاتية والأكاديمية، فقد أشارت كيف أن اهتمامها بقضية المرأة جاء بمحض الصدفة، حيث لم يشغلها بشكلٍ عميق ومستقل عن قضايا الأمة في بداية إسهاماتها من منظور حضاري، بينما اختلف الأمر مع سفرها للولايات المتحدة الأمريكية، فمع انشغالها بمشروع “الفكر الغربي”. لاحظت مدى الأهمية التي يحظى بها ملف المرأة المسلمة في دوائر هذا الفكر، والنسوي منه بشكلٍ خاص، والذي تحول في الربع الأخير من القرن العشرين إلى مدرسة لها نفوذها في إطار الأكاديميا، حتى احتلت قضايا المرأة عامة موقع الصدارة في المؤتمرات والبحوث والدراسات الاجتماعية على كافة المستويات، لاسيما في المؤتمرات المهتمة بقضايا التغيير، وكان في الكثير منها التشكيك في الإسلام وأحكامه ذات الصلة بالمرأة كتلك المتعلقة بالميراث والزواج والشهادة.
وهنا كانت الدوافع السياسية، حيث إن قضايا المرأة في تشابكها مع قضايا حقوق الإنسان باتت جزءًا من إعادة تكوين الشرعية الدولية، وأداة لاختراق وتغيير مجتمعات العالم الثالث، ومجتمعات العالم الإسلامي في مقدمتها(54).
وإزاء هذه الأوضاع بلورت د. منى هدفًا جديدًا حددته في التأصيل لخطاب عالمي يتعامل مع قضايا المرأة من منظور حضاري. ولتناول هذه المسألة سيتم أولاً التطرق إلى رؤية د. منى لواقع المرأة في المجتمعات الإسلامية، ثم نقدها للرؤية الغربية في هذا الشأن، فإبراز أهم عناصر ومساهمات رؤيتها البديلة.
فبالنسبة لرؤيتها لواقع المرأة المسلمة، فإنها كانت لها رؤية عميقة في هذا الصدد، إذ استوعبت أبعاد حاضر وتاريخ المرأة في المجتمعات الإسلامية مقارنةً بأوضاع المرأة في الغرب.
فهي تدرك اختلاف الخبرة التاريخية بين المرأة في المجتمعات الغربية ونظيرتها في المجتمع الإسلامي، فالمرأة في المجتمع الإسلامي مثلت كيانًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا مستقلاً وفاعلاً في الوقت ذاته، الأمر الذي تؤكده الخبرة الإسلامية حتى منذ مراحلها الأولى، كما أن حقوقها إنما تدخل في صميم الشريعة الإسلامية، بخلاف المرأة في مجتمعات أخرى، حيث اضطرت المرأة وحتى منتصف القرن المنصرم إلى الكفاح لأجل تثبيت حقوقها، ففي الخبرة الأوروبية على سبيل المثال لم يكن هناك حضور للمرأة، إذ إن الخارطة الاجتماعية للمجتمعات الغربية دومًا ما كانت تعتمد على طبقات معينة. أيضًا فإنه قد تملك المرأة شيئًا ولكن لابد من وجود الرجل كي يتصرف، حيث إن القانون لا يُعطي لها مطلق التصرف في مجال الأموال بشكلٍ عام. ومن ثم كان للحركة النسائية في الغرب ما يُبرر لها المطالبة بالمساواة والدخول في صراع مع الرجل لتحقيق ذلك(55).
وذلك لا ينفي كونها تعي واقع المرأة المسلمة المعاصرة وما ألـمَّ بها جراء التغيرات العالمية والإقليمية والمحلية، سواء السياسية منها أو الاقتصادية أو الثقافية، وما تفرضه هذه الأوضاع من الحاجة إلى الترشيد والإصلاح سواء على مستوى التأصيل النظري أو فيما يتصل بالممارسة والفاعليات.
ولذا، كان من الضروري أن تقدم رؤية نقدية للخطاب العالمي المعاصر حول المرأة في ضوء الواقع، لتقدم بديلاً متكاملاً.
وعن توصيفها وتفسيرها لهذا الخطاب المعاصر متنامي الانتشار بشأن المرأة، فهي ترى أن هذا الخطاب وإن بدا حديث التشكل، إلا أن جذوره تمتد إلى الربع الأخير من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، أخذًا في الاعتبار ما شهدته هذه الفترة من مفارق طرق بالنسبة للأمة، حيث مرحلة الصدمة الكبرى مع الحضارة الغربية وبروز تحديات الحداثة والعصرية، وفي هذا الإطار طرحت الإشكاليات والتساؤلات حول هذه القضية في ضوء التنازعات بين الأنساق المعرفية الموروثة والوافدة، وهذا في تشابك بين خطاب تلك الفترة عامة وبين الخطاب المعاصر حول المرأة.
ورأت د. منى أنه كان هناك مراحل مختلفة للخطاب النسوي وكذلك الحركة النسوية ذاتها، حيث انطلقت الحركة النسائية من المحلية إلى العالمية، وتحديدًا منذ عام 1975 أو ما يُسمى العقد النسائي الذي بدأته الأمم المتحدة في مؤتمر بكين، فالمؤتمر الذي تلاه في كوبنهاجن عام 1989.
وحرصت د. منى على أن تلفت النظر إلى أن الحضور السياسي العالمي للكيان الإسلامي ككيان اجتماعي حضاري، ونظام يتمتع بشيء من التماسك الداخلي المتمثل في بناء أسري متين، أدى إلى إلقاء الضوء على المرأة المسلمة التي تمثل حجر الزاوية لتماسك الأسرة، إذ برزت مكانة المرأة عندما بدا أن تماسك الأمة حضاريًّا لا ينبع من المواقع الأمامية (السلطة)، بل من ثنايا المجتمع حيث توجد هي(56).
وقد قيمت د. منى هذا الخطاب المعاصر حول المرأة تقييمًا موضوعيًّا سواء في شقه العالمي أو الإسلامي. فهي بالرغم من أن لها العديد من المآخذ على هذا الخطاب، إلا إنها ترى به بعض الإيجابيات.
وبالنسبة إلى هذه الإيجابيات، فقد وجدتها تتمثل بشكلٍ أساسي في أن ذلك الوعي والاهتمام بقضايا المرأة قد أدى إلى تكثيف البحوث حول وضعيتها في المجتمعات المختلفة في إطار ما تواجهه من التحديات والمتغيرات، كتلك التي أُجرِيت بشأن مجتمعات العالم الثالث التي تعرضت لاهتزاز في بنيانها في ظل ما يُسمى عقود التنمية، فضلاً عن اختلاف المعادلات السائدة في هذه المجتمعات التي طالما كانت ساكنة ومطمئنة، ومن الأمثلة على ذلك الدراسات التي أجريت على أثر التصنيع والرأسمالية في المجتمع الزراعي، حيث فقدان المرأة دورها في الريف(57).
أما بالنسبة لمآخذ د. منى على الخطاب الغربي في هذا الصدد، فإنها تتمثل في جوانب مختلفة رصدتها د. هبة رءوف في ورقة أعدتها عن التحيز في دراسات المرأة من واقع كتابات د. منى. ويُمكن القول إنه من المآخذ على مستوى الإطار المعرفي ما يلي(58):
1- التحيز الناجم عن منظومة العلوم الاجتماعية في ذاتها.
2- طبيعة التراث الاستشراقي الذي يتخلل الدراسات الإسلامية.
3- التحيز الحضاري الناجم عن واقع هيمنة النموذج الغربي على الساحة العالمية المعاصرة.
4- التحيز الأيديولوجي الذي يشمل الباحث وكذلك الهيئة البحثية التي ينتمي إليها.
5- التحيز الناتج عن طبيعة المنظور النسوي الغربي المعاصر والأمريكي منه بوجهٍ خاص.
كذلك فإن هناك مجموعةً من التحيزات على المستوى المنهاجي، وهي(59):
1- الخلط بين الإسلام والتقاليد.
2- استبعاد إمكانات الإسلام في التغيير وتحسين وضع المرأة.
3- التبسيط المخلّ لعملية التنشئة في المجتمعات الإسلامية، إذ إن الكثير من الدراسات تلقي بمسئولية تدني وضع المرأة على التقاليد التربوية.
وعلى مستوى التحليل، فهناك الكثير من المقولات السائدة، والتي في مقدمتها(60): إن الإسلام دين يقوم على التفرقة بين الجنسين ويضطهد المرأة، وإن الحجاب والفصل بين الجنسين من أهم مؤشرات خضوع المرأة(61).
وإذا كان ما سبق اختص بشكلٍ أساسي بمآخذ د. منى على الخطاب المعاصر بشأن المرأة في ثوبه الغربي، فإنها أيضًا كانت ترى العديد من أوجه القصور في الخطاب الإسلامي المناظر.
فهي بالتأكيد ترفض الاتجاه الذي يغض الطرف عن هذا الموضوع ويدعي أن قضية المرأة غير موجودة من الأساس؛ إذ إن قضية المرأة واحدة، وهي كذلك في جزءٍ منها لا كلها.
وكما ترى أن الخطاب الإسلامي التقليدي عامة ينطلق من منطلق التجزئة وأحادية البعد والاختزال، فيتم اختزال علاقة المرأة بالأمة إلى موقعها في الأسرة، بدلاً من النظر إليها في وحدتها كركن من أركان الأمة. أيضًا فإن هذا الخطاب التقليدي يُخاطب المرأة من منطلق التبعية والوصاية(62).
إذن، فما التصور البديل الذي طرحته د. منى؟
انطلق هذا التصور البديل من الوعي بأبعاد التمايز في الخبرة الحضارية على نحوٍ يُسهم في التأسيس بجدية لحقل دراسات المرأة في إطار المنظور الحضاري الذي من شأنه أن يضمن لهذا الحقل ناظمًا يؤطر له ويحقق له ما يفتقر إليه من الاتساق والتماسك الداخلي ويرتقي به وجهة ومنطلقًا، بفضل خصائص الأرضية المعرفية التوحيدية التي يتميز بها هذا المنظور.
ولذا فإن أهم إسهامات هذا التصور يمكن التطرق إليها على الأصعدة الآتية(63):
1- السياق المعرفي: حيث الاستناد إلى الرؤية الإسلامية للإنسان وتحديد وظائف كلٍ من الرجل والمرأة بحسب ما حدد القرآن، بما يتضمنه من رؤية متوازنة للثابت والمتغير، فالمرأة تارة تخاطب بصفتها العامة في ضوء مفاهيم (العبودية لله – الاستخلاف- العمارة)، وتارة أخرى باعتبار طبيعتها الخاصة في ظل مفهوم القوامة على سبيل المثال.
2- السياق التاريخي: وهذا بالانتقال بالدراسات من التمركز حول الخبرة الغربية إلى دراسة ما هو عامٌّ حقًا في قضايا المرأة، والخروج من أسر المشروع العلماني.
وفي هذا السياق أيضًا أكدت د. منى على أهمية الوقوف بحرصٍ على الخصوصية، حيث إن أحوال المرأة تختلف أوضاعها ما بين الغرب وغيره، وكذلك تختلف الخبرات والأوضاع داخل العالم الإسلامي ذاته.
ولضمان تحقيق هذه المعادلة، كان تأكيد د. منى على أهمية، المصادر في هذه المسألة، كي يتم تناول قضية المرأة في ضوء سياقها الحقيقي.
وعلى رأس هذه المصادر التي نوهت إليها كان “الوقف”، إذ تعده من أهم مصادر التعرف على الخبرة الإسلامية، فمن خلاله يمكن التعرف على الخارطة الاجتماعية ومعرفة توزيع الثروة، وبالتالي علاقات وتوازنات القوى في المجتمع.
فدراسة الوقفيات الإسلامية تُثبِت أنه كان للمرأة حضور قوي وحرية كاملة في التصرف بخلاف الحال في الغرب، مما يؤكد على أهمية إشكالية الخبرات التاريخية.
أيضًا أشارت د. منى إلى أهمية الرجوع إلى الوثائق الأصلية بشكلٍ عام، بُغية التوقف عن إسقاط خبرات تاريخية وفكرية في غير مواضعها.
3- السياق التحليلي: أسهمت دراسة المرأة من منظور حضاري في إعادة تعريف وحدات التحليل في هذا الصدد، حيث دراسة المرأة في سياق وحدات تحليل أساسية مختلفة وإن كانت مرتبطة، وهذه الوحدات هي الأسرة ثم الجماعة ثم الأمة، وهذا في إطار الشكل التنظيمي الذي وضعه القرآن الكريم.
وفيما يتصل بالتفعيل، فإنه من أهم الخطوات التي خطتها د. منى على هذا الدرب ما يلي:
1- مبادرتها في عام 1998 لتأسيس “كرسي زهيرة حافظ عابدين” للدراسات النسوية في جامعة العلوم الإسلامية بفرجينيا؛ إذ رأت أن هذا الأمر هو في جزء منه استجابة للتحديات المعرفية التي تفرضها الساحة العامة بالولايات المتحدة باعتبارها مركز النظام العالمي، وقد تحددت أهداف هذا الكرسي في عدة نقاط أهمها: بناء وتطوير المنظور الحضاري في مجال دراسات المرأة، وتقديم الأطر المرجعية والمعايير العلمية لبناء الدراسات النسوية، والقيام بدراسات ميدانية في واقع حال المرأة المسلمة(64).
2- تأسيس جمعية دراسات المرأة والحضارة بالقاهرة لتكون منبرًا لتناول قضايا المرأة من منظور حضاري على مستوى تفاعلي، وهذا في مناخ تسوده نوعية معينة من الجمعيات المهتمة بهذا الشأن.
وقد قامت هذه الجمعية على عدة مشروعات أهمها تأسيس دورية “المرأة والحضارة”، وكذلك المشروع البحثي المتعلق ببنت الشاطئ عائشة عبد الرحمن، والمشروع الخاص بالوقف والنساء.
خاتمة:
ما سبق من استعراض لأبرز أفكار الأستاذة الدكتورة منى أبو الفضل، لا شك أنه يبلور معنى واضحًا لمفهوم “إنتاج العلم” أو إبداعه الذي لا يتحقق سوى من خلال عملية تفاعلية ما بين كلٍ من التطورات النظرية والواقعية، ويُعد العالم بدوره جزءً لا يتجزأ من هذه العملية.
فهكذا كان المنظور الحضاري، الذي هو منظورٌ للعلم والحياة، لا يقف دوره عند مجرد الوصف والتفسير أو حتى التنبؤ وإنما يمتد إلى التقويم والتأسيس وإعادة البناء، هذا المنظور الذي وضع بذوره في مجال العلوم السياسية د. حامد ربيع، وبلورته د. منى أبو الفضل، حتى تكونت “الجماعة العلمية للعلوم السياسية من منظور حضاري”، والتي يقوم عليها بشكلٍ رئيس كلٌ من د. نادية مصطفى ود. سيف الدين عبد الفتاح، ومازالت هناك مسيرة بإمكان أجيال تالية أن تستكملها إذا ما أخذت قبسًا من مثل هذا العلم.
الهوامش
(1) د. منى عبد المنعم أبو الفضل، نحو منهاجية للتعامل مع مصادر التنظير الإسلامي: بين المقدمات والمقوّمات، (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص ص7-8.
(2) المرجع السابق، ص7.
(3) المرجع السابق، ص8 .
(4) المرجع السابق، ص110.
(5) د. منى أبو الفضل، المنظور الحضاري وخبرة تدريس النظم السياسية العربية، في د. نادية مصطفى- د.سيف الدين عبد الفتاح (إعداد وإشراف)، دورة المنهاجية الإسلامية في العلوم الاجتماعية: العلوم السياسية نموذجًا، القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي- مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2000، ص109.
(6) د. منى أبو الفضل، نحو منهاجية للتعامل مع مصادر التنظير الإسلامي، مرجع سابق، ص8-9.
(7) المرجع السابق، ص10-12.
(8) د. منى أبو الفضل، المنظور الحضاري وخبرة تدريس النظم السياسية العربية، مرجع السابق، ص109-111.
(9) Mona Abul- Fadl, Paradigms in Political Science Revisited: Critical Options and Muslim Perspectives,The American Journal Of Islamic Social Science, vol 6, No 1, Septemper, 1989, P 12.
(10) د. منى أبو الفضل، المنظور الحضاري وخبرة تدريس النظم السياسية العربية، مرجع سابق، ص110-112.
(11) المرجع السابق، ص114.
(12) المرجع السابق، ص111.
(13) المرجع السابق، ص113.
(14) د. منى أبو الفضل، النظرية الاجتماعية المعاصرة: نحو طرح توحيدي في أصول التنظير ودواعي البديل في: د. منى أبو الفضل، د. نادية مصطفى (محرران)، الحوار مع الغرب: آلياته- أهدافه – دوافعه، دمشق: دار الفكر، 2008. ص 30-31.
(15) المرجع السابق، ص 32- 33.
(16) المرجع السابق، ص 35- 39.
(17) المرجع السابق، ص 40- 48.
(18) المرجع السابق، ص 33- 34.
(19) المرجع السابق، ص 48- 49.
(20) المرجع السابق، ص 49- 50.
(21) د. منى أبو الفضل، إسلامية المعرفة كقوة للتحديد الثقافي العالمي، ترجمة: د. السيد عمر، القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ربيع الثاني 1415هـ- أكتوبر 1994، ص1.
(22) د. منى أبو الفضل، المغايرة بين المعرفيات: التوحيد عالم الاجتماع الرسالي والنظرية الاجتماعية، ترجمة: د. السيد عمر.
(23) د. منى أبو الفضل، إسلامية المعرفة كقوة للتجديد الثقافي العالمي، مرجع سابق، ص 25-27.
(24) د. منى أبو الفضل، المغايرة بين المعرفيات، مرجع سابق.
(25) د. منى أبو الفضل، نحو منهاجية للتعامل مع مصادر التنظير الإسلامي، مرجع سابق، ص 12-13.
(26) د. منى أبو الفضل، مقدمة كتاب: نصر عارف، في مصادر التراث السياسي الإسلامي: دراسة في إشكالية التعميم قبل الاستقراء والتأصيل، فيرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1994، ص 9-10.
(27) د. منى أبو الفضل، نحو منهاجية للتعامل مع مصادر التنظير الإسلامي، مرجع سابق، ص 13-14.
(28) المرجع والسابق، ص 16-19.
(29) المرجع السابق، ص 19-31.
(30) المرجع السابق، ص 31.
(31) المرجع السابق، ص 39.
(32) المرجع السابق، ص 49-40.
(33) المرجع السابق، ص 40-42.
(34) المرجع السابق، ص 43.
(35) المرجع السابق، ص 44.
(36) المرجع السابق، ص 44-45.
(37) د. منى أبو الفضل، مقدمة كتاب: نصر عارف، في مصادر التراث السياسي الإسلامي: دراسة في إشكاليات التعميمي قبل الاستقراء والتأصيل، مرجع سابق، ص 12.
(38) المرجع السابق، ص 13-15.
(39) المرجع السابق، ص 15- 17.
(40) المرجع السابق، ص 17-34.
(41) د. منى أبو الفضل، نحو منهجية علمية لتدريس النظم السياسية العربية، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2005، ص 18-20.
(42) د. منى أبو الفضل، نحو تأصيل منهاجي لدراسة واقع النظم المعاصرة بالمنطقة العربية (مذكرات غير منشورة).
(43) المرجع السابق.
(44) المرجع السابق.
(45) المرجع السابق.
(46) د. منى عبد المنعم أبو الفضل، المنظور الحضاري في دراسة النظم السياسية العربية: التعريف بماهية المنطقة العربية، إسلامية المعرفية، العدد 9، ربيع الأول 1418هـ/ يوليو 1997، ص 13-27.
(47) المرجع السابق، ص 30-35.
(48) د. منى أبو الفضل، الإسلام والشرق الأوسط، ترجمة د . السيد عمر، القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1415هـ – 1994م .
(49) د. منى أبو الفضل، المنظور الحضاري في دراسة النظم السياسية العربية، التعريف بماهية المنطقة العربية، مرجع سابق، ص 34-35، د. منى أبو الفضل، التأصيل المنهاجي لدراسة واقع النظم السياسية العربية المعاصرة، مرجع سابق .
(50) المرجع السابق.
(51) د. منى أبو الفضل، الأمة القطب: نحو تأصيل منهاجي لمفهوم الأمة في الإسلام، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2005.
– Mona Abul-Fadl, Community, Justice, and Jihad: Elements of the Muslim Historical Consciousness, Islamic Social Sciences, volume 4، No1، September, 1987.
(52) د. منى أبو الفضل، إسلامية المعرفة كقوة للتجديد الثقافي العالمي، مرجع سابق.
(53) د. منى أبو الفضل، النظرية الاجتماعية المعاصرة لنحو طرح توحيدي في أصول التنظير ودواعي البديل، مرجع سابق، ص 56-58.
(54) Mona Abul-Fadl, Where East Meets West: The West and The Agenda of The Islamic Revival, International Institute Of Islamic Thought, Herndon, Virginia U.S.A 1412- 1992.
(55) د. منى أبو الفضل، المنظور الحضاري وخبرة تدريس النظم السياسية العربية، مرجع سابق، ص 117.
– د. منى أبو الفضل، ورقة عمل حول مشروع كرسي دراسات المرأة بجامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية، 1998.
(56) حوار مع د. منى أبو الفضل كإحدى الفعاليات النسائية بالمعهد العالمي للفكر الإسلامي (1-2)، جريدة المستقلة، 18 سبتمبر 1995.
(57) د. منى أبو الفضل (إشراف)، د. أماني صالح – زينب أبو المجد، هند مصطفى (محرران)، المرأة العربية والمجتمع في قرن… تحليل وببيبوجرافيا للخطاب العربي حول المرأة في القرن العشرين، بيروت: دار الفكر المعاصر – دمشق: دار الفكر، 2001، ص 11.
– حوار مع د. منى أبو الفضل كإحدى الفعاليات النسائية بالمعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2001، مرجع سابق.
(58) المرجع السابق.
(59) أ. هبة رءوف، التحيز في دراسات المرأة: ورقة مستخلصة من كتابات الدكتورة منى أبو الفضل، القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي – نقابة المهندسين، ص 461- 462.
(60) المرجع السابق، ص 462.
(61) المرجع السابق، ص 462- 463.
(62) حوار مع د. منى أبو الفضل (2002)، المستقلة، مرجع سابق.
(63) أ. هبة رءوف، التحيز في دراسات المرأة، مرجع سابق، ص 464، حوار مع د. منى أبو الفضل، المستقلة، مرجع سابق، د. منى أبو الفضل، المرأة العربية والمجتمع في قرن، ص 13-14.
(64) د. منى أبو الفضل، ورقة عمل حول مشروع كرسي دراسات المرأة بجامعة العلوم الإسلامية بفرجينيا، مرجع سابق، ص 5-6.