كلمة التحرير

حول القيم والمفاهيم السائدة في المجتمع العربي المعاصرة بين العالمين الغربي والإسلامي

العدد 71- 72

موضوع الندوة يتعلق بالثقافة العربية من حيث الواقع وآفاق المستقبل. وفى إطاره أقدم هذه الورقة حول  “  القيم والمفاهيم السائدة في المجتمع العربي “ . والقيم المفاهيم أمور غير قابلة للحصر ،  وهي افسح من أن يحاط بها ،  وهو أن أجرى “  بحثاً “  يحتاج إلى مناهج علم الاجتماع في جمع المادة المقولة والمكتوبة وتصنيفها وتحليلها واستخلاص النتائج من ذلك.

وحسب الكاتب هنا أن يقدم ورقة يطرح فيها مجمل ما يراه حول  “  القيم والمفاهيم السائدة في الواقع العربي. وأنا أفهم  “  الثقافة السائدة “  بمعنى انها الثقافة المسيطرة ،  او الحاكمة ،  وأنها ليست بالضرورة هي الثقافة المنتشرة أو الذائعة ،  وأقصد بالثقافة المسيطرة تلك التي تفرزها هيئات التعليم والإعلام والتوجيه المعنوي ،  ولها وجه انتشار بين النخب الاجتماعية وانا هنا لا أقدم بحثاً او دراسة ،  ولا احصى قيماً ومفاهيم ،  ولكنى أعرض ما أظنه الفكرة المحورية للقيم السائدة الآن ،  ومصدري في ذلك هو ما تراكم لدى من متابعات الواقع الثقافي ومعايشته. ومن المعاينة الداخلية لبعض جوانبه ،  ومحاولات التفهم للآليات الداخلية لهذه الجوانب.

  يبدو لي أن القيمة العليا التي صارت حاكمة في الثقافة السائدة الآن هي قيمة  “  العصرية “  أو  “ المعاصرة “  ،  وأن من يتابع السياسات النافذة ومجادلات التحاورين ،  يلحظ ان  “  العنصرية “  قد صار أصلاً مرجوعاً إليه ،  ومسلة مبدوءاً بها في معالجة الغالب من قضايا المجتمع ،  وفى الترجيح بين الخيارات ،  وفيما يرجع او يستبعد من الحلول. لذلك فقد اثرت أن اعراض لمفهوم المعاصرة ،  محاولاً تحرير المسألة بشأنه ،  وإثارة الفكر للمناقشة حوله لتوضيح معاينة وكشف آثاره.

إننا نعلم ان العصر يعنى الدهر أو الزمن وانه ينسب إلى شخص فيقال:  “  العصر الفيكتوري “  في بريطانيا ،  أو عصر  “  محمد على “  في مصر ،  وينسب إلى أسرة حاكمة فيقال  “   “  العصر العباسي “  ،  كما ينسب إلى ظواهر طبيعية  “  كالعصر الحجري “  ،  أو إلى ظواهر اجتماعية  “  كعصر الإصلاح  “  وعصر النهضة “  في أوروبا ،  كما أنه صار ينسب إلى مرحلة تاريخية كما يقال الآن  “  العصر الحديث “  إشارة إلى المرحلة التاريخية التي يحياها العالم اليوم.

ونحن في أدبنا الجاري عندما نشير إلى العصر مجرداً عن نسبة تخصصه فغالباً ما نكون نعنى  “  العصر الحديث “  ،  وعندما نقول  “ روح العصر “  ،  إنا نقصد الإشارة إلى السمة الغالبة على أوضاع المرحلة التاريخية التي نحياها كما أن ما نعايشه من أوضاع الحاضر نصفه بالمعاصرة ،  وعندما يصف احدانا الآخر بأنه  “  عصري “  إنما يعنى الإخبار بأن المقصود متلائم مع أوضاع المرحلة التاريخية العالمية الحاضرة ومتجانس مع ظروفها.

في جيل أبنائنا او في الجيلين الذين عاشا النصف الأول من القرن العشرين في مصر ،  كان لفظ  “  عصري “  يعني مودرن  ،  أي : حديث ،  ويستخدم غالباً بالمعنى الاجتماعي  ،  ليشير إلى ما طرأ من قيم وسلوكيات وأساليب حياة وعادات في الملبس والمشرب والمسكن واختلاط الجنسين ،  وكان قابله لفظ  “  رجعى “  ،  وقد أدركت في صباي مما كنت أسمعه أو أقرأه لكبار السن  من  جيل الإباء والأجداد – ادركت معنى اجتماعيا اللفظ  “  رجعى “  لا يتعلق بها بالتقويمات السياسية ،  إنما يشير به مستخدمه إلى التمسك بالعادات والتقاليد المنحدرة من السلف ،  وكانت دلالته قريبه من لفظ  “  محافظ “  بالمعنى الذى يستخدم مثقفو اليوم له لفظ  “ أصيل “  و  “ أصالة “   ،  ولم تكن نسبة الرجعية إلى الرجعى بهذا المعنى الاجتماعي ما يشينه أو يدعوه للإنكار  ،  بل لعله كان يجهر بها اعتزازاً لما تعنيه من أصالة ،  وذلك في مواجهة وصف  “  العصرية “  الذى تبنته القلة المتأثرة بنمط الحياه الأوروبية .

اما لفظ  “  التجديد “  و “ الإصلاح “  فقد ظل معناهما متميزاً عن معنى العصرية ،  وظل معناهما يسع الأخذ من الماضي ومن الثقافة المنحدرة من السلف.

ومن مطالعتي للأدب السياسي في العشرينيات والثلاثينيات ،  لاحظت أن لفظ  “ رجعى “  بدأ استخدامه بغير إسراف ليشير إلى اتجاهات سياسية ،  إذ استخدمته القيادات الديمقراطية والأقلام الليبرالية لتشر إلى قوى السياسي ،  وهي قوة بعضا كان يصعب نعته بالاسم كالملك وكان هذا في ظني بداية استخدام لفظ رجعى بمعنى سياسي ،  وكانت هذه البداية محصورة في الموقف من نظام الحكم ،  موف قوى الاستبداد السياسي ،  ولكن الصحفيون ورجال الأحزاب يستخدمونه إشارة إلى القصر الملكي.

ولم يطرأ تطور جديد على لفظ  “ رجعى “  إلا في الاربعينات ،  على أيدي الماركسيين والمتأثرين بالفكر الاشتراكي ،  وفى دوارهم ، فصارت له في استخدامهم دلالة طبقية تشير إلى الاقطاع ،  وكبار ملاك الأراضي الزراعية ، وإلى مألف لفهم من نظم سياسية وأحزاب ومن انساق فكرية ،  ثم انتشر هذا المعنى في الخمسينيات والستينيات ليصير شبه متعارف عليه ،   وفى هذا السياق الجديد لم يعد وصف الرجعية يقابل وصف العصرية ،  إنما صارت الرجعية ضد التقدمية.

في الستينيات تقريبا ،  طرأ على لفظ  “ عصري “  تحول عميق الدلالة ،  لم تعد دلالته محصورة في القيم السلوكية وعادات العيش وأساليب الحياة ،  التي كانت تستفاد من وصف  “ مودرن “  أي: حديث  ،  إنما بدأ يكسب بالتدريج ومع الوقت دلالة ليست سلوكية فقط وليست اجتماعية فقط ،  وإنما صارت تشير إلى معنى أممي ،  فصار  “  العصر “  يمثل وحدة جامعة تضم العصريين جميعاً في العالم أجمع ،  وصار  “  العصري “  في استخدامنا الفكري يشير إلى من يندرج في وحدة الانتماء هذه ،  بحسبانها تشكل وحدة انتماء حضاري وأممي ،  ولم تعد  “  العصرية “  تقابل  “  الرجعية “  كطرفي صراع اجتماعي في داخل الجماعة المحلية ،  إنما صارت  “  العصرية “  بوجهها الأممي تقابل  “  التخلف “  على صعيد العالم أجمع . وقسم هذا المعنى العالم – في وعى القائلين به – إلى فريقين – أحداهما يضم أفريقيين وآسيويين وأوروبيين وأمريكيين ضد الثاني الذي يضم – أيضا-أفريقيين وآسيويين وأوروبيين وأمريكيين ،  والفريق الأول: معاصرون ينتمون إلى العصر ،  والفريق الثاني: متخلفون لا ينتمون إلى العصر.

والسؤال الذي يثار الآن ،  هو كيف أمكن في إدراك الناس لدينا ،  أن ينشطر كل شعب من شعوبنا إلى هذين الشطرين ،  شطر يرى نفسه محمولاً مع المستقبل ،  وشطر ينظر غليه على أنه مطرود مع نفايات التاريخ ،  وكيف أمكننا أن نقيم معايير للتقويم التاريخي والحضاري ن يتحول بها  “  العصر “  من عنصر زماني على قيمة حضارية يتبلور عليها مفهوم  “  الأمة “  والجماعة ،  ويصير غير المتمتع بخصائص العصر منكوراًعليه جدارة الانتماء إلى أمته؟

جوابا على هذا السؤال ،  أظن اننا لم يقم في وعينا من قبل نسق واحد لتاريخ عالمي يقيم معايير موحدة للوجود والنمو والارتقاء ،  لم يقم في ذلك لدينا نحن الشعوب التي عرفت السيطرة الاستعمارية عليها في تاريخها الحديث. ولقد كان يستحيل على أفريقي جنوب افريقيا مثلا أن يتبنوا معايير موحدة للتقويم التاريخي والحضاري تضمهم مع المستوطنين الأوروبيين في بلادهم ،  وكان يستحيل ذلك كذلك على مسلمي الجزائر عرباً وبربراً إزاء الفرنسيين ،  كما استحال علينا نحن العرب أن نتخذ معايير تقويم تضمنا مع الصهاينة ،  وكذلك كان الحال في كل بلادنا سواء العربية والإسلامية من بلدان آسيا وأفريقيا  ،  وذلك بموجب وضع المواجهة والمقابلة الذى كان سائداً إبان مرحلة الجهاد من أجل التحرر الوطني وإجلاء الاحتلال العسكري الأجنبي وإقصاء نفوذه السياسي المباشر.

ولكن ،  مع انتصار حركات التحرر الوطني على مدى الخمسينات ،  وانحسار الاستعمار القديم بشكله العسكري السياسي المباشر ،  ومع ظهور دول الاستقلال الوطني وأنظمته وحكوماته ،  ومع فرحة النصر والسيطرة على الذات والشعور بامتلاك المستقبل ،  مع كل ذل بدا لنا أن مرحلة من تاريخ البشر قد زالت وانتهت ،  وان مهمتنا الجديدة في المرحلة التالية – نحن دول الاستقلال الوطني ،  هي  “  اللحاق بالركب “  وبناء مجتمعاتنا على أفضل صورة يعرفها عالم اليوم من الرخاء والتقدم ،  ووضعنا حاضر أوربا صورة لمستقبلنا ومعياراً لتقدمنا. وهنا بدأ المعيار التاريخي ومعيار التقويم الحضاري للعالم يتوحد في وعى الثقافة السائدة ،  وقبلت نظم الاستقلال الوطني وحركاته في تلك الفترة ،  وبغير تحفظ كبير ،  قبلت أن يتحول وعينا من موقف المواجهة في التعامل مع مستعمرينا السابقين ،  إلى موقف التتالي والتعاقب معهم ،  وساد منظور للعالم بحسبان أن مجتمعاته جميعها تقف على سلم صعود واحد ،  وأنها لا تختلف إلا في درجة الارتقاء على هذا السلم ،  وظهر مصطلح الدولة المتقدمة والدول المتخلفة ،  ثم خفف هذا اللفظ الأخير فصار  “الدولة النامية “  أو التي في طريق النمو.

بهذا المنظور تعدل في وعينا التصنيف الذي كان قائماً ،  لقد كان تصنيفاً يتعلق بغاز ومغزو ،  أو بمستعمر ومستعمر ،  فصار يتعلق بمعاصر ومتخلف. كان التصنيف الأول يفيد تبادلاً في السببية ،  فكان سبب التبعية هي المتبوعة ،  وسبب ضعف أحد الطرفين هو غلبة الآخر له ،  أما في المنظور الجديد : فقد افتقد هذا التبادل السببي ،  وارتدت السببية إلى الذات ،  وقامت العلاقة بي النامي والمتخلف ،  لا على أساس تبادل السببية الذى يقتضي الابتعاد عن الطرف الآخر وفك الاشتباك  ،  ولكن على أساس تقويض ما في الذات من عناصر تعرق سعينا في التشبه بالمجتمعات المتقدمة ،  ولذلك تحولنا من موقف فعل الضد الذى يقتضيه الصراع ،  إلى موقف فعل المثل ،  الذى يوجبه تحقيق المثال ،  ومن السعي للمخالفة على السعي للمشابهة ،  ومن التبعية على الاتباع. وصار بأسنا بيننا بعد أن كان بأسنا على غيرنا.

ظهرت المعاصرة كوحدة انتماء أميي شامل تضم العصريين جميعا في العالم ،  ضد الخوالف فيه. وبدأ هذا التصنيف يسود على ما عداه من تصنيفات تفرق بين شعوب العالم ودوله ،  سواء كانت تلك التصنيفات تقوم على أساس الدين ،  أو القومية ،  أو اللغة ،  أو العرق ،  أو القارة.

ولما كان الأكثر تقدماً هو دول أوربا والغرب بصفة عامة ،  سواء رأسمالية أو اشتراكية ،  فقد سادت خصائصهم بحسبانها خصائص العصر ،  فكراً وعلوماً وأنماط حياة وسلوكاً ومذاهب ،  صار حاضر الغرب هو مستقبلنا ،  وصارت حياته ومجتمعاته هي مدينتنا الفاضلة المرجوة.   

وأكثر من ذلك صار ماضيه بما أفضى إليه في حاضرهم هو معيار تاريخ العالم ،  وبهذا قام مفهوم المعاصرة بحسبانه مفهوماً مطلقاً يقوم به إطار مرجعي ومفهوم شرعي يضم المجتمعات والدول التابعة كلها إلى الدول والمجتمعات المتقدمة.

الأصل أن العصر هو مفهوم زمني ،  يمكن أن يميز مرحلة ،  ويمكن أن تقوم له دلالة على التعاقب والتتالي ،  ولكنه بذاته لا يميز جماعة ولا تقوم به وحدة هوية. ولكننا إذا انتقلنا بالعصر من مفهومه الزماني إلى مفهوم يفيد بذاته الدلالة على حضارة واحدة أو جماعة واحدة ،  فإننا نكون قد أكسبنا وحدة العصر الزمانية دلالة أممية ،  من حيث يصير العصر بذلك وحدة انتماء جماعي ،  تحل محل وحدات الانتماء الأخرى ،  دينية كانت أو قومية أو غيرها. ويتحول  “ الزمن “  إلى فكر ووعى ،  ننظر به إلى الأمور ويحكم قيمنا وسلوكنا ويسيطر على ردود أفعالنا. ويفرع على ذلك القول بوحدة معيار التقويم للحاضر ثم للماضي. ووحدة العصر بمعناها السابق تقوم بها وحدة عامة للقياس التاريخي للعالم كله ،  تبدأ من الحاضر وتمتد في الماضي تعيد صياغة عناصره على وفق هذا المعيار العالمي الحاضر الجديد. وبهذا نعيد تقويم تاريخنا بما يقيم وحدة الجماعة البشرية في الحاضر وفى الماضي أيضاً ،  فالقول بوحدة العصر ينتج القول بوحدة التاريخ الذي يعنى وحدة الجماعة ؛ لأن التاريخ صيرورة ،  أي: جماع متحركة في الزمان.

لا بأس طبعا ،  أن يتوحد العالم وتتوحد الجماعة البشرية في مستقبلها ،  وفى حاضرها أيضا ،  وفى حاضرها أيضا ،  ولا بأس حتى أن تتوحد في ماضيها إن كان ذلك ممكنا. ولكن البأس يظهر عند معرفة هل يجري هذا التوحد لحساب فئة على حساب فئة ،  وهل يقوم به تقويم عادل لمصالح الحاضر ،  ورعاية للخصائص الشمول في ذاتية كل جماعة من الجماعات المكونة لهذا العالم؟

والأصل – فيما يبدو لي – إننا عندما نحدث عن العصري والمعاصر ،  فإنما يتعين علينا أولا أن نحدد من نحن ،  وإننا لا نستطيع أن نحدد  “  عصرنا “  غير منسوب لما ندرك أنه هويتنا ،  فالعصر مضاف وضمير المخالطين مضاف إليه ،  وكذلك عندما نقول  “  ماضينا “  غنما نشير إلى زمان منسوب إلى قوم معينين ،  وهو يكتسب معناه من هذه النسبة. وعلى العكس من ذلك من يريد أن يجعل إدراك الهوية تالياً إدراك العصر.

والأصل – أيضا – أن العصر بمعناه التاريخي الاجتماعي هو مجموعة الظروف والأوضاع الفكري والاجتماعية الاقتصادية والسياسية المعيشية خلال مرحل تاريخية ،  فهي بذلك وبهذه الروف والأوضاع تتصف بملامح محددة أو يغلب عليها طابع معين ،  وذلك ملما نقول في تاريخنا بعصر صدر الإسلام او عصر الحروب الصليبية … إلخ. إن كلا من هذه العصور صحيح وصادق في دلالته طالما كان منسوباً إلى الجماعة التي عاشته ومقروناً بها وهو يكسب معناه من أوضاع تلك الجماعة وحاضرها كما يضيف إليها من ملامحه ومستحدثاته وهذه الملامح والمستحدثات هي ما يمكمنأن يقوم بها العصر “  بالنسبة لأي من الجماعات ،  بما يشير إلى مقدار ما تعدلت به ظروفها وأوضاعها في مرحلة معينة ،  ودلالاته يكتسبها في إطار نسبته إلى جماعة معينة وما طرأ عليها خلاله من محدثات تعدلت به أوضاعها.

أما  “ العصر الحديث “  حسب السائد من دلالته اليوم ،  فهو تلك الملامح والمستحدثات التي عرفتها المجتمعات الأوروبية والأمريكية في الحاضر ،  وهي صادقة في غارها الزماني والمكاني كملامح عينية تفتقت عنها بيئة معينة أفضى تليدها إلى طريقها. ولكن وجه الخطأ او عدم الدقة ،  يرد من ان هذه الملامح حررت من سياقها النسبي ،  وألصقت بمطلق الزمان المعيش ،  لتصير عنواناً على ما يسمى بحضارة القرن العشرين ،  وجاء ذلك بصرف النظر عن أمرين أولهما: اختلاف الجماعات والتكوينات الثقافية التي تحيا في هذا القرن عن الجماعات والتكوينات الثقافية لأوربا وأمريكا ،  وثانيهما: اختلاف الظروف والأوضاع التي تحياها كل جماعة من هؤلاء من النواحي السياسية ولاجتماعية. أي: أن التاريخ ها قد حرر من الجغرافيا السياسية والجغرافية البشرية ،  وانطلق في حساب زمني مجرد و “  العصر الحديث “  بهذا المعنى هو في ظني أول مفهوم دنيوي بشري يرد بغير حاجة لالتقاء زماني بمكان ،  رغم أن علم الاجتماع  “  الحديث “  قائم دائماً على مراعاة تقاطع الزمان المكان وعلى النسبية المستفادة من ذلك. وهو ما ينفك يوصى بالتزام هذا المنهج. الخطأ – في كلمة-يرد في تعميم ذي الدلالة الخاصة ،  ويرد من نزع الأمر عن سياقه الظرفي وإطلاقه على البشرية جمعاء.

إن وحدة الزمان المستفادة من التقويم الميلادي ،  قد اتخذت عنواناً شاملاً على وحدة التاريخ الاجتماعي والحضاري ،  وألحق زماننا بماضيه وحاضره ،  ألحق بالزمان الأوربي الأمريكي ،  دون أن يقال إنه التحاق ،  أو أنه يمثل تبعية آسيوية أفريقية ،  أو يمثل متبوعية أوروبية أمريكية.

وصار من المسلمات على ألسنة المفكرين وأقلامهم أن يتكلموا عن حضارة القرن العشرين ،  وعن العصر الحديث ،  وصرنا نصدق من أمر أنفسنا أننا في بلادنا نحيا في عصرهم.

ولقد أحدث هذا الامر – في ظني-صدعاً عميقاً في وعينا الحضاري وفى حسابنا للزمن ،  أما عن وعينا الحضاري: فقد صرنا مثل الأوروبيين في التصور المثالي ،  رغم أننا غيرهم ومختلفون عنهم في المنظور الواقعي.

وأما عن حساب الزمن ،  فغ وحدة الزمن التي وحدتنا بهم (القرن العشرين كمفهوم حضاري) ،  قد فصمت وعينا بحاضرنا إلى حاضرين اثنين ،  حاضرهم الذي صار مستقبلاً لنا نسعى على تحقيق صورته إلى بلادنا ،  وحاضرنا الذي صار في وعينا ماضياً لنا نسعى الي التخلص منه. وقد سقط كثير منا بين الحاضرين في فجوة اللاإرادية والعبث.

إن المواكبة الزمنية لا تدل في تقديري على وحدة العصر بالمعنى المقصود هنا ،  وهو وحدة الظروف والأوضاع التي تحيط بالجماعة. وإذا أردنا فض هذا الاشتباك بين العصور التي يحيياها الناس في عالم اليوم ،  فيتعين ان ننر في عالمنا العربي والإسلامي ،  لنرى الملمح العام الذي يميز جماعتنا في المرحلة التاريخية المعايشة؛ لنصل إلى كلمة سواء نقطة التقاء الزمان والمكان.

والواقع إننا يمكن ان نكون واقعيين وتطبيقيين تماما في نظرنا لنقطة البداية التي تميز هذه المرحلة. فالمتفق عليه تقريبا ان هذه المرحلة بدأت في عام 1898 مع حملة نابليون بونابرت على مصر. وقد تكون هذه المرحلة بدأت – فيما يترجح لي – قبل ذلك بربع قرن عندما وفع السلطان عبد الحميد الأول في عام 1774 تلك المعاهدة الذليلة التي أتاحت لقيصر روسيا التدخل في الشئون الداخلية للدول العثمانية. وأيا كان تاريخ البداية ،  فالبداية هنا لابد ان تكون علامة على بدء التدخل الأوربي في شئوننا ،  سواء أسميناه غزواً او فرضاً للهيمنة والسيادة ،  ولابد ان يكون علامة على بدء مقاومتنا لهذا الغزو أو لهذه التبعية والإلحاق للغرب. وليسمي الغرب حاضره بعصر الذرة او عصر الثورة الصناعية الأولى والثانية أو ثورة المعلومات والاتصالات ،  وأما نحن فلا أظن اسما يصدق على عصرنا منذ مائتي سنة حتى اليوم ،  وإلى مدى لم ندر بعد منتهاه ،  إلا اسم  “  عصر التبعية ومقاومتها “ .

إن كل احداث تاريخنا المعاصر ،  اخالها تفسير ولا ان يفهم معناها ن غلا بالنظر إلى هذا الملمح العام وتلك الصبغة المهيمنة على كل القضايا والاحداث. والتاريخ السياسي على مدي مائتي سنة ،  وهو تاريخ غزو متتابع ومقاومات متتابعة ،  وتاريخ الاقتصاد هو تاريخ فتح أسواق

بلادنا واستخراج ثرواها ،  وهو تاريخ سعينا لحماية ما نملك من ثروات وحماية ما نستطيع من أسواقنا ومحاولة النهوض بذلك.

والثروات التي جرت كانت ضد الاحتلال أو السيطرة الغربية ،  وفكرة الإصلاح قامت في تاريخنا الحديث من اجل الحصول على إمكانيات مقاومة المخاطر الخارجية ،  سواء تمثل هذا الإصلاح في إصلاح الجيوش كما حدث على يد كل من سليم الثالث ومحمود الثاني في الآستانة ومحمد على في القاهرة ،  او ان تمثل هذا الإصلاح في اصلاح الفكر على أيدي محمد بن عبد الوهاب والسنوسي والافغاني ومحمد عبده وغيرهم…. إلخ.

وحتى أفكار الإصلاح الضال أو الإصلاح الضار الذي أفسد من حيث أريد به الإصلاح ،  فقد استخدم لتهيئة المؤسسات الفكرية والاجتماعية لتتلقى النفوذ الاستعماري الغربي ولنمكن له في الأرض. ذلك أن ما من حركة ولا سكنة ولا فكرة ،  إلا واكتسبت شرعية وجودها في مجتمعاتنا من أثرها الصحيح ،  أو من أثرها المتوهم ،  في الاستجابة للتحدي الأعظم لأوضاع التبعية والالحاق. وأي فكرة أو حركة لم تكسب معناها إلا من حيث كونها ،  إما تثب التبعية والإلحاق أو أنها تفيد التحرر من ذلك أو مقاومته.

اما عصر الثورة الصناعية الأولى والثانية ،  فقد فتح بلادنا لمنتجات هاتين الثورتين وقضى على بذور ما لدينا ويراعمه ،  واحالنا عيالاً فيما نستهلك من غير ما نقدر على إنتاجه ،  وأما عصر الذرة والصاروخ فقد انشا سلاحاً يتهددنا ولا نملكه ،  ولا نقدر على صناعته ،  وإن استطعنا منعنا به نفسه.

بهذه الصيغة العامة لعصرنا ،  نستطيع أن نفهم كل أمر في واقعنا ،  من حيث الانقسامات والوحدات والثورات والانتفاضات والرغبة في الاستقرار ،  وقضايا الاقتصاد والتصنيع والزراعة ،  ومسائل السلم والحرب ،  والجامع السياسي لامتنا اسلاما وعروبة ،  ونظم الحكم وبناء المؤسسات وتنظيم الجيوش ،  والفكر والثقافة والتعليم.

نعم نستطيع ان نفهم كل ذلك وفقاً لهذا المعيار الذي يمكننا من الحكم على كل حركة أو فكرة بالصحة والفساد.

نحن عندما نقول بوحدة العصر ،  بما يفيد وحدة الظروف والأوضاع ،  فإن ذلك يقتضي منا النظر إلى العصر كجامع حضاري وأممي يضم جماعة بشرية ذات مسعى واحد وتكوين مشترك واحد. وهذا الجامع يمهد للقول بوحدة التاريخ. فالوحدة الحضارية البشرية التي تقوم على عنصر  “  العصر الحاضر “  تؤدي بالضرورة إلى توحيد العصور السابقة. لأننا لا نستطيع

– في ظني-ان نقيم جماعة بشرية في وعينا ،  وإلا إذا ترابط تاريخنا بهذا الوعي والادراك بالحاضر.

لا اقصد أن يترابط التاريخ من حيث الاحداث ،  فأحداث الماضي يمكن ان تختلف داخل إطار الجماعة الواحدة ،  كما أن احداث الماضي انتهت ولا يمكن الحذف منها او الإضافة ،  إنما القصد أن الوعي الحاضر بحاضر الجماعة ،  يقوم به معيار واحد أو معايير موحدة للتقويم التاريخي ،  ولتحليل الأحداث الماضية ،  ويقيم مناجا للحكم على هذه الأحداث ،  ويكون النسق المدرك لأحداث الجماعة ،  ويتحدد به ما يمكن أن نعتبره الصالح العام لهذه الجماعة وخصائصها وأساليب حركتها التاريخية.

إن وعي الحاضر هو ما ننظر به في التاريخ ،  وعندما تفاؤل كارل ماركس بما يفعله الانجليز في الهند – على عهده – من تحطم الوحدات المحلية الموجودة في القرى والجماعات التقليدية ،  غنما كان يعبر بهذا التفاؤل عن مثل هذا المعيار التقويمي ،  المستخلص من النظر الأوروبي للعالم في القرن التاسع عشر.

إن وحدة العصر الحاضر كجامع حضاري وبشري ،  تستتبع توحيد العصور السابقة ،  من حيث معايير الحكم والتقويم أي: أنها تستتبع إخضاع تاريخنا الماضي لمعايير التاريخ الغربي ،  وإعادة كتابته وفقاً لذلك التصوير الغربي. وبهذا التتابع نكون قد عكسنا الصورة ،  فالمفروض أن وحدة الماضي هي من اهم عناصر توحيده الجماعة الحاضرة ،  ولا يصح واقعاً ومنطلقاً أن نقر اولاً بوحدة الحاضر بحسبانها  “  المسلمة الأولى “  ثم نرتد على التاريخ نوحده.

على أي حال فقد بذل المفكرون والمؤرخون جهوداً كبيرة لإقامة هذه الوحدة التاريخية ،  وأعادوا قراءة تاريخنا وكتابته وفق ما حسبوه معايير ومقومات عامة ومعاصرة ألحقته بالتاريخ الغربي في الأساس.

إنه باسم وحدة العصر الحاضر يراد ان توحد شعوب العالم على أساس من القيم والمفاهيم والرموز التي تقدمها الحضارة الغالبة ،  ومن هذه الأسس والمفاهيم تكون نظرة الحضارة الغالبة لتاريخها هي التي من شانها ان تسود وتعمم على تاريخ حضارات العالم الأخرى ،  كما ان المعايير المستخلصة من تاريخ الحضارة الغالبة ،  تسود وتعمم ليعاير بها تاريخ الشعوب الأخرى ،  ويعاد صياغة التاريخ وفقاً لذلك.

إن فكرة العصر اريد له أن تكون جامعاً بشرياً حضارياً ،  والعصر هو عصر سيادة الحضارة الأوروبية الامريكية ،  ومن ثم ألحق حاضرنا بحاضر لك الحضارة ،  وألحق تاريخنا الإسلامي

بتاريخ الغرب الأوروبي. آية ذلك ان صار مؤرخونا يقسمون تاريخنا وفقاً لأقسام التاريخ الأوروبي ،  يظن أن هذه التقسيمات لتاريخ العالم. وذلك على الرغم من أن هذه الأقسام الثلاثة الكبرى لهذا  “  التاريخ العالمي “  تتخذ علامات فاصلة لها من صميم احداث التاريخ الأوربي فقط ،  وذلك في وقت لم تكن فيه أوروبا – التي جرت فيها تلك الاحداث – مركزاً للعالم ،  وإلا كانت احداثها ذات أثر عام على العالم كله وإلا على البلدان غير الأوروبية.

إن العصر القديم (الأوروبي) ينتهي ويبدأ العصر الوسيط ،  حول القرنين الرابع والخامس الميلادين تقريبا ،  وعلامته سقوط أوروبا في أيدي البرابرة ،  والتاريخ الوسيط(الأوروبي) ينتهي ويبدأ التاريخ الحديث ،  بالقرنين الرابع عشر والخامس عشرن وعلامته لدى البعض المؤرخين سقوط القسطنطينية في أيدي العثمانيين المسلمين ،  ومن علامته لدى آخرين بدء عصر النهضة وعصر الإصلاح في أوروبا ،   وكل ذلك من الوقائع الأوروبية ،  وهى إن صلحت معياراً للتاريخ الأوروبي ،  وإن جاز لأحد أن يجادل في قلة تأثيرها على غير أوروبا من بلدان غرب آسيا وشمال أفريقيا  ،  فلا أظن خلافاً يثار حول عدم صلاحيتها كمعايير يتحدد بها التاريخ شرق آسيا ووسطها مثلاً  ،  كما أن امراً مثل ميلاد المسيح في القرن الأول او ظهور الإسلام في القرن السابع لم يكن لإيهما أثر في هذا التقسيم  ،  وأمر آخر كسقوط الدولة الفارسية ثانية أعظم دولتين وقتها ،  ولم أن يكون لهذا السقوط روما من قبل  ،  او سقوط القسطنطينية من بعد. هذا من ناحية تقسيم المراحل التاريخية.  

أما من ناحية الحكم العام على أي من تلك المراحل  ،  فإن العصر الوسيط الأوروبي يعتبر لدى الأوروبيين بحق عصر ظلمات وبدائية  ،  وعصر انتكاس بعد إذ جاء على انقاض الحضارتين الافريقية والرومانية  ،  ولكن من الخطأ والتحيز أن يعمم هذا الحكم على غير الأوروبيين في العصر ذاته  ،  وهذا العصر بعينه في تاريخنا هو عصر الرسالة المحمدية وصدر الإسلام ،  وهو عندنا عصر انتصار الايمان والوحدانية  ،  وانتصار العقل والتحضر في السياسة و النظم  ،  وفى الرخاء وحقوق الانسان ،  وفى تقدم العلوم والآداب والفنون ،  وهو عصر يشمل تقريبا القرون الأربعة الأولى من الهجرة ،  ويقع في التقويم الميلادي بين القرن السابع والقرن الحادي عشر.

وجاء انتهاء العصور الوسطى في أوروبا بما اعتبره الضمير الأوربي نكبة بسقوط القسطنطينية ،  وهذا السقوط هو ذاته الذي ينظر إليه التاريخ الإسلامي بكثير من الاعتزاز.

ثم تأتى مرحلة الاكتشافات البحرية الكبرى لأوروبا ،  واكتشاف الأميركتين واكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح بين أوروبا والشرق الأقصى عبر المحيطات الجنوبية  ،  وذلك من القرنين الخامس عشر والسادس عشر ،  وهذه الاكتشافات هي ذاتها التي طوقت العالم الإسلامي والعربي وحاصرته من الجنوب و الشرق  ،  عبر المحيط الهندي وشبة القارة الهندية ،  وكانت الحروب الصليبية قد فشلت في هزيمة المسلمين والعرب عندما جاءتهم من الشمال والغرب فقط ،  فكانت حركة التطويق هذه مما تعدلت به موازين القوى لغير صالح المسلمين و العرب تعديلات جوهرية لاتزال آثارها حتى اليوم. ثم يأتي القرنان السادس عشر والسابع عشر وهي فترة تحتضن في أوروبا عصور النهضة والإصلاح الديني والتنوير ،  وهي ذاتها تحتضن في أوروبا عصور النهضة والإصلاح الديني والتنوير ،  وهي ذاتها تحتضن عهود الخمول والجمود في تاريخينا العربي الإسلامي.

كيف يمكن بذلك أن تتوحد العصور وتتوحد الأحكام ،  إلا بكثير من الشط وتجاهل الواقع ،  تجاهلاً يصل إلى حد إسقاطه كلية. غننا لا تعارض على حركة التاريخ الأوروبي ولا على تقسيماته تقويماته ،  فهي صادقة وصائبة منسوبة إلى الوقائع الأوروبية ،  ولكن لايبدو لي معقولاً أن تعمم هذه الخبرة الخاصة فيما أنتجت من تقسيم وتقويم  ،  وأن نتبنى نحن هذه التقسيمات والتقويمات ونستخدمها كأدوات فكرية في تحديد واقعنا ووصفه ،  او كمعايير نتحاكم بها في تاريخنا  ،  ومن غير الصائب ولا الصادق ان نعتبر معايير التاريخ الأوروبي الغربي هي معايير تاريخ العالم أجمع ن بما فيه الصين والهند واندونيسيا وغيرهم‘ وإذا فعل المؤرخون الغربيون ذك فهو منهم حياد عن العلم يدور في إطار الخطأ  ،  وقد يجد عذراً لديهم من الميل الطبيعي لدى الانسان في أن يقع أسير خبرته الذاتية ويعمم نتائجها على الاخرين ،  ولكن إذا فعلنا نحن ذلك بأنفسنا  ،  فنحن إذا نعاني من الاغتراب والاستلاب وكما قال الأستاذ عبد الرازف السنهوري في 1934 إننا نعاني في الفكر القانوني من احتلال أجنبي لا يقل كخطراً عن الاحتلال  العسكري الذى يقع على أراضينا  ،  فنحن هنا بهذا الاستلاب نعاني في نظرنا إلى  تاريخنا من احتلال لا يقل خطراً عن الخطرين السابقين.

ولا يقف الأمر عند حدود التقسيمات والتقويمات الكلية ،  إنما يصل إلى صميم أدوات التحليل للنظم والمؤسسات والأفكار والاحداث ،  فالنظام الاقطاعي – مثلا – نجد نموذجه ومثاله في نظام الإقطاع الأوروبي. والحاصل ان ما ظهر في بلادنا او في بلاد الشرق كافة – من آسيا على أفريقيا – فقد كان غير مطابق لهذا النموذج ،  وكان تنظيما آخر بعيدا عن هذا المثال ،  

ورغم ذلك بقي ينسب إلى النموذج الأوروبي ويقاس بدرجة مشابهته لهذا النموذج ،  وسمى أحيانا شبة إقطاع ،  واعتبر استثناء وشذوذا ،  بمعنى انه كان لابد ان يكون منسوباً إلى النموذج الأوروبي مقيسا به ،  بالمطابقة او المشابهة او بالمخالفة ،  ولا يهم ان تكون المخالفة كبيرة مادامت دائرة الشذوذ يمكن ان تسع هذه المخالفات ،  فإن لم تسعه آل إلى دائرة الاستثناء.  

كما لا يهم أن يكون النموذج مأخوذاً مما ظهر في أقل من ربع العالم وهو أوروبا ،  ولا يهم أن يشمل دائرة ما يعتبر شذوذاً أو استثناء ثلاثة ارباع العالم ،  بمعنى أنه لا يهم أن يستخرج النموذج والمثال من الحالة الأقل عدداً والاقصر عمراً وزماناً. لا يهم ذلك كله ،  لأن جدارة النموذج آتية من هيمنه النموذج الحضاري الأوروبي الحاضر على حضارات العالم كلها باسم  “  وحدة العصر الحديث “  ثم من ارتداد ذلك على الماضي ليجعل الماضي الأوروبي هو نموذج  “  العصور الخالية “  ،  فئمة توحد  “ للعصر الحديث “  بالنموذج الحضاري الغربي المعاصر ،  وثمة تأثير آخر لهذا التوحيد الحاضر على واقع الماضي.

كذلك صار المفهوم الأوروبي الغربي عن الدين “  هو المفهوم النموذج لأي دين في أي مكان ،  وإن هذا الجانب من الخبرة التاريخية الأوروبية مستقى من التجربة البابوية في الكنيسة الكاثوليكية ،  ومن دورها في العصور الوسطى بأروبا. والامر هنا يتعلق بصلة الدين بالدنيا وصلة الكنيسة بالدولة. وبمفهوم الكنيسة في العقيدة المسيحية. والمسيحية هنا غير الإسلام ،  والكنيسة الكاثوليكية الغربية ليست مثل كنائس الشرق من حيث الدور التاريخي ،  وليس للدور العقيدي للكنيسة دور مؤسسي مثيل في الإسلام ،  والمدى الواسع لمفارقة المسيحية لشئون الحكم مخالف لموقف الإسلام الإيجابي من هذه الشئون ،  وليس في الإسلام مؤسسة مجسدة للعقيدة كما هو شأن الكنيسة في المسيحية ،  وليس في المسيحية أسس ومبادئ تصلح بذاتها للتطبيق في شئون الحكم والمعاملات كما هو الشأن في الإسلام. ومن جهة أخرى ،  فإن التوظيف التاريخي والاجتماعي قد اختلف ،  سواء في الحاضر أو في الماضي المردود إليه ،  ورغم ذلك تقدم تجربة الغرب التاريخية في هذا الصدد بحسبانها نموذجاً ومعياراً عاماً للتقويم يقاس به دور الدين في المجتمعات الأخرى. فهو يعمم مثالب تجربه على الكافة ،  ويعمم أسلوب تخلصه من هذه المثالب على الكافة أيضاً ،  سواء في ذلك الإسلام أو الكنائس الشرقية أو نظم العبادات الأخرى ،  آسيوية وأفريقية. 

وهناك مثلاً الاكتشافات الجغرافية ،  فغن اكتشاف أوروبا للطريق البحري إلى الشرق عبر المحي الهندي والجنوب العربي هو اكتشاف بالنسبة للغرب ،  لأنه عرف بذلك ما لم يكن يعرف ،  أما من وجهة نظرنا: فكيف نعتبره اكتشافا ،  وقد كان البحارة العرب يجوبون تل البحار القريبة منهم ،  وكان الرحالة العرب يضربون في أعماق آسيا وأفريقيا ،  وتمر على بلادهم تجارة هؤلاء وهؤلاء وقوافلهم ،  ثم إن اكتشاف أعالي نهر النيل هو اكتشاف بالنسبة للغرب ،  ولكن بالنسبة لأهالي وادي النيل فمن السخرية بهم ان يلقنوا انهم اكتشفوا ،  وان بلادهم اكتشفت بواسطة الرحالة الأوروبيين. ومن الخزي ان نعتبر أنفسنا كأفريقيين ،  وقد وجدنا يوم رآنا الرجل الأوروبي ،  كأننا بذلك موضوع ،   “  مدرك “  ولسنا ذواتاً واعية مدركة.

إن هذه المفاهيم والقيم التي تشكل المنظور في تصدينا للواقع وتكون الأدوات في تصدينا للمشاكل ،  ولا تيسر لنا صواب النظر ولا صحة التناوب. والأخطر في ذلك انها تجعلنا دائما نعيش وفقاً لنموذج آت لنا من غير واقعنا وخبراتنا ،  وتعاير أوضاعنا طبقاً لمثال اجتماعي وتاريخي مفارق لما عايشناه ،  وقد أنتج فيما أنتج أن كل ما اخرج واقعنا التاريخي أو الحاضر ،  من فكر أو هيئات أو مؤسسات أو نظم ،  إنما هو دائما إما ناقص أو نتوء ،  وهو في الحالتين شاذ أو استثناء ،  لأنه دائما غير منسوب إلى ذاته ووقائعه ،  ولكنه منسوب إلى نموذج آت من خبرة تاريخية مغايرة جرت في المجتمع الأوروبي ،  وصار النقص او النتوء علامة على غالب ما نعرف من ماضي او حاضر. وهذا ما ينتج عن كون المعاصرة كمفهوم اممي قد الحقنا بحاضر غير حاضرنا ،  وبمراحل تاريخ ليست هي مراحل تاريخنا ،  وبتقويمات أحداث ونماذج نظم لم تظهر في مجتمعاتنا.

إن وحدة العصر كجامع حضاري وأممي ،  تعنى إلحاق عصرنا الراهن ،  أي حاضرنا ،  بعصر الغرب ،  أي: بنمط الحضارة الغربية الغالبة المنصفة بوص حضارة العصر الحديث ،  وهذا يعنى فيما يعنى أن التبعية في الحاضر ترتد تبعية على الماضي ،  كما أن وحدة العصر جامع أممي استتبعت وحدة التاريخ.

بقيت نقطة أظنها هامة ،  فإن هذه الوحدة التاريخية التي أجريت إلحاقنا بالتاريخ الأوروبي ،  لم تقم بها وحدة بين الأقطار والاقاليم التي كانت تنتمي إلى تاريخ واحدن بل إنها أفادت تقتيتا وتقسيما لأقوام التاريخ الواحد والحضارة الواحدة. والعجيب أن معظمنا لا يكاد يشعر الآن أنه مع توحد تاريخنا بالتاريخ الغربي ،  قد حدث انهيار في نسقنا التاريخي بوصفه كلاً متكاملاً.

إننا عندما نقرا للطبري أو ابن الأثير او غيرهم نجدهم يسردون وقائع التاريخ مصنفة بالسنين أو حسب الأشخاص والاحداث. وقد لا يرضينا من بعضهم عدم التحقيق من ثبوت الوقائع ،  ونحن نؤثر اليوم بحق ان نبني وقائع التاريخ ذات الدرجة المعتبرة من الثبوت ،  ان نبنيها في مخيلتنا على أساس كونها بناء محكماً متماسكاً من الأفعال والآثار وردود الأفعال. ولكن ما تمتاز به نظرة الاسبقين هو هذا الشمول لأرجاء التاريخ الواحد ،  وهذا التصور الرحب المنبسط لتاريخ واحد يجمع امة واحدة ،  ويتابع احداثها بغير قواطع مانعة ولا حدود فاصلة.

وعندما نقرأ للمقريزي أو ابن إياس أو الجيرتي ،  ممن عرفوا بمدرسة التاريخ المصري ،  فإننا نجدهم رغم حديثهم الغالب عن الوقائع المصرية ،  إلا ان مصر في تصورهم لم تكن مقطوعة ولا مفصولة عن غيرها من الأقطار الإسلامية ،  ولم تكن تجزئة السلطة مما يقيد في إدراكهم تفتيت الجماعة الإسلامية الاشمل ،  ولا اقام في تصورهم أسواراً عالية بين ما يعتبر شئونا داخلية وما يعتبر من الشئون الخارجية في إطار الجماعة الإسلامية  ،  وذلك سواء كانوا مؤيدين لحكوماتهم أو معارضين لها ،  وذلك رغم اختلافهم في درجة تركيز كل منهم على وقائع إقليم معين أو أهل مذهب بعينه ،  ورغم ميل أي منهم لفرقة معينه أو حكومة بعينها.

يختلق كل ذلك عن التصور الراهن لتاريخنا ،  فقد حدث أولا ان عصرنا الحاضر الذي توحد مع الغرب ،  قد واكبه ولازمه تفتيت وتفسيخ لجماعتنا السياسية ،  إسلامية أو عربية ،  وهذا التفتيت أقام لدينا دولا شتى ،  كلا منها تكون وحدة سياسية منفصلة عن غيرها ،  ولكن هذا التفتت ليس بجديد ،  لأن التاريخ الأسبق عرف في كثير من فتراته تعداداً تجزيئياً ،  وقد لا يكون بمثل ما نرى اليوم من كثرة ،  ولكنه تعدد وتجزئ على كل حال. إنما الجديد أن هذا التقسيم السياسي إلى دول وأقطار قد أثر في وعينا بالجماعة ،  وأفاد تقسيما وتفتيتا في التصور وفى الإدراك لمفهوم الجماعة في الحاضر ،  وارتد ذلك على التاريخ يقسمه ويفتته ،  وهذا أمر أظنه غير مسبوق في نوعه.

إن من المعقول لأي دولة في العالم وفى التاريخ ،  أن تحاول تزكية تاريخها بواسطة من يؤيدها من المؤرخين ،  ولكن ما أطن أنه لم يحدث من قبل ان ارتد هذا الصنيع على تاريخ الأسلاف يقسمه ويقطعه ،  ذلك أن أفكار الماضي كانت مقسمة ولنها لم تكن تابعة لدول أخرى ولا ملحقة بحضارات أخرى. لذلك لم ينعكس التقسيم السياسي الذي ساد قديماً في فترة ما ،  لم ينعكس تقسيناً للوعي بالجماعة عبر التاريخ الأسبق ،  إن فكرة العصر الواحد مع الغرب كجامع أممي ،  فضلاً عن التبعية للغرب ،  قد أفقدنا ذلك أصول رؤيتنا لذاتنا الجماعية وأصول تصورنا لها ومقياس نظرنا لأنفسنا ،  ومن ثم فإنه مع التجزء القري الحاضر للجماعة ،  ظهر الميل الآن يرتد هذا التجزئى للماضي يفتته.

حدث هنا مثل ما يحدث في الاقتصاد ،  فالانقسامات السياسية القديمة ،  رغم انها كانت تعرقل التبادل الاقتصادي ،  إلا انها لم تكن تقضى عليه ،  وفى مصر مثلا: بقي ميناء دمياط – الميناء الشرقي مزدهراً على الدوام يستقبل تجارة الشام والاناضول ،  وظلت قوافل التجار عبر الطرق البرية بين الأقطار ،  سواء ضمتها حكومة واحدة او توزعت على عدة حكومات.

اما اليوم يظهر أن نظرتنا لتاريخنا الحديث ،  ودراستنا فيه ،  تقوم على أساس قطري تجزئي. وهي في معظمها غير مترابطة ،  لا على المستوى العربي ولا على المستوى الإسلامي. وقام التاريخ الحديث لكل قطر مفصولا عن وقائع غيره من الأقطار ،  وتعددت التواريخ بتعدد الدول.

ولكن الامر لم يقتصر على هذا الانفصال والتجزيئ في النظرة التاريخية ،  إنما الأخطر من ذلك هو ما نتج عن ذلك – وكان من الحتم ان ينتج – من تضارب  نظرات الأقطار للأحداث المشتركة بين كل منها وبين الأقطار الأخرى التي يضمهم جميعا جامع الإسلام والعروبة ،  وأبسط مثل على ذلك : عندما نقرأ كتابات المؤرخين المصريين عن حروب محمد على وإسماعيل في السودان  ،  ثم نقرأ عن ذلك لدى المؤرخين السودانيين ،  وذلك الحال بالنسبة لمؤرخي الشام ومصر عندما يكتبون عن حروب محمد على وحكمه للشام ،  ثم اختلاف النظر القطري للثورة العربية التي حدثت في سنة 1916  ،  اختلافها بين الإسلاميين والقوميين  ،  ثم الاختلاف في تقويم الاحداث  بين دعاة الإصلاح في بلاد الشام ودعاة الإصلاح في مصر في الفترة السابقة على الحرب العالمية الأولى ،  إذ كان الأولون يعارضون حكم السلطان العثماني وقد يجدون نوعا من العون من النفوذ الإنجليزي في مصر ،  وكان الأخيرون على العكس يثورون في وجه الانجليز  ،  وقد يجدون شيئا من المساندة من الباب العالي ،  كذلك الشأن نفسه من اليمين بين حركتي الإصلاح في كل من عدن واليمن إبان عهدي الامامين يحيى واحمد لليمن ،  مع وجود الانجليز في عدن.

الامر هنا ليس أمر انحصار الوقائع المسرودة اقطر معين ،  ولا امر جزئية النظرة والتقويم ،  ولا امر تعدد النظرات تعدداً بسيطاً ،  وهو كذلك ليس امر جهل المشرقي بوقائع تاريخ المغربي مثلا ،  ولا جهل المصري بوقائع تاريخ العراق ،  ولكنه أمر تضارب رؤى وتنازع تقويمات وتصارع وجهات نظر. وهذا يوضح أن وحدة التاريخ العربي والإسلامي الحديث ،  لن تكون بمجرد الجمع والاضافة البسيطة لوقائع كل قطر مع وقائع غيره من الأقطار ،  ولكنها ستكون مسألة بالغة الصعوبة ،  ومدعاه لأشد درجات الاختلاف ،  وذلك عندما نحاول أن نضع معايير

موحدة لتقويم وقائع الأقطار العربية والإسلامية ،  ونحاول أن نضعها كلها في سياق تاريخي واحد ،  ونبني منها جميعاً بناء تاريخياً واحداً.

إن النظرة التجزيئية قد أقامت في الوعي الإنساني كيانات منفصلة  ،  وتبلور على كل كيا موقف وتحدد به منظور خاص ومتميز ،  أي : ترتب عليه تكون نسق قيمي  ،  ونحن نواجه تضاربا بين هذه الأنساق وعندما نعمل على توحيد نظرنا في إطار التكوين الجمعي الاشمل ،  فلن يأتي ذلك بالإضافة البسيطة للوقائع وللرجال ،  ولكنه سيحتاج إلى الجهد الدؤوب للتخلص من النظر الجزئي ،  ولبناء معايير للتقويم شاملة تستوعب أقصى  ما تقدر من تلك النظرات الخاصة ،  وتعمل على التنسيق بينهما ؛ ليقوم منها كلها نظر عام شامل  ،  يمثل القاسم المشترك الأعظم لها جميعا.

وكما أن وحدة العصر الحديث كجامع أممي وحضاري ،  ارتدت على التاريخ توحده وتخضعه لمعايير موحدة مأخوذة من تاريخ الحضارة الغربية المسيطرة ،  فإن التجزيئي والتفتيت للتاريخ العربي الإسلامي الحديث ،  قد ارتد – أيضا-إلى التاريخ الأسبق يعمل فيه أدوات التجزئ والتفسيخ. ذلك أن الأمر هنا يتعلق بقيم ومفاهيم إن قام بها ميزان تقويم الحاضر ،  فيستمد أثرها بالضرورة بحسبانها ميزانا لتقويم الماضي.

وهذا ما حدث ،  فنحن لم نكتف بما صنعه في التاريخ الحديث ،  إنما عدنا القهقري منذ بداية الإسلام حتى القرن التاسع عشر الميلادي. ورغم ان هذا التاريخ الأسبق بمراحله العديدة ن كان تاريخياً سياسياً واحداً وعاماً في فترا تاريخية طويلة ،  ورغم أنه عند التجزئة كاد يتجزأ إلى وحدات أقل عددا وأكبر حجماً مما هو حادث الآن ،  ورغم أنه كان عند التجزئة تقتصر التجزئة على الحكم السياسي فقط ،  مع الإقرار العام بوحدة الجماعة وبأن ثمة تاريخاً عاماً لامة واحدة تجمع حضارة واحدة ،  رغم كل ذلك  ،  فإن النظر التجزئى المعاصر أفاد لدى الكثير من المؤرخين المحدثين للتاريخ الوسيط ،  ميلاً لن يعزلوا  تاريخ كل قطر حديث ويجمعوا وقائعه وحدها ،  ثم يقيمون منها بنياناً تاريخياً مستقلاً ومنفصلاً عن تاريخ غيره من الأقطار. ومن هنا فصلت وقائع كل قطر من غيره ،  وقسم الملك التاريخي الشائع بين أقطار الحاضر ،  كما يقسم الورثة تركه مورثهم بعد وفاته. وأحيانا ما لا يكون الأمر أمر فرز ،  ولا حتى أمر اقتسام ،  وإنما يكون بتراً وتقطيعاً لأشلاء جسد واحد ،  ونحن اللذين يحيون في نهاية القرن العشرين ،  وصار التاريخ العربي الواحد اثنين وعشرين تاريخاً ،  ناهيك عن تاريخ المسلمين جميعا.

إن صناعة نسق تاريخي متميز ومنفصل لكل من هذه الأقسام ،  إنما أدى إلى فساد كامل لريتنا التاريخية ولأحكامنا ،  ولتقويماتنا لوقائع التاريخ. فدخول عمرو بن العاص مصر في القرن السابع الميلادي هل كان فتحاً إسلامياً كما نفهم نحن أم كان غزواً عربياً؟ آسف إذا قلت إنه صار بيننا من يطرح هذا التقويم الثاني.

ثم مجئ المعز لدين الله الفاطمي من المغرب إلى مصر في القرن العاشر ،  هل كان توحيداً أو ضمناً أو غزواً؟

والدولة التي قامت وكانت عاصمتها في القاهرة التي بناها وقطنها المعز وبنوه ،  هذه الدولة ماذا كانت؟

ثم محاولة على بك الكبير الخروج بمصر عن ولاية العثمانيين في نهايات القرن الثامن عشر ،  هل كانت حرك انفصال أم كانت حركة استقلال؟

ثم صنيع محمد بك أبو الدهب الذي كان في جانب على الكبير ،  لكنه تعاون مع العثمانيون لهزيمة سيده ،  هل كان وطنيا يحفظ وحدة الدولة العثمانية ،  ام كان خائنا لوطنه ينصر المحتل عليه؟

إن التاريخ الألماني مثلا ،  استقر على المفهوم التوحيدي لألمانيا عنما يجري تقويمه لوقائع الولايات الجرمانية السابقة ولواقع بروسيا مع سائر مع سائر الولايات الأخرى. وهذا المفهوم التوحيدي ل حوادث التاريخ الألماني ،  لم يهتز فيما أعلم بعد أن انقسمت المانيا إلى دولتين بعد الحروب العالمية الثانية في 1945م ،  لقد بقي التاريخ الألماني السابق تاريخاً واحداً ،  ولم يقسم التاريخ الألماني وينفرز الملك الشائع السابق بذلك التقسيم الطارئ ،  ولعل ذلك كان من أسباب سرعة توحيد القسمين في الأعوام الأخيرة ،  ذلك أن القسمة السياسية لم تكن أدت إلى  “  تقسيم الوعي “ . وما أريد أ أبينه بهذا المثال أن الانقسام السياسي إل دولتين أو أكثر ليس من شأنه أن يفسر ولا أن يسوغ قسمة التاريخ وضياع الرؤية التاريخية الواحدة للماضي.

وبالجملة فإن من أخطر وجوه الافساد القيمي في هذا الشأن ،  أن ما كان يعتبر عاملاً خارجياً في تقويم أحداث التاريخ. وانعكس الوضع فصار ما هو عامل خارجي كالحملة الفرنسية على مصر ،  صار ما هو عامل خارجي كالحملة الفرنسية على مصر ،  صار يعامل أحيانا كما لو كان عاملا داخلياً ،  وبذلك عندما ينظر إليه البعض كعنصر مساهم وباعث للنهوض والتقدم ،  وقد جرى له هذا القويم تحت إملاء المفهوم السائد عن  “  وحدة العصر “  بالمعنى الأممي والحضاري ،  وما ترتب على ذلك من اغتراب والتحاق برباط التبعية مع الغرب ،  والالتحاق المعنى هنا ليس التحاقا ماديا اقتصاديا ولا سياسيا ،  ولكنه التحاق يتعلق بالوعي.

هذا ما يحضرني لأتقدم به إلى هذه الندوة في شأن موضوع القيم والمفاهيم السائدة في المجتمع العربي ،  وأحسب أن القيمة السائدة لدينا الآن عن  “  المعاصرة “  أو  “  وحدة العصر الحديث “  بمعناه الأممي والحضاري ،  هي من أسس ما يروج من قيم ومفاهيم تنتج اختلاط الوعى بالذات ،  وهو من أسس ما نعاني من اغتراب واستلاب حضاري ،  لا يقتصر أثرها على إفساد نظرنا إلى واقعنا ووقائعنا من منظور خاص بنا ومتميز ويرعى صالحنا الحضاري والمادي ،  ولكنه يمتد إلى نظرنا إلى ماضينا فيعيد تشكيله على غير ما قام من الواقع الماضي ،  كما أنه يقيم التبعية والتجزئى ،  يقيمها لا في الواقع وحده ،  بل في الوعي ذاته.

حفظ الله أمتنا وألهمها الرشاد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر