- التصوف فى الإسلامى هو علم الأخلاقية الدينية يقول ابن القيم فى (( مدارج السالكين )) : (( واجتمعت كلمة الناطقين فى هذا العلم على أن التصوف هو الخلق )) .
ويعرف أبو محمد الجريرى التصوف بقوله : (( التصوف هو الدخول فى كل خلق سنى والخروج عن كل خلق دينى )) .
والطرق الصوفية هى المدارس الروحية التى نشأت فى الإسلام من أجل تربية السالكين تربية إسلامية صحيحة، وكل مدرسة من هذه المدارس عرفت باسم مؤسسها ولها منهجها فى التربية والإرشاد، وقد تفرعت هذه الطرق وانتشرت فى العالم الإسلامى كله لتؤدى رسالة الهداية إلى طريق الله .
وليس التصوف كما تدعو إليه الطرق الصوفية .وكما يظن خطأ هروبا من واقع الحياة، وإنما هو محاولة للتسلح بقيم روحية جديدة تعينه على مواجهة الحياة المادية وتحقق له التوازن النفسى حتى يواجه مصاعبها ومشكلاتها، وبهذا المفهوم يصبح التصوف إيجابيا لا سلبيا، مادام يربط بين الحياة الإنسان ومجتمعه .
وقد جاء ابن عطاء الله السكندرى إلى أستاذه أبى العباس المرسى، وفى نفسه أن يترك طلب العلم، ويتفرغ لصحبة شيخه، فقال له : (( نحن إذا صبحنا تاجرا ما نقول له اترك تجارتك وتعال، وإذا صبحنا نائب حكم لا نقول له اترك حكمك وتعالى، وإذا صحبنا طالب علم لا نقول له اترك علمك وتعال، وإنما نقر كل واحد على ما أقامه الله فيه، وما اقسم له على أيدننا فهو إليه واصل )) .
وفى التصوف الإسلامى من المبادئ الإيجابية ما يحقق تطور المجتمع إلى الأمام :
فمن ذلك أنه يؤكد على محاسبة الإنسان لنفسه باستمرار ليصحح أخطاءها، ويكملها بالفصائل، ويجعل نظرته إلى الحياة معتدلة، فلا يتهالك على شهواتها، ويتغمس فى أسبابها إلى الحد الذى يسنى فيه نفسه وربه، فيشقى شقاء لا حد له، والتصوف يجعل من هذه الحياة وسيلة لا غاية يأخذ منها الإنسان كفايته، ولا يخضع لعبودية حب المال والجاه، ولا يستعلى بهما على الآخرين، وبهذا يتحرر تماماً من شهواته وأهوائه بإدارة حرة .
وبهذا يهتم الصوفية بالإسلام الأخلاقى، ويرون ان أهم ما يتعين على الإنسان أن يقوم به هو أن يصحح أخلاقياته وفق المثل الأعلى الذى جاء به الإسلام، وبهذا تكون كل المجالات التى يخوضها الإنسان متوقفة على نجاحه فى أن يغير من أخلاقياته، وهذا هو ما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قوله : (( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )) أما الإسلام السياسى الذى يدعو إلى التغيير فى المجتمع على أساس من استخدام العنف، فهو أمر مرفوض من وجهة نظر الصوفية، ويرى الصوفية أن الرفق هو أساس التغيير عملاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من يحرم الرفق يحرم الخير كله)) . وقوله : (( ما دخل الرفق فى شيء إلا زانه، وما دخل العنف فى شيء إلا شانه )) .
وأهمية الطرق الصوفية فى الإسلام راجعة إلى أنها تمثل لنا الجانب العلمى من التصوف، وهو جانب ارتباط بحياة المجتمعات الإسلامية وجماهير الناس فيها عبر التاريخ ارتباطاً مباشراً، ودراسة هذا الجانب دراسة تبين لنا مدى فعالية (( القيم الصوفية )) قوة وضعفاً فى واقع المجتمعات .
والتصوف فى حقيقة ليس نظريات نفسية أو أخلاقية أو ماورائية بقدر ما هو طريقة فى الحياة، ورياضة عملية تمارس من أجل هدف معين هو تحقيق الكمال الأخلاقى الذى دعا إليه الإسلام .
وقد نبه الإمام الغزالى المتوفى سنة 505 هجريا (1) إلى أنه لا يكفى أن تقرأ كتب الصوفية لتصبح صوفياً، إذ (( إن طريقتهم لا تتم إلا بعلم وعمل )) وهم يقيناً (( أرباب أحوال لا أصحاب أقوال)) .
ومن هنا كان على دارس التصوف أن يتتبع نظرياته المختلفة فى تطبيقاتها العملية، فهذا مما يعنيه على فهمها أولا، ومما يتيح له أن يحكم على مدى فعاليتها وحيويتها ثانياً . ولعلك تدهش إذا علمت أن آراء كبار شيوخ التصوف لم يكتب لها البقاء فى العالم الإسلامى قروناً إلا من خلال الطرق العملية التى أسسوها والتى انتشرت فيها انتشاراً واسعاً، وهذا من دلائل عظمة شخصياتهم وقدرتهم على القيادة الروحية للجماهير وهذا أمر لم يتهيأ لكبار مفكرى الإسلام وفلاسفته الذين آثروا منهج العقل وحده فى تقرير مباحثهم النظرية، فبقيت آراؤهم لهذا فى نطاق لا تتجاوزه إلى قلوب الجماهير وعقولهم إلا فى النادر .
2- ولكى ندرك مدى مساهمة الطرق الصوفية فى التغير الاجتماعى، لابد لنا من أن نلقى نظره تاريخية موجزة على نشأة هذه الطرق وانتشارها فى العالم الإسلامى المعاصر .
عندما ظهر الشيخ عبد القادر الجيلانى المتوفى سنة 561 هجريا (2) والشيخ أحمد الرفاعى المتوفى سنة 578 هجريا بالعراق (3) ،وهما مؤسسا الطريقتين القادرية والرفاعية، توالى ظهور شيوخ التصوف الكبار فى أقطار إسلامية عدة، والتف حولهم الأتباع والمريدون .
واستمرت الطرق الصوفية فى الظهور والانتشار منذ القرن السادس الهجرى إلى يومنا هذا، وتشعبت فى جميع الاتجاهات من السنغال غربا إلى بلاد الصين شرقا وقامت فى كثير من البلدان الأفريقية والأسيوية بنشر دعوة الإسلام . كما قاومت فى كثير من الأحيان الاستعمار الأوروبى المستتر وراء التبشير (4) .
واختلفت أسماء الطرق فى العالم الإسلامى باختلاف أسماء مؤسسيها، وهى فى حقيقة الأمر تهدف إلى غاية واحدة . والخلافات التى كانت ولاتزال بين الطرق هى فى الرسوم العملية فقط كالزى والأوراد والأحزاب التى يرددها الأتباع وما إلى ذلك، فهى أشبه شئ بمدارس تتحد غايتها فى التعليم الروحى وتختلف وسائلها العملية فيه باختلاف المعلم الذى يجتهد فى أن يضع لتلاميذه قواعد ورسوما خاصة يرى أنها أفعل فى تعليمهم .
والحقيقة أن الغاية القصوى من الطريق الصوفى هى غاية خلقية تتمثل فى إنكار الذات والصدق فى القول والعمل والصبر والخشوع ومحبة الغير والتوكل،وغير ذلك من الفضائل التى دعا إليها الإسلام وكانت محوراً دارت حوله أبحاث التصوف النظرى .
وأصبحت لفظة (( طريقة )) عند الصوفية المتأخرين (5) تطلق على مجموعة أفراد من الصوفية ينتسبون إلى شيخ معين، ويخضعون لنظام دقيق فى السلوك الروحى، ويحيون حياة جماعية فى الزوايا، أو يجتمعون اجتماعات دورية منظمة فى مناسبات معينة، ويعقدون مجالس العلم والذكر بانتظام، وهكذا أصبح التصوف جماعياً بعد أن كان خط أفراد متفرقين لا رابط بينهم .
3- ومن أبرز مساهمات التصوف فى عصرنا الحاضر فى تغيير المجتمعات العربية والإسلامية طريقة الدعوة إلى الله، ذلك أنها تتميز بمميزات خاصة وتختلف عن طريقة الدعوة التى تلجأ إليها مثلاً الجماعات الإسلامية التى اتخذت لها أهدافا ً سياسية . وليس من شك أن التطرف الدينى، وانهيار القيم الأخلاقية، يمكن أن يعالج بالحوار وبالكتابة العلمية المتأنية المستنيرة فى مجال الإسلام، عقيدة وشريعة وأخلاقا، وكان هذا دأب علماء الإسلام دائما فى تاريخ الإسلام ، فقد واجه الإسلام فى العصر العباسى مثلاً آراء إلحادية، ومذاهب أشد وطأة من المذاهب المعروفة فى عصرنا، وتصدى لها علماء العقائد بالرد حتى أبطلوها، وأبعدوا خطرها عن المجتمعات الإسلامية آنذاك .
ومن أفضل الوسائل التى تمكن الداعية فى عصرنا من أن يدعو للإسلام ، علمه بالعقيدة الصحيحة، وبجملة الإحكام الشرعية، وبسيرة النبى صلى الله عليه وسلم وصحابته، وأن يكون على دراية بعلم الحديث وبتاريخ الإسلام وحركة هذا التاريخ، واقفا على أبرز معالم الحضارة الإسلامية، وأهم من هذا كله أن يكون متخلقاً بخلق الإسلام وكيفية الدعوة إلى هذا الخلق عن طريق القدوة الحسنة، أغنى أن يكون هو نفسه قدوة لغيره فى حاله ومقاله وسلوكه، بعبارة أخرى آخذا نفسه بمنهج التصوف الإسلامى فى الدعوة إلى الله .
يقول تعالى : ( قل هذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى ) (6)
ويقول الراغب الأصفهانى فى تفسير كلمة : على بصيرة، إنها تعنى المعرفة والتحقق وأهل المعرفة هم الذين تخلقوا بأخلاق الرسول، وعلى رأسها خلق الرحمة والشفقة على عباد الله، ينهجون نهجه فى الدعوة إلى طريق الله بالرفق لا بالعنف .
وأما أهل التحقق فهم الذين يحصل لهم اليقين عن طريق الذوق والكشف .
بعبارات أخرى يمكن أن يهتدوا إلى الله بذلك النور الذى أودعه الله فيهم نتيجة الطاعة ، يقول تعالى : ( ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ) (7)
وقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الذوق فى قوله : (( ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ربا وبمحمد رسول وبالإسلام دينا )) .
فالإشارة إلى النور الذى يفرق به الإنسان بين الحق والباطل، والصواب والخطأ والطاعة والمعصية، هو ثمرة التقوى ، والإشارة إلى ذوق الإيمان، تعنى أن يكون الداعية إلى الله صاحب ذوق لأحكام العقيدة، وصاحب ذوق فى العمل بالأحكام، وذوق فى التخلق، وان يكون فى مقام الرضا عن الله، ولا شك أن الذوق للتجربة الدينية هو الأساس، وهو يدل على حياة القلب، ولذلك قال الصوفية : (( من ذاق عرف )) .
فالداعية إلى الله يجب أن يكون مدركاً لأهمية الأخلاق فى الدعوة، وان يكون متحلياً بجميع تلك المعانى التى أشرنا إليها، لأن غير المتخلق لا يستطيع أن يدعو الناس إلى الدين فيتقبلوا ما يدعو إليه .
خلاصة القول أن من شروط الداعية أن يكون على بصيرة، وفى هذا يقول الأمام فخر الدين الرازى : (( وهذا يدل على أن الدعاء إلى الله تعالى إنما يحسن ويجوز مع هذا الشرط، وه أن يكون على بصيرة مما يقول، وعلى هدى ويقين، فإذا لم يكن كذلك فهو محض الغرور )) (8) .
وهذا يعنى أنه يجب أن نكون فى عصرنا هذا على بيئة، فنفرق بين الدعاة إلى الله حقا على بصيرة، وبين المغرورين الذين ليسوا من أهل المعرفة والتحقق، والذين لم يرتاضوا على خلق الرحمة والتواضع فى الدعوة، ولم يقتدوا بالرسول صلى الله عليه وسلم فى سنته وطريقه، والذين يسارعون فى دعوة الناس إلى الله دون أن تتهذب نفوسهم أولاً، ودون أن يكونوا من أهل الذوق فى فهم الأحكام والعمل بها ثانيا .
4- ومما يساهم به التصوف فى المجتمع أنه يراعى طبيعة الناس وضعفهم البشرى، فيأخد بأيديهم إلى الله بأيسر طريق .
ومن ذلك اتخاذه الرحمة شعاراً، فقد قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)(9)
ووصفت الأمة الإسلامية بأنها أمة المرحمة .
ومن الرحمة فى الخلق أن نرفق فى دعوتهم إلى الإسلام، ولا نجرحهم، أو نتهكم عليهم عند الخطأ . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يريد أن يوجه قوماً إلى طريق الحق، يقول من على المنبر : (( ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا )) ولا يذكر أسماءهم لئلا يجرحهم .
أين هذا من أصحاب الجماعات الإسلامية المعاصرة الذين ينعتون إخوانهم من المسلمين بأقبح النعوت ويحكمون عليهم بالكفر، وقد قال الرسول : ((من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها))
ويحضرنى هنا قول الإمام الشوكانى فى(( نيل الأوطار )) رداً على من يكفرون الناس ويدعون إلى الهجرة من المجتمع : (( إن الحق عدم وجوب الهجرة عن دار الفسق لأنها دار إسلام )) (10) .
ولما ذكر بعض الصحابة أمام الرسول صلى الله عليه وسلم : (( إنا نرحم أزوجنا وأهلنا )) قال : (( ما هذا أريد إنما أريد الرحمة العامة )) فالرحمة ليست مقيدة، وإنما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن تتغلغل الرحمة فى الكيان الإنسانى كله وكأنها من فطرته .
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا : (( من يحرم الرفق يحرم الخير كله)) وقال : (( ما دخل الرفق فى شيء إلا زانه، وما دخل العنف فى شيء إلا شانه )) وهو القائل أيضاً :
(( يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا )) وهذا من الرحمة .
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره إنسانا ً على معتقد، يجادل برفق عن الحاجة، عملا بقوله تعالى : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى احسن ) (11) وهذا من الرحمة .
5- ومن اهم ما يقدمه التصوف لغير من المجتمع المعاصر فتح باب الرجاء فى الله، فلا ييأس الإنسان من رحمة الله، ولا يستعظم الذنب الذى يقع منه، وهذا من أفعال الوسائل فى سير الإنسان قدما فى طريق الله، وفى جذب الناس إلى حظيرة الدين .
ومن أهم شروط الرجاء أن يقارنه عمل، وألا كان مجرد أمنية، يقول ابن عطاء الله فى (( الحكم )) : (( الرجاء ما قارنه عمل وإلا فهو أمنية )) (12) أليست هذه الحكمة العطائية فى معنى الرجاء جديرة بأن يفيد منها الناس فى حياتهم اليومية ؟
إن الإنسان منا كثيرا ما ينطوى على نفسه متمنياً لها الأمانى المختلفة فيضيع وقته فى التمنى ولا يصل إلى هدف ما، ولو قد أشغل وقت التمنى بالعمل لوصل _ أو ساهم على الأقل فى الوصول_ إلى هذا الذى يتمناه دون إضاعة وقت .
حقاً إن الرجاء فى الله لابد أن يقارنه العمل المتواصل الشاق فى سبيل ما يرجو الإنسان . وبهذا بكون الرجاء دافعاً إلى العمل الإيجابى المنتج وليس دافعاً غلى الهروب والنكوص وإضاعة الوقت فى التخيلات والأوهام الكاذبة .
والرجاء فى الله يقتضى ايضاً ألا يستعظم الإنسان ذنبه، وييأس مما هو فيه يأسا يدفعه إلى عدم التوبة عنه . ولو عرف الإنسان ربه بما هو عليه من صفات الحلم والكرم والفضل والمغفرة لاستصغر ذنبه هذا مهما عظم .
6- ومن أفعال أساليب الدعوة إلى الله عند الصوفية إشاعة الحب فى المجتمع والحب فى الإسلام على درجات، أعلاها درجة حب الإنسان لله، ثم حب الإنسان للرسول صلي الله عليه وسلم، ثم حب أهل البيت، ثم حب المسلم للمسلم . ومن هنا فإن علاقة الحب هى ما ينبغى ان يسود الأسرة والمجتمع، والداعية إلى الله لا ينبغى أن يغفل عن إشاعة الحب بمختلف صوره بين الناس فى المجتمع، لأن هذا يدعوا إلى تماسك المجتمع، ولا كذلك مشاعر الحقد والصراع .
7- وإلى الصوفية يرجع الفضل فى أن جعلوا أسلوب الدعوة إلى الله بالمقال والحال فإذا كان الداعية إلى الله ينطق حاله بالتقوى، وبكل معنى من المعانى السامية النبيلة، فإن الناس سيقتدون به وسيسرى حاله إليهم .
وإذا كان القلب مكسواً بإيمان خرج الكلام مكسواً بكسوة الإيمان، وغذا كان القلب مكسواً بكسوة الرضا عن الله تعالى خرج الكلام من اللسان وعليه كسوة الرضا، وإذا كان القلب ذائقا عارفاً بالله خرج الكلام وعليه كسوة الذوق والعرفان بالله، وهكذا يعبر الداعية عن حاله ومقامه، فيقبل عليه الناس حبا، فينتفعون بكلامه ويكون هذا باعثاً على نهوض حالهم . فهناك إذن كلام يخرج من القلب إلى القلب فيحدث أثره وكلام يخرج من اللسان إلى الآذان ولا يتجاوزها .
فلينظر الداعية لأى هدف يتكلم، هل هو يتكلم طلباً للشهرة أو للدنيا أو للجاه أو للعز، إذا كان الأمر كذلك فلا فائدة ترجى من كلامه، أما إذا كان يتكلم لإعلاء كلمة الله فى الأرض، والأخذ بأيدى الناس إلى طريق النجاه ورضا الحق سبحانه وتعالى متحققاً فى ذلك بمقام الإخلاص فنحن مستعدون للاستماع إلى ذلك الداعية، لأنه قادر على النهوض بنفوسنا، وعلى سيرها فى طريق الله قدما .
وهكذا فهم الصوفية الدعوة إلى سبيل الله من أجل التغيير فى المجتمع إلى الأفضل، فجعلوا منها امراً محبباً إلى النفس الإنسانية، ولم يكن من منهجهم أكراه الناس على معتقد، كما أشاعوا الأخلاق الفاضلة من الرحمة والتسامح والحب والقدوة الحسنة فى المجتمع كله
وليس أدل على جدوى رسالة الطرق الصوفية فى العصر الحديث من أن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده كان يؤمن إيماناً راسخاً بفاعلية المنهج الصوفى فى التربية والإصلاح الدينى والاجتماعى، فقد قال يوماً للسيد محمد رشيد رضا : (( إذا يئست من إصلاح الأزهر فإننى أنتقى عشرة من طلبة العلم، وأجعل لهم مكاناً عندى فى عين شمس أريهم فيها تربية صوفية مع إكمال تعليمهم )) وكان قد اقترح على السيد جمال الدين الأفغانى هذا الاقتراح إيام كانا ينشئان (( العروة الوثقى )) فى باريس، ويعقب السيد محمد رشيد رضا على ذلك قائلا (( ولو تم للأستاذ الإمام هذا على الوجه الذى يريده لكان أعظم أعماله فائدة )) (13) .
8- وإذا كنا نواجه فى عصرنا هذا بمذاهب وأفكار مادية وعبثية تهاجم الإسلام، فإن من الضرورى أن ننتبه إلى أهمية التصوف الإسلامى باعتباره الجرعة الروحية لعلاج مثل هذه المذاهب والأفكار فى مجتمعنا . والتصوف الإسلامى كما حددناه فى بداية هذه الورقة هو خلق وسلوك، وما أحوجنا فى هذا العصر إلى قيم الإسلام وروحانياته الصافية، ليحس الإنسان بأن لحياته معنى يعيش من أجله، وليغير معاييره فى الحكم على الأشياء، فى عصر غلب فيه على الناس قياس كل شئ بمقياس المادة، ولم يعد الناس فيه – اللهم إلا قلة قليلة – يعطون اهتماماُ للجانب الروحى والإنسانى .
الهوامش
- الغزالى : المنقذ من الضلال، بهامش الإنسان الكامل للجيلى، 1316 هجرياً، ج2،ص30 ،31 .
- انظر فى ترجمته : الشعرانى : الطبقات الكبرى، القاهرة 1343 هجرياً ،ج1 ، ص 108_ 114 .
- من الكتب التى جمعت أخباره بالتفصيل كتاب : (( قلادة الجواهر ))، لابن الهدى الصيادى ، بيروت 1301 هجرياً .
- انظر : حاضر العالم الإسلامى لستودارد، القاهرة ،1352 هجرياً ، مجلد 2ص367وما بعدها ،ص329 وما بعدها .
- Massignon: Art.<< Tarika>> Encyclopedie deL,islam
- سورة يوسف : آية 108 .
- سورة النور :آية 40 .
- التفسير الكبير للفخر الرازى فى موضع هذه الآية .
- سورة الأنبياء : آية 107 .
- نيل الأوطار ، القاهرة ، 1347 هجرياً ، ج8 ،ص 23.
- سورة النحل : آية 125 .
- شرح الرندى على الحكم بولاق 1287 هجرياً ،ص1 ، ص79 .
- السيد محمد رشيد رضا : تاريخ الأستاذ الإمام ، القاهرة 1931 ، ص1 ، 130 .