أبحاث

المعرفة والعلم

العدد 92

المعرفة وبقاء النوع الإنساني :

الإنسان كائن فريد متميز بكل المقاييس، خلقه الله سبحانه وتعالى خلقًا عجيبًا وفضله على كثير من خلقه تفضيلاً.. ولعل من أول ما يتميز به الإنسان عن غيره من المخلوقات من جماد ونبات وحيوان خاصية <<الوعي>> بذاته ووجوده، ومن ثم <<الوعي>> بتمايزه عن البيئة المحيطة به، سواء بتمايزه عن البيئة الطبيعية التى سخرها الله له وأودعها من الموارد ما يشبع حاجاته المادية، أو تمايزه عن البيئة الاجتماعية التى تتمثل في غيره من بني الإنسان ممن يعتمد عليهم ويعتمدون عليه حال تعاونهم على تحويل تلك الموارد الطبيعية وتشكيلها وتصنيعها، لتصبح مهيأة لإشباع تلك الحاجات الإنسانية بشكل مباشر.

تلك إذن هي ثنائية <<الفرد>> الواعي بذاته المتعدد الحاجات من جانب، و<<البيئة>> المادية / الاجتماعية التى يستطيع فيها استثمار طاقاته فيما يشبع حاجاته من جانب آخر… ولا حياة للإنسان الفرد ولا بقاء له على ظهر الأرض إلا بالتفاعل مع بيئته بنوعيها، ولا يمكن للإنسان الفرد أن يتفاعل مع البيئة إلا بأن <<يتعرف>> أولاً على طبيعتها ومكوناتها، ليستطيع في ضوء تلك المعرفة التعامل معها بكفاءة تحفظ عليه حياته… ونستطيع القول إذن إن <<معرفة>> النفس ومعرفة البيئة بمكوناتها المادية والاجتماعية إنما هي حجر الزاوية لإمكان بقاء الإنسان حيًّا وإمكان استمراره على ظهر الأرض، ومن ثم ازدهار العمران ونمو الحضارات.. هذا هو مكان <<المعرفة>> من حياة الإنسان، وهذا هو موقعها المحوري من تقدم الإنسانية وبناء الحضارة.

مصادر وأدوات تحصيل المعرفة الإنسانية

ولكن كيف يتوصل الإنسان إلى المعرفة ؟ وكيف <<يتعرف>> على بيئته المادية والاجتماعية ؟ كيف يتوصل إلى فهم الظواهر المحيطة به ؟ بل كيف يتمكن من فهم ذاته ومعرفة نفسه ؟… يمكننا أن نجيب عن تلك الأسئلة جميعًا في هذه المرحلة من دراستنا بالقول: إن المصادر أو الأدوات الأساسية للمعرفة الإنسانية إنما تتمثل في الحواس والعقل، وإن كنا سنرى فيما بعد أن هناك مصادر أخرى للمعرفة لا تقل عنهما أهمية.

الحواس :

الحواس هي النوافذ التى يطل منها الإنسان على بيئته، ولو لم يخلق الإنسان مزودًا بتلك الحواس لكان الناس كجذوع النخل الصماء أو كالجماد الذي يستحيل أن يكون على <<وعي>> بما حوله، ناهيك عن أن يتوصل إلى أي <<معرفة>> بالبيئة المحيطة به، أو أن يتفاعل مع البيئة أو أن يستثمرها لإشباع حاجاته الإنسانية.

وكلنا يعرف الحواس الخمسة المألوفة: السمع والبصر والذوق والشم واللمس، غير أن هناك أنواعًا أخرى من الحواس لها أهميتها في حفظ الحياة كالإحساس بالحركة والإحساس بالحرارة والبرودة والإحساس بالألم والإحساس بالتوازن، وهذه تتضافر جميعًا مع الحواس الخمس لتزويد الإنسان <<بالمعلومات>> عن الوسط المحيط به وعن حالة جسمه الداخلية لكي يستطيع أن يستجيب بالطريقة الصحيحة لأي تغيرات في البيئة المحيطة به، بما يمكنه من التكيف أو التوافق الفعال معها، ومن المعروف أن الإنسان يتلقى أو يستقبل تلك المعلومات من بيئته الخارجية أو الداخلية إما في صـــورة مثيرات ضوئية (كما في حالة البصر )، أو مثيرات كيميائية (كما في حالة الذوق والشم)، أو مثيرات ميكانيكية (كما في حالة اللمس والســمع )، أو مثيرات حرارية (كما في حالة الإحساس بالحرارة والبرودة)، ويتم استقبال تلك المثيرات على الجملة من خلال الخلايا أو النهايات العصبية، التى تقوم بنقلها عن طريق الأعصاب بسرعة هائلة إلى المراكز المتخصصة المناسبة في المخ الذي يقوم بدوره بتحليلها وترجمتها إلى <<مدركات>> حسية يتفهمها الإنسان ويدرك مغزاها ودلالتها بالنسبة لتحقيق أهدافه عن طريق <<العقل>>.

العقل :

يتلقى العقل المدركات الحسية المختلفة المصادر (الضوئية _ الكيميائية.. إلخ) التى قام المخ بتحليلها، ويبدأ في التعامل معها بطريقة رمزية يقصر الوصف عن بيان روعتها (ولم يتوصل العلماء حتى اليوم إلى سبر أغوارها)، والعقل يقوم بالتفكير والتجميع والتحليل والمقارنة بما أودعه الله سبحانه وتعالى فيه من قدرات فكرية وعمليات عقلية تندرج في فئتين عريضتين هما :

أ _ العمليات العقلية المنطقية أو الواقعية : ومنها العمليات التجميعية التأليفية (كالقدرة على تجميع وتنظيم المعلومات وتوجيهها نحو هدف محدد)، والقدرة عل إصدار الأحكام والتمييز بين الأشياء والمعلومات والمفاهيم، والقدرة على حل المشكلات ؛ والقدرة على التفكير الابتكارى. ويلاحظ أن هذه العمليات تنبعث إلى حد كبير كاستجابة للمثيرات الخارجية البيئية أكثر من انطلاقها وتأثرها بالمثيرات الداخلية الوجدانية.

ب _ العمليات العقلية المنبعثة من الداخل : وهي عمليات لا ترتبط ارتباطًا كبيرًا بالمؤثرات البيئية الواقعية الخارجية ولكنها تنبثق من الداخل، وتستجيب في الغالب لمثيرات وجدانية انفعالية، وتتضمن : الخيال، وتداعي الأفكار في تيار الشعور، وأحلام اليقظة وغيرها… وهذه القدرات تثري الحياة العقلية للإنسان، وتلهم الشعراء والأدباء، بل وتخدم العلماء والباحثين الذين يسعون لوضع الفروض والنظريات المفسرة للظواهر، ولكنها في الوقت ذاته قد تؤدي في بعض الأحوال عند الكثيرين إلى أفكار وأوهام منبتة الصلة بالواقع، مما يؤدي بالإنسان إلى تبنى تصورات غير صحيحة عن البيئة وعن الوجود من حوله، تصل في بعض الحالات الشاذة إلى بعض صور المرض العقلي كالفصام ؛ حيث تتحول حياة المريض كلها إلى أفكار وأوهام منبعثة من داخله دون أي ارتباط بالواقع من حوله، وكأن المريض قد انفصمت صلته بالواقع، وأصبح يعيش بالكلية في عالمه الخاص، فيفقد القدرة على التكيف مع الآخرين أو مع الواقع الخارجي والمحيط المادي تمامًا.

وإذن فإن بإمكاننا القول : إن العقل والحواس هما وسيلة الإنسان _ أي إنسان… سواء عاش في بادية مقفرة أو في مجتمع متحضر.. للتوصل إلى التصورات والمدركات والأفكار والآراء _ أي المعارف _ التى تمكنه من العيش والتعامل على الأقل مع بيئته الطبيعية التى خلقها  الله وسخرها له، مما حفظ على النوع البشري بقاءه منذ أقدم العصور وإلى اليوم وإلى ما شاء الله، وعلى ذلك فإن المعرفة المستمدة من إعمال العقل والحواس _ حتى عند أدنى مستويات استخدامها بدون جهد يذكر ودون قصد <<للبحث>> عن المعرفة _ تعتبر كافية إلى حد كبير لمواجهة متطلبات الحياة حتى في المجتمعات البدائية التى لم تنل أي قسط من الحضارة، ولكن الأفراد في مثل تلك المجتمعات _ بطبيعة الحال _ يتناقلون مثل تلك المعارف البسيطة، ويتواصلونها فيما بينهم عن طريق اللغة، التى هي في أساسها رموز للتعبير عن الأفكار.. فتتراكم المعارف، وتتناقلها الأجيال، فتستخدمها وتضيف إليها وتعدلها في ضوء الخبرات الجديدة ؛ مما ينتج عنه نوع من الاتفاق في الرؤية أو الفهم العام أو الحس المشتركcommon sense الذي يتقبله الناس ويتناقلونه ويوجهون سلوكهم وتصرفاتهم في ضوئه، فيبدأ الإنسان من حيث انتهى الآخرون بدلاً من الاعتماد على حصيلته المحدودة من التجارب والمشاهدات التى صادفته خلال حياته ؛ مما يكون له أكبر الأثر على انتظام الحياة الاجتماعية على مستوى العلاقات الشخصية وغير الرسمية في حياتنا اليومية.

تقويم إسهامات العقل والحواس :

بالرغم من وضوح أهمية الدور الحيوي الذي يقوم به كل من العقل والحواس كمصادر أو أدوات لا غنى عنها لتحصيل المعرفة البشرية فإن من المدهش حقًا أن نرى عظماء المفكرين والعلماء يختلفون اختلافًا بينًا في تقديرهم للدور النسبي لكل من العقل والحواس في تحصيل المعرفة، فهناك من يرون أن العقل _ والعقل وحده _ هو المصدر المعتمد لتحصيل المعرفة الحقة، وهم يشكون كثيرًا في قيمة ما تقدمه الحواس.. في حين أن هناك فريقًا آخر ممن يرون أن الحواس _ والحواس وحدها _ هي المصدر المعتمد لتحصيل المعرفة الصحيحة، ولا يرون للعقل إلا نصيبًا ضئيلاً أو تافهًا لا يستحق الذكر في ذلك المجال، ونشير فيما يلى بكلمة وجيزة إلى موقف كل من الفريقين.

العقلانيون The Rationalists : لقد أبدى بعض كبار الفلاسفة والمفكرين من أمثال أفلاطون في القديم وديكارت في العصر الحديث تشككهم في أن تكون الخبرات الحسية مصدرًا موثوقًا للمعرفة الحقة، وأتباع هذه المدرسة الفكرية يرون أن الحواس قابلة للخداع والخطأ، فالعين ترى قضبان السكك الحديدية المتوازية تلتقي على البعد، كما أنها ترى الجسم المغمور بالماء أقرب مما هو عليه في الواقع بسبب اختلاف معدل  انكسار الضوء في الماء عنه في الهواء، كما أن اليد المغمورة في ماء ساخن فترة من الزمن تعطينا تقديرًا خاطئًا لدرجة حرارة الماء في إناء آخر إذا نقلتها إليه على الفور… وهكذا.

كما يرى هؤلاء أن الموجودات في العالم دائمًا ناقصة وليست كاملة، في حين أن العقل _ والعقل وحده _ هو القادر على تحصيل المعرفة الكاملة، وهذا الموقف مبنى عندهم على افتراض وجود تقابل كامل بين الوجود وبين العقل، بمعنى أن العقل يتضمن ما يشبه صورة المرآة منطبعة فيه تمثل الموجودات في كلياتها، أما الموجودات الجزئية المشاهدة بالحواس فإنها ليست كاملة ؛ ولذلك فالحواس تقدم لنا عنها تصورات منقوصة لا تصلح أساسًا للعلم في نظرهم، فعندما نقول : إن قضيبين معدنيين متساويان فلا مناص من التسليم بأن بينهما في الحقيقة قدرًا طفيفًا من الاختلاف في الطول لا محالة، ومن هنا يرى العقلانيون أن فكرة <<التساوى>> أو <<المثلث>> أو <<الدائرة>> وغيرها من <<المفاهيم>> والكليات لا وجود حقيقي لها في صورتها الكاملة إلا في العقل، وهم يتساءلون مع أفلاطون قائلين أين هو المثلث المتساوي الأضلاع تمامًا في الواقع المحسوس ؟ وأين النقطة التى لا سمك لها ولا امتداد في المكان؟ وأين السطح كامل الاستواء غير المتعين في مادة؟ إن هذه جمعيًا _ وغيرها من حقائق علم الهندسة مثلاً _ لا وجود لها في العالم المادي المتعين في الزمان والمكان، وإنما مصدرها العقل الذي يحوي هذه المعارف في صورتها الكلية الحقيقية، والتى تقترب الموجودات في العالم المحسوس منها أو تبتعد بدرجات متفاوتة دون أن تصل إلى الكمال أبدًا، أما العقل فإنه في نظرهم _ على عكس ذلك _ هو طريقنا الوحيد لفهم العالم الذي نعيش فيه وليس الحواس، وطريق المعرفة عندهم يتمثل في النظر العقلي المجرد أو في الاستنباط المنطقي، ولعلنا نلاحظ أن هذه نزعة تميل إلى التطرف في تقدير قيمة العقل وتقليل شأن الحواس كمصادر للمعرفة، فالحق أن من الصعب أن ينكر الباحث المتجرد أن الحواس مصدر طبيعي لتحصيل المعرفة كما أسلفنا، وإلا فكيف يمكن للبشر  أن يتواصلوا وأن يتفاعلوا مع العالم المحيط بهم على الوجه الذي نشاهده جميعًا، بل إن بإمكاننا القول: إن العالم المحيط بنا يفرض علينا خبرات حسية ما تفتأ تقرع أسماعنا وتراها أبصارنا حتى لو لم نقصد إلى ذلك قصدًا ؛ ونتيجة لذلك نصل إلى أنواع من المعرفة المفيدة.

الحسيون أو الإمبيريقيون The Empiricists : يرى الحسيون من أمثال جون لوك ودافيد هيوم أن المصدر النهائي لكل معرفة صحيحة بالعالم من حولنا إنما هو <<الخبرة الحسية>> وحدها، وأن ضمان صدق أية قضية إنما هو صمود هذه القضية للاختبار في الواقع المحسوس ( أو الواقع الإمبيريقي)، وأن الإنسان يكفيه أن يتعرض لما تطبعه المثيرات الحسية الضوئية والكيميائية والميكانيكية على حواسه دون عمل العقل أو غيره، وأن مدركاته الحسية الناشئة عن هذا الانطباع تكفيه لتحصيل المعرفة، وهم بهذا ينكرون أن العقل يحوي أى مفاهيم أو مبادئ قبلية فطرية، ويرون أن العقل لا يخرج عن أن يكون صفحة بيضاء تقبل ما ينطبع عليها نتيجة عمل الحواس.

وإذا كان بعض متابعي هذه المدرسة قد يسلمون بوجود أي مبادئ أو مفاهيم قبلية سابقة على التجربة (مثل أن الجزء أكبر من الكل) فإنهم يرون أنها عبارة عن تجريدات (أي استخلاصات) ذات طبيعة عامة مستمدة بدورها من الخبرات الحسية، بمعنى أنه إذا تكررت مشاهدتنا للأجزاء في مناسبات شديدة التعدد في الواقع وأنها كانت دائمًا أقل من الكل فإننا نتوصل إلى مبدأ أن الجزء أكبر من الكل، ومن هنا فإنهم لا يبدون اكتراثًا كبيرًا بها، ويعتبرونها من نوع المعارف التافهة التى لا تقدم شيئًا أصيلاً إذا قسناها بالحواس التى تقدم لنا كميات هائلة لا نهاية لها من المعلومات والحقائق الملموسة وبشكل متصل ومستمر وعند الطلب.

ومن الواضح مرة أخرى أننا نواجه نفس النوع من الغلو الذي رأيناه عند العقلانيين، فإذا كان من الطبيعي أن يعترف المنصف بالأهمية الكبرى للكون المحسوس ولدور الحواس في إدراكه وفهمه فإن هذا لا يعنى إنكار دور العقل وما يقوم به من عمليات عقلية وما يتضمنه من مبادئ قبلية أو فطرية، وإلا فكيف توصل البشر إلى حقائق العلوم الرياضية المجردة وإلى المبادئ المنطقية التى لا تتوقف على المشاهدات الحسية، ولا يوجد لها مقابل ملموس محسوس في الكون، وما هي الحاسة المسئولة عن استخلاص المبادئ العامة من الخبرات الحسية ؟

لكن أوجه النقد التى وجهها أنصار كل من العقل والحواس للآخر تكشف لنا أيضًا عن قضية لابد أن تستوقف انتباهنا بقوة، فإذا كان لا مناص لنا من التسليم بأن الحواس قابلة للانخداع وأنها توصلنا إلى معارف جزئية احتمالية ناقصة لا محالة _ وهذا هو القدر الممكن قبوله من نقد العقلانيين للحواس _ وإذا كان لا مناص لنا من التسليم من جهة أخرى بأن النظر العقلي المجرد وحده غير قادر على التوصل إلى معرفة مضمونة الصدق في الواقع الذى ندركه، فإنه يتبين لنا _ على الفور _ أن التوصل إلى معرفة صحيحة مطابقة للواقع أمر إشكالي إلى حد كبير وليس بالبساطة التى يتبدى بها أمامنا لأول وهلة.

فنحن كبشر يمكن لنا أن نبذل قصارى وسعنا في استخدام حواسنا لإجراء المشاهدات وملاحظة الظواهر المحيطة بنا، كما يمكن أن نستخدم عقولنا في <<فهم>> هذه الظواهر وفي فهم أنفسنا ومحاولة إضفاء معنى على هذا الوجود، ولكننا مع ذلك نجد أنفسنا غير قادرين على استكناه أسرار هذا الوجود أو سبر أغواره، فكلنا يسأل نفسه عددًا من الأسئلة الوجودية الكبرى التى ما تفتأ تلح عليه مطالبة بإجابات شافية مثل : من أنا ؟ أي من هي هذه الذات الواعية المدركة المتكلمة أو المفكرة ؟ وأين كنت قبل أن أوجد في هذه الحياة؟ وإلى أين ؟ ومن خلق هذا الوجود ؟ وما هي صفاته؟ وماذا أكون بعد أن أغادر هذه الحياة؟ وغيرها من الأسئلة التى لا يمكن للحواس أو الخبرات الحسية أن توصلنا إلى إجابات عنها (رغم أهميتها المحورية لوجودنا )، والسبب في ذلك أنها لا تتصل بمسائل مادية متعينة في الزمان والمكان، وأنها تتصل بقضايا لا قبل للحواس بإدراكها، ومع ذلك فإن إجابة هذه الأسئلة تعتبر من أكثر الضرورات إلحاحًا على كل بني الإنسان منذ أقدم العصور، وهي أسئلة عجز فطاحل العلماء والفلاسفة والمفكرين عن تقديم إجابة شافية لها للسبب الذي ذكرنا _ ألا وهو أنها لا تشير إلى شىء مادي يمكن مشاهدته بالحواس.

ولقد توهم الفلاسفة _ من جهة أخرى _ أنه إذا كان الحل لايكمن في معطيات الحس فإن الإجابة عن هذه الأسئلة الوجودية الكبرى لابد أن تكون إذن عن طريق التأمل العقلي، فامتلأت أسفار الميتافيزيقا بمحاولات غير مجدية وشديدة التضارب للإجابة عنها ؛ إذ كان كل مفكر يستخدم عقله المجرد في حدود خبراته للتوصل إلى تصور متكامل قدر الإمكان لما يظنه من إجابة، ولما كان أولئك المفكرون لم يشهدوا خلق السماوات والأرض، ولا خلق أنفسهم، كما أن أحدًا منهم لم يشهد بعد نهاية هذا الكون ولا ما يكون بعده، ولا عرف أحد ماهية روحه التى بين جنبيه والتى بها حياته، ناهيك عن أن يحيط أحد علمًا بخالق هذا العالم وصفاته، فإن النظر العقلي بإزاء هذه المغيبات كلها لا يجدي فتيلاً، ومن هنا جاءت إسهاماتهم كإسهام من يضرب أخماسًا في أسداس ولا يلوي على شىء، وبالتالي فإن محاولات أولئك المفكرين من ماديين أو مثاليين، من وجوديين أو ماركسيين، قد باءت بالفشل والخسران المبين، وكانت مجرد انعكاسات لخبراتهم الحياتية وتأملاتهم الشخصية، بل وانحيازاتهم وشططهم ومصالحهم القريبة، مهما حاولوا جهدهم إلباس تلك النظرات لباس الفكر <<الموضوعي>>… ولما كان هؤلاء <<المفكرون>> عادة من ذوي العقول القوية الفذة فإن الأبنية الفكرية التي يقدمونها تبدو وكأنها ذات صدق عال وذات معقولية  كبيرة عند العامة وعند أنصاف المثقفين، والذين يظنون كل ما يبرق ذهبًا، أما المفكرون ذوو الأصالة من ذوي الترعة النقدية من أمثال سوروكين _ أعظم علماء الاجتماع في العالم على حد تعبير زيمرمان ( Zimmerman,1968 ) _ فإنهم يكتشفون ما وراء هذه الغلالة الرقيقة من ادعاء الإطاحة الموضوعية بالقضايا الكلية للكون، مع أن عملهم أشبه بالأكروبات العقلية، أما السبب في       أن تلك المحاولات تبدو مقنعة للكثيرين من غير ذوي البصيرة فيرجع إلى أن هذه الإسهامات العقلية تتضمن في ثناياها _ ولا شك _ شذرات من الحق مختلطة مع كثير من الظن والوهم ؛ مما يؤدي إلى التلبيس على الخلق.

وليس أدل على هذا الوصف من أنك لو تأملت إسهامات هؤلاء المفكرين وحللتها وقارنتها ببعضها لوجدت أن كلاًّ منها يناقض الآخر تمام التناقض _ في كثير من الأحيان _ ولوجدت أن من النادر أن تعثر على شىء متفق عليه فيما بينهم جميعًا، والسبب _ كما ذكرنا _ أنهم يضربون بعقولهم فيما لم يخلق العقل مهيئًا وحده لإدراكه، فهم على الحقيقة يخوضون في بحار عالم الغيب الذي ليس لديهم أي دليل أو أثارة من علم بشأنه، لا فيما تتوصل إليه تأملات العقل المحض ولا ما تشاهده الحواس، ومن هنا فقد كانت البشرية بحاجة إلى مصدر آخر للمعرفة فوق _ الإنسانية بجوار العقل والحواس ألا وهو الوحي.

الوحي :

الله سبحانه وتعالى لم يخلق الناس عبثًا ولم يتركهم هملاً، فإنه لم يقتصر على تزويدهم بهذه الأدوات الرائعة للمعرفة _ أعني العقل والحواس _ وحدها، وقد علم _ سبحانه وتعالى _ حدود نفعهما للناس، وعلم قصورهما عن بلوغ مراقي المعارف الكلية الشاملة، وقد شاء ببالغ حكمته أن يتفضل على خلقه بمصدر متعال للمعرفة يكمل ويصحح ويتوج مصادر أو أدوات المعرفة الأخرى _ ألا وهو الوحي، والوحي خبر السماء تنزلت به الرسل جميعًا حاويًا الإجابات على كافة الأسئلة الوجودية الكبرى التىسبق الإشارة إليها والتى تدور حول الغايات والأهداف النهائية من خلق الإنسان والأكوان جميعًا، كما يتضمن أيضًا <<معارف>> يقينية حول الطريقة المثلى لتنظيم علاقات الناس، وتوجيه الحياة الاجتماعية على الوجه الذي يضمن تقدم المجتمعات الإنسانية ورفاهيتها في الدنيا، كما يضمن للناس الفلاح في حياتهم الأخرى _ التى هي الحياة الحقيقية بعد المرور العابر في رحلة هذه الحياة الزائلة.

والوحي <<الصحيح>> إذن مصدر أصيل لمعرفة الإنسان بذاته وبشئون مجتمعه وبالكون من حوله، ومعرفة الإنسان بمصيره ومآله، مما لا وسيلة له إلى إدراكه بنفسه أبدًا ؛ ومما لابد من الرجوع فيه إلى تعليم خالقه وبارئه.

ومن هذا يتبين أن أدوات المعرفة ومصادرها تتكامل فيما بينها بشكل رائع على الصورة التالية ( لمزيد من التفصيل راجع البحث القيم المعنون: مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي للدكتور / عبد الرحمن الزنيدي) :

1_ تقوم الحواس باستقبال المثيرات الحسية الواردة إليها من <<الكون>> المحيط بنا في جوانبه المادية المتعينة في الزمان والمكان، وبهذا يتعرف الإنسان على بيئته مما يمهد الطريق أمامه للتعامل مع البيئة والتفاعل معها بما يحفظ على الإنسان بقاءه المادي في هذه الحياة الدنيا.

2_ يقوم العقل بتنظيم المعلومات وتقييمها في ضوء ما يقدره من أهداف الإنسان، ويصدر أحكامه على مدى اتساق الأفكار وترابطها في ضوء ما فطر عليه من مبادئ أولية قبلية وفي ضوء عملياته العقلية المنطقية والتخيلية.

3_ يقدم الوحي <<الصحيح>> معارف جاهزة مصدرها خالق الإنسان، تتضمن إجابات عن الأسئلة التى يعجز العقل والحواس جميعًا عن الإجابة عنها، سواء في ذلك :

أ _ ما اتصل بعالم الغيب الذي لا تدركه الحواس ؛ لأن ظواهر عالم الغيب (الروح مثلاً ) لايحدها الزمان ولا المكان (ليست ذات طول أو عرض أو ارتفاع أو كتلة… الخ).

ب _ معارف تتصل بالنتائج البعيدة المدى لألوان السلوك الإنساني وأشكال التنظيمات الاجتماعية مما يعجز الإنسان عن الوصول إليه لا بحواسه المحصورة في الظواهر الحاضرة ولا بعقله المحصور بحدود الخبرات السابقة.

أنواع المعرفة ومعايير صدقها

لقد تعرضنا _ فيما سبق _ لعدد من القضايا المتصلة بأهمية المعرفة في حياتنا، ولقد تبين لنا كيف أن المعرفة من أكبر ما يعين الإنسان على البقاء، ثم إننا قد ناقشنا قضية مصادر وأدوات المعرفة، ورأينا أن الحواس والعقل والوحي تتكامل فيما بينها بشكل مدهش لمعاونة الإنسان على تحصيل جميع أنواع المعارف التى بها بقاؤه في هذه الحياة الدنيا، وقد يكون بها فلاحه في الآخرة إن شاء الله، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو مدى إمكان الاعتماد على صدق أي من تلك المعارف التى يصل إليها الناس بصفة عامة، وما إذا كانت تلك المعارف متماثلة أو متساوية فيما يتعلق بدرجة صحة كل نوع منها ؛ لأنه من الواضح أنه لاخير في معرفة غير صحيحة، بل إن القول : إن هناك معرفة غير صحيحة أو غير صادقة يكاد يكون تناقضًا في القول، إذ أن أول ما يتبادر إلى الذهن عندما يتحدث الناس عن <<المعرفة>> أن يقصدوا بها فقط الأفكار الصحيحة المطابقة للواقع التى يقوم عليها الدليل أو البرهان، ومن أجل ذلك فإن من الضرورى لنا أن ننتقل للحديث عن كل من الأنواع المختلفة للمعرفة ألا وهي : المعرفة <<الشخصية>>، والمعرفة الفلسفية، والمعرفة العلمية، والمعرفة الدينية، لكي ننظر في مستوى صدق كل منها، وفي معايير الصدق التى قد يختص كل منها بها، وتلك التى قد تشترك فيها جميعًا.

1_ المعرفة <<الشخصية>> :

لقد ذكرنا _ فيما سبق _ أن مجرد انطباعات الحواس مع شىء قليل من عمل العقل كفيل بأن يولد لدى الإنسان أفكارًا وآراء واعتقادات حول البيئة المادية والاجتماعية المحيطة به، كما ذكرنا أن هذا النوع من المعرفة <<الشخصية>> التى يتوصل إليها الإنسان   بالمحاولة والخطأ تكفي _ إلى حد كبير _ في توجيه سلوكه مما يجنبه الوقوع في المهالك، ويحفظ عليه مجرد بقائه المادي، كما أوضحنا أن الناس يتناقلون أمثال تلك المعارف والخبرات <<الشخصية>> فيما بينهم ؛ مما يؤدى إلى ظهور أفكار متفق عليها بين العامة مما قد يسمى بالحس المشترك Common Sense مما قد يشيع على ألسنة الناس في صورة أمثال شعبية أو حكم شائعة أو أقوال سائرة، غير أنه لما كان مصدر تلك الآراء والاعتقادات هو مجرد الخبرات الشخصية فإنها لا تكون عادة أفكارًا <<محققة>> ويكون نصيبها من الصحة أو الصدق مثارًا للتساؤل الشديد، وغالبًا ما نجدها تضم ألوانًا من المتناقضات، فإذا تأملنا مثلاً الأقوال الشعبية الآتية : <<القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود>>، ومن جهة أخرى <<اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب>> فإننا نلاحظ أن واحدًا منها يدعو إلى التوفير في حين أن الآخر يدعو إلى عكس ذلك، ولكن مثل هذا التناقض لا ينبغي أن يؤدي بنا إلى أن نحقر قيمة الخبرات التى تضمها  مثل تلك الأقوال الشائعة، ولا ينبغي لنا أن نسارع إلى اطراحها جانبًا أو تخطيئها جملة وتفصيلاً دون تحفظ، لأن مثل هذا الاتجاه من جانبنا فيه مجانبة للقصد… إن من الواضح أن كلاًّ من الأقوال الشائعة المشار إليها أعلاه يدعو إلى أنواع من السلوك المناسب على الحقيقة في <<بعض>> المواقف دون غيرها، ولكن لما كان إنتاج أو ظهور تلك الأنواع من المعارف الشخصية في الأصل وتناقلها بين الناس بعد ذلك يتم وفقًا لقواعد أو ضوابط تحول دون إمكان الخطأ أو التناقض أو تحدد الظروف التى يصدق فيها كل من تلك الأقوال بدقة فإننا لا يمكن أن نتوقع لها أن تخلو من احتمالات التناقض الظاهرى أو الخطأ الناشئ عن التعميم الزائد عن الحد، أو عن عدم الدقة ؛ لأن كلاًّ منها ينشأ دون صلة مباشرة مقصودة بالآخر _ على عكس المعرفة العلمية التى يتم إنتاجها عن وعي وقصد من جهة، كما أنها تكون متسقة ودقيقة من جهة أخرى، كما سنرى بعد قليل.

2_ المعرفة الفلسفية :

لقد لفتت مثل هذه الأخطاء والتناقضات التى يقع فيها عامة الناس والتى يتناقلونها عبر الأجيال دون تمحيص نظر كبار المفكرين والحكماء والفلاسفة الباحثين دومًا عن السبل الموصلة إلى حقائق ومعارف متماسكة ومتسقة وصحيحة، فوجدنا الكثيرين منهم يقلبون النظر في مسألة <<المنهج>> الذي ينبغي أن يسير عليه العقل في الانتقال من فكرة إلى أخرى، أو من قضية إلى أخرى، أو من المقدمات إلى النتائج دون أن يقع الإنسان في الوهم أو الضلال أو الخطأ.

ولعل أرسطو _ الفليسوف اليوناني القديم (المتوفى 322 ق. م) _ من أوائل من حاولوا معالجة مسألة المنهج بطريقة منظمة، فإنه لما هاله ما يقع فيه كثير من الناس من أخطاء في الحوار والنقاش والجدل، وخصوصًا ما يفعله مدعو العلم من السوفسطائيين (وهم معلمون متجولون كانوا يقومون بتدريب الناس على الجدل وفنون الخطابة في عصره) من إيهام الناس وإقناعهم مستخدمين في ذلك حججًا زائفة، فإنه قد اجتهد لوضع مجموعة من القواعد والضوابط المنطقية التى تضبط حركة العقل، والتى تضمن عدم الوقوع في الخطأ، وكان معيار الصحة والصدق في هذا المنهج    هو <<الاتساق الداخلي Internal consistency ويقوم منهجه على فكرة أن المعرفة الصحيحة تبدأ من مقدمات مسلم بصحتها، ثم يتم الانتقال بصورة منطقية متسقة من هذه المقدمات إلى نتائج تلزم عنها لزومًا منطقيًّا، فإذا صدقت المقدمات فلابد أن تصدق النتائج تبعًا لذلك ما دمنا قد اتبعنا هذا المنهج الاستنباطي الصحيح، ومن هنا فقد أصبح الاستنباط المنطقي Logical Deduction هو المنهج المعتمد لتحصيل المعرفة الصحيحة عند الفلاسفة وعند غيرهم من طلاب العلم منذ ذلك الوقت، وقد عرف منهج أرسطو بالقياس المنطقي Syllogism أو القياس  الصورى ؛ وذلك لأنه معنى أساسًا <<بصورة>> الفكر  أو القوالب التى يوضع فيها بصرف النظر عن محتواه، ومثاله :

1_ كل كائن حي فهو فان.

2_ كل إنسان كائن حي.

3_ إذن : كل إنسان فان.

والنتيجة هنا تلزم يقينًا عن المقدمات، ولا يملك الإنسان عندما يتأمل هذا النموذج من الشعور باتساقه المنطقي، وبالاطمئنان العقلي لقبول نتائجه بناء على ما فطر عليه العقل من عمليات عقلية منطقية كما ألمحنا من قبل.

ولقد بلغ إعجاب الفلاسفة والعلماء بهذا المنهج الاستنباطي الذي وضع أصوله أرسطو حدًّا جعلهم يسلمون بأنه هو المنهج الوحيد الذي ينبغي اتباعه في الوصول إلى أية معرفة أيًّا كانت، وظل هذا المنهج مسيطرًا على الفكر الأوربي حتى مطالع العصر الحديث، دون أن ينتبه الكثيرون _ في غمرة الانبهار بشخص أرسطو وبقوة المنطق الذي بنى عليه المنهج _ إلى أن الاستنباط يوصلنا فقط إلى نتائج كانت في الأصل متضمنة بأكملها في المقدمات التى بدأنا منها، وأنه بهذا لا يضيف شيئًا جديدًا لمعرفتنا بالكون من حولنا، فالنتيجة التى توصلنا إليها في المثال السابق من أن الإنسان فان كانت متضمنة في المقدمتين : الكبرى التى تقرر أن كل كائن حي فان، والصغرى التى تقرر أن الإنسان كائن حي، وبالتالي فإننا لم نصل إلى شىء جديد لم نكن نعرفه أصلا. ويلاحظ أن صدق النتيجة في مثل هذا الاستنباط يتوقف على أمرين :

1_ مدى صدق المقدمات الكبرى والصغرى ومدى اتفاقها مع الواقع.

2_ مدى دقة الالتزام بالقواعد المنطقية للانتقال من تلك المقدمات إلى النتائج.

وبطبيعة الحال فإن عمل أرسطو قد انصب على المطلب الثاني الذي يؤكد على الاتساق الداخلي، في حين أنه لم يول المطلب الأول المتصل بقواعد الوصول إلى مقدمات صحيحة متسقة مع <<الواقع>> اهتمامًا يذكر، وقد أدى هذا إلى توقف النمو المعرفي في أوربا ودورانه حول نفسه في إطار مسلمات لا دليل على صحتها <<الواقعية>>، دون إنتاج معرفة جديدة إلى القرن الثالث عشر الميلادي.

وهكذا استمرت سيطرة المنهج الاستنباطي العقيم المجدب على العقل الأوربي حتى مشارف العصر الحديث في وقت كان العالم الإسلامي فيه يموج منذ القرن السابع الميلادي بالتجارب العلمية والبحوث الواقعية استجابة لنداء القرآن الكريم لبني آدم بالنظر في الآفاق وفي الأنفس، ومطالبتهم بالملاحظة والمشاهدة وإعادة الملاحظة {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ(3)ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْن يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِير} (الملك : 3، 4) للتعرف على مخلوقات الله وعجائب صنعه، ومعرفة الله سبحانه وتعالى من خلال ما يراه الإنسان من إبداع واتساق وكمال يرتد معه البصر خاسئًا وهو حسير، فوجدنا الأطباء وعلماء الطبيعة والكيمياء من المسلمين يجرون التجارب على الأحياء والجمادات، ويقومون نتيجة لاستقراء هذه التجارب ونتائجها بالتعميم والتوصل إلى القوانين العلمية، ونتيجة لتلك الاكتشافات العلمية الرائعة فقد ازدهرت الحضارة الإسلامية ازدهارًا عظيمًا، حتى أن جورج سارتون أكبر مؤرخي العلم في العصر الحديث ( Sarton, 1975) الذي اعتاد تسمية كل نصف قرن من تاريخ العلم في العالم باسم أهم علماء عصره على مستوى العالم كله، قد سمى ثلاثة قرون كاملة بأسماء علماء مسلمين في وقت كانت أوربا سادرة فيه في دياجير الجهل والخرافة، حيث كانت شذرات العلم عندهم _ إن وجدت _ مكبلة بقيود القياس الصورى الأرسطى العقيم.

3_ المعرفة العلمية :

وأشرقت شمس الحضارة الإسلامية وعلم المسلمين على الغرب في الأندلس؛ حيث قام عدد من العلماء الأوربيين بتجميع وتصنيف الكتابات العلمية لعلماء المسلمين في كتب موسوعية تتلمذ عليها أجيال من طلاب العلم الأوربيين وعلى رأسهــم روجر بيكون ( المتوفي 1292م ) وفرانسـيس بيكون (المتوفى 1626م) من خلال أحد كبار الأساتذة الذين تتلمذ أولهم عليه ويدعى جروستس والذي أتقن علوم المسلمين ومناهجهم  وترجم محتواها وصنفها بطريقة متسقة، وقام بتدريسها ونشرها على نطاق واسع، ومن هنا فلم يكن غريبًا أن يبدأ  فرانسيس بيكون ( الذي يعتبر في الغرب أبا المنهج العلمي الحديث) بكسر إسار القياس الصورى والدعوة بقوة إلى استخدام <<الحواس>> في استقراء الظواهر الموجودة في الطبيعة من حولنا ؛ توصلاً إلى تعميمات وقوانين علمية، وهو ما بدأ يعرف عندهم بمنهج الاستقراء Induction، والذي أصبح هو حجر الزاوية في <<المنهج العلمي >> الحديث، فلم تعد القضية قضية تأمل فلسفي أو استدلال منطقي ينطلق منهجيًّا من فكرة الاتساق الداخلي، ولكنها أصبحت قضية ملاحظات نشطة ومشاهدات واقعية وتجارب تجرى على الظواهر الجزئية المنثورة في العالم من حولنا، ثم وضع الفروض حول العلاقات بين تلك الظواهر، واختبار تلك الفروض للتحقق من صحتها ومن مدى مطابقتها للواقع، ثم تعميم النتائج في شكل قوانين ذات درجة عالية من الثبات.

وبطبيعة الحال فقد نجح استخدام المنهج العلمي الاستقرائي نجاحًا كبيرًا في دراسة الظواهر الطبيعية المادية ؛ لأن الحواس التى تستخدم في إجراء الملاحظات والمشاهدات الواقعية مهيأة بطبيعتها لإدراك الأشياء المادية المتعينة في الزمان والمكان والتى تصدر عنها المثيرات الحسية ( الضوئية والكيميائية والميكانيكية) على الوجه الذي ذكرناه آنفًا، ولقد أدى ذلك إلى الثورة العلمية الكبرى التى ننعم اليوم جميعًا بثمارها، وإن كنا أحيانًا أخرى نقاسِ آثار تطبيقاتها السلبية، والحق أن المشكلة هنا تكمن في التكنولوجيا ( التى تعني تطبيق العلم ) أكثر منها في العلم ذاته إلى حد ما، وإن كانت الصلة بين العلم والتكنولوجيا والقيم الموجهة لها جميعًا مسألة أكثر تعقيدًا من أن نعطيها حقها في مثل هذه العبارة الوجيزة.

ولقد أغرى هذا النجاح الذي حققه المنهج العلمي الحديث القائم على الاستقراء، وعلى المشاهدات الواقعية وإجراء التجارب، وعلى استخدام الحواس، وعلى اختبار صدق القضايا بالتحقق من مط_ابقتها للواقـع المحسوس _ أغرى نجاح استخدام هذا المنهج في دراسة الظواهر المادية الطبيعية بعض المفكرين باستخدام هذا المنهج نفسه في دراسة الظواهر الإنسانية والاجتماعية دون مراعاة للطبيعة الخاصة للكائن الإنساني واختلافه الجوهرى عن المادة الجامدة التى هي موضوع الدراسة في علم الطبيعة أو الكيمياء مثلاً ؛ لأن معنى ذلك أننا سنتعامل مع الجانب المادي وحده في الإنسان متجاهلين تمامًا الجوانب الروحية والجوانب غير المادية، أو فوق – المادية، أو فوق – الإمبيريقية (بتعبير عالم الاجتماع الأشهر (بيتريم سوروكين) التى لا تقل أهمية في تفسير السلوك الإنساني عن الجوانب البدنية المادية فيه.

ولعل من الضروري هنا أن نقف وقفة لنتساءل عن السبب الذي دعا المشتغلين بالعلوم الاجتماعية منذ أوجيست كونت (المتوفى 1857م) إلى تجاهل الجوانب الروحية وعالم الغيب عمومًا وإلى إهمال الوحي واستبعاده بالكلية من نطاق مصادر المعرفة. إننا نحتاج لنتفهم الموقف أن نعود إلى الوراء قليلاً لتحليل الظروف التى أحاطت بظهور العلم والمنهج العلمي في أوربا في مطالع عصر النهضة، لنتذكر أن الكنيسة قد كانت لها القيادة الفكرية المطلقة في المجتمعات الأوربية حتى أواخر العصور الوسطى، وأنها قــد تبنت آراء أرسطو _ ليس فقط في مسائل المنطق بل وأيضًا في مسائل الوجود والطبيعة لتدعيم المعتقدات النصرانية، ومنها مسألة أن الأرض ثابتة، وأنها مركز الكون، وأن الشمس تدور حولها إلى غير ذلك من الآراء التى كان أرسطو يعتقد بصحتها، والتى أصبحت الكنيسة تعتبرها من ثوابت العقيدة.

وفي أوائل عصر النهضة بدأ بعض علماء الفلك وعلماء الطبيعة من أمثال جاليلو ( المتوفى 1642م) يجرون التجارب ويستخدمون الأدوات (كالتلسكوب) التى مكنتهم من رصد مواقع الكواكب والنجوم (ولا ننسى هنا  استفادتهم من علماء المسلمين كما قدمنا ) فتوصل أولئك العلماء إلى نتائج تخالف بشكل جوهرى ما تبنته الكنيسة من معتقدات كونية مصدرها أرسطو كما ذكرنا، فأعلن جاليليو أن الأرض ليست هي مركز الكون، وأنها كروية وأنها هي التى تدور دورانًا مستمرًّا حول الشمس، فاستاءت سلطات الكنيسة لذلك استياء بالغًا، وطالبته بالرجوع عما اعتبرته هرطقة ضد الدين ( وليس ضد آراء أرسطو )، وصدر عليه حكم بالسجن المؤبد، خفف فيما بعد إلى تحديد الإقامة الجبرية مدى الحياة، أما غيره من العلماء من قبله ومن بعده فقد صمدوا وتحملوا العذاب الشديد من جانب محاكم التفتيش الشهيرة دون الرجوع عما يرونه بأعينهم ويسمعونه بآذانهم (تذكر هنا دور الحواس في تحصيل المعرفة) وما توصلت إليه حساباتهم الرياضية الدقيقة (تذكر دور العقل) فقامت محاكم التفتيش بتعذيبهم للرجوع عما يعتقدون يقينًا أنه الحق فلم يرجعوا، بل إن بعضهم قد تم إحراقه حـيًّا كالفيلسوف الإيطالي جيوردانو  برونو (المتوفى 1600م).

وللقارئ أن يتصور مدى الكراهية والبغض الذي امتلأت به نفوس العلماء منذ بداية عصر النهضة (القرن 14 _ 16 الميلادي ) ضد سلطة الكنيسة، وضد سلطة <<الوحي>> الذي كانت تمثله الكنيسة، بل وضد الدين بصفة عامة ؛ لأن الكنيسة كانت بالنسبة لهم هي جماع الدين.

ومن هنا فقد كان من الضرورى لرجال العلم الوليد أن يضربوا بكل قوة ضد سلطة الكنيسة، وأن يحاولوا التخلص للأبد من أية <<سلطة>> إلا سلطة الواقع المشاهد المحسوس، وكان عليهم أن يجدوا مصدرًا محايدًا للمعرفة لا يمكن أن يكون حكرًا على الكنيسة ورجالها، أي أن يجدوا مصدرًا للمعرفة بخلاف الوحي (المتمثل عندهم في تعاليم الكنيسة) فوجدوا ضالتهم المنشودة في <<الحواس>> التى هي ملك مشاع لكل إنسان، لا يستطيع احتكاره أحد، كما أن شهادة الحواس أمر يمكن للناس جميعًا أن يصلوا إلى اتفاق عليه على مستوى لا يتفوق فقط على الوحي الذي تحتكر الكنيسة سلطة تفسيره ولكن يتفوق أيضا على العقل الذي يمكن أن يختلف المفكرون في تحديد معيار صدقه، فإذا زعم أحد العلماء مثلاً أنه قد أجرى بعض المشاهدات باستخدام الحواس أو قام بإجراء بعض التجارب باستخدام بعض الأدوات، وأنه قد توصل إلى مشاهدات ونتائج من نوع معين، فإنه ليس على أي  متشكك في صدق تلك النتائج إلا أن يقوم بنفسه _ مستقلاًّ _ بإجراء نفس التجارب ومقارنة ما توصل إليه المتشكك من نتائج بما توصل إليه ذلك المدعى ليتأكد لنفسه بنفسه… وهذا لعمري معيار للصدق لا يملك إلا مكابر التشكيك في صدقه.

من أجل ذلك فقد أصبح استخدام الحواس _ والحواس وحدها _ حجر الزاوية في المنهج العلمي للبحث، بل وبالغ العلماء في ذلك مبالغة شديدة، فزعموا أنه لا وجود لشىء إلا لما يمكن مشاهدته بالحواس، وأن كل ما عدا ذلك من مسائل فلسفية أو دينية أو أخلاقية إنما هو <<كلام فارغ من المعني>> _ كما زعم أصحاب الوضعية المنطقية _ لا لسبب إلا لأنه لا يمكن مشاهدة تلك القضايا الفلسفية أو الأخلاقية بالحواس ! ومن هنا فقد اتسم المنهج العلمي بعد ظهور نجاحاته في إطار هذه العقلية بترعة مادية ؛ لأن <<المادة>> المتعينة في الزمان والمكان وحدها هي التى تقبل المشاهدة بالحواس، أما ما يتجاوز ذلك من ظواهر تنتمى إلى العالم غير المادى مثل الروح، وأما عن تأثيرها في السلوك فإنهم يرونها غير قابلة أصلاً للدراسة العلمية .

ولعل من الجدير بالذكر هنا أن بعض أولئك العلماء قد كانوا أيضًا من المؤمنين بوجود الله، وبوجود ظواهر تنتمي إلى عالم الغيب، وممن يؤمنون بالأهمية الكبرى للقيم الأخلاقية والدينية، ولكنهم في الوقت ذاته لايقبلون بالتبعية الفكرية للكنيسة وعسفها في اضطهاد العلماء، فتحولوا إلى ما يمكن اعتباره نوعًا من التدين الشخصي، بمعنى أنهم أقاموا في عقولهم وقلوبهم فاصلاً بين ما ينتمي إلى عالم المعتقدات الدينية الذي يحتل ركنًا شخصيًّا في داخلهم، وبين ما ينتمي إلى عالم العلم الدقيق، وهذا ما يعرف بظاهرة الغُرفات الداخلية المنفصلة Compartmentalization وتلك لعمرى حيلة عجيبة ولكنها فيما يبدو كانت الحل الوحيد لإيجاد قدر من السلام النفسي الداخلي لدى هؤلاء العلماء.

ويهمنا هنا أن نشير إلى أن الأمر لو توقف عند استخدام المنهج العلمي ذي الأساس المادي الحسي على هذا النحو في قطاع العلوم الطبيعية لهان الخطب ؛ لأن موضوع الدراسة والبحث في تلك العلوم إنما هو المادة كما أسلفنا، ولكن المشكلة الحقيقية قد ثارت عندما نادى بعض المفكرين (؟) وعلى رأسهم أوجيست كونت ؟ ( الذي كان مشحونًا بالكراهية للكنيسة ومعاديًا للدين بالتبعية حتى أنه دعا إلى إنشاء دين جديد تكون العبادة فيه <<للإنسانية>>) بتطبيق نفس قواعد المنهج العلمي الحديث (المستخدم في دراسة الظواهر الطبيعية المادية ) على الدراسات التى تتصل بالإنسان والمجتمع، وذلك بناء على نظرة مادية متطرفة لا ترى في الإنسان إلا أنه جزء من الطبيعة المادية لا يضم شيئًا غير المادة أو البدن. وتسمى هذه الترعة بالترعة الوضعية Positivism  التى تقرر أنه لا وجود لشىء إلا لما هو موجود <<إيجابيًّا>> خارج الإنسان العارف أو الدارس، أي كل ما يقبل الدراسة باستخدام الحواس، كما تشكك في قيمة أي فكر <<نظرى>> أو عقلي باعتبار أنه لا يمكن اختبار مدى صحة هذه الفئات العقلية عن طريق الحواس أيضًا.

ولقد تبنت العلوم الاجتماعية هذا الفكر الوضعي ردحًا طويلاً من الزمن إلى أن اكتشفت ما يفرضه هذا الفكر من تضييق شديد على بناء النظريات، وما تبينه العلماء من استحالة استبعاد المنطق والعلوم الرياضية من دائرة العلوم، ومن هنا ظهرت الوضعية المنطقية Logical Positivism التى أخذت هذه الملاحظات في الاعتبار، إلى أن استشعر فلاسفة العلم أن اصطلاح <<الوضعية>> ذاته لم يعد مفيدًا فاتجهوا إلى استخدام فكرة <<الإمبيريقية المنطقية>> أو الحسية المنطقية Logical Empiricism بدلاً من هذه أيضا _ وجدير بالذكر أن هذه النزعة (الإمبيريقية المنطقية) لا زالت تعتبر الفلسفة الرسمية للعلم حتى اليوم، وإن ظهرت إرهاصات متعددة للدعوة إلى تجاوز هذا التراث التقليدي للعلم والدخول إلى مرحلة ما بعد الوضعية Postpositivism  التى لا تتعارض في جوهرها مع تكامل الحقيقة بمختلف جوانبها العقلية والروحية والنفسية.

والذي نريد أن نخلص إليه هنا أن العلم Science والمنهـج العلمي Scienctific Method بالصورة التى وصلت إلينا اليوم، وعلى الوجه الذي ظهر في أوربا في أوائل عصر النهضة، بترعته المادية الحسية الإمبيريقية ورفضه للوحي ولكل ما ليس خاضعًا لشهادة الحواس إنما هو نتاج تاريخي أوربي أثبت العلماء أنه كان حصيلة الصراع بين العلماء والكنيسة، وأن هذه مجرد صورة خاصة من العلم والمنهج العلمي المتأثر بهذا الصراع في أوربا في مطالع العصر الحديث، وأنه ليس في العلم _ كعلم _ ما يوحي مجرد إيحاء بأن الكون لا يحوي إلا ما هو مادي، أو أن الوحي <<الصحيح>> لا يقدم معرفة صحيحة خصوصًا فيما يتصل بالعلوم السلوكية والاجتماعية التى تدرس الإنسان في كلية تكوينه المادي / الروحي.

4_ المعرفة الدينية :

رأينا كيف أن الحواس والعقل أدوات ذات قيمة كبرى في تحصيل المعرفة، ولكننا رأينا في الوقت ذاته أن هناك حدودًا لما يمكن للحواس والعقل إدراكه والخوض فيه، واكتشفنا أن الدائرة الواسعة لعملهما لا زالت محدودة بحدود ما أودعه الله سبحانه وتعالى فيهما من قدرة على الإدراك الحسي للأمور الجزئية المحسوسة وعلى النظر والاستدلال العقلي المنطقي.. أما إذا تعلق موضوع المعرفة بالقضايا الكبرى المتصلة بالكليات والغايات (مثل الغاية من الوجود _ الغاية من خلق الإنسان _ مصير الإنسان.. إلخ) والأمر الآن يتجاوز بوضوح ما يمكن للحواس أو العقل إدراكه أو الوصول إلى إجابات صحيحة وكافية عنه ؛ لأن تلك مسائل لا يمكن لنا مشاهدتها بأعيننا، أو الضرب فيها بعقولنا دون دليل أو أثارة من علم.

وقد ذكرنا أن الله _ جلت حكمته _ قد تفضل على خلقه بإرسال الرسل الذين حملهم مهمة إبلاغ وحي السماء للناس، متضمنًا الإجابات الشافية الكاملة عن هذه الأسئلة الكبرى التى تتصل بعالم الغيب، ومتضمنًا في الوقت ذاته توجيهات محددة تتصل بالمآلات النهائية ( أو بعيدة المدى) للسلوك الإنساني الفردي (عواقب تعاطي الخمر _ عواقب السلوك الجنسي غير المنضبط مثلا ) أو للعلاقات الاجتماعية والترتيبات المجتمعية (عواقب المعاملات الربوية _ عواقب شيوع الترف والظلم الاجتماعي مثلاً )، مع توصيف لألوان السلوك الفردي والعلاقات الاجتماعية والترتيبات المجتمعية الصحيحة والكفيلة بمنع وقوع تلك النتائج السلبية.

وقد يقال هنا إن من الممكن للبشر أن يتوصلوا بالدراسة العلمية إلى معرفة عواقب وآثار تعاطي الخمر أو المعاملات الربوية مثلاً، ولكن الواقع المشاهد يشير إلى أن البشرية أولاً قد احتاجت آلاف السنين لكي تتبين أخيرًا بعض الآثار البدنية المدمرة لتعاطي الخمر على الكبد مثلاً، كما أن البشر ثانيًا لم يتمكنوا من تقييم الآثار النفسية والروحية والاجتماعية لتعاطي الخمر سلبًا أو إيجابًا بالرغم من كل التقدم العلمى المعاصر، أما القرآن الكريم فقد جاء بالتقييم الحاسم للأمر في صيغة {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (البقرة :219)، وأخيرًا فلنتذكر تخبط المجتمعات إلى اليوم في التذبذب بين تحريم الخمر بالقانون أحياًنا ثم إعادته إلى دائرة المباح قانونًا أحيانًا أخرى، ونفس الشىء  يمكن أن يقال بالنسبة للعلاقات الشاذة بين أفراد الجنس الواحد وهكذا، والسبب في ذلك واضح وهو أن حياتنا الاجتماعية وسلوكنا الفردى هما من التعقيد والتشابك، ومن تأخر ظهور النتائج، ومن الحاجة إلى علم شامل محيط ليس متاحًا لحواسنا وعقولنا، بدرجة تجعل قرارتنا وسياساتنا بالنسبة لمثل تلك القضايا محدودة بشكل مؤلم، مما يجعل من المحتم علينا أن نرجع إلى وحي السماء <<الصحيح>> وإلى رحمة الله للعالمين لكي نستمد منه المعارف اليقينية الصــــادرة من عند العليم الخبير {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير}.

وإذا كنا قد عرفنا _ فيما سبق _ أن معيار الصدق فيما يتعلق بمشاهدات الحواس هو <<مطابقة الواقع المحسوس أو الأمبيريقي>>، وأن معيار الصدق في المعارف العقلية المنطقية هو <<الاتساق الداخلي>> فما هو معيار الصدق بالنسبة لما وصل إلينا من وحي السماء  ؟ إن أول معيار لصحــــــــــة الوثائق الدينية (كالكتاب والسنة ) إنما يتمثل في صدق عزوها التاريخي إلى مصدرها، فإذا ثبت لنا بالدليل التاريخي الذي لا يقبل الشك أن ما بين دفتي المصحف قد نقل إلينا بالتواتر، بمعنى أنه قد نقله إلينا جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب عن جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب، وهكذا إلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا أرقى مراتب الثقة بالوثائق، فإذا وصلنا إلى شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وطبيعة الوثيقة التى أخبرنا أنها موحى بها إليه فإن معيار الصدق يصبح التحليل <<التاريخي / الشخصي>> لما هو << متواتر>> تاريخيًّا حول صفات الرسول ومدى صدقه وحدود علمه وقدرته على إنتاج مثل هذه الوثيقة من جهة، والتحليل <<الموضوعي>> المنطقي للوثيقة ذاتها _ ليس فقط من حيث بلاغتها اللغوية وإنما من حيث تفردها، من حيث محتواها ومعناها وظهور تمايزها بما لا يقبل الشك عن أن تكون إنتاجًا بشريًّا بأي وجه من الوجوه.

فإذا تبين لنا أن القرآن الكريم منقول إلينا بالتواتر، وإذا تبين لنا صدق الرسول قبل الرسالة وبعدها (إذ لم يعرف عنه كذب قط )، وإذا تبين لنا أنه حتى سن الأربعين وقت نزول الرسالة لم يكن من العلماء المتمكنين أو الفلاسفة المقتدرين أو المفكرين الأفذاذ القادرين على إنتاج مثل هذا القرآن المعجز _ لفظًا وموضوعًا _ من عند نفسه_ وصلت ثقتنا إلى درجة اليقين بصدق الوثيقة وصدق من أنزلت عليه.

أما بالنسبة للسنة فإن الأمر لا يختلف في جوهره ولكنه يختلف في الدرجة، فهناك المتواتر من الحديث الذي لاشك في نسبته إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهناك غير المتواتر، بمعنى أنه قد نقله أفراد عن جماعة أو عن أفراد وصولاً إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم أو فعله أو تقريره، وهنا فإن من الواضح أن ثقتنا في المتواتر تكون قريبة من اليقين، أما في غير المتواتر فإنه يفيد الصدق أيضا ولكن على مستوى الظن الراجح الملزم شرعًا إذا لم يكن هناك ما يقدح في رواته.

وقد يظن البعض أن النظر في المعرفة الدينية ومعيار صدقها أمر يخص المشتغلين بالعلوم الشرعية وحدهم، ولقد يكون هذا أمرًا صحيحًا إذا كانت نظرتنا للمعرفة نظرة جزئية اختزالية _ كما نجده عند أصحاب المذاهب الوضعية أو الحسية (الإمبيريقية) _ فلقد وجدنا أن هؤلاء قد عقدوا العزم نتيجة لخبراتهم المؤلمة في الصراع مع الكنيسة على الفصل  التام بين ما هو عندهم معرفة علميـــــة وما هو متصل بالوحي (الذي كان مألوفًا لديهم في ذلك الوقت) الذي يرفضون اعتباره معرفة أصلاً، ولكن التوجه العلمي الجديد في فلسفة العلوم _ كما قدمنا _ قد أصبح لا يرى هذا الفصل التعسفي، وتتنامي الدعوة اليوم إلى الاتجاه التكاملي في النظر إلى المعرفة والذي يضم في إطار متكامل موحد ما هو حسي إمبيريقي وما هو عقلي وما هو فوق حسي أو فوق إمبيريقي بتعبير سوروكين، أي ما هو متصل بعالم الغيب، ومن الجدير بالذكر أن سوروكين قد نادى بهذا الاتجاه التكاملي منذ ما يزيد عن نصف قرن، حيث نبه إلى أن إنقاذ العلم بصفة عامة والعلوم الاجتماعية بوجه خاص، بل وإنقاذ الحضارة الحديثة بجملتها إنما هو رهين بالأخذ بهذه الوجهة التكاملية التى لا ترفض شهادة الحواس أو العقل أو الوحي، وإنما تجمع بينها بصورة تضع كلاًّ منها في مكانها الصحيح، كما انتقد نقدًا شديدًا أصحاب المذاهب الوضعية / الإمبيريقية الذين يبالغون في قيمة شهادة الحواس والظواهر المادية ولا يستطيعون رؤية ما يتجاوز الحواس، واعتبر هذا علامة على <<أزمة العصر >> التى تهدد بالقضاء على الأخضر واليابس في الحضارة الإنسانية المعاصرة (Sorokin, 1941 ).

وإذن فإن فلسفة العلم الجديدة المبنية على أحدث المكتشفات العلمية في العلوم الطبيعية ذاتها قد بدأت تتخلى عن النظرة المادية القديمة التى قامت عليها فلسفة العلوم في القرن التاسع عشر، وتنظر إلى المعرفة العلمية نظرة تكاملية يمكن في إطارها الاستفادة من بصائر الوحي، خصوصًا في محيط العلوم الإنسانية والاجتماعية، على اعتبار أن الإنسان ليس بدنا أو مادة فقط، كما كان يزعم المتنطعون في الماضي باسم العلم دون أن يطلعونا على ما لديهم من أدلة، وإنما يتكون إلى جانب المادة من الروح التى بها حياته الحقيقية، ولما كانت الروح تنتمي إلى عالم الغيب حيث حجب الله عنا المعرفة بكنهها أو <<بالمادة>> التىصنعت منها ( إذا جاز هذا التعبير>> فقد لزم أن يكون مصدر المعرفة بسلوكها وبتفاعلاتها مع البدن مصدرًا متعاليًا على المصادر الحسية،  وليس هذا إلا الوحي المتنزل من عند خالق الروح والبدن وكل الأكوان، ومن هنا لا يمكن للباحث المنصف أن يستمر في الحديث عن الانفصال بين المعارف <<العلمية>> والمعارف <<الدينية>>، ويصبح من الضروري  للبحث العلمي النزيه أن يكون مبنيًّا على التكامل بين المعارف الدينية والعلمية دون ادعاء أو تجاوز.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر