الفرع الأول الخصخصة في واقعنا المعاصرة
1- المصطلح والمفهوم :
منذ عدة سنوات وحتى الآن شاعت لفظة إنجليزية “PRIVAATIZTION” في الأدبيات السياسية والاقتصادية وأصبحت مصطلحا ً على نهج معين في المجال الاقتصادي بخاصة والمجال الاجتماعي والسياسي بعامة.
وقد ترجم هذا اللفظ إلى اللغة العربية بألفاظ متعددة متفاوتة في الاستخدام والشيوع، أكثرها شيوعا ً لفظ الخصخصة، وهناك ألفاظ أخرى، منها التخصيص والخوصصة والخاصخصة .. إلخ، ومن المفارقات في هذا الشأن أن اللفظ الشائع عربيا ً، وهو الخصخصة لا نصيب له من الصحة اللغوية، فما وجدنا – فيما اطلعنا عليه – من معاجم وقواميس لهذا اللفظ ولا لفعله «خصخص» أثرا ً في تلك المصادر.
وعلى عكس ذاك وجدنا لألفاظ خصص وتخصيص وتخصيصية وجودا ًعربيا ً واضحا ً. وبالتالي فهي الأولى بالاستخدام والتداول في المحافل العلمية. وحبذا – في ضوء ذلك – استبدال مصطلح الخصخصة بالتخصيصية، مع الوعي بإمكانية الإبقاء على هذا المصطلح في استخدام الخصخصة من باب أنه خطأ شائع لكنه معمول به ومتعارف عليه. والأمر في الأول والأخير أمر مصطلح اقتصادي، ولا مشاحة في الاصطلاح طالما كان المعنى المقصود واضحا ً في أفئدة السامعين له والمتعاملين معه.
ولهذا المصطلح العديد من المفاهيم، يرجع تعددها وتنوعها إلى ما لهذا الموضوع لدى المهتمين من رؤيتين، رؤية وسعة ورؤية مضيقة، ومعنى ذلك أن هناك زاويتين، زاوية منفرجة وزاوية حادة، بالتعبير الهندسي، فهناك من ينظر فيه ويتعامل معه على أنه نهج اقتصادي كامل وشامل ينقل النظام القائم من تصنيف آخر. وهناك من ينظر فيه على أنه نهج اقتصادي جزئي، يتعلق بتعديل وتغيير بعض جزئيات الهيكل الاقتصادي القائم والنظام الاقتصادي المهيمن، دون أن يترتب عليه أو ينجم عنه تغير للهيكل وللنظام ككل [1].
وفي الإطار الواسع تطالعنا المفاهيم التالية «الخصخصة هي مجموعة السياسيات والإجراءات المتكاملة التي تستهدف الاعتماد الأكبر على نظام السوق وآلياته في تحقيق التنمية والعدالة <[2].
ومعنى هذا التعريف أننا بإزاء الخصخصة أمام إعادة نظر شاملة للاقتصاد القومي وأدواته ومؤسساته، وخاصة فيما يتعلق بدور كل من الدولة والسوق في تسيير شئونه.
وهى « جزء من عملية الإصلاحات الهيكلية للقطاع العام في البنيان الاقتصادي تستهدف رفع معدل النمو الاقتصادي، من خلال تحسين كفاءة المؤسسات والأداء السياسي»[3] .
وفي الإطار الضيق نجد هذه المفاهيم هي «تحول بعض المشروعات العامة إلى مشروعات خاصة من حيث الملكية أو من حيث الإدارة»، وهي إدارة المنشأة على أساس تجاري من خلال نقل ملكيتها كلها أو بعضها للقطاع الخاص، أو تأجير خدمات محترفة تقوم بمهمة تسيير المنشأة على هذا الطريق [4].
ومن الناحية الواقعية نجد المفهومين يسيران سويا ً، فتجري عملية تحويل بعض المشروعات العامة إلى مشروعات خاصة في ركاب عملية واسعة تستهدف تغيير المسار الكلي للاقتصاد وتعديل النظام الحاكم له. ولم نجد – فيما اطلعنا عليه من تجارب- من يقف عند حد تحويل بعض المشروعات العامة إلى مشروعات خاصة، دونما تغيير جوهري هيكلي في بنيان الاقتصاد ونظامه.
وهكذا نجد النظرات متفاوتة ضيقا ً واتساعا ً. والوعي بهذا التمييز مهم في التعرف الدقيق على جوانب الموضوع، وبخاصة ما يتعلق بتقويمه على الصعيد الاقتصادي وعلى الصعيد الشرعي.
إذن نحن أمام ظاهرة محلية وعالمية تقوم على تحويل للمشروعات العامة أو بعضها إلى مشروعات خاصة، ملكية أو إدارة. وتقوم كذلك على إعادة رسم الخريطة الاقتصادية بحيث يكون الفاعل الرئيسى فيها هو نظام السوق بدلا ً من الدولة ونظام التخطيط.
2- التخصيصية – نبذة تاريخية :
ما إن بدأ القرن العشرون في البزوغ إلا وظهرت عوامل متنوعة عملت على إيجاد دور بارز ومؤثر للدولة في المجال الاقتصادي، ويوما ً بعد يوم قويت هذه العوامل ونمت، ومن ثم تضخم الدور الاقتصادي للدولة، ولم يقف الحال في هذا الأمر عند حد الدول الاشتراكية بل تجاوزه إلى الدول النامية، حيث أخذت فيها الحكومات زمام قيادة الاقتصاد لتحقيق التنمية الاقتصادية، باعتقاد أن هذا العمل الشاق والمجهود الضخم لا ينهض به إلا الدولة بكل ما لها من صلاحيات وما تملكه من سلطات ومؤسسات. كما تجاوزه إلى الدول الرأسمالية المتقدمة ؛ حيث أخذت الحكومات على عاتقها عبء القيام بإصلاح ما أفرزه نظام السوق من مثالب اجتماعية واقتصادية تتعلق بالاستقرار الاقتصادي وبالتوازن الاجتماعي وبالكفاءة الاقتصادية.
وما إن دخلنا في منتصف القرن العشرين وسرنا فيه حتى بدت عوامل التحول من هذا النهج إلى نهج مغاير رويدا ًرويدا ً، من جراء ظهور متغيرات ومستجدات اقتصادية واجتماعية وسياسية. وأخذ القطاع الخاص يحتل مكانه شيئا ً فشيئا ً، إلى أن دخلنا في الربع الأخير من هذا القرن؛ حيث كان التحول قد وصل إلى ذروته، فأخذ الفكر وفي ركابه التطبيق ينادى بسيادة وسيطرة وهيمنة القطاع الخاص وانحسار دور القطاع العام وكف يد الدولة عن الكثير مما كانت في الماضي تبسطها عليه. وبدت العملية كما لو كانت مقابلة بين دورين أو فاعلين، إذا قوي أحدهما ضعف الأخر. والمسألة سجال بين القطاع العام والقطاع الخاص، وقد آن الآوان أن ينزل القطاع العام من على عرش الهيمنة والقيادة ويسلمه للقطاع الخاص.
وسيطر على الفكر والتطبيق مصطلح الخصخصة، كما سيطر من قبل مصطلح التأميم، وساد جهاز السوق، كما ساد من قبل جهاز التخطيط. والأيام دول حتى بين الأنظمة والمصطلحات [5].
ومن الطبيعي أن يكون وراء هذه التحولات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى العديد من العوامل والاعتبارات والملابسات، فمنذ حوالى عقدين تعرض الاقتصاد العالمي في عديد من الدول لبعض الاختلالات الكبيرة الداخلية والخارجية، فهناك عجز متزايد في الموازنات العامة، وعجز متزايد في موازين المدفوعات، وارتفاع في معدلات البطالة ومعدلات التضخم، وتزايد كبير في حجم الديون المحلية والأجنبية [6]. وعلى ساحة الدول الرأسمالية المتقدمة تولدت رغبة قوية لدى بعض حكامها في توسيع قاعدة الملكية وكذلك في الكفاءة الاقتصادية ومن ثم رفع مستوى المعيشة وتعزيز القدرات التنافسية في سوق يسير بسرعة نحو العالمية. وتحقيق ذلك إنما يكون من خلال تقليل النفقات والتكاليف والمزيد من التجديد والتحديث في المعدات والأدوات ونظم الإدارة [7] .
وقد كانت الدول الرأسمالية سباقة في تبني هذا التوجه الذي مثلت فيه الخصخصة محورا ً رئيسياً، وعلى رأس هذه الدول إنجلترا، ففي عام 1977م عرضت شركة البترول البريطانية للبيع، ثم شركة الطيران، ثم شركات المياه والكهرباء وغيرها [8]. وتبع إنجلترا في ذلك العديد من الدول المتقدمة والنامية على حد سواء، حتى لقد أصبح بمثابة موجة غطت مختلف بلدان العالم. وقد قام كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بتحفيز الدول وترغيبها في سلوك هذا المسلك. وطبقا ً لتقارير البنك الدولي فقد تم خلال الثمانينات من القرن العشرين خصخصة ما يزيد على 6800 مشروع عام، وخلال التسعينات تم خصخصة ما تزيد قيمته على 19 مليار دولار أمريكي المشروعات في ربوع البلاد النامية وحدها [9].
3- الدوافع والأهداف[10]:
دفعت إلى هذا التوجه الكاسح نحو التخصيصية عوامل متعددة، بعضها يتعلق أساسا ً بالدول التي تحولت عن الاشتراكية، وبعضها يتعلق بالدول النامية، والآخر يتعلق بالدول الغربية.
ويمكن الإشارة إلى بعضها فيما يلى:
1- رفع الكفاءة الاقتصادية للاقتصاد القومي. فقد تبين أن قدرات وإمكانيات القطاع العام متواضعة على المستوى الإداري وعلى المستوى الفني، ومن ثم فهو عاجز عن تقديم السلعة أو الخدمة ذات النوعية العالية، يضاف إلى ذلك ما يتحمله هذا القطاع من خسائر متزايدة ناجمة عن ارتفاع التكاليف وتدني الإيرادات. وبالتالى فقد بات عبئا ًعلى الموازنات العامة للدول بدلا ً من أن يكون مصدرا ً من مصادر إيرادتها. وليس بخاف على أحد ما أصبح يسببه القطاع العام من مشكلات مالية للدول، ومن اختلالات متضخمة في موازناتها. إضافة إلى ما يمارسه من هدر للكثير من الموارد والطاقات. إن الخصخصة تقلل من النفقات العامة وتزيد من الايرادات العامة.
2- واجهت الدول على اختلافها مشكلات حادة للبطالة. وبعد أن كان القطاع العام ملاذا ً فسيحا ً لتشغيل المزيد من أفراد القوة العاملة أصبح عاجزا ً عن القيام بذلك، بل أصبح مأوى للبطالة المقنعة التي لا تقل وطأتها الاقتصادية عن البطالة السافرة. ومن المعتقد أن الخصخصة سوف تسهم، من جهات متعددة في مواجهة هذه المشكلة. بيد أن الواقع لا يقدم تأييداً ً لهذا الاعتقاد، بل قد يشير ويفيد عكسه.
3- توفير نوعية عالية من السلع والخدمات من قبل القطاع الخاص تستطيع التنافس مع المنتجات الأجنبية. وبالتالى تحسين وضعية موازين المدفوعات.
4- تسهم الخصخصة في توسيع قاعدة الملكية، كما أنها تجذب رءوس الأموال الأجنبية وتغرى بعودة رؤوس الأموال الوطنية.
5- إعادة تحديد دور الدولة بما يؤهلها للقيام بوظيفتها الكبرى المتمثلة في التحكم والانضباط والإشراف والرقابة بعد أن شغلت عن هذه الوظيفة الأولى بممارسة النشاط الاقتصادي الذي لا يتواءم وطبيعتها. فالدولة خلقت لتمارس الأنشطة الاقتصادية مع الممارسين لها من الأفراد. وإلا خلت الساحة من الحكم.
6- تفعيل المدخرات النحلية ودعم الوعي الادخاري لدى الأفراد من خلال فتح الباب أمامهم لامتلاك حصص أو أسهم في هذه المشروعات.
7- وهناك دافع قد لا يقل أهمية عن الدوافع الأخرى وهو الدافع الأيديولوجي، فهناك رغبة عارمة لدى دول النظام الرأسمالي بتعميم كل مبادئه وتنظيماته على كل دول العالم، سواء كان ذلك في صالح هذه الدول أو في غير صالحها ولهذا الدافع رصيد كبير من الصحة والمصداقية، وغير خاف من هنالك من صلة وارتباط بين الخصخصة والعولمة، وبخاصة الشركات العالمية، فهنالك تحريض قوي مباشر وغير مباشر، وأحيانا ً يصل إلى درجة حمل الدول والضغط عليها للقيام بالمزيد من الخصخصة ؛ لأن ذلك يتيح لها الاستحواذ على العديد من الشركات والمؤسسات الوطنية أو المشاركة فيها، غير عابئة بما يكون لذلك من أثر على الاقتصاد القومي. ومن المعروف أن المؤسسات الاقتصادية الدولية قد أسهمت بدروها في تفعيل هذا التوجه.
ومهما كان هناك من دوافع وعوامل فلا شك أن هناك قدرا ً كبيرا ً من تضخيم المثالب والقصور في القطاع العام، سواء ضد القطاع العام، كما هو الحال الآن، أو ضد القطاع الخاص كما كان الحال في وقت سابق.
4- الأساليب والصور [11]:
لخصخصة المشروعات العامة العديد من الصور والأساليب. وبوجه عام يوجد شكلان أو أسلوبان للخصخصة؛ خصخصة الملكية وخصخصة الإدارة.
1- خصخصة الملكية:
ومؤداها تحويل ملكية المشروع كليا ً أو جزئيا ً غلى ملكية خاصة، ويمكن أن يتم ذلك من خلال البورصة أو المزايدة أو إلى العاملين فيه، كما يمكن أن يتم من خلال بيع المشروع أو جزء منه كأصول. وبالطبع فإن بعض هذه الصور لا تصلح لخصخصة ملكية كل المشروعات، وإنما قد يصلح هذا الأسلوب لمشروع ولا يصلح لمشروع آخر. واختيار الأسلوب المناسب يقلل من التحديات الكبيرة أمام نجاح الخصخصة.
2- خصخصة الإدارة:
ومؤداها عدم طروء أي تغيير في نمط ملكية المشروع. فيظل المشروع مملوكا ً ملكية عامة لكن الذي يحدث هو تغيير أسلوب ونمط إدارته. عدم طروء أي تغيير في نمط ملكية المشروع. فيظل المشروع مملوكا ً ملكية عامة لكن الذي يحدث هو تغيير أسلوب ونمط إدارته. وهناك صور عديدة لخصخصة الإدراة، منها عقود الإدارة، وبمقتضاها تحتفظ الدولة بالملكية وتوكل إدارة المشروع إلى القطاع الخاص على أن توفر له كل الأموال اللازمة. وذلك في المشروعات الخدمية. ومنها عقود التأجير. حيث تبقى ملكية المشروع للدولة ويؤجر للقطاع الخاص.
والفرق بين هذه الصورة وسابقتها أنه في حال التأجير يدفع المستأجر الإيجار، بغض النظر عن نتيجة المشروع. ويستخدم ذلك بكثرة في المشروعات ذات الطبيعة الخاصة، ومنها عقود الإنشاء والتشغيل والتحويل والمعروفة باسم (Bot) ويعد هذا الأسلوب أ, هذه الصورة من أكثر الصور شيوعا ً في عمليات الخصخصة؛ لما يتميز به من البساطة وجذب الاستثمارات الخارجية. وكثيراً ما يستخدم في مشروعات البنية الأساسية، مثل شبكات الطرق ومحطات الكهرباء والمياه والمطارات والموانى… الخ، ومؤدى هذه الصورة قيام المستثمر ببناء المشروع وتشغيله لمدة محدودة يعود بعدها إلى الحكومة.
وبرغم ما لهذا الأسلوب من ميزات فإن له الكثير من المثالب التي يمكن التقليل منها إذا ما كانت هناك حكومة قوية رشيدة، وكانت بنود الاتفاق واضحة ومنها عقود الامتياز، حيث تمنح الحكومة إحدى الجهات امتيازا ً خاصا ً لإنتاج أو توريد جزء من خدمة معينة.
وبرغم قدم هذا الأسلوب فإن استخدامه الآن في البلاد النامية محدود لحساسيته الزائدة تجاه المخاطر الاقتصادية والسياسية.
5- دروس مستفادة [12]:
بالنظر في التجارب والبرامج التي طبقتها الدول المختلفة لإنجاز عملية الخصخصة نجد أن نتائج عملية الخصخصة تفاوتت بشكل كبير إيجابيا ً وسلبا ً من دولة لأخرى. وبوجه عام نجد أن الخصخصة قد حققت نتائج إيجابية في الدول المتقدمة، بيد أن نتائجها في الدول النامية كانت في جملتها مخيبة للآمال، حيث لم تحقق الكثير من أهدافها، بل إنها في حالات كثيرة جاءت بنقيض مقصودها، وذلك على صعيد الكفاءة والعدالة والعمالة وعلاج الاختلالات في الموازنات العامة وموازين المدفوعات، ففي الكثير من البرامج زاد حجم البطالة ولم ينكمش، وارتفعت الأسعار، ولم تتحسن بشكل ملحوظ موازنات الدول وموازين مدفوعاتها. بل وبددت أصول المجتمع الإنتاجية الثابتة من خلال عدم الرشد في استخدام حصيلة بيعها. كما أن التقويم شابه في حالات عديدة الفساد، وأسهمت في توسيع نطاق الاحتكار. وتملك الأجانب كثيرا ً من الأصول الإنتاجية المهمة.
والتساؤل المثار هو: لم كان هذا الحصاد المر؟
والجواب ذلك أن الخصخصة ليست مسألة نظرية فكرية يتقرر من خلال الورق صلاحها من عدمه، وإنما هي مسألة عملية ونهج تطبيقي، ومن ثم فهي في حاجة ماسة إلى توافر العديد من المقومات حتى تحق مقصودها، ومن ذلك :
1- توفير البيئة الملائمة من النواحي التشريعية والقانونية.
2- توفير القناعة لدي العاملين في المشروع حتى لا يعرقلون سير العملية.
3- وجود جهاز قومي أمين وكفء يتولى القيام بعملية الخصخصة.
4- وجود توافق قومي صريح حول خطوات عملية الخصخصة وحتي التصرف في حصيلتها.
وبعبارة جامعة: توفير قاعدة المشروعية لهذه العملية [13]، حتى تحقق أقصى قدر ممكن من المصلحة العامة والتي ترتكز على ركيزتي الكفاءة والعدالة معا ً. ومما يؤسف له أن العديد من برامج الخصخصة في الدول المختلفة، وخاصة الدول النامية قد أخفق في توفير معظم هذه المتطلبات.
الفرع الثاني
الاقتصاد الإسلامي والخصخصة
يمكن التعرف على موقف الاقتصاد الإسلامي من عملية الخصخصة وتقليص دور القطاع العام من خلال دراسة المسائل التالية:
1- وظائف الدولة :
موضوع الخصخصة هو عنصر في موضوع أكبر، وهو وظائف الدولة، أو دور الدولة في المجتمع وخاصة في المجال الاقتصادي. فكثيرا ً ما نطالع أثناء نظرنا في موضوع الخصخصة إشارات واضحة إلى انعكاس ذلك على دور الدولة أو وظائف الدولة. ومن الإشارات مايفيد أن الخصخصة إن هي إلا تهميش لدور الدولة واختزال لوظائفها. ومنها ما يفيد أن المسألة لا تعدو أن تكون إعادة هيكلة لهذا الدور ولتلك الوظائف، دون أن يكون لها علاقة بقوة وضعف وحجم هذا الدور، بل إن البعض ليذهب إلى أن الخصخصة هي في الحقيقة مزيد من التفعيل والتقوية لدور الدولة؛ حيث إنها تباعد بينها وبين الانشغال والاستنزاف في أعمال وأدوار لا تمثل قمة الدور أو الوظائف المنوطة بها، وانشغالها بذلك فيه المزيد أو القدرة على ممارسة أهم وظائفها[14].
وأيا ً كان الأمر فالذي لا شك فيه أن هناك ارتباطا ً وثيقا ًبين هذا وذاك، ومن ثم بات التعرف على وظائف الدولة في الاقتصاد الإسلامي مطلبا ً ضروريا ً للتعرف ولو جزئيا ً على موقف الاقتصاد الإسلامي من الخصخصة.
في ظل الاقتصاد الوضعي تتحدد وظائف الدولة وما لها من دور من قبل المجتمع، في ضوء ما هو عليه من ثقافة وقيم وما يعايشه من ظروف وملابسات وأوضاع اقتصادية ولكون هذه المحددات مرة من زمان لزمان ومن مكان لمكان فإن وظيفة الدولة بدورها متغيرة، فنراها في الاقتصاد الاشتراكي مختلفة عنها في الاقتصاد الرأسمالي، بل نراها في داخل المجتمع الواحد والنظام الاقتصادي الواحد متغيرة من آن لآن. ولذلك وجدنا الدولة الحارسة ووجدنا الدولة المتدخلة ووجدنا الدولة المنتجة ووجدنا دولة الرفاهة. وكل دولة من هذه الدول ذات طبيعة ووظيفة مغايرة لأخرى. فأحيانا ً يخف الدور ويقل حتى لا يكاد يذكر، كما هو الحال في الدولة الحارسة، وأحيانا ً يقوى الدور ويكبر حتى يبتلع ما عداه كلية كما هو الحال في الدولة المنتجة التي أخذت على عاتقها مهمة القيام بالنشاط الاقتصادي، وأحيانا ً نجد الدور معتدلا ً متوسطا ً كما هو الحال في الدولة المتدخلة ودولة الرفاهة.
وفي ضوء هذا التبادل والتطور في دور الدولة ووظائفها لا نجد في ظاهرة الخصخصة ما يثير الاهتمام بشكل مكثف في ظل الاقتصاد الوضعى، فما هي في نهاية الأمر إلا دورة من دورات التاريخ وموجة من موجاته. فهل الأمر في الاقتصاد الإسلامي على هذا النحو أم له منحني مغاير؟.
إن الاقتصاد الإسلامي إلهي المصدر والمبادئ والقواعد، يرتكز على النصوص الشرعية واجتهادات علماء المسلمين واستقراء تلك المصادر وتدبرها يجعل الإجابة على السؤال المطروح بأن الأمر في الإسلام مغاير لما عليه في الاقتصاد الوضعي في كثير من الجوانب.
ومنشأ هذه المغايرة اختلاف الركائز والمنطلقات، فهي هناك بشرية محضة، وهي هنا إلهية محضة. فلم يحدد المسلمون من عند أنفسهم وظائف ومهام الدولة الحاكمة لمجتمعهم، وإنما تم ذلك من قبل الإسلام، وما على المسلمين إلا الفهم والاستنباط ثم الصياغة في صورة مقولات فنية، فإذا قال الاقتصاديون الإسلاميون إن كفالة الحد الأدني من المعيشة لكل أفراد المجتمع من وظائف الدولة ومهامها الأساسية، فإنهم لم يبتدعوا ذلك من عندياتهم، وإنما هو الفهم والاستنباط من النصوص الشرعية؛ القرآنية والنبوية، وقس على هذا بقية الوظائف والمهام.
وحيث إن الأمر في الاقتصاد الإسلامي في هذه المسألة على هذا النحو فإن مهمة الدولة لا تخضع للظروف الملابسات، ولا للأهواء والتوجهات، وبالتالى تتبدل وتغير من حين لآخر. وخاصة من حيث الشكل والصورة. وقد غاب عن البعض الفهم الدقيق لهذا الأمر فذهب إلى أن دور الدولة في الاقتصاد الإسلامي يعتريه التغير والتبدل من حيث النطاق والحجم والقوة والضعف، تبعا ً لظروف وأوضاع المجتمع.
إن مهمة الدولة في الإسلام تتجسد في أمر واحد هو رعاية المجتمع، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته. والرعاية كما هو بارز في اسمها وكما فهمه العلماء هي منتهى الحفظ والصيانة، وتحقيق أكبر مصلحة ممكنة. ومعني ذلك أنها لا تقل في حالات وتزيد في أخرى ولا تضعف في حالات وتقوى في حالات [15]. وقد تناول علماء المسلمين قديما ً وحديثا ً هذه الوظيفة الجامعة بالتحليل والدراسة والتفصيل فاشتقوا منها، عملا ً بالنصوص، العديد من الوظائف النوعية. والمطّلع على هذه الدراسات القديمة والحديثة يجدها كلها تدخل في إطار الرعاية. كما يجد التنوع في التقسيم والتفريغ، وربما في الأولويات. فهناك من ينوع هذه الوظائف بشكل كبير يتجاوز بها السبع أو العشر، هنالك من يجمل ويدمج، وهناك من يبدأ بكذا ومن يبدأ بكذا. والكل منطلقه واحدن هو الإسلام بنصوصه وقواعده.
وفي ضوء هذا التمهيد الذي قد يبدو أنه طال نوعاً ً ما يمكن الإشارة إلى ما نراه من وظائف للدولة في ظل الاقتصاد الإسلامي. وكما ذكرنا سلفا ً فإن دراسة هذه المسألة ليست ذاتية، وإنما هي مشتقة أو منبثقة من موضوعنا الذاتي الأصيل وهو موقف الإسلام أو بالأحرى موقف الاقتصاد الإسلامي من قضية الخصخصة، ومن ثم فلن نتعمق في دراسة هذه المسألة ولن نطيل القول فيها [16].
وترتيبنا لهذه الوظائف لا يعني من قريب أو بعيد أنه يعكس الأهمية النسبية.
(1) توفير الخدمات الاساسية للمجتمع، وعلى رأسها الدفاع والأمن والعدل، وتمتد لتشمل مختلف المرافق ذات الخدمات الضرورية للعامة، مثل الطرق والجسور والمواصلات والمياه والكهرباء، وغيرها من كل ما تمس حاجة المجتمع إليه، مثل التعليم الأساسي والصحة العامة، وكذلك السلع الاستراتيجية مثل السلع العسكرية والسلع التموينية الضرورية التي يؤدي تركها في يد القطاع الخاص إلى احتمالات تعرض المجتمع لمخاطر جسيمة. وقد أقسم عمر لعلي رضي الله عنهما على أنه لو ذهبت عناق بشاطئ الفرات لأخذ بها عمر يوم القيامة [17].
(2) تأمين الحد الأدنى من المعيشة لكل فرد في المجتمع عجز عن توفيره بنفسه أو من خلال من تلزمه نقفته، بغض النظر عن عقيدته؛ إذ لا يتحقق مفهوم الرعاية مع عدم توفر ذلك المستوى لكل فرد، والنصوص والتطبيقات الشرعية في ذلك عديدة. وتوفير ذلك يتطلب أن يكون لدى الدولة من الأموال ما يكفي لتغطية هذا الأمر. وقد وفر الإسلام للدولة الأدوات والأساليب التي تؤمن لها ذلك. ولو أدى الأمر إلى قيامها بنفسها بممارسة النشاط الإنتاجي.
(3) وضع الإطار الملائم للنشاط الاقتصادي. فالدولة مسئولة عن رعاية مصالح العامة والحفاظ على مقاصد الشريعة. وتحقيق ذلك إنما يكون من خلال العديد من السياسات الاقتصادية وغيرها، مثل السياسة المالية والسياسة النقدية والسياسة التجارية والسياسة الداخلية. وكذلك ما يتعلق بوضع التشريعات التي تكفل حماية الحقوق لأصحابها وفض المنازعات، وكذلك توفير المعلومات والبيانات، وكل ما من شأنه إقامة نشاط اقتصادي جيد. وبالاختصار إن الدولة مسئولة عن توفير المناخ الصحي لإقامة نشاط اقتصادي كفء؛ لأنها مأمورة برعاية مصالح الناس التي هي حقوق للناس عليها بتعبير الإمام علي رضي الله عنه (ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه)، ومن الأمثلة الفذة على ذلك ما فعله عمر مع راعي الغنم عندنا رآه يرعى في أرض أقل خصوبة فصاح عليه قائلا ً: إني قد مررت بمكان هو أخصب من مكانك، وإن كل راع مسئول عن رعيته [18].
(4) الإشراف على القطاع الخاص ومداومة النظر في شئونه[19]. ومهمتها هنا تتلخص في كلمتين لا ثالث لهما : الإعانة والتقويم. فعليها إعانته لينهض بدوره على الوجه الأمثل، ولها في سبيل ذلك العديد من الأدوات والصلاحيات المالية والتجارية والتشريعية وغيرها، وعليها من الناحية الأخرى أن تقومه وتجبره على سلوك الجادة، والحيلولة بينه بين إلحاقه ضرراً بالغير. ويدخل في ذلك الربا والغش والاحتكار وكل أساليب اختلال التعامل والاستثمار والتوزيع والتصدير والاستيراد وتقديم خدمات على غير وجهها. وقد أفاضت كتب الحسبة وغيرها في ذلك.
ومعنى هذا بوضوح أن ترك الحبل على الغارب للقطاع الخاص، يفعل ما يحلو له ويترك ما يريد، هو أمر مرفض في الإسلام، فالقطاع الخاص قائم وله صلاحياته وحقوقه، ولكنه في الوقت ذاته محاط بعيون الدولة وتحت إشرافها، تعينه وتدعمه من جهة، وتقومة وتأخذ على يده من جهة ثانية. فالأعتراف بالقطاع الخاص وحريته وحقوقه لا يتعارض مع الأعتراف للدولة من إشراف ورقابة وتنظيم، تحقيقا ً للإعانه والتقويم.
(5) ضمان تشغيل الموارد والطاقات والعمل على تنميتها وعدم تبديدها [20].
إن الإسلام ينهى عن إضاعة المال، وينهى عن الإسراف والتبذير، ويكف يد السفيه عن التصرف في ماله، ويعتبر حفظ المال أحد مقاصده الكبرى. وإذا كانت هذه التكليفات والأوامر والنواهي تنصرف إلى الأشخاص فهي تنصرف كذلك إلى الدولة والقائمين على أمور الأمة، فليس من الرعاية المأمور بها وجود موارد معطلة أو مهدرة ؛ لأن وجود ذلك يحول دون تحقيق الكثير من العبادات، كما أنه يعد معصية لله سبحانه وتعالى. وتحقيقا ً لذلك قامت الدولة في صدر الإسلام بإحياء الموات، والإقطاع، ودفع الناس إلى ممارسة النشاط الاقتصادي، وحاربت البطالة، وفي ذلك يقول الإمام ابن حزم : «ويأخذ السلطان الناس بالعمارة وكثرة الغراس، ويقطعهم الإقطاعات في الأرض الموات، ويجعل لكل أحد ملك ما عمره، ويعينه على ذلك، لترخص الأسعار، ويعيش الناس والحيوان، ويعظم الأجر، ويكثر الأغنياء وما تجب فيه الزكاة» [21].
(6) تحقيق التوازن الاجتماعي والاقتصادي. فإذا كان تأمين الحد الأدنى من المعيشة هو أحد وظائف الدولة الإسلامية فإن تحقيق التوازن بين الأفراد اجتماعيا ً واقتصاديا ً هو وظيفة أخرى للدولة. وتتضمن هذه الوظيفة عدالة التوزيع، ووضع ضوابط للتفاوت في الدخول والثروات وتقليل حدة التفاوت. وكذلك ضرورة مراعاة الأجيال القادمة وحماية حقوقها في مصادر الثروة. فالتوازن المطلوب شرعا ً هو توازن أفقي وتوازن رأسي أي هو توازن على مستوى الجيل الحاضر وتوازن على مستوى الأجيال، فلا يطغي جيل على أخر. وخير برهان على ذلك ما فعلته الدولة الإسلامية في أرض الفتوح زمن سيدنا عمر رضي الله عنه، حيث راعت في سياستها ومناهجها كل الأجيال المقبلة وحتي قيام الساعة [22].
هذه بعض مهام ووظائف الدولة في ظل الاقتصاد الإسلامي. ومن الواضح أن تحميل الشارع الحكيم الدولة القيام بهذه الوظائف يتعارض تماما ً وفكرة الخصخصة بمفهومها الواسع الذي يمتد في نظر الكثير من المفكرين إلى تهميش دور الدولة في المجال الاقتصادي وتخليها عن مهامها إلى القطاع الخاص، والعودة بها إلى مفهوم الدولة الحارسة، بل إلى ما هو أبعد من ذلك، ناهيك عن بقية الخدمات العامة. والقول بذلك لا ينافي القول بأن الإسلام يؤيد ويقر بعض جوانب الخصخصة من دعوة وعمل على تعديل وتطوير الدور الاقتصادي للدولة، مع الإبقاء عليه فعالا ً وقويا ً، بل العمل على المزيد من تفعيله وتقويته، يجعله يقتصر على المهام الحقيقية ويترك المهام المصطنعة والتي كانت وبالا ً على الدولة وعلى قيامها بوظيفتها في القيادة والإشراف والتوجيه والتنظيم وضبط الأمور والإيقاعات، والانشغال بأمور ليست من اختصاصاتها بل هي من شئون الأفراد والقطاع الخاص، مثل الممارسات المباشرة للأنشطة الاقتصادية العادية، من زراعة وتجارة وصناعة وخدمات التي يمكن للأفراد أن يقوموا بها من جهة، ولديهم الرغبة في ذلك من جهة أخرى.
خلاصة القول أن دراسة متأنية لوظائف الدولة في الاقتصاد الإسلامي تؤدي بنا إلى التحفظ القوي، بل الرفض الصريح لبعض مضامين المفهوم الواسع للخصخصة، وبالذات ما يتعلق بتهميش دور الدولة في المجال الاقتصادي خاصة، والمجال الاجتماعي عامة.
أما عن موقف الإسلام من الخصخصة بالمفهوم الضيق فإنه يتطلب دراسة مسائل أخرى مثل نظام الملكية ونظام استغلال الممتلكات العامة، وهذا ما نعرضه في الفقرات التالية.
2- نظام الملكية :
من المعروف ان نظام الملكية من الأسس الكبرى لأي نظام اقتصادي، وهو أحد المعايير الأساسية للتمييز بين الأنظمة الاقتصادية . وقد أصبح من المعارف البديهية لدى دارسي الاقتصاد الإسلامي والباحثين فيه أن نظام الملكية فيه هو النظام المزدوج، الذي يجمع بين الملكية العامة والملكية الخاصة، وليس هناك أي خلاف بين الجميع على ذلك، وإن بدا الخلاف فيما بعد ذلك حول طبيعة كل منهما ونطاقها.
ولتحقيق مقصود ورقتنا هذه يكفي الإشارة إلى بعض محاور الملكية العامة [23].
المحور الأول:
الأموال العامة متنوعة الطبائع، فمنها ما هو مصادر وموارد للثروة مثل الأراضي والمياه والمعادن ومصادر الطاقة …الخ، ومنها ماهو ثروة منتجة في شكل سلع نهائية، ومنها ما هو ثروة في شكل نقود مثل أموال الخراج وأموال الزكاة (*) وغيرها (**).
المحور الثاني:
هذه الأموال الخاضعة للملكية العامة هي كلها تحت إشراف الحكومة وهي المسئولة عن التصرف فيها بالشكل الذي يحافظ عليها من جهة، ويجعلها تحقق أهدافها من جهة أخرى. وبالبحث والتحري في المصادر الإسلامية يتضح أن هذه الأموال تنقسم إلى قسمين من حيث مدى حرية الدولة أو الحكومة في التصرف فيها ونطاق هذا التصرف، فبعضها يمتد نطاق التصرف فيه إلى كل جوانب التصرف الممنوحة للمالك على ملكه من بيع واستغلال وتبرع… إلخ. ، وبعضها يقف حق التصرف المعطى للدولة فيه إلى حد معين، أقل من الحدود السالفة. فلا يحق للدولة مثلا ً أن تبيعها أو تمنحها. وقد حمل هذا التمييز بعض الباحثين إلى القول أن الملكية العامة، أو بالأحرى الملكية غير الخاصة، هي نوعان: ملكية عامة أو جماعية، وملكية الدولة أو بيت المال. الأولى هي حق لكل أفراد المجتمع، ومن ثم لا يتجاوز دور الدولة حيالها الإشراف والإدارة دون التصرف في رقابها بما يفوت عن أي فرد حصته في ملكيتها.
وفي ذلك يقول الإمام الطحاوي: «ولا ينبغي للإمام أن يقطع ما لا غنى بالمسلمين عنه، كالبحار التي يشربون منها، وكالملح الذي يمتارون منه، وما أشبه ذلك مما لا غنى بهم عنه»[24].
ويقول الكسانى: «أرض الملح والقار والنفط ونحوها مما لا يستغنى عنها المسلمون لا يجوز للإمام أن يقطعها أحدا ً؛ لأنها حق لعامة المسلمين وفي إقطاعها إبطال حقهم، وهذا لا يجوز»[25].
ويقول ابن قدامة: «إن المعادن الظاهرة وهي التي يتوصل إلى ما فيها من غير مئونة ينتابها الناس وينتفعون بها كالملح والماء والكبريت والقير والمومياء والنفط والكحل والياقوت وأشباه ذلك لا تملك بالإحياء، ولا يجوز لأحد من الناس، ولا احتجازها دون المسلمين ؛ لأن فيه ضررا ً بالمسلمين وتضييقا ً عليهم وهذا مذهب الشافعي، ولا أعلم فيه مخالفا ً»[26].
أما الثانية فهي وإن كانت في النهاية ملكا ً للأمة مثل السابقة لكنها أكثر خضوعا ً للدولة، حتى ليقال عنها إنها ملكية الدولة أو بيت المال، وبالتالي فإن حق تصرف الحكومة فيها يمتد ليشمل كل ألوان التصرفات التي للمالك على ماله بما فيها التصرفات في رقبتها بيعا ً وتبرعا ً، فهي من هذه الزاوية تعد ملكية خاصة، لكن المالك لها هو الدولة بصفتها هيئة حاكمة (*). ليس معني ذلك أن الدولة مطلقة التصرف فيها دونما ضوابط أو قيود، فتصرف الدولة فيها مفتوح في ظل المصلحة العامة الحقيقية التي حددت معالمها الشريعة.
إن كلا من الملكية الجماعية وملكية الدولة يخضع تصرف الدولة فيها لضابط المصلحة العامة المنضبطة والمقننة شرعا ً، وكلما هناك من تمييز فإنه يرجع إلى حدود وحجم وجوانب هذا التصرف، فهذا ذو حدود ضيقة، وذاك أوسع حدودا ً أو نطاقا ً. وهذا التمييز يخدمنا كثيرا ً في التعرف على موقف الاقتصاد الإسلامي من نوعي الخصخصة الملكية لكنها تقبل خصخصة الإدارة والتأجير، وهناك أموال عامة ترد عليها الخصخصة بنوعيها.
وليس من اليسير قيام تحديد دقيق لمفردات كل نوع من هاتين الملكيتين بشكل يحظى باتفاق العلماء، لكن ذلك لا يمنع من وجود أمثلة بارزة واضحة لكل منها لا تحتمل الجدال والخلاف، فهناك الطرق والأنهار ولامناجم والغابات وبعض الأراضي تدخل تحت النوع الأول بغير خلاف يذكر، وهناك بعض الأراضي، مثل اراضي الصوافي والأراضي التي آلت إلى بيت المال على سبيل الميراث وأنواع من الإيرادات العامة يمكن أن ندرجها تحت النوع الثاني.
يتضح مما سبق أن النظام الإسلامي للملكية يقرر وجود الملكية العامة كركيزة ثانية يقوم عليها النظام الاقتصادي في الإسلام، كما يقوم على ركيزة الملكية الخاصة. وأن هذا النظام يرفض خصخصة ملكية بعض الأموال العامة، ويجيزها في البعض الآخر.
أما خصخصة الإدارة فلا يمكن التعرف على موقف الاقتصاد الإسلامي منها، دون التعرض لمسألة نظام استغلال الممتلكات العامة. وهذا ما نعرض له في الفقرة التالية.
3- نظام استغلال الممتلكات العامة :
(أ) الأموال المتجمعة في بيت المال، مثل مال الخراج، والأموال الأخرى التي توجه للإنفاق في المصالح العامة الأصل فيها أن توجه مباشرة للإنفاق على هذه المصالح، فتشيد بها السدود والقناطر وتعبد بها الطرق، وتبني بها المدارس والمستشفيات ومختلف المرافق، وتدفع منها الأجور والمرتبات.. الخ. ومعني ذلك أن الشأن فيها هو الاستخدام والإنفاق وليس الاستغلال والحصول منها على غلة أو عائد. ومع ذلك فلنفرض أن هناك فائضا ً في هذه الأموال، وقلنا بادخاره للمستقبل، كما نص على ذلك الكثير من الفقهاء وخاصة الأحناف فهل هناك ما يمنع من استثمار هذه الأموال واستغلالها في إقامة مشروعات اقتصادية؟ ليس هناك ما يمنع ذلك، بل إن ذلك هو النهج السليم وإلا تحولت إلى مكتنزات، طالما أنها لم تستغل استغلالا ً اقتصاديا ً جيدا ً. وهناك إشارات فقهية تفيدنا في ذلك، فقد ورد في المبسوط أن المروزي نقل عن محمد بن الحسن قوله:«فإن اشتري الإمام بمال الخراج غنماً سائمة للتجارة وحال عليها الحول فعليه فيها الزكاة»[27]. والشاهد هنا الاعتراف الفقهي بقيام الدولة باسستثمار مال الخراج واستغلاله، وذلك بتحويله إلى أصول نامية يتحقق منها ربح. وقد تمثل ذلك في شراء غنم ترعى وتنمو وتتكاثر وتباع بدلا ًمن الاحتفاظ بأموال الخراج في شكل نقدي لا ينمو على مدار الوقت. وقياسا ً على ذلك، للدولة القيام باستغلال هذه الأموال بالأسلوب الذي تراه أكثر صلاحية. وقد يتمثل ذلك في إقامة مشروعات اقتصادية تنتج سلعا ً وخدمات يقصد بها الربح. ومعني ذلك قيام ما يعرف حاليا ً بالقطاع الاقتصادي العام [28].
وهنا يرد تساؤل : هل يحق للدولة في ظل ظروف معينة أن تخصص هذه المشروعات؟ وما هي صور هذه الخصخصة؟ أعتقد – والله اعلم – أي طالما كان أصل هذه المشروعات أموال مملوكة لبيت المال فإنه من حق الدولة أن تخصص هذه المشروعات خصخصة ملكية وإدرية معا ً، شريطة أن يخضع ذلك للضوابط الشرعية الحاكمة للدولة في تصرفاتها في الأموال العامة.
(ب) الممتلكات العامة الإنتاجية المتمثلة في موارد الثروة، مثل الأراضي والمناجم والغابات والمياة ومصادر الطاقة …الخ.
هذه الموارد تحتاج إلى استغلال وتنمية حتى لا تترك معطلة. ومعنى ذلك إقامة المشروعات الزراعية والصناعية والتجارية والخدمية: مثل محطات توليد الطاقة ومشروعت استخراج المعادن وتصنيعها، والمشروعات الزراعية…الخ، ومثل هذه المشروعات تتطلب مشروعات تتولى تصريف هذه السلع والخدمات، فهل من حق الدولة إقامة مثل هذه المشروعات الاقتصادية العامة؟ أو بعبارة أخرى هل من حقها إقامة قطاع عام يمارس أنشطة اقتصادية متنوعة؟
من الناحية النظرية، نعم من حقها ذلك، بل قد يكون من واجبها إقامة هذه المشروعات؛ لأنها مسئولة عن استغلال واستثمار هذه الموارد حتى يستفيد منها كل الناس، وقد لا يتأتي ذلك إلا من خلال إقامة هذه المشروعات العامة.
ومن الناحية العملية التطبيقية قد قامت الدولة في عهد عمر- رضي الله عنه – باستغلال أرض الصوافي بنفسها[29]، أي أقامت ما يمكن اعتباره مشروعات زراعية عامة، كما ثبت أنه عندما أجلي عمر- رضي الله عنه – اليهود من خيبر قامت الدولة باستغلال حصتها في هذه الأراضي وخيرت أصحاب الحصص الأخرى في أن يقوموا هم باستغلالها أو أن تقوم الدولة باستغلالها لهم نظير جزء من الناتج [30]. وتفيد هذه الواقعة قيام الاستغلال العام أو القطاع العام على الممتلكات العامة، وكذلك قيام القطاع العام على ممتلكات خاصة بهدف استغلالها من قبيل ما يمكن تسميته عمعمة الإدارة على غرار خصخصة الإدارة. وقدم الفقه تنظيرا ً فقهيا ً لاستغلال هذه الممتلكات الإنتاجية العامة، موضحا ً أن أمام الحاكم أسلوبين لاستغلال هذه الأموال؛ الأسلوب العام «القطاع العام» والأسلوب الخاص «الاستغلال من قبل القطاع الخاص» وعلى الحاكم أن يختار أحسن الأسلوبين. يقول الدسوقي: «أما المعدن من حيث هو فيمكن استغلاله بإحدي طريقتين: إقطاعه لمن يستغله في نظير شيء لبيت المال وهو انتفاع لا إقطاع تملك، وأن يجعل للمسلمين، بأن يقيم الوالي فيه من يعمل للمسلمين بأجرة» [31]، ويقول ابن رشد: «فإن كانت المعادن في أرض حرة أو في أرض العنوة أو في الفيافي التي هي غير ممتلكة كان أمرها إلى الإمام يقطعها لمن يعمل فيها أو يعامل الناس على العمل فيها لجماعة المسلمين على ما يجوز له [32]. ويقول يحيي بن آدم: «وكل أرض لم يمكن فيها احد تمسح عليه ولم يوضع عليها الخراج قال حسن فذلك للمسلمين وهو إلى الإمام إن شاء أنفق عليها من بيت مال المسلمين واستأجر من يقوم فيها ويكون فضلها للمسلمين وإن شاء أقطعها رجلا ً ممن له غناء عن المسلمين» [33].
أما عن الأسلوب الثاني للاستغلال وهو الاستغلال الخاص من قبل القطاع الخاص فله هو الآخر ركيزته التطبيقية، فقد ثبت أن الرسول صلي الله عليه وسلم دفع أرض خيبر لليهود ليقوموا باستغلالها نظير جزء من الناتج عندما رأي أنهم أقدر على زراعتها، كما ثبت أن عمر-رضي الله عنه- دفع أرض الفتوح الإسلامية التي أصبحت ملكية عامة لأصحابها السابقين ليقوموا ياستغلالها نظير جزء من الناتج.
وفي الحالتين لم تقم الدولة باستغلال هذه الموارد من خلال القطاع العام.
كذلك ثبت أن عثمان -رضي الله عنه- حول استغلال أراضي الصوافي من القطاع العام إلى القطاع الخاص عندما تبين له أن الثاني أكفأ من الأول، إذ لم يزد العائد على الدولة من خلال الأسلوب العام عن تسعة ملايين درهم بينما وصل في الأسلوب الخاص إلى خمسين مليون درهم[34].
وعندما جاء عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه- أمر بأن تستغل أراضي الصافية من قبل القطاع الخاص، طالما كان ذلك ممكنا ً، وإلا تم استغلالها من قبل القطاه العام.
ومن ذلك يتضح أن أصول الاقتصاد الإسلامي لا تمنع من وجود ما يعرف بالقطاع العام، سواء كان منبعه ومبعثه وجود أموال عامة سائلة تحول إلى استثمار بدلا ً من تركها بحالتها النقدية معطلة. ولا نحب أن نترك هذه المسألة دون الإشارة إلى ما هو مدون ومعروف عن بعض علماء الإسلام من استهجانهم، بل ورفضهم، لقيام الدولة بإنشاء مشروعات زراعية أو صناعية أو تجارية وما قد ينجم عن ذلك من تعارض مع ما سبق طرحه، وقد استهجن كل من المارودي وابن خلدون والدمشقي قيام الدولة بممارسة النشاط الاقتصادي، وبعبارة أخرى: وجود قطاع عام اقتصادي، وكانت مبرراتهم في ذلك ما فيه من منافسة وتضييق على القطاع الخاص، إضافة إلى ما هناك من عجز وقصور في أداء المشروعات العامة، وكذلك ما يضيع على الدولة من الإيرادات العامة التي كان يمكن الحصول عليها من المشروعات الخاصة.
وبالاختصار كان هؤلاء العلماء روادا ً حقيقيين للفكر الاقتصادي المعاصر الذي ينادي بكف يد الدولة عن ممارسة النشاط الاقتصادي؛ لما يجلبه ذلك من مضار جسيمة على الاقتصاد القومي. ومن المفيد للقارئ أن نضع أمامه فقرات من أقوال هؤلاء العلماء.
يقول المارودي: «وعليه – يعنى السلطان – ألا يعارض صنفا ً من الرعايا في مطلبه، وألا يشاركه في مكسبه، وربما كان للسلطان رأي الاستئثار من أحد الأصناف فيتمثل إليه من لم يألفه؛ فيختل النظام بهم فيما نقلوا إليه؛ لأن تميزهم بإلهام الطابع أعدل في ائتلافهم من التصنع لها، وربما ضن السلطان بمكاسبهم فتعرض لهم وشاركهم فيها، فتاجر مع التجار، وزرع مع الزراع، وهذا وهن في حقوق السياسة وقدح في شروط الرياسة من جهتين، أحدهما: أنه إذا تعرض لأمر قصرت فيه يد من عداه، فإن تورك عليه لم ينهض به، وإن شورك فيه ضاق على أهله. وقد روي عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: «ما عدل وال اتجر في رعيته». والثاني أن الملوك أشرف الناس منصبا ً،فخصوا بمواد السلطنة؛ لأنها أشرف المواد مكسباً ، فإن زاحموا العامة في إدراك مكاسبهم أوهنوا الرعايا ودنسوا الممالك، فاختل نظامها واعتل مرادها، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إذا اتجر الراعي هلكت الرعية » [35].
ويقول ابن خلدون :« فصل في أن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا مفسدة للجباية . أعلم أن الدولة إذا ضاقت جبايتها بما قدمناه من الترف وكثرة العوائد والنفقات وقصر الحاصل من جبايتها على الوفاء بحاجتها ونفقاتها واحتاجت إلى المزيد من المال والجباية , فتارة توضع المكوس على بيعات الرعايا وأسواقهم , وتارة بمقاسة الوالى والجباة وأملاك عظمائهم , لما يرون أنهم قد حصلوا على شئ طائل من أموال الجباية لا يظهره الحسبان , وتارة باستحداث التجارة والفلاحة للسلطان , لما يرون أن التجار والفلاحين يحصلون على الفوائد والغلات مع يسارة أموالهم , وأن الأرباح تكون على نسبة رؤوس الأموال , فيأخذون في اكتساب الحيوان والنبات لاستغلاله في شراء البضائع والتعرض بها لحوالة الأسواق , ويحسبون ذلك إذراراً للجباية وتكثيراً للفوائد , وهو غلط عظيم وإدخال الضرر على الرعايا من وجوه متعددة , فأولاً مضايقة الفلاحين والتجار في شراء الحيوان والبضائع وتيسير أسباب ذلك , فإن الرعايا متكافئون في اليسار متقاربون , ومزاحمة بعضهم بعضاً تنتهي إلى غاية موجودهم أو تقرب , وإذا رافقهم السلطان في ذلك وماله أعظم كثيراً منهم فلا يكاد أحد منهم يحصل على غرضه في شئ من حاجاته»[36] .
قد يبدو أن هناك شيئاً من التعارض بين هذه الأقوال وما سبق تقريره حيال المشروعات العامة . ودرءاً لهذا التعارض ذهب بعض الباحثين إلى أن مقصود هؤلاء العلماء ليس قيام الدولة كجهاز حاكم بإقامة هذه المشروعات . وإنما قيام الحكام بذلك لأنفسهم ولمصلحتهم هم وليس من أجل المصلحة العامة .
وأرى أن هذا التأويل فيه بعد , ونحن في سعة من القول به , ويمكن القول بأن ما قاله هؤلاء العلماء صحيح وسليم في ظل الفروض والواقع الذي شاهدوه , فهم يتحدثون عن منافسة الحكومة للقطاع الخاص , ودخولها معهم في حلبة النشاط الاقتصادي وكأنها مثلهم , تمارس هذه الأنشطة كما يمارسونها , وبالطبع فإنه في مثل هذه الفرضية فإن كل ما تخوفوا منه صحيح , ومن ثم كان موقفهم صحيحاً اقتصادياً وأيضاً شرعياً , لأن الدولة بذلك تضر ولا تصلح , وهي إنما جاءت لرعاية المصالح وحمايتها .
بيد أن نطاق القطاع العام في ضوء التصوير المتقدم لا يقوم على المنافسة والمضايقة واقتطاع حصة مما يدخل للقطاع الخاص , وإنما هو أسلوب لاستغلال الموارد العامة يمكن اتباعه إذا ما تبين بالدراسة العلمية الدقيقة أنه أمثل وأفضل من الأسلوب البديل .
إن فكرة مزاحمة الأفراد في الفرص المتاحة وفي أنشطتهم من قبل الدولة مرفوضة إسلامياً , وقد نص الفقهاء على أنه لا يجوز للدولة أن تحمي من الأراضي ما يضيق الفرص أمام الأفراد للاستفادة منها [37] , فما بالنا بإقحام الدولة نفسها في مجالات يقوم بها القطاع الخاص على وجه سليم , ويحقق مصالح الأمة .
وفي النهاية نعود إلى لب موضوعنا ونطرح هذا التساؤل : إذا ما كان هناك قطاع عام ذو صبغة شرعية فهل من حق الدولة أن تخصصه ؟ نقول إن كان تخصيص إدارة فالإجابة بنعم , بغير خلاف , حيال كل المشروعات العامة , شريطة أن يكون ذلك هو الأسلوب الأمثل , وشريطة ألا يترتب عليه تفويت حق أي فرد كان له في ظل المشروع العام . وقد فعل ذلك عثمان – رضي الله عنه – في أرض الصوافي , كما طالب بفعله عمر بن عبد العزيز . أما إن كان تخصيص ملكية بأن تصبح هذه المشروعات ذات الملكية العامة مملوكة ملكية خاصة فإن الجواب بالإمكانية أو عدمها ليس سهلاً, ولا ينبغي التعميم والإطلاق. ومرجع ذلك ما سبقت الإشارة إليه من تنوع طبائع الممتلكات العامة ما بين ملكية للدولة أو لبيت المال. وما نجم عن ذلك من ضوابط شرعية على حدود تصرف الدولة ونطاقه في هذه الأموال . وسبقت الإشارة إلى أن هناك من الأموال العامة ما لا يحق للدولة أن تغي ملكيتها أو تعدل منها بتحويلها كلاً أو جزءاً إلى ملكيات خاصة, بيد أن هناك أموالاً عامة تقبل هذا التحويل.
ومعنى ذلك أن المشروعات العامة المرتكزة على ملكية للدولة أو لبيت المال تقبل خصخصة الملكية, شريطة أن يكون في ذلك مصلحة أكبر للناس, أما المشروعات العامة المرتكزة على ملكية جماعية أو مشتركة لكل أفراد المجتمع فلا تقبل خصخصة الملكية, اتساقاً مع عدم قبول الموارد التي كانت عليها لهذه الخصخصة. والأمر هنا في حاجة إلى مزيد بحث ودراسة وتحرير للمسائل.
وقد يرد هنا تساؤل مفاده: إذا ما اتضح أن خصخصة بعض المشروعات العامة هي الأسلوب الأفضل, ومنعنا الدولة من ذلك على سبيل خصخصة الملكية ألا يعد ذلك تبديداً وإضاعة للأموال العامة؟ والجواب عن ذلك أن الإسلام يرفض تماماً كل إضاعة وتبديد لأي مال , وبخاصة الأموال العامة والتي تعامل معاملة مال اليتيم, لكن ذلك لا يعني التخلص من هذه الأموال العامة التي هي ملك لكل الناس, وإنما هناك بدائل أخرى, مثل خصخصة الإدارة, ومثل تحسين وإصلاح هذه المشروعات. وبذلك تحافظ الدولة للناس على حقوقهم وملكياتهم, وفي الوقت ذاته تتلافي التبديد والإهدار والضياع.
4- الاقتصاد الإسلامي وما يجرى حالياً من خصخصة في دول العالم الثالث :
ليس من السهل ولا من الصواب حالياً تعميم القول في ذلك, لأن أوضاع الدول الإسلامية متنوعة متفاوتة, وإن كان يغلفها كلها ستار التخلف الاقتصادي, ولكنها مع ذلك تتفاوت في درجات النمو, أو بالأحرى درجات التخلف, وكذلك في الملابسات المحيطة ومعنى ذلك أنه قد لا يكون من الصواب أن يقال عن دول العالم الإسلامي كلها إن مصلحتها كذا وكذا. ومع ذلك يمكن القول بأن التوجه نحو خصخصة بمفهومها الجزئي الضيق قد يكون جيداً بوجه عام, شريطة أن يتم ذلك في ضوء ضوابط حاسمة وأسس واضحة , نذكر منها ما يلي :
(أ) أن يكون ذلك هو الحل الأمثل مثل أن يكون إصلاح المشروع العام متعذراً, أو كان إصلاحه لا يحقق العائد من ورائه, وهو في الوقت ذاته يمثل أهمية قومية لكل المجتمع من حيث الأمن أو الاقتصاد أو الاجتماع … الخ .
والمشاهد في العديد من الدول الإسلامية المعاصرة أنها في فترة سابقة اندفعت نحو إقامة المزيد من المشروعات العامة بحق وبغير حق , وعليها اليوم إسلامياً واقتصادياً أن تبادر بتصحيح هذه الأوضاع متخلية عما لم يكن لها من البداية الحق في إقامته. وما يتبقى من مشروعات تطبق عليها التوجيهات التي يقرها الإسلام, مع التأكيد على أنه لا يصح التفريط في ملكية بعض المشروعات السلعية والخدمية, وأحياناً في إدارتها, وهي تلك المشروعات التي تمثل منتجاتها أهمية ضرورية للأمة.
ومن المهم إزالة لبس يقع فيه الكثير من الناس وهو الربط الإيجابي بين دور الدولة أو وظائفها وبين القطاع العام, بمعنى أن قوة هذا معناها قوة ذاك, والعكس بالعكس, بل إن الأمر ليصل عند البعض إلى ماهو أبعد من ذلك, حيث يري أنهما مترادفان, مفادهما واحد. وكل ذلك غير صحيح[38], فالقطاع العام ليس هو الدولة, وليس هو وظائفها, وإنما هو مجرد مشروعات عامة تقيمها الدولة وتتوسع فيها أو تقلل منها, وقد يكون توسع الدولة فيها على حساب قوة الدولة ومتانة دورها , وقد يكون في تقليل الدولة منها مزيد من القوة والفعالية لها.
والأمثلة المعاصرة على ذلك لا تحتاج إلى بيان, والأمثلة التاريخية ظاهرة بارزة, فأين كانت قوة القطاع العام وضخامة حجمه إبان الدولة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أو عهد عمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه , أو عهد المنصور أو الرشيد – رحمهما الله, ومع ذلك كانت هذه الدول من القوة والفاعلية بمكان .
نخلص من ذلك إلى القول بأنه يمكن تقليص القطاع العام دون أن يكون في ذلك مساس بدور الدولة وفعاليتها وقوتها. طالما لم يكن هذا التقليص على حساب السلع الاستراتيجية أو الضرورية التي تتعلق بالفقراء أو بالأمة ككل .
(ب) أن تتم الخصخصة بالأسلوب الأمثل, من حيث التقويم وأسلوب التصرف, وإتاحة الفرصة أمام الجميع, وعدم وجود شائبة محاباة أو رشاوى أو هدايا وتوفر الشفافية الكاملة , فهي أموال عامة وهي أموال ناس كافة , وما الدولة فيها إلا وكيلة عنهم, كما قال بحق ابن تيمية رحمه الله[39]
(ج) أن يتم التصرف في الأموال الناتجة عن الخصخصة بأقصي درجة من الرشادة المرتكزة على الكفاءة والعدالة معاً, وكذلك الشفافية.
(د) ألا يترتب عليها تضييع حق للأمة في الحاضر أو المستقبل, وألا يتولد عنها وضع اقتصادي مناف لمبادئ الاقتصاد الإسلامي, مثل قيام احتكارات أو تفاوت واسع في التوزيع , أو سيطرة من الأجانب على موارد الأمة, أو غيرذلك مما يهدد مصالح الأمة, فالخصخصة في الأول والأخير ليست هدفاً أو غاية , وإنما هي وسيلة أو أسلوب لتحقيق هدف , يتمثل في توفير مصالح الأمة.
إن هذه الضوابط وغيرها تستهدف جعل عملية الخصخصة تحوز المشروعية الشرعية والاقتصادية, كما تحوز القبول من أفراد المجتمع, حتى لا يتعرض المجتمع لهزات عنيفة تقوض استقراره الاجتماعي والاقتصادي, بل والسياسي. ولعل هذا يذكرنا بما جره سوء فهم بعض الفئات لما قام به سيدنا عثمان من إقطاعات لبعض الأفراد من ويلات جسام على المجتمع الإسلامي ومسيرته الحضارية.
أما الخصخصة بمفهومها الواسع و الذي يفيد, كما سبق, التحول إلى نظام السو , بحيث يكون السوق هو المهيمن على الحياة الاقتصادية. وقد يمتد إلى نواح أخرى, وفي الوقت ذاته تهميش دور الدولة وتقليص وظائفها فإن ذلك مغاير للنهج الإسلامي ومتعارض مع أصول النظام الاقتصادي الإسلامي, كما أنه ليس من صالح الدول الإسلامية المعاصرة انسحاب حكومتها من الحياة الاقتصادية تاركة إياها للقطاع الخاص, فهناك تحديات كبار لا يتأتى للقطاع الخاص ومواجهتها في غيبة حكومات قوية ذات دور بارز, هناك تحديات العولمة, وهناك تحديات التنمية, وهناك تحديات البيئة, وهناك التحديات الاجتماعية والسياسية . وهناك تحديات تتعلق بقدرات القطاع الخاص وسلوكياته, وكل ذلك يحتم بقاء الدولة بقاء فعالاً في الساحة الاقتصادية لقيادة المجتمع القيادة السليمة نحو تحقيق أهدافه , وإلا كانت الأمة كسفينة وسط خضم لجي تتقاذفها عواصف وأمواج عاتية دونما ربان قوي ماهر, لا تلبث أن تفتك بها تلك الأنواء.
خاتمة
نختم هذه الدراسة بالقول إن الاقتصاد الإسلامي يؤمن بأن الدولة القوية الفعالة هي متطلب أساسي لوجود قطاع خاص قوى وفعال ورشيد , كما يؤمن بأن وجود هذا القطاع الخاص القوى هو ركيزة أساسية من ركائز وجود الدولة القوية . ويترتب على ذلك ضرورة وجود الطرفين معاً , وبهذه المواصفات , ومع تمييز دقيق وصريح وحاسم بين دور الدولة ودور القطاع الخاص , أن دور الدولة هو الحكم والسلطة والإشراف والتنظيم وضبط الإيقاع وتهيئة المناخ والرقابة والمتابعة والدعم والتقويم , ورسم السياسات وسن التشريعات وممارسة النشاط الإنتاجي في بعض القطاعات ذات الأهمية المتعاظمة للمجتمع أو لبعض فئاته , ودور القطاع الخاص هو الممارسة والتنفيذ للغالبية العظمى من الأنشطة الاقتصادية في ظل هذه الرعاية وذلك التقويم من قبل الدولة .
و أي نهج يغاير ذلك هو نهج غير مقبول من قبل الاقتصاد الإسلامي .
والله اعلم .
[1] د. رابح رتيب، مستقبل الخصخصة، مؤسسة الأهرام ، كتاب الأهرام الاقتصادى، اغسطس 1997، ص 9 وما بعدها.
[2] بنك مصر، النشرة الاقتصادية، العدد الثانى، السنة والثالثة والأربعون، ص41، د. صديق عفيفى، التخصيصية وصلاح الاقتصاد المصرى، مؤسسة الأهرام، مركز الدراسات الاقتصادية ، سبتمبر 1991.
[3] نفسه ص 43، الأمم المتحدة، اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربى آسيا، تقييم برامج الخصخصة في منطقة الاسكوان د. محسن الخضيرى، الخاصخصة منهج اقتصادى متكامل، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية ص 19.
[4] د. منير هندى، أساليب وطرق خصخصة المشروعات العامة، خلاصة الخبرات العالمية، المنظمة العربية للتنمية الإدارية، 1995م، ص 45، بنك مصر، مرجع سابق، ص 39.
[5] لاطلاع شيق على حوار فكرى قيم بين أنصار القطاع الخاص وأنصار القطاع العام يراجع: تشارلز وولف، السوق والحكومات-الاختيار بين البدائل غير مثالية، ترجمة: على حسين حجاج، عمان: دار النشر 1996.
[6] Peroti,Enrico “Credit Privatization The American Economic Review , Sep,. 1995, p849
[7] د. عبد القادر عطية، اتجاهات حديثة في التنمية، الإسكندرية، الدار الجامعية للنشر، 1999م، ص 315.
[8] بنك مصر، مرجع سابق، ص 40.
[9] نفسه، ولمزيد من المعرفة يراجع: محمود الدمرداش، الخصخصة كوسيلة لعلاج الاختلالات الهيكلية لقطاع الأعمال العام، رسالة دكتوراه غير منشورة، كلية التجارة، جامعة القاهرة-فرع بنى سويف ، 1999.
[10] صالح كامل، مفهوم وأهداف وسياسات عملية التخصيص، ضمن دور المصارف العربية في التخصيصية وتطوير الأسواق المالية، بيروت 1993 ص 40 وما بعدها، د. رابح رتيب، مرجع سابق، د. سعيد النجار، التخصيصية والتصحيحات الهيكلية في البلاد العربية، صندوق النقد الدولي، أبوظبى، ديسمبر 1998 ، د. محمد صالح الحناوى، الخصخصة بين النظرية والتطبيق، الاسكندرية، الدار الجامعية للطباعة والنشر 1995 ص 13 وما بعدها، د. السيد الطيبى، الفلسفة الاقتصادية للخصخصة..، مؤتمر إدارة الاستثمار والتصدير، أكاديمية السادات، 24-26 أكتوبر 1996.
[11] بنك مصر، مرجع سابق، ص 50 ومابعدها.
[12] بنك الاسكندرية، التخصيصة والإصلاح الاقتصادى د. كريمة كريم (محرر) الاقتصاد المصرى التحديات والسياسات من المنظور الإسلامي والوضعي 1997 بدون نشر ص 76، د. رابح رتيب، مرجع سابق، ص 28 وما بعدها.
[13] د. حازم الببلاى، دور الدولة في الاقتصاد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999، ص 126.
[14] نفس المصدر ، ص 9.
[15] د. شوقي دنيا، الدولة والاقتصاد في الفكر الإسلامي، المؤتمر العلمي السنوي الحادي والعشرين للاقتصاديين المصريين، القاهرة، أكتوبر 1999، وممن قال بتغير نطاق وظائف الدولة الإسلامية طبقا للظروف د. منذر قحف، القطاع العام ودوره في توليد ايرادات التنمية، ندوة موارد الدولة المالية في المجتمع الإسلامي من وجهة النظر الإسلامية، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب. 1989.
[16] المارودي، الأحكام السلطانية، القاهرة. مكتبة الحلبي، ص15 وما بعدها، الجويني، غياث الأمم، الدوحة، الشئون الدينية. ص263 وما بعدها، المودردي، الخلافة والملك ، الكويت: ص26، د. عبدالله الثمالي. الحرية الاقتصادية وتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي في الإسلامي، دكتوراه، جامعة أم القري، 1405 هـ، ص 340 وما بعدها، محمد المبارك، نظام الإسلام: الاقتصاد، بيروت، دار الفكر، 1980 ص 106 وما بعدها.
[17] ابن الجوزي، تاريخ عمر بن الخطاب، القاهرة: المطبعة التجارية الكبرى، ص 410.
[18] ابن سعد، الطبقات الكبري جـ 3، ص 209.
[19] المارودين الأحكام، مرجع سابق ص 193 وما بعدها، قوانين الوزارة، الإسكندرية، مؤسسة شباب الجامعة، 1978 م.
[20] د. محمد بلتاجي، أثر تطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي في المجتمع، مؤتمر الفقه الإسلامي، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1404 هـ، ص 433 وما بعدها.
[21] نقلا ً عن ابن الأزرق، بدائع السلك في طبائع الملك، نشر وزارة الإعلام، بغداد، جـ 1 ،ص 219.
[22] لمعرفة اوسع يراجع د. شوقي دنيا، الإسلام والتنمية الاقتصادية، القاهرة، دار الفكر العربي 1979 ص 339 وما بعدها.
[23] لمزيد من المعرفة براجع د. عبد السلام العبادي، الملكية في الشريعة الإسلامية، عمان: مكتبة الأقصي 1974، البهي الخولى، الثروة في ظل الإسلام، 1971 ص 101 وما بعدها، محمد مبارك، مرجع سابق، ص 103 وما بعدها، د. عبد الوهاب حواس، الإقطاع في الفقه الإسلامي، القاهرة: دار النهضة العربية ص 34 ومابعدها.
(*) يعترض البعض على إدخال الزكاة ضمن الأموال العامة، مع العلم بأنها كذلك. وكل كتب الأموال والخراج تؤكد على ذلك. وهذا لا يعنى أننا حاليا ً نحبذ دخولها تحت يد الدولة لما هنالك من شوائب وملاحظات ولكن ذلك لا ينفي كونها مالا ً عاما ً.
(**) يقول ابن رجب: >> ولو أراد أحدهم-أحد المزارعين في أرض الخراج-الخروج، وله ماء أو غراس في الأرض، فهل يقال-للإمام أن يتملكه للمسلمين من مال الفئ إذا رآه أصلح، كما يتملك ناظر الوقف ما غرس فيها أو بني بالأجرة بعد انقضاء المدة لا يبعد أن يجوز ذلك بل هو أولي بذلك من ناظر الوقف << الاستخراج ص 96/ دار المعرفة ، بيروت.
[24] الطحاوى، مختصر الطحاوي، القاهرة: بدون ناشر 1270هـ ، ص 35.
[25] الكاساني، دائع الصنائع، بيروت. دار الكتاب العربي ج3 ص 25.
[26] ابن قدامة، المغني، الرياض، مكتبة الرياض الحديثة، ج5 ص 572، وقد فصل القول في ذلك تفصيلا ً طيبا ً د. عبد الوهاب حواس، مرجع سابق ص 65 وما بعدها.
(*) قال ابن رجب:>> ولو أذن الإمام في بيع ارض بيت المال فقد قيل إنه ينفذ إما لأن إذنه حكم في مختلف فيه، وإما لوجوب طاعته فيما لا يعلم أنه معصية<< الاستخراج ص 86. وقال أيضا ً:>> إذا أعطي الإمام ارض السواد بالخراج فهذه مأخوذة معاوضة، والأئمة لهم ولاية ذلك فلا ينبغي التوقف في جوازه<< ص90.
[27] السرخسي، المبسوط، بيروت: دار المعرفة ح 3 ، ص 52.
[28] د. عيسي عبده، النظم المالية في الإسلام، القاهرة، معهد الدراسات الإسلامية 1965، ص 74 وما بعدها، د. ابراهيم أباظة، الاقتصاد الإسلامي ، بيروت: دار لسان العرب ص 138 وما بعدها.
[29] المارودي، الأحكام السلطانية، مرجع سابق ص 193 دانيل دينيت الجزية والإسلام، ترجمة د. فوزي فهيم، بيروت، مكتبة الحياة ص 59.
[30] ابن رجب، الاستخراج لأحكام الخراج، بيروت: دار المعرفة، ص 71.
[31] الدسوقي، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، بيرو، دار الفكر، ج1 ص 486، المارودين الأحكام ص 193.
[32] ابن رشد (الجد) المقدمات، بيروت: دار صادرص 225 وفي نفس الصفحة ينص على جواز التأجير.
[33] يحيي بن آدم، الخراج، دار المعرفة، بيروت ص 22 ، محمد باقر الصدر، اقتصادنا، بيروت: دار الفكر 1969 ص 450 وما بعدها.
[34] يحيي بن آدم، مرجع سابق ص 62.
[35] قوانين الوزارة , مرجع سابق , ص 67 .
[36] مقدمة ابن خلدون , بيرت : دار القلم ص181 .
[37] الماوردى , الأحكام ص 185, قارن ابن قدامة , المغنى ج 5 ص 570 .
[38] د. جواد العنانى , دور القطاع العام والقطاع الخاص الاقتصاديين في التنمية من منظور إسلامي , ندوة التنمية من منظور إسلامي , عمان : المجمع الملكى لبحوث الحضارة الإسلامية 1994 , ج2 ص 841
[39] ابن تيمية , السياسة الشرعية , الطبعة السلفية ص17.