أبحاث

صدارة القرآن في النظرية الأصولية عند الشاطبي

العدد 135

شهدت حركة البحث العلمي في ميدان الدراسات الإسلامية تقدُّماً ملحوظاً في الآونة الأخيرة، حيث بدأ الكشف التدريجي عن الصلة الرابطة بين الكتابات الإسلامية الكلاسيكية، ذات الطابع الشكلي المحكم،وبين الظروف الاجتماعية أو المشاغل التاريخية لمؤلفيها التي تستتر خلف هذه النصوص، وتقوم بتوجيهها، وتحديد مسارها.

وبدأ الكشف عن وجود صلةٍ غير ظاهرة لكنها وثيقة بين الاستغراق الشكلي في الكتابة التاريخية التحليلية، والنظرية الفقهية السياسية، والكتابات العقدية والشرعية، والأنواع الكتابية الأخرى ذات الأسلوب الذي لا يحمل أي ملامح شخصية، والذي يبدو لنا في الظاهر أنه أسلوبٌ موحَّد متجانس ذو طابع تكراري على مستوى المضمون، من جهة؛ وبين الخصوصية التاريخية لمؤلفيها المتعلّقة بهم شخصياً أو بعصورهم التاريخية التي أنتجوا كتاباتهم فيها، من جهة أخرى.

وتتجه البحوث الحديثة إلى منع الطابع الوصفي البارز لأي نوع من أنواع الكتابات المذكورة من القيام بإخفاء وطمس الأثر الشخصي الخاص للمؤلف في عمله الفكري. حيث إنه بموجب هذا الأثر الشخصي للمؤلف، وعلى الرغم من الإقرار بالطابع الشكلي للكتابات الذي أشرنا إليه آنفاً، فإنّ أيَّ عملٍ علمي  لا بدّ أن يتمتع بشخصيةٍ خاصة به على نحوٍ ما.

وفي الحقيقة، فإنه بقدر ما يصل إلى أيدينا من معلومات واضحة وكافية عن خصوصية وتكوين المؤلف، ونوعية قرّاء كتاباته، ونوعية وخصائص المجتمع الذي يعيش فيه، فإننا نتمكن من ملاحظة ودراسة العلاقة الوثيقة بين نظريته وبراهينه ونظام السرد الذي يستخدمه، وبين المعطيات التاريخية والاجتماعية التي يتحرك ويؤلف من خلالها.

تُعد النظرية الأصولية الإسلامية أحد النماذج الجليّة لهذا النوع من الكتابات حيث شكليّة المنهج، وشكلية أسلوب عرض الأفكار تبدو أمراً شديد الأهمية.

وعليه، فقد تبلورت نظرةٌ تقليدية تتعامل مع النظرية الأصولية، التي تمثّل في الواقع النتاجَ الجماعي لأجيال متعاقبة من الأصوليين، على أنها نظرية موحّدة متجانسة، وذلك بسبب هذه الشكلية التي تطغى على هذا النوع من المؤلفات. وبكلمة أخرى، طالما أنّ مؤلفات النظرية الأصولية واحدة الطابع، فإنّ كتاباً واحداً منها يمثّل هذا المنتَج الجماعي كما يمكن أن يمثّله أيُّ كتاب آخر بالضبط(1).

لكن طمس معالم التميّز بين كتاب وآخر يشكّل في الحقيقة استبعاداً كلياً لأي اعتبار، ولو كان بسيطاً، لظروف المؤلفين الاجتماعية وافتراضاتهم المعرفية وغيرها، الخاصة بكل واحد منهم، ونتيجةً لذلك، فإنه يتم تجاهل أيّ فروق في الصيغة والمادة العلمية، وبشكل أهم تتمّ التعمية عن هدف كل مؤلِّف من  وراء خطابه الأصولي.

على الرغم من ذلك فإنه يجب الاعتراف بشكل واضح بأنّ مؤلفات أصول الفقه تميل إلى أن تتخذ أشكالاً ومضامين متعددة، وبناءً عليه، فإننا نمتلك مجموعةً من النظريات الأصولية التي تختلف وتتميز عن بعضها بصورةٍ ما. ويمكن القول أيضاً: إنّ بعض المؤلفات التي تنتمي إلى مدرسة أصولية واحدة، تحظى بدرجة معينة من التشابه والتماثل. لكن هذه الحقيقة لا يمكن الاستدلال منها على أنّ الفروق بين المؤلفات في المدرسة الأصولية الواحدة لا تستحق الالتفات إليها، أو أن الفروق بين المدارس الأصولية نفسها هي أقل وضوحاً وتميزاً.

لدينا بين المدارس الأصولية مدرسةٌ تمتلك خصوصية فقهية وطابعاً عقديا مميزاً لها، ولديها ممثلون عاشوا ابتداءً من القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي مثل الجويني(2)، والغزالي(3)، إلى القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي مثل الآمدي(4)، وابن قدامة(5)، وابن الحاجب(6). على الرغم من أن الجويني والغزالي والآمدي كانوا شافعيةً أشاعرة، وكان ابن قدامة حنبلياً متمسكاً بمذهبه، وكان ابن الحاجب فقيهاً مالكياً، جذبت مؤلفاته عدداً كبيراً من الشروحات من قِبَل فقهاء كبار وصغار من المدارس الفقهية والكلامية المختلفة(7)، فإنّ كلَّ هؤلاء الأصوليين، وبشكل خاص الأخيرون منهم، كانوا متأثرين بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر بالنموذج الأصولي الذي يمكن أن نجد أفضل تجلياته في عمل المفكر الحنفي المعتزلي أبو الحسين البصري(8).

وعلى الرغم من أنّ جميع مؤلفات هذه المدرسة تشترك في قاسم مشترك ـ أو على الأقل يُفترض أن يكون الأمر على هذا الشكل(9)– فإنّ الاختلافات بينهم في الأسلوب، وفي المنهج، والمضمون أمر ٌ يمكن تمييزه بسهولة. حتى لو قررنا تجاهل العوامل الاجتماعية التي تلعب دوراً في تشكيل النظرية الأصولية لكل أصولي، فإننا يجب أن نقف على الأثر البعيد لانتمائه العقدي على فرضياته المعرفية، ومبادىء خطابه المؤسَّسة عقدياً.

لكن إذا وضعنا هذه الاختلافات جانباً، فإنّ المؤلفات المدرَجة تحت مدرسة معينة تختلف إلى درجةٍ ما عن بقية المدارس، وبدرجة أكبر عن بقية الأعمال الفردية ذات الطابع المستقل، فعلى سبيل المثال، فإنّ مؤلفات السرخسي(10) تمثّل طريقة معينة، بينما مؤلفات ابن عبد السلام(11)، والشاطبي(12) تمثّل طريقة أخرى.

وهكذا، فلا بدّ من التسليم بأنّ التماثل البادي في كتب أصول الفقه لا يمكن التعامل معه كحقيقة مسلّم بها، وأنه طالما قبلنا بأنه قد تختلف نظريتان أصوليتان في جانب أو أكثر، فإنه يجب علينا، ضرورةً، أن نضع موضع التساؤل الزعم القائل بوجود تماثل يتعلق بالجوانب الأخرى المترابطة ضمن هاتين النظريتين.

وبكلمة أخرى، فإنه طالما قررنا أنه لا توجد نظريات أصولية متطابقة، وطالما وصلنا إلى أنَّ كل نظرية أصولية تمتلك مستوى عالياً من ترابط البراهين وتماسكها في داخلها، وتختلف عن أي نظرية أخرى، فكيف يمكن تبرير القول بالمكانة الابستيمولوجية للإجماع؟ وكيف يجد العلماء حلاّ للمشاكل الناتجة عن هذا الاختلاف من خلال الأجزاء الأخرى في نظرياتهم؟

يمكن القول، من الناحية المنهجية، بأنّ هذه المشكلة هي مشكلة جوهرية، وسوف نصادفها في نظرية الشاطبي حول القرآن، وسوف نقدّر حينها، عن طريق المقارنة مع نظريات أصولية أخرى تعود للغزالي والآمدي وغيرهما، الآثارَ المحتملة لموقف الشاطبي من القرآن على بقية أجزاء نظريته.

إنّ السمة الأبرز التي تميّز موقف الشاطبي الخاص إزاء القرآن هي أنه يرى هذا النص، ويتعامل معه باعتباره وحدة كلية متكاملة. وهو يقترب بهذه النظرة، كما سوف نرى، من رؤية مفسِّري القرآن أكثر من اقترابه من رؤية زملائه الأصوليين. حيث يمثّل القرآن في نظر الكثير من الأصوليين مدونةً مكتوبة بلغة قانونية قابلة للتحويل والتقسيم إلى أوامر ونواهٍ، وإلى ألفاظ مجملة، وألفاظ متشابهة، وألفاظ محكمة.. إلى غير ذلك.

وقد تقوم المؤلفات الأصولية مثل مؤلفات الغزالي والآمدي وابن الحاجب، بعد الفراغ من تقرير معنى المصطلحات الأساسية وشرح المفاهيم المنطقية والفقهية المستخدمة في توضيح النظرية، تقوم بعرض مصادر التشريع الأربعة الأصلية المعترف فيها، وبعد ذلك تمضي نحو بيان أصالة النص القرآني من حيث موثوقية نقله وحفظه(13).

وأما وراء ذلك فلا يُعرض القرآن في هذه الكتب بوصفه أكثر من مدونةٍ قانونية تُشتق من لغتها الأحكام الشرعية بشكل خاص.

وتتعامل نظرية النسخ، في هذه المؤلفات الأصولية، مع النص القرآني دون أي تمييز، ما عدا إثارة النقاش حول تحديد الآية التي تنسخ الأخرى، مع وجود أدنى قدر ممكن من الإشارة إلى أهمية الترتيب التاريخي الذي تمّ فيه إنزال النص(14). وبوجه عام، فإنّ القرآن – والأمر نفسه ينطبق على السنّة – يشكّل ببساطة محصلة مدونة من الأوامر الشرعية المؤسّسة على القاعدة نفسها التي تتقرر بموجبها مواد القانون الوضعي.

كما سنرى فيما بعد، فإنّ مفهوم الشاطبي حول النص القرآني يتجاوز هذه الحدود. ولكي يحدد الشاطبي مفهومه الخاص، فإنه يضع عدداً من القواعد التأسيسية.

1- القاعدة الأم لكل هذه القواعد تتعلق بإمكانية فهم اللغة القرآنية، فعلى الرغم من الطبيعة الإعجازية لهذه اللغة، إلا إنها ليست فوق إدراك أولئك الذين يمتلكون القدرة الطبيعية على فهم معهود الخطاب العربي بشكل عام. لأنه لو كانت هذه اللغة فوق إدراكهم، فإنّ الأمر الإلهي بضرورة الانصياع للشريعة يصبح عبثاً؛ لأنه سيؤدي إلى تكليف الناس بواجبٍ، من الواضح أنهم لا يستطيعون فهمه، وهو شيءٌ يعاكس طبيعة الأمر الديني(15).

إنّ الإقرار بأنّ لغة القرآن أمرٌ قابل للإدراك لا يشكّل ضمانة مؤكدة بأن الفقيه المفسِّر سيفهم بالضرورة المعنى والمضمون الدقيق للغة النص القرآني، فمن الممكن أن يكون معنى كلمة أو جملة واضحا للمؤول، لكن هل هذا هو المعنى المُراد من قبل الله تعالى؟

وللتأكد من أنّ معنى النص ومضمونه هو مُراد الله تعالى، يُشدّد الشاطبي على ضرورة توضيح أسباب وظروف الوحي ( أسباب النـزول)(16). فعلى سبيل المثال، إنّ جملةً استفهامية في النص يمكن أن يكون لها وظيفة من وظائف عدة، فهي، من بين أشياء أخرى، قد تبيح شيئاً، أو تستنكر أمراً، ولكن يمكن لنا أن نقترب أكثر صوب المعنى المقصود من هذه العبارة إذا استطعنا معرفة سبب نزول هذه الآية وظرفها التاريخي.

2- والشرط الثاني الذي يساوي الأول في الأهمية، والذي يساعد بالإضافة إليه في الكشف عن مُراد الشارع، هو معرفة عادات وسنن العرب في خطابها ولغتها التي سادت بينهم في أثناء عصر الوحي(17). فقد خاطب الله تعالى العربَ باللغة التي يفهمونها، وأخذ بعين الاعتبار أثناء مخاطبتهم الظروف الخاصة للواقع الذي يعيشونه، ونظرا لأنّ اللغة والواقع – كما يشير إلى ذلك الشاطبي بشكل غير مباشر – يمكن أن تختلفا عن لغة وواقع الظرف التاريخي الذي جاء بعد عصر نزول الوحي، لذلك يجب على الفقيه المفسِّر أن يكون مطلعاً بشكل مفصل ودقيق على لغة عصر التنـزيل، والسياق التاريخي الذي أُوحي فيه.

يبدو أن الأصوليين الآخرين لم يعيروا هذه الشروط كبير اهتمام، حيث اكتفوا بالفرضية العامة التي تقول: إنّ أيّ جزء من الكلام يجب، حتى يكون مبيناً بشكل سليم، أن يُفهم في داخل سياقه الخاص، أي السياق الذي أشار إليه هؤلاء الأصوليون بأنه قرائن الأحوال(18). وعلى الرغم من أنّ قرائن الأحوال تتضمن فيما تتضمن الظروف التي أُوحيت خلالها الآية المخصوصة، والمواضعات الاجتماعية واللغوية المحيطة التي رافقت نزول هذا الجزء من النص القرآني، فإنه يبدو جلياً أنّ هؤلاء الأصوليين قد فشلوا في التعبير الدقيق عن العناصر المسؤولة عن إحداث أي فعل تأويلي. في حين أنّ الشاطبي قد نجح في تحديد هذه العناصر، وأعطاها مكانة متميزة في إطار نظريته(19) كما سنرى بعد قليل.

إنّ الألفة الكبيرة والشاملة مع ظروف تنزيل الوحي، واستيعاب معهود الخطاب عند العرب، وطريقة فهمهم للغتهم التي نزل بها القرآن في القرن السابع الميلادي، لا تُشكّل أكثر من ضمانة عامة لفهم المعاني الظاهرة للقرآن. ومن الناحية التأويلية، فإنّ هذه خطوة ضرورية، تمشي في الاتجاه الصحيح من أجل الوصول إلى معاني القرآن الظاهرة في ضوء القواعد المقررة للصيغ اللغوية، والأساليب الأدبية التي كان يستخدمها العرب في ذلك العصر، وتشكّل هذه الخطوة شرطا قبلياً لأيّ محاولة تسعى للوصول إلى مستوى أعمق في التأويل.

وفي أثناء البحث عن هذا المستوى الأعمق، فإنّ المؤول يتجاوز المعنى المتبادر، وربما المعنى الظاهري للنص ليصل إلى المراد الحقيقي الذي أراده الشارع. وفي الحقيقة، فإنّ هذه ليست عملية رمزية لكنها عملية تأويلية عميقة لا يصل إليها كل مفسِّر. فعلى سبيل المثال، إنّ المعنى الظاهر لقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} (المائدة: 3)، هو الإخبار عن إتمام الوحي الإسلامي، في حين أنّ المعنى الباطن يشير إلى اقتراب وفاة الرسول صاحب الرسالة، لأنه قد أُرسل أساساً لتبليغ رسالة، وعندما انتهى من تبليغها، انتهت رسالته التي عاش من أجلها، والواقع قد أكّد هذا المعنى حيث ترك الرسول هذا العالم، وأفضى إلى ربه بعد واحد وثمانين يوماً من نزول آخر آية في القرآن، وفي الحقيقة، فإنّ الشاطبي يدعم هذا النوع من التأويل، ويصرُّ على شرعيته وصلاحيته المعرفية(20).

لكن هذا المستوى الأعمق من التفسير، في فكر الشاطبي، مليءٌ بعنصر التقوي. حيث إنّ فهم مراد الله هو شيء، وأن تكون مقتنعاً بكليّتك به هو شيء آخر. إنّ معرفة الباطن هي كلا الأمرين معاً أي الفهم والطمأنينة القلبية به. وعلى أساس من هذه القاعدة التأويلية فإنّ الشاطبي يرفض الحيل الشرعية التي يُقصد بها التحايل على أوامر الله المنصوصة في الشريعة.

فقط أولئك الذين لم يفهموا بشكل تام مُراد الشارع، يحاولون ويلجئون في الواقع إلى العبث في الشريعة بوسائل مثل الحيل الشرعية(21). وبقدر ما يتغلغل الإنسان وراء باطن النص بقدر ما يُعدّ ذو هداية وتقوى(22).

يسرع الشاطبي في فكّ ارتباط مفهومه عن الباطن عن المفاهيم المذهبية الأخرى للباطن(23)، محتجا بأنّ ما يُؤوّل على قاعدة مفهومه للباطن ليكون مُراد الله هو أمر بعيد عن الظن والتخمين والرجم بالغيب(24). ويقرر أنه لضمان تحاشي التأويلات البعيدة مثل تأويل الإسماعيلية، لا بدّ من الالتزام الدقيق بمعايير اللغة العربية الفصحى وقواعدها، وإجراء التأويل على المقاصد العربية، ولا بدّ من استبعاد أي معنى يتم استنباطه بعيداً عما تقتضيه ضوابط اللغة وقوانينها. وفوق ذلك فإنّ أيّ تأويل للباطن يجب ألا يجد أسانيده في الاستشهادات النصية الأخرى فقط، بل يجب أيضاً ألا يعارض أيّ تأويل آخر تمّ قبوله من قبلُ(25).

يسعى الشاطبي جاهداً، من خلال كل هذه الضوابط والمبادىء الهرمونيطيقية التي تغيب عن مؤلفات بقية الأصوليين، إلى استكشاف تفاصيل المعايير لِما يمكن أن ندعوه نظام أصولي جديد للتأويل اللغوي. وقد حرص حرصا شديداً، وهو يسعى بشكل حثيثٍ لتأكيد نتائج  مقاربته التأويلية الخاصة، وتثبيت بنيانها وذلك من خلال الاستدلال بعدد كبير من الأمثلة(26)، التي تمثّل نماذج من التأويل الخاطىء (المذهبي)، على ألا يخرق الطرق التأويلية المعتمدة عند أهل السنّة.

ولا يعود رفض الشاطبي للتأويلات المتطرفة إلى افتقاد الالتزام بالقواعد اللغوية، والعادات والأعراف التي سادت خلال زمن الوحي فقط، بل يعود أيضاً إلى غياب المقاربة الكلية للسياق الأشمل للمقطع القرآني موضع التفسير.

يجعل الشاطبي الوصول إلى التأويلات المعقولة والمعتدلة والوسطية المقبولة من معظم المسلمين، هو الهدف الأقصى له، وهو يرى أنه يمكن الوصول إلى هذه التأويلات عن طريق فحص معنى المقطع القرآني موضع الدراسة في ضوء الموضوع العام للآيات التي تسبقه وتعقبه.

وبالنظر إلى أنّ القرآن – كما هو مقرر في ميدان التفسير- يعالج في أغلب الحالات، قضيةً أو مجموعة من القضايا المترابطة في أكثر من موضع واحد فيه، فإنّ الشاطبي يدعو إلى ضرورة مراجعة جميع الآيات ذات الموضوع الواحد عند استخراج حكم شرعي من أيّ نص قرآني. ذلك أنه قد تأتي آية أو أكثر تفسّر آية أخرى غير واضحة الدلالة، وقد يتوقف الفهم الصحيح لجزء من النص القرآني على فهم جزء آخر، وقد نجد في جزءٍ ما يمكن من خلاله أن نفسّر أو نؤكد أو نتمم معنى جزء آخر. وبهذا قرر الشاطبي وحدة النص القرآني، وانسجامه وتماسكه على مستوى المعنى(27).

إنّ ما ذهب إليه الشاطبي من أنّ النص القرآني يمثّل نسيجاً متواشج الصلة بين أجزائه، وأنّه نص متماسك الأجزاء بشكل كلي(28)، يعني أنه من أجل فهم آية محددة بطريقة سليمة لا بد أن ندرسها ليس فقط في ضوء سياقها النصي العام، بل أيضا وبشكل رئيس، من خلال العودة إلى  الآيات التي سبقتها في النـزول. وعليه، فإنّ الأجزاء الأخيرة من النص القرآني يجب أن تُفسَّر في ضوء الأجزاء التي سبقتها من حيث النـزول الزمني. فإذا أردنا أنّ نفهم كلَّ القرآن المدني بصورة سليمة، فإنه يجب أن يُدرس في ضوء القرآن الذي نزل في العهد المكي. وإذا أردنا أن نفهم الآيات المدنية المتأخرة في النـزول- والأمر نفسه ينطبق على الآيات المكية- فعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار الآيات التي سبقتها في النـزول(29).

تمثّل سورة الأنعام المكية هذه القاعدة العامة. لذلك، فإنه بناءً على الأسس العقدية والدينية التي أرستها هذه السورة، فقد فصّل علماء الكلام كلّ نظامهم العقدي ابتداءً من التأكيد على واجب الوجود، وانتهاءً بآخر قضية يقومون بمناقشتها، وهي قضية الإمامة. وبالإضافة إلى ذلك فقد أرست هذه السورة أيضاً كليّات الشريعة العامة.

إنّ تجاهل أيّ جزء من هذه السورة يمكن أن يدمّر إحدى هذه الكليات، أو حتى يدمّر كامل نظام الشريعة(30). وعندما هاجر الرسول إلى المدينة، أُوحيت إليه سورة البقرة لكي تضع التفاصيل، ولكي تشرح المبادىء العامة الموجودة في سورة الأنعام. وعلى الرغم من أنّ بعض هذه التفاصيل قد ظهر في سور أخرى، فإننا نجد في سورة البقرة أحكاماً خاصة في العبادات، وفي الأطعمة والأشربة، وفي الجنايات، والمعاملات التجارية، وفي الزواج إلخ.

إنَّ الأصول الكلية التي تمّ تقريرها في سورة الأنعام، والتي تدور حول الحفاظ على الدين والنفس والعقل والنسل والمال، كلها قد تمّ تثبيتها في سورة البقرة، وعليه، فإن ما أُوحي في المدينة بعد نزول البقرة يجب أن يُدرس في ضوئها. وهكذا تظهر أهمية الترتيب التاريخي في هذه الرؤية، ويصبح من الصعوبة بمكان التقليل من هذه الأهمية(31).

لا يُظهر معظم الأصوليين إلا استعداداً قليلاً لدعم ما ذهب إلى تقريره الشاطبي بشكل حاسم، وهم إذا قاموا بذلك، فإنهم يقومون به مع إدخال الكثير من القيود. ولا يوجد – حسب علمي – أصولي أكّد مثل هذا التأكيد الجازم على أهمية التسلسل التاريخي، وترابط الآيات في التأويل القرآني. وعلى الرغم من أنّ هذا الأمر قد لا يشكّل الفرق الجوهري الأكثر جدية بين الشاطبي، وبين هؤلاء الأصوليين، فإنّ الآثار المحتملة التي استنتجها الشاطبي منه، والأطروحة التي طوّرها على قاعدةٍ من هذا الأمر تؤدي بالتأكيد إلى إحداث شرخٍ كبير بين نظريته، وبين نظريات بقية الأصوليين.

إنّ اللجوء إلى تفسير الآيات والسور في ضوء الوحي الذي سبقها في النزول يقود إلى درجة معينة من التراتب في القرآن يجعل من السور المبكرة قاعدةً ومنطلقاً لهذا التراتب بوصفها السور الأكثر كلية وشمولاً. وحتى لو بدا لنا أنه توجد آية مدنية تحمل الطابع الكلي والشمولي، فلا بدّ أنه قد سبقتها آية مكية أكثر منها كلية وشمولية، ولو كانت تلك الآية المدنية ذات طابع كلي فعلاً، فقد تكون مجرد تكملة لآيات مكية كلية قد سبقتها في النزول(32). وبهذا يجب أن يكون المرجع الأول هو القرآن المكي الأسبق من حيث الزمن(33).

لم يتردد الشاطبي، كما هو متوقع، في الإشارة إلى آثار هذه النظرة بشكل حاسم، حيث أشار بشكل واضح وصريح إلى أنّ الآيات المكية الموحاة في بداية الدعوة الإسلامية تشكّل القاعدة العامة في فهم القرآن، وأشار إلى أنّ هذه الآيات تقرر المبادىء والقواعد الشرعية الأكثر عموميةً وكليّةً، أي: ضرورة حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. وذهب إلى أنّ الوحي القرآني الذي تأخر في النزول، على الرغم من أنه قد يكون متمماً لهذه المبادىء والقواعد الكلية، إلا أنه يقوم بشكل رئيس بشرح وتفصيل معاني هذه القواعد المتقدمة. وعليه، فإنّ السور المدنية ترتبط بعلاقة وثيقة  بالسور المكية، وهي أقل كلية وشمولاً، وتضم في الغالب أحكاماً شرعية فرعية في مسائل تفصيلية.

يستنتج الشاطبي من قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أنّ الله تعالى مع انتهاء نزول الوحي قد أكمل للمسلمين دينهم سواء أكانت جميع تفاصيل الشريعة معروضة في القرآن أم لا، ويذهب إلى تقرير مبدأ أن القرآن قد تضمن جميع أسس وقواعد الدين الروحية والعملية، فهو بيان لكل شيء، إذ إن التعاليم القرآنية لم تغادر  أية قضية ذات شأن في الدين إلا وتناولتها بصورة ما(34). والنتيجة المنطقية المؤكدة لهذا المبدأ تتمثل بوضع السنة النبوية في المقام الثاني من حيث رتبة الاعتبار في نظرية الشاطبي الأصولية، وهذا ما ذهب إليه الشاطبي فعلاً.

وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ الشاطبي، وعلى الرغم من تقريره أنّ القرآن وحده هو الذي يضع أسس العقيدة والشريعة، فإنه يرفض استنباط الأحكام الشرعية منه دون العودة إلى السنة النبوية والأخذ بنصوصها، لأنها في نظره بمثابة القرآن المدني من حيث إنها تقوم ببيان مشكل القرآن، وتفصيل مجمله، وبسط مختصره. هذا دون أن ينسى أن يؤكد على تمام القرآن واكتفائه بنفسه من حيث الكلية والشمول، وأن يرفض بشكل قاطع أن يوجد في السنة ما لا يُوجد أصلا في القرآن(35).

على الرغم من الأدوار التي يسندها الشاطبي للقرآن والسنة، وعلى الرغم من أنّ تراتبهما في منظومته الأصولية أمرٌ لا سابق له في أصول الفقه حسب علمي، فهو بالتأكيد يوافق بقية الأصوليين بأنّ الله تعالى أوجب على المسلمين أن يعتصموا بالسنة النبوية ويحتجوا بها، ويتعاملوا معها بوصفها سلطة تشريعية(36). لكن اتفاقه معهم في تقرير حجية السنة لا يعني أنه يقبل بوجود أي حكم تشريعي لا يوجد أصلٌ له في القرآن، وهذه نظرة غير مقبولة بالنسبة لأغلبية الأصوليين إذا لم يكن جميعهم(37). ومما لاشك فيه، فإنّ نظرة الشاطبي هذه تحظى بمكانة وأهمية كبيرة في خطابه، ولها آثارٌ عملية على بقية أجزاء نظريته الأصولية. لذلك فقد حرص بكل ما أوتي من طاقة على الاحتجاج لهذه النظرة، والبحث عن أسانيد شرعية لها. وسيكون مركزُ اهتمامنا في الجزء المتبقي من هذا القسم عرضَ دفاع الشاطبي عن نظرته هذه، وسنحاول الإجابة في القسم الأخير من هذه الدراسة عن السبب الذي دفع الشاطبي إلى تبني هذه النظرة، وما هو أثرها بالنسبة لمجموع برنامجه وخطابه الأصولي.

يستدل الشاطبي في دعوته إلى ضرورة عودة الفقيه إلى القرآن أولاً في عملية الاستنباط الفقهي في المسائل التفصيلية، وإلى أنّ رتبة السنة متأخرة في الاعتبار عن القرآن، بأدلة عديدة يقف على رأسها، أنّ القرآن مقطوع  به، وأن السنة مظنونة، والقطع فيها إنما يصح في الجملة لا في التفصيل، بخلاف القرآن فإنه مقطوعٌ به في الجملة والتفصيل، والمقطوع به مقدَّمٌ على المظنون، فلزم من ذلك تقديم القرآن على السنة. وبهذا نرى أن الشاطبي يجعل نسبة الثبوت والقطعية هي المعيار الذي يحدد المكانة المعرفية لكلا المصدرين(38).

وتأسيساً على هذا المعيار، فإنّ القرآن هو المصدر الذي يزود عملية الاستنباط الفقهي بالقواعد الأولى الأكثر صلابة، ويجب على الفقيه – حتى الذي يقبل بوجود أحكام شرعية  لا تدخل في نطاق القرآن – عندما يريد استنباط أيّ حكم شرعي لأي مسألة أن ينظر أولاً في القرآن من أجل أن يتأكد من أنّ القرآن لم يتناول هذه المسألة، ولم يُجِب عليها.

وطالما أن السنة في حقيقة الأمر مجرد بيان للقرآن، فعلى الفقيه أن يبدأ بدراسة النص القرآني قبل أن يرجع إلى “النصوص المبيِّنة” له. إذ من دون البيان فإنّ النص يبقى قادراً على الحياة، لكن من دون النص نفسه، فإنّ البيان يصبح لا معنى له، هذا إذا لم يصبح مستغلقاً(39).

وقد حشد الشاطبي  مجموعةً من الأحاديث النبوية تؤكد وتدعم ما ذهب إليه من أنّ رتبة القرآن متقدمة على رتبة السنة في الاحتجاج والتشريع(40).

ونظراً لأن المكانة التي أسندها الشاطبي للقرآن في نظريته الأصولية لم تكن مجرد إضافة هامشية، بل تشير إلى تخليه التام عن نظرة الغالبية العظمى من العلماء إزاء هذه القضية، فلم يكتف الشاطبي بهذه الأدلة البسيطة نسبياً، بل لجأ إلى ردّ أدلة العلماء الذين يخالفونه في الرأي بطريقة تفصيلية ومسهبة.

إنّ السنة حسب الغالبية العظمى من العلماء، قاضيةٌ على القرآن، أيّ تُحدّد مقصودَ الشارع منه، لأنّ القرآن قد يكون محتملاً لأمرين فأكثر، فتأتي السنة بتعيين أحدهما، فيُرجع إلى السنة، ويُترك مقتضى القرآن. وأيضاً فقد يكون ظاهر القرآن أمراً فتأتي السنة فتُخرجه عن ظاهره. وكمثال على هذا الأمر، فإنّ القرآن قد أمر بقطع يد كلِّ سارق، فخصّت السنة من ذلك سارق النصاب المحرَز. وكذلك، فقد أباح القرآنُ الزواج من ما سوى المحرّمات التي نصّ عليها، فأخرجتْ السنّةُ من تلك الإباحة نكاحَ المرأة على عمتها أو خالتها.

ولدينا عددٌ كبير من الأحكام الشرعية التي تتصل بالصلاة، والزكاة، والصيام، والوضوء، والحج، والذبائح والصيد، وما يؤكل مما لا يؤكل، والبيوع وأحكامها.. ، جاءت مجملةً في القرآن، وتكفّلت السنة ببيانها في ضوء الأسس القرآنية. فعلى سبيل المثال، فقد أوجب القرآن بعبارات موجزة مجملة إقامة الصلاة على المسلمين، ولكن السنة هي التي حددت القضايا الجوهرية المتعلقة بهذه الإقامة، مثل أوقات أداء الصلاة كل يوم، وطريقة أدائها، وكل الجزئيات الأخرى المتعلقة بها(41).

يقبل الشاطبي حجية السنة بكل تأكيد، لكن بشرط أن تستتند إلى القرآن، وتدخل في نطاقه بصورة ما، وهو يرى أنّ قضاء السنة على القرآن، ليس بمعنى تقديمها عليه واطراح القرآن، بل بمعنى أن المعبَّر في السنة هو المُراد في القرآن، فكأنّ السنة بمنزلة التفسير والشرح لمعاني أحكام القرآن، ويدلّ على ذلك قوله تعالى مخاطباً رسوله الكريم {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44)، فإذا قامت السنّة ببيان عقوبة السارق المنصوص عليها في القرآن، بأن قالت بأنّ القطع من الكوع، وأنّ المسروق نِصابٌ فأكثر من حِرز مثله،  فذلك هو المعنى المراد في القرآن، ولا نقول: إنّ السنة أثبتت أحكام حد السرقة دون القرآن، كما إذا بيّن لنا أحدُ المفسّرين معنى آية، فعملنا بمقتضى تفسيره، فلا يصح لنا أن نقول إننا عملنا بقول هذا المفسر دون أن نقول عملنا بقول الله تعالى. وهكذا سائر ما بيّنته السنة من القرآن(42).

ويرى الشاطبي أنه إذا تعارض نصٌ قرآني قطعي، مع حديث نبوي يستند إلى قاعدة مقطوعٍ بها، أي مع حديث جزئي يدخل تحت معنى قرآني كلي، فيُرجَع في ترجيح أحد الدليلين القطعيين إلى قواعد الترجيح بين الأدلة المتساوية، حتى لو لم يتم في النهاية ترجيح النص القرآني. لأنّ هذه المعارضة في نظره هي من قبيل معارضة أصلين قرآنيين، وليست من قبيل معارضة القرآن القطعي مع السنة الظنية. وبهذه الطريقة، فإنّ الشاطبي لا يرى أية مشكلة، لأن الحديث النبوي يقدِّم في الحقيقة، شرحاً، أو إعادة صياغة لحكم قرآني. ولأنه في نهاية المطاف، قد تمّ الترجيح بين عبارتين مختلفتين أو متناقضتين ظاهرياً في داخل النص القرآني نفسه(43).

يشير كلام الشاطبي السابق بوضوح إلى أهمية افتراضه الضمني بأنّ القرآن يتضمن روح وجوهر الشريعة، وأنّ أيَّ مصدر آخر لا يمثّل، في نظره أكثر من حاشية على الكتاب المبين المكتفي بذاته.

وقد استدل المخالفون للشاطبي في موقفه هذا بعددٍ من الآيات تشير إلى أنّ السنة النبوية تُشكِّل مصدراً شرعياً مساوياً للقرآن، مثل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: 59)، ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى:{وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ} (المائدة : 92).

وذهبوا إلى أنّ معنى الأمر بطاعة الرسول يصبح لا قيمة له لو أنّ أقوال الرسول وأوامره مجردُ ترديد لما يماثلها من القرآن. وأنّ الدلالة الخاصة للأمر بطاعة الرسول تشير بوضوح إلى أنّ الرسولَ قد قرّر أوامر وأحكاماً لم ينصّ عليها القرآن. وقالوا بأنّ الآيات الدالة على الخضوع لسلطة الرسول مثل قوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} (الحشر: 7)، تدلّ على أنّ كلَّ ما جاء به الرسول، وكل ما أمر به ونهى عنه، فهو لاحقٌ في الحكم بما جاء في القرآن، فلا بدّ أن يكون زائدا عليه(44). وقد استدلّ هؤلاء العلماء بأحاديث كثيرة تدل على ذم ترك السنة، وإدانة كلّ منْ يجعل من القرآن مصدره الوحيد في التشريع(45).

لم يرَ الشاطبي أيَّ خيار إلا القبول بالأدلة النصيّة المذكورة أعلاه، حيث سلَّم بأن صلاحية النصوص المستَدل بها لا يمكن أن تكون موضع شك وجدال، غير أنه لا يرى كيف  يمكن لهذه الأدلة أن تنقض موقفه الخاص. فعندما تقوم السنة بتوضيح آية تتضمن حكماً شرعياً فالحكم المستنتَج هو حكم متجذّر بشكل كامل في القرآن، وليس في السنة. ولأننا – كما يقول الشاطبي – إذا قررنا أنّ السنة بيانٌ للقرآن، بمعنى أنها تحدّد المراد من النص القرآني، فإذا عمل المسلم على وفق البيان النبوي أطاع الله تعالى فيما أراد بكلامه، وأطاع رسوله في مقتضى بيانه، ولو عمل على مخالفة البيان النبوي عصى الله تعالى في عمله على خلاف ما أراد بكلامه، وعصى رسوله في مقتضى بيانه، فلم يلزم من إفراد الطاعتين تباين  المُطاع فيه بإطلاق، وإذا لم يلزم ذلك لم يكن في الآيات دليلٌ على أنّ ما في السنة ليس في القرآن، بل قد يجتمعان في المعنى، ويقع العصيانان والطاعتان من جهتين، ولا توجد استحالةٌ في هذا الأمر. وهكذا فإنَّ التمييز بين السلطتين الإلهية والنبوية لا يعطي الحق في التفريق بين حكمين مختلفين(46). وبكلمة أخرى، فإنَّ دفاع الشاطبي عن التفريق بين هاتين السلطتين، لايعني بالضرورة التمييز بين حكمين مختلفين يتعلقان بحالة واحدة، وهكذا فإنه لا يوجد دليلٌ بأنَّ السنة تتضمن أحكاماً لا تدخل في نطاق القرآن.

سرد الشاطبي الأحاديث التي استدلَّ بها المعارضون على ذمِّ أولئك الذين اطّرحوا السنة، وذكر كلامهم بأنّ اللجوء إلى تأويل القرآن دون العودة إلى السنة المبيّنة له لا يؤدي إلى عقائد هرطقية فقط، بل إنّ هذا النوع من المقاربة التأويلية للقرآن، هو أمر منهيٌّ عنه بنص القرآن نفسه، لأنه – كما يقول هؤلاء المعارضون – لا يوجد في كتاب الله أيُّ نص يشير إلى أنه يجب على المسلمين أن لا يقبلوا من حديث رسول الله إلا ما وافق كتاب الله، بل يوجد في القرآن نصٌ يُطلق التأسي بالرسول، والأمر بطاعته، ويحذّر من المخالفة عن أمره جملة على كل حال.

أما بالنسبة للشاطبي فإنه في الوقت الذي يصف فيه كلّ عمل يؤدي إلى هجر السنة بالهرطقة، فإنه يرفض قبول أحاديث الآحاد التي لا تتوافق مع القرآن ولا مع عموم ومجموع الأحاديث النبوية(47). وبهذا نفهم أنّ الشاطبي يرى أن السنّة لا يمكن أن تكون في حال تناقض مع القرآن، وأنه لا يمكن القبول بأي حديث آحاد إذا لم يكن متوافقاً ومنسجماً مع هذا المصدر الرئيس. وعليه، فإذا كانت السنة متوافقةً مع القرآن، فإنه لا يمكن لنا أن نجد فيها شيئاً لا يحظى بقبول القرآن وموافقته، ولا يمكن أن نجد فيها شيئاً إلا ونجد أصله وجذره في القرآن.

وقد أشار خصوم الشاطبي زيادةً على الأدلة السابقة التي تتسم بالطابع العمومي الشديد، إلى أنه توجد في السنة أحكام شرعية كثيرة، لم ينصّ عليها القرآن، كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وتحريم أكل الحمر الأهلية، وكلّ ذي ناب من السباع، وأن لا يُقتل مسلم بكافر(48).

يعلّل الشاطبي ورود هذه الأحكام في السنة بالقول: بأنه قد ينصّ القرآن على حكمين شرعيين، ثم تأتي مسألةٌ تقع بين هذين الأصلين القرآنيين، بشكل لا يُعرف عن طريق الاجتهاد إلى أيّ الأصلين هي أقرب حتى تأخذ حكمه، فهنا تأتي السنة فتلحق هذه المسألة بأحد الطرفين، ومثال على هذا الأمر، بأنّ الله تعالى قد أحلّ الطيبات وحرّم الخبائث، وبقي بين هذين الأصلين أشياءٌ يمكن إلحاقها بأحدهما، فبيّن الرسول في ذلك ما اتضح به الأمر، فنهى عن أكل كلّ ذي ناب من السباع، وكلّ ذي مخلب من الطير، ونهى عن أكل لحوم الحُمُر الأهلية. ومثال على ذلك أيضاً، أنّ الله تعالى قد أحلّ من المشروبات ما ليس بمُسكِر كاللبن، وحرّم الخمر من المشروبات لما فيها من إزالة العقل الموقع للعداوة والبغضاء، والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، فوقع فيما بين هذين الأصلين ما ليس بمسكر حقيقة، ولكنه يوشك أن يُسكر، وهو نبيذ التمر ، وغيره من المشروبات غير المسكرة حقيقةً، وهنا تدخّلت السنة لتُلحِق أصناف هذه المشروبات بالأصل الذي يبيح المشروبات غير المسكرة، وقررت في مقابل ذلك بأنّ كل المشروبات المسكرة سواء أكانت تحتوي على نسبة كبيرة أم صغيرة جداً من الكحول فهي محرّمة إلحاقاً لها بالأصل الذي ينهى عن المسكرات بإطلاق. وبناءً على هذه الأرضية فقد صاغت السنة القاعدة المأثورة التالية: ما أسكر قليلُه فكثيرُه حرام(49). وهكذا، فإنه على الرغم من أنّ السنة تتضمن أحكاماً شرعية محدّدة بل يمكن أن تتضمن بعض القواعد والمبادىء الشرعية أيضاً، فإنّ هذا لا يعني – كما يؤكد الشاطبي – أنّ هذه الأحكام والقواعد أقلُ استناداً إلى القرآن. إذ إنّ جذورها، في الحقيقة، تنغرس عميقاً في النص القرآني.

يقول الشاطبي: إنه يوجد في القرآن أصول شرعية عامة تشير من خلال صياغتها إلى أن كل ما كان من قبيلها، فإنّ حكمه حكمها، فتقوم السنة بإلحاق بعض الفروع بهذه الأصول لاشتراكها في المعنى، ولا يهمّ في هذه الحالة أن نعرف فيما إذا كان الرسول قد قال هذه الأحكام عن طريق الوحي أو باللجوء إلى النظر العقلي واستخدام القياس، غير أنها في نظر المجتهد عملية استدلالية تقوم على آلية القياس. يمثّل الحكم الشرعي المتعلق بزواج عمة أو خالة الزوجة مثالا ممتازا على هذا النوع من الأحكام النبوية، فالقرآن حرّم الجمع بين الأم وابنتها في النكاح، حتى لو أن الزوج طلق الأم قبل إبرام عقد النكاح مع البنت، وكذلك حرّم الجمع بين الأختين، فجاء نهي النبي عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها من باب القياس على هذا التحريم القرآني، لأن المعنى الذي لأجله ذمّ القرآن الجمع بين البنت وأمها أو أختها موجودٌ نفسه في حالة الجمع بين الزوجة وخالتها أو عمتها، وعبارة الرسول في هذه المسألة تشير إلى هذا المعنى حيث جاء في الحديث: “فإنكم إذا فعلتم ذلك قطّعتم أرحامكم”، وهذا التعليل يذكِّر ـ كما يقول الشاطبي ـ بنموذج الاستدلال الشرعي المستخدَم في القياس(50).

وقبول اليمين كدليل في إجراءات الإثبات القانونية هو دليلٌ آخر على لجوء الرسول إلى آلية القياس في بعض أحكامه. حيث يقول الشاطبي: إنه على الرغم من انحطاط رتبة القيمة القانونية لشهادة للمرأة عن الرجل في الشهادة على الأموال، جاء في القرآن: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} (البقرة:282)، فإنّ القبول بشهادتهن في القرآن يشير بشكل واضح إلى أنه عند عدم وجود شاهد ذكر يمكن القبول بشهادةٍ أخرى بديلة، فألحقت السنة بهذا الحكم اليمين مع الشاهد الذكَر، فجرى الشاهد واليمين مجرى الشاهدين الذكَرين أو الرجل والمرأتين، فاليمين مثل المرأتين يمكن أن يتمم شهادة رجل واحد عند عدم وجود رجل آخر يمكن أن يقوم بالشهادة(51).

وفي نفس هذا السياق، أي اللجوء إلى آلية القياس، فقد قرّرت السنّةُ عقوبة المسلم الذي يقتل غير المسلم، حيث قررت انطلاقاً مما جاء في القرآن: {وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء:141)، وإلى حدٍ أقل: {لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} (الحشر:20)، أنّ مكانة المسلم أعلى من مكانة غير المسلم، وعليه فإنّ عقوبة المسلم في حال قتله غير المسلم يجب أن تكون أقل من الموت(52).

بعد أن فسّر الشاطبي، وعلّل المسائل التي يطرحها خصومه، وأشار بأنها قابلة للإلحاق بالقرآن والإضافة إليه، انتقل إلى مستوى أعلى في التحليل. ولم يسعَ في هذا المستوى إلى تطوير ودعم أطروحته القائلة بأنّ القرآن يتضمن، بالإضافة إلى أشياء أخرى، كلَّ ما يتعلق بالأحكام الشرعية فقط، بل أخذ يلمِّح أيضاً إلى الأسباب الكامنة خلف صياغته لهذه الأطروحة.

يقرّ الشاطبي بأنّ السنة يمكن أن تتضمن بعض الأحكام الشرعية التي لا نجدها في العبارة القرآنية المجملة، ولا حتى في العبارة المشكلة، ولا في غير المباشرة. غير أنّ مثل هذه الأحكام الشرعية لها أصل في القرآن.

ويضيف الشاطبي إلى الأدلة السابقة فَرَضيَّته الرئيسة التي تقول: إنّ كل آية أو عبارة قرآنية تمتلك معاني ذات وجوه عديدة، بعضها مباشر، وبعضها غير مباشر. فقد يكون لآيةٍ ما ضمن سياقها الخاص معنى واضح ومباشر، ويمكن أن يكون لها في الوقت نفسه معنى آخر يتطابق مع معاني أخرى موجودة في آيات أخرى. وبكلمة أخرى فقد يتألف من عددٍ من أدلة القرآن المتفرقة معنى واحد مشترك بينها جميعاً على الرغم من انفراد كلٍ منها بمعنى خاص بها، وإنّ الأدلة قد تأتي في معان مختلفة، ولكن يشملها معنى واحد تشترك فيه جميعاً، فتأتي السنة  فتصوغ هذا المعنى وتنصّ عليه،  فيكون ذلك المعنى مأخوذاً في الحقيقة من مجموع تلك الأدلة القرآنية المتفرقة، وهكذا فإنّ توارد مجموعة من النصوص القرآنية حول معنى واحد، يعطي هذا المعنى المشترك نوعاً من الحجيّة التي يمكن أن تصل إلى درجة اليقين، ففي الوقت الذي يبقى فيه(53) هذا المعنى المشترك حبيس الصياغات اللغوية العديدة للأدلة القرآنية المتفرقة، فإنّ السنة تُخرجه في شكل حديث نبوي(54). ويمكن أن نذكر حديث: “لا ضرر ولا ضرار” كمثال واضح على هذا الأمر حيث يعبّر هذا الحديث عن معنى واحد جاء في أعطاف أدلة قرآنية عديدة تضافرت على تأييده(55).

ويمضي الشاطبي في تقرير مبدأ عام يقضي بأنّ القرآن يقرّر الأساس الأكثر أهمية في الشريعة، أي المبدأ الذي ينظّم مصالح العباد. لأنّ الهدف الكلي للشريعة يكمن في نهاية المطاف في الحفاظ على مصالح المسلمين الدنيوية والأخروية على السواء(56).

ومن أجل تجقيق هذا الهدف، فإنّ الشريعة تسعى إلى حفظ ثلاثة أقسام من المصالح، هي على التوالي المصالح الضرورية، والحاجية، والتحسينية. ومن دون تجقيق مصالح القسم الأول التي تقتضي حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، فإنه لا يمكن أن يكون الوجودان الدنيوي والديني منتظمين، بل قد يكون انتظامهما أمراً مستحيلاً. ومن جهة أخرى فإنّ القسمين الآخرين يجعلان تطبيق الشريعة أمراً ممكنا من خلال تخفيف المتطلّبات الشديدة (الرخص الشرعية)، ومن خلال التوسعة، والتيسير، ورفع الحرج، والرفق.

ويؤكد الشاطبي دون كلل أو ملل أنّ الشريعة أتت لتحقيق هذه الأقسام الكلية الثلاثة(57)، وهي الأقسام المنصوص عليها في القرآن، والمفصّلة في السنة. فالقرآن أتى بها أصولاً يُرجع إليها، والسنة  أتت بها تفريعاً على القرآن، وبياناً لما فيه منها. وأي حكم جزئي تفصيلي قد نجده في السنة فقط، فهو ليس أكثر من بيان لمبدأ كلي قرآني. والاختلاف هنا بين القرآن والسنة، هو الحقيقة اختلاف بين التأصيل القرآني الذي يؤصّل الأسس، وبين البيان النبوي الذي يفصّل هذه الأسس، وذلك من خلال توسيع أحكامها لتنطبق على حالاتٍ مخصوصة جديدة(58).

فالضروريات  الخمس كما تأصّلت في القرآن، تفصّلت في السنة، فإنّ (حفظ الدين) حاصله في ثلاثة معان، وهي الإسلام، والإيمان، والإحسان، فأصلها في القرآن، وبيانها في السنة، ومكمله ثلاثة أشياء: وهي الدعوة إليه، وجهاد مَنْ عانده أو رام فساده، وتلافي النقصان الطارىء في أصله. وأصل هذه المعاني في القرآن، وبيانها في السنة على الكمال.

و(حفظ النفس) حاصله في ثلاثة معان: وهي إقامة أصله بتشريع الزواج، وحفظ بقائه بعد خروجه من العدم، من جهة المأكل والمشرب، والملبس والمسكن، ومكمله ثلاثة أشياء، وذلك كاجتناب الزنى، والنكاح الصحيح، وما يلحق به من متعلقاته كالطلاق والخلع واللعان،  وحفظ ما يتغذى به أن يكون مما لايضر أو يقتل أو يفسد، وإقامة ما لا تقوم هذه الأمور إلا به من الذبائح والصيد، وشرعية الحد والقصاص. وشبيه بذلك فإنّ القرآن يقدم المبادئ الشرعية العامة التي تهدف إلى حفظ الأملاك. ومثل ذلك (حفظ العقل) بمنع تناول ما يفسده مثل الخمر، وهو مذكور في القرآن، ومكمله تشريع حد الخمر أو الزجر عن سائر المخدرات الموكول إلى اجتهاد الأمة،  وذلك لأنّ القرآن ترك التنصيص على أحكام خاصة لهذه الأمور المكملة، فتركتْ السنة أيضا النصَّ على حكم خاص بها، وبالتالي تُرك الحكم فيها إلى الاجتهاد. وقد وجد الشاطبي في هذا الأمر فرصة مناسبة للإشارة إلى أنَّ السنّة تترك كل ما يتركه القرآن نفسه.

يجب أن يُشرَح إصرار الشاطبي على صدارة القرآن، وتَقَدُّم رتبته على السنة – وهو موقف شكل خروجاً عن النظرية الأصولية المتوارثة – في ضوء النتائج المترتبة على نظريته. غير أنّ الشاطبي لم يبذل جهداً في سبيل استخلاص أي نتيجة من أطروحته حول القرآن. ولم يتكلم عن الدلالة أو الغاية المقصودة من وراء نظراته التي اقترحها. لقد قرّر مكانة القرآن بالنسبة إلى السنة ثم انتقل ليعالج قضايا أخرى لا تربطها علاقة مباشرة بالأمور التي انتهى للتو من بيانها وإفاضة القول فيها. لكن المفاتيح التي تساعدنا على فهم دلالة ترتيب الشاطبي الغريب لمصادر الشريعة، موجودة في الأقسام الأولى من كتابه الموافقات، حيث قرر المبادىء المعرفية والقانونية لنظريته.

العنصران الأكثر أهمية في نظريته، هما مبدأ الحفاظ على المصلحة العامة، ومنهج الاستقراء المنطقي. حفظ المصلحة العامة يمثل غاية مشروع الشاطبي النظري. والاستقراء وسيلة هذا المشروع.

اعتبر الشاطبي أنّ غاية الشريعة بشكل رئيس هي حفظ الضروريات الخمس ومكملاتها، كما هي أيضا ترقية الحاجيات والتحسينات. فقبول عقد العرايا في الفقه، وهو العقد الذي يتضمن غرراً(59)، وتخفيف الأوامر الشرعية في ظروف الحرج والمرض هما مثالان على مرونة الشريعة في مواجهة الظروف الطارئة. هذه الأحكام المخففة هي بلا شك ترفع الضيق والحرج عن المسلمين أثناء تنفيذهم واجباتهم الشرعية.

والتوصية بتحرير العبيد، والطهارات كلها، والتقرب بنوافل الخيرات من الصدقات والقربات.. كلها أمور راجعة إلى محاسن زائدة على أصل المصالح الضرورية والحاجية، ففقدانها لا يخلّ بأمر ضروري ولا حاجي، وإنما جرت مجرى التحسين والتزيين، ومن هنا جاء وصفها بالتحسينات(60).

لا تقوم حجية مبادىء المصلحة العامة على أيّ نص قاطع في القرآن ولا في السنة، ولكنها مستمدةٌ من استقراء نصوص الوحي. وفي الحقيقة، فإنّ عدداً من مصادر التشريع، مثل الإجماع، والقياس، والاستحسان، تمّ إثبات حجيتها من خلال الاستقراء(61). فعلى سبيل المثال، لا توجد أية آية واضحة، ولا أي خبر متواتر ينصّان بشكل مباشر على عصمة الأمة الإسلامية. وعلى الرغم من ذلك فإنّ مشروعية الإجماع وحجيته جاءت من خلال الاستناد إلى آيات وأحاديث وأدلة ثانوية أخرى لا يُشكِّل كلُّ واحد منها بمفرده دليلاً قطعياً على حجية الإجماع، إلا أنها تتضمن جميعاً معنى مشتركاً ثابتاً يشير إلى عصمة الأمة الإسلامية بعمومها عن الاجتماع على الخطأ(62).

وبكلمة أخرى، فإنّ الشاطبي يثبت أنّ الشريعة تحتوي مبادىء كلية تستمد حجيّتها فقط من عدد من الأمثلة الظنية أو الجزئيات التي يؤيد بعضُها بعضاً لتصل إلى مرتبة اليقين المطلق. فلم تثبت الكليات الثلاث، حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينات المتجذّرة في القرآن على الوجه الأكمل(63)، بالاستناد إلى نص قرآني محدّد، بل من خلال أدلة كلية وجزئية منضاف بعضها إلى بعض، مختلفة الأغراض، ولكن انتظم من مجموعها معنى مشترك واحد اجتمعت عليه تلك الأدلة.

وعندما يتم النظر إلى هذه المبادىء “المعاني” بوصفها كليات، فإنها تصل إلى مرتبة اليقين الذي يحول بينها وبين إمكانية إلغائها أو نسخها(64)، وبهذا تصبح هذه الكليات قوة تنظيمية في الشريعة. نظراً لأن الله تعالى لا يمكن أن يُنزّل كلياتٍ متناقضة لأنّ هذا يجعل الشريعة متناقضة، فضلاً عن أن تكون عبثية، غير أن المشكلة تظهر عندما يحدث أيُّ تعارض بين كلية قطعية وبين جزئي ظني. ولكن طالما أنه لا يمكن الوصول إلى كلية قطعية من دون استقراء جميع جزئياتها التي تنتمي إلى موضوعها، فإنه لا يمكن أن يوجد جزئي واحد يندرج تحت هذه الكلية، ويكون متناقضاً معها في الوقت نفسه، لأنه إذا كان مندرجاً ولم يكن مأخوذاً بعين الاعتبار  في عملية الاستقراء، ففي هذه الحالة فإنّ الكلية تتحول إلى مجرد كلية ظنية، وبالتالي قابلة للإلغاء(65).

ولكن ما العمل إذا ما تخلّفت جزئية بعد ثبوت كليّةٍ ما بالاستناد إلى العديد من الجزئيات الداعمة الأخرى؟ هنا يمكن أن يُحتج بأنه من المقبول منطقياً في المسائل الفقهية الفرعية إثبات قواعد كلية بالاستناد إلى أكثر الجزئيات، وليس من الضرورة أن يكون الاستقراء الشرعي تاماً. وبالنظر إلى أنّ الضروريات الخمس ثابتة بوصفها كليات، فإنه يجب أن تؤوَّل جميع الشريعة طبقا لها، وعليه فمن الواجب اعتبار كل الجزئيات بهذه الكليات، وإهمال كل جزئية  تخالفها. ولكن في الوقت الذي يقبل الشاطبي فيه هذا المنهج بشكل عام، فإنه يحرص حرصاً شديداً على تسويغ الجزئيات المتخلّفة. فعلى سبيل المثال، فإنّ المبررات التي تمّ تأسيس عقد العرايا عليها، تخالف بشكل حادّ قواعد العقود في الشريعة، ولكنه على الرغم من ذلك، فإن هذا العقد يُعدّ عقداً صحيحاً. يشكّل هذا الاستثناء مع غيره من الحالات الكثيرة مثله، كليّةً أخرى، هي الصنف الثاني من المصلحة، أي الحاجيّات. لأنّ وظيفة هذا الصنف الثاني من الكليات في حقيقة الأمر هي تخفيف مشقة الصنف الأول. فظهور كليّة، هو نتيجة لوجود عددٍ كبير من الاستثناءات المسوَّغة والكافية لتكوين كلية أخرى. وعليه فإنّ الفشل في تسويغ الاستثناءات، على المستويين النوعي والكمي، سوف يؤدي إلى إلغاء الصنف الثاني، وسوف يؤدي أيضاً إلى إلغاء الصنف الثالث من الكليات(66).

ولكن يجب الانتباه إلى أننا إذا أهملنا  الجزئيات التي لا تتطابق مع كليةٍ ما، وبشكل خاص عندما تتعدد هذه الجزئيات وتكثر، فإنّ هذا سوف لن يخدم مصالح البشر، ولن يكون منسجماً مع مقصد التشريع، لأنّ الشارع لا يمكن أن ينصّ على هذه الجزئيات عبثاً.

وبسبب قبول الشاطبي هذه الجزئيات ككليات، فهو يلغي اعتبار أي جزئية تتناقض معها. لكن كيف يتفق هذا التأكيد مع كلامه السابق الذي يرى فيه ضرورة تسويغ الجزئيات المتخلّفة؟ يؤكد الشاطبي من جديد أنّ الكليات الثلاث تمثّل في حقيقة الأمر روح الشريعة، وبناءً على ذلك، فإنه لا يمكن وجود أي جزئية تعارضها. وإذا ظهر أنَّ جزئيةً ما تعارض كلية معينة، فإنّ هذه الجزئية تكون في الحقيقة قد أتت إما لتحمي كلية شرعية عامة أخرى، أو لكي تدعم جانباً آخر من نفس هذه الكليّة. فعقوبة القتل، جزئية تتناقض بالتأكيد مع الكلية الضرورية التي تدعو إلى حفظ النفس. ولكنه على الرغم من أن قتل القاتل يُعدّ بحد ذاته انتهاك لهذه الكلية، فإنّ هذا القتل في الوقت نفسه ضروري لحفظ هذه الكلية نفسها، حيث تُقتل نفسٌ في سبيل حماية نفس أخرى.

وهكذا، فإنّ الشاطبي يلحّ على أنه لا يمكن لأي جزئية معزولة أن تخرم كليات الشريعة، وبشكل خاص الضروريات والحاجيات والتحسينيات(67). حيث يقول: “فإنّ الغالب الأكثري [الذي يكوّن كليّة] معتبرٌ في الشريعة اعتبار العام القطعي، لأن المتخلّفات الجزئية لا ينتظم منها كليّ يعارض هذا الكلي الثابت”(68).  وهذه المتخلّفات الجزئية لا تستطيع تشكيل كلية أخرى لأنها ليست أكثر من  استثناءات معزولة لا تقوى على تكوين كلية خاصة بها. إذاً، فإنّ عبارات الشاطبي المتكررة المتعلقة بالقطعية، وعدم إمكانية إلغاء الكليات، وعدم قدرة الجزئيات المتخلّفة على تغييرها(69)، تشير بوضوح إلى أنه لا يأخذ بعين الاعتبار إلا الكليّات.

بعد أن اتضحت لنا معالم نظرة الشاطبي الابستمولوجية الآنفة الذكر، يصبح هدفه من جعل السنة راجعة في معانيها للقرآن، ومن كونها مجرد بيان وتفصيل له، أسهل وأقرب للفهم. ويتضح لنا أنّ إلحاحه على شمولية القرآن، وبشكل خاص على الطابع التشريعي الشامل للسور المكية المبكرة كان مقصوداً للمحاجّة بأن القرآن هو وحده مصدر كليّات الشريعة. ونظراً لأن السنّة يقتصر دورها على تفسير القرآن وتفصيل النصوص العامة والمجملة فيه، فإنّ كل شيء فيها لا يمثّل أكثر من جزئيات لا يمكن إلا أن تتوافق مع الكليّات القرآنية. وبهذا نفهم بالضبط لماذا كان يردّ كل الأحاديث التي لا تنسجم وتتوافق مع القرآن.

وقد اتخذ من قطعيّة النص القرآني التامة بشكل عام، والآيات القطعية الدلالة بشكل خاص، حجةً رئيسة تدعم نظريته. وأشار إلى أنّ ظنية أخبار الآحاد، والغياب العملي للأحاديث المتواترة(70)، يضعان السنة من الناحية الابستمولوجية في رتبة أقل من القرآن. ولذلك، فإنه لم يكن يتردد في رفض أي خبر آحاد إذا وجده يمثّل جزئية، تتناقض مع كلية قرآنية، وفي المقابل لم يكن يتردد في قبول أي خبر آحاد يستند إلى أصل قرآني قطعي بأي صورة من الصور، وكان يتعامل معه على أنه بيانٌ وتفصيل للقرآن.

وهكذا، فإنّ القرآن المكي هو الذي يتضمن كليات الشريعة، وبهذا فهو يمثّل في الحقيقة محور الارتكاز في التشريع الإسلامي، وهو المحور الذي لا يقبل النزاع و الجدل حوله(71).

ويثبت الشاطبي في فصل مستقل بأنّ أغلب الآيات المكية تدور بشكل حصري حول قضيتين، عبادة الله تعالى، وتحقيق مصالح البشر في ضوء الهداية الربانية(72). وبهذا، فقد قام الشاطبي من خلال إعطاء القرآن مركز الصدارة بين مصادر التشريع، والتنبيه إلى أهمية القرآن المكي في التشريع، بدفع النظرية الأصولية المتوارثة خطوة إلى الأمام مشدِّداً على أنّ الشريعة مشيَّدة على النص التأسيسي الأكثر صلابةً ووثوقيةً في المنظومة الإسلامية، وهو النص الذي يناصر في الآن نفسه مصالح البشر بطريقة لا تقل عن دعوته إلى المحافظة على حقوق الله تعالى نفسها(73).

إنّ الصلة الوثيقة التي يصوغها الشاطبي بين أكثر أنواع النصوص قطعيةً [أي القرآن الكريم] وبين فكرة “إنسانية” التشريع – المعبّر عنها في نظريته حول المقاصد – تكتسب أهمية بالغة في مشروعه الفكري العام. وإنّ تأكيده المدعوم بالأدلة القطعية، على المتطلَّبات الإنسانية، واعتبارها نظيراً كاملاً للعبادة الدينية يمثّل انطلاقة لا تخلو من المجازفة من إسار الاتجاه السائد والمستقر في النظرية الأصولية السنيّة. وفي الحقيقة، لم يجد المعارضون للشاطبي بُدّاً من التسليم له عندما برهن مستنداً إلى نظريته المتماسكة والصارمة في الاستقراء الشرعي, أنّ الوحي المكي بشموله وكلياته التي لا تقبل الدحض والنقض يدعم ويناصر مصالح البشر.

علاوةً على هذا، فإنّه في الوقت الذي كان فيه الشاطبي يتبنّى نظريةً في التشريع تُشدّد على دنيوية مصالح المجتمع مع المحافظة على صلة قوية مع الجانب التعبّدي الروحي فيه، فإنه كان يسعى ليواجه ما كان قد اعتبره قضية إشكالية في عصره. وقد كان يناصر عبر مؤلفاته تبسيط التشريع، ويجاهد بلا كلل ولا ملل ضد الصياغات والتجريدات المعقّدة للنظرية الأصولية الشائعة في عصره(74). وكان يعتقد بوجود صلة قوية بين سيادة هذه النظرية الأصولية التي تتسم بالتجريد والتنظير الكلامي وبين المشكلة الخطيرة التي اجتاحت مجتمعه الأندلسي. وهو لا يفتأ يؤكّد باستمرار في كتابيه اللذين وصلا إلينا معارضتَه الصلبة والمحكمة للممارسات التشريعية لهذا المجتمع، حيث كان يرى أنّ هذا المجتمع يقوم بالتهرب والتلاعب بشريعة الله دون أي تحرّج وشعور بالذنب(75). وكان يرى أنّ ممارسةَ الحيل الشرعية، والتلفيق العشوائي بين المذاهب الفقهية الأربعة، بالإضافة إلى الهجر الفعلي للشريعة أمورٌ ليست حصيلة الطابع التجريدي للنظرية التشريعية فقط، لكن أيضا حصيلة النظرة الكلامية لهذه النظرية وطابعها اللاتاريخي الذي يتجاهل المتطلبات الإنسانية والاجتماعية(76). وبكلمة أخرى، فإنّ فشل النظرية التشريعية السائدة في تطوير فهم لحماية الشريعة للقضايا التي تهمّ البشر والمجتمعات، والخطاب التجريدي الذي استخدمه الفقهاء في عرض فقههم قد نفّر المسلمين من الشريعة. هذا بالضبط هو الذي حمل الشاطبي على التشديد مراراً وتكراراً على أنّ الإسلام والشريعة الإسلامية لا يختلفان عن حامل الرسالة من حيث إنه كان “نبياً أمياً”(77). أي إنّ الواجبات الشرعية الأساسية الواجبة على جميع المسلمين، وكذلك حقوقهم الأساسية كما تمّ تقريرها في السور المكية كلها قابلةٌ للفهم بالنسبة لجميع الناس من جميع المستويات(78).

ومن خلال إسناده إلى تلك السور، التي تعطي الوجود الدنيوي نصيبَه المشروع من الحقوق والمزايا، دوراً رئيساً في نظريته، فإنّ الشاطبي كان يحثُّ إخوانه المسلمين إلى العودة إلى تطبيق الشريعة بشكل سليم، هذه الشريعة الحريصة على الناس ومصالحهم.

لقد كانت “الدنيوية” [بمعنى الانهماك في حفظ مصالح الناس والمجتمعات] التي تُشكّل أساس نظرية الشاطبي هي المسؤولة عن موقفه المتفرّد نحو دور القرآن في نظريته الأصولية، بل أكثر من ذلك حيث إنها تبيّن لنا لماذا أسند الشاطبي للقرآن نصيبَ الأسد في عملية الاستدلال الفقهي، وأحلّ السنّة النبوية في المرتبة الثانية في هذه العملية.

وكان لا بدّ لمثل هذه النظرة الجديدة من أن تؤثر، من خلال نظريّة مبنية بشكلٍ مُحكَم، على مجموعةٍ من آراء الشاطبي التي اتسمت بالجدة والتميّز، وشكلّت خروجاً واختلافاً عن آراء بقية الفقهاء. وفي الواقع، فقد شكّلت حصيلة هذه الآراء، في نهاية التحليل، نظريةً انفردت بمجموعة مقرَّرة من الدوافع، ومن المنطلقات، وانفردت كذلك أيضاً بنظامٍ متميّز هو المسؤول عن تنظيم أسلوبها الخاص في بناء الخطاب. حيث قام هذا الخطاب من خلال طابعه النظري المحكم بإخفاء العلاقة التي تربط النظرية بالواقع التاريخي المتعيّن الذي أنتجها. وهو الواقع الذي يمكن أن يتجسّد بشكل جيد في مستوى ابستيمولوجي، وعقدي واجتماعي، أو ببساطة في مستوى مادي محسوس.

وأخيراً، إلى أي مدى يمكن للنظرية أن تكشف عن مشروعها الدنيوي التاريخي الخاص بها. أو إلى أي مدى يمكن أن تكشفَ “الدنيوية” عن تعقيدات الصياغة الشكلية للخطاب الشرعي؟

أسئلةٌ تكمن إجاباتها في البحث عن العلاقة الجدلية الرابطة بين النص وبين عالم المؤلف. ومن دون إخضاع الظرف التاريخي للمؤلف للتفحُّص العلمي الدقيق، فإنّه لا يمكن معرفة وتحليل هذه العلاقة، التي لا مندوحة عن دراستها من أجل تفهُّمٍ مناسب للنظرية التشريعية في الإسلام.

 

الهوامش

(1) هذا  الموقف هو السائد بين الباحثين الغربيين في ميدان الشريعة الإسلامية. انظر على سبيل المثال:

N.j. Coulson, A History of Islamic Law (Edinburgh, 1964), 84.

يردد هذا الكتاب الأقوال التي أشار إليها من قبل H.A.R. Gibb في كتابه  Mohammedanism , New York, 1962, (104).

للوقوف على تفاصيل أدق، انظر:

Bernard weiss, ” Knowledge of the Past: The Theory of Tawatur According to Ghazali“, SI, 61, (1985), 85 (11. 13-16).

ولا يختلف موقف العلماء العرب والمسلمين عن موقف العلماء الغربيين في هذه القضية.

(2) إمام الحرمين الجويني، البرهان في أصول الفقه، طبعة، عبد العظيم الديب، في مجلدين،  (القاهرة، 1400هـ/ 1980م).

(3) أبو حامد الغزالي، المستصفى من علم الأصول، في مجلدين، ( القاهرة، 1322هـ/ 1904- 1905م). وله أيضاً، المنخول من تعليقات الأصول، طبعة محمد حسن هيتو، ( دمشق، 1970م).

(4) سيف الدين الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام،  ثلاثة مجلدات، ( القاهرة، 1968م).

(5) موفق الدين ابن قدامة، روضة الناظر وجنة المناظر، طبعة سيف الدين الكاتب، (بيروت، 1981م).

(6) جمال الدين ابن الحاجب، منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل، طبعة  محمد بدر الدين النعساني، ( القاهرة، 1326هـ/ 1908م).

(7) محمد بن إبراهيم اليمني، إيثار الحق على الخلق، ( القاهرة، 1318هـ/ 1900ـ 1901م)، 200، لاحظ أن مختصر ابن الحاجب قد حظي بسبعين شرحاً، مع العلم أن اليمني قد مات بعد ابن الحاجب بقرنين تقريباً.

(8) أبو الحسين البصري، المعتمد في أصول الفقه، طبعة محمد حميد الله، في مجلدين، ( دمشق، 1964/ 1965م).

(9) انظر عبارة ابن خلدون في هذا الشأن، المقدمة، الترجمة الفرنسية:

. Fr. Rosenthal, 3 vols. (London, 1967), III, 28 ff. وانظر أيضاً :

Nicholas P. Aghnides, Mohammedan Theories of Finance (New York, 1916), 173-175  (nos. 3, 8, 10, 11).

(10) شمس الدين السرخسي، الأصول، في مجلدين، ( القاهرة، 1327هـ/ 1909- 1901م).

(11) عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، في مجلدين، (القاهرة، دون تاريخ نشر).

(12) أبو إسحق الشاطبي، الموافقات في أصول الأحكام، طبعة محي الدين عبد الحميد، في أربعة مجلدات، (القاهرة، 1970م). في الوقت الذي يتفق فيه كلاً من الشاطبي وابن عبد السلام في بناء عملهما الأصولي على أساسٍ من المصلحة بشكل رئيس، فإن منهجيتهما وبنية نظريتهما تختلفان عن بعضهما البعض بشكل كبير. من أجل الاطلاع على الظروف الاقتصادية والاجتماعية لغرناطة في العصر الذي عاش فيه الشاطبي، وللوقوف على نظريته الأصولية بشكل عام، انظر:

Khalid Masud, Islamic Legal Philosophy (Islamabad, 1977).

هذه الدراسة عبارة عن أطروحة دكتوراه  تمت تحت إشراف تشارلز آدمز في جامعة ماكغيل في كندا.

(13) ابن قدامة، الروضة، 60-62، ابن الحاجب، المنتهى، 33-34، الغزالي، المستصفى، 1/100-101. لا يشير أبو الحسين البصري في كتابه المعتمد، (1/13-14) حتى إلى مصادر التشريع، بل إنه يبدأ كتابه بعرض مباحث الألفاظ. انظر أيضاً، أبو على الشاشي، الأصول، (بيروت، 1982م) ، 13. وأبو إسحق إبراهيم الشيرازي، اللمع في أصول الفقه، طبعة محمد بدر الدين النعساني، (القاهرة، 1326هـ /1908م)،4.

(14) انظر على سبيل المثال،  ابن قدامة، الروضة، 77-78 .16

(15) الشاطبي، الموافقات، 3/224، يستند الشاطبي في بناء حجته تلك على قاعدة أصولية متفق عليها، وهي أنه (لا يمكن التكليف بما لا يُستطاع).

(16) المصدر السابق، 3/225.

(17) المصدر السابق، 2/44، 55؛ 3/229-230. وانظر أيضاً، الاعتصام، طبعة محمد رشيد رضا، في مجلدين، (القاهرة، 1332هـ/1913-1914م)، 2/256.

(18) انظر:

Wael  Hallaq, “Notes on the term Qarina in Islamic Legal Discourse” JAOS, 108, (1988),  475-480 .

(19) تشكّل أسباب النـزول جزءاً رئيساً من علوم القرآن، وفي الحقيقة فقد وصل العلماء قبل الشاطبي إلى تقرير أهمية أسباب النـزول في الوصول إلى فهم صحيح لآيات القرآن التشريعية. انظر على سبيل المثال، بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي، البرهان في علوم القرآن، طبعة محمد أبو الفضل إبراهيم، في أربعة مجلدات، (القاهرة، 1972م)، 1/22، حيث أشار إلى أن إحدى فوائد العلم بأسباب النـزول، هي الكشف عن  وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم.

(20) الشاطبي، الموافقات، 3/ 255 (2/14- 15)، 256، 264 .

(21) المصدر السابق، 3/260 (2/3-5).

(22) المصدر السابق، 3/260 (2/20- 22).

(23) المصدر السابق، 3/ 254- 255. وانظر:

M. Hodgson, “Batiniyya“, EL², 1/ 1098f. 3

(24) الشاطبي، الموافقات، 3 / 255 (2 / 2-3).

(25) المصدر السابق، 3/264 .

(26) المصدر السابق، 3/263 (1/ 1-2)، حيث يلاحظ هو نفسه وجود عدد كبير من الأمثلة في هذه القضية.

(27) المصدر السابق، 3/276، 279-280، 284.

(28) يشير الشاطبي في هذا الموضع وفي غيره إلى مفاهيم كان قد تمّ ترسيخها من قبلُ في علوم القرآن. يبدو أن فكرته في هذا الصدد قد استمدها، مع إجراء بعض التعديلات الضرورية، من علم المناسبات القرآنية، وهو علم يعالج قضية ترابط الآيات القرآنية، ووحدة معناها. انظر على سبيل المثال، الزركشي، البرهان، 1/35. وحسب السيوطي في كتابه معترك الأقران في إعجاز القرآن، طبعة علي البجاوي، في مجلدين، (القاهرة، 1969م) 1/54، فإنّ المناسبات بين الآيات هي أحد البراهين على إعجاز القرآن.

(29) الشاطبي، الموافقات، 3/274 (2/5-9).

(30) المصدر السابق، 3/ 274 (2/14-18).

(31) المصدر السابق، 3/ 274-276.

(32) المصدر السابق، 3/29 .34

(33) المصدر السابق، 3/70-71 .

(34) المصدر السابق، 3/ 242-243، 244 (2/4-5).

(35) المصدر السابق، 3/243-244؛ 4/9 (2/-5).

(36) المصدر السابق، 3/25 (2/14-23). انظر: محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، (القاهرة، 1933م)، 1/32. وانظر أيضاً: محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة، طبعة محمد كيلاني، (القاهرة، 1969م)، الفقرات، 569- 571، على الرغم من أنه يُروى عنه أنّ جميع السنة شرح للقرآن. انظر، الزركشي، البرهان، 1/6 (2/ 5-6).

(37) انظر، الشافعي، الرسالة، الفقرة، 571؛ القرطبي، الجامع، 1/33-34. حسب علم الباحث فإنّ بقية الأصوليين ينظرون دون تردد إلى السنة بوصفها مصدرا تشريعيا مستقلاً، ويبدو له أنهم لم يتعرضوا في مؤلفاتهم لمسألة فيما إذا كانت السنة تتضمن بعض الأحكام الشرعية التي لا توجد في القرآن. ولمعرفة الموقف الشائع للأصوليين من هذه القضية، انظر، ابن الحاجب، منتهى الوصول، 33.

(38) الشاطبي، الموافقات، 4/5،  يقول الشاطبي في موضع آخر : “إن ما ذكر من تواتر الأخبار إنما غالبه فرض أمر جائز، ولعلنا لا نجد في الأخبار النبوية ما يقضي بتواتره إلى زمان الواقعة”، المصدر السابق، 4/8 (2/ 19-21).

(39) المصدر السابق، 4/5 .

(40) المصدر السابق، 4/5-6 .

(41) المصدر السابق، 4/ 18-19. انظر أيضا، القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 1/33 .

(42) الشاطبي، الموافقات، 4/ 7 – 8 .

(43) المصدر السابق، 4/ 7، 8 (2/13-17).

(44) أشار المخالفون إلى ثلاث آيات أخرى، (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) (النساء،65)؛ (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) (سورةالنور: 63)؛ (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ) (النساء، 80). انظر، المصدر السابق، 4/9-10.

(45) المصدر السابق، 4/10-11.

(46) المصدر السابق، 4/ 13- 14 .

(47) المصدر السابق، 4/ 11-13، 14-16 .

(48) المصدر السابق، 4/ 11. انظر أيضاً: القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 1/34 .

(49) المصدر السابق، 4/27،28 (2/16).

(50) المصدر السابق، 4/30-31 .

(51) المصدر السابق، 4/35-36 .

(52) لمعرفة المزيد بشأن هذه النقطة، وأهمية الاستقراء التام في نظريات الشاطبي، وبقية الأصوليين انظر مقالتي:

On Inductive Corroboration, probability and certainty in Sunnī Legal Thought” N. Heer, ed., Islamic law and Jurisprudence:  Studies in Honor of Farhat J. Ziadeh (Seattle).

(53) الشاطبي، الموافقات، 4/ 32.

(54) للوقوف على نقاش مفصل حول هذا الحديث، انظر،  المصدر السابق، 3/9-10؛ وانظر:

M. H. keer, Islamic Reform (Berkeley and Los Angeles, 1966), pp. 97.

وانظر أيضاً: جمال الدين بن منظور، لسان العرب، ( بيروت، 1972م)، 4/ 482.

(55) الشاطبي، الموافقات، 2/3-4 .

(56) المصدر السابق، 2/4-6 .

(57) المصدر السابق، 4/20 (2/4-7).

(58) المصدر السابق، 4/21-22 .

(59) عقد العرايا: هو العقد الذي يُقايض فيه التمر غير الناضج مقابل قيمته المحسوبة من التمر الجاف الصالح للأكل. على الرغم من أن الشريعة لا تقبل بعنصر “الغرر” في العقود والمعاملات، فقد تمّ تجويز بيع العرايا على الرغم من الغرر الذي يتضمنه.

(60) المصدر السابق، 2/ 4-6 .

(61) المصدر السابق، 1/ 15-16 .

(62)  انظر:  W. B. Hallaq, “On the Authoritativeness of Sunni Consensus,” IJmES, 18 (1986), 427- 454.

(63) الشاطبي، الموافقات، 3/243 ( 2/ 4-5).

(64) المصدر السابق، 1/11 (2/13-18).

(65) المصدر السابق، 3/5 .

(66) المصدر السابق، 3/ 6-7 .

(67) المصدر السابق، 2/ 43 ( 2/ 17-20)، 43- 44 .

(68) المصدر السابق، 2/ 37 (2/6-7).

(69) انظر على سبيل المثال، المصدر السابق، 1/119 ( الكلي إذا عارض الجزئي فلا أثر للجزئي )،  2/36 (الكليات… لا يرفعها تخلّف أحد الجزئيات)، 3/7 ( الكلي لا ينخرم بالجزئي).

المصدر السابق، 4/ 16(1-3).

(70) يلاحظ الشاطبي في موضعين منفصلين على الأقل ( الموافقات، 11/34؛ 4/ 8)، أن الأحاديث المتواترة نادرة الوجود، هذا إذا لم تكن غير موجودة أصلاً في نظر بعض العلماء.

(71) يعقد الشاطبي نقاشا طويلاً لإثبات قطعية القرآن، وخلوه من التناقض الداخلي. انظر، المصدر السابق، 4/ 201؛ انظر أيضاً: الاعتصام، 2/265- 267.

(72) الشاطبي، الموافقات، 4/ 153 .

(73) المصدر السابق، 4/ 155، (2/15-16).

(74) انظر، المصدر نفسه، 1/25-27؛ 2/59، 62، حيث أثبت الشاطبي أن الشريعة، والواجبات والحقوق الشرعية، يجب أن تكون في متناول إدراك عموم الناس، وأشار إلى أن القرآن والسنة مكتوبان بلغة عربية واضحة يفهمها كل من يعرف اللغة العربية (2/55). وأكثر من ذلك، فقد خصص الشاطبي فقرات طويلة (1/17)، حاول من خلالها تخليص أصول الفقه من جميع المناقشات الأصولية التي لا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية، لذلك فقد استبعد من دراسته للشريعة أي عناصر منطقية أو كلامية أو فلسفية. وأشار بشكل واضح إلى أن النص القرآني محصّن من الانخراط في مثل هذه السفسطة العقيمة.

(75) الشاطبي، الاعتصام، 1/9-10، 11-12، في مواضع متعددة. وانظر أيضاً الهامش التالي.

(76) للوقوف على عبارات على مثل هذه الممارسات، انظر، الشاطبي، الموافقات، 4/85، 93-94، 96، في مواضع متعددة. وفي الحقيقة، فقد صنّف الشاطبي كتابه “الاعتصام”، من أجل أن يرد على الاتهامات التي – على ما يبدو – قد وُجّهت إليه من قِبل جماعة من علماء غرناطة في زمنه، أحد هذه الاتهامات أنه قد التزم الحرج والتنطع في الدين، وقد حملهم على هذا الاتهام، برأي الشاطبي، أنه قد التزم في الأحكام الشرعية والفتاوى الأخذ بمشهور المذهب الذي يعمل به المستفتي، لا يتعدى هذا المشهور إلى أمر آخر، في حين أنّ هؤلاء العلماء الذين يتهمونه، ويشنّعون عليه، يتعدون هذا المشهور، ويتحايلون على الشريعة المنصوصة، ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه.

(77) المصدر السابق، 1/22، 25؛ 2/ 48 .

(78) المصدر السابق، 4/153- 154 .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر