فتاوى : دراسة نقدية لبعض فتاوى الإمام محمد عبده
استخدم الإمام محمد عبده المصلحة كدليل لبناء بعض الأحكام الفقهية ، كما استخدمها في تفسيره لبعض آيات القرآن الكريم .
وفيما يلي نبين :
أولاً : منهج الإمام في استخدام المصلحة كأساس لبناء الأحكام .
ثانيًا : بعض المبادئ الفقهية التى استند الإمام في تقريرها استنادًا على المصلحة الاجتماعية .
أولاً : منهج محمد عبده في استخدام المصلحة :
كان الإمام محمد عبده مصلحًا اجتماعيًّا كبيرًا ، وقد بنى اجتهاده في غالب الأحوال على المصلحة إذ راعى المصلحة العامة في تفسيره للقرآن الكريم، وفي فتاويه العامة ، وطالب الحكام وأولى الأمر والفقهاء برعاية مصالح الناس في أحكامهم وفتاويهم ، وأوضح لهم أن المصلحة العامة أصل في الأحكام السياسية والمدنية يرجع إليه في غير تحليل المحرمات أو إبطال الواجبات . وطالب القضاة بأن تكون أحكامهم على وفق المصالح والمنافع الوجودية(1) .
وقد أكد الإمام أن الشريعة قد راعت مصلحة الأمة وأن الأحكام تتغير بتغير الزمان ، إذ قال : « فالشريعة الإسلامية عامة باقية إلى آخر الزمان ، ومن لوازم ذلك أنها تنطبق على مصالح الخلق في كل زمان ومكان مهما تغيرت أساليب العمران ، وشريعة هذا شأنها لا تنحصر جزئيات أحكامها؛ لأنها تتعلق بأحوال البشر ما وُجدوا، ولا يحيط بذلك علمًا إلا عالم الغيب والشهادة، وهو الذي جعل أساسها حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال. إذ أن مصالح البشر في كل آن مبنية على هذه الأشياء التى فيها السعادة في المعاش والمعاد. وقد استخرج الأئمة والفقهاء _ رضى الله عنهم _ القواعد الكلية والأحكام الجزئية وبنوها على أساس هذه الأصول الخمسة، ومن القواعد المتفق عليها بينهم أن العبرة بالمعاني لا بالألفاظ(2)، كما مر آنفًا ، وأن الضرورات تبيح المحظورات(3) ، وأن المشقة تجلب التيسير(4) ، وأن الأمر إذا ضاق اتسع ، وأن الضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام، والضرر الأشد يزال بالأخف ، وأن الحاجة تتنزل منزل الضرورة عامة أو خاصة، وأن الأحكام تتغير بتغير الأزمان، وأن التعيين بالعرف كالتعيين بالنص، ومن فهم كلام أئمة الفقه حق فهمــه لا يتعدى هذه القواعد(5) .
وقد اعتمد الإمام مذهبًا في التفسير يقوم على التفسير الاجتماعي العقلي للنصوص. وبقول آخر تفسير سياقي للنص في إطار الواقع؛ ومن هنا كان منهج الإمام منهجًا عقليًّا وواقعيًّا في آن واحد متبلورًا في سياق اجتماعي لا يفصل النص عن مضمونه الغائي . ومن هنا تجاوز الإمام منهج الشرح على المتون الذي اعتمده المفكرون المسلمون الكلاسيكيون .
ويقوم منهج الإمام في التفسير على مجموعة من الأسس هي :
(1) اعتبار القرآن والسنة المصدرين الأساسيين للقاعدة القانونية في الإسلام، على أن ينظر إلى القرآن على أنه يحتوى على مجموعة أساسية من الأحكام التى ترشد إلى ما فيه خير الناس في حياتهم ودنياهم الآخرة ، مع الأخذ في الاعتبار أن القرآن يجب أن ينظر إليه على أنه كلٌّ متكاملٌ ويشكل وحدة متماسكة .
(2) إخضاع حوادث الحياة القائمة في وقته لنصوص القرآن الكريم، إما بالتوسع في معنى النص ، أو بحمل الشبيه على الشبيه(6) .
(3) أن القرآن لا يتبع المذاهب ، بل العكس ، فالقرآن هو الذي تحمل عليه المذاهب والآراء في الدين لا أن تكون هذه المذاهب أصلاً ، والقرآن هو الذي يحمل عليها . وبقول آخر أنه ينبغي النظر إلى القرآن نظرة بعيدة عن التأثر بمذهب معين فلا يخضع التفسير لسلطانه، وتؤول النصــــوص بما يتفق مع أحكامه(7).
(4) أن المفسر عليه أن يفهم المراد من النصـوص على ضوء حكمة التشريع(8).
وقد طبق الإمام هذه الأسس في تفسيره لبعض المسائل التى أمر بها القرآن ، أهمها تفسيره لآية تعدد الزوجات ، إذ رأى أن القرآن لما قرر التعدد ، فإنه أحاطه بضمانة أساسية تقع على عاتق الرجل ؛ وهي ضمانة تحقيق العدل بين الزوجات ، ومن هنا فإن الرجل الذي يباح له أن يتزوج بأكثر من واحدة هو الرجل الذي يثق كل الثقة في أنه يمكنه تحقيق العدل بين زوجاته ، فلو انتفت ضمانة العدل ، لأدى إلى إحداث مشاكل كبيرة في المجتمع الإسلامي(9) .
(5) في حالة التعارض بين الدليل العقلي القطعي مع ظاهر النص غير القطعي الدلالة أو الرواية ، يؤخذ بالدليل العقلي القطعي . ويلاحظ أن اشتراط «القطعي» في الدليل العقلي يؤدى إلى خروج أكثر نظريات الفلاسفة والمتكلمين لأنها تعد غير قطعية(10) .
ثانيًا : بعض المبادئ الفقهية التى استند الإمام في تقريرها إلى المصلحة الاجتماعية
استخدم الإمام المصلحة كدليل لبناء بعض الأحكام الفقهية ، كما استخدمها في تفسيره لبعض آيات القرآن الكريم.
وفيما يلي عرض هذه التطبيقات :
(1) منهج الإمام في معالجة قضية تعدد الزوجات :
عالج الإمام محمد عبده قضية تعدد الزوجات انطلاقًا من مفهوم المصلحة الاجتماعية . ومن هذا المنطلق انتهى إلى مبدأ هام وهو أن الأصل هو الزواج الفردى ، وأن تعدد الزوجات لا يصح إلا في حالة الضرورة ، وإذا توافرت شروطها .
ونتناول معالجة الإمام لمسألة تعدد الزوجات في النقاط الآتية:
( أ ) أسس الإمام رأيه في حظر تعدد الزوجات استنادًا إلى المصلحة، ومما يؤكد ذلك بعض المقولات التى وردت عنه، ومنها نذكر :
قوله(11) : « وقد أباحت الشريعة المحمدية للرجل الاقتران بأربع من النسوة إن علم من نفسه القدرة على العدل بينهن، وإلا فلا يجوز الاقتران بغير واحدة، قال تعالى : {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}(12) ، فإن الرجل إذا لم يستطع إعطاء كل منهن حقها اختل نظام المنزل ، وساءت معيشة العائلة . إذ العماد القويم لتدبير المنزل هو بقاء الاتحاد والتآلف بين أفراد العائلة، والرجل إذا خص واحدة منهن دون الباقيات ولو بشيء زهيد كأن يستقضيها حاجة في يوم الأخرى امتعضت تلك الأخرى وسئمت الرجل لتعديه على حقوقها بتزلفه إلى من لا حق لها، وتبدل الاتحاد بالفرقة والمحبة بالبغض».
وقوله(13) : «وغاية ما يستفاد من آية التحليل إنما هو حِلُّ تعدد الزوجات إذا أُمِن الجور ، وهذا الحلال هو كسائر أنواع الحلال تعتريه الأحكام الشرعية الأخرى من المنع والكراهة وغيرهما بحسب ما يترتب عليه من المفاسد والمصالح ، فإذا غلب على الناس الجور بين الزوجات ، كما هو مشاهد في أزماننا أو نشأ عن تعدد الزوجات فساد في العائلات وتعد للحدود الشرعية الواجب التزامها وقيام العداوة بين أعضاء العائلة الواحدة وشيوع ذلك إلى حد يكاد يكون عامًّا جاز للحاكم رعاية للمصلحة العامة أن يمنع تعدد الزوجات بشرط أو بغير شرط على حسب ما يراه موافقًا لمصلحة الأمة .
ورأى _ أيضًا _ أن تعدد الزواج يؤدى إلى إحداث تفكك عائلي ، وينتج عن ذلك إنشاء علاقات اجتماعية ومجتمع غير مترابط يقوم على الأحقاد والتشاحن .
ويرى أن الله عز وجل بقوله :{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} ، فهذه الآية تشترط تحقيق العدل بين الزوجات في حالة التعدد بكافة صور العدل . وأنه كما يقول الإمام: « أفبعد الوعيد الشرعي وذلك الالتزام الدقيق الضمني الذي لا يحتمل تأويلاً ولا تحويلاً ، يجوز الجمع بين الزوجات عند توهم القدرة على العدل بين النسوة »(14) .
ويؤكد الإمام على أن شيوع تعدد الزوجات بين العامة والخاصة بدون مراعاة الضوابط الشرعية المحددة ، يعد أمرًا منكرًا منافيًا للشريعة الغراء ولحكمة التعدد، حيث يدل على عدم الفهم الصحيح لحكمة الله في مشروعية التعدد، وهذا ما لا يجيزه العقل ولا تجيزه الشريعة الغراء .
وفي ذلك يقول الإمام(15) : «فلزم عليهم حينئذ إما الاقتصار على واحدة إذا لم يقدروا على العدل كما هو مشاهد عملاً بالواجب عليهم بنص قوله تعالى : {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} . وأما آية : {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاء} ، فهي مقيدة بآية {فَإِنْ خِفْتُم}. وأما أن يتبصروا قبل طلب التعدد في الزوجات ، فيما يجب عليهم شرعًا من العدل وحفظ الألفة بين الأولاد وحفظ النساء من الغوائل التى تؤدى بهن إلى الأعمال غير اللائقة ولا يحملونهن على الإضرار بهم وبأولادهم ولا يطلقونهن إلا لداع ومقتضى شرعي شأن الرجال الذين يخافون ويوقرون شريعة العدل ويحافظون على حرمات النساء وحقوقهن ويعاشرونهن بالمعروف ويفارقونهن عند الحاجة، فهؤلاء الأفاضل الأتقياء لا لوم عليهم في الجمع بين النساء إلى الحد المباح شرعًا، وهم وإن كانوا عددًا قليلاً في كل بلد وإقليم، لكن أعمالهم واضحة الظهور تستوجب لهم الثناء العميم، والشكر الجزيل ، وتقربهم من الله العادل العزيز.
وقد وضع الإمام قاعدة عامة تحكم تعدد الزوجات ، وهي أن التعدد يجوز في حالتين هما :
_ الحالة الأولى : إذا وجد الإنسان في نفسه ما يؤكد تحريه العدل بين الزوجات .
فالقرآن في نظر الإمام يقضى بتحليل الجمع بين الزوجات ديانة ، وذلك بالنسبة للرجل الذي بلغت ثقته من نفسه حدًّا لا يخاف معه أن يجور ، وإذا أراد أن يتزوج أكثر من واحدة أبيح له ذلك بينه وبين الله تعالى ، ومن لم يصل إلى هذا الحد من الاقتدار والتحفظ من الجور حرم عليه أن يتزوج أكثر من واحدة، وقد نبه الله تعالى مع ذلك بقوله :{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُم} .
على أن هذه الغاية من قوة النفس لا يمكن إدراكها زيادة في التحذير من حظر التعدد حيث الله تعالى علق وجوب الاكتفاء بواحدة على مجرد الخوف من عدم العدل ، ثم صرح بأن العدل مع الاستطاعة ، فمن ذا الذي يمكنه أن لا يخاف عدم العدل مع ما تقرر من أن العدل غير مستطاع(16) .
مع إقرار الأمر بأن تعدد الزوجات يعد مباحًا في الحالتين السابقتين ، إلا أنه يعود ويقول : « ولو أن ناظرًا في الآيتين أخذ منهما الحكم بتحريم الجمع بين الزوجات لما كان حكمه هذا بعيدًا عن معناهما ، لولا أن السنة والعمل جاء بما يقتضى الإباحة في الجملة »(17) .
ويقول أيضًا : وإنه ليجمل برجال هذا العصر أن يقلعوا عن هذه العادة من أنفسهم، ولا أظن أن أحدًا من أهل المستقبل يأسف على تركها »(18) .
_ الحالة الثانية : حالة الضرورة الملجئة ، وهي تكون في الفرضين الآتيين:
كما في حالة إصابة الزوجة الأولى بمرض لا يسمح لها بتأدية حقوق الزوجية، والأمر الثاني في حالة عقم الزوجة الأولى .
وفي غير هذين الفرضين، يرى الإمام أن تعدد الزوجات مجرد حيلة شرعية لقضاء شهوة بهيمية، وهو علامة تدل على فساد الأخلاق واختــلال الحواس وشره في طلب اللذائذ(19).
وقد توالى الإمام محمد عبده في التدليل على رأيه بعدة أدلة أخرى وهي:
(1) _ أن تعدد الزوجات ليس من خواص الحياة الاجتماعية الشرقية ، ولا وحدة الزوجة من خواص الغرب، وإن الرؤساء وأهل الثروة كانوا يميلون إلى تعدد الزوجات، وخصوصًا في البلاد التى يزيد فيها عدد النساء على عدد الرجال توسعًا في التمتع(20) .
ومعنى ما سبق أن تعدد الزوجات فرضته ظروف اجتماعية معينة لا محل لوجودها الآن ، حيث انتفت المصلحة من التعدد وانقلبت إلى مفسدة ، الأمر الذي يمكن القول معه بتغيير الحكم.
(2) _ حكم تعدد الزوجات الوارد في القرآن في سورة النساء ، جاء بصدد الكلام عن حقوق اليتامى ووجوب الحفاظ على أموالهم وحقوقهم والنهى عن غصبها منهم طواعية أو كرهًا ، وذلك عن طريق استعمال حيلة الزواج بهن.
حيث طلب القرآن من الوصى أو الولي إذا خشى أن يأكل أموال الزوجة اليتيمة فعليه عدم التزوج بها؛ لأنه يمكنه التزوج بغيرها بشرط عدم تجاوز الحد المقرر في الآية .
فالآية جاءت في حالة واقعية كانت سائدة عند العرب ، وهي أن الرجل من العرب كان يكفل اليتيمة فيعجبه جمالها ومالها، فإن كانت تحل له تزوجها وأعطاها من المهر دون ما تستحق، وأساء صحبتها وقتر في الإنفاق عليها وأكل مالها، فنهى الله المؤمنين عن ذلك، وشدد عليهم في الامتناع عنه، وأمرهم أن يؤتوا اليتامي أموالهم، وحذرهم من أن يأكلوا أموالهم إلى أموالهم(21).
ربط الإمام بين الآيتين الواردتين في سورة النساء، وهما : الآية الثانية من سورة النساء والتى تنص علي : {وَءَاتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا}.
والآية الثالثة من السورة والتى تنص على : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا}.
(3) يغلب في حالة التعدد سوء معاملة الرجال لزوجاتهم وحرمانهم من حقوقهم في النفقة والراحة، بالإضافة إلى أنه قد ظهر أن منشأ الفساد والعداوة بين الأولاد هو اختلاف أمهاتهم ، فإن كل واحد منهم يتربي على بغض الآخر وكراهته فلا يبلغ الأولاد أشدهم إلا وقد صار كل منهم من أشد الأعداء للآخر، ويستمر النزاع بينهم إلى أن يخربوا بيوتهم بأيديهم وأيدى الظالمين ، ولهذا يجوز للحاكم أو لصاحب الدين أن يمنع تعدد الزوجات والجوارى صيانة للبيوت عن الفساد .
وقد بالغ الإمام محمد عبده في محاولته الحد من تعدد الزوجات حتى أنه أباح للولي أن يمنع التعدد مطلقًا مراعاة للأغلب ودفعًا للفساد الغالب ، وأيضًا يقول «فيجوز الحجر على الأزواج عمومًا أن يتزوجوا غير واحدة إلا لضرورة تثبت لدى القاضي، ولا مانع من ذلك في الدين البتة، وإنما الذي يمنع ذلك هو العادة فقط»(22) .
(2) _ مسألة ودائع التوفير والأرباح:
رأى الأستاذ الإمام ، أن صناديق التوفير التى أنشأتها الحكومة المصرية لأجل أن يدخر الأفراد فيها أموالهم نظير أخذ ربح على هذه الودائع غير مخالف لأحكام الشريعة ، وقد كان رأيه السابق في إجابة عن سؤال وجه إليه في شأن الفوائد التى تغلها صناديق التوفير المعلقة بمكاتب البريد .
وفيما يلى نص السؤال ، ونص الإجابة الصادرة من الإمام(23) :
السؤال :
(س4) مصطفى أفندى رشدى المورلى بنيابة الزقازيق :
ماهو رأي سيادتكم في صندوق التوفير بعد تعديله الأخير؟ وهل يجوز الادخار فيه ، وأخذ أرباحه شرعًا ؟ .. ولا يخفى على حضرتكم فوائده ، سيما أنه يربي ملكة الاقتصاد في الإنسان ، ويؤيده الشرع في ذاته ، أفيدونا آجركم الله .
الجواب :
إن التعديل الذي تعنونه قد كان برأى لجنة من علماء الأزهر جمعها أمير البلاد لأجل تطبيق إيداع النقود في الصندوق على قواعد الفقه المعروفة .
وقد كتبوا في ذلك ما ظهر لهم ، وأرسلته «المعية » إلى الحكومة ، فعرضته على المفتى .. وبعد تصديقه عليه أمرت بالعمل به .
هذا ما اشتهر ، ونحن لم نقف على ما كتبوه فنبدى رأينا فيه ، ولكننا مع ذلك، لا نرى بأسًا من العمل به … فالتعاقد في عمل يفيد الآخذ والمعطى ، بيع أو تجارة …
والذي يفهم سبب تحريمه من قوله تعالى : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَة} … أنه كان في المدينة وغيرها من اليهود والمشركين من يقرض المحتاج بالربا الفاحش ، كما نعهد من اليهود والخواجات في هذه البلاد ، وفي ذلك من خراب البيوت ما فيه .
فالحكمة في تحريم الربا إزالة نحو هذا الظلم والمحافظة على فضيلة التراحم والتعاون، أو فقل : «أن لا يستغل الغنى حاجة أخيه الفقير إليه» (كما قال الأستاذ الإمام) : … وهذا هو المراد بقوله تعالى : {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُون} ، ولا يخفى أن المعاملة التى ينتفع ويرحم فيها الآخذ والمعطى والتى لولاها لفاتتهما المنفعة معًا لا تدخل في هذا التعليل {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُون} ؛ لأنها ضده ، على أن المعاملة التى يقصد بها البيع والاتجار لا القرض للحاجة هي من قسم البيع لا من قسم استغلال حاجة المحتاج ، ولا يخفى أن إدارة البريد هي مصلحة غنية من مصالح الحكومة ، وأنها تستغل المال الذي يودع في صندوق التوفير فينتفع المودع والعمال والمستخدمون في المصلحة والحكومة ، فلا يظلم أحدهم الآخر .
فالأرجح أن ما قالوه [أي العلماء والمفتي] ليس من الحيل الشرعية، وإنما هو من قبيل الشركة الصحيحة ، من قوم المال ، ومن آخرين الاستغلال ، فلا مانع إذًا ، في رأينا من العمل بتعديلهم…
والحاصل أن المسألة قد أحلوها من طريق الفقه الظاهر ، والباحث في الفقه الحقيقي ، وهو حكمة الشرع وسره ، لا يرى ما ينافي حلها بناء على ما تقدم، والتضييق في التعامل يفقر الأمة ويضعفها ويجعلها مسودة للأمم ، والله أعلم وأحكم.
(3) حكم التأمين على الحياة :
أبدى الإمام رأيه في حل عقد التأمين على الحياة في فتوى صدرت منه لصالح شركة جيريشام ، مع ملاحظة أن الشركة قد ضللت الإمام في السؤال ، ولكن بوجه عام ففي هذه الفتوى أحل الإمام نظام التأمين على الحياة .
وفيما يلي نص السؤال وجواب الإمام على الفتوى .
( أ ) _ نص السؤال الذى وجه للإمام(24) :
السؤال :
حضرة صاحب الفضيلة مفتى الديار المصرية ..
ما قولكم دام فضلكم في شخص يريد أن يتعاقد مع جماعة ، على أن يدفع لهم مالاً من ماله الخاص على أقساط معينة ليعملوا فيه بالتجارة ، واشترط معهم أنه إذا قام بما ذكر وانتهى أمد الاتفاق المعين بانتهاء الأقساط المعينة ، وكانوا قد عملوا في ذلك المال ، وكان حيًّا ، يأخذ ما يكون له من المال مع ما يخصه من الأرباح ، وإذا مات في أثناء تلك المدة فيكون لورثته أو لمن له حق الولاية في ماله أن يأخذوا المبلغ تعلق مورثهم مع الأرباح .
فهل مثل هذا التعاقد الذي يكون مفيدًا لأربابه بما ينتجه لهم من الربح جائز شرعًا ؟؟ نرجوكم التكرم بالإفادة، أفندم .
الجواب :
الحمد لله وحده :
لو صدر مثل هذا التعاقد بين ذلك الرجل وهؤلاء الجماعة على الصفة المذكورة كان ذلك جائزًا شرعًا ، ويجوز لذلك الرجل بعد انتهاء الأقساط والعمل في المال وحصول الربح أن يأخذ، لو كان حيًّا ، ما يكون له من المال مع ما خصه من الربح ، وكذا يجوز لمن يوجد بعد موته من ورثته أو من له ولاية التصرف في ماله بعد موته أن يأخذ ما يكون له من المال وما أنتجه من الربح . والله أعلم .
(4) مسألة حجاب المرأة(25):
في الجزء الثاني من مجموعة الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده نسب الأستاذ محمد عمارة محقق الأعمال مقالة واردة في كتاب الأستاذ قاسم أمين في كتابه تحرير المرأة للإمام محمد عبده ، وهذه المقالة بعنوان «حجاب النساء».
وسنعرض لموقف الإمام لتفسير مسألة الحجاب على أساس أن هذه المقالة فعلاً هي من أعمال الإمام محمد عبده كما يقول بذلك الأستاذ محمد عمارة الذي حقق الأعمال .
عندما بحث الإمام محمد عبده مسألة حجاب النساء رجع مباشرة إلى النصوص فلم يستشهد برأى السلف أو الأقوال المأثورة في هذا الشأن . وإنما ناقش مسألة الحجاب من خلال مناظير ثلاث هي :
المنظور الأول : منظور التصوف:
إن الأية التى عالجت لباس المرأة وحرمتها آية عامة وهي واردة في سورة النور « 30 _ 31» في قوله تعالى:
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُون وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَائِهِنَّ أَوْ ءَابَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِو َلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ}.
وهذه الآية توحي بأن الشريعة أباحت للمرأة أن تظهر بعض أعضاء من جسمها أمام الأجنبي عنها ولكنها لم تحدد هذه الأجزاء ، وهذه الأجزاء اختلف في شأنها العلماء وخصوصًا حول حكم الذراعين والقدمين(26) .
المنظور الثاني : منظور الواقع:
إن النصوص لا توجب الحجاب على الطريقة المعهودة والسارية بين النساء ، ولكن هذه الطريقة منبعها العادة والعرف حيث إنها عادة عرضت على الناس من مخالطة بعض الأمم فاستحسنوها وأخذوا بها وبالغوا فيها وألبسوها لباس الدين كسائر العادات الضارة التى تمكنت في الناس باسم الدين والدين براء منها .
المنظور الثالث : منظور العقل والمصلحة :
إذ رأى الإمام أن الشريعة الغراء أعطت للمرأة ما للرجال من حقوق، حيث للمرأة الحق في إدارة أعمالها والتصرف فيها .
وبناء على ذلك فإن حجاب المرأة _ بالصورة المعهودة والتى اعتاد الناس على فعلها يتنافى مع وجود المرأة في ميدان المعاملات اليومية .
فكيف يكون _ كما يقول الأستاذ الإمام _ للمرأة التعاقد مع رجل لا يراها، أو الإدلاء بشهادتها _ أو تصريف أعمالها اليومية وهي من وراء حجاب، إذ قد يوقعها ذلك في حرج شديد _ إذ يوقع المتعامل معها في مأزق لا يستطيع دفعه .
والذي يؤكد ذلك أن كثيرًا ما ظهرت الوقائع القضائية بسهولة استعمال الغش والتزوير في حالات كثيرة نشأت عن حجاب المرأة واستغلال ضعاف النفوس له .
فكم امرأة تزوجت بغير علمها وأجرت أملاكها بدون شعورها، بل تجردت من كل ما تملكه على جهل منها، وذلك كله ناشئ من تحجبها وقيام الرجال دونها يحولون بينها وبين من يعاملها .
وأضاف الإمام إلى ذلك حجية ضد الحجاب تتمثل في قوله : كيف يمكن لامرأة محجوبة أن تتخذ صناعة أو تجارة للتعيش منها إن كانت فقيرة؟ كيف يمكن لخادمة محجوبة أن تقوم بخدمة منزل فيه رجال؟ كيف يمكن لتاجرة محجوبة أن تدير تجارتها بين الرجال؟ كيف يتسنى لزارعة محجوبة أن تفلح أرضها وتحصد زرعها ؟ كيف يمكن لعاملة محجوبة أن تباشر عملها إذا أجرت نفسها للعمل في بناء بيت أو نحوه؟ .
وينتهى الإمام إلى القول بأن نصوص القرآن وروايات الأحاديث، وأقوال أئمة الفقه كلها واضحة جلية في أن الله تعالى قد أباح للمرأة كشف وجهها وكفيها ، وذلك للحكم التى يصعب إدراكها على كل من عقل، وأن حكم الشريعة _ هذا _ كله يسر لا عسر فيه لا على النساء ولا على الرجال، ولا يضرب بين الفريقين بحجاب لا يخفى ما فيه من الحرج عليهما من المعاملات والمشقة في أداء كل منهما ما كلف به من الأعمال، سواء كان تكليفًا شرعيًّا أو تكليفيًا قضت به ضرورة المعاش والحق أن الانتقاب والتبرقع ليسا من المشروعات، الإسلامية لا للتعبد ولا للأدب بل هما من العادات القديمة السابقة على الإسلام والباقية بعده. وإنما من مشروعات الإسلام ضرب الخمر على الجيوب ، كما هو في صريح الآية، وليس في ذلك شيء من التبرقع والانتقاب(27) .
(5) _ رأى الإمام في الفنون الحديثة في التصوير والرسم والنحت وغيرها
أجاز الإمام صحة الصور والرسوم والنحت والتماثيل ، وبين أنها صحيحة شرعًا . وأسس رأيه في ذلك على دليلين أحدهما عقلى والآخر قائم على المصلحة.
وفيما يلي شرح الدليلين(28) :
أ _ الدليل العقلي : أنه لا يتصور عقلاً ، الآن ، أن يقوم الرسام أو من يقتنى تمثالاً بتعظيمه لحد العبادة ، حيث إن معنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة _ في نظر الإمام _ قد محى من الأذهان . وأن المقصود بالحديث الشريف: « أن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون» ، فإن هذا الحديث جاء أيام الوثنية ، حيث كانت الصور والتماثيل تتخذ _ حينذاك _ لسببين: اللهو والتبرك .
ب _ المصلحة : _ حيث يرى الإمام أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم بعد التحقق من أنها لا خطر منها على الدين، لا من جهة العقيدة ولا من جهة العمل.
وقد استطرد الإمام في كلامه ، واقترح ضرورة الحفاظ على الأدوات والعملات على مرار السنين؛ لأن ذلك سيكون مفيدًا في بيان بعض الأحكام الشرعية ، وخصوصًا في مجال تقدير نصاب الزكاة مع تطور الظروف الاقتصادية والاجتماعية ، وتطور العملات النقدية ، حتى أنه قال: « لو حفظنا الدراهم والدنانير التى كان يقدر بها نصاب الزكاة ولا يزال يقدر بها إلى اليوم ، أفما كان يسهل علينا تقدير النصاب بالجنيهات والفرنكات ، ونحو ذلك ، ما دام المثال الأول موجودًا بين أيدينا؟ ولو حفظ « الصاع» و«المد» وغيرهما من المكاييل ، أفما كان ذلك مما يسر لنا معرفة ما يصرف في زكاة الفطر وما تجب فيه الزكاة من غلات الزرع بعد تغيير المكاييل؟! .
وما كان علينا إلا أن نقيس مكيالنا بتلك المكاييل المحفوظة ، فنصل إلى حقيقة الأمر بدون خلاف ، أظنك توافقني على أنه لو حفظ «درهم» كل زمان و«ديناره» و«ومده» و«صاعه» لما وجد ذلك الخلاف الذي استمر بين الفقهاء يتوارثونه سلفًا عن خلف. كل منهم يقدر المكيال والميزان بما لا يقدر به الآخر»(29) .
ومن جوانب تفسير القرآن بالمصلحة نذكر:
أنه في تفسير الإمام لقوله تعالى : {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَر} ، يقول : أي فلا تذله، بل أرفع نفسه بالأدب وهذبه بمكارم الأخلاق ليكون عضوًا في جماعتك وينتفع به، ولا يفسده التدليل والهوان فيكون جرثومة فساد يتعدى أثرها إلى كل من يخالطها من أمتك، ولو علم الناس ما في إهمال تربية الأيتام من الفساد في الأمة لقدروا عناية الله بأمرهم في كتابه ولبذلوا من سعيهم ومن مالهم في إصلاح حال الأيتام كل ما استطاعوا ، ولو أحس كل واحد بأن الموت قريب منه وأنه هدف لنيله لا يدرى حتى يأخذه عن ولده فيتركه إما غنيًّا يأكل أمواله الأوصياء أو فقيرًا .
وقد أوصت الآيات الأولى من سورة النساء باليتيم وحذرت الوصي من إتلاف ماله ، والأستاذ الإمام يعلق على هذه الآيات بقوله : « وكأن هؤلاء الأوصياء الجبناء الذين نعرفهم لم يسمعوا قول الله في ذلك قط فقد كثرت فيهم وفي غيرهم الخيانة، وأكل أموال اليتامي والسفهاء والأوقاف بالحيل حتى أنه يمكننى أن أقول: إنه لا يوجد في القطر المصرى عشرة أشخاص يصلحون للوصاية على اليتيم أو السفيه أو الوقف. وقد نص الفقهاء على أن النظر على الوقف كالوصاية على اليتيم . فانظروا إلى هذه الدقة في الآية الكريمة من الأمر باختبار اليتيم ودفع ماله إليه عند بلوغه رشده، ومن النهى عن أكل شيء منه بطرق الإسراف ومباذرة كبيرة، ومن الأمر بالإشهاد عليه عند الدفع، ثم التنبيه إلى مراقبة الله تعالى التى تناول جميع ذلك.
(1) د. عبد الله شحاته ، منهج الإمام محمد عبده في تفسير القرآن الكريم ، القاهرة ، 1984 ، ص 60 .
(2) ابن القيم ، أعلام الموقعين ، الجزء الثالث .
(3) السيوطي ، الأشباه والنظائر .
(4) المرجع السابق .
(5) المرجع السابق ، ص 61 ، الإمام محمد عبده ، الأعمال الكاملة ، جـ1، ص 314 .
(6) د. محمد البهي ، ص 137 .
(7) د. محمد عبد الحميد متولى ، مناهج التفسير ، ص 117 .
(8) التفسير والمفسرون ، جـ3 ص 221 _ 222 .
(9) راجع : د. عبد الحميد ، ص 139 _ 140 .
(10) د. عبد الحميد، ص 119.
(11) الإمام محمد عبده، الأعمال الكاملة، جـ 2، ص 76.
(12) سورة النساء، آية رقم / 3.
(13) المرجع السابق جـ 2، ص 86.
(14) المرجع السابق ، جـ2 ، ص 77 .
(15) الأعمال الكاملة ، جـ2 ، ص 81 .
(16) الأعمال الكاملة ، جـ2 ، ص 85 _ 86 .
(17) الأعمال الكاملة ، جـ2 ، ص 85 _ 86 .
(18) الأعمال الكاملة ، جـ2 ، ص 85 .
(19) الأعمال الكاملة ، جـ2 ، 85 .
(20) الأعمال الكاملة ، جـ2 ، ص 89 ، 90 .
(21) الأعمال الكاملة ، جـ2 ، ص 90 .
(22) الأعمال الكاملة ، جـ2 ، ص 93 .
(23) الأعمال الكاملة ، جـ2 ، ص 799 .
(24) الأعمال الكاملة ، جـ2 ، ص 805 ، 806 .
(25) الأعمال الكاملة ، جـ2 ، ص 105 وما بعدها .
(26) الأعمال الكاملة ، جـ2 ، ص 110 ، 111 .
(27) الأعمال الكاملة ، جـ2 ، ص 110 ، 111 .
(28) الأعمال الكاملة ، جـ2 ، ص 200 .
(29) الأعمال الكاملة ، جـ2 ، ص 200،201 .