كلمة التحرير

المسلمون وسيناريو الصراع بين الحضارات

العدد 67- 68

انتبهوا إلى خطوط التماس الراهنة بين مختلف الحضارات،  فتلك  مقدمات إلصراع الآتى فى المستقبل المتطور،  الذى سيكون بين الثقافات فى المقام الأول . وليس صحيحاً أنه سيدور بين القوميات ، ولا بين العقائد،  ولا بين المصالح الاقتصادية المتعارضة .

هذه أحدث مقولات الفكر السياسى الأمريكى وأكثرها لفتاً للإنظار حتى الآن،  بعد ما هدأت أو تراجعت مقولة (( نهاية التاريخ )) ،التى أطلقها فرانسيس توكوياما، إباًن إن إنشاء الإدارة الأمريكية السابقة وحديثها عن نظام عالمى جديد، فى أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتى، والسقوط المدوى لمشروعه .

إذ فيما انشغلت مختلف دوائر الدراسات السياسية والاستراتجية بتصورات عالم ما بعد الحرب الباردة، خرج عن مألوف الحوار واحد من أشهر علماء السياسية الأمريكية، هو : صموئيل هنتنجتون، مدير معهد أولن للدراسات الاستراتيجية بجامعة هارفارد، حيث مضى يدق جرس الإنذار محذراً من (( سيناريو )) الصراع الحضارى .

فى شهر فبراير من العالم الحالى، شر هنتنجون بحثاً فى مجلة (( الشئون الخارجية )) ضمنه فكرته، التى ظلت تتفاعل فى هدوء داخل الأوساط الأكماديمية . وبعد ثلاثة أشهر (فى 8 يونيو ) نشرت صحيفة

(( نيويورك تايمز )) تلخيصاً للبحث، آثار ردود أفعال قوية فى الدوائر الثقافية الغربية، الأمر الذى دفع مجلة

(( تايم )) إلى إجراء مقابلة مع الرجل .

ومناقشته فى (( السيناريو )) الذى قدمه .

ونشر ذلك الحوار فى عدد ((28 يونيو )) تحت عنوان مثير هو : المعركة القادمة !

استوقفتنى مقولة البروفيسور هنتنجتون لأسباب ثلاثة . أولاً لأنها لا تخلو من وجاهة فى ذاتها، وثانياً لأنه وضع الإسلام على رأس التحديات الحضارية التى تواجه الغرب وحضارته، وثالثا لأن المسلمين لديهم تصورا فريداً فى الموضوع، جديرا بالإثبات والتنويه .

تعالوا نتتبع هذه النقاط التالية :

تمثل الحضارات حقيقة مهمة لا سبيل إلى إنكارها . وأى دارس للتاريخ يلاحظ أن فى العالم حضارات متعددة، تزدهر وتخفق وتنقسم على نفسها، وقد تتلاشى وتنقرض، لكنها قد تعود للظهور والانتشار ثانية . فالحضارة الغربية تضم تنوعين أساسيين هى الطابع الأوروبى والطابع الأمريكى الشمالى، بينما الحضارة الإسلامية – مثلاً – تحتوى على تنوعات عدة، تتراوح بين الطابع العربى والتركى والملاوى (لم يذكر الفارسى ؟ ) .

يميل الغربيون للاعتقاد بأن العنصر الأساسى فى الشئون الدولية . وقد برز ذلك الاتجاه مع انتهاء الحرب الباردة وإشهار إفلاس الأيدولوجية الشيوعية ورغم أن هذا حاصل بصورة نسبية الآن، إلا أن الدولية القومية حديثة، من المنظور التاريخى، إذا لم تظهر إلا منذ قرون قليلة فقط ،فى حين أن المراحل التاريخية الواسعة تمثل تاريخاً للحضارات، وهذا هو النموذج الذى يعود إليه العالم بشكل تدريجى اليوم .

سوف تزداد أهمية الهوية الحضارية، كما أن العالم سوف يشكل بالمعيار الأوسع طبقاً للتفاعلات التى ستجرى بين سبع أو ثمانى حضارات رئيسية هى : الغربية والكنفوشيوسية واليابانية والإسلامية، والهندوسية والأرثوذوكسية  السلافية، واللاتنية الأمريكية، وقد تنضم إليها الحضارات الأفريقية .

ستكون خطوط التصدع الراهنة بين هذه المعارك المستقبل لماذا ؟ لأن الاختلافات بين الحضارات مسألة أساسية . فهناك اختلافات تاريخية ولغوية وثقافية، واختلافات فى العادات والتقاليد، وهناك الاختلافات الدينية ذات الدور بالغ الأهمية، كذلك فإن الحضارات لها رؤى مختلفة حول علاقة الله والإنسان، وبين المواطن والدولة، وبين الآباء والأبناء، وبين الحرية والسلطة .. ولأن تلك الاختلافات هى نتاج قرون طويلة . فإنها لن تختلف خلال فترة قصيرة .

أصبح العالم قرية صغيرة بسبب ثورة الاتصال، وأصحبت التفاعلات بين الشعوب فى مختلف الحضارات تزداد بصورة كبيرة، الأمر الذى يكثف ظاهرة الوعى الحضارى . وحيث إن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية تفصل الناس عن هوياتهم المحلية، التى اعتادوا عليها منذ فترة طويلة . فإن الظاهرة الدينية تحركت فى مناطق عديدة فى العالم لتملأ هذا الفراغ، متخذة شكل الحركات (( الأصولية )) . وهذه الحركات تنتشر الآن فى المسيحية الغربية واليهودية والإسلام .

وفى ذلك تصدق كلمة جورج ويقل : إن ظاهرة تجريد العالم من العلمانية، أصبحت إحدى حقائق الحياة فى أواخر القرن العشرين .

فى الوقت ذاته فإن ظاهرة العودة إلى الجذور أو الأصول تحدث أيضاً بين أبناء الحضارات غير الغربية . فظاهرة الآسينة، من العودة إلى الجذور الأسيوية اضحة فى اليابان، كذلك الهند تتجه إلى الهندوسية، كما أن

(( أسلمة )) الشرق الأوسط ماضية على قدم وساق .

وأهم من ذلك أن جمهور الغرب لنشر وتعزيز قيمه واعتباره قيما عالية، لكى يحتفظ بهيمنته العسكرية ويحمى مصالحه الاقتصادية، هذه الجهود ولدت استجابات مضادة لدى الحضارات الأخرى . لذلك فمن المرجح أن يصبح المحور المركزى فى السياسات العالمية هو الصراع بين الغرب والحضارات الأخرى الرافضة للقوة والقيم الغربية .

من هذه الزاوية، فإن التعاون المضاد للغرب بين الدول الكونفوشيوسية والإسلامية من أوضح الأمثلة على علاقة الترابط التى تهدف إلى تحدى الوة والقيم الغربية .

فى الوقت الذى اختفى فيه الانقسام الأوروبى الأيديولوجى (بين الشيوعية والرأسمالية )، فإن الانقسام الأوروبى الثقافى بين المسيحية الغربية (الكاثوليكية ) والمسيحية الأرثوذوكسية والإسلام، عاد للظهور ثانية فى تلك القارة . فالصراع بين الحضارتين الغربية والإسلامية مستمر منذ 13 قرناً، ولا يبدو أنه فى طريقه إلى التلاشى . ولذلك شواهده عند الحدود الشمالية للحضارة الإسلامية . فقد بدأ الصراع يتفجر بصورة متزايدة بين الأرثوزوكس والمسلمين . والحاصل فى البوسنة يدخل فى هذا الإطار، وكذلك العنف الواصل إلى نقطة الغليان بين الصرب والألبانيين، والعلاقات المتوترة بين البلغارين والأقلية التركية فى بلغاريا ، والعنف المشتعل بين الأوستينين والأنجوش، والمذابح المتواصلة بين الأرمن والأذربيجانيين، والعلاقات المتصدعة بين المسلمين فى آسيا الوسطى .

ينبغى أن يلاحظ فى هذا الصدد، أنه عندما تدخل الجماعات أو الدول التى تتمنى حضارة معينة . مع شعب من حضارة مختلفة،  فمن الطبيعى أن تحاول حشد جهودها للحصول على دعم الأطراف الأخرى أن تنتمى إلى الحضارة المشتركة . لذلك ففى السنوات القادمة يرجح أن تتحول الصراعات المحلية إلى حروب كبرى ، على شاكلة الصارعات الجارية فى البوسنة والقوقاز، على امتداد خطوط التصدع بين الحضارات .

فى مواجهة ذلك الموقف فإنه يتعين على صانعى السياسة فى الغرب أن ينتبهوا جيداً إلى اتجاه الريح، وهم مطالبون باتخاذ إجراءات معينة على المدى القصير، وبرسم استراتيجية تكيف على المدى البعيد .

على المدى القصير، من مصلحة الغرب تشجيع تعاون أكبر وترسيخ وحدة أعمق .

فى إطار الحضارة الغربية نفسها، خاصة بين العناصر الأوروبية والعناصر الأمريكية الشمالية، إضافة إلى دمج المجتمعات التى تقترب من الثقافة الغربية مثل أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية ضمن مشروع التعاون والوحدة المشار إليه سابقاً .

وكذلك يجب على الغرب الحفاظ على علاقات وثيقة مع روسيا واليابان . وتقديم الدعم لتلك الجماعات فى الحضارات الأخرى التى تتعاطف مع القيم والمصالح الغربية . يضاف لذلك دعم وتعزيز المؤسسات الدولية التى تعكس القيم والمصالح الغربية وتضفى عليها الشرعية .

كذلك يجب على الغرب أن يحد من توسع القوة العسكرية للحضارات التى تمكن فيها نزعة عدائية للغرب وخاصة الحضارات الكونفوشيوسية والحضارة الإسلامية . كما يجب على الغرب استثمار الاختلافات ومظاهر الصراع الأخرى بين الدول الكونفوشيوسية والدول الإسلامية .

وهذا الأمر يتطلب إجراء تخفيضات هامشية ( وليست كبيرة ) فى القدرات العسكرية الغربية، والاحتفاظ على وجه الخصوص بالتفوق العسكرى الأمريكى فى شرق وجنوب آسيا .

أما على المدى الطويل، فهناك معايير أخرى يمكن اتباعها . إذا يجب على الغرب أن يسعى بصورة متنامية للتكيف مع الحضارات الحديثة غير الغربية التى تقترب قوتها من قوة الغرب ولكن قيمها ومصالحها تختلف بصورة مميزة عن القيم والمصالح الغربية . وهذا الأمر يتطلب من الغرب أن يقوم بتطوير فهم أكثر شمولاً عمقاً للمنطلقات الدينية والفلسفية الأساسية التى تميز الحضارات الأخرى، إضافة لتفهم وجهات النظر التى يرى بها أصحاب هذه الحضارات مصالحهم . وذلك يتطلب جهداً لتحديد العناصر المشتركة والسمات العامة بين الحضارة الغربية والحضارات الأخرى . ففى المستقبل القريب لن تكون هناك حضارة عالمية واحدة كما يذهب البعض . وإنما سيكون هناك عالم مؤلف من حضارات مختلفة، يتعين على كل منها أن تتعلم كيف تتعايش مع الحضارات الأخرى .

إشارة هنتنجتون واضحة إلى ما تمثله الحضارة الإسلامية المتحالفة مع الصين من تحد للحضارة الغربية . فضلاً عن أنه يضع مأساة البوسنة ومشكلة البلقان عموماً فى إطار المواجهة بين حضارتين أحدهما سلافية أرثوذوكسية، والأخرى إسلامية . ويتنبأ بأن الساحة الثانية لتلك الحرب ستكون فى القوقاز .

فى الوقت ذاته فدعوته واضحة إلى إقامة حشد للحضارات الأخرى لمواجهة الحضارات الإسلامية والكونفوشيوسية .

الأوروبيون مع الأمريكين الشماليين من ناحية، والاثنان مع اليابان وروسيا (الأرثوذوكسية )، ومع أية حضارة أخرى مستعدة لاستيعاب القيم الغربية مثل الهندوسية، وهذا الحشد مطلوب لمواجهة الإسلام والكنفوشيوسية .

أما فى الحوار الذى أجرته مجلة (( تايم )) مع عالم السياسة الأمريكية الكبير، فإنة لفت الأنظار بدرجة أكبر إلى عمق التحدى الحضارى الذى يمثله الإسلام، حيث صفه بأنه أكثر العقائد والديانات (( صرامة )) فى العالم . أضاف إلى ذلك، فإنه مع دعوته إلى ضرورة التعايش بين الحضارات فى المستقبل البعيد، فإنه أكد فى الوقت الراهن على أهمية احتفاظ الغرب بقوته العسكرية، وانتقد الاتجاه إلى الحد من التسلح فى الغرب،

قائلاً : إنه بينما يحدث ذاك، فإن دول العالم الإسلامى تتجه حثيثا إلى زيادة قدرتها العسكرية .

هى مجرد رؤية لتصوير المستقبل من زاوية مختلفة عن الآخرين . لكنها – شأن غيرها – تنطلق من التخويف من الإسلام وتدعو إلى الاصطاف ضد حضارته التى تمتد من بلاد الملايو فى جنوب شرق آسيا إلى العالم العربى، مروراًبالعالمين التركى والفارسى .

ليس لذلك هو أسوأ ما فى الأمر، لأن الأسؤ من وجهة نظرنا يتمثل فى افتقار ذلك العالم الكبير إلى الحد الأدنى من المعرفة بموقف الإسلام من الحضارات الأخرى، غربية كانت أو شرقية . إذ نزعم فى هذا الصدد أن الإسلام كدين هو الأسبق، إن لم يكن الأوحد، الذى قدم إطاراً عقيدياً واضحاً للعلاقة مع ((الآخر )) جديراً بالاحترام – أعنى تحديداً أن النصوص المرجعية فى الإسلام – والقرآن على رأسها – تضمنت منذ أربعة عشر قرناً مبادئ غاية فى الرقى، تؤسس عالما تقوم العلاقات فيه على التعاون على البر والخير بين المختلفين، أيا كان مدى ذلك الاختلاف وطبيعته . من ثم فالعلاقة الصراعية التى انطلق منها هنتنجتون لا يعرفها الفكر الإسلامى السوى .

لا يتسع المجال هنا للتفصيل فى عرض المنهج الإسلامى للتعامل مع الدول والحضارات المغايرة، لكننا نوجز المبادئ التى يقوم عليها ذلك المنهج فى النقاط التالية :

  • اعتبر القرآن أن الناس جميعاً خلقوا من نفس واحدة، أى أن هناك وشيجة أساسية تربط بينهم . تنطلق من كونهم ((أناس))، ينتمون إلى أب وأم واحدة .
  • فى الوقت ذاته اعتبر القرآن أن لكل إنسان كرامته وحرمته، بصرف النظر عن لونه أو جنسه أو ثقافته . وقرر أن الإنسان (( ذو نسب إلهى ))، حيث نفخ الله من روحه، وجعله مخلوقه المختار .
  • نص القرآن على أن الاختلاف بين الناس سنة من سنن الله تعالى فى الكون . وأن الله خلق الناس وأرادهم مختلفين، وجعلهم شعوباً وقبائل لكى يتعارفوا، لا لكى يتعاركوا .
  • وفيما أقر بالاختلاف وقننه، فإنه اعترف بالديانات الأخرى، ولم ينكرها كما فعل الآخرون مع الإسلام، واعتبر أن إيمان المسلم بأنبياء اليهود والنصارى هو جزء من سلامة اعتقاده، وفيما اعتبر هؤلاء وهؤلاء أهل كتاب، فإنه استوعب من عداهم بما فى ذلك الصائبة والمجوس، واعتبرهم أهل ذمة ودعا الجميع إلى عدم التنازع فى الأمور الاعتقادية، محيلاً حسم هذا الأمر إلى الله سبحانه وتعالى فى يوم (( الدين )) .
  • فى كل الأحوال، فإن القرآن نهى المسلمين عن العدوان على غيرهم، وقرر صراحة أن الله لا يحب المعتدين . ثم دعا المجتمع إلى التعاون على البر والتقوى، وليس الإسم أو العدوان . ولنذكر فى هذا الصدد أن النبى صلى الله عليه وسلم أيد (( حلف الفضول )) الذى أقامه مفر من قريش فى الجاهلية، وقال إنه لو أدركه لأيده .
  • إن الآخر فى المفهوم الإسلامى ليس عدوا ولا مناهضاً ولا هو فى مرتبة دونية، كما تردد المنظومات الفكرية المختلفة، من الرومان واليونان إلى حضارة الرجل الأبيض، مروراً بمن أدعوا أنهم شعب الله المختار . والواعون فى العالم الإسلامى الذين يناهضون الغرب ويكنون له البغض لا يخاصمون حضارته، ولكنهم يحاربون القهر والهيمنة والعدوان فى سياسته .

ولكن أكثر الناس فى الغرب لا يعلمون، وبعضهم لا يريدون أن يعلموا !

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر