أبحاث

التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية (1)

العدد 87

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين … أما بعد:

فلقد أبدى المتخصصون في الخدمة الاجتماعية في الدول الإسلامية في العقود الأخيرة اهتماماً متزايداً بقضية المراجعة النقضية المتعمقة للافتراضات الأساسية التي تبنى عليها المهنة، وللمبادئ المهنية التي تستند إليها، بغرض إحداث التغييرات اللازمة في ممارستها العملية لكي تصبح أكثر استجابة لحاجات المجتمعات التي تتم فيها تلك الممارسة، ولكي تصبح أكثر
فاعلية في النهوض بالأعباء والمسئوليات التي أولتها إياها تلك المجتمعات، سواء فيما يتصل بإصلاح الخلل في النظم الاجتماعية ورعاية أو إعادة تأهيل الأفراد الذين أصيبوا من جراء تلك الأشكال من الاختلال الاجتماعي، أو فيما يتصل بتنمية وصقل شخصيات الشباب، وتنمية ورفع مستويات الحياة في المجتمعات المحلية في الريف والحضر … إلى غير ذلك من صور التنمية الاجتماعية وأشكالها.

ولقد شاء الله ببالغ حكمته أن تصل تلك المراجعات المتعمقة في السنوات الأخيرة إلى غايتها؛ إذ تتم في ضوء ما تشهده المجتمعات الإسلامية اليوم من عودة للوعي فيما نراه من هذه اليقظة الإسلامية المباركة، حيث نشأ عن هذا اتجاه جهود المتخصصين في الخدمة الاجتماعية بشكل جاد إلى استلهام الأطر النظرية والممارسات التطبيقية لهذه المهنة من منظور الإسلام وتصوره المحدد للإنسان والكون والمجتمع، دون تفريط فيما صح من الأطر والممارسات الحديثة التي لا تتنافي مع التصور الإسلامي، وذلك فيما أصبح يعرف اليوم بالتأصيل الإسلامي للخدمة الاجتماعية، أو التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية، أو الخدمة الاجتماعية من وجهة إسلامية.

ولا يخرج هذا الاتجاه في جوهره عن أن يكون حلقة أخرى من حلقات محاولة «تطبيع» العلاقات بين النظم والمؤسسات والممارسات التي تعيش المجتمعات الإسلامية في ظلها من جهة، وبين عقائد وقيم ومبادئ هذا الدين الذى تنطوي عليه جوانح أهل تلك المجتمعات من جهة أخرى، ويقصد بالتطبيع هنا عودة الأمور إلى نصابها «الطبيعى» من الاتساق الواجب بين المادة والفكر… بين التنظيمات المادية والتوجيهات الإلهية في كل جانب من جوانب الحياة … علاجاً لهذا الفصام النكد الذي تعيشه المجتمعات الإسلامية المعاصرة بين الترتيبات المجتمعية التي يشبع الناس حاجاتهم الإنسانية في إطارها وبين العقيدة التي تملك على الناس مجامع قلوبهم، والتي تحسم في النهاية مآلهم في دنياهم وأخراهم … ذلك الفصام الذي يمكن أن نرد إليه حالة التخلف التي تعاني منها الأمة الإسلامية اليوم في كافة الميادين، والذي لا يمكن تصور تحقيق التنمية الشاملة للأمة على أي وجه إلا بالخلاص منه – ضمن شروط أخرى يقصر عنها نطاق هذه المقدمة.

ومن هنا فإن جهدنا في هذا البحث سينصب أولاً على التعريف بأصول الوضع الراهن لتوضيح الأسباب التي تجعل قضية التوجيه الإسلامي للعلوم أمراً حتمياً، وذلك من خلال تحديد الظروف التي نشأ  في ظلها هذا الفصام بين نظمنا وممارساتنا من جهة وعقيدتنا الإسلامية من جهة أخرى، قبل أن نركز على النتائج التي ترتبت على هذا الوضع في محيط برامج ومؤسسات الرعاية الاجتماعية، ثم نتجه بعد هذا إلى توصيف بعض المحاولات الباكرة لمواجهة هذا الموقف؛ لإيجاد نوع من التقارب أو الملاءمة بين ممارسات الخدمة الاجتماعية وظروف مجتمعنا (وغيرها)، فيما يعرف بجهود توطين الخدمة الاجتماعية أو أقلمتها، أو ما يعرف بتأصيل الخدمة الاجتماعية في الدول النامية.

ثم إننا نتعرض بعد ذلك بقدر من التفصيل لحركة «أسلمة المعرفة»؛ لاستقصاء الظروف التي أبرزتها حتى أصبحت من أكثر الاتجاهات تأثيراً في محيط العلوم الاجتماعية في عالمنا الإسلامي اليوم، وذلك قبل أن ننتقل مباشرةً لاستجلاء مفهوم التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية، أما ما تبقى من البحث فإننا نخصصه لعدد من المباحث المستقلة التي نتناول فيها الأبعاد الخمسة للتوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية بشئ من التفصيل في حدود ما تسمح به حدود هذه الورقة.

وسيلاحظ القارئ الكريم أن تناولنا لموضوع «أبعاد التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية» وإن ظهر مطولاً إلا أنه لم يخرج في كثير من الأحيان عن مجرد إعطاء أمثلة ونماذج محدودة لا تصل إلى استقصاء هذا الموضوع المتعدد الجوانب الذي يحتاج معالجة أكثر تفصيلاً وتعمقاً.

فلقد كان الهدف من تناول موضوع «أبعاد التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية» على هذه الصورة بمجرد تقديم مؤشرات لما يمكن أن يكون عليه تطبيق منهج التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية في دراسة هذه الموضوعات الخمسة قدر ما تسمح به معرفتنا الراهنة حول الموضوع، ومن هنا جاء حرصنا ـ عند التعامل مع كل من الأبعاد الخمسة ـ على تلخيص الأفكار الأساسية لما تتضمنه كتابات العلوم الاجتماعية الحديثة حول كل موضوع، ثم نقد تلك الأفكار، ثم استكمالها أو استبدالها بما يلائمها من عناصر التصور الإسلامي المتصلة بالموضوع، في محاولة لإيجاد التكامل المنشود بين ما صح من نتائج تلك العلوم الاجتماعية الحديثة وبين ما نظن أنه يمثل أصول التصور الإسلامي المتفق عليه ـ في حدود ما نعلم.

والله الموفق والمستعان، وهو نعم المولى ونعم النصير.                                        

  الفصل الأول:

الحاجة إلى التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية

المبحث الأول:

نقل النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وآثاره

إن أية محاولة لفهم الواقع المعاصر لممارسة الخدمة الاجتماعية في العالم الإسلامي لا يمكن أن تكتمل جوانبها إلا بإلقاء نظرة فاحصة على جذور هذا الواقع وأصوله التاريخية غير البعيدة، وخصوصًا على تلك الظروف التي سبقت وأحاطت بعملية نقل واستزراع المؤسسات والممارسات الاجتماعية من الدول الغربية بعد انهيار الدولة العثمانية، وبعد اقتسام المناطق التي كانت تحكمها بين القوى الإستعمارية الأوروبية، ثم ما تلا ذلك كله (وما سبقه في بعض الأحيان) من تغلغل وتأثير شديد للحضارة الغربية والنفوذ الغربي بصفة عامة على الأمة الإسلامية.

والحق أنه مهما قيل حول ظروف التخلف والعزلة والتدهور التي أصابت نظم المجتمع المسلم في كل جوانبها في أواخر أيام الدولة العثمانية، فإن هذا التخلف كان بمعنىً ما تخلفًا «نسبيًا» أي أنه يتصل بتخلف الأمة «بالنسبة» لغيرها من الأمم المنافسة والمعاصرة لها.

ولقد انتهى ذلك الوضع- نتيجة للتفاوت المتزايد في فوارق القوة بين الدولة العثمانية وبين الدول الأوروبية- بسيطرة القوى الأجنبية الأوروبية على المسلمين واحتلال أراضيهم، ولكن ذلك التخلف الذي أصاب المسلمين في أواخر أيام الدولة العثمانية – رغم كل آثاره السلبية- لم يحرم المجتمعات الإسلامية من درجة ما من درجات التكامل الاجتماعي الداخلي، الذي كان يقوم على الأقل على تشرب النظم والمؤسسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بقيم الإسلام ومبادئه العامة، حيث تترابط تلك النظم فيما بينها بدرجة ما وبشكل ما في إطار موحد يقوم في جوهره على الإيمان بالله واليوم الآخر، ويستهدف ليس فقط النجاح في الدنيا ولكن أيضًا النجاح في الآخرة، على الوجه الذي تفيض به قلوب المؤمنين الموحدين .

ولكن انهيار الدولة العثمانية قد أتى إلى عالم الإسلام ببعد تفكيكي جديد على مستوى أخطر بكثير من مجرد تخلف الأمة نسبيًا في النواحى العلمية والتقنية عن العالم المحيط بها (رغم الخطورة الكبرى لهذا البعد في ذاته)؛ ذلك أن الدول التي استولت على أراضي الإسلام بقوة السلاح قد آلت على نفسها ـ من خلال كل قنوات التأثير والتوجيه العسكرى والإقتصادى والسياسي والتعليمى المتاحة لها ـ أن تقتلع النظم والمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الأصلية أو المحلية في تلك المناطق، وأن تستبدلها بنظم وممارسات متوافقة مع منظورها هي ومع حضارتها الغربية «الحديثة» (هذا إذا أحسنا الظن بنوايا تلك الدول)، أو تضمن لها إحكام سيطرتها على حياة الشعوب المسلمة حتى لا تقوم لها بعده قائمة بأي شكل تتصور أنه يتعارض مع مصالحها … هذا إذا اخترنا أن نكون أكثر واقعية. وإذا استأنسنا بنظرة تاريخية تحليلية وتسلحنا بوعي كاف عن مغزى العلاقات بين القوى الإسلامية وغير الإسلامية (إبراهيم رجب، 1980) .

ولقد فضل بعض الكتاب الغربيين أنفسهم القول حول طبيعة الأساليب التي اتبعتها القوى السياسية الأوروبية ـ قبل مرحلة الاحتلال العسكري بكثير، منذ بداية القرن التاسع عشرـ لفرض سيطرتها على الحياة الفكرية والسياسية في مصر مثلاً برضاء بل وبتشجيع من محمد علي وبعض أبنائه من بعده، جريًا وراء سراب تحديث مصر على أسس الحضارة الغربية الغالبة، مما يعتبر بذاته عملاً مكافئًا للاستعمار؛ إذا أخذنا الاستعمار بمعنى السيطرة والتوجيه، وقصد إحلال نمط ثقافي وحضاري أجنبي محل الأنماط الثقافية التقليدية (تيموثى ميتشل، 1990). وإذا كان هذا هو الموقف على مستوى مصادر التوجيه والتأثر الرسمي «للقائمين على الحكم» في بعض المناطق الإسلامية في القرن الأخير من حكم الدولة العثمانية، ثم من خلال الحكم الإستعماري المباشر لتلك المناطق فيما تلا ذلك، ومن خلال الحكومات المحلية التي أقيمت في ظله أو التي التزمت بالخطوط التي تمليها القوى الضاغطة الأجنبية فيما بعد الاستقلال، فإن الحال لم يختلف كثيرًا على مستوى خاصة «الخبراء والمتخصصين» من أبناء الإسلام وأبناء الشعوب الإسلامية الذين يسيرون بثقة وانقياد وراء التوجيه «الفنى والعلمى» لأولئك المتخصصين، فلقد أبدى معظم أولئك الخبراء انبهارًا بما قدمته لهم الحضارة الغربية من علوم «حديثة» وتبنوا ضمنًا الفكر وفلسفة الحياة التي قامت تلك الحضارة على أساسها، كما سارعوا إلى اقتباس أو استزراع أو شتل  Transplantation

النظم والمؤسسات الاجتماعية والسياسية والإقتصادية المجلوبة من الغرب في التربة المحلية؛ اعتقادًا منهم بأن ذلك هو السبيل إلى حصول «التقدم» المنشود واللحوق «بركب الحضارة» من أقرب سبيل.

ولم يتبين لهؤلاء ولا لأولئك ـ سواء من الحكام الرسميين أو القادة الفنيين المتخصصين والعامة تبع لهم ـ ولم تتكشف لهم حقيقة «عدم التوافق الجذري» بين ما بنيت عليه تلك النظم والمؤسسات والمعارف الغربية من قيم ومبادئ ونظرة للحياة، وبين القيم والمبادئ الإسلامية والنظرة الإسلامية للكون والحياة إلا بعد أن انقضت سنوات تطاولت عددًا، تحولت فيها الاتجاهات نحو تلك النظم والمؤسسات والممارسات الوافدة من مرحلة التشكك المبدئي، إلى التقبل بل والانبهار، ثم الاستزراع النشط والنشر المتحمس لتلك المستحدثات، إلى محاولات جاءت بعد ذلك لتعديل وأقلمة تلك المستحدثات بطريقة تحافظ على جوهر المستزرع مع تقريبه من واقع المجتمع عندما ظهرت عوارض عدم التلاؤم بينهما، إلى الشعور بفشل المشروع الحضاري الغربي في عقر داره، وبدء التشكك في صلاحيته لغيره من المجتمعات.

وهنا انقسم الناس في عالمنا الإسلامي فريقين؛ فريق قد ارتبطت مصالحهم الذاتية الضيقة بالمشروع الحضاري الغربي، سواء من حيث بقاؤهم في مقاعد السلطة السياسية، أو احتلالهم لمواقع التأثير والتوجيه المجتمعي، أو تحكمهم في موارد هامة للقوة الاقتصادية، أو حتى تمتعهم بالمكانة العلمية والتقدير الأدبي في ظل ذلك المشروع المرتبط بالحضارة الغربية والتابع لها ( كما في حالة رجال العلم وأساتذة الجامعات) .

وفريق آخر أدرك أن المشروع الحضاري الغربي بما يقوم عليه من توجهات مادية علمانية، وما يعانيه من»خواء روحي»- على حد تعبير فرانسيس فوكوياما أحد كبار المسئولين بوزارة الخارجية الأمريكية في مقاله الشهير عن«نهاية التاريخ»(الذي يشير في ثناياه ضمنًا إلى أن الإسلام يمثل الفكر والوعي الوحيد الذي يقدم بديلا سياسيًا منافسًا للمشروع الحضاري الغربي على الساحة الأيدولوجية في العالم المعاصر) Francis Fukuyama,)

(14 : 1989- نقول إن هذا الفريق قد أدرك أن النموذج الغربي ليس صالحًا في المدى البعيد لتوجيه المسيرة البشرية، خصوصًا بعد ظهور الآثار المدمرة لهذا التوجه على حياة المجتمعات الغربية بل وغير الغربية في مختلف دول العالم.

ولقد أدرك هذا الفريق الأخير أن ما تعاني منه الشعوب الإسلامية اليوم في مختلف المجالات إنما يرتد في جزء كبير منه إلى تبني تلك الشعوب لهذه المؤسسات المجلوبة، وللممارسات التي تتم في إطارها والتي تتنافي ـ على خط مستقيم ـ في معظم الأحوال مع أصول الإسلام ومبادئه، كما أدرك أن جوهر الحل الصحيح لتلك المشكلات إنما يكمن في إعادة النظر في جميع النظم والمؤسسات التي يعيش الناس في ظلها، والممارسات التي تتم في إطارها بتوجه جديد من منظور الإسلام، فرأينا نتيجة لذلك دعوة متنامية إلى إعادة إحلال الشريعة الإسلامية محل القوانين الوضيعة عند المطالبين «بتطبيق الشريعة الإسلامية»، كما رأينا مطالبة قوية بإحلال «الاقتصاد الإسلامي والبنوك الإسلامية» محل الإقتصاد الوضعي والبنوك الربوية، كما ظهرت حركات قوية تطالب بممارسات «إسلامية» في مختلف جوانب الحياة كالتربية الإسلامية والإعلام الإسلامى ..إلخ (إبراهيم رجب، 1980) .

المبحث الثانى :

نقل برامج الرعاية الاجتماعية عن الغرب وآثاره

إذا طبقنا هذا التحليل التاريخى ـ المؤسسي  Historical-institutional في محيط الخدمة الاجتماعية فإننا سنجد أن أجهزة ومؤسسات الرعاية الاجتماعية وممارسات الخدمة الاجتماعية في المجتمعات الإسلامية قد مرت بكل مرحلة من هذه المراحل التي أشرنا إليها، كما تعرضت لنفس تلك المؤثرات، واتخذت نفس تلك التوجهات.

فإذا رجعنا إلى الفترات السابقة على الهجمة الاستعمارية على العالم الإسلامي فإننا سنجد أن الرعاية الاجتماعية للأفراد المحتاجين إلى المساعدة كانت تقدم من خلال المبادرات الفردية والجماعية، كما كانت تقدم من خلال الحكومات المسلمة التي تستشعر ـ بدرجات متفاوتة ـ مسئوليتها أمام الله سبحانه وتعالى عن رعاية مواطنيها، وقد كانت المفاهيم والقيم الإسلامية النبيلة التي تؤكد على أخوة المسلمين ووحدتهم العضوية كالجسد الواحد خير موجه لتلك الجهود الفردية والجماعية والحكومية، بما يؤدي إلى «تكامل» الجهود التكافلية على مستوى المجتمع بجميع وحداته، وقد جسدت مؤسسة «بيت مال المسلمين» فكرة التكامل هذه فيما يتصل بالإنفاق على مصالح المسلمين عامة بما في ذلك الرعاية الاجتماعية للمحتاجين، كما جسدت فكرة «التكافل» بينهم من خلال نظم دقيقة لجباية وإنفاق الزكاة من الموارد وفي المصارف التي حددها الشارع الحكيم العليم بما يصلح العباد، أما الصدقات الفردية، وحقوق الأقارب وصلة الأرحام وحقوق الجيران وأبناء السبيل … وغيرها، فقد فتحت الباب على مصراعيه لوصول الخير إلى الناس ـ من كل الناس ـ دون حدود؛ ذلك أن فكرة الصدقة لا تقتصر على الحقوق المالية أو التطوع بالمال، ولكنها تتجاوز ذلك إلى كل أنواع الخير وكل أشكال التراحم بين أفراد المسلمين، مع مراقبة الله عز وجل في كل ذلك، وطمع فيما عند الله من الثواب مما هو خير وأبقى.

وإذا كان البعض قد يتساءل ـ هنا ـ عما إذا كانت هذه الصورة النظرية أو «المثالية» للمجتمع المسلم المتكافل والمتكامل «كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر» تتجسد واقعيًا في كل العصور، فإن من الواضح أن المجتمعات الإسلامية في العصور المختلفة كانت تقترب حينًا وتبتعد حينًا عن هذا النموذج بحسب درجة تشرب المجتمع ونظمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية بتلك القيم الإسلامية النبيلة، فالتحليل العلمي الاجتماعي الصحيح يدلنا بوضوح إلى أنه كلما كانت عملية التنظيم الاجتماعي process of social organization  في المجتمع في عصر ما ذات كفاءة وذات فاعلية، وكلما ازدادت فاعلية عملية التنشئة الاجتماعية وصحت مسيرتها في الاتجاهات التي تتمشى مع المعايير والقيم الإسلامية، وكلما ضمنت عمليات الضبط الاجتماعي استمرار سير المجتمع بأفراده ومؤسساته ونظمه في نفس الاتجاه، فإن الموقف في مثل ذلك المجتمع يقترب أشد الإقتراب من هذا النموذج الذي يتمشى بشكل كبير مع القيم المعيارية الإسلامية الصحيحة.

وعلى العكس من ذلك فإن المجتمعات في فترات الانحلال والتفكك الاجتماعي social Disorganization  التي تتسم بتقطع عملية التنشئة الاجتماعية، وتضارب توجهاتها، وتأثيرها بقيم غربية متناقضة مع النسيج المعياري للمجتمع المسلم، خصوصًا إذا اقترنت هذه الظروف جميعًا بضبط اجتماعي موجه في أهدافه ووسائله بغير قيم المجتمع المسلم، لا يمكن أن تسودها في تلك الفترات تلك الصورة المتكاملة التي توجهنا إليها قيم هذا الدين ومعاييره.

وعلى أي حال فإن ما يعنينا هو أن تلك الصورة ـ التي قد تقترب أو تبتعد قليلاً أو كثيرًا عن ذلك النموذج التكاملي التكافلي في المراحل السابقة على الغزو الاستعماري ـ قد تعرضت بعد الاحتلال الأجنبي إلى طلمة ساحقة من خلال التبني المنظم للأشكال التنظيمية والممارسات الاجتماعية المشاكلة لتلك التي انبثقت في الغرب، والتي تقوم على نوع آخر من التكامل الذي يختلف في أساسه الروحي اختلافًا كبيرًا عن ذلك النمط من التكامل الذي تدعو إليه معايير الإسلام؛ ذلك أن تلك الأشكال التنظيمية تقوم فيما يعنينا في هذا البحث على أساسين:

الأساس الأول: فصل الدين عن شئون الدنيا فيما يعرف بالتوجه العلماني Secularization، مما يعني أن المؤسسات والممارسات الاجتماعية ـ مثل غيرها ـ ينبغي أن تبنى على أسس تتصل فقط بهذه الحياة الدنيا، مستبعدة بذلك أي صلة بالله أو اليوم الآخر (ومما يجدر بالذكر هنا أن الخدمة الاجتماعية في الغرب قد قطعت شوطًا طويلاً حتى بدأ المتخصصون فيها مؤخرًا ينتقدون ذلك التوجه الذي يرونه مسئولاً عن قصور الممارسة في الخدمة الاجتماعية ويدعون للتخلص من آثاره المريرة) (Martin Marty, 1980: 643) .

الأساس الثاني: التخصص وتقسيم العمل؛ سعيًا وراء تحقيق أكبر قدر من الكفاءة، والذي ترتب عليه عدم وجود اهتمام كبير بالعلاقات بين الوحدات المتخصصة، حتى ولو كانت الوظائف التي تقوم بها تلك الوحدات مترابطة بطبيعتها، كما هو الحال مثلا بالنسبة للعلاقة بين الأسرة والمدرسة وأجهزة الإعلام التي تشترك مع بعضها في وظائف التنشئة الاجتماعية.

ولقد أدى إحلال الأجهزة والمؤسسات والسياسات المتصلة بالرعاية الاجتماعية المنطلقة من مثل تلك المنطلقات العلمانية والتجريئية محل النظم والترتيبات التقليدية في المجتمعات الإسلامية إلى عدد من النتائج يمكن تلخيص أهمها فيما يلي:

1-    تبنت معظم الدول الإسلامية مفهوم (الرعاية الاجتماعية) social Welfare  القائم على فكرة الحقوق الموحدة وغير الشخصية للمواطنين المتساوين في درجة حاجتهم، والتي تقدم بطريقة غير شخصية لمن يحتاجونها كحقوق مفروضة مدنيًا، وذلك بدلاً من مفهوم (التكافل) الاجتماعي العضوي القائم على أساس فكرة الأخوة في الله والتراحم بين المسلمين وما يترتب عليها من ارتباط شخصي وثيق، والذي تنطلق الحقوق فيه مما فرضه الله سبحانه ـ الذي يعلم ما فيه الخير لخلقه ـ وعلى الوجه الذي شرعه.

2-    تولت الحكومات الوطنية المسئولية الأساسية عن بعض البرامج العامة ـ كالضمان الاجتماعي ـ التي يتم الإنفاق عليها من حصيلة الضرائب العامة دون أخذ الواجبات الدينية كفريضة الزكاة في الاعتبار، وقد قصرت موارد معظم الدول دون الإنفاق الكافي على تلك البرامج حتى أصبحت شكلاً خارجيًا لا مضمون حقيقي له، من جهة عدم القدرة على تقديم الحد الأدنى اللازم للمعيشة وفقًا لما هو مفروض نظريًا .

3-    تضاءل الدور الذي تقوم به الترتيبات والنظم المحلية التقليدية التي كانت تتحمل في الماضي المسئوليات المتكافئة مع وظائف الرعاية الاجتماعية بالمفهوم الحديث، وخصوصا شبكة الدعم الاجتماعي غير الرسمي Social Support Network  المتمثلة في الدعم الأسري وعلاقات الجوار والأوقاف الخيرية، نتيجة لشعور المواطنين بأن الدولة قد التزمت بالقيام بتلك الالتزامات بدلاً من الأفراد، فانتشرت السلبية بين المسلمين إلى حد يصل إلى التبلد وعدم الإحساس بحاجة الآخرين في بعض الأحوال.

4-    تضاءل دور الجهود التطوعية المنظمة، وضعفت المبادرة والجهود الذاتية للمواطنين نتيجة لتضييق بعض الحكومات (خصوصًا في فترات ما يسمى بالتحول الاشتراكي) على الجمعيات الأهلية وإحاطتها بالشكوك بسبب التخوف الذي تشعر به تلك الحكومات نحو أى تعاون أصيل فيما بين المواطنين للصالح العام؛ لئلا يؤدي ذلك في المدى البعيد إلى تقوية شعور المواطنين بكيانهم وقوتهم مما يقلق بعض النظم الحاكمة

(Robert springborg, 1989: 170- 173) .

5-    تم نشر العديد من المؤسسات التي تقدم الخدمات اللازمة لبعض فئات المجتمع المحتاج للرعاية؛ كالأطفال والمعوقين والمسنين على نفس الأسس التي تقدم بها في المجتمعات غير الإسلامية، حيث يتم التركيز على إشباع الحاجات المادية أساسًا، والنفسية والاجتماعية بشكل أقل، أما الحاجات الروحية فلا تكاد تدخل في الإعتبار أصلاً إلا في أضيق نطاق وكقطاع مستقل ومنفصل عن بقية جوانب الرعاية الأخرى، بدلاً من أن تكون محوراٌ لجميع ما يقدم من خدمات وما يبذل من مجهود، مما أفقد تلك المؤسسات قدراٌ كبيراٌ من فاعليتها .

6-    وفي خضم الحماس الزائد لنقل الأفكار والمشروعات من الدول الأوربية والولايات المتحدة الأمريكيــة، فقد تم نقل أفكار لمشروعات مستحدثة دون فهم للمســلمات والأصول الثقافية التي بنيت عليها، ودون إدراك بأنها غير ملائمة أصلاً للبيئة المحلية كفكرة المحلات الاجتماعية Settlement Houses ، والتي بدأت تذوي أو تلغــى، أو تتحول للقيام بوظائف أخرى غير تلك التي أنشئت من أجلها.

7-    أما في الدول التي توفرت لهـا الموارد المالية من عائدات النفط،
فإن الممارسة فيها – وإن نجحت في تحقيق بعض أهدافها ـ تعاني أيضاً من نقص الفاعليـة بســبب التزامها بالإطار الفلسفي العام وبالممارسات المستمدة من النموذج الغربي للخدمـة الاجتماعية، مع تخوف من الانعتاق من ربقــة ذلك النموذج، وكأنه سيؤدي إلى التخلي عن الأصول المهنية والعلميــة، أو يؤدي إلى انهيــار الممارسة، مع أن الأكثر احتمالاً هو أن استجابتهم التلقائية لواقعهم الثقافي هو أفضل ضمان للنجاح والفاعلية.

8-    اتجهت عملية إعداد الأخصائيين الاجتمــاعيين اللازمين للعمل في مؤسسات الرعاية الاجتماعية والتنمية الاجتماعية للسير في اتجاهات متطابقة مع مثيلتها في الغرب، خصوصاً فيما يتصل بالمقررات والمنـاهج والمراجع العلمية المعتمدة، واستمرت تسير في ذلك الاتجاه إلى حد كبير رغم مرور ما يزيد عن نصف قرن من تعليم الخدمة الاجتماعية في بعض الدول كمصر مثلاً.

9-    تفاقم الانفصام بين التخصصات المختلفة التي تعمل في ميادين الرعاية الاجتماعية والتنمية الاجتماعية وازداد التعاون بينها صعوبة؛ نتيجة للتركيز الزائد على التخصص وتقسيم العمل، حتى ولو أدى ذلك إلى عدم تحقق أهذاف البرنامج أصلاً، وكما يقول موريس كلاين : «إن ثمن التخصص هو العقم، وربما يتطلب التخصص براعة فائقة، ولكنه قلما يكون ذا معنى» ( آجروس وستانسيو، 1984 م : 115) .

فماذا كانت الحصيلة النهائية لهذا كله ؟ لا يمكن إلا لمكابر أن ينكر أن خدمات الرعاية الاجتماعية التي قدمت من خلال البرامج والمؤسسات التي تم استحداثها وفقاً للتصور الغربي للإنسان والمجتمع قد أفادت قطاعات معينة من السكان، وأن ممارسة الخدمة الإجتماعية في إطار تلك البرامج والمؤسسات وفي إطار غيرها من المؤسسات التعليمية والصحية والصناعية قد أسهمت بشكل لا بأس به في تحقيق قدر من الأهداف المعقودة عليها.

ولكن ـ وبنفس المنطق ـ فإنه لا يسع أحداً أن يزعم  أن تلك البرامج والمؤسسات في قطاعات الرعاية الاجتماعية والتنمية الاجتماعية قد كانت ذات فاعلية كبيرة في تحقيق أهدافها، والمتفحص لهذه الاجهزة ولما يتم من خلالها من ممارسات مهنية لن يملك إلا أن يشعر بأنها (تفتقد الروح) بالمعنيين المعروفين لهذا التعبير، فهي تفتقد الروح بمعنى إفتقاد الحيوية والدينامية والفاعلية، ولكنها أيضاً تفتقد «الروح» بالمعنى الأكثر عمقاً الذي يتمثل في إغفالها للجوانب الروحية والدينية، سواء فيما يتصل بتنظيمها أو بخدماتها أو بالممارسات المهنية التي تتم فيها، ونحن نقصد بالجوانب الروحية هنا تلك الجوانب المتعلقة (بصلة الإنسان بربه) سبحانه وتعالى. فالبرامج يتم تنظيمها على أسس علمانية جافة وجافية، والخدمات تقدم للعملاء وكأنه لا صلة بين مشكلاتهم  وبين نوع معرفتهم بربهم  ونوع صلتهم بخالقهم، والممارسون يقومون ـ حسب تصورهم ـ بعمل (إنساني) محايد قيمياً، لا بعمل ربانى التوجه قائم على مراقبة ألله عز وجل، مما جعل تلك الممارسات بتراء منبتّة الجذور منقطعة ألثمار .

ونتيجة لذلك فإن المرء لا يتمالك عند تقويم ما يتم في إطار تلك البرامج والمؤسسات من الشعور « بالشكلية» التي تضرب أطنابها في محيط تلك البرامج ذات الرنين ألأجوف الذى لا يستثير في المشاركين ولاء ولا إنتماء إلا في حدود ما يحقق مصالحهم قصيرة ألأمد .ولقد توصلت إحدى الدراسات الهامة التي أجريت عتى ما يمكن إعتباره عيبة ممثلة لمعظم تلك البرامج في مصر ألا وهى «الوحدات الاجتماعية» التابعة لوزارة الشئون ألإجتماعية إلى توصيف دقيق للأوضاع السائدة في تلك المؤسسات الاجتماعية بشكل يتسم بالصراحة والعمق، فوجدت أنها تعانى من «نقص بالشعور بالهدف أو الرسالة»، و  «ضعف شعور الموظفين بالإنتماء و «عدم تقبل الأهالي» للوحدة الاجتماعية، وعدم إرتباطهم بها مع «إنخفاض مستوى الشعور بالمسئولية  «عند العاملين بها (روجر هاردستر وريتشارد بارفيس، 1981)، وبطبيعة الحال فإن الثمار المرة لهذا كله قد تجلت في النهاية في ضعف تحقيق الأهداف ونقص كل من الفاعلية والكفاية بشكل خطير .

والواقع أن الأمر لم يكن يتطلب ممن لديهم أي إلمام بالأصول العامة لتصميم البرامج ـ أو ممن يقوّمون الأمور من منظور الإسلام ـ إجراء أية دراسات تقويمية منظمة حتى يتبين لهم حقيقة تلك البرامج والمؤسسات، خصوصاً من حيث خواؤها الداخلى ونقص فاعليتها المحتوم؛ ذلك أن من الأسس المقررة في تصميم البرامج أن كل برنامج يصمم على أساس منبت الصلة بالواقع الثقافي والاجتماعي الذى يعمل في إطاره محكوم عليه منذ اليوم الأول بالفشل أو على الأقل بضعف الفاعلية، فما بالك ـ من وجهة إسلامية ـ بناء المؤسسات والممارسات على غير أساس من الإهتداء بما شرعه خالق الناس لخلقه مما أنزله لصلاحهم وارتضاه تنظيماً لشئونهم، وتوعدهم على مخالفته بأن يجعل لهم معيشة ضنكاً في هذه الدنيا بخلاف ما ينتظرهم من عذاب في الآخرة ؟

ولكن العجيب ـحقاً- أن الناس قد ألفوا هذه الأوضاع المتردية في مؤسساتنا حتى حسبوها قضاء مبرماً وقدراً كل برنامج يصمم على أساس منبت الصلة بالواقع الثقافي والاجتماعي الذي يعمل في إطاره محكوم عليه منذ اليوم الأول بالفشل أو على الأقل بضعف الفاعلية، فما بالك-من وجهة إسلامية-ببناء المؤسسات والممارسات على غير أساس من الاهتداء بما شرعه خالق الناس لخلقه مما أنزله لصلاحهم وارتضاه تنظيما لشئونهم، وتوعدهم على مخالفته بأن يجعل لهم معيشة ضنكا في هذه الدنيا بخلاف ما ينتظرهم من عذاب في الآخرة ؟

ولكن العجيب -حقا- أن الناس قد ألفوا هذه الأوضاع المتردية في مؤسساتنا حتى حسبوها قضاء مبرما وقدرا مقدورا، باعتبارها جزءا من حالة «التخلف« التي تبدو وكأنها مقدرة على المسلمين، وكأنه لا فكاك منها مهما بذلنا من جهد، حتى أصبح الحديث عن الإصلاح وكأنه صرخة في واد، أو كأنه أمر ينبغي على العقلاء أن يجتنبوه، مع أن تشخيص الموقف هين ويسير على من يسره الله عليه وعلى من ولى وجهه إلى الله وهو محسن.

لقد نادت أصوات كثيرة منذ فترة طويلة بضرورة انطلاق برامج وممارسات الخدمة الاجتماعية من منظور الإسلام؛ حتى يمكن لها أن تحقق الفاعلية المنشودة في إحداث التغيير في الفرد والجماعة والمجتمع، ولكن تلك الأصوات كانت – أو كادت – تذهب أدراج الرياح في خضم طوفان التغريب تحت اسم (التحديث) الذي ساد العالم الإسلامي.

ونود أن نشير هنا بشكل خاص في هذا النطاق إلى رسالة للدكتوراه قدمها فؤاد عبد الله نويرة إلى إحدى جامعات الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر الخمسينات والتي نشرتها وزارة العمل والشئون الاجتماعية (1960 م) حول «الإسلام والخدمة الاجتماعية« والتي حاول فيها التوصل إلى أسس ومبادئ للخدمة الاجتماعية من منظور الإسلام، باعتبارها تمثل أحد أهم تلك الجهود الجادة في هذا السبيل.

ولقد سبقت هذه الدراسة وتلتها محاولات أخرى سارت في نفس الطريق، ولكنها كانت محدودة الأثر ولم يكن لها آثار تراكمية تذكر، وإن كانت تمثل-ولا شك-إرهاصات لحركة التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية، ومن الأمثلة التي ترد هنا على سبيل المثال مقالات د. لبيب السعيد بمجلة الرسالة عن الخدمة الاجتماعية في الإسلام (1949 م) وعن تنظيم الإحسان في الإسلام (1952 م)، ودراسة عبد الستار الدمنهوري (1958 م) عن الخدمة الاجتماعية في الإسلام، ودراسة خالد صبحي عثمان (حول عام 1960 م) عن أثر العامل الديني في تطور الخدمات الاجتماعية، ودراسة إبراهيم رجب (1963 م) عن التوجيه الديني في مؤسسات رعاية الشباب. ثم جاءت الستينات بتطوير جديد يتمثل في الاتجاه نحو : توطين الخدمة الاجتماعية« و«تأصيل الخدمة الاجتماعية« في الدول النامية نتيجة للشعور المتزايد على مستوى دول العالم الثالث كلها بعدم التوافق بين النموذج الغربي للخدمة الاجتماعية وبين الأرضية الثقافية والاقتصادية والاجتماعية السائدة في تلك الدول، وقد كان لهذا الاتجاه قيمة كبرى في إثارة الأسئلة حول مدى ملاءمة النموذج الغربي، مما مهد الطريق من الناحية النفسية أمام حركة التأصيل الإسلامي في المراحل التالية.

وسنقوم في الفصل التالي بالحديث عن هذه الاتجاهات بشيء من التفصيل على اعتبار أن جهود التوطين والتأصيل في الدول النامية تمثل شعورا مبكرا بالمشكلة، ونوعا من الاستجابة الباكرة لحلها، وأن حركة أسلمة المعرفة وما تزامن معها من يقظة في العالم الإسلامي كانت بمثابة الدافع الأقوى لبلورة جهود التأصيل الإسلامي للعلوم بصفة عامة والخدمة الاجتماعية بصفة خاصة في الاتجاهات التي سارت فيها فيما بعد.

الفصل الثاني :

الشعور بالمشكلة والاستجابة للموقف

المبحث الأول :

الدعوة إلى توطين وتأصيل الخدمة الاجتماعية في الدول النامية

لعل من الإنصاف أن نذكر-ابتداء- أن اصطلاح «التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية« أو ما يكافئه «كالتأصيل الإسلامي للخدمة الاجتماعية« لم تظهر إلى الوجود في أشكالها المكتملة الحالية إلا في السنوات العشر الأخيرة، وقد سبقها بالظهور في الستينات-كما ذكرنا-مفهومان هامان يتفقان معها في التوجه، ألا وهما :

1-اصطلاح «توطين الخدمة الاجتماعية« الذي هو في أصله ترجمة لاصطلاح أجنبي بدأ يظهر في بعض الكتابات الغربية المستنيرة، وفي بعض كتابات المشتغلين بالخدمة الاجتماعية في بعض دول العالم الثالث، هو اصطلاح Indigenization of social work.

2-ثم اصطلاح «تأصيل الخدمة الاجتماعية« في الدول النامية، الذي تبلور لدى المشتغلين بتعليم الخدمة الاجتماعية في مصر؛ تجاوزا لسلبيات الاصطلاح الأول وتعميقا للنواحي الإيجابية فيه.

ونظرا لأهمية هذين الاصطلاحين فقد يكون من المفيد أن نتناول كلا منهما بشيء من الإيجاز قبل ان ننتقل لمعالجة مفهوم التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية.

لقد استخدمت اصطلاح توطين الخدمة الاجتماعية في الكتابات الغربية والعربية ليشير إلى «تكييف أو تطويع أو (أقلمة) المهنة حسب ظروف ومتطلبات المجتمع الذي تعمل فيه« بدلا من مجرد النقل الكامل من ممارسات الدول الأخرى، وقد عرف عبد الفتاح عثمان وزملاؤه (1984 : 285، 290) التوطين بأنه «تلك الجهود العلمية التي تبذل لإحداث تغييرات في بعض مكونات الخدمة الاجتماعية المنتشرة ثقافيا من الخارج، بقصد التوصل إلى بعض الابتكارات والتجديدات؛ استجابة لبعض الظروف السائدة في المجتمعات التي انتشرت منها الخدمة الاجتماعية؛ وذلك كي تكتسب الخدمة الاجتماعية فاعلية أكبر في تنمية المجتمع العاملة فيه وحل مشكلاته الاجتماعية، والهدف الأساسي من التوطين هو إكساب المهنة فاعلية يدركها المجتمع … على نحو يجعل من الخدمة الاجتماعية موضع اهتمام وتقدير قومي«

ولعلنا نلاحظ -أولا- أن هذا التعريف يشير على استحياء إلى أن التوطين يتطلب إحداث تغييرات في «بعض« مكونات الخدمة الاجتماعية، للتوصل إلى «بعض« الابتكارات، استجابة «لبعض« العوامل المحلية، تجنبا للتحديد الدقيق لأنواع التغييرات المطلوبة أو لمدى تلك التغييرات، وكأن أصحاب التعريف قد استشعروا أن التغييرات المطلوبة ستكون تغييرات جذرية إن أردنا لها أن تحقق الأهداف المرجوة من ورائها، أو كأنهم استشعروا أن تحديد أنواع تلك التغييرات أو مداها قد يكشف عن أن المطلوب ليس مجرد أقلمة أو تطويع لبعض المفاهيم الوافدة، وإنما هو أمر لا يقل في نطاقه عن عملية إعادة نظر شاملة في المهنة ومكوناتها، فالقضية ليست قضية استبعاد بعض المصطلحات، أو استبدال ألفاظ بأخرى، كا أنها ليست مجرد إعادة ترتيب الأولويات (التنموية قبل العلاجية مثلا) فمثل هذا التطويع لا يصل إلى التعامل الواضح مع ما جاء بالتعريف نفسه حول الاستجابة لبعض الظروف «الثقافية«، وإنما يتصل فقط ببعض الأوضاع البنائية، وا يرتبط بها من نوعية المشكلات وأولويات طرق التدخل، أما العوامل والظروف الثقافية فإنها تشتمل أول ما تشتمل على التعامل مع الجوانب القيمية والمكونات الروحية والدينية، وهذا ما تجنبته مناقشات «توطين الخدمة الاجتماعية« بشكل مستمر.

كما نلاحظ من جهة أخرى أن التوطين-وفقا لذلك التعريف-إنما هو في جوهره مفهوم نفعي أو برجماتي، هدفه أساسا زيادة فاعلية الجهود المهنية للخدمة الاجتماعية؛ اكتسابا للاعتراف المجتمعي بقيمتها، وذلك من خلال زيادة درجة التوافق بين مفاهيم ونظريات الممارسة المهنية المستوردة وبين الواقع الاجتماعي الاقتصادي الثقافي للمجتمع الذي تمارس فيه، فالقضية بالنسبة لاتجاه التوطين إذن لا تبدو مسألة مبدأ أو توجه فكري واضح بقدر ما هي مسألة ملاءمة اجتماعية (وثقافية) مما يجعل مردوده المهني محل شك كبير لعدم وضوح الإطار الفكري الذي ينتظم جوانبه ويلم شتاته.

وأخيرا فإننا نلاحظ أن توطين الخدمة الاجتماعية بهذا المفهوم إنما يقوم على التسليم ضمنا بصدق وصلاحية النموذج الغربي في جوهره، وبأن كل المطلوب هو «أقلمته أو تطويعه« ليناسب الأوضاع المحلية ليزداد فاعلية في التطبيق، وهو بهذا لا يتضمن رؤية «نقدية« أصلية للاختلافات الجذرية بين المسلمات والافتراضات الأساسية التي تقوم عليها المهنة تقليديا في انطلاقها من التصورات العامة للحضارة الغربية، وبين التصورات العامة للثقافة العربية الإسلامية لمجتمعاتنا، وإلا لما كان بعض رواد اتجاه التوطين هم أنفسهم من أساطين الخدمة الاجتماعية في المجتمعات «الغربية« ذاتها (من أمثال العالم الشهير الأستاذ هيرمان شتاين) هم الذين أدركوا برجاحة عقولهم وخبرتهم الطويلة أنه لا يمكن للمهنة أن تضرب بجذورها في دول العالم النامي إلا إذا كانت متوافقة مع ثقافة تلك الدول وبناءاتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بعد أن لاحظوا فشل العديد من البرامج التي تم نقلها واستزراعها في الدول النامية دون تطويع أو أقلمة، مع عدم إمكان الظن بأن أولئك الخبراء الغربيين لديهم أي شكوك قوية في الأسس التي بنيت عليها المهنة عندهم، وذلك باعتبار تشربهم لقيم تلك الحضارة الغربية وصعوبة تجاوزهم لها.

ولمواجهة أوجه القصور المشار إليها في اتجاه توطين الخدمة الاجتماعية فقد نادى بعض المشتغلين بتعليم الخدمة الاجتماعية في مصر بالتحول إلى مفهوم «تأصيل الخدمة الاجتماعية» في الدول النامية كبديل لمفهوم التوطين المشار إليه، على أساس أن «التأصيل» ينظر للموقف من الزاوية الصحيحة، فإذا كان التوطين يبدأ بالانطلاق من النماذج الغربية (مع نوع من التسليم الضمني بأنه لا اعتراض على تلك النماذج في جوهرها) ويحاول تطويعها للظروف المحلية، فإن التأصيل، على العكس من ذلك-يبدأ من الواقع المحلس واحتياجاته كأساس للاختيار من بين النماذج الغربية أو غير الغربية، بمعنى أن اتجاه التأصيل يرفض التسليم ابتداء بصحة النموذج الغربي أو غيره ثم الاجتهاد في البحث عن طرق أقلمته، وإنما هو يبدأ من التسليم أولا بهويتنا الثقافية وظروفا البنائية التي إذا حددنا معالمها بوضوح فأها ستكون هي المعيار الصحيح لما يمكن التسليم به أو لا يمكن.

ومن هنا، يتضح لنا أن اتجاه تأصيل الخدمة الاجتماعية في الدول النامية ليس اتجاها رافضا على أساس «مبدئي» للنماذج الغربية أو غير الغربية، فهذا أمر مستحيل من الناحية العملية (حتى لو تصور البعض إمكانه نظريا)؛ لأن الخدمة الاجتماعية كإحدى مهن المساعدة الإنسانية لا تملك رفاهية «التوقف» أو حتى التردد حتى نتوصل إلى البديل الصحيح، ذلك أن الأخصائيين الاجتماعيين مسؤولون عن مؤسسات اجتماعية تمارس أعمالها في خدمة الناس، وهناك قرارات تتخذ يوميا لأداء تلك الأعمال، واستناد القرارات حتى إلى تلك النماذج التي تعرضت للنقد، هو أفضل بالتأكيد من انتظار الوصول إلى البديل من فراغ أو بالاعتماد على مجرد المحاولة والخطأ، ومن الطبيعي-إذن-أن المطالبين «بتأصيل الخدمة الاجتماعية» في الدول النامية يتصورون أن الحل إنما يكن في «البدء« مباشرة بالتخطيط لبرنامج جاد لفهم الواقع المحلي يمكن على أساسه التوصل إلى النماذج المحلية الملائمة، جنبا إلى جنب مع استمرار المؤسسات القائمة في أداء أعمالها وفق النموذج التقليدي، مع الإحلال المستمر لأية ممارسات أو أدوات مستحدثة محل مثيلاتها التقليدية بالتدريج … مهما كان الوقت الذي تحتاجه عملية التأصيل.

وفي ضوء ذلك فإن عملية «تأصيل الخدمة الاجتماعية» في الدول النامية تتطلب القيام بعدد من الإجراءات التي يتصل بعضها بجهود ذات طبيعة بحثية، كما يتصل بعضها الآخر بالممارسة، أما البعض الأخير فيتصل بتعليم الخدمة الاجتماعية كما يلي (إبراهيم رجب، 1981) :

1-بلورة «القيم الاجتماعية الأساسية» المؤثرة على نسق الرعاية الاجتماعية في المجتمع الذي تتم فيه الممارسة.

2-دراسة أوضاع «التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية والدينية والسياسية» المحلية خصوصا، من حيث نوع تأثيرها على رفاهية الأفراد والجماعات في المجتمع.

3-تحديد «المشكلات الاجتماعية» التي تؤثر سلبا على حياة السكان في علاقتها بتلك الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يتم إشباع حاجات الناس في إطارها.

4-دراسة «البدائل الوطنية» المحلية المقابلة للبرامج المنقولة عن الدول الأخرى؛ لتكون نقطة البداية نحو ابتكار برامج أكثر ملاءمة للظروف المحلية، في نفس الوقت الذي تتم فيه الاستفادة من الدول الأخرى.

5-بلورة أساليب الممارسة المهنية الملائمة في ضوء ذلك الفهم الذي تبلور للواقع المحلي مع الاستفادة بما لدى الغير مما لا يتعارض معها.

6-«تجربة» تلك الأساليب في الواقع المحلي «وتقويم درجة فاعليتها»، وإعادة التجريب الميداني مرة بعد مرة، «وتسجيل» النتائج توصلا إلى «نظريات الممارسة المحلية» المؤصلة.

7-إدماج تلك النظريات في برامج «الإعداد المهني» للأخصائيين الاجتماعيين؛ لتكون موجهة لممارستهم المؤصلة في مستقبل عملهم.

وإذن فإن مفهوم « تأصيل الخدمة الاجتماعية» بهذا الوصف يتجاوز إلى حد كبير الكثير من أوجه النقد التي وجهت لمفهوم «التوطين، خصوصا وأن التأصيل يقوم-أولا- على معرفة الذات والوعي بالواقع المحلي، ويجعل التطابق مع هذه المعرفة وهذا الوعي جواز المرور الأولي لكل مبدأ مهني أو أداة للمارسة؛ مما يتمشى مع الأصول العلمية الصحيحة المرعية في «تحليل المشكلات» و«تخطيط السياسات والمشروعات»، التي تبدأ بالظروف البنائية والمحددات القيمية والثقافية المؤثرة في الموقف أو المشكلة قبل الدول في اختيار بدائل السياسة والتخطيطات للمشروعات اللازمة لمواجهتها.

ورغم ذلك فإن اتجاهات توطين وتأصيل الخدمة الاجتماعية التي ظهرت في الستينات تشترك فيما بينها في خاصيتين رئيسيتين :

الأولى : أن هذه الدعوات قد انصب اهتمامها على إصلاح مسار الخدمة الاجتماعية في «الدول النامية» بصفة عامة، ولم يكن أساسا منصبا على الدول الإسلامية، بل إن علماء الخدمة الاجتماعية في الغرب هم الذين صكوا اصطلاح التوطين ودعوا إليه كما ذكرنا، ومن هنا، فقد كان من المحتم أن تتخذ هذه التوجهات شكل «الدعوة العامة» غير الموجهة بشكل محدد لخدمة قضايا الدول الإسلامية التي تشترك مع بعضها في الأطر الثقافية والقيمية، بل والبنائية المتميزة، وقد كان من الطبيعي في ضوء ذلك أن العائد منهما كان محدودا، لم يتجاوز-كما ذكرنا-المناقشات حول تحديد أولويات التدخل التي تناسب العالم الثالث في مقابل الأولويات التي تناسب الدول الصناعية المتقدمة.

الثانية : كانت هذه الدعوات مدفوعة-كما يرى البعض-«بالحماس الوطني» (إضافة إلى إدراك الاختلافات بين الدول النامية والدول الصناعية) (عبد الحليم رضا، 1989 : 195-196) وهذا دافع له قوته ولكن له حدوده ولاشك، في حين أن اتجاه التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية-كما سنرى-ينظر للقضية بشكل أعمق بكثير إذ يرى أن تحقق تنمية العالم العربي الإسلامي إنما تتوقف على انطلاق علومه ومهنه من منظور الإسلام، كما يرى في الأمر واجبا والتزاما دينيا أمام الله سبحانه وتعالى في الصدع بأمره ومتابعة هديه قبل التنمية، وقبل الحماس الوطني، وبعدهما.

وعلى أية حال فليس هناك من شك في أن دعوات التوطين والتأصيل قد كانت بمثابة الاستجابة الطبيعية لشعور المتخصصين في الخدمة الاجتماعية بعدم التوافق بين نماذج الممارسة الوافدة وبين الواقع المحلي في المجتمعات التي انتقلت إليها المهنة، وأنها بذلك تعتبر بمثابة الشهادة الحية على الحاجة إلى إعادة النظر في النماذج الوافدة في ضوء حقائق الواقع المحلي؛ مما هيأ الأذهان وأعدها لحسن استقبال الدعوة إلى المراجعة الجذرية لتلك النماذج في ضوء حقائق الإسلام.

المبحث الثاني :

اليقظة الإسلامية المعاصرة وقضية أسلمة المعرفة

رغم أن التاريخ التفصيلي والتحليل المنظم للظروف التي أسهمت في بزوغ حركة اليقظة الإسلامية المعاصرة، وما صحبها من ظهور أهمية قضية «أسلمة المعرفة» يخرج عن نطاق هذه الورقة، إلا أنن نستطيع هنا على الأقل أن نشير باختصار إلى عدد من الظروف والعوامل التي كانت ذات أهمية خاصة لبلورة تلك المواجهات المباركة ونضجها، وسنلاحظ على الفور أن بعض هذه العوامل إنما يرجع-ومن عجب-إلى تطورات ظهرت على مسرح الحياة العلمية في محيط الحضارة الغربية ذاتها، كما أن بعضها الآخر لا يخرج عن كونه انعكاسا لتلك التطورات نفسها ونوع تأثر بها في خيط العالم الإسلامي، على حين يرجع البعض الأخير إلى طبيعة العالم الإسلامي ذاته وظروفه وتاريخه، وسنشير فيما يلي إلى بعض تلك العوامل باختصار :

(1) لعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا إن من أهم العوامل التي أسمهت-بطريق غير مباشر-في تكوين اليقظة الإسلامية المعاصرة ودفعها دفعا حثيثا إلى حيث تقف الآن-بفضل الله-هو تلك الثورة التي تحققت في محيط علم الفيزياء الحديثة في النصف الأول من القرن العشرين فيما يتعلق بفهم طبيعة الذرة وما دونها من جسيمات في إطار نظرية النسبية ونظرية الكم Quantum theory على أيدي آينشتاين وهيزنبرج وبور وغيرهم، تلك التطورات التي أدت إلى انهيار النظرية «المادية« الميكانيكية القديمة التي كانت ترى المكون نسقا ميكانيكيا مكونا من «ذرات مادية صلبة«. حيث بنيت تلك الكشوف الجديدة أن الذرة تتكون بدلا من ذلك من فضاء شاسع، تدور فيه باستمرار جسيمات متناهية الصغر هي الإلكترونات، حول نواة تتكون بدورها من بروتونات ونيوترونات.

ولقد أوضحت نظرية الكم أن هذه الجسيمات (الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات)-كما يقول كابرا-ليست من قبيل تلك الأجسام الصلبة التي كانت تحدثنا عنها الفيزياء الكلاسيكية، … وإنما هي كيانات مجردة ذات طبيعة مزدوجة تتوقف هويتها على الطريقة التي ننظر بها إليها ! فهي تبدو أحيانا كجسيمات Particles وأحيانا كموجات Waves من الطاقة، ومعنى ذلك أننا عندما ننزل ببحوثنا إلى مستوى مكونات الذرة فإننا نجد «أن الأجسام المادية الصلبة التي كانت تحدثنا عنها الفيزياء التقليدية قد ذابت فاتخذت عنها الفيزياء شكل أنماط احتمالية شبيهة بالموجات، وفوق ذلك فإن هذه الأنماط لا تمثل احتمالات «لأشياء» Probabilities of things وإنما هي أقرب لأن تكون احتمالات لأنواع من «الارتباطات المتبادلة Interconnections» … وقد أدت هذه الاكتشافات المدهشة في الفيزياء الحديثة إلى إدراك العلماء «لوحدة الكون»، كما فتحت الباب على مصراعية أمام «التوافق التام مع الأهداف الروحية والمعتقدات الدينية» (Capra : 1982 : 67-70)

وقد ترتب على هذه الثورة في فهم العالم تخاذل في صفوف رجال العهد القديم في العلوم الطبيعية وغيرها ممن درجوا على تمجيد التوجهات الإلحادية والتطورية وإضفاء مسحة علمية زائفة عليها، كما أدى إلى تقوية قلوب أهل الإيمان أهل الغيمان الذين زادتهم تلكم الكشوف إيمانا على إيمانهم، كما زادتهم ثقة بوعد ربهم، وذلك بالرغم مما يرونه واقعيا أمامهم من ضعف الأمة الإسلامية ماديا وتخاذلها وهزيمتها الداخلية نفسيا، وكلن آثار هذا كله لم تظهر بوضوح وبشكل مباشر؛ نظرا لما تحتاجه التطورات العلمية عادة من زمن طويل-قدره بعض العلماء بخمسين سنة-حتى يتم تشربها في العلوم الأخرى وفي وجدان العامة.

(2) وقد دعم تلك الاتجاهات نفسها ذلك التقدم الكبير الذي تحقق من جهة أخرى في السبعينات في علوم الأعصاب Neuroscience، وذلك فيما يتعلق بفهم طبيعة المخ والجهاز العصبي وعلاقتهما بالسلوك الإنساني … فلقد كانت كل الوظائف العقلية ووظائف المخ تفسر في الماضي-كما يقول سبيري-بتفسيرات مادية بحتة «على أساس أنها محكومة بنشاط الخلايا العصبية … »، وأن هذا النشاط بدوره تحكمه قوانين الطبيعية والكيمياء الحيوية …« حتى نصل في النهاية إلى أن سلوك الإنسان محتوم بالتفاعلات الطبيعية التي تحدث داخل مكونات الذرات التي يتكون منها المخ، بمعنى أن التأثير هو دائما من أسفل إلى أعلى … إلى أن جاء التوجه «المعرفي-العقلي» الجديد Cognitive-Mentalist ليكشف عن أن الإنسان «كوحدة حية» ذات مستوى وجودي أرقى من مجرد مستوى الذرات والخلايا قادر أيضا-على هذا المستوى الإنساني-على إحداث تاثير من أعلى إلى أسفل نتيجة لظهور خصائص جديدة منبثقة على هذا المستوى لم تكن موجودة من قبل، هي الخواص «العقلية» التي تتفاعل وتؤثر كعوامل سببية على نفس هذا المستوى الأعلى من الوجود، كما أنها في الوقت نفسه تتحكم سببيا فيما هو أدنى منها من المستويات (الخلايا العصبية ومكوناتها)، ويقول سبيري معلقا على ذلك : «إن هذا التوجه يدل على أننا وهذا الكون الذي نعيش فيه أكثر من مجرد أسراب راكضة من الذرات والإلكترونات والبروتونات الدائبة الحركة … وهذه النظرة الجديدة للواقع … تتقبل الخواص العقلية والروحية كحقائق سببية فاعلة»

(Roger sperry, 1988: 609)

ولقد أدت تلك الكشوف الجديدة من جهتها إلى ثورة أخرى، ولكنها تتصل هذه المرة بالنظرة إلى طبيعة الإنسان والعوامل المؤثرة في سلوكه، حيث أزيح كابوس التوجهات الميكانيكية المادية في النظر إلى الإنسان وانفتحت آفاق البحث العلمي المشروع في الجوانب العقلية والروحية والدينية في تاثيرها على السلوك، فجاء ذلك تدعيما لتوجهات أولئك الباحثين المسلمين الذين لم يكن أمامهم في الماضي إلا أن ينكرون بألسنتهم وببحوثهم، بل ويضيفون بصائر جديدة في فهم الإنسان وسلوكه لم يكن من الممكن التوصل إليها في إطار التصورات المادية الميكانيكية التقليدية.

(3) ترتب على الاكتشافات المشار إليها في مجال علم الفيزياء الحديثة وفي مجال العلوم البيولوجية وخصوصا علم الأعصاب أن بدأ الشك يحيط بقوة بالأسس التي يقوم عليها المنهج العلمي الحديث ذاته، خصوصا فيما يتصل بالمشروعية «العلمية» لتطبيقه في الدراسات المتصلة بالإنسان والمجتمع، وذلك بعد أن ثبت أن الإغراق في الإمبيريقية Empiricism والاعتماد على الحواس وحدها كأساس للمعرفة مع استبعاد العوامل الروحية والدينية من الاعتبار عند دراسة السلوك الإنساني والترتيبات المجتمعية قد أدت إلى إعاقة تقدم العلوم الاجتماعية وكانت السبب في أزمتها الراهنة، فبدأت ثورة علمية موازية في عالم المنهج-أيضا-تطالب بإعادة النظر في مسلمات المنهج العلمي التقليدي وفتح الباب أمام ألوان أخرى من الاستبصار، مصدرها الوحي الصحيح.

وقد أزال هذا التطور المنهجي آخر الحواجز المتلفعة برداء العلم والتي كانت تحول دون المراجعة الجريئة لكثير مما درج العلماء على احترامه بل وتقديسه مما يقع في نطاق فلسفة العلم أو في نطاق المسائل المنهجية التفصيلية، وقد أدى هذا إلى فتح الباب على مصراعيه أمام الإدراك المتزايد لأهمية الوحي والأطر التصورية المستمدة منه في توجيه العلوم عامة والعلوم الاجتماعية خاصة، وقد نوقشت هذه القضايا تفصيلا في غير هذا الموضع حيث يمكن الرجوع إليها (إبراهيم رجب، 1991)، فزادت هذه الثورة الأبستمولوجية والمنهجية من الشعور بأن العالم الإسلامي مغبون كل الغبن إذا التزم أبناؤه نفس الخطوط التي التزمها علماء الغرب، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه، مما أعطى دفعة قوية أخرى لقضايا أسلمة المعرفة أو تأصيلها إسلاميا.

(4) زوال الانبهار بالتقدم المادي والتكنولوجي المعاصر بعد انكشاف الآثار المدمرة على البيئة والإنسان التي نجمت عنه مباشرة من جهة، وتلك التي نجمت من جهة أخرى عن انسياق المجتمعات المعاصرة وراء قيم الحضارة الغربية الموجهة لتلك التطبيقات التكنولوجية، والتي تركز على «قهر الطبيعة»، وعلى «النمو بأي ثمن» … تلك الآثار التي وصفها (كابرا) «بالجوانب المظلمة للنمو» والتي تتمثل في «تلوث الهواء، والضوضاء المقلقة، وازدحام الطرق بالمركبات، والتلوث الكيميائي، والمخاطر الإشعاعية، وغير ذلك من مصادر الضغوط الفيزيقية والنفسية التي أصبحت جزءا من الحياة اليومية لكل منا ..، إن هذا التركيز على التوسع (الاقتصادي) وتعظيم الربح وزيادة الإنتاجية في الولايات المتحدة وغيرها من الدول الصناعية قد أدى إلى إيجاد مجتمعات من المستهلكين المتنافسين، الذين يتم إغراؤهم على شراء واستعمال ثم إلقاء كميات متزايدة باستمرار من المنتجات المشكوك في قيمتها« والتي يتطلب إنتاجها استخدام تقنيات تستهلك المزيد والمزيد من الموارد الطبيعية، كما تتطلب استخدام كميات رهيبة من الطاقة لإنتاجها، في نفس الوقت الذي يتخلف عن إنتاجها كميات كبيرة من المتخلفات الكيماوية والنووية الخطيرة بشكل متزايد.

فإذا أضفنا إلى ذلك كله المشكلات والآثار «المرضية« الناشئة عن سوء توجيه الممارسات الطبية والصيدلية، وعن الاستخدامات غير الصحية للكيماويات في الزراعة والغذاء، وانتهاء بمشكلات تكديس السلاح النووي، فإن الصورة النهائية التي تتجمع من وراء هذا كله تشير بوضوح إلى ما يهدد البشرية كلها من مخاطر من جراء متابعة ذلك النموذج الغربي.(Capra, 1982: 249-281)

ولا شك أن هذه المراجعة لنتائج التقدم العلمي والتقني قد أسهمت في تغيير النظرة التقليدية التي كانت تمجد «التقدم» التكنولوجي والابتكارات «الحديثة» دون أي تحفظ، وأثبتت أن ما يفعله الإنسان ببيئته سرعان ما يرتد في نحره إن عاجلا أو آجلا، وأنه ليس هناك من بديل عن التعامل المسئول مع البيئة، مما قوى حجة من ينظرون للإنسان على أنه مستخلف في الأرض التي سخرت من أجله، وأنه مسئول عن رعايتها والمحافظة عليها-تلك القيم النبيلة التي تبين للإنسان المسلم أنه يملكها رغم تخلفه التكنولوجي، وأصبح يتطلع إلى ذلك اليوم الذي يستطيع فيه ان يسهم في التقدم التكنولوجي ولكن من منظور مهتد بهدى الله خالق الأرض والسموات.

(5)  ازدياد ثقة الشعوب الإسلامية بدينها وشريعتها ونظمها بعد أن شهدت فشل حكوماتها المتعاقبة في تجاربها السياسية التي تبنت فيها كل أشكال نظم الحكم الوضعي العلمانية المعروفة في عصرنا، وبعد أن تبين لكل ذي بصر وبصيرة أن استمرار التخلف والفساد في المجتمعات الإسلامية لا علاج له إلا بتبني القيم والنظم الإسلامية الإلهية، ليس فقط فيما يتصل بالنظم السياسية بل والاقتصادية والتعليمية والاجتماعية بالمعنى الشامل، بوالطاعة المطلقة لله سبحانه وتعالة فيما أمر ونهى، سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الدول، أو على مستوى الفكر والمنهج والممارسة.

(6)  قيام الجامعات الإسلامية بإنشاء كليات وأقسام للعلوم الاجتماعية على أمل «التوجيه الإسلامي» لتلك العلوم وما تضمها من تخصصات، وشعور القائمين بالتدريس في تلك الكليات بالتنافر المعرفي العنيف الناتج عن قيامهم بتدريس تلك العلوم الاجتماعية المنطلقة في كثير من مصادرها الأصلية من فكر إلحادي نشط (أو على الأقل فكر علماني منبت الصلة عن كل ما يتصل بالله واليوم الآخر) في جامعات «إسلامية» يفترض منطقيا أن يكون كل ما يدرس فيها ملتزما بالأطر التصورية للإسلام، ولا شك أن هذا الموقف الصعب قد حفز الكثيرين من القائمين بتدريس العلوم الاجتماعية في الجامعات الإسلامية، بل وغيرها من الجامعات لبذل مزيد من الجهد ليس فقط لمراجعة ما يدرسونه لطلابهم وعرضه على الكتاب والسنة، بل والاجتهاد في النظر فيما يتطلبه التصور الإسلامي بالنسبة لتخصصاتهم الحديثة.

وبتأثير هذه التطورات الجذرية كلها-سواء منها ما كان على مستوى العلم وما كان على مستوى العالم-فقد شهدت الأوطان الإسلامية في السنوات الأخيرة تلك الانبعاثية الإسلامية المباركة بأبعادها الشاملة (وليس فقط بما اصطلح على تسميته بالصحوة الإسلامية التي كانت جوانبها السياسية أكثر ظهورا من غيرها) التي جاءت تأويلا واقعيا لقوله تعالى : (سنريهم ءاياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) (فصلت : 53) والتي تبينت أنه لا صلاح لهذه الأمة، ولا نجاة لها مما يدبره لها أعداؤها المتربصون، ولا فلاح لها في الآخرة، إلا بأن تعيد النظر في كل من شئون حياتها لتزنه بميزان الإسلام، وبأن تقيم كل نظمها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية على عمد مما شرعه الله وارتضاه لهم دون تردد أو نكول. وقد جاء هذا تصديقا لما سبق أن أوضحناه من أن استعادة التوافق بين النظم والمؤسسات التي يحيا الناس في إطارها وبين القيم والمعتقدات التي يدينون بها هو من الشروط الرئيسة لفاعلية عملية التنظيم الاجتماعي في تحقيق أهداف المجتمع.

ولقد صاحب تلك الانبعاثة المباركة، أو كان بمثابة القلب منها، أو كان أثرا من آثارها الكبرى، الشعور بضرورة التوجيه الإسلامي للعلوم والمهن في كل مناحي الحياة، وقد جاءت هذه الحركة التي بدأت التي بدأت بالمطالبة «بأسلمة المعرفة» بمثابة القطب الذي انتظمت حوله الجهود المتفرقة التي كانت تتوق دوما للربط بين الإسلام والخدمة الاجتماعية؛ مما أعطى جهود التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية دفعة كبرى منذ بداية الثمانينات، حيث اتسع وتعمق نطاق الشعور بأن نماذج الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية المستمدة من المنهج الغربي العلماني للحياة لا يمكن أن يتحقق منها الخير لأمة الإسلام التي تؤمن بالله واليوم الآخر، والتي تعلم علم اليقين أن كل وجه من أوجه حياة الفرد المسلم والمجتمع المسلم تتأثر أشد التأثر بذلك الإيمان وبمقتضياته.

فلم يعد مفهوما ولا مقبولا أن يتعامل الأخصائي الاجتماعي مع العميل وكأن صلة هذا العميل بربه لا تعني شيئا بالنسبة للمشكلة التي يعاني منها، أو كأنها لا تعني شيئا بالنسبة لنوع المساعدة التي يصلح أن تقدم إليه لمعاونته على حلها.

وإذا كان هناك البعض ممن ترددوا في القبول بهذه الثورة العلمية الجديدة في محيط الخدمة الاجتماعية فيبعض الدول الإسلامية، تحت وطأة الألف والاعتياد لتلك النماذج الغربية التي قضوا العمر في تحصيلها، فإن بعض علماء الخدمة الاجتماعية الغربيين أنفسهم قد بدأوا يشعرون بأنه من المستحيل أن تقدم الخدمة الاجتماعية مساعداتها للناس دون اكتراث بقيمهم الدينية وأشواقهم الروحية، بحجة الحياد القيمي والموضوعية التي ورثتها المهنة عندهم من الاتجاهات الإمبيريقية المتطرفة التي طفت على سطح المنهج العلمي التقليدي في البحث ردحا طويلا من الزمن، فأوضح جوزيف هيس مثلا : أن أساس «أزمة الهوية« التي تعاني منها الخدمة الاجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية-يكمن في إهمال البعد الروحي في الممارسة (Joseph Hess, 1980 : 59-66)

كما بين مارتن مارتي في مقال هام بعنوان «الخدمات الاجتماعية : مؤمنة أم كافرة» أن إهمال الدين في كتابات وممارسات الخدمة الاجتماعية يؤدي إلى وجود «فجوة في التصور بين الأخصائيين الاجتماعيين وبين الناس الذين تقدم لهم الخدمات الاجتماعية، فأولئك الناس قد تكون لديهم دوافع تحركها الرغبة في إيجاد معنى لحياتهم، لكن تلك الدوافع والرغبات لا تجد أذنا صاغية عند الأخصائي الاجتماعي الذي يستبعد في لغته المتخصصة أي اهتمام بهذه النواحي» (Martin Marty, 1980 : 463-465)، أما سوسبنسر، فقد تساءلت قبل ذلك بسنوات طويلة، وبعبارات تتضمن العجب الشديد من هذه التوجهات العلمانية في إعداد الأخصائيين الاجتماعيين وممارستهم بقولها : «إذا كانت هذه الحاجات والدوافع الروحية هي جزء لا يتجزأ من حياة تلك الأعداد الكبيرة من الناس، وإذا كان استخدام العقيدة الدينية له تلك القيمة الحقيقية أو المحتملة بالنسبة لهذه الأعداد الغفيرة من الناس فإن المرء ليتساءل عن أسباب تردد الأخصائيين الاجتماعيين في الاعتراف بتلك الحاجات ومقابلتها … » (Sue Spencer, 1957 : 527)

ويحق لنا أن نشارك سبنسر العجب-بل والدهشة الشديدة-إذا وجدنا بين ظهرانينا من يؤمنون بالله واليوم الأخر، ولكنهم يجدون حرجا في أن تنطلق نظريات الممارسة المهنية في الخدمة الاجتماعية من منظور الإسلام، وقد يكون لبعض هؤلاء عذر أو شبهة ناشئة من بعض الالتباس الذي قد يقع لديهم حول مفهوم التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية (أو التاصيل الإسلامي للخدمة الاجتماعية)، من هنا فقد يكون من المناسب أن ننتقل الأن إلى التعريف بمفهوم التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية، وتمييز ما هو أصيل بالنسبة لهذا المفهوم مما هو عارض، ثم تحديد أبعاد التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية، والإشارة إلى بعض الجهود التي بذلت في هذا السبيل.

الفصل الثالث :

مفهوم التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية

(1) التوجيه الإسلامي للعلوم :

لعل من المناسب أن نقدم لمناقشتنا لمفهوم التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية بإيراد التعريف الكلاسيكي «لأسلمة العلوم» الذي قدمه الدكتور إسماعيل الفاروقي-رحمه الله-في عام 1982، والذي لقى قبولا واسعا لدى المتخصصين في مختلف العلوم والمهن، حيث عرف أسلمة العلوم ببساطة بأنها «إعادة صياغة العلوم في ضوء الإسلام» … (إسماعيل الفاروقي، 1982 : 14)

وقد فصل المقصود بذلك بقوله : إن ذلك يتضمن «إعادة تحديد وترتيب المعلومات، وإعادة تقويم النتائج وإعادة تصور الأهداف، وأن يتم ذلك بطريقة تمكن … من إثراء وخدمة قضية الإسلام» (إسماعيل الفاروقي، 1986 : 54)

وقد بين الفاروقي أن تحقيق أهداف أسلمة العلوم أو إسلامية المعرفة (كما ترجمها البعض) يتطلب :

1-فهم واستيعاب العلوم الحديثة في أرقى حالات تطورها، والتمكن منها، وتحليل واقعها بطريقة نقدية لتقدير جوانب القوة والضعف فيها من وجهة نظر الإسلام.

2-فهم واستيعاب إسهامات التراث، المنطلق من فهم المسلمين للكتاب والسنة في مختلف العصور، وتقدير جوانب القوة والضعف في ذلك التراث في ضوء حاجة المسلمين في الوقت الحاضر، وفي ضوء ما كشفت عنه المعارف الحديثة.

3-القيام بتلك القفزة الابتكارية الرائدة اللازمة لإيجاد «تركيبة» تجمع بين معطيات التراث الإسلامي وبين نتائج العلوم العصرية بما يساعد على تحقيق غايات الإسلام العليا (الفاروقي، 1982 : 17-21).

والتوجيه الإسلامي للعلوم في إطار هذا الفهم يقوم على أساس من عدم التفريط في النتائج العلمية التي توصل إليها المتخصصون في العلوم الحديثة، بشرط ألا نعزو لتلك النتائج أي قدر من الصدق Validity يخرج عما تستحقه في ضوء التحليل النقدي الرصين، كما يقوم التوجيه الإسلامي للعلوم من جهة أخرى على الاعتقاد بأن العلم-شأنه في ذلك شأن أي نشاط إنساني آخر مما يقوم به المسلم في حياته الدنيا-ينبغي أن يهتدي بنور العقيدة الصحيحة، وأن ينضبط بضوابط الشريعة، وبالتالي فإن هذا التوجه يجمع بين الإفادة من هداية الوحي ومن اجتهاد البشر بطريقة تتمشى بشكل دقيق مع ما قصد لكل منهما من وظيفة في التصور الإسلامي.

وفي ضوء هذا الفهم يتبين لنا أن إعادة النظر في محتوى العلوم والمهن ومناهجها من منظور الإسلام (أو التوجيه الإسلامي للعلوم) يستحيل أن يكون كما قد يتصور البعض «نظرة إلى الوراء … (أو) حركة ارتداد للخلف» (عبد الحليم رضا، 1989 : 197)؛ وذلك لأن التوجيه الإسلامي للعلوم يقوم-كما رأينا-ضمن ما يقوم على «استيعاب العلوم الحديثة في أرقى حالات تطورها» استيعابا يمكننا من نقد نتائج تلك العلوم … «على علم»، بحيث نستطيع الاستفادة مما فيها من نتائج صحيحة، ولكن مع القدرة في الوقت ذاته على «تجاوز» تلك النتائج بشكل بناء كلما اقتضى الأمر ذلك.

كما يتبين لنا أن التوجيه الإسلامي للعلوم لا يقصد به مجرد الرجوع إلى إسهامات علماء المسلمين الأوائل للاستفادة منها، أو الاعتماد على المصادر الشرعية وحدها في التوصل إلى السنن والقوانين الجزئية، وإنما الأمر يتطلب فوق هذا وذلك إيجاد «تكامل حقيقي» بين ما تمدنا به تلك الإسهامات والمصادر من تطور إسلامي للإنسان والمجتمع والكون، وبين نتائج تلك العلوم الحديثة مما يوصلنا إلى فهم أفضل للظواهر الإنسانية يعيننا على حسن التعامل مع الإنسان ومشكلاته بطريقة فعالة وواقعية.

2-التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية :

وفي ضوء هذا التحديد لمفهوم التوجيه الإسلامي للعلوم بصفة عامة، فإننا نستطيع تعريف التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية بأنه « عملية بلورة أبعاد التصور الإسلامي للطبيعة البشرية، والسنن النفسية والاجتماعية التي تحكم السلوك البشري والتنظيمات المجتمعية، وكذلك لأسباب المشكلات الفردية والاجتماعية، واستخدام هذا التصور لتفسير الحقائق العلمية الجزئية التي تعتمد عليها المهنة، ولتوجيه القيم المهنية التي تبنى عليها نظرية الممارسة وأساليب التداخل المهني»، ومن هذا التعريف يتبين لنا ما يلي :

1-أن التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية «عملية» مستمرة تتطلب القيام بإجراء منهجية منظمة للوصول إلى نتائج معينة، حيث تتراكم تلك النتائج باضطراد بشكل يقربنا من الهدف المتمثل في إعادة صياغة معارف المهنة ومبادئها وطرقها في التدخل بشكل لا يجوز القول فقط بأنه «يتمشى» مع التصور الإسلامي، ولكن نقول إنه «ينطلق» من هذا التطور ويهتدي بهداه بشكل أساسي.

2-أن عملية التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية ستتطلب في البداية بذل جهود نشطة ومكثفة وواسعة النطاق، حتى نتمكن من بلورة ذلك التصور الإسلامي واستكشاف أبعاده والتعرف على حدوده، ثم إسقاط هذا التصور على نظرية الممارسة الحالية واستبعاد ما لا يتوافق معه، ثم البناء على قواعد هذا التصور وعلى ما يصمد من الأطر التصورية التفصيلية المستمدة من المشاهدات المحققة ومن خبرات الممارسة، حتى يبلغ الأمر غايته بظهور نظرية الممارسة المنطلقة من التصور الإسلامي (المواكب لمستوى المعرفة العلمية المتاحة عند تلك النقطة من الزمن)، حتى إذا انتهينا غلى مرحلة الاستواء-التي يصبح فيها هذا التوجه هو التوجه السائد The paradigm-فإن إيقاع النشاط العلمي يعود إلى معدلة الطبيعي المعتاد الذي لا تحده إلا حدود الإمكانات البشرية والمادية والتكنولوجية، والذي يحدوه فضل الله سبحانه وتعالى وما قدره للناس من رزق «معرفي» ببالغ حكمته ورحمته.

3-أن من الطبيعي أن يقدم التعريف مهمة «بلورة التصور الإسلامي» على غيرها من المهام، باعتبارها تمثل «البعد الغائب» في التصورات التقليدية للخدمة الاجتماعية (وغيرها من المهن والعلوم الاجتماعية) على الوجه الذي وصلتنا به من الغرب، فمراجع الخدمة الاجتماعية وممارساتها غاصة بالمعارف المستمدة من إسهامات العلم الحديث-أيا كانت قيمتها الحقيقية، وأيا كانت درجة رضائنا عن وصف تلك الإسهامات بالعلمية أصلا- كما أنها غاصة بنظريات الممارسة وطرق التدخل المنطلقة من المنطلقات الغربية، وليست قضية التوجيه الإسلامي اليوم- كما يظن بعض المتعجلين للنتائج-هي قضية ترجيح أي من هذه المنطلقات النظرية على الآخر بزعم أنها أقرب للتصور الإسلامي، ولكن قضيتنا الأساسية هي أولا وقبل كل شيء هي قضية تحديد أبعاد «التصور الإسلامي» الذي يمكننا في ضوئه الحكم على تلك المنطلقات أو الإضافة إليها.

4-ويلاحظ أن «التصور الإسلامي» للطبيعة البشرية وللسنن النفسية والاجتماعية، ولأسباب المشكلات الفردية، لم تتم خدمته حتى الآن بطريقة منظمة تصلح للاستفادة منها بشكل مباشر في صياغة نظريات الممارسة في الخدمة الاجتماعية، والمهنة أحوج ما تكون اليوم إلى بلورة ذلك التصور وصياغته في شكل قضايا تضمها أنساق استنباطية يمكن أن تستمد منها الفروض لاختبارها في الواقع، كما يمكن ضمها في جوانبها «القيمة» إلى المشاهدات «المحققة واقعيا» لتكوين نظرية الممارسة.

5-وبهذا تتحدد وظائف «التصور الإسلامي» المستمد من فهمنا للكتاب والسنة الصحيحة في مقابل المصادر الاجتهادية التفصيلية «البشرية» للوصول إلى المعرفة (والتي تتمثل في الملاحظات الجزئية التي يتم التوصل إليها باستخدام إجراءات المنهج العلمي الصحيح، كما تتمثل في المبادئ التي تم التوصل إليها من خلال خبرات الممارسة) على الوجه التالي :

أ-التصور الإسلامي للطبيعة البشرية وللسنن النفسية والاجتماعية، ولأسباب المشكلات الفردية والاجتماعية، يعتبر بمثابة «الإطار النظري» الذي يفسر ويربط بين المشاهدات أو الملاحظات الجزئية المحققة، كما يقدم الفروض التي توجه إلى مزيد من البحوث بما يخدم القاعدة المعرفية للمهنة.

ب-يوجه هذا التصور الإسلامي جهود المهنيين في الممارسة-حتى في الجوانب التي لم يتم التحقق من صدقها بعد بطريقة علمية منظمة-ويصبح هذا التصور بالتالي جزءا لا يتجزأ من عناصر الإطار الفكري الذي يتم في ضوئه التوصل إلى «خبرات» الممارسة التي يمكن تعميمها (والتي تسمى في الكتابات المهنية «حكمة الممارسة»)

جـ-يعتبر «التصور الإسلامي» المشار إليه حجر الزاوية في تحديد القيم والأهداف النهائية التي تتم الممارسة في ضوئها، وذلك على اعتبار أن هذا التصور يتضمن توصيف الأهداف النهائية والشاملة لحياة البشر (العملاء منهم والأخصائيين الاجتماعيين) كما يتضمن التوجيهات الإلهية لصلاح حياتهم في الدنيا ولحسن عاقبتهم في الآخرة، وبطبيعة الحال، فإن هذا التصور الشامل يترك مجالا لقيم تفصيلية ومبادئ محددة تلائم مختلف المواقف التي تواجه الأخصائي الاجتماعي خلال عمله اليومي، وهذه لابد فيها من اجتهادنا البشري في ضوء التصور الشامل وفي إطاره.

6-وهذا يقودنا إلى ما جاء في نهاية التعريف مما يشير إلى مكان الاجتهاد البشري في التوصل إلى، والاستفادة من الدراسة العلمية المنظمة للظواهر، وإلى استنباط المبادئ الجزئية التفصيلية الموجهة للمواقف العملية المحددة، وإلى ابتكار أساليب التدخل الإجرائية الملائمة، مما يفتح الباب على مصراعيه أمام الاستفادة بنتائج البحوث العلمية الحديثة، سواء في العلوم التأسيسية، أو في بحوث الخدمة الاجتماعية ذاتها، والاستفادة مما يتبلور لدى غيرنا من مبادئ جزئية أو من طرق حديثة للتدخل، على أن يتم ذلك كله في نطاق التصور الإسلامي الشامل على الوجه المشار إليه.

وإذا ما حاولنا تقدير موقفنا الراهن في ضوء هذا التعريف يتبين لنا أننا لازلنا في بداية الطريق نحو التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية، فبالرغم من أن المكتبة الإسلامية زاخرة-والحمد لله-بالمراجع والكتب القيمة في مختلف فروع المعرفة الشرعية، فإننا لازلنا بحاجة إلى جهود كبيرة تبذل لاستخلاص ما تحتاجه في محيط الخدمة الاجتماعية من صياغة «التصور الإسلامي» للإنسان والمجتمع والكون في شكل قضايا مترابطة تمثل نسقا استنباطيا يمكن استخدامه بشكل مباشر في توجيه نظريات الممارسة المهنية، وبطريقة يمكن أن نستمد منها فروضنا العلمية لاخختبارها في بحوث الخدمة الاجتماعية.

كما أننا لم نكد نبدأ بعد مهمة المراجعة النقدية الجادة للكتابات الحديثة في محيط الخدمة الاجتماعية في ضوء التصور الإسلامي، ولازالت نظريات الممارسة المنطلقة من الأنساق القيمية للمجتمعات التي تقدمت فيها الخدمة الاجتماعية-خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية-توجه الكتابات المهنية للخدمة الاجتماعية في كل أرجاء العالم الإسلامي، باستثناء محاولات محدودة الحجم والأثر على ما يتم تدريسه رسميا في إطار الخطط الدراسية ومحتويات المقررات في كليات وأقسام الخدمة الاجتماعية.

أما عن مهمة إيجاد «التكامل الحقيقي» بين نظريات الممارسة المهنية الحديثة من جانب وبين التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والكون من جانب آخر، فإن من الواضح أن تلك المهمة لاتزال تنتظر تحقيق التقدم على الجبهتين السابقتين حتى يمكن أن تبدأ. ومع ذلك فإن معالم الطريق-لله الحمد-واضحة، وحاجتنا الحقيقية هي إلى أن نعقد العزم، ونعد العدة، ونجد السير، قالنور واضح في نهاية النفق المظلم-كما يقولون-ومن هنا فقد يكون مما يفيد هذه المسيرة المباركة أن نجتهد هنا لوضع الخطوط والمؤشرات العامة حول أبعاد التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية، قصد منها أن تكون بمثابة نقاط مبئية يمكن أن يبدأ حولها الحوار العلمي، الذي نرجو أن يعين-بمشيئة الله-على بلوغ الهدف وتحقيق المأمول بفضله وإكرامه.

الفصل الرابع :

أبعاد التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية

إذا كانت الخدمة الاجتماعية كمهنة تستهدف «مساعدة الإنسان» كفرد أو كعضو في جماعة أو مجتمع على مواجهة «مشكلاته» وإشباع حاجاته، مع تنمية قدراته إلى أقصى حد ممكن، فإنه من الواضح أن عملية المساعدة لابد أن تكون مبنية في الأساس على فهم كاف «لموضوع« تلك الجهود المهنية … ألا وهو «الإنسان» سواء من حيث طبيعته ومكوناته التي ركب منها، أو من حيث ديناميات التفاعل بين تلك المكونات.

حتى إذا اتضحت لدينا الصورة حول طبيعة الإنسان ومكوناته التي ركب منها، لزمنا أن نتعرف على السنن والقوانين التي تحكم سلوك ذلك الإنسان كفرد، وتلك التي تحكم علاقاته مع غيره، إضافة إلى تلك التي تحكم البناء الاجتماعي والثقافي الذي تتم تلك العلاقات في إطاره، وذلك على اعتبار أن معرفتنا بتلك السنن تساعدنا من جهة على تفسير السلوك الإنساني في حال السواء، كما تقدم لنا من جهة أخرى معيارا لمضاهاة السلوك عليه في حالة الانحراف.

ولكن لما كانت الخدمة الاجتماعية منذ بدايتها التاريخية الأولى وحتى اليوم تهتم اهتماما خاصا بمساعدة أولئك الذين يواجهون «مشكلات» أو صعوبات في أدائهم لوظائفهم الاجتماعية، وهو ما يمثل الجانب العلاجي من التدخل المهني، كما تهتم بإزالة الظروف والمؤثرات التي يمكن أن تؤدي إلى الانحراف معاونة على حماية الناس من الوقوع في مثل تلك المشكلات، وهو ما يمثل الجانب الوقائي من التدخل المهني، (في نفس الوقت الذي تعمل فيه بالطبع على إتاحة الفرص أمام الناس لاستثمار طاقاتهم وتحقيق ذواتهم إلى أقصى حد ممكن، وهو ما يمثل الجانب التنموي من التدخل المهني)، فإن فهم الأسباب والعوامل المؤدية إلى حدوث الشكلات الفردية والمشكلات الاجتماعية يمثل أساسا لازما لتصميم برامج التدخل المهني في جوانبها العلاجية والوقائية على أساس واقعي.

ولما كانت سياسات وبرامج ومؤسسات الرعاية الاجتماعية والتنمية الاجتماعية تمثل الوعاء الذي تتم في إطاره الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية، فإن وضوح التصور الإسلامي للأسس التي تقوم عليها تلم السياسات والبرامج والمؤسسات يعتبر شرطا لازما منه لنجاح جهود التدخل المهني.

وأخيرا فإن استجلاء جوانب كل بعد من الأبعاد الأربعة السابقة، ووضوح العلاقات فيما بينها في ترابطها وتسلسلها، يمهد الطريق-بشكل منطقي-لوضع الأسس العامة «النظرية الممارسة« في الخدمة الاجتماعية، والتي تشمل المواقف والأعراض التي تتطلب التدخل، كما تشمل الأهداف التي يوجه نحوها العمل المهني في كل نوع من تلك المواقف، إضافة إلى استراتيجيات وأدوات التدخل الملائمة لكل منها.

ومما سبق فإننا نستطيع أن نحصر «الأبعاد الأساسية» التي ينبغي أن تنصب عليها جهودنا لإعادة بناء الخدمة الاجتماعية وفق التصور الإسلامي-والتي ألمحنا إليها ضمنا في تعريف التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية- في الأبعاد الخمسة الآتية :

1-الطبيعة البشرية في المنظور الإسلامي.

2-السنن النفسية والاجتماعية.

3-تفسير المشكلات الفردية والمشكلات الاجتماعية.

4-سياسات وبرامج الرعاية الاجتماعية والتنمية الاجتماعية.

5-طرق وأساليب التدخل المهني للخدمة الاجتماعية.

والمتأمل لهذه القائمة يتبين له على الفور أن مهمة التأصيل الإسلامي للأبعاد الثلاثة الأولى إنما تقع أساسا في نطاق اختصاص المشتغلين بعلم النفس، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم الاجتماع كشركاء أصليين، إضافة إلى المتخصصين في علم الاقتصاد والعلوم السياسية كشركاء متضامنين، وكان المشاهد أن المتخصصين في هذه العلوم «النظرية»-إذ ينصب اهتمامهم الأولي على الفهم والتفسير وبناء النظريات-فإنهم عادة ما يستغرقون في جهودهم لتأصيل علومهم إسلاميا وقتا أطول بكثير مما يأمله منهم المتخصصون في المهن المستفيدة من علومهم (كالتربية والعلاج النفسي والخدمة الاجتماعية)

وقد يرجع السبب في هذه الفجوة الزمنية بين رجال التنظير ورجال الممارسة إلى متطلبات الإجراءات المنهجية التي يتعين على المتخصصين في تلك العلوم الوفاء بها قبل غصدار أحكامهم العلمية سواء على صعيد البحوث أو على صعيد النظرية، كما قد يرجع إلى ألوان المقاومة والتحرج المألوفة والمتوقعة عند العلماء عندما يواجهون مواقف تتطلب تعديلات جوهرية في أطرهم النظرية أو في «التوجيه العلمي السائد» الذي يتبعونه إذا استخدمنا تعبير توماس كون Kuhn ; 1970) كما قد يرجع السبب في تلك الفجوة إلى اختلاف درجة إلحاح أو ضغط الزمن على كل من الفريقين، فرجال العلوم النظرية يملكون كل الوقت الذي يشاءون لإجراء بحوثهم واتنباط أطرهم النظرية وإجراء التعديلات عليها، في حين أن رجال الممارسة تقع عليهم ضغوط أشد كثيرا لاتخاذ قرارات لا إمهال فيها، وليس أمامهم من سبيل إلا الاسترشاد بأفضل ما هو متاح أمامهم من معرفة في اتخاذ تلك القرارات.

ولهذا السبب فإنه ليس أمام المتخصصين في الخدمة الاجتماعية مفر من أن يأخذوا زمام المبادرة بأيديهم لتأصيل تلك الأبعاد الثلاثة (ضمن بقية أبعاد التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية)، بدءا من مسح الكتابات التي تتعرض بشكل أو آخر لعملية تأصيل تلك الأبعاد الثلاثة في مصادر العلوم النظرية المشار إليها، إلى محاولة إيجاد قدر من التكامل بين تلك الإسهامات في مختلف العلوم في حدود الإمكان، بل والاجتهاد وسع الطاقة للإدلاء بدلولهم أيضا في عملية تأصيل تلك الأبعاد في ضوء خبرتهم المباشرة، على اعتبار أن هذا الموقف أفضل بكثير من مجرد الانتظار-الذي قد يطول-حتى يقوم الزملاء المتخصصون في تلك العلوم الأخرى بتلك المهام بأنفسهم، هذا علاوة على أننا إذا أخذنا الماضي دليلا على ما يكون في المستقبل فإننا لا تتوقع ان يبذل المتخصصون في كل علم من تلك العلوم جهودا كافية لإيجاد «التكامل» مع العلوم الشقيقة الأخرى؛ وذلك لانشغال كل فريق من العلماء بما يعدونه «قلب التخصص»، وعدم الاهتمام بما يعدونه «هامش» التخصص، رغم أن الواقع الذي نتعامل معه نادرا ما يعرف هذه التفرقة المصطنعة.

ولعل من أهم الواجبات التي يتعين على المتهمين بالتوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية القيام بها، بلورة «الافتراضات الأساسية» حول الإنسان والمجتمع والكون التي يقوم عليها التصور النظري لكل هذه الأبعاد الخمسة جميعا، وذلك من خلال المحاولة الجادة لإيجاد تكامل حقيقي بين معطيات التصور الإسلامي من جهة وبين معطيات العلوم الحديثة من جهة أخرى، ولكن ما الذي نقصده بتلك الافتراضات الأساسية ؟ وما علاقتها بالتصور النظري المنطلق من منظور إسلامي ؟

إذن معظم طلاب العلم المبتدئين لا يتصورون أن النظريات التي يدرسونها مبنية على أي افتراضات أو مسلمات «غير محققة علميا» عن طبيعة الإنسان والمجتمع والكون؛ وذلك لأنهم لا يقعون عادة على مثل تلك الافتراضات والمسلمات معروضة بشكل ظاهر ومحدد في الكتابات التي تعرض تلك النظريات، وقد يظن بعضهم أن تلك النظريات مبنية من ألفها إلى يائها على مشاهدات تم التحقق من صدقها؛ وبالتالي فلا مجال للتساؤل عن مدى إمكان الاعتماد عليها، وأخيرا فإنهم قد يتوهمون بأن أمثال تلك الافتراضات أو المسلمات، سواء كانت جزءا من النظرية في قليل أو كثير ما دامت تلك الافتراضات أشياء «مسلما بها»، وقد يظنون أن تناول مثل تلك الأمور المجردة بالبحث والتقصي إنما هو من باب التفلسف او الترف العقلي الذي هم في غنى عنه.

وليس هناك أمر أبعد من الحقيقة عن تلك التصورات والظنون، فكل العلماء المهتمين ببناء النظريات يجمعون على أن كل نظرية تقوم بالضرورة على عدد من الافتراضات التي يسلم بها أصحاب النظريات دون إخضاعها للبحث والتحقق العلمي، أو حتى دون أن تكون قابلة أصلا للتحقق من صحتها إمبيريقيا (Black $ Champion, 1976 : 59)، ولكن هذه الافتراضات تكون معلنة أحيانا ومضمرة ضمنية في كثير من الأحيان، وغالبا ما تكون مستمدة من الإطار الثقافي الأشمل للمجتمع وملونة لانحيازاته القيمية، ومن هنا فإنها تصبغ التفسيرات التي تفسر بها النظرية مجموعة الحقائق العلمية التي تم الوصول إليها من خلال البحوث الواقعية (Kenneth Hoover, 1980 : 74-75)، ويؤكد (مايردال) هذا المعنى في بحثه الشهير حول التفرقة العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية وما تقوم عليه من افتراضات ضمنية ومن انحيازات قيمية، حيث شبه تلك الافتراضات وصور صعوبة الفكاك منها بأنها «كالضباب الذي يغلفنا به ذلك النوع الذي نأخذ به من الثقافة الغربية، فالمؤثرات الثقافية قد حددت الافتراضات التي ننطلق منها بصدد العقل والجسد والكون، (فهذه المؤثرات الثقافية) تطرح الأسئلة التي نلقيها، وتؤثر في الواقع التي نلتمسها، وتقرر التفسير الذي نعطيه لهذه الوقائع، وتوجه ردود أفعالنا إزاء هذه التفسيرات والاستنتاجات» (أجروس وستانسيو : 144).

إذن فإن هذه الافتراضات المعلنة أو الضمنية تكون بمثابة القواعد او الأعمدة المختفية التي يبنى عليها صرح النظرية الظاهر للعيان، ولكنها رغم خفائها تؤثر أبلغ الأثر على الشكل العام أو البناء العام للنظرية، فإذا كانت تلك الافتراضات صحيحة وكافية كان هذا أدعى لقوة النظرية واتساقها ومطابقتها للواقع، أما إذا كانت خاطئة أو جزئية أو اختزالية Reductionist (تحيل بعض العوامل إلى ما هو أقل منها قدرة على التفسير، أو تحذف متغيرات هامة تعسفا) فإننا قد نجد أنفسنا أمام موقف مدهش، تكون فيه الحقائق الجزئية التي تضمها النظرية صحيحة، ولكنها تكون في الوقت ذاته قائمة على قواعد متهاوية أو منهارة، وبلغة أخرى فإن النظرية في هذه الحالة تكون صحيحة بمعنى، وغير صحيحة بمعنى آخر، مما يؤدي إلى كثير من الخلط، فهي صحيحة بمعنى أنها تضم مجوعة من المشاهدات المحققة والثابتة، ولكنها غير صحيحة بمعنى أنها لا تصدق إلا في إطار محدود ومعين في ضوء الافتراضات التي تم جمع البيانات حول تلك الحقائق في ظلها، فإذا كانت تلك «الافتراضات» غير صحيحة أو غير كاملة لزم عن ذلك أن النظرية بأسرها تكون غيرصحيحة أو غير كاملة تبعاً للقاعدة التي أقيمت عليها و وهذا تماماً هو الموقف الذى اتخذه ( السير جون إيكلز Eccles) في تقويمه لإسهامات المدرسة السلوكية, إذ يقول :  «إننى … أويد كل التأييد البحوث العلمية عن السلوك وردود الفعل الشرطية, بل وجميع البرامج الحالية لعلم النفس السلوكى … على أننى أختلف اختلافاً جذرياً مع السلوكيين في دعواهم بأنهم يقدمون تفسيراً كاملاً لسلوك الإنسان, لأن ( السلوكية) تتجاهل تجاربي الواعية … التي تشكل في نظرى .. الحقيقة الأولى» ( أجروس وستانسيو : 119) .

وفي نطاق نظريات علم الاجتماع يقول ألفين جولدنر :«سواء أعجبك هذا أو لم يعجبك …. وسواء عرفت ذلك أ, لم تعرفه …. إن علماء الاجتماع يصممون بحوثهم في إطار افتراضاتهم المسبقة … فإذا أردت التعرف على طبيعة أى توجه سوسيولوجى فإن الأمر يتطلب منك … في ضوء عذا أن تحدد الافتراضات العميقة التي يقوم عليها ذلك التوجه فيما يتصل بالإنسان والمجتمع,… وأنا إن أردت فهم طبيعة أى توجه نظرى فإننى لا أنظر في المناهج التي يستخدمها وإنما أنظر- بدلاً من ذلك – في الافتراضات التي يقوم عليها من حيث نظرته للإنسان والمجتمع …», وتضيف ( بولوما) (poloma, 1979:1) التي أوردت هذا النقل عن ( جولدنر) أن «كل نظريات علم الاجتماع تقوم على افتراضات حول طبيعة الإنسان وطبيعة المجتمع, وأن هذه الافتراضات تعتبر الأساس الذى يقام عليه بناء الأطر النظرية المختلفة …. والمتخصصون في علم الاجتماع غالباً ما يعمون عن الافتراضات التي تحتويها أطرهم النظرية» .

ومن هنا, فإننا نرى أن من واجبنا فيما يلي أن نمتحن بعض الافتراضات الأساسية التي تقوم عليها نظريات العلوم الاجتماعية ونظرية الممارسة في الخدمة الاجتماعية فيما يتعلق بكل بعد من الأبعاد الأساسية لعملية التوجيه الإسلامى للخدمة الاجتماعية, مع مقارنتها بما نظنه مبدئياً يتمشي مع التصور الإسلامى لتلك الأبعاد, لعلنا نكتسب شيئاً من الاستبصار بتلك المهمة, ولعلنا نوفق في الإشارة إلى بدايات الطريق في اتجاه انطلاق الخدمة الاجتماعية من منظور الإسلام .

المبحث الأول :

الطبيعة البشرية في المنظور الإسلامى

لو أننا قمنا بتحليل الافتراضات الأساسية التي تقوم عليها نظريات علم النفس الحديث فيما يتل بالطبيعة البشرية لوجدنا مع كارل روجرز أن «لكل تيار في علم النفس فلسفته الضمنية الخاصة به عن الإنسان, وهذه الفلسفات – وإن كانت في الأغلب لا تطرح بصراحة – ( فإنها) تمارس نفوذها بأساليب خفية …. فالإنسان عند السلوكى مجرد آلة, آلة معقدة, ولكنها مع ذلك قابلة للفهم ( كآلة), وفي وسعنا أن نتعلم كيف نؤثر فيه …. ليفكر … ويتحرك …. ويتصرف بالطرائق التي نختارها له . والإنسان عند الفرويديين كائن غير عقلانى, رهين ماضيه بلا فكاك, وحصيلة لذلك الماضي, أى ( حصيلة) عقله اللاواعى …», ويضيف أجروس وستانسيو إلى هذا النقل عن روجرز قولهم بأن نظريات علم النفس تنظر للإنسان على أنه «مجرد كائن مادى» .., حيث ترى السلوكية  مثلاً أن «جسم الإنسان هو الحقيقة الإنسانية الوحيدة», أما فرويد فإنه يبدأ دراسته مفترضاً أنه «لا وجود ألا للمادة» (79 – 84, 120).

ومن الطبيعى أن من يسلمون بمثل هذه الافتراضات المختزلة حول الطبيعة الإنسانية, والتي لا ترى في الإنسان اكثر من مجرد آلة أو حيوان مدفوع بدوافع مادية ( ولم يطلعونا – بالمناسبة – هل لديهم من سلطان بهذا أو أثارة من علم !) لابد واصلون إلى تفسيرات للسلوك الإنسانى تختلف عن تلك التي يسلم بها غيرهم من أصحا النظريات المعارضة لهم, كأصحاب الاتجاه الإنسانى Humanistic Approach الجديد الذين يرفضون الافتراضات الأساسية للسلوكيين والفرويديين التي لم يقم عليها أى دليل علمى محقق بأن الإنسان مجرد آلة مادية أو حيوان تسيره غرائزه, ويطالب أصحاب ذلك الاتجاه «بأنسنة» علم النفس, بحيث يعترف إلى جانب تلك العناصر المادية في الأنسان بأولوية تأثير الجوانب العقلية والروحية فيه ( ويلاحظ أن الكثيرين من أصحاب هذا التوجه يستخدمون هذا الاصطلاح الأخير غالبا بمعنى الجوانب الأخلاقية والجمالية كسمات منبثقة «تطوريا» عن الجوانب الفيزيقية والبيولوجية), وإن كانوا لا يزالون متحرجين – لأسباب لا تخفي – من الاعتراف بأن للروح وجوداً حقيقياً واقعياً كاملاً, وإن كان يختلف عن الوجود المادى  بأنه غير مقيد بقيود الزمان والمكان, أو الاعتراف بأن الروح هى مستقر «معرفة» الله عز وجل, وبأنها هى وعاء الصلة به .

ومن الواضح أن التصور الإسلامى للطبيعة البشرية يستند إلى افتراضات تختلف اختلافا جوهرياً عن الافتراضات السابقة جميعاً, وإن استوعبث جوانب الحق فيها كما سنرى, وبديهى أن هذا التصور لابد أن يقودنا بالضرورة إلى تفسيرات للسلوك تختلف اختلافا جوهرياً عن التفسيرات التي تقودنا إليها التصورات الوضعية المختزلة التي أشرنا إليها فيما سبق, ورغم أن محاولة توصيف التصور الإسلامى للطبيعة البشرية تفصيلاً تخرج عن نطاق هذه الورقة, وأن هذه المحاولة تحتاج لتضافر جهود المتخصصين في العلوم الشرعية والعلوم الحديثة, إلا أننا سنشير فيما يلي فقط إلى بعض عناصر هذا التصور, لغرض المقارنة بالمسلمات والافتراضات التي وجدناها عند رجال علم النفس الحديث, ولغرض بيان مايترتب على الاختلافات بينهما من آثار عميقة في فهمنا للإنسان والمجتمع, والتي تنعكس بدورها على تصوراتنا للإصلاح والتغيير المقصود في محيط الخدمة الاجتماعية .

فإذا بدأنا بتعريف الإنسان في كتابات الإسلاميين لوجدنا مثلاً أن الراغب الأصفهانى يميز في هذا الصدد بين المفهومين للإنسان : مفهوم عام ومفهوم خاص, فالإنسان بالمعنى العام هو «كل منتصب القامة مختص بقوة الفكر واستفادة العلم», وأما بالمعنى الخاص, فالإنسان هو «كل من عرف الحق فاعتقده والخير فعمله بحسب وسعه», والناس يتفاضلون بهذا المعنى, وبحسب تحصيله تستحق الإنسانية التي تعنى «فعل المختص بالإنسان» فتحصل له الإنسانية بقدر ماتحصل له العبادة التي لأجلها خلق ( عفاف الدباغ, 1991أ), وينبغي أن نلاحظ هنا أن الفروق بين المفهومين شاسعة حقاً, وأن لها آثارها العميقة على سلوك الإنسان وحياة المجتمعات .

ولعلنا لا نكون قد ابتعدنا عن الحقيقة كثيراً إذا قلنا : إن التصور الإسلامى للطبيعة البشرية على هذا الأساس يقوم على الافتراضات الأساسية الآتية – أو على ماهو قريب منها – ويمكن لمن أراد مزيداً من التفصيل أن يرجع إلى مقال أفدت منه كثيراُ حول «المنظور الإسلامى للطبيعة الإنسانية» ( عفاف الدباغ, 1991 أ) :

1- الإنسان «كائن فريد» خلقه الله سبحانه وتعالى – مبدع هذا الكون وصاحب التصرف المطلق فيه ( ألا له الخلق والأمر) ( الاعراف : 54)- وأن الله قد فضل هذا الإنسان على كثير من خلقه تفضيلاً .

2- اقتضت مشيئته تعالى خلق الإنسان لغاية أ وظيفة رئيسة تتمثل في «عبادة الله» المتضمنة لمعرفته وتعظيمه وطاعة أمره, والقيام بما شرع لعمارة الأرض التي استخلفه فيها .

3- الإنسان مخلوق من عنصرين : «جسد» خلق من طين و «روح» نورانية من أمر الله تحل في الجسد فتحييه, ( وإذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشراً من صلصال من حمإً مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين) ( الحجر : 28 – 29), وينتج عن اندماج الروح والبدن «نفس» تدبر هذا المخلوق وتعطيه وحدته وتكامله .

4- يترتب على الطبيعة المادية الطينية للجسد وجود ميل طبيعى في النفس للإفراط وتجاوز الحدود, سعياً وراء ضمان المحافظة على بقاء الإنسان واستمرار وجوده, مما ينتج في النفس صفات «كنفاذ الصبر والاستعجال» لما ليس عندها, «والبطر والفرح والعجب» بماتراها تميزت به عن الأخرين, «والجزع واليأس والهلع» عندما تفقده, «والمراء واللدد في الخصومة» إن تنازعته مع الغير, وهكذا .

5- إذا ترك لتلك الصفات الفرصة لأن تعبر عن نفسها تعبيراً حراً غير مقيد فإنها تصبح غير وظيفية Dysfunctional, بمعنى أنها تتعارض مع متطلبات بقاء الإنسان في حياة اجتماعية تعاونية منظمة, مع أن تلك الحياة الاجتماعية لازمة لإشباع حاجاته المتعددة, لأنه لم يخلق قادراً على إشباعها منفرداً أبداً .

6- هنا يأتى دور الطبيعة «الروحية» للإنسان, والتي تمثل عنصر ارتباط الإنسان بربه وخالقه, والتي تقوم بمعادلة أو موازنة تلك الاتجاهات التجاوزية, بما يعطى الإنسان قيمته الحقيقية كإنسان و ويتجلى هذا الدور من خلال ما يلي :

أ- يتصف الله – خالق الإنسان والكون – بكل صفات الجلال والكمال, فهو سبحانه القوى القادر العليم الحكيم, المنتقم الجبار, الرءوف الرحيم, الغفور الودود .

ب- عرف الله سبحانه وتعالى خلقه به وهم في عالم سابق على الوجود في هذه الدنيا, فأشهدهم على ربوبيته ووحدانيته وهم في عالم الذر, ( وإذ أخذ ربك من بنى ءادم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلي) ( الأعراف : 172), كيلا يحتج  أحد بعد ذلك بأنه كان عن هذا من الغافلين .

جـ- ثم إنه – سبحانه – إيقاظاً وتدعيماً لما أودعه كامناً في هذه الفطرة – أرسل الرسل مذكرين ومبشرين ومنذرين, لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل, فمن حافظ على صفاء فطرته ونقاء سريرته فإنه يسارع عند سماع الرسل بالتصديق والانضمام إلى أهل  الإيمان, وأما من التوت فطرته فإنه يلتصق بالأرض وينضم إلى أهل التكذيب والضلال, وهذا هو جوهر «الاختبار الإنساني» في هذه الحياة, وهو أيضاً المحك الذى في ضوئه تتحدد «نوعية حياة» الإنسان .

د- فأما من آمن برسالات ربه, ثم اهتدى بإرشاد الرسل, فوعى رسالته ووظيفته في هذه الحياة, وعرف حق ربه, فوقف عن أمره ونهيه, فإن ثمرة ذلك تتمثل في ضبط تلك الصفات التجاوزية البدنية وكبح جماحها ( إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين هم في أموالهم حق معلوم) ( المعارج : 19-24) .

وذلك إضافة إلى تحقيق الفلاح في الآخره ( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى) ( النازعات : 40-41), والعكس صحيح على كل المستويات وبكل المقاييس.

7- ثم إن الله جل وعلا راد الناس إلى معاد, ومحاسبهم على ما استخلفهم فيه فمجازيهم على أعمالهم في حياة أخرى هى في للتصور الإسلامى «الحياة» الحقيقية, أما الدنيا بكل ما فيها فإنها دار ابتلاء واختبار في مدى ودرجة الالتزام بواجبات العبودية الحقة لله, «فالإنسان الذى يقوم بالعبادة – التي من أجلها خلق – حق القيم فقد استكمل الإنسانية, ومن رفضها فقد انسلخ من الإنسانية فصار حيواناً ودون الحيوان, كما وصف الله الكفار» ( إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) ( الفرقان : 44)» ( عفاف الدباغ, 1991 أ).

8- ومحور الحياة الروحية للإنسان هو «القلب» الذى يمثل الرابطة بين «المعرفة والاعتقاد» من جهة «و السلوك والإدارة» من جهة أخرى, ويعرفه الإمام الغزالى بأنه هو «الروح الإنسانى المتحمل لأمانة الله, المتحلى بالمعرفة, والمركوز فيه العلم بالفطرة, الناطق بالتوحيد بقوله ( بلي شهدنا), وهو بهذا محل معرفة الله عز وجل» ( عفاف الدباغ : 1991 أ : 11), فإذا قام القلب بوظيفته الروحية المتمثلة في معرفة الله عز وجل وحبه وعبادته وذكره وإيثار ذلك على كل شهوة سواه, استقامت حياة الإنسان ككل, فجاء سلوكه متمشياً مع ما يرضي خالقه وبارئه, ومثل هذا الإنسان يحيا حياة طيبة مليئة بالطمأنينة والسكينة, ويعيش من حوله في راحة منه, حتى إذا جاء أوان الارتحال….. القريب دائماً عن هذه الدنيا كان مآله نعيم الآخرة ( من عمل صالحاً من ذكر أو أنثي وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) ( النحل : 97) وأما إذا مرض القلب فلم يقم بتلك الوظائف فإن ذلك يكون مدعاة لاضطراب حياة الإنسان ككل, فيعيش معيشة ضنكا مهما تقلب في زخارف الدنيا, وكان الناس منه في بلاء وشر, ثم هو في الآخرة من الخاسرين, ( ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى) ( طه : 124).

فإذا قارنا بين المسلمات التي تقوم عليها العلوم الاجتماعية والسلوكية المعاصرة وبين تلك المسلمات المنطلقة من هذا التصور الإسلامى لوجدناه كالفرق بين الثري والثريا, فتلك العلوم تقددم لنا صورة جزئية منقطعة عن سياقها لكائن مادى معزول كأنه وجد من فراغ, وكأنه يعيش في فراغ, لا صلة له بالكون الذى خلقه وصوره, مع تجاهل كامل لما كان قبل وجود الإنسان في هذه الدنيا ( كالإشهاد على الوحدانية في عالم الذر) ولما يكون بعد انقضاء هذا الوجود ( كالبعث والجزاء), ويترتب على هذا كله إهمال الجوانب الروحية المتصلة بمعرفة الله سبحانه وتعالى, وإهمال العمل وفقاً لمتطلبات تلك المعرفة, مع أن هذا الجانب بالذات – الذى يدور حوله الوجود الإنسانى كله في المنظور الإسلامى – قد يكون هو البعد الحاكم على كل ألوان سلوك الإنسان والموجه لها .

وإن أى نظرية تستبعد من افتراضاتها الأساسية حول طبيعة الإنسان جوانبه الروحية – بدءاً من الأشهاد على الوحدانية المغروس في الفطرة, إلى الإيمان بالله واليوم الآخر المتضمن في رسالات الرسل, إلى الآثار المترتبة على تقوى الله العظيم أو عصيانه – لا يمكن أن توصلنا إلا إلى نتائج خاطئة تماماً أو مبتورة على الأقل فيما يتصل بالسلوك الإنسانى, ومن هنا فإن من أول واجبات التوجيه الإسلامى للخدمة الاجتماعية هو استجلاء هذا البعد الهام المتصل بالطبيعة البشرية في مختلف جوانبه باعتباره الأساس الذى تبنى عليه بقية الأبعاد الأخرى, مع استيعاب تلك العوامل المادية التي أسرفت العلوم الحديثة في تقدير أهميتها, ووضعها موضعها الصحيح, في تكامل واتساق مع حقائق هذا الوجود المشاهدة التي لا يمكن إنكارها .

المبحث الثانى :

السنن النفسية والاجتماعية

قد يكون في حكم المستحيل إعطاء نظريات كل من علم النفس, وعلم النفس الاجتماعي, حقها فيما يتصل باستعراض ما انطوت عليه مما يدخل في نطاق وصف أشكال الانتظام, أو القوانين, أو السنن التي تحكم السلوك الفردى والترتيبات الاجتماعية في النطاق الذى يمكن أن تتسع له مثل هذه الدراسة, وذلك أن سوق النظريات في تلك العلوم غاصة بعشرات من النظريات المتوافقة حيناً والمتصارعة أحياناً, والتي يركز كل منها على تفسير جانب أو آخر من جوانب السلوك الفردى أو التنظيم الاجتماعى, وإن زعم المالغون من أتباعها أنها كفيلة وحدها بتقديم التفسير الأكمل, في حين أن هناك ما يشبه الاتفاق بين العلماء على أن كل النظريات مجتمعة لم تفلح في إعطاء تفسيرات مرضية للسلوك الفردى والاجتماعى حتى الآن ( راجع : إبراهيم رجب, 1991) .

ولذلك فليس أمامنا هنا من خيار إلا الاقتصار على عرض بعض الاتجاهات العامة في تفسير السلوك الفردى والترتيبات المجتمعية, مما يمكن اعتباره عينة ممثلة لتلك الاتجاهات بصفة عامة, وبما يمكننا من تجاوز الوصف إلى التحليل والنقد, ثم المقارنة بما نجده من أطر نظرية مستمدة من التصور الإسلامى للإنسان والمجتمع .

لقد حاول بعض المشتغلين بتعليم الخدمة الاجتماعية مراجعة وتلخيص أهم النظريات التي تصدت لفهم السلوك البشري وتفسيره, لتكون أساساً يستند إليه الأخصائيون الاجتماعيون في تدخلهم المهنى, والعبارة الآتية تمثل الرؤية التي توصل إليها اثنان منهم, هما : بيرجر وفيديريكو للصورة التي تواجهنا في هذا المجال :«إن السلوك البشري بالغ التعقيد والتنوع, وأخد الأسباب المؤدية لذلك هو تعدد المصادر التي ينبع منها السلوك, وهى المصادر البيولوجية, والنفسية, والثقافية, وتلك المتصلة بالبناء الاجتماعي … ورغم أنه يبدو لنا أن المعرفة التي تتيحها لنا العلوم البيولوجية والسلوكية والاجتماعية قاصرة ومتناقضة بشكل مخيف, فإن علينا كمهنيين أن نتدخل لإحداث تغييرات ( مرغوبة) في حياة الأفراد والجماعات والمنظمات والمجتمعات المحلية والمجتمع الكبير, ولو أننا انتظرنا حتى تصلن كل الحقائق ( العلمية التي نحتاجها) لكنا ببساطة كمن يجلس «ليعزف ويترك روما تحترق» :(Berger & Federico, 1985 (26), ثم إن المؤلفين يمضيان بعد ذلك في محاولة حصر المفاهيم التي تقدمها لنا العلوم السلوكية والاجتماعية تفسيراً لتأثير العوامل الوراثية والجسمية على السلوك, ثم يتبعان ذلك بفحص تأثير العوامل الإدراكية والمعرفية والوجدانية, ثم العوامل المتصلة بالبناء الاجتماعي كالنواحي الأسرية والاقتصادية, ثم العوامل المتصلة بالإطار الثقافي للمجتمع, ولا يكتفي المؤلفان بدراسة الآثار المباشرة لكل نوع من العوامل, بل يتناولان الطريقة التي تتأثر بها كل مجموعة من تلك المجموعات الأربعة ببقية مجموعات العوامل الأخرى, ويبينان أثر ذلك على سلوك الإنسان في حدود المعرفة العلمية الراهنة, وقد نحا المؤلفان في هذا العرض نحواً انتقائياً, فتعرضا لمفاهيم مستمدة من أطر نظرية مختلفة, دون إشارة إلى تلك الأطر تحديداً في بعض الأحيان .

أما آندرسون وكارتر (Anderson & Carter. 1974) فقد حاولا أيضاً التوصل إلى ما يشبه الخريطة الشاملة للأطر المفسرة «لسلوك الإنسان في البيئة الاجتماعية», على الوجه الذى يمكن للأخصائيين الاجتماعيين استخدامه لتوجيه ممارستهم المهنية, وذلك من خلال عرض أكثر نظريات العلوم الاجتماعية شيوعاً واستخداماً في محيط الخدمة الاجتماعية, فقاما بعرض الأفكار الأساسية لتلك النظريات في إطار مستمد من نموذج الأنساق الاجتماعية, وقد تعرض المؤلفان فيما يتصل بتفسير سلوك الإنسان لنظرية التحليل النفسي عند كل من فرويد وإريكسون, ثم للنظرية السلوكية عند واطسون وسيكنز, ثم للنظرية المعرفية عند بياجيه باعتبارها تمثل الأساس للتوجهات النظرية في الخدمة الاجتماعية في هذا المجال, ولما كنا قد تعرضنا في المبحث السابق للتوجهات العامة لتلك النظريات بالنقد, فإننا سنكتفي بذلك وننتل للحديث عن نظريات التنظيم الاجتماعى, حتى تكتمل أمامنا صورة المنطلقات التي تنطلق منها هذه العلوم الحديثة .

لقد كفانا عالم الاجتماع الأشهر مارثين أولسن ( Olsen. 1988: 239-257) مؤنة البحث والاستصقاء عندما استعرض المفاهيم الرئيسة لستة مما اعتبره أكثر النظريات شيوعاً في تفسير التنظيم الاجتماعى, وهى نظرية التبادل Exchange theory, ونظرية التفاعل الاجتماعى Interaction theory, والنظرية الإيكولوجية Ecological theory, ونظرية القوة Power theory, والنظرية المعيارية Normative theory, ونظرية القيم Value theory, وقد نوه أولسن أنه بالرغم من أن كلاً من هذه النظريات يسهم في زيادة فهمنا للحياة الاجتماعية المنظمة فإن أى نظرية منها ليست كافيه وحدها, وأشار إلى أن أهم مطلب ملح في التنظير السيولوجى المعاصر هو «تركيب هذه الأطر النظرية المختلفة في شكل نظرية أكثر تكاملاً وكفاءة لتفسير التنظيم الاجتماعي» (240P) .

وتقوم نظرية التبادل باختصار على أن التنظيم الاجتماعي يقوم على أساس من «عمليات تبادل مبينة على المصلحة الشخصية للأشخاص الذين يشتركون في التفاعل Actors, والذين يسعون للحصول على منافع لهم من خلال تبادلات قائمة على الأخذ والعطاء مع الآخرين, ولكن مع مرور الوقت فإن هذه العمليات التبادلية تتطور لتتخذ شكل أنماط من الترتيبات المؤسسية, وتؤدى إلى ظهور معايير ثقافية يلتزم بها المشاركون في التبادل» .

أما نظرية التفاعل فترى أن عملية التنظيم الاجتماعى تبدأ من خلال تفاعلات اجتماعية بين الأفراد من خلال ما يقوم به كل مشارك في التفاعل من تفسير للمواقف التي تقابله في ضوء مردودها على تحقيقه لأهدافه, والنظرية بهذا ترتكز على أن الفرد لا يستجيب للسلوكيات الظاهرة, وإنما «للمعانى التي يضيفها هو والآخرون على الأفعال والأشياء .. بحيث أن أفعاله اللاحقة تتشكل في ضوء تفسيراته السابقة للموقف» . والتنظيم الاجتماعى عند أصحاب هذه النظرية يتكون من الأفعال الجمعية للأفراد الذين يفكرون في تحقيق أهدافهم من خلال أفعال تعاونية في مواقف يعطونها تفسيرات من لدنهم باستمرار, «والتنظيم الاجتماعى إذن هو حصيلة لتفاق الرؤية حول كيفية التصرف في المواقف المعينة, مما يؤدى إلى تشابه في التصرفات بين الأفراد, يسمح بوجود قدر من الاستقرار في المواقف التي يتصرف فيها الأفراد», ومن هنا فإن الثقافة المشتركة التي تتكون من المعانى والأفكار التي يعتنقها الأفراد المتفاعلون تعتبر أكثر أهمية بكثير من التنظيمات المؤسسية, «… فإذا ما ظهرت الثقافة المشتركة بين عدد من الأفراد فإنها تؤثر على أفعالهم الجمعية وتوجهها, وإن كانت لا تحسمها حتماً بشكل كامل, فهى تقدم لهم تفسيرات للحياة الاجتماعية, كما تبين لهم توقعات الأدوار والتعريفات المتعمدة للمواقف الاجتماعية, وفوق هذا فإن هذه المعايير والأفكار الثقافية يتم إدماجها في شخصيات الأفراد خلال عملية التنشئة الاجتماعية» فتصبح موجهة لسلوكهم .

أما نظرية القوة فتقوم باختصار على أن القوة الاجتماعية في كل صورها سواء في ذلك القوة الجبرية أو السلطة المشروعة أو السيطرة أو الجاذبية إنما هى سبب ونتيجة لكل تنظيم اجتماعى, كما تقوم على أن القوة الاجتماعية ليست موزعة بطريقة متساوية بين أفراد المجتمع وجماعاته, فهناك من يتحكمون في القوة الاجتماعية وهناك من هم أقل قوة, ولكن المدارس المختلفة في داخل النظرية تختلف حول ما إذا كانت هناك قلة مترابطة من ذوى النفوذ في المجتمع ( الصفوة) تتحكم دائماً في مصائر الكثرة, أو ما إذا كانت هناك مراكز متعددة للقوة تتنافس فيما بينها على حيازة القوة في أى مجتمع Elitist Vs Pluralist .

وترى نظرية الإيكولوجية أن التنظيم الاجتماعى ينشأ عندما تحاول التجمعات البشرية التعامل مع بيئاتها باستخدام المعرفة التقنية المتاحة, للحصول على الموارد الضرورية للبقاء أو لتحقيق أهداف أخرى, وتقوم على فكرة «الاعتماد المتبادل» Interdependence بين أفراد المجتمع على أساس أن هذه الاعتمادية تجبرهم على إيجاد نوع من التنظيم الذى يسمح لهم بالبقاء أو بتحقيق أهدافهم .

ويرى أصحاب النظرية المعيارية أن المعايير المشتركة تنبت من الحياة الاجتماعية, وذلك أن الأفراد إذ يسعون لتحقيق أهداف مشتركة تحت ظروف حياتية متشابهة, فإنهم يكتشفون بعض أنماط الحياة التي يرونها مفيدة أو بعض الحلول الجيدة لمشكلاتهم المشتركة, ويميلون بالتالى لتكرار تلك الأنشطة, ويتناقلون هذه الأفكار فيما بينهم, مما يؤدى بالتدريج غلى ظهور طرق موحدة للتعامل مع مواقف الحياة الأساسية .

ومع الوقت فإن هذه المعايير تنفصل عن المواقف التي نبتت في إطارها, ويتم تعميمه لتغطى أنواعاً جديدة من المواقف, وبهذا تصبح العنصر «المحورى» لثقافة المجتمع أو لتنظيمه, وتصبح ملزمة أخلاقياً للآخرين, فتحدد الطريقة التي ينبغى أن يسلكوا بها في موقف معين, ثم إن هذا الالتزام الأخلاقي قد يدعم بفرض عقوبات على المخالفين بقوانين تصدرها الدولة .

أما نظرية القيم عند بارسونز فتقوم على أن «القيم المشتركة» Common Values تشكل كل الجوانب الحياة الاجتماعية وتتحكم فيها, ويتم التعبير عن هذه القيم في شكل معايير Norms, تدخل بدورها في البناء المؤسسي للتجمعات Collectivities, ويتم تشربها حتى تصبح جزءاً من الشخصيات Personalities, وبلغة أخرى فإن النظرية تبدأ بوجود مجموعة من القيم المشتركة المتفق عليها في إطار النسق الثقافي Cultural system, ولكن معانيها الأساسية تستمد من «إدراك الحقيقة النهائية»,Ultimate Reality , ويمكن لهذه القيم أ، تتغير مع الوقت نتيجة للتغير في إدراك «الحقيقة النهائية», ثم إن القيم الاجتماعية تعطى الشرعية لتجمعات من المعايير المتخصصة, وهذه المعايير المشروعة تتحكم بدورها في أنشطة التجمعات المحددة في داخل كل نسق فرعى, وأخيراً فإن الأفراد الذين يقومون بأدوارهم يتم التحكم فيهم وتوجيههم عن طريق المعايير المجتمعية التي تصبح جزءاً من شخصياتهم خلال عملية التنشئة الاجتماعية .

ويلاحظ أن هذه النظريات تتدرج من حيث محاولة التفسير بين أول خطوات عملية التنظيم الاجتماعى و أواسطها وأواخرها, فنجد أن نظريات التبادل والتفاعل هى من نوع النظريات التحليلية الذرية, بمعنى أنها تستهدف تحليل عملية التنظيم الاجتماعى إلى عناصرها الأولية لتفسر لنا كيف ينبت التفاعل بين الأفراد كبداية لإيجاد الحياة الاجتماعية المنظمة, أما نظرية القوة والنظرية الإيكولوجية فهما أكثر اهتماماً بالمراحل الوسطى من مراحل عملية التنظيم الاجتماعى والمتصلة بأنماط التنظيم المؤسسي البنائي للمجتمع, في حين أن النظرية المعيارية ونظرية القيم تركزان على نهاية عملية التنظيم الاجتماعى والمتمثلة في مستوى الثقافة  Culture, وإن كانت النظرية المعيارية تعطى اهتمامها الأول إلى الموجهات والأوامر الأخلاقية التي ترى أنها تشكل الحياة الاجتماعية مباشرة ـ كمل يقول أولسن ـ في حين أن النظرية القيم تعطى اهتمامها الأول إلى «القيم الأساسية» التي يتم ترجمتها بدورها إلى معايير وقواعد .

والحق أن من يتفحص النظريات السابقة جميعاً ليتعرف على الافتراضات الأساسية التي تنطلق منها فيما يتصل بالإنسان والمجتمع ـ استجابة للنصيحة القيمة التي قدمها لنا ألفين جولدنر ـ لابد واصل إلى نتيجة مؤداهاأن تلك النظريات إنما تبدأ وتنتهى بالإنسان, وكأنه جاء من فراغ وينتهى إلى عدم, وأنه بي هاتين النقطتين مجرد كائن عضوى آخر تدفعه حاجاته دفعاً إلى تنظيم علاقاته مع غيره, لهدف واحد هو المحافظة على بقائه حتى لا يهلك قبل الأوان, أما عن جوهر هذه الحياة وعمادها … أما عن حياته الروحية ومتطلباتها, وعن صلته بخالقه وآثارها, وعن شرائع ربه التي ارتضاها لخلقه, وأما عن البعث والحساب والجزاء في يوم تشخص فيه الأبصار, وأما عن الحياة الأخرى التي هى الحياة الحقيقية بكل معنى لا ينكره إلا الجاحدون … فكل هذه الجوانب غائبة غياباً تاماً عن تلك النظريات جميعاً .

وحتى عندما يقوم هؤلاء المنظرون بدراسة ما يسمى عندهم «بالظاهرة الدينية» أو «بالنظام الدينى» كنظام اجتماعى في إطار تلك النظريات, فإن الدين عندهم سرعان ما يؤؤل إلى مجرد اختراع بشري, ابتكره الإنسان, ليساعده على البقاء في مواجهة الظروف الطبيعية والاجتماعية القاسية, أما الاعتراف بمصدر متعال إلهى للعقائد الدينية فأمر يخرج عندهم بالكلية عن نطاق العلم, فيدخل في باب الخرافات عند المتطرفين منهم, أو في باب ما لا يجوز للعالم أن يشغل به نفسه عند أهل الاعتدال .

ولعل نظرية الأنساق لتالكوت بارسونز تعطينا مثالاً لموقف رجال علم الاجتماع من أحدكبار منظريهم عندما «يظنون» أنه قد تخطى الحدود الموهومة بين «العلم الاجتماعى» والعلم الغيبي … حتى عندما تحس أن الرجل قد اقتنع أو أدرك أن حياة الناس وتنظيم المجتمعات يتطلب ماهو أكثر من تلك النظرات الإنسانية القاصرة, وأكثر من ذلك الوجود الحائر البائر, فلقد أوضح تالكوت بارسونز أن «الحياة الإنسانية في كليتها» والتي سماها Action Frame of Reference ( و إعادة صياغة المفهوم هنا هى لأولسن» يمكن تقسيمها إلى أربعة مستويات من الأنساق التي يعلو بعضها فوق بعض, بحيث يكون هناك باستمرار تيار من المعلومات والقرارات  Information, Decisions هابطاً م الأنساق الأدنى, كما يكون هناك تيار مستمرمن الطاقة  Energy صاعداً من الأنساق الأدنى إلى الأنساق الأعلى, وهذه الأنساق الأربعة تبدأ ـ من أعلى إلى أسفل ـ بالأنساق الثقافية, التي توجه الأنساق الاجتماعية التي توجه الأنساق العضوية, ولكن بارسونز يضيف إلى ذلك أن «البيئة الطبيعية» تقع في مستوى أدنى من الأنساق العضوية, وأنها المصدر لكل الطاقة التي تتطلبها الحياة البشرية, وأنه ـ وهذا هو ما يهمنا الآن – «فوق الأنساق الثقافية يقع عالم الحقيقة النهائية Ultimate Reality والذى هو المصدر النهائي لكل تحكم سيبرنطيقي في الأنشطة الإنسانية» (Olsen : 254)

, فماذا كا موقف علماء الاجتماع من هذا الفرض ؟

لقد مان أول نقد وجه لبارسونز هو التساؤل عن ماهيه ذلك المصدر للقيم, حيث رأوا أن بارسونز لم يبين لنا ماهية عالم «الحقيقة النهائية», ويضيف أولسن «أن الكثيرين من النقاد يرون أن تصور بارسونز للحياة الاجتماعية هو أقرب للفلسفة المثالية البحتة, حيث تتنزل القفيم من عالم على يخرج عن نطاق التحكم البشري جزئياً أو كلياً» (P. 257), وبطبيعة الحال, فإن مثل هذه التهمة تعتبر ـ إذا ثبتت ـ طعناً خطيراً في منهجية بارسونز تكاد تخرجه عندهم من مصاف العلماء .

ولك ما موقفنا نحن كمسلمين نؤمن بالله واليوم الآخر من مثل هذه القضية ؟ هل يجوز لنا التسليم مع هؤلاء «العلماء» أن الإنسان ليس إلا مجرد كائن عضوى منقطع إلا عن نفسه, مدفوع بغرائز وآليات لا هدف لها إلا حفظ بقائه, وأنه يبنى نظمه الاجتماعية وليس له من موجه إلا ما يتحصل عليه من فتات وقائع خبرته, المحكومة بحدود عقله وتهافت رؤيته, دون هداية من فطرة في داخله, أو شريعة إلهية مؤيدة لمقتضيات تلك الفطرة من خارجه؟ … إن من الواضح أنه لا يجوز لنا ـ ديناً وعقلاً ـ أن نستبدل الذى هو أدنى بالذى هو خير … ونحن من الناحية المنهجية مطالبون بإعادة النظر في هذه الأنظار البشرية القاصرة, ومطالبون باستلهام التصور الإسلامى كبديل أو كمكمل لمثل تلك الأنظار, عسي أن نكون من المهتدين … عسي أن نكون من المفلحين .

لقد تبين لنا ـ بوضوع مما عرضنا في المبحث السابق ـ أنه لا يمكن بأى حال فهم «الإنسان» في حياته الفردية أو المجتمعية إلا في ضوء ذلك البعد الروحى المتصل «بوعى» الإنسان بوجود ربه ومليكه, و «معرفته» بصفات الخالق وأسمائه وكمالاته, وما يترتب على ذلك من نوع «صلته» وصفة ارتباطه بالله عز وجل, ودرجة استعداده لملاقاته في «اليوم الآخر» يوم البعث والجزاء . فهذا البعد الروحى هو الذى يعطى حياة الإنسان معناها الحقيقي, وهو الذى ينتزع منها سمات العبثية والعدمية ومعاداة الحياة الاجتماعية المنظمة التي نجدها لدى أصحاب الاتجاهات المادية والوجودية والفرويدية .

والمتأمل لحقيقة التصور الإسلامى لطبيعة الإنسانية لا يملك إلا التسليم بالمكانة االمحورية التي تشغلها الجوانب الروحية في حياة الإنسان, بما يميز هذا التصور بوضوح ويباعد بينه وبين غيره من التصورات البشرية التي تقف عند حدود الحياة الدنيا, ( ذلك مبلغهم من العلم) ( النجم : 30) وكأنها هى البداية وهى النهاية, فتجعل من الإنسان كائناً تافهاً ضعيفاً لا وزن له في هذا الكون ولا كرامة . أما التصور الإسلامى القائم على محورية الجوانب الروحية المتعلقة بصلة الإنسان بربه فإنه يضع حياة الإنسان ووجوده الموقوت في هذه الدنيا المتحولة الزائلة في إطارها الكونى والإلهى الأشمل والأدوم, ومن هنا تتضح الأهمية القصوى لمسألة «المحافظة على صفاء الفطرة ونقائها», حتى تصح رؤية الإنسان لنفسه ولهذا الكون, وحتى تستقيم صلته بربه, في الاتجاهات التي تجلب له سعادة الدارين .

فإذا صح لدينا هذا التصور لزم عنه أن يكون الهدف الأول لسلوك الفرد, والمهمة الأولى للمجتمع المسلم, هو في الحفاظ بكل وسيلة ممكنة على صفاء الروح ونقاء الفطرة ـ التي فطر الله الناس عليها ـ على مدار حياة الإنسان على ظهر هذه الأرض بكل مراحلها, حتى إذا جاء يوم البعث والنشور كان ممن ( أتى الله بقلب سليم) ( الشعراء : 89), مما يعطى وجود الإنسان في الحياة الدنيا قيمته الحقيقية من حيث هى ممر إلى حياة الخلد الحقيقية, عندما  تؤوب الروح إلى موطنها ومستقرها من رضوان الله الدائم في نعيم مقيم .

وعليا أن ننتبه ـ هنا ـ إلى أن نوع الحياة المنطلقة  من مثل ذلك «القلب سليم» تختلف اختلافاً ـ يكاد يكون كلياً ـ عن نوع الحياة التي طمس فيها على القلب, فالإنسان الذى صفا قلبه واستقامت فطرته يكون توكله على اللع لا على نفسه أوالآخرين, ويكون أنسه بالله ووحشته من الناس, فيعيش حياة مختلفة وجودياً, وكأنه بالتعبير الدارج يعيش «على موجة مختلفة», فحياته الداخلية مطمئنة هادئة …. لا تفجعه الفواجع …. ولا تطغيه النعم …. وإنما هو يعيش بين الصبر والشكر على مستوى يستحيل أن يتوفر لغيره ممن كبرت الدنيا في عينه .. ممن يصاب بالجزع والنكد إذا فقد من دنياه شيئاً قليلاً, ولا يأبه بضياع أخراه بكليتها, أنسه بالناس وبما في يديه من أعراض زائلة … ووحشته من الله ومن كل ما يذكره به, فشتان ببين النمطين من أنماط الحياة .

ولعل من المناسب أن ننتقل الآن لنعرض بعض الجوانب المختارة من العمليات الفردية والاجتماعية التي نتصور أنها وثيقة الاتصال «بالمحافظة على صفاء القلب ونقاء الفطرة» لتحقيق مثل هذا المستوى الرفيع من الحياة الراقية, ولكننا نود أن نشير إلى أن هذه العمليات تذكر هنا كمجرد أمثلة يمكن القياس عليها أو إجراء الحوار حولها, مع ملاحظة أن اهتمامنا في هذا العرض ليس منصباً على «الآليات» التي تحكم سير الأنساق «الشخصية» Personality Systems أو «الاجتماعية» Social Systems في ذاتها ( إذا استعرنا اصطلاحات تالكوت بارسونزAlbert Reiss, 1968 : 2-3)) ولكننا أكثر اهتماماً «بتوجه» تلك الأنساق أو ما يمكن اعتباره «النسق الثقافي» الموجه لتلك الأنساق من أعلى (Olsen. 1968 : 253-257), وبلغة أخرى, فإننا لن نهتم ببيان السنن والضوابط والشروط التي تضمن فاعلية تحقيق تلك الأنساق «لأهدافها» بصرف النظر عن ماهية تلك الأهداف, فذلك خارج نطاق اهتمامنا, نظراً لوفرة الكتابات التي تتناول هذه الآليات تفصيلاً في أدبيات العلوم الاجتماعية الحديثة, كما أن توصيف تلك الآليات من جهة أخرى ليس محل الاختلاف مع التصور الإسلامى, ولكن قضيتنا أكثر اتصالاً بنوع «الأهداف» التي تسعى الأنساق الشخصية والاجتماعية وبيان صلة ذلك بالإطار الأشمل للنسق «الثقافي» المنطلق من التصور الإسلامى .

أولاً : التنشئة الاجتماعية في المجتمع المسلم :

1- تتحمل الأسرة المسئولية الأولى في الحفاظ على سلامة فطرة أبنائها من الناحية العقيدية, قال صلي الله عليه وسلم : ( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمسجانه).

2- تتحمل الأسرة من جهة أخرى مسئولية تدريب أبنائها على تحقيق التوازن بين الإشباعات المادية والروحية, فالأسر التي تقوى عند أبنائها استمراء الإشباعات المادية مع إهمال الجوانب الروحية, تجعلهم يشبون على اتباع الشهوات والأهواء التي تطمس الفطرة .

3- التعويد على ممارسة العبادات والطاعات منذ الصغر يساعد على تحقيق الأهداف السابقة, إذ إنها تعين الأبناء وتيسر عليهم الطاعة والامتثال لأوامر الله, كما تجعلهم يشبون على التوكل عليه والثقة فيما عنده أكثر من ثقتهم بما في أيديهم, وأما إذا لم تقم الأسرة بمسئولياتها الدعوية فإن الأبناء ينشئون على انحراف الاعتقاد واستمراء البدع, واتباع الهوى والشهوة, وتلك هى الأمراض التي تصيب «القلوب» والتي يترتب عليها اضطراب الحياة الدنيا . والخسران المقيم في الآخرة .

4- إذا انطلقت المدرسة بمناهجها ومناخها اليومى والعلاقات بين طلابها والعاملين فيها من نفس النسق القيمى الدعوى, فإن هذا يدعم ما قامت به الأسرة من جلاء للفطرة وتهذيب لنفوس الشباب, وكذلك أجهزة قضاء أوقات الفراغ وأجهزة الترويح وأجهزة الإعلام وجميع أجهزة و أدوات التوجيه المجتمعى, إذا انطلقت من نفس المنطلقات, فإن ذلك يؤدى في النهاية إلى أن يتنفس الشباب (والبالغون) نسمات العقيدة الصافية في كل مراحل حياتهم, فتصح قلوبهم وعقولهم وتسمو أرواحهم ويستقيم سلوكهم حتى يلقوا ربهم غير مبدلين ولا مفتونين, (أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذى كانوا يوعدون) ( الأحقاف : 16).

5- والعكس صحيح فإذا أهملت الأسرة واجبها الدعوى, فإن الأبناء يصابون بأمراض الشبهات والشكوك والشهوات التي تصيب قلوبهم وكذلك إذا أهملت المدرسة جانب المحافظة على سلامة الفطرة مكتفية بسلامة الأبدان وتعليم العلوم والصناعات, وإذا تاهت أجهزة الترويح والإعلام عن أهداف الحياة في الإسلام, وخبطت في كل واد فإن النتيجة المحتومة لهذا كله هى التشتت والاضطراب والقلق والإحباط المستمر الملازم للأفراد والمجتمعات,(ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل هل يستويان مثلاً) ( الزمر : 29), وهم في الآخره من الخاسرين .

ثانياً : توفير الظروف البنائية المواتية :

1- يقوم التصور الإسلامى على ضرورة إقامة الترتيبات المجتمعية التي تضمن لأفراد المجتمع أفضل إشباع ممكن لحاجاتهم المادية والنفسية والاجتماعية, أو بالأصح تضمن «إتاحة الفرصة» أمامهم لإشباع تلك الحاجات في إطار التوجيهات الإلهية, والقوى الروحية التي تفرض تعديلات على ما يعبر ععنه «بأفضل إشباع ممكن» ليترك المجال مفتوحاً أمام كل إنسان ليرتفع عن قيود الأرض إلى أرفع قدر يستطيعه, أو ليتوقف عند حدود استطاعته ما دامت في نطاق«القصد» والاعتدال .

2- ويرتبطبهذا المبدأ توفر «العدالة الاجتماعية» المتضمنة لحسن توزيع الثروة من خلال الترتيبات الوجوبية كالزكوات, أو الطوعية كالصدقات, أو من خلال التربية الدعوية التي تغرسفي الفرد معنى العطاء دون حساب, مع المحافظة في الوقت ذاته على حق الملكية الفردية, ومع شيوع عواطف التراحم والتواد بين المعطى والمتلقي, دون من وى أذى ولا استعلاء .

3- منع التظالم بكافة صوره وأشكاله وألوانه, ووضع الضوابط التي تكفل ذلك حتى يشعر جميع أبناء المجتمع المسلم بملكيتهم لهذا المجتمع وبانتمائهم له, فيضمحل الاغتراب والإحباط ونزعات العدوان إلى أقل حد ممكن .

ثالثاً : مسئوليات الفرد عن اختياراته وسلوكه :

1- مع التأكيد على دور الترتيبات البنائية فإن التصور الإسلامى يقوم على أن الإنسان أيضاً مسئول عن المحافظة على نقاء فطرته وسلامة قلبه وتزكية نفسه, ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) (الشمس : 7-10) .

2- طاعة الله فيما أمر ونهى, تسليماً لحكمه, وثقة في علمه وحكمته, ووعده ووعيده, هى الضمان لسلامة القلب, والعكس صحيح, فالسلوك المنحرف ينكت على القلب نكتاً سوداء حتى تكاد تعميمه عن رؤية الحق فلا يراه حقاً, وتكاد تجعله يكره ما ينفعه من الخير ويحب ما يضره من كل باطل ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) ( المطففين : 14).

3- يحتل مفهوم «مجاهدة النفس» مكاناً محورياً في الحياة الداخلية للإنسان المسلم, فالنفس ( المتمثلة في تيار الوعى الإنسانى) تتنازعها قوتان : الدوافع المادية البدنية الأرضية التي تلح على الإشباع المباشر, وتنزع إلى الظلم والتجاوز في ذلك . والنوازع الروحية التي تتوق إلى القرب من خالقها وإرضاء بارئها الذى تستشعر حبه وتشفق من غضبه وعقابه, والتي ترتفع بالإنسان إلى آفاق تضمحل معها قيمة إشباع الحاجات الدنيا إلى حد كبير, يصل إلى استعذاب الاستشهاد في سبيل الله, رغم أنه يعنى زوال النفس الواعية المكونة من البدن والروح, كما يعنى فناء البدن, لأنه فوق هذا يعنى صعود الروح الباقية إلى حياة الخلود في النعيم والرضوان من رب العالمين .

4- بالقدر الذى تسود فيه قوى الفطرة السليمة العارفة بربها والمتصلة به يكون التوافق بين الإنسان ونفسه, وبينه وبين خلق الله, بل بينه وبين الوجود كله, وبينه وبين ربه, ويتنزل الدعم التأييد على الإنسان من «ملائكة» الرحمن ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة) ( فصلت : 30 ـ 31).

5- وبالقدر الذى تسود فيه دفعات الغرائز الدنيا وتكبت فيه الفطرة السليمة يكون اضطراب الإنسان داخلياً, ويكون شعوره بعدم التوافق مع الخلق, وبالتنافر مع هذا الوجود, وتتنزل «الشياطين» بالتحريض والتزيين لضمان استمرار الإنسان في هذا الطريق المهلك ( ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً) ( مريم : 83) أى تهزهم وتستفزهم باطنياً ( الطيب بن عاشور, 1984) .

رابعاً : الضبط الاجتماعي المنطلق من روح الإسلام:

1- لا يستهدف الضبط الاجتماعي من منظور الإسلام مجرد المحافظة على الأموال أو الأنفس أو الأعراض ـ مع أهميتها ـ ولكنه يستهدف أولاً وقبل كل شئ المحافظة على طهارة الأرواح والقلوب, والحفاظ على صلتها ببارئها باعتبارها محور الوجود في الدنيا والآخرة .

2- و أول الضبط وأهمه ما كان منبثقاً عن تقوى الله عز وجل ومراقبته في كل قول وفعل, انطلاقاً من الفطرة السليمة, ثم التنشئة الاجتماعية السليمة, التي تنتهى إلى غرس معرفة الله وحبه وتقواه في النفوس والقلوب, فلا تخرج الأفعال إلا مستجيبة لتلك العواطف النبيلة .

3- الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كمفهوم, والاحتساب كتجسيد شرعى ورسمى لهذا المفهوم, يقوم بدور مكمل ومؤيد للضبط والرقابة الشخصية, ولكنه ضبط يقوم به الآخرون جميعاًحيث يكون كل مسلم راعى أخيه ومعاونه على المحافظة على سلامة فطرته, وحافظ مجتمعه من أن تسوده الفاحشة, فظهور الفاحشة وشيوعها يؤدى إلى إصابة الأبرياء, وتشجيع المترددين في المخالفة, كما يفتح الباب للتعريض Exposure لأنماط السلوك الانحرافي بما يؤدى إلى انتشار العدوى بين قطاعات جديدة من الناس, ومن هنا فإننا نستطيع أن نفهم كيف أن ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر سبب في حلول غضب الله ونقمته على بنى إسرائيل, حيث جاء ضمن حيثيات حلول اللعنة عليهم ( كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) ( المائدة : 79).

4- أما الضبط الرسمى فيقوم على مبادئ ثابتة شرعاً في شكل حدود قررها الشارع بشكل لا يمكن الطعن بانحيازه لفئة أو جماعة أو طبقة ـ كما هو الحال في التشريع الوضعى ـ وفي شكل تعازير ترك فيها المجال للاجتهاد وفق الحاجة ضماناً للمرونة في مواجهة أشكال الانحراف .

5- وفي إطار هذا كله فإن المبدأ الأساسي هو أن يستهدف التطبيق ما يرضي الله سبحانه وتعالى, وأن يضمن العدل إلى أقصي حد يطيقه البشر الذين يراقبون الله في كل ما يصدر عنهم في هذا الشأن, بصرف النظر عن هوية أو مكانة الذى يتعرض للعقوبة على المخالفة «لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها» .

خامساً : أحوال الأمم :

1- وعد الله سبحانه وتعالى الأمم الطائعة بأن تحيا حياة طيبة, وأن يأتيها رزقها رغداً من كل مكان, كما توعد الأمم التي لا تقيم حدود الله, والتي تكفر بأنعم الله بأن يذيقها من صنوف الجوع والخوف والهوان, وبأن يلبسها شيعاً ويذيق بعضها بأس بعض بما كانوا يصنعون .

2- كما قضي سبحانه بأنه لم يكن مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .

3- يتنزل الغضب والعذاب على الأمم وفيها الصالحون, لأنهم لم يستنكروا منكراً ولم تتمعر وجوههم غضباً لله, وخصوصاً في الإنكار على أئمة الجور وذوى المكانات القيادية والتأثير في قطاعات عريضة من الناس, لأنهم بهذا يتركون الأبواب مفتوحة للنفوس والأرواح عامة أن تضل, والقلوب أن تزيغ عن فطرة الله التي فطر الناس عليها فتشيع الفاحشة ويستحق العذاب على الجميع .

4- شيوع الترف والبطر والكفر بأنعم الله يجلب غضب الله وعقابه الأليم على الأمم, وترتبط هذه بالظلم والبغى برباط وثيق (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً ءاخرين فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيداً خامدين) (الأنبياء : 11-15).

ولعل من الملائم أن نحذر في ختام حديثنا عن السنن النفسية والاجتماعية من خطأ شائع يتعرض الكثيرون للوقوع فيه عند تناول المصطلحات المتصلة بالجوانب الروحية المتعلقة بنوعية الصلة بين الإنسان وربه, ألا وهو خطأ التعامل مع تلك المصطلحات كألفاظ تنقل صوراً «بلاغية» أدبية, أو كتعبيرات «مجازية» مع أن الحق الذى لا ينبغي أن يمارى فيه المسلم هو أن لتلك المصطلحات وجوداً حقيقياً كاملاً لا يقل ـ إن لم يزد ـ في صدقه عن وجود ما تدركه حواسنا وما يكبر في صدورنا, ولكن مع فرق أساسي هو أن لهذه الظواهر مقاييسها وأبعادها التي تختلف عن أبعاد التميز في المكان والزمان, المألوفة لإدراكتنا الحسية, ولها علاقاتها وقوانينها وسننها التي تختلف كذلك عن الظواهر المحسوسة المألوفة لنا .

ومن هنا, فإن أية محاولة لقياس وجودها على الموجودات المحسوسة من خلال إعطائها صفة «مجازية» أو بلاغية خطابية, لهى أمريتنافي على خط مستقيم مع أساسيات التصور الإسلامى ذاته, ويبدو لنا أن الوقوع في مثل هذا الخطأ ليس إلا من بقايا ما ألفناه من أساليب وتصورات مادية في أساسها, ومن هنا فإن منهجنا في التعامل مع مثل تلك المصطلحات ينبغى أن يكون واعياً ومنتمياً بشكل حقيقي للتصور الإسلامى .

فإذا قلنا ـ مثلاً- : إن «الفطرة» تتضمن إدراك الوحدانية كما جاء بذلك القرآن الكريم صراحة, فإن النماذج النظرية التي نبنيها ينبغي أن تتضمن ذلك البعد كأمر واقعى يقينى لا مجازى, وإذا حدثنا الكتاب الكريم عن القلوب وأحوالها وأمراضها في مثل قوله تعالى : ( في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً) ( البقرة : 10), وقوله : ( فلا تخضعن بالقول فيطمع الذى في قلبه مرض) ( الأحزاب : 32), فإن علينا أن ندرك أن «القلب» له وجوده الحقيقي كأحد أوجه الحياة الروحية للإنسان ( وإن لم يكن وجوداً مادياً) وأن له «أمراضاً» تصيبه بمعنى أشد قوة وتأثيراً على حياة الإنسان ككل من غيرها من الأمراض التي تصيب الجسد .

وإذا عرفنا القرآن الكريم «بالشيطان» وبموقفه منا وبخصائصه في مثل قوله تعالى : ( إن الشيطان لكم عدواً فاتخذوه عدواً) ( فاطر :6), وقوله : ( وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل) ( النمل : 24), وقوله : ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله) ( فصلت : 36), وقوله : ( إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون) ( الأعراف : 27), وقوله : ( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) ( آل عمران : 175), فإن علينا كباحثين «علميين» – أولاً ـ أن نأخذ من هذه الآيات وجود «الشيطان» كحقيقة وجودية واقعية فعالة ومؤثرة في حياتنا اليومية, كما أن علينا ـ ثانياً ـ أن نعرف أنه عدو مبين لبنى آدم, وأن نعرف ـ ثالثاً ـ أن من صفاته وأساليبه أنه يزين للناس باطل الأعمال, وأنه ينزغ ويوسوس ويخوف ويعد الناس ويمنيهم بغرور, وأنه ولى وقرين لأهل الضلال … وهكذا, كما أن علينا أن ندخل تلك الأبعاد والخصائص جميعاً في نماذجنا النظرية .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى