أبحاث

عقيدة تكريم الإنسان وأثرها التربوي

العدد 71- 72

تمهيد :

الإنسان الواحد من مخلوقات الله تعالى ،ولكنه ليس سائر المخلوقات الأخرى فى قيمته ،بل هو متميز عنها تميزاً نوعياً فى ذلك ،على معنى أنه لا يندرج ضمن الموجودات الكونية فى سلم قيمى موحد تتفاوت درجاته بتفاوت قيمتها ،ولكنه يستقل وحده بسلم قيمى يتجاوز به ذلك السلم تجاوز استعلاء ، فلا يبقى بمقتضى ذلك مجال لمقارنة تفصيلية بين الإنسان وبين أفراد الموجودات الكونية ككائنات ينتظمها مجال قيمى موحد ،بل ينفرد الإنسان وحده بمنزلة قيمية إزاء المنزلة القيمية المنتظمة لكل موجودات الكون . هذا المعنى يؤكده القرآن الكريم فيما خص به الإنسان من بيان لخلقه خلقاً ابتدائياً مستقلاً ،وهو ما لم يخص به أى كائن من الكائنات الأخرى ،بل جاء الحديث عنها جميعاً فى صعيد واحد وهو ما يبدو جلياً فى فاتحة الوحى ،إذا يقول تعالى فى أول ما نزل فى القرآن الكريم :{اقرأ باسم ربك الذى خلق . خلق الإنسان من علق } (العلق 1،2) . فتخصيص الإنسان بالذكر فى بيان الخلق الإلهى من بين سائر المخلوقات الأخرى التى شملتها الآية الأولى شاهد على التميز القيمى بين الإنسان الذى خص بمنزلة منفردة ،وبين سائر المخلوقات التى خصت بمنزلة أخرى .

وذلك ما يبدو – أيضاً – فيما جاء فى القرآن الكريم من احتفال مشهود بخلق الإنسان الأول آدم عليه السلام ، حيث تردد ذكر هذه الحادثة بين الإجمال والتفصيل مرات عديدة انفرداً فى ذلك من بين سائر المخلوقات الأخرى ، وهو ما ينبئ بمفارقة جلية بين الإنسان وبين غيره من المخلوقات فى منازل التقدير القرآنى .

وقد ظل الإنسان المحور الأساسى فى البيان القرآنى يدور عليه القول فى سائر الأغراض ،وتعود إليه المعانى فى سائر المقامات ،وليس ذلك فى مجال الخطاب التكليفى فحسب مما يبدو بديهياً ؛إذا القرآن خطاب من الله تعالى للإنسان ،ولكن فى كل مجالات البيان للخلق الإلهى ،وللعناية بالكون وما فيه ،وفى كل مقامات الشرح الوجودى فى مختلف الأغراض ،وهو ما يشهد بأن للإنسان مقاماً فى القرآن الكريم يغاير فى النوع مقام الموجودات الأخرى جميعاً .

وإذا كانت العقيدة الإسلامية تفسر الوجود على أنه ثنائية طرفاها إله خالق وكون مخلوق ،فإذا هذا الطرف الثانى تتساوى الموجودات فيه من حيث وضعها الوجودى ،إذا هى مشتركة كلها فى القصور الذاتى الذى صارت به معلومة لله ،ولكنها لا تتساوى من حيث وضعها القيمى ،بل هى تصبح بدورها من هذه الجهة ثنائية ذات طرفين فى ميزان التقدير : إنسان ،وكون ،وهما طرفان متفاوتان فى القدر ،وإن كانا يتساويان فى المخلوقية لله .

 ولهذا المعنى فإن الترتيب الوجودى بعدما يذكر فيه الله جل جلاله مبدأ الوجود وعلة العلل يذكر فيه الإنسان إشارة إلى مرتبة يكون فيها أقرب إلى الله وآثر عنده ،ثم يكون الكون فى مرتبة دونه قدراً وأقل منه مقاماً ، ويكون الإنسان بذلك فى منزلة أدنى إلى الله من الكون كله ،وتكون نسبته منه نسبة المخلوق الأثير الذى بوئ مقام الخلافة ،ونسبته من الكون هى نسبة المستعلى المستثمر له المتصرف فيه بأمر الله (1) .

وقد استجمع هذه المعانى كلها قوله تعالى :{ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم فى البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثر ممن خلقنا تفضيلا } (الإسراء : 70 ) .

فالتكريم  هو الإعلاء والإعزاء ،وهو شامل للإنسان بمقتضى مطلق الإنسانية فيه ،غير متعلق بعوارضها مهما كان نوعها .

ومن مظاهر تكريمه : إلهامه أن يسخر البر والبحر لما فيه نفعه ،وأن يسخر مطايب ما فى الكون ليكون رزقاً له ،فصار بذلك فى مكانه أعلى من مكانة الكون ،وصار أفضل من المخلوقات الكونية التى تشاركه الوجود فى عالم الشهادة (2).

وقد جاء فى القرآن والحديث من الإعلاء لشأن الإنسان ،والبيان لتكريمه ما بلغ فى تأكيده والاحتفال به مبلغاً ارتقى به إلى أن يصير أساساً من أسس الاعتقاد فيما يمكن أن نسميه بعقيدة تكريم الإنسان ،وهى عقيدة تنبنى عليها كل الأوضاع والمعاملات الإنسانية فى الشرع الإسلامى ،وكل تصور أو تصرف فيه استهانة بالإنسان أو بخس لشأنه يكون مناقضاً لأصل عقدى فى الدين ،فما هى مظاهر التكريم الإلهى التى كرم بها الإنسان حتى أصبح الإيمان بأنه كائن مكرم جزاءاً من الاعتقاد ؟ وما هو الأثر التربوى لعقيدة التكريم هذه حينما تصير جزاءاً من الإيمان ؟

لقد خص الله الإنسان بالتكريم فى أصل خلقته ،ثم فى مسيرة حياته بعد ذلك إلى الأبد ،فخلقه كان من الله خلقاً مخصوصاً متميزاً بالشرف على خلق سائر المخلوقات ،وذاته المادية والمعنوية استجمعت من معانى العزة ما لم يستجمعه كائن آخر ،ثم جاء ترشيحه لحمل الأمانة متمثلة فى التكليف يترجم على علو شأنه ورفعة مقامه ، ثم اختص بالتعبد من قبل الله – وحده – خلال مسيرة الحياة كلها ؛ضماناً لدوام العزة وتحقق الرفعة ،وتوج كل ذلك بالخلود فى الحياة الأخرى حيث جعل الله الموت مرحلة انتقال من حياة دنيوية زائلة إلى حياة باقية ،وكرم الإنسان بما جنبه من الفناء المطلق الذى هو علامة الضعة والهوان ،تلك هة مظاهر التكريم الإلهى للإنسان التى سنتناولها بالبيان فى العناصر التالية ،مع التعقيب عليها ببيان الأثر التربوى للإيمان بها .

1– شرفية الخلق :

لقد أفاض القرآن الكريم والحديث الشريف فى الحديث عن خلق الإنسان الأول آدم عليه السلام فى معرض الوصف والإخبار ،وفى معرض المنة والتفضل والاعتبار ،وهو الأمر الذى لم يحظ به أى مخلوق آخر دلالة على علو الشأن وجلالة القدر ،فإن الاحتفال بميلاد المولود ،وإعادة ذاكره باستمرار علامة على رفعة قيمته الذاتية .

ومع هذا الاحتفال القرآنى بخلق الإنسان من بين سائر المخلوقات ،فإن هذا الخلق جاء متميز الخصوصية هامة تمثلت فى العناية الإلهية المباشرة به ،حيث جاء كثير من نصوص القرآن والحديث تصور الخلق الإلهى للإنسان بصورة تبدو فيها العناية المخصوصة من الله تعالى هذا المخلوق فى مباشرة خلقه ،وفى تصويره وتكوينه ،حيث جاء كل ذلك على معنى من الجدب والإيشار والقربى لا نجد له نظيرا فى سائر المخلوقات .

ومن ذلك ما جاء فى قوله تعالى ..

{قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى أستكبرت أم كنت من العالين } (ص : 75 ) . فالآية تشير إلى أن الإنسان خلق بيدى الله علامة على التشريف والتعظيم له ،إذ أن العظيم الشأن المقدر للأمور والمسيطر عليها لا يتولى بيديه إلا الأمر الكبير القدر الرفيع القيمة ،وهذا المعنى متحقق فى الآية ،إذا حملت على التأويل  كما هو الأرجح فى ميزان تنزيه الله عن مشابهة الخلق بالأعضاء ،حيث يحمل الخلق باليدين على العناية الشديدة كما ذكره الرازى حيث يقول :”إن السلطان العظيم لا يقدر على عمل شئ بيده إلا إذا كانت غاية عنايته مصروفة إلى ذلك العمل .

فإذا كانت العناية الشديدة من لوازم العمل باليد أمكن جعله مجازاً عنه “(3)،أو يحمل على القدرة كما حرره ابن عاشور حيث يقول :”أى : خلقته بقدرتى ،أى : خلقاً خاصاً دفعة ومباشرة لأمر التكوين ،فكان تعلق هذا التكوين تعلقاً أقرب من تعلقه بإيجاد الموجودات عن أصولها ،ولا شك أن خلق آدم فيه عناية زائدة وتشريف اتصال أقرب ،فاليدان تمثيل لتكون آدم من مجرد أمر التكوين للطين بهيئة صنع الفخارى للإناء من طين إذا يسويه بيديه “(4). وهو متحقق فيها –  أيضاً – إذا حملت على المعنى الحقيقى لليدين على الوجه اللائق بالله تعالى ،وهو ما ذهب إليه السلف مؤيدين ما ذهبوا إليه ببعض الأثار مثل ما قال الله جوابا للملائكة لما سألوه أن يجعل لبنى آدم الدنيا ولهم الآخرة :{وعزتى وجلالى لا أجعل من خلقته بيدى كمن قلت له كن فكان }(5).

إن هذه الآية على الوجهين حملت فإنها يتحقق بها الشرف للإنسان فى تخصيصه بالعناية عند خلقه ،وهو المعنى الذى جاء سياق الآية يعززه ويدعمه ،إذا فيها الاستنكار مشدد ؛لأن الامتناع عن السجود لمخلوق أثير عند الله حائز على عناية كبيرة منه عبر بالخلق باليدين ،وهو ما صار به إبليس بالغاً ذروة المكابرة مستحقاً لشديد النكير والتقريع .

وفى معنى شرفية الخلق جاء قوله تعالى أيضاً :{إذا قال ربك للملائكة إنى خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين } (ص : 71 – 72 ) .

وإذا كان النفخ من روح الله غير محمول على معناه الحقيقى كما توهمه بعض الحلوليين فذهبوا إلى أن الإنسان حل به جزء من أجزاء الله تعالى ،فإن “إسناد النفخ وإضافة الروح إلى ضمير اسم الجلالة تنويه بهذا المخلوق “(6)الذى خصه الله تعالى بعنصر شريف فى تكوينه هو عنصر الروح الذى أضافه إلى نفسه تعريفاً بشرفه وقدسيته (7).

وقد جاء فى هذا المعنى – أيضاً قول (الرسول صلى الله عليه وسلم ):

“خلق الله آدم على صورته (8)وهو حديث رواه البخارى إلا أن معاد الضمير فى “صورته ” اختلف المفسرون فيما إذا كان عائدا على آدم أو على الله ،واحتج الشق الثانى بما روى فى بعض طرق الحديث من لفظ ” صورة الرحمن “(9). وإذا كان معنى الحديث غير محمول على حقيقته ،إذ الله الت خلق الإنسان عليها يكون القصود بها “صفته من العلم والحياة والسمع والبصر وغير ذلك ،وإن كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شئ ” هى إضافة تحمل معنى الشرف والرفعة (10).

وفى هذا السياق الذى يظهر فيه الله تعالى عنايته بخلق الإنسان وتقريبه منه ،يندرج ما جاء منه إخبار إلهى بأن الله سيخلق كائناً خليفة له فى الأرض ،إذ قال الله فى مقام إعلام الملائكة بخلق آدم :{وإذ قال ربك للملائمكة إنى جاعل فى الأرض خليفة } (البقرة :30 ) ،فتخصيص الله للإنسان بأن يكون خليفته فى الأرض ينفذ أوامره ونواهيه فى مباشرته للكون يحمل من التشريف وإعلاء المقام شيئاً كثيراً ،إذ الخليفة تتحد منزلة شرفه وعلوه بمنزلة مستخلفه ،فما بالك بمن كان مستخلفه الله جل شأنه .

إن المعانى الآنفة الذكر تشترك كلها فى إثبات خصوصية حفت بخلق الإنسان ،وهو خصوصية متقومة بعناية إلهية تشعر بفيض من الإيثار والقربى اكتنف المخلوق الجديد ،ودل بالتالى على أن الإنسان قد اكتسب شرفاً رفيعاً بهذه الخصوصية فى الخلق ؛إذا خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه ،وجعله على صورته وأعده ليكون خليفة له فى الأرض .

2– حسن التقويم :

قال تعالى :{لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم } (التين : 4 ) .

والتقويم هو التعديل والتسوية ،فيكون حاصل الآية أن الإنسان خلق على درجة رفيعة هى أرفع الدرجات فى بنيته : اعتدالاً وانسجاماً وتسوية ،فكان بذلك حائزاً على أرفع الدرجات من التكريم الإلهى بالنظر إلى التكوين الذى خلق عليه .

ولسنا فيما بصدد شرح هذا التقويم الذى خص به الإنسان بقصد الوقف على طبيعته وأبعاده فى ذاتها فذلك ما سيكون له موضع آخر فى البحث ،ولكننا سنقتصر فى هذا المقام على بيان مظاهر التكريم فى تقويم الإنسان واستجلاء مناط الرفيعة فيه .

إن قيمة كل شئ من حيث بنيته ترتبط بمدى تحقيق تلك البنية للغرض الذى من أجله وجد ،فكلما كانت البنية أكثر تحقيقاً للغرض ارتفعت القيمة ،والعكس صحيح ،وقيمة البنية فى الأشياء تتبع قيمة الأغراض المجعولة لها ، فكلما كان الغرض رفيعاً كانت البنية إذا ما أدت إلى تحقيقه رفيعة القيمة ،وهكذا تتفاوت الأشياء فى قيمتها من حيث تكوينها تفاوتاً أولياً بحسب تفاوت أغراضها ،وتفاوتاً ثانياً بحسب تأديتها لذلك الأغراض .

والإنسان قد خلق لأعلى غاية بالنسبة لموجودات الكون كلها وهى  غاية الخلافة فى الأرض ؛لتطبيق أوامر الله فيها ،وقد أخبر القرآن الكريم فى الآية الآنفة الذكر أنه خلق على أحسن تقويم ؛لتأدية ذلك الغرض وكان ذلك تكريماً إلهياً له ،فكيف تبدو فى قوام الإنسان مظاهر الرفعة من حيث أنه يؤدى إلى تحقيق الغرض الذى من أجله وجد ؟

إن المقصود بالتقويم فى بنية الإنسان هو التقويم الشامل الذى يتناول كلاً من : البنية المادية ،والبنية المعنوية ، فكلامها خلق على أحسن تقويم ،سواء بالنظر إليهما فى ترابطهما ووحدتهما فى تكوين الإنسان .

ومظاهر حسن التقويم فى البنية المادية للإنسان مظاهر عديدة لا تحصى ،سواء نظرت إليهما فى وجهها الخارجى حيث يتعامل مباشرة مع الكون ،أو نظرت إليها من الداخل حيث يكتشف تقدم العلم عن عجيب الصنع ودقيق التفاعلات فى خفايا الأنسجة ،مما يفضى كله إلى تيسير التعامل مع البيئة الكونية .

ولعل من أبرز مظاهر الحسن فى التقويم المادى – مما هو ظاهر للعيان ملحوظاً بالمشاهدة – ما خلق عليه الإنسان من وضع قد قامته امتد فيه إلى الأعلى ،وتركزت وسائل الإدراك فى طرفها الفوقى ،فهو وضع هيأ للإشراف على الظرف المكانى المحيط بالأنسان على أبعاد كبيرة ،بحيث تكون له القيومية على تلك الأبعاد فى مختلف الجهات ،سواء فى الاحتراس مع الغوائل ،أو فى رعاية المنافع ،أو فى الرصد والتطلع لإنشاء المصالح ومراقبتها واستثمارها ،فأين الإنسان فى هذا التقويم الرفيع من البهيمة التى خلقت مكبة على وجهها فلا يكون إشرافها إلا على المساحة القليلة من المكان والسمت الواحد من الجهات .

ومع انتصاب القامة كرم الإنسان بمعدات عجيبة من الأعضاء والمفاصل تمكنه من سرعة الحركة وتصريفها فى مختلف الجهات ،كما تمكنه من دقة التناول والمسك ،مما يهيئ له السيطرة على الأشياء المحيطة له سيطرة تصرف بعدا تحققت له سيطرة الإشراف ،فيكون على كفاءة بدنية عالية تمكنه من رد العوادى عن جسمه ،وتوجيه الموجودات من حوله لما في منفعته ،ولو جعلنا نفصل هذا المعنى فى كل عضو من أعضاء الإنسان لوجدنا أصغرها شأناً فى الظاهر يؤدى دوراً عظيماً فى مجال التعامل مع البيئة ،وهو ما كان ملحظاً لبعض المحققين فى هذا الأمر فقال : إن إبهام الإنسان له دور عظيم فى قيام الحضارات الإنسانية ،إشارة منه إلى لإبهام اليد من عظيم الدور فى المسك والتصويب والدقة ،وليست الحضارات فى جانبها العمرانى إلا ثمرة للعمل اليدوى (11).

وربما كان البناء الداخلى فى عمق الأنسجة على صورة أعجب من البناء الخارجى فى التهيئة لتفاعل الجسم مع المحيط المادى تفاعلاً إيجابياً بما يحدث فى تلك الأنسجة من أنواع الاستجابات دفاعاً عن الجسم ضد كل غزو مادى ،وتعزيزاً له وتقوية لكفائته فى الأداء لما تستوجبه مصلحته .

وإذا كانت البنية المادية للإنسان على هذا النحو من الرفعة لأداء مهمة الخلافة كما بنيت الأمثلة المذكورة ،فإن البنية المعنوية هى أعلى شأناً فى ذلك ؛لأن هذه البنية هى التى تتقوم بها ما هية الإنسان ،وهى التى تدبر سيرة الاستخلاف ،وتسوق الجسم لتنفيذ تدبيرها .

والعقل أشرف العناصر فى هذه البنية ،فهو مناط التكليف لإنجاز وظيفة الخلافة أصلاً ،ولذلك فقد بنى على خصال عجيبة لأداء تلك الوظيفة على أكمل الوجوه ،ومن أظهر تلك الخصال ما اختص به من قدرة على التمييز بين الحق النافع وبين الباطل الضار ،فكان ذلك العاصم للإنسان من المال إلى ما فيه الهلكة ،والدافع له إلى ما فيه المصلحة المحققة للغرض من الوجود .

ومن مظاهر الرفعة فى العقل : ما خص به من قدرة على الاستيعاب لما هو غائب عن الإنسان من الحقائق سواء ما تعلق بعالم الشهادة ،وهو ما تحقق به السيطرة على البيئة الكونية مجال التحرك الإنسانى ،إذا تصبح تلك البيئة حاضرة صورتها فى العقل فيما خفى منها من قوانين وأسرار وطبائع ،فيكيف الإنسان حياته فى منع ما يضره واستثمار ما ينفعه وفق تلك الصورة المعلومة لديه ،الحاضرة فى ذهنه ،وهى صورة قابلة للنمو المطرد وباطرادها فى التوسع والنمو تطرد كفاءة الإنسان فى إنجاز الخلافة ،وهى الغرض من الوجود .

ومما خص به العقل قوة التذكر والاختزان للمعارف والحوداث ،وهى منة إلهية عظيمة الشأن ،إذا بها تتم وحدة الذات البشرية واستمراريتها بما يكون ون حضور لتجربة الماضى فى الوعى الراهن ،فيتحقق للإنسان السداد فى التخطيط للمستقبل بهدى من سيرة الماضى ،ولو فقدت هذه القوة لما أمكن له أن يتقدم خطوة عمارة الأرض ،ولكان ينقض غزله أنكاثاً فى كل حركة جديدة .

وإلى جانب العقل خص الإنسان فى بنيته المعنوية بجملة العواطف والغرائز ذات البعج الفردى الاجتماعى من شأنها أن تحقق للإنسان التواصل النوعى والتواصل الاجتماعى ،وتضمن التآزر بين الأفراد والتعاون فى تأدية الأعمال ؛وفى نقل مكتسبات الحكمة من جيل إلى جيل ،ومن جماعة إلى جماعة ،وذلك ما تحققه فطرة الحفاظ على النوع مادياً وثقافياً ،وفطرة الاجتماع ،وهو ما خص به الإنسان دون غيره مما يتضمنه قوله تعالى :{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا } (الحجرات :13 ) قد جعل الله الناس جماعات ،وركز فيهم فطرة الاستمرارية التى انحدرو بها من آدم وحواء ،وفطرة التعاون المعبر عنه بالتعارف (12).

هكذا جاءت صورة الإنسان فى بعدها المادى والمعنوى فى أحسن تقويم ،مفيضة إلى تحقيق الغاية من وجوده وهو ما صوره قوله تعالى :

{صوركم فأحسن صوركم }(غافر : 64) . إشارة إلى “أن حكمة الله تعالى التى تعلقت بإيجاد ما يحف بالإنسان من العوالم على كيفيات ملائمة لحياة الإنسان فى ذاته وراحته قد تعلقت بإيجاد الإنسان من العوالم على كيفيات ملائمة لحياة الإنسان  وراحته قد تعلقت بإيجاد الإنسان فى ذاته على كيفية ملائمة له مدة بقاء نوعه على الأرض ،وتحت أديم السماء “(13)،وهو – أيضاً – “تقويم خاص بالإنسان لا يشاركه فيه غيره من المخلوقات ،ويتضح ذلك فى تعديل القوى الظاهرة والباطنة بحيث لا تكون إحدى قواه موقعة له فيما يفسده ، ولا يعوق بعض قواه البعض الآخر عن أداء وظيفته ،فإن غيره من جنسه كان دونه فى التقويم ،مما يفيد أن الله كون الإنسان تكويناً ذاتياً متناسباً مع ما خلق له نوعه من الإعداد لنظامه وحضارته (14).

وقد صور الإمام الرازى ما خص به الإنسان من قيمة ذاتية رفيعة فى التكوين تكريماً له ،وإعلاء لشأنه فى قوله :”اعلم أن الإنسان جوهر مركب من النفس والبدن ،فالنفس الإنسانية :

أشرف النفوس الموجودة فى العالم السلفى ،وبدنه أشرف الأجسام الموجودة فى العالم السلفى ،وتقرير هذه الفضيلة فى النفس الإنسانية هى أن النفس الإنسانية قواتها الأصيلة ثلاث ،وهى : الاغتذاء ،والنمو ،والتوليد ، والنفس الحيوانية لها قوتان : الحساسة سواء كانت ظاهرة أو باطنة ،والحركة بالاختيار . فهذه القوة الخمسة أعنى : الاغتذاء ،والنمو ،والتوليد ،والحس ،والحركة حاصلة للنفس الإنسانية ،ثم إن النفس الإنسانية مختصة بقوة أخرى وهى : القوة العاقلة المدركة لحقائق الأشياء كما هى ،وهى التى يتجلى فيها نور معرفة الله تعالى ، ويشرق فيها ضوء كبريائه وهو الذى يطلع على أسرار عالمى الخلق والأمر ،ويحيط بأقسام مخلوقات الله من الأرواح والأجسام كما هى “(15).

3– رفعة التكليف :

إن الإنسان هو الكائن الذى اختير لأن يكون مكلفاً ،فقد انتخبه الله تعالى من بين الموجودات ؛ليقوم بمهمة الاستخلاف وفق أوامر ينبغى أن يقوم بها ،ونواه ينبغى أن ينتهى عنها ،ومكنه من إرادة حرة يكون على أساسها المحاسبة على الإيفاء بما أمر به ونهى عنه .

وقد عبر القرآن الكريم عن هذا التكليف بتحميل الأمانة فة قوله تعالى :

{إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً }(الأحزاب : 72 ) .

وهذه الأمانة التى حملها الإنسان ذكر المفسرون فى شرحها وتحديد مدلولها أقولاً كثيرة متراوحة بين المعانى ذكر المفسرون فى شرحها وتحديد مدلولها أقولاً كثيرة متراوحة بين المعانى الحزئية وبين المعانى الكلية الذى تشمل جملة من تلك المعانى الجزئية (16). ومن أبرز المعانى الكلية التى فسرت بها الأمانة معنى التكليف . وفى ذلك يقول الإمام الرازى :{إنا عرضنا الأمانة } أى : التكليف وهو الأمر بخلاف ما فى الطبيعة ،واعلم أن هذا النوع من التكليف ليس فى السماوات ولا فى الأرض ؛لأن الأرض والجبل والسماء كلها على ما خلقت عليه ،الجبل لا يطلب منه السير ،والأرض لا يطلب منها الصعود ،ولامن السماء

الهبوط (17). وإنما وصف التكليف بأنه الأمر بخلافهما فى الطبيعة ؛لأن فى تحمله مشقة تعاكس بعض ما خلق عليه الإنسان من الغرائز والطبائع . وقد وضحت هذا المعنى الدكتورة عائشة عبد الرحمن فى قولها “أفلا تكون هذه الأمانة هى الابتلاء بتبعة التكليف وحرية الإرادة ومسؤولية الاختيار ؟ بلى ! فكل الكائنات – عدا الإنسان – مسيرة بمقتضى سنن كونية على وجه التسخير والامتثال دون تحمل لتبعة ما تعمل ،والإنسان وحده هو المسؤول عن عمله المحاسب عليه ثواباً وعقاباً “(18).

وإنما عبر عن التكليف بالأمانة ؛لأن الأمانة هى الحفاظ على ما عهد به ،ورعيه والحذار من الإخلال به سهواً أو تقصيراً أو عمداً (19)والتكليف : هو تحميل للأوامر والنواهى بطلب رعايتها والحذار من الإخلال بها ، وذلك بأدائها على وجهها الذى حملت به ،كما هو مطلوب فى الأمانة أن يؤدى المعهود به فيما على وجهه ، كما هو ،فقد اشتراك التكليف مع الأمانة فى عناصر ثلاثة : الإيداع ،والمحافظة على المودع ،وأداؤه على وجهه . كما أنهما ينبيان على معنى واحد ،هو معنى مغالبة النفس بالإدارة الحرة فيما تهفو إليه بطبيعتها من تحقيق شهوتها :

انتفاعاً بالمعهود به فى الأمانة ،وتحراراً من المشقة المأمور بها فى التكليف ،ولذلك استعملت الأمانة فى معنى التكليف .

ويبدو أن المعنى الاسمى الذى تضمنه التعبير بالأمانة على التكليف هو بيان قيمة الإنسان ورفعته من بين سائر الكائنات ؛لأن الأمانة من شأنها أن لا تعرض من بين الناس إلا على من عرف بالتمييز والعلو الخلقى ، كما كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – فى مكة ،فإنه كانت تودع عنده الأمانات لما كان من رفعته فى قومه حتى سمى بالأمين .

وكذلك الأمر بالنسبة للتكليف ،فإنه تحمله الإنسان لرفعته علو شأنه من بين الكائنات المذكورة فى الآية ،رغم ما تبدو عليه فى ظاهرها من بروز وضخامة إزاء الإنسان ،مما قد يوهم بعلو شأنها ،وفى هذا المعنى يقول ابن عاشور :” شبهت حالة صرف تحميل الأمانة عن السماوات والأرض والجبال ،ووضعها فى الإنسان بحالة من يعرض شيئا على أناس فيرفضه بعضهم ويقبله واحد منهم على الطريقة التمثيلية ،أو تمثيل لتعليق علم الله تعالى بعدم صلاحية السماوات والأرض والجبال لإناطة ما عبر عنه بالأمانة بها ،وصلاحية الإنسان لذلك (20).

وأما التعقيب على حمل الإنسان للأمانة بقوله تعالى : {إنه كان ظلوماً جهولاً } فليس منه ما ينقض هذا المعنى المتضمن لرفعة الإنسان ؛لأنه وصف لما فى طبيعة الإنسان من الظلم والجهل كمظهرين من مظاهر النوازع النفسية الدافعة إلى اقتراف الشرور فى مقابل النوازع الدافعة إلى أعمال الخير ،وهى المعادلة التى ركب عليها الإنسان مع تزويده بإرادة الاختيار ،والتى كانت أساساً للتكليف ،وفى التدافع الذى فصل فى الإنسان بين هذين النوعين من النوازع قد يحصل أن تتغلب نوازع الشر فيقع الإخلال بالتكليف ،ويقع التضييع للأمانة ،ولكن ذلك ليس مصيراً حتمياً للإنسان فى تدافع نوازعه ،بل هو حالات معينة تحصل له فى مسيرة حياته الخلافية باختياره ،وهى لذلك ليست بقادحة فى أصل الرفعة التى اقتضاها التكليف .

وقد يبدو لأول وهلة أن التكليف مع ما يقتضيه من المشقة ،ومع ما يقتضيه من إمكان الإخلال به المستلزم لإمكان العقاب ليس فيه من معنى الرفعة والتكريم ما يجعلنا نعد مظهراً لهما ،إلا أنه عند التأمل يتبين أن التكليف من أعظم مظاهر التكريم والرفعة ،وأعظم الأسباب المؤدية إليهما .

إن التكليف مبنى على حرية الاختيار بين طريق الخير الذى جاءت تبنيه النواهى ،وقد ركب الإنسان على ما يمكنه من اختيار أحد الطريقين والمضى فيه ،وهو ما وصفه تعالى بقوله :{ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها } (الشمس : 7- 8 ) وفى قوله :{وهديناه النجدين } (البلد : 10 ) . وبهذا المعنى يكون التكليف مقتضياً لضرب من الجهاد النفسى ،يبدو فى مغالبة عوامل الشر والسقوط ،ونصرة عوامل الخير التواقة إلى الفضيلة .

وهذا الجهاد النفسى هو الفرصة الثمينة التى يتمكن الإنسان فيها من التسامى والتصاعد المستمر نحو الاكتمال بما يقمع من نوازع الهبوط فيه ،وبما يكتسب من معانى الإنسانية علماً وعملاً . والتسامى والتصاعد فى سلم الإنسانية نحو الاكتمال له من الثمرات ما يجعل نفس الإنسان تمتلئ بهجة واستشرافاً إلى الخير المطلق ،كما تمتلئ عزماً على الفعل ،إذا تصبح الحياة للمجتمع المستشرف ذات قيمة دافعة إلى الاستثمار ،وذات أمل محفز إلى العمل الدؤوب .

إن الصعود نحو الأفضل والأكمل هوالذى يشعر الإنسان بقيمته ،ويحقق له تلك القيمة بالفعل ،وعندما يشعر إنسان ما أنه توقف ولن يكتسب شيئاً من أسباب النمو فإنه يرتكس فى مهاوى اليأس ،وقد يؤول به الإمر إلى الاستهانة بنفسه إزاء الوجود مما يؤدى به إلى الانتحار أو الاستقالة من الحياة ،فالتكليف هو طريق الصعود إلى الأفضل فى مسيرة مجاهدة النفس .

لقد ظلت السماوات والجبال والأرض واقفة فى سلم قيمتها منذ خلقها الله ،وستبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ،دون أن تكون لها فرصة الاكتمال والتسامى ،لأنها أبت أمانة التكليف ،أما الإنسان :

فإنه يملك إمكان الترقى والتصاعد المستمر بما يكتب من الحق والخير ائتماراً بأوامر الله ،وانتهاء عن نواهيه فهى التى تمكنه من تنامى إنسانيته ،كما تمكنه من استثمار الكون ؛لتحقيق مصالحه ،وهو ما تحقق بوضوح فى الحضارة الإسلامية طيلة قرون ارتقى فيها الإنسان درجات فى سلم الاكتمال .

إن هذا المعنى من الاكتمال والترقى الذى يأتى بالتكليف يتبدى فيه التكريم الإلهى للإنسان بما يعلى من شأنه ويرفع من قيمته : ففيه إناطة لمصير الإنسان بيده عبر الجهاد ،وليس من يملك مصير نفسه كمن يساق بالقهر إلى ذلك المصير ،وفيه انفتاح إلى أفق المستقبل ،واندفاع للتحرك نحو الكمال فى ذلك المستقبل ،وفيه ترتيب الثواب العظيم على الجهاد الموقف فى الامتثال للأوامر والنواهى ،وهو مظهر عظيم للتكريم الإلهى ،ولذلك قال القاضى عبد الجبار :”اعلم أنه وجه الحكمة فى خلق المكلف أنه تعالى خلقه لينفقه بالتفضيل ،وليعرضه للثواب … وثبت أن الثواب مستحق على وجه التعظيم والتبجيل “(21).

4– عزة التعبد :

للعبادة فى العقيدة الإسلامية مفهوم خاص يتصف بالشمول ،فالله تعالى تعبد الإنسان فى كل شؤونه كبيرها وصغيرها معا : إذا شملت الأوامر والنواهى كل تلك الشؤون “فلا عمل يفرض ولا حركة ولا سكون يدعى إلا والشريعة عليه حاكمة إفراداً وتركيباً (22)وبذلك أصبحت عبادة الله هى الهدف الأسمى للحياة الإنسانية كما صوره قوله تعالى :{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }(الذاريات : 56) .

إن العبادة بهذا المفهوم تصبح توجهاً مستمراً نحو الله بالخضوع والمذلة بحيث يكون الله تعالى هو الهدف المتبغى فى كل فكر وفى كل سلوك ،وقد يبدو أن الخضوع والمذلة يتناقضان مع العزة والرفعة ،إلا أن ذلك ليس إلا فى ميزات التعامل البشرى ،أما فى ميزان الصلة بالله تعالى فإنهما محض العزة والرفعة ،بل إنه لا عزة للإنسان ولا رفعة لشأنه إلا فى ظل العبودية لله والخضوع له ،وهو مهنى نستجليه بالنظر فى العبودية لله بمعناها المطلق العام ،كما نتسجليه بالنظر فيها فى مظاهرها التطبيقية متمثلة فى الضوابط الشرعية لتعامل الإنسان مع الكون أو مع أخيه الإنسان أو مع نفسه ،فكيف تبدو عزة الإنسان ،وكيف يظهر تكريمه فى العبودية من هذه الجهات .

أ – العزة فى مطلق العبادة :

إن جعل الله تعالى هدفاً نهائياً يتجه إليه الإنسان فى كل مناشطه (وهة معنى العبادة ) لئن كان يشعر بضآلة النفس أمام هذا الهدف الإسمى ،فإنه يشعر – أيضاً – بعظمة النفس فى التجاوز لكل الأهداف الجزئية فى طريق الرحلة إلى الله ،فعظمة الهدف تشعر بعظمة النفس إزاء الموجودات المحيطة التى قد تعرقل المسيرة إلى ذلك الهدف أو تغوى بأن تكون هى نفسها أهدافاً دون الهدف الأعلى .

ولو وضع إنسان هدفاً له فى حياته أن يحصل شهادة علمية عالية ،ووط العزم على ذلك وأخلص فيه ،فإنه عندما ينطلق فى طريق التحقيق يضفى على نفسه من القيمة ما لذلك الهدف منها ،فإذا ما اعترضته فى طريقه المشغبات التى تنثيه عن هدفه لتقف بمسيرته عندها فيكتفى بها من تحصيل مال أو نوال متاح مادى أو غير ذلك ،فإنه يستشعر فى نفسه القوة بما امتلأت به من رفعة الهدف المقصود ،فيستصغر تلك المشغبات المعترضة ،ويرى نفسه أعظم منها ،فيتجاوزها متجهاً إلى هدفه الرفيع .

فإذا ما كان الهدف المقصود هو الله كان استشعار الرفعة إزاء ما سواه من الموجودات على قدر سمو هذا الهدف ،وكان الاستعلاء على المعيقات المثبطة يستمد من بعد الهدف وعظمته ،فلا يكون مه ذلك مجال لخضوع ومذلة أو شهوة جامحة ،أو لذة مادية حيوانية ،أو إنسان ظلوم مستبد ،أو مظهر من مظاهر الطبيعة العاتية .

إن الإنسان فى صلاته – وهى رأس العبادات – يشعر أنه متجه إلى المطلق ،متجاوز لقيود الزمان والمكان ، مهيمن ،عليهما بما استشرف من عظمة المقصود بالعبادة ،فيحصل له بذلك شعور بالعلو والسمو ،وإحساس بتفوق الذات فى المحيط الكونى .

وهذا المعنى هو الذى يستشعره الإنسان لما تحل به النوائب وصروف الدهر التى من شأنها أن تهزم النفوس وتضعفها ،ولكن التوجه إلى الله بالعبادة يبث فى النفس قوة تستصغر معها كل النوائب والصروف ،وهذا المعنى – أيضاً – هو الذى يستشعره الإنسان لما يقبل على الموت مختاراً متجاوزاً كل ما فى الحياة من أهداف قريبة فى سبيل أن يصل إلى الهدف البعيد الذى هو لقاء الله بالشهادة .

وقد عبر القرآن الكريم على ما يجمع هذه المعانى فى قوله تعالى :{ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } (آل عمران : 139) .

فالوهن هو :الضعف ،واستشعار الضآلة ،والحزن هو ضرب من الانهزام إزاء المحيط ،وفى ذلك كله منافاة لكرامة الإنسان ورفعته ،وهذا الوضع من الضعف والضآلة والانهزام لا يتطرق إلى نفس الإنسان إذا ما حل بها الإيمان ،أى إذا ما كان الإنسان عابداً متوجهاً إلى الله تعالى ،فقد علقت فى هذه الآية العزة والكرامة والاستعانة بالعبادة ،فتكون العبادة هى السبب الرفعة ومظهر التكريم .

إنه لتقابل عجيب تحدثه العبادة فى النفس بين شعور باضآلة إزاء الله ،وبين شعور آر يتولد منه هو الشعور بالقوة والعلو إزاء الموجودات يكسب النفس ثباتها وفعاليتها فى مهمة الوجود ،وهو ما أكده محمد إقبال فى تحليله للإبعاد التى تشتمل عليها الصلاة كمظهر عال من مظاهر العبادة إذا يقول :”فالصلاة إذاً سواء فى ذلك صلاة الفرد أم صلاة الجماعة تعبير عن مكنون شوق الإنسان إلى من يستجيب لدعائه فى سكون العالم المخيف ،وهو فعل فريد من أفعال الاستكشاف تؤكد به الذات الباحثة وجودها فى نفس اللحظة التى تنكر فيها ذاتها فتتبين قدر نفسها ومبرارات وجودها بوصفها عاملاً محركاً فى حياة الكون . وصور العبادة فى الإسلام فى صدق انطباقها على سيكولوجية المنزع العقلى ترمز إلى إنكار الذات وإثباتها معاً (23).

هذه الحالة من الشعور بالقوة وثبوت الذات التى تتحقق فى ممارسة العبادة هى التى أخذ بها المتصوفة ، فعبروا عنها بتعبيرات جانحة إلى الغلو  فى غمرة من الشعور المفرط بالفرح والسعادة ،أطلقوا عليها فى مصطلحاتهم حالة الشكر فقال بعضهم :”سبحان ما أعظم شأنى : “ما فى الجبة إلا الله ” وهى تعابير من أثر فى استشعار الاستعلاء ،وإن كانت فى ظاهرها تنم على انحراف فى التصور الإلهى الصحيح القائم على انفراد الألوهية ،وقد حاول محمد إقبال فى منزعه الصوفى أن يعتذر لهذه التعابير بحملها على غير ظاهرها العرفى ،واقتصار مدلولها على تأكيد الذات واستشعار الرفعة إذا يقول : “فسر الذين عاصروا الحلاج والذين جاؤوا من بعده عبارته هذه [أنا الحق ] على أنها تتضمن الشرك … والتفسير الصحيح لتجربته إذن ليس هو أن القطرة تنزلق فى البحر ،ولكنه إدراك لحقيقة النفس الإنسانية ،وتأكيد جرئ لدوامها فى شخصية أعمق بعبارة قوية باقية على الدهر “(24).

إن هذا المعنى من القوة والعزة والكرامة المتحققة بالعبادة لا يدرك حق الإدراك إلا عند المقارنة بالحالة التى يرتكس فيها الإنسان عند سلوكه مسلكاً غير مسلك العبادة ،فالإنسان لما يتنكب عن عبادة الله ،ويضع غاية له هدفاً قريباً من أهداف الدنيا بمعزل عن الغاية الإلهية ،كأن يكون تحقيق شهوة ،أو جمع مال ،أو تحصيل رفاه مادى ،فأنه بقدر ما يجد نفسه من عوامل الفتور ،فإذا ما تحقق له الهدف انطفأت فى نفسه الجذوة الدافعة للحياة  وآل إلى الجمود ،فامتلأ شعوراً بالقلق والإحباط ،ولو تأملنا اليوم فى وضع الكثير من شباب العالم الغربى الذين ورثوا من ثقافة مجتمعهم أن غاية الحياة فى الرفاه المادى ؛لوجدنا تفسيراً لما ارتكسوا فيه من ضروب الشذوذ ،وأنواع القلق والإحباطات المؤدية إلى اعتزال الحياة بتعاطى المخدرات ،أو بالإقدام على الانتحار ، فالغاية المادية قد حققوها بما توفر لديهم من إشباعات لشهواتهم دون قيود ،فما قيمة الإنسان ،وما قيمة الحياة بعد استنفاذ الغرض منها ؟ إن الخسران الذى أشار إليه قوله تعالى :{والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب }

(النور : 89 ) . فالأهداف القريبة من جون الله إنما هى السراب ،فإذا ما تحققت تلك الأهداف لم يجد الإنسان ما يبرر حياته ،فأصابته الخيبة كالظمآن الذى يبلغ موطن الماء ،فإذا به لا يجد إلا السراب ،فإذا هو الإحباط واليأس .

ب – العزة بالتعبد فى مباشرة الكون :

إن معانى العزة التى تتحقق للإنسان فى التعبد بالمفهوم العام الذى مر بيانه نجد فى تفصيل العبادات التى ضبطتها الشريعة الإسلامية ما يحققها على صعيد الواقع العملى ،وما يحفظها ويؤكدها فى المسيرة اليومية للإنسان أثناء مباشرته للكون ،وأثناء تعامله الاجتماعى ،وفى سيرته الذاتية .

فقد خلق الله الكون مسخراً للإنسان يستجيب لمصالحه ومنافعه ،ولكن هذا التسخير ليس ليكون الكون هدفاً بذاته ليعيش فيه الإنسان بل ليكون مسرحاً يمارس عليه وظيفة الخلافى المبينة فى جوهرها على الترقى المادى والروحى فى طريق الصعود إلى المستخلف الذى هو الله تعالى ،ولذلك جاءت الأوامر الإلهية تقتضى أن يتعامل الإنسان مع الكون بحسب ما يؤدى إلى تحقيق سيطرته واستعلائه ونموه ،فتكون العبادة بتطبيق تلك الأوامر مفيضة إلى العزة والكرامة .

وقد وردت آيات قرآنية عديدة تأمر الإنسان بأن يقتحم الكون ،وتبين له سبل ذلك الاقتحام وآدابه ،سواء على المستوى المعرفى ،أو على المستوى الاستثمارى العلمى .

ففى المستوى المعرفى جاء القرآن يحث الإنسان على أن يتخذ من الكون (الآفاق ) منطلقاً لمعرفة الحقيقة ، سواء الحقيقة العليا (حقيقة الغيب ) أو حقيقة القانون الكونى ذاته ،ومن ذلك قوله تعالى :{قل سيروا فى الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله يشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيئ قدير }(العنكبوت :2) ،

وقوله :{انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن فى ذلكم لآيات لقوم يؤمنون }(الأنعام :99 ) .

وهذا التأمل فى الكون للعلم بحقيقته لما كان أمراً قرآنياً ،فإنه أصبح ضرباً من عبادة الله كما بينه محمد إقبال فى قوله :”الحق أن كل طلب للمعرفة هو فى جوهره صورة من صور الصلاة ،فالمتأمل فى الطبيعة تأملاً علمياً هو نوع من الصوفى الباحث عن العرفان يؤدى صلاته “(25). وإنما تفضى هذه العبادة إلى تكريم الإنسان ورفعته ؛لأنه لما يستوعب حقيقة الكون من حيث قوانينه الذاتية فإنه يتحرر من الأوهام والأساطير والمخاوف من الطبيعة وتصاريفها ،ويصبح السيد المشرف المسيطر ،لعلمه بالأسرار وهيمنته عليها .

وفى المستوى العلمى وردت آيات كثيرة فى الأوامر باستغلال الكون واستثمار مرافقه ،ومن ذلك قوله تعالى : {هو الذى جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور } (الملك : 16 ) .

وقوله :{وهو الذى أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفاً أكله والزيتون والرمان متشابهاً وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوت حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين . ومن الأنعام حمولة وفرشاً كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين } (الأنعام : 141 ،142 ) .

وإذا كان الأمر فى هذه الآيات للإباحة – كما يقول الأصوليون – فإنه يدخل فى إطار الأمر بالعمل وعمارة الأرض ،وذلك أمر مطلوب على وجه الوجوب ،فالإيفاء به مما تعبد الله به الإنسان ،والفعل فى الكون بالمباشرة العلمية لاستثماره هو إظهار لاستعلاء الإنسان من المستوى النفسى إلى المستوى الواقعى ،حيث يصبح الإنسان بعدما كان يشعر بالاستعلاء لسيطرته المعرفية – يصبح يعيش ذلك الاستعلاء عملياً حينما يستثمر مرافق الكون بما يوفر من يسر الحياة ونمو العمران .

ج – العزة بالتعبد فى العلاقة الاجتماعية :

إن ما تعبد به الله عباده من التشريعات الضابطة للتعامل الاجتماعى يحقق كله كرامة الإنسان ،ويؤدى إلى عزته واستعلائه .

وأول ما يظهر ذلك فى التشريع المتعلق بحفظ الكيان الإنسانى فرداً ونوعاً ،وهو المتمثل فى مجموعة العقوبات ،والتعازير ،والحدود الموضوعة ؛لردع الاعتداء على الذات البشرية ،بما يؤدى إلى إتلافها ،أو إعاقتها عن تأدية دورها . وتبلغ هذه العقوبة ذروتها فى عقوبة القتل العمد ،وفى عقوبة الزنى للمحصن ،حيث تكون القتل .

أما فى عقوبة القتل العمد : فلأنه اعتداء على كيان الفرد بإنهاء حياته ،ولا يكون أنفى للقتل إلا القتل .

وأما فى عقوبة الزنى : فلأنه يؤدى إلى تشويش فى النوع يؤدى إلى اضطرابه ،وقد يؤدى إلى انقراضه ، كما يهدد اليوم الانقراض تلك المجتمعات التى يباح فيها الزنى ،وتنتشر فيها الإباحية الجنسية .

ويظهر ذلك – أيضاً – فى تنظيم العلاقة الاجتماعية ،حيث شرعت العدالة الاجتماعية ،والمساواة ،وتكافؤ الفرص ،وحرمت كل أنواع الحيف المتأتى من العصبية والمحسوبية وغيرهما ،وهو ما يضبطه قوله صلى الله عليه وسلم :”لا فضل لعربى على أعجمى ولا أعجمى على عربى إلا بالتقوى “(26)،كما يظهر فيما شرع فى العلاقات الاقتصادية حيث حرم الربا باعتباره سلباً للأموال بغير مقابل ،كما حرمت أنواع الاحتكار ، وضروب الإسراف والترف ؛لما فيها من النكاية بالآخرين بصفة مباشرة أو غير مباشرة .

ويظهر – أيضاً – فيما شرع فى التنظيم السياسى ،حيث : بنى الحكم على أساس من الشورى والبيعة ،وحيث جعلت طاعة الحكام طاعة لله ،فإذا ما انحرفت سياستهم عن القانون الإلهى إلى ما فيه تعد على الإنسان بالظلم والبغى والإهانة ،كانت الثروة لخلعهم واجباً دينياً .

وكل هذه التشريعات الاجتماعية أقيمت على ما يحقق كرامة الإنسان ورفعته ،ويضمن تحرره من القهر والاستبداد ؛ليكون له من ذلك قوة عند مباشرة دوره فى إنجاز الخلافة ترقياً فى الذات الفردية والاجتماعية .

د – عز التعبد فى التعامل الذاتى للإنسان :

قد يسقط الإنسان الفرد فى ممارسات ذاتية تخل بكرامة الذات الإنسانية ،فجاء التشريع الإسلامى يفرض ضروباً من العبادة تحول دون هذه الممارسات وتحفظ العزة والتكريم .

وأول ما يحفظ للفرد كرامته واستعلاءه أن لا يجعل همه فى إشباع شهواته وملاذه فيصبح عبداً للشهوة وسجيناً للملاذ ،ولذلك قال الله سبحانه وتعالى : {كلوا وأشربوا ولا تسرفوا }(27). وقال صلى الله عليه وسلم : “من كانت الدنيا أكبر همه فليس من الله فى شيئ ” (28)تنبيهاً إلى أن حصر الهم فيما يشبع شهوة الكيان المادى دون تجاوز إلى ما يحفظ الكيان الروحى وينميه بالتقدم فى الفضيلة ،إنما هو تنزيل لذات الإنسان فى منزلة أقل من المنزلة التى أراد الله لها ،إذا هى منزلة سائر الحيوان الذى لا يتجاوز فى مناشطه ما يحقق له المأكل والسفاد ،وليس للإنسان بهذه المنزلة التى قد يركس فيها نفسه أن ينشد الاقتراب من الله بإنجاز خلافته ؛لأن هذا الإنجاز يستلزم أن يستخدم ما يحفظ الكيان المادى وسيلة لتوجيه هذا الكيان للتعمير ،أما إذا أصبح هدفاً فى حد ذاته فإن قيمة الإنسان لا تكون فائقة لقيمة ما يحيط به من الموجودات ،وهو ما جاء فى قوله صلى الله عليه وسلم :” من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه فقد أخذ حتفه وهو لا يشعر “(29).

وقد بين هذا المعنى محمد باقر الصدر فى قوله :”وما دامت الدنيا لا تشكل للإنسان هدفه ،وإنما تجدد قدرته باستمرار على مواصلة الكدح فى طريقه إلى ربه ،وتحقيق هدفه ،فمن الطبيعى أن يأخذ الإنسان منها حاجته ، ويوظف الباقى للهدف الكبير ،لأنه إذا احتكر لنفسه أكثر من حاجته ،تحولت الدنيا بالنسبة إليه هدف ،وخسر بذلك دوره الصالح فى الأرض “(30).

وقد جاءت جملة من التشريعات الأخرى تحفظ الكرامة لذات الفرد ،وتمنع من التعدى عليها ،مثل الأمر بالنظافة ،وتحريم الخمر لما فيه من إتلاف العقل ،فى جماع ذلك كله قال تعالى :{ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة }(البقرة : 195 ) فالإلقاء بالنفس إلى التهلكة فيه اعتداء على معنى الإنسانية ،وحط من قيمتها ، ودوس لكرامتها ،ولذلك تعبد الله الإنسان بالنهى عنه ،وكان ذلك مظهر التكريم فى نطاق التعامل الذاتى فى سيرة الإنسان مع نفسه .

5– طمأنينة الخلود :

إن الفناء هو أقسى ما ينزل بالإشياء عن النقص ،إذا هو قمة النقص ،أو هو النقص المطلق ،ولذلك قال الفلاسفة : إن الوجود كمال والعدم نقص . ومن ثمة اعتبرت الحياة فى العقيدة الإسلامية منه عظيمة من الله تعالى ،ونعمة أنعم بها على الأحياء {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم }(البقرة : 28 ) .

ولكن الحياة التى يعيشها الإنسان فى عالم الشهادة حياة منقوصة ،إذا هى تنتهى بالموت ،فماذا فى حياة تنتهى بالفناء من قيمة ؟ وماذا لإنسان يؤول مصيره بعد حياته الدنيا إلى العدم من عزة ورفعة ؟

لو كانت الحياة التى يحيها الإنسان فى عالم الشهادة منتهية بالعدم لكانت هولاً لا يطاق ؛إذا “تجعل وجوده فى الدنيا عبثاً عميقاً ومحنةً لا تطاق ،كما تجعل هموم رحلته الدنيوية وتكاليفها عبثاً باهظاً لا يحتمل ،وتشد بصره ووجدانة وفكره إلى الحفرة التى تنتظره فى نهاية المطاف “(31). وإن حياة يترصدها الفناء المطلق فى كل لحظة لهى حياة نقمة وليست نعنة ؛ذلك لأن المصير المظلم لا ينفك يشيع فى النفس الخوف والرعب ،ويقعد بالإنسان عن الانطلاق فى ترقية الذات فى سلم الفضيلة ،وفى سلم عمارة الأرض ،ولهذا الأمر ما فتئ الإنسان فى رحلة وجوده منذ القديم يقاوم فكرة العدم  بعد الموت ،وينشئ فى ذاته تصورات لحياة مستمرة بعده ،ولم تقم الحضارات الأشورية إلا على الإيمان بنوع من الحياة المستمرة بعد الموت .

ليس للإنسان إذاً من قيمة ،وليس له من عزة ولا رفعة إذا هو انتهت حياته بالعدم “فلو لم يكن للإنسان عاقبة ينتهى إليها غير هذه الحياة الخسيسة المملوءة نصباً وهماً وحزناً ،ولا يكون بعده حال مغبوطة لكان أخس البهائم أحسن حالاً من الإنسان “(32)؛لأنه لا يعى المأساة ،أما الإنسان فإنه يعيها ويتجرع مرارتها مع كل أنفاسه .

ولذلك جاءت العقيدة الإسلامية – وهى تأكيد للأديان السماوية السابقة – تعلى من شأن الإنسان بأن أكدت وجوده ،فلم تقصره على الوجود الفانى ،بل جعلته وجوداً باقياً ،وبشرته بالخلود فى حياة أخرى تتلو هذه الحياة الدنيا .

فالحياة الدنيا فى العقيدة الإسلامية ليس إلا مرحلة من الوجود الإنسانى ،وهى المرحلة القصيرة المنقوصة ،أما الوجود الحقيقى فهو فى حياة أخرى بعدها ممتدة لا يصل لها الفناء ،ولكن الحياتين ليس بينهما انفصال ،بل العلاقة بينهما قائمة ،وهى علاقة الزرع الذى يكون فى الحياة الدنيا بالحصاد الذى يكون فى الحياة الأخرى ، ومن ثمة فإن الموت الذى هو مصدر خوف وهلع ورعب عند من ينكر الحياة الأخرى يضحى فى العقيدة الإسلامية سبباً للكمال ،إذا هو الطريق إلى الوجود الأخروى الكامل كما بينه الراغب الأصبهانى فى قوله : “الإنسان ما دام فى دنياه جار مجرى الفرخ فى البيضة ،فكما أن من كمال الفرخ تفلق البيض عنه ،وخروجه منه ،كذلك من شرط كمال الإنسان مفارقة هيكله ،ولولا هذا الموت لم يكمل الإنسان ،فالموت إذن ضرورى فى كمال الإنسانية “(33).

إن امتداد الحياة إلى ما بعد الموت شرف خص به الإنسان دون سائر الموجودات الكونية ،وهو شرف يعكس ما أراد الله تعالى له من تكريم ،فانتفاء العدم فى حق الإنسان هو فى ذاته تكريم له لما فى العدم من النقص ، وما فى الوجود من الكمال ،ثم إنه دافع لا يضاهيه دافع إلى الاكتمال المادى باستثمار الكون ،والروحى بتحصيل الفضيلة ،فالإيمان بالخلود يفتح أبواب الأمل ،ويسد أبواب اليأس والقنوط ،فيندفع الإنسان فى الإنشاء الحضارى مادة ً وروحاً بما يحقق من سيطرة على موارد الكون ،وسيطرة على نوازع الهوى ،إنجازاً فى ذلك للخلافة التى ينال بإنجازها أرقى الدرجات فى حياة الخلود .

وبهذه المعانى تكون الحياة بعد الموتهمنة إلهية على الإنسان هى أعظم من منن الحياة المشاهدة ؛لأنها متوقفة فى قيمتها عليها ،فبها تشيع فى النفس الإنسانية الطمأنينة وينتفى منها رعب العدم ،وبها يشعر الإنسان بعزة البقاء ،فيملأ حياته الدنيا بروح من تلك العزة ،وذلك تكريم إلهى للإنسان أشار إليه تعالى فى قوله :{أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون } (المؤمنون : 115 ) ،فالخلق مراد به الحياة الدنيا ،وهى حياة ينطوى فيها الإنسان على قيمة كبرى تجسمها الحكمة الإلهية الخالصة من كل عبث متوهم ،وإنما مصدر تلك القيمة ومظهر تلك الحكمة ما رتب على هذه الحياة من حياة أخرى يكون فيها الرجوع إلى الله للحساب .

6– الأثر التربوى لعقيدة التكريم :

مما تقدم بيانه يتأكد أن تكريم الإنسان وعزته ورفعة شأنه عقيدة ” إسلامية أساسية فى تصور الإنسان ،اهتم بها القرآن والحديث أيما اهتمام وبيناها أتم بيان فى مختلف المقامات ،حتى غدت من أسس الاعتقاد فى تقدير الإنسان ،انطلاقا من منطلق إنسانيته دون الاعتبارات العارضة لها ،فهذا الإنسان المطلق أنى نظرنا إليه فى التصوير القرآنى وجدناه الكائن المكرم العزيز ابتداء من وضع مخلوقيته الأولى ،ومروراً بتقويمه المادى والمعنوى ،وبتحمله أمانة التكليف ،وباستعلائه على ما سواه فى خط سيره نحو الله ،وانتهاء بمصيره فى حياة الخلود .

وعقيدة التكريم هذه خطيرة الشأن فى أثرها التربوى حينما يتبناها الإنسان بالإيمان بعد استيعابها بالتمثل والوعى فإن لها فعلاً بالغ الأهمية فى موقف من يتبناها سواء موقفه الداخلى إزاء الله تعالى وإزاء نفسه ،أو موقفه الخارجى إزاء المجتمع الإنسانى وإزاء البيئة الكونية .

إن من يؤمن بأنه الكائن المكرم الذى أحاطت به العناية الخاصة ،ومن يتمثل ذلك التكريم فى نفسه بما يقف عليه فى وجوهه ،ويعرف أن ذلك كان على وجد القصد والحكمة ،ثم يقارن نفسه فيما خص به من وجوه العزة الآنفة الذكر بأضداده من المعانى مما هو عليه كثير من البهائم والموجودات من حوله ،فإنه لا يملك إلا أن يحمد المنعم بتكريمه ،ويتوجه إليه بالشكر لما أنعم عليه ،ويتخذ الأسباب للاقتراب منه وتحصيل مرضاته فتكون هذه العقيدة سبباً دائماً فى الصلة بالله ؛لأن الإسباب يستشعرها لما تصبح عقيدة استشعاراً دائماً ،إذ هى حالته الوجودية المستمرة .

وليست النعم الإلهية على الإنسان بمحدودية بل هى متحققة فى كل ما يحياه ويتقلب فيه من أوضاع ،إلا أن أعظم تلك النعم هى ما خص به من تكريم فى تقويمه أساساً ،ثم فى تكليفه بالخلافة وتحريره من كل عبودية ، ثم فى مد حياته إلى غير فناء ،فهذه الأحوال الدائمة التى خلق عليها الإنسان قد يكون الإنسان غافلاً عنها رغم دوامها فيه ،إلا أن تأكيد التعاليم الإسلامية عليها لتصبح عقيدة راسخة من شأنه أن يرفعها إلى مستوى الحضور والوعى الدائمين ،فتكون الذكر الدائم بالله المنعم المحفز لشكره وحمده ،ولعل هذا ما يتضمنه قوله تعالى : {وفى أنفسكم أفلا تبصرون } (الذاريات :21) .

ولعقيدة التكريم دور مهم فى إقرار التوازن فى ذات الإنسان ،وإشاعة الشعور بالقوة فى نفسه ؛ذلك لأن اعتقاد الرفعة والعزة يؤدى إلى قوة الإحساس بالوجود ،وينمى الشعور بالذات ،ويثمر بالتالى الإيمان بالنفس الذى هو مفتاح التوازن فى الشخصية ،ومعقد الفاعلية فى المحيط .

إن الإنسان لما يؤمن أنه الأسير لدى الله ،وهو الخليفة له فى أرضه ؛فإنه تننزع منه دواعى الضعف والانهزام والوهن ، ويتولد فيه العزم على أن يكون على قدر المقام الذى وضع فيه ،إذا كيف يعتقد أنه الكائن العزيز ثم هو لا يتولد فيه العزم على أن يكون العزيز بالفعل ؟ إن أى وضعية نفسية يكون عليها الإنسان سببها فى الإصل ما استقر فى النفس من تصور لتلك الوضعية ،فالإنسان يكون على ما استشعر عليه نفسه ،فإذا ما استشعر القوة كان قوياً ،وإذا ما استشعر الضعف كان ضعيفاً ،وكذلك الأمر فى العزة والهوان .

ومن البين أن الفعالية فى التعامل مع الكون بالاستشعار والعمارة رهينة الإيمان بالعزة ،وما يؤدى إليه من استشعار القوة والتوازن ،فاعتقاد العزة والرفعة يدفع إلى أن يكون له مصداق فى الخارج متمثل فى تحقيق العزة بالفعل ،وذلك باكتشاف حقيقة الكون وامتلاك سره ،ثم باستثمار مقدراته بما ينمى الوجود الإنسانى ، والتاريخ ينبئ أن المجتمعات التى تعيش على انهزام نفسى إزاء الطبيعة أو أزاء أى جهة ضاغطة أخرى لا يكون لها من الدوافع ما تنشئ به الحضارة ؛ذلك لأن من أقوى الدوافع نحو الإنشاء والتعمير هو شعور الإنسان بقيمته وعلو شأنه ،ولعل الأمة الإسلامية اليوم تعيش أهم عوامل إعاقتها عن التحضر متمثلاً فى شعورها بالمغلوبية والدوان إزاء الآخرين من أهل الحضارة الغربية ،وأنى لمهزوم فى داخله أن ينطلق فى حركة تعمير للكون ؟

إن شعور الإنسان بأنه كائن ذو رسالة أخلاقية ،واعتقاده بأنه متحرر من كل هيمنة سوى هيمنة الله يجعله يقبل على الأرض ،فيباشر هذه الأرض بالفعل ،وهو ينبغى بها التوجه إلى الله ،فيكون فعله فيها إنشاء وتعميراً واستثماراً فعلاً عميق الأثر ؛لأنه يهدف إلى غاية بعيدة هى الله ،إذ الفاعلية تستمد زخمها من الهدف المقصود بعداً وقرباً ،وقد شرح هذا المعنى محمد باقر الصدر فى قوله :”إن الجماعة البشرية الصالحة هى التى تضع الله هدفاً للمسيرة الإنسانية ،وكلما اقتربت خطوة نحو هذا الهدف وحققت شيئاً منه انفتحت أمامها أفاق أرحب وازدادت عزيمة وجذوة لمواصلة الطريق ؛لأن الإنسان المحدود لا يمكن أن يصل إلى الله المطلق ، ولكنه كلما توغل فى الطريق إليه اهتدى إلى جديد ،وامتد به السبيل سعياً نحو المزيد ” ..{والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا }(العنكبوت : 69 ) (34).

لقد جاءت التعاليم الإسلامية تشرح حقيقة الإنسان على أنه كائن كريم رفيع الشأن سواء فى خلقه الابتدائى المستقل محفوفاً بالإجلال الإلهى ،أو فى كيانه المادى والمعنوى المستجمع لما تفرق فى الكائنات ،أو فى تحميله أمانة التكليف التى خص بها دون المخلوقات ،أو فى تحريره من كل مهيمن مذول سوى الله تعالى ، أو فى مد حياته إلى الخلود وتخليصه من كابوس الفناء . ومن شأن تصور للإنسان على هذا التكريم حينما يحل النفس محل الاعتقاد أن ينشئ فى المؤمن به عزة وقوة وأملاً تشيع فيه الطمأنينة والأمن ،وتدفعه إلى التعمير فى الأرض سعياً إلى النعيم فى حياة الخلود . وأين من هذه العقيدة تصور للإنسان على أنه من بداية وجوده صدفة عمياء ،أو أنه فى كيانه بعد مادى مظلم ،أو أنه فى علاقته بالكون مستذل لقوى معلومه أو مجهوله ،أو أنه فى مصيره آيل إلى العدم الرهيب ؟ إنه تصور يفضى لا محالة إلى ضروب من الاستغراق المادى المفضى إلى التظالم والتهارج والبغى ،وضروب من اليأس والخوف والقلق ،وكل ذلك يحل بالأداء الحضارى الحق مهما يبلغ الإنسان من مقام فى الإنجاز المادى ،كما هو الحال فى حضارة اليوم .

○○○

المصادر والمراجع

– الألوسى (أبو الفضل شهاب الدين السيد محمود ،ت 1270 )

1- روح المعانى ،ط دار إحياء التراث العربى ،بيروت (د . ت )

– البوطى (د . محمد سعيد رمضان )

2- منهج الحضارة الإنسانية فى القرآن . ط دار الفكر ،بيروت 1982 .

– الترابى (د . حسن عبد الله )

3- الإيمان وأثره فى الحياة ،ط دار القلم ،الكويت 1974 .

– التفتازانى ( د . أبو الوفاء الغنيمى )

4- الإنسان والكون فى الإسلام ،ط دار الثقافة للطباعة والنشر القاهرة 1975 .

– ابن حجر (الحافظ أحمد ابن على العسقلانى ،ت 854 هجرى )

5- فتح البارى بشرح صحيح البخارى ،ط دار الفكر – بيروت 1991 .

– الرازى (محمد بن عمر فخر الدين ،ت 606هجرى )

6- التفسير الكبير ،ط دار الكتب العلمية ،طهران (د . ت)

– الراغب الأصبهانى (أبو القاسم الحسين بن محمد ،ت 502 هجرى )

7- تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين . فى : عبد المجيد النجار ،ط دار الغرب الإسلامى ،بيروت 1988 .

– عائشة عبد الرحمن .

8- القرآن وقضايا الإنسان ،ط 4 دار العلم للملايين ،بيروت 981 .

– ابن عاشور (الشيخ محمد الطاهر . ت 1913)

9 – تفسير التحرير والتنوير ،ط الدار التنوسية للنشر ،تونس 1984 .

– عماد الدين خليل .

10 – حول إعادة تشكيل العقل المسلم ،ط سلسلة كتاب الأمة ،قطر 1983 .

– القاضى عبد الجبار بن أحمد الهمذانى _ت 1115 هجرى )

11- المغنى فى أبواب التوحيد والعدل ج 11 ،ط القاهرة 1965 .

– قتيبى (د . حامد صادق )

12- الكون والإنسان فى التصوير الإسلامى ،ط مكتبة الفلاح الكويت 1980 .

– الشاطبى (أبو إسحاق ) إبراهيم ابن موسى التخميى ،ت 790 هجرى )

13 – الموافقات . ط صبيح ،القاهرة 1969 .

– محمد إقبال .

14- تجديد التفكير الدينى فى الإسلام ط لجنة التإليف والترجمة والنشر ،القاهرة 1978 .

– محمد باقر الصدر .

15- منابع القدرة فى الدولة الإسلامية ،ط طهران – د ز ت) .

○○○

الهوامش

(1) قال الرازى فى هذا المعنى :”أشرف الموجودات هو الله تعالى ،وإذا كان كذلك فكل موجود كان قربه من الله تعالى أتم وجب أن يكون أشرف . لكن أقرب موجودات هذا العالم من الله هو الإنسان … فوجب الجزم بأن أشرف موجودات هذا العالم السلفى هو الإنسان ” (التفسير الكبير : 11 / 12 ) .

(2) الاستثناء الضمنى فى الآية متجه إلى الملائكة كما ذهب إليه الزمخشرى – الكشاف : 3 / 87 – على أن كثير من أهل السنة ذهبوا إلى أن الإنسان أفضل من الملائكة أيضا . انظر الرازى – التفسير الكبير : 11- 17 .

(3) الرازى – التفسير الكبير 26 / 231- 32 .

(4) ابن عاشور – التحرير والتنوير 23 / 225 – 26 .

(5) انظر الألوسى – روح المعانى : 23 / 225 – 26 .

(6) ابن عاشور – التحرير والتنوير : 14 / 44 .

(7) انظر الرازى – التفسير : 26 / 228 .

(8) أخرجه البخارى فى : كتاب الأستئذان ،باب بدء السلام ،وراجع فى ابن حجر – فتح البارى : 18 / 262 و 5 / 492 آراء مختلفة فى شرح الحديث ،ومعاد (صورته ) بصفة خاصة .

(9) قال ابن حجر : أخرجه ابن أبى عاصم فى السنة من طريق أبى يونس عن أبى هريرة . فتح البارى : 5 / 236 .

(10) ابن حجر – فتح البارى : 12 / 236 .

(11) انظر فى ذلك مثلا ما كتبه الجاحظ فى الدلائل والاعتبار ،وما كتبه الغزالى فى كتاب ،الحكمة فى مخلوقات الله ،وقد أورد المفسرون الكثير من أوجه التكريم الخلقى للإنسان فى شرح آية التكريم ،وآية حسن التقويم ،انظر مثلا الرازى – التفسير : 21 / 13 وما بعدها .

(12) انظر اب عشاور – التحرير والتنوير : 26 / 258 .

(13) ابن عاشور – التحرير والتنوير : 24 / 190 .

(14) نفس المصدر : 30 / 424 .

(15) الرازى – التفسير : 21 / 13 .

(16) من معانى الأمانة الجزئية التى ذكرها المفسرون ،الطاعة ،الصلاة ،الصوم ،الاغتسال ،الانقياد إلى الدين ،حفظ الفرج ،التوحيد ،تجليات الله بأسمائه العقل الخلافة ،انظر الرازى – التفسير : 25 / 236 ، والألوسى – روح المعانى : 25 / 91 وابن عاشور – التحرير والتنوير : 22 / 126 .

(17) الرازى – التفسير الكبير : 25 / 236 .

(18) عائشة عبد الرحمن : الإنسان وقضايا الإنسان : 64 – 65 .

(20) ابن عاشور – التحرير والتنوير : 22 / 125 .

(21) القاضى عبد الجبار – المغنى : 11 / 134 .

(22) – الموافقات : 1 – 41 .

(23) محمد إقبال – تجديد التفكير الدينى : 107 .

(24 ) نفس المصدر : 110 .

(25) نفس المصدر : 106 .

(26) رواه أحمد : 5 / 411 وإسناده صحيح .

(27) الأعراف : 31 .

(28) رواه الحاكم فى المستدرك : 4 / 317 (ط دار المعرفة ،بيروت ) .

(29) ذكره المتقى الهندى فى كنز العمال : 3 / 236 (ط دار اللواء ،الرياض 1979) .

(30) محمد باقر الصدر – منابع القدرة فى الدولة الإسلامية : 16 – 17 .

(31) عائشة عبد الرحمن ،القرآن وقضايا الإنسان : 154 .

(32) الراغب الأصبهانى ،تفصيل النشأتين : 138 .

(33) نفس المصدر : 200 .

(34) محمد باقر الصدر ،منابع القدرة : 9- 10 .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر