ليس هذا بحثا في علوم السنة يناقش أمر متون الأحاديث وأسانيدها, وليس هو كذلك بحثا في أصول الفقه يسعى إلى تحديد مكانة السنة ومكانها بين مصادر الأحكام ويناقش قضية الاحتجاج بها أو يرد على المفكرين الساعية لعزل المسلمين عنها؛ إذ ليس لكاتب هذه السطور تخصص في هذين العلمين يسمح له بالفتيا في أمرهما ..
بل إن هذه السطور ليست بحثا في “الإسلام ” كما ينظر إليه علماء الأصول, أصول الدين, وأصول الفقه حين يصفون مبادئ الإسلام العامة في العقيدة والشريعة كما يستخرجونها من النصوص المحكمة والنقول الثابتة المعتمدة في المصدرين الأساسيين من مصادر معرفة الحق وهما كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, إنما تعالج هذه السطور بعض أمور ” المسلمين ” من حاضرهم وتسعى إلى استشراف بعض أمور مستقبلهم, فهي إذن دراسة تتعلق بالحضارة وتتصل بالمجتمع, وهي بعد ذلك تشغل نفسها بواقع هذه الحضارة ومستقبل ذلك المجتمع, أكثر مما تشغل نفسها بماض المسلمين وما كان عليه سلفهم والسابقون منهم في ميادين العلم والعمل … ولأنها متصلة بالسنة النبوية فهي تبدأ من حيث انتهت جهود جمهرة العلماء المتخصصين في علوم السنة وأصول الفقه .. وهي تبدأ بالتسليم بمقدمات ثلاث :
المقدمة الأولى :
أن السنة النبوية – في مجموعها – مصدر رئيسي لمعرفة الأحكام الإسلامية, وإن حجيتها في ذلك ثابتة – قطعا – بنصوص القرآن الكريم من مثل قوله تعالى : { قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول }, وقوله : { وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }, وقوله : { ومن يطع الرسول فقد أطاع الله }, والمجادلة في هذا لم يعد لها موضع, وأصحابها محجوجون بالعقل والنقل معا, فلا تشغل هنا بالرد عليهم .. إذ قد تكفل بهذا علماء متخصصون من السلف والخلف بما لا حاجة لتكرار القول فيه.
المقدمة الثانية :
أن علما من العلوم, وفرعا من فروع المعرفة, في تاريخ الإنسانية كلها, لم يتوفر له من التوثيق والتدقيق في البحث والتثبيت من صحة النصوص مثل ما توفر للسنة الشريفة .. وإنما يتجاهل هذه الحقيقة من لم تتح له – عن قرب – معرفة الجهود التي بذلها علماء الحديث قديما وحديثا .. للتثبت من صحة الرواية عن النبي (ص) وتمحيص أحوال الرواة, منتهيين – مع ذلك التدقيق كله – إلى أن صحة السند شرط لرواية الحديث والاحتجاج به ولكنها ليست شرطاً كافيا؛ إذ لابد أن تتوفر للمتن شروط أخرى إذا تخلفت كان الحديث معيبا في متنه, وانقدح الشك في صحة روايتة – بما روي به من ألفاظ عن النبي (ص) .. ولم يكن الاحتجاج به .. أي أن التثبت من صحة الحديث إنما يتجه بقواعد منهج صارم – نحو السند والمتن جميعا .. فليس صحيحا – إذن – ما يتعلل به البعض من أن انتشار الوضع في الأحاديث, وتأخر كتابة الحديث رغبة في ألا يختلط بالقرآن, تجعل من العسير تحقيق صحة الكثير من الأحاديث .. إن أقصى ما تدل عليه هذه المقدمات – عند المنصفين – أن الحاجة قائمة إلى بذل مزيد من الجهود في التثبت من صحة بعض المرويات .. وهي جهود تتمم الجهود الهائلة التي بذلها الأقدمون .. لكنها لا تكون – أبداً – سبباً للعودة إلى التحلل من السنة, وإلى أدى هذا إلى التحلل إلى الكثير من أحكام القرآن التي جاءت مجملة وترك بيانها للنبي صلى الله عليه وسلم, في إطار منهج القرآن : {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم }.
المقدمة الثالثة :
أن العمل بالسنة يحتاج – بعد التثبت منها – إلى منهج لفهمها وتفسيرها, وتحديد نطاق تطبيقها .. وذلك لسببين :
1- أن أكثر السنة نصوص, والنصوص ألفاظ, ولابد من عمل عقلي واجتهاد فقهي ولغوي لفهم تلك الألفاظ وتحديد معناها المراد .. بكل ما ينطوي عليه التفسير من ” اجتهاد ” .. وإذا كان ذلك ضروريا في نصوص القرآن الكريم, فهو أكثر ضرورة في نصوص الأحاديث النبوية .. إذ إن القرآن الكريم وحي متلو, فهو – لفظا ومعنى – من عند الله..
أما نصوص الأحاديث فهي وحي بالمعنى, بينما يظل اللفظ منسوبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم .. وكثيرا ما يرد الحديث الواحد بألفاظ مختلفة مما يفتح الباب لمزيد من البحث في تفسير الأحاديث …
2- أن التطبيق السليم للسنة يقتضي معرفة المناسبات التي قيلت فيها والإطار الذي دارت فيه, فذلك أمر لا يستغني عنه لتحديد نطاق تطبيقها .. أما إذا عزلت عن مناسباتها فإن إعمالها على ظاهرها يخرج بها – تماما عن المراد منها بحيث لا تكون ثمرة ذلك الإعمال حكما بما أنزل الله ” .. ومعنى هذا أن قضية ” فهم السنة “, قضية جوهرية لا تقل أهمية عن قضية التثبت من صحة المرويات, وكيفية الاحتجاج بالسنة .. والالتفات إلى أن أقوال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأفعاله قد تكون صادرة منه على سبيل التبليغ, أو سبيل الإمامة, أو سبيل القضاء .. إلى غير ذلك مما فصل القول فيه علماء أصول الفقه وكثير من المحدثين.
والقضية الواحدة التي نعرض لها في هذه السطور وبعد التسليم بهذه المقدمات هي .. كيف نستعين بالسنة المطهرة لإحداث نقلة حضارية للمسلمين المعاصرين تخرجهم من حال البيان الطويل والتراجع الحضاري إلى حال جديدة يحركون فيها وينهضون ويستأنفون دورهم العريق في تعمير الكون وهداية الدنيا.
لقد كان ابن قيم الجوزية رحمه الله يصف مهمة المفتين والمجتهدين والقضاة بأنها :
1- معرفة الحق والواقع.
2- وتنزيل أحدهما على الآخر.
ونضيف الآن: أنه لما كان الحق ثابتاً, وكان الواقع متغيرا متحركا متجدداً؛ فإن المهمة الكبرى لمسلمي هذا الزمان وللمجتهدين والمفتين والقضاة فيهم إنما تدور حول معرفة الواقع في حركته, ومتابعته في تطوره كما تدور في النهاية حول تنزيل الحق الثابت على هذا الواقع المتغير.. وما لم يحسن أولئك العلماء معرفة الواقع, والإحاطة الشاملة بإتجاه حركته, وما لم يحكموا فيه متابعة ذلك كله فإن مهمتهم الكبرى في تنزيل الحق على الواقع لابد أن تتعثر, ولابد أن يصيب المسلمين بسبب ذلك التعثر حرج شديد أو عسر كبير, وحيرة لا آخر لها واختلاف تتعدد محاوره وتتشعب مساراته, وما نحسب ذلك كله إلا مفضيا بالناس إلى الواحد من مواقف ثلاثة :
الموقف الأول: الهروب من هذا الجهاد العلمي والحضاري إلى التمسك الحرفي باجتهاد السلف, أو التعلق المطلق بظاهر النصوص و ألفاظها, مع غفلة عن مقاصد تلك النصوص, وإنكار – ضمني – لسنة الله في خلقه التي تجعل بعضهم يدفع بعضا على نحو تتغير معه الأحوال وتتبدل في ظله الحوادث .. إن هذا النوع الخاص من السلفية المرورية لا يفتأ بعض أصحابه يرددون على مسامع المسلمين أن آخر هذا الأمر لا يعالج إلا بما صلح به أوله, وأن الأول لم يترك للآخر شيئا, وأن شر الأمور محدثاتها .. وهذه كلها إما أقوال عن النبي (صلى الله عليه وسلم ) أو أقوال غير مرفوعة إليه .. (صلى الله عليه وسلم ) .. وكلها كلمات حرفت عن مواضعها فأفضت بالناس إلى باطل, وحجبت فَهْمَ خير لا آخر له, وسدت عليهم وعلى الناس كما يقول ابن القيم : ” طرقا كثيرة من طرق معرفة الحق ” ظنا منهم منافاتها للشريعة أو لعل الحق أنها لم تناف الشريعة ولكن نافت ما فهمه هؤلاء من الشريعة “.
الموقف الثاني : موقف الانقلاب من مبادئ الإسلام وتوجيهاته وشرائعه, اعتقادا بأن الاستمساك بها يؤدي إلى الحرج الشديد وتأثرا بقيم ومبادئ وتصورات الحضارة الغازية السائدة في عصرنا والتي ملك أصحابها زمام التوجيه العالمي في ميادين السياسة والحرب والاقتصاد والصناعة مئات من السنين, دانت خلالها مقاليد الأمور في أكثر بلاد المسلمين وهي بعد ذلك الحضارة التي حققت سلسلة من الثورات العلمية والصناعية التي لم يشارك المسلمون فيها بنصيب, والتي استطاعت ثمراتها العلمية أن تطبع حياة الناس خلال القرون الثلاثة الأخيرة بطابع حضاري خاص هو الذي نسميه ” الحضارة الغربية ” . ولا شك أن كثرة من المتعلمين والمثقفين والسياسة في بلاد المسلمين تنتمي إلى تيار هذا التأثر بالحضارة الغربية, ويكاد مفهوم التقدم في عقولهم وقلوبهم يرتبط ارتباطا لا فكاك منه بهذه الحضارة وتصوراتها ومسارها.
الموقف الثالث : موقف الحيرة والتردد, وهو الموقف الذي لابد أن يولده الشك في سلامة المنهج الحرفي الخالص من ناحية والشك في سلامة موقف القبول الكامل للحضارة العربية غير الإسلامية السائدة في أكثر بلدان العالم – من ناحية أخرى.
وهكذا يتوزع أكثر المسلمين بين هذه المواقف الثلاثة وليس بينها موقف بنائي أصيل يؤذن باستئناف النهضة الإسلامية بعيدا عن مزالق العزلة أو الذوبان أو القلق المستمر الذي يفضي إلى التوقف.
والسؤال الذي يطرحه هذا البحث مرة أخرى هو : هل من سبيل إلى توظيف السنة النبوية أي الاستعانة بها, والاعتماد عليه مع القرآن وبعده – لتحقيق نهضة إسلامية جديدة يخرج بها الجيل الجديد من أسر المواقف الثلاثة التي ذكرناها ؟.
إن الحديث عن الاستعانة بالسنة النبوية, أو توظيفها يفترض التسليم بأمرين :
الأمر الأول : أن النصوص ليست غاية في ذاتها, وإنما هي وسائل لتحقيق مقاصد, وأن معرفة هذه المقاصد العامة هي الخطوة البنائية الأولى في كل منهج للإصلاح.
الأمر الثاني : أن تكون لدى الباحث رؤية محددة للوظائف الاجتماعية والثقافية التي يراد للسنة أن تكون طريقا وأداة لتزكيها وتثبيتها, وهذه مهمة إصلاحية ترتبط بالواقع الاجتماعي للمسلمين وتقييم ذلك الواقع وتحقيق صورة التغيير الذي يراد تحقيقه.
ومع ذلك فإن هذا التحديد بدوره – لا يتم في مجتمع إسلامي – إلا في إطار المقاصد العامة للإسلام, وهي مقاصد تحددها نصوص القرآن والسنة .. فكان الإصلاحية تمر بمراحل ثلاث:
أ- تحديد المقاصد العامة والغايات الكبرى للحياة والمجتمعات الإنسانية في ظل الإسلام وهو تحديد تؤدي فيه النصوص القرآنية والنبوية الدور الأساسي.
ب- تحديد الحاجات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القائمة في المجتمع الإسلامي في زمان معين ومكان معين.
ج – الاستعانة بمضامن النصوص القرآنية والنبوية في تحقيق ” التغير ” الاجتماعي المتجهة إلى النهضة والتقدم وهنا لابد من حديث صريح … حول الاتجاهات العديدة المقصورة للاستعانة بالسنة النبوية “.
فلقد أدت السنة في تاريخ المسلمين الطويل وظائف عديدة, ولكن النظر السائد كان يتم – عادة – من الزوايا الآتية :
1- اعتبارها مقابلا للبدعة, أي أن الأحاديث النبوية وأفعال النبي (صلى الله عليه وسلم ) قد استخدمت أداة لمعرفة ” الصراط المستقيم ” والهدي الصحيح الذي كان عليه النبي (صلى الله عليه وسلم ) والذي يلتزم المسلمون بمتابعته, وذلك اجتناباً “للبدع” التي أضافت للدين ما ليس منه, وجنحت بالمسلمين إلى غير سبيل المؤمنين, وفي هذا السياق يذكر قول الله تعالى : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ماتولى } [ النساء : 115 ]. وقد أدت السنة في هذا الميدان دورا هاما في تصحيح الاعتقاد السائد والمحافظة عليه بعيدا عن الشوائب التي أحرزتها تيارات فكرية وسياسية عديدة في التاريخ الإسلامي .. وكانت – بهذا الدور – حافظة للتيار الإسلامي للفكر والاعتقاد في مواجهة تيارات جانبية متأثرة – في الغالب – برؤى فلسفية مستمدة من ثقافات وحضارات غير إسلامية … ولهذا وصف التيار الأعظم للفكر والاعتقاد في الإسلام بأنه مذهب ” أهل السنة والجماعة, إشارة إلى أن المخالفين خارجون عن هذا التيار الأعظم, ومفارقون بذلك للجماعة. كذلك أدت السنة في هذا الميدان دورا هاما في تصحيح السلطة المبني على العقيدة بالوقوف في محاولات ” الإضافة ” أو التبديل في أمور العبادات والعقائد, وهي أمور توقيفية تفيض بالالتزام الدقيق بالشكل والمضمون عند الأداء, وبذلك حافظت السنة على العقائد التعبدية في نقاوتها الأولى, وحمتها من تأثيرات الملل والنحل الغريبة عن الإسلام.
2- اعتبارها مقابلا للرأي ” الذي قد يفضي – بدوره – إلى تحكم الأهواء في الشريعة, وإذا كان علماء المسلمين من عهد الصحابة إلى يومنا هذا لا يخالفوه في ضرورة الالتزام بالسنة, واعتبار طاعتها هي طاعة النبي ( صلى الله عليه وسلم ), وهي – لذلك – طاعة لله سبحانه, كما لا يخالفون في وجود دور الاجتهاد العقلي, وذلك على الأقل في تفسير النصوص القرآنية والنبوية فإن تاريخ الفكر والفقه الإسلامي يسجل مع ذلك وجود مدرستين أطلق على أولاهما مدرسة الحديث وأطلق على الأخرى ” مدرسة الرأي ” , وأن المدرسة الأولى قد نشأت واستقرت في المدينة, وأن إمامها الأول والاكيد هو الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه, وأن المدرسة الأخرى قد نشأت ونمت في الكوفة على يد الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه, وحملها من بعده تلاميذه أبو يوسف ومحمد بن الحسن وزفر وغيرهم … ولا نحتاج هنا إلى تقرير ما يعرفه جهود علماء المسلمين من أصحاب المدرستين جميعا كانوا متبعين للسنة النبوية صادرين في ذلك عن ورع شديد, وعلم راسخ, بيد أن فهم من أفسح دورا في استخلاص الأحكام السديدة للقياس والاستحسان والأخذ بالمصلحة ( ويلفت النظر أن أول من قال بالمصلحة المرسلة هو مالك بن أنس إمام مدرسة الحديث ).
والوظيفتان – كلتاهما – تدوران حول “المحافظة ” على الإسلام وتثبيت الحكم بما أنزل الله, وبعذاب نهضة المحافظة عن خوف من تحكم الأهواء في الشريعة وقد أريد لها أن تكون حاكمة لا محكومة, كما تصدران عن حرص شديد على بقاء الإسلام في تشريعه وحضارته كلها نقيا خالصا متميزا, لا تشوبه شوائب من حضارات وثقافات غير إسلامية.
وكان ذلك طبيعيا ومفهوما في زمن نشأة الفرق والمذاهب والنحل, والحاجة الماسة إلى تثبيت الرؤية الإسلامية الصحيحة للعقائد الإسلامية, والسلوك الإسلامي, ورد محاولات تشويه العقيدة وتزييف الفكر وإفساد السلوك.
3- على أن هذه المحافظة – على ضرورتها وأهميتها وشرعيتها ليست الاعتبار الوحيد الذي ينبغي أن يشغلنا في هذا الزمان .. وإنما هنالك اعتبار آخر مقابل حال إهمال المسلمين له, عامتهم وخاصتهم وأهل الحديث وأصحاب الرأي فيهم وهو اعتبار “الحركة والنمو ” وملاقاته حاجات الناس المتطورة والمتغيرة مع تغير الزمان والمكان..
إن الأحاديث النبوية المدونة في كتب السنة تعد بالآلاف, وقد قيلت في مناسبات مختلفة, وأوقات مختلفة.. وتعرف في غير مكابرة – أن في وسع أصحاب المذاهب السياسية والاجتماعية أن يروجوا لمذاهبهم ومواقفهم في القضايا الكلية والجزئية عن طريق ” الانتقاء.. من الأحاديث انتقاء لا يمكن أن يكون موضوعيا خالصا .. وإنما يقدر أصحابه أولا ثم يجمعون لها الأحاديث بعد ذلك … { وكان الإنسان أكثر شئ جدلا } [ الكهف : 54 ].
وإذا كان كتاب الله حمّال أوجه, فإن آلاف الأحاديث النبوية حمالة لعشرات من الأوجه, والقول بأن الشريعة حاكمة لا محكومة, كثيرا ما يكون تزييفا لحقيقة أخرى هي أن الشريعة – في واقع الأمر – هي ما يختاره أصحاب المواقف والآراء ثم يسترونه بستار من النصوص يحتمون وراءها وهم يرفعون شعارات الشريعة “حاكمة لا محكومة” . إن المواقف النفسية لبعض المجتهدين والدعاة تقف – في غير خفاء – وراء اجتهاداتهم أو اختياراتهم للنصوص و للأحاديث النبوية بوجه خاص .. ولذلك ترى النصوص التي يختارونها تسير كلها في اتجاه واحد .. ولو كان الأمر أمر تمحيص وتثبيت وترجيح بين الأدلة لانتهى بهم الأمر إلى هذا الجانب مرة وإلى ذلك الجانب مرة أخرى .. ولكن المنغلق منهم ” وصاحب العقل الضيق والصدر الحرج, يصل من بحثه دائما إلى نتائج تلبي تلك الحاجة النفسية .. فهو على سبيل المثال – يرى أن الحكم الفردي سائغ, وأن الشورى معلمة لا ملزمة, وأن المرأة عورة لا تخرج من بيتها إلا إلى قبرها, وأن وجهها وكفيها ينبغي أن يسترا, وأن اشتغالها بالعلم والوظائف غير جائز, وأن الغناء والموسيقى على إطلاقهما حرام لا شك في حرمته .. أفيمكن أن يكون هذا كله ثمرة تمحيص موضوعي للأدلة وترجيح بينهما ..
إن من هؤلاء من يدافع عن موقفه مستندا إلى بعض أحاديث الآحاد فيقبل حديثا تكلم العلماء فيه.. ولو تأملته لوجدته يرد حديثا أقوى منه وأجدر بالقبول .. وإن كان يسوغ لذوي النفوس الحرجة أن يختاروا على هذا النحو .. أفلا يسوغ لجمهرة العلماء وللمجامع العلمية والفقهية المتخصصة التي يستحيل تواطؤها على العوج والمرض أن تستعين بالسنة النبوية لتوجيه حياة المسلمين وجهة تتفق مع المقاصد العامة للإسلام, وتحقق المنافع والمصالح المحققة للمسلمين؟.
إن مسألة اختيار الوظيفة أو الوظائف التي يراد الاستعانة بالسنة النبوية لتحقيقها ليست أمر اختيار فردي صادر عن رؤية ذاتية منعزلة عن أوضاع الناس وحاجاتهم .. وإنما لابد أن يتم ذلك الاختيار بعد استقراء علمي دقيق ومنضبط لأوضاع المسلمين وأحوالهم وحاجاتهم, ولأوضاع الدنيا من حولهم, وتلك هي “معرفة الواقع” التي أشرنا إليها في وضعنا للاجتهاد الذي يمارسه المفتي والفقيه والقاضي والمشرع.
لقد عاش المسلمون قرون طويلة يتحرج كثير منهم من ” فرز ” السوابق وتفسير الأحاديث النبوية في إطار الزمان والمكان .. ووقع أكثرهم لذلك في أسر الزمان والمكان جميعا كأنما الإسلام لا يستجيب إلا لظروف القرن الأول للهجرة وكأنه لا يستجيب إلا لأوضاع البيئة البدوية الصحراوية التي بعث فيها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .. وتزعم هنا أنه وقعت بسبب ذلك أخطاء عديدة, وأن الاجتهاد الفقهي والثقافي قد اتخذ مسارات محددة لم يتجاوزها, وأنه قد آن الآوان لتحرير الفقه الإسلامي والثقافة الإسلامية من قيود الزمان والمكان حتى يعد الإسلام – حقيقة لا ادعاء – صالحا لكل زمان ومكان ..
نعم .. إن مثل هذه المحاولة محفوفة بالمخاطر والمزالق .. وهي – لذلك – يجب أن تحاط بالضوابط والضمانات ولكن السعي فيها هو – فيما نرى – جهاد أفضل .. والتخلي عنها إيتاء للسلامة ونجاة للمفتي ولو هلك المستفتي .. وهو ما لا ينبغي أن يرضى به حملة الأمانة من العلماء .. إن المدخل لفهم هذا كله أن نتذكر حقيقتين كبيرتين :
الأولى : أن الإسلام خطاب, يوجه الحق سبحانه إلى خلق من خلقه, ذوى عقول وأفئدة.
الأخرى : أن المسلمين ناس من الناس تجري عليهم سنن الله ونواميسه, وظواهر حياتهم تظل – مع إسلامهم – ظواهر اجتماعية وإنسانية وليست ظواهر مقدسة أو دينية.
1 – إن الإسلام – شأنه شأن سائر الأديان – يظل رغم مصدره الإلهي دعوة ونداء وخطاب موجهة إلى طائفة صاحبة عقل وإرادة. وهي دعوة تحترم حرية المخاطبين بها, ولكنها تحملهم – في النهاية – مسئولية الاختيار المترتبة على استعمال هذا العقل وتلك الإرادة. ومهما بلغت كفاءة نظام الحوافز الذي يستخدمه الإسلام لحث الناس على الإيمان ترغيبا وترهيبا وإقناعا عن طريق المجادلة بالتي هي أحسن فإنه يظل ” دعوة ” , ولا يتحول أبدا إلى نظام مفروض بإرادة الله غالبة. { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا } [ يونس : 99 ].
يكشف عن هذه الطبقة في وضوح لا مزيد عليه قول الله تعالى : { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا } وقوله : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ..} إن معنى ما تقدم جميعه أن مكونات هبوط مستوى الأداء الحضاري الذي يعيشه أكثر العرب والمسلمين لا يجوز ردها مطلقا إلى خصائص الإسلام وعقيدته وحضارته إذ هي – في أكثر تلك الحالات – نقائض صريحة للمكونات الأساسية لتلك الحضارة, كما تستخلص استخلاصا سائغا من مجموع نصوص القرآن والسنة .. وهو ما يفتح الباب لما نسميه ” توظيف السنة في تحقيق النهضة الإسلامية “.
لقد وصل العرب والمسلمون في منحنى التطور الحضاري إلى نقطة هبط فيها مستوى الأداء الفردي والجماعي هبوطا لا نجد مبررا للمكابرة فيه, كما لا نجد داعيا لا لتماس الأعذار في شأنه, فالقضية الآن ليست قضية تحديد مسؤولية, وإنما هي قضية سعي للتغيير ومحاولة للعثور على مخرج. وإذا كان الهدف المحدد لهذه الدراسة هو الدعوة لتوظيف السنة النبوية لتغيير الواقع الاجتماعي للمسلمين, فإن الترتيب الطبيعي للأمور تقتضينا أن نستعرض – في إيجاز – مكونات ما سميناه الهبوط في مستوى الأداء الحضاري حتى يتجه المشروع المقدم إلى التخلص من تلك المكونات وإحلال نقائضها محلها. وأهم هذه المكونات فيما نرى:
1- شيوع النظرة الغيبية على حساب النظر العقلي .. وهو شيوع تمثل – عمليا – في انحسار المنهج النقدي, وفي إحاطة المزيد من الأفكار والأشخاص والتجارب والسوابق بهالة من القداسة ترتفع بها فوق النقد وتعتبر حقائق ومسلمات مطلقة .. كما تمثل هذا الشيوع – عمليا – فوق ذلك بانتشار الفكر الخرافي بصفة عامة ..
والحديث لا يتعلق بسيادة النظرة الغيبية في مسائل العقيدة وأساسيات الفكر الديني في مسائل العبادة .. ولا غرابة في مثل هذه السيادة .. إذ يظل الإيمان الديني – دائما – مرتبطا بمبدأ “التصديق ” بالنبي أو الرسول فإذا تم هذا التصديق تبعه – منطقيا – التسليم بمضمون الرسالة الدينية وبمحتوى الخطاب الإلهي الوارد في ” الكتاب المقدس ” الموحي به .. كذلك يظل الإيمان بالخالق المطلق, وبيوم القيامة والحساب مكونا أساسيا من طبيعة غيبية .. وفي تقديرنا أن هذا ” الإيمان بالغيب ” له وظيفة إيجابية هائلة التأثير على حياة الأفراد والجماعات .. فهو مصدر لا ينضب للأمل المستمر في المستقبل .. وللرضا بالواقع الذي لا يمكن تغييره, وهذا الشرط الأخير بالغ الأهمية وجدير بالمحافظة عليه؛ لأنه وحده الذي يضع الخط الدقيق بين التحمل الإيجابي للصدمات التي لا يمكن ردها .. وبين الرضا بالأمر الواقع الذي ينبغي أن تنهض الهمم وأن توجه الجهود لتغييره وإزالته والتأثير فيه ..
إنما الذي نسجله هنا كظاهرة سلبية تستحق ان توظف قيم الإسلام لتغييرها فهو استخدام المنهج الغيبي في التعامل مع الظواهر الطبيعية والاجتماعية المعقولة المحكومة بالسنن والقوانين, والتي للعقل سبيل إلى فهم محركاتها واتجاهات حركتها, وله – بالتالي – مدخل إلى التأثير في البيئة الطبيعية والاجتماعية وفي أوضاع الناس وعلاقاتهم ونظمهم. لقد ساهمت سيادة النظرة الغيبية في تثبيت العديد من الأوضاع الفاسدة, وفي تعليل التوجه نحو التغيير استنادا إلى نظرة عقلية نقدية للأوضاع السائدة.. كما أن هذه النظرة ثبتت في الفكر الإسلامي ثنائية فاسدة تصور النصوص بأنها نقيض ما تصل إليه العقول .. وتصور “العلم” – نفسيا على الأقل – بأنه نقيض ” الوحي ” .. ولم تفلح في القضاء على هذه الثنائية الفاسدة جهود الفلاسفة والعلماء في إثبات استحالة التعارض بين ” صريح المعقول ” و ” صحيح المنقول ” , أو بين الحكمة والشريعة كما يقولون … وغنى عن الذكر – بعد ذلك – أن النظرة الغيبية تعزز عديدا من الآثار السلبية المعوقة لحركة المجتمعات العربية والإسلامية على طريق الإصلاح والتنمية .. لأنها تباعد بين ” الإنسان العربي ” وبين الاعتياد على التعامل مع ” القوانين العلمية ” الضابطة لحركة الحياة, في جانبها الطبيعي وجانبها الاجتماعي على السواء.
2- الانكفاء على الماضي, والتردد في التعامل مع المستقبل .. وقد تكون هذه سمة المجتمعات المحافظة بصفة عامة .. ولكن استمرارها في العالمين العربي والإسلامي يحتاج إلى تأمل طويل .. وحين يكون هذا الانكفاء موقفا يتبناه المتحدثون باسم الحضارة الإسلامية ويدافع عنه المطالبون بالمحافظة على ” الهُوِيَّة الحضارية للمجتمعات العربية” فإن خطورته العملية تزداد .. لأن ” التقدم ” في جوهره خطو إلى الأمام ولأن التطور في أساسه تعامل مع الواقع المتجدد بأساليب متجددة .. فإذا سادت روح المحافظة والالتزام المطلق ” بالقديم ” تحت شعارات ” الأصالة ” والمحافظة على “الذات ” كان شد الجماهير إلى تيار ” التغيير ” في جوانبه المتخلفة أمرا بالغ العسر .. ثم إن الجهاز العصبي والنفسي للجماهير التي اعتادت الجمود على الموجود .. والثبات الطويل على أساليب الحياة القديمة .. لابد أن تصيبه أنواع من الصدمات المدمرة إذا تعرض لموجات تغيير متسارعة الخطى, تجاوز هامش القدرة على استيعاب التغيرات والاستجابة الصحية السوية لمقتضياتها …
3- وغياب ” النموذج الحضاري ” الواضح المعالم القادر على إفراز مشروع ذاتي للتنمية الشاملة:
وهذا – بدوره – ثمرة من ثمرات ” البيات الحضاري ” الطويل الذي عاشته الأمة العربية والإسلامية في أعقاب الصدمات التي ولدها التعامل مع الغرب .. فحين أذنت مرحلة ” البيات ” بالانتهاء .. بحثت المجتمعات العربية عن نموذج حضاري تنضوي تحته .. فلم يكن أمامها – بشكل عملي – سوى نموذجين .. نموذج جاهز قائم في الماضي .. ونموذج حاضر قائم خارج العالم العربي والإسلامي .. فانقسمت المجتمعات العربية كما انقسمت الثقافة العربية إلى رافدين وإلى حزبين كبيرين .. أولهما يدعو للعزلة الحضارية, إما التزاما بالنموذج التاريخي الجاهز, وإما انتظارا لميلاد نموذج إسلامي جدي توفر له شروط الميلاد الذي يتم في رحم نقي مطهر من الأوشاب والأخلاط .. أما الحزب الآخر فقد ألقى نفسه في طوفان النموذج الحضاري المسيطر سياسيا واقتصاديا وعسكريا وهو النموذج الغربي … فنشأت بذلك حالة من التبعية الحضارية الشاملة, استوعبت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية للعالم العربي. فاقتصاديات أكثر الدول العربية مشدودة – بوجه أو آخر – للاقتصاد الرأسمالي العالمي, ممثلا بصفة خاصة في الاقتصاد الأمريكي والأوروبي, وأنماط الحياة الاجتماعية والثقافية أنماط تحددها موجات ” الإرسال ” الغربي القادمة عبر الأقمار الصناعية وأجهزة البث, وسيل المطبوعات القادمة من الغرب .. والتوجيهات السياسية – في نهاية المطاف – محكومة بالدور الاحتكاري الذي تلعبه الدول الكبرى في توجيه سياسة الدول الصغرى .. ويحمل هذا ” الانجذاب ” الحضاري نحو مراكز التأثير الكبرى عوامل ” ديمومته ” من خلال تفاعل عناصره وما بينها من تأثير متبادل.. فالتبعية السياسية تجر إلى التبعية الاقتصادية, والعكس صحيح أيضا .. والتبعية الاقتصادية والسياسية تجران إلى التبعية الثقافية والاجتماعية, والعكس صحيح أيضا.
إن محصلة ذلك كله – في كلمات قليلة – هي غياب أي مشروع حضاري وتنموي مستقل, بشد خيوط المجتمع إلى هدف مركزي, وبشد أفراده إلى مهمات قومية وحضارية محددة .. وفي غيبة مثل هذا المشروع يقع التشرذم والضياع, وتنتشر الهجرة النفسية والمادية من الوطن .. وهو ما يؤدي – من خلال معادلة جدلية يتبادل طرفاها التأثير – إلى تثبيت حالة التبعية وتأخير فرص قيام المشروع التنموي والحضاري المستقبل ..
4- غياب الحرية بأبعادها المختلفة .. ونقص المشاركة الفردية .. إن المجتمع الخائف حضاريا لا يمكن أن يشجع الحرية, بصورها المختلفة .. لأنها تبدو – في ظل الخوف – خطرا يهدد أسوار الحماية والعزلة كما يهدد الوَحدة المفروضة وراء تلك الأسوار .. ويفتح أبوابا لانقسامات وهزات لا يريدها ” حراس ” تلك العزلة .. وغياب الحرية في العالمين الإسلامي والعربي, ظاهرة عامة, لأن أسبابها حضارية عامة .. وإن كان من الضروري التسليم بوجود تفاوتات كبيرة بين أوضاع الحرية السياسية والاجتماعية المتاحة في البلدان المختلفة :
أ- إن غياب الحرية يتمثل أساسا في قيام نظم سياسية فردية أو قهرية تغيب معها – بوجه أو بآخر – فرص الأفراد في المشاركة الحقيقية في اتخاذ القرارات المؤثرة في مصيرهم, كما تغيب معها – في أحيان كثيرة – الحدود الدنيا لضمانات الحرية الشخصية والسياسية ..
ب- ويتمثل هذا الغياب كذلك في سيادة نظام اجتماعي قائم على ” الكبت ” و ” القهر ” , ويلتزم الأفراد بالتوافق conformityمع كل تقليد سائد بغض النظر عن شرعيته.. ويعتبر فيه ” الرأي المخالف والموقف المخالف ” شرا تنبغي محاصرته.. كما يتمثل في على الدور الاجتماعي والحياتي للمرأة .. بحيث تظل قضيتها الرئيسية هي قضية التحرر من سيطرة الرجل .. وتظل القضية الرئيسية عند الرجل هي قضية المحافظة على ” الحجر ” الذي يمارسه عليها .. وإن كان من الإنصاف والضرورية هنا أن ننبه إلى وجود تفاوتات كبيرة بين البلدان العربية المختلفة في هذا الميدان .. وأن ننبه – فوق ذلك – إلى أن الحرص المتنامي في البلدان العربية المختلفة على تصحيح وضع المرأة في المجتمع يوازيه إحساس عام بأن بعض الصور النقيضة التي وصل إليها النموذج الحضاري الغربي ليست بالضرورة بديلا صالحا .. وأن الأمر في هذا المجال يتصل اتصالا وثيقا بنوعية العلاقات الإنسانية .. وهي علاقات لابد أن يكون ” للرؤية الحضارية الذاتية ” وللقيم الخاصة بهذه الحضارة موقف محدد ومتميز في شأنها.
5- انتشار التجزئة السياسية وتصاعد موجات الخلاف والتباعد رغم ما يمتلئ به تاريخ الفكر العربي الحديث من دراسات وشعارات كثيرة حول الوَحدة العربية القومية والوَحدة الإسلامية .. فإن محاولات الترجمة العملية لهذه الأحاديث والشعارات لم تكلل بالنجاح المطلوب بين الأنظمة العربية المتنافسة. وصار جانب كبير من الجهد العربي والإسلامي الفعال موجهاً إلى الداخل, مستغرقاً في خلافات بين الأنظمة .. حتى كفر كثير من الغرب والمسلمين بالوحدة وتضاءل أملهم في تحقيقها في المستقبل القريب. بأي صورة فعالة من صورها.
والأزمة الحقيقية التي تترتب على انتشار التجزئة, وغياب التنسيق والتعاون, تتمثل في أن مشروع التنمية الوحيد الذي يمكن تحقيقه عمليا في ضوء الإمكانات المتاحة إنما هو المشروع الفعال الكبير .. أما أن تتوجه الأنظمة إلى تنفيذ مشروعات قطرية للأنظمة في ظل التجزئة السياسية القائمة, فإن ذلك حرث في البحر لا ترجى معه تنمية حقيقية .. لذلك فإن تصفية المحركات الطفيلية التي تغذي تيار التجزئة والتشرذم العربي تعد إحدى المهمات الرئيسية لمشروع توظيف القيم والمبادئ الإسلامية لإحداث تغييرات أساسية في الواقع السياسي والاجتماعي العربي.
6- انتشار ” اللفظية “, وغياب التوجه نحو ” الفعل ” .. وهذه ظاهرة فريدة واسعة الانتشار في العالمين العربي و الإسلامي. ومع ذلك لا يمكن في تقديرنا ردها إلى طبيعة اللغة العربية أو إلى أي قيمة أو مكون من قيم الإسلام ومكوناته .. وإنما ساهمت في خلقها ظروف سياسية واجتماعية تتصل بنشأة حركات التحرر العربي والإسلامي وتكون فئة النخبة المثقفة التي لعبت دورا أساسيا في مسار تلك الحركات, كما ساهمت في خلقها ظروف نشأة الحركات السياسية, وظروف نشأة ونمو الأجهزة الإدارية في البلاد العربية والإسلامية .. ولابد أن نضيف إلى ذلك كله عوامل أخرى مثل نظام التعليم .. والعوامل المتولدة من طبيعة ” التخلف ” ذاته .. والذي يعنينا هنا هو تسجيل الظاهرة لا تعليلها .. وجوهر هذه الظاهرة أن المبالغة اللفظية صارت سمة ثقافية سائدة .. وأن الفعل الإيجابي صار أسلوبا غائبا, وأن ” قيمة العدل ” قد هبطت هبوطا شديدا في المجتمعات العربية والإسلامية .. وترتب على ذلك أن نمو القوة البشرية في أكثر الدول العربية والإسلامية لم يؤد إلى إنتاج حقيقي .. وأن حجم الفاقد والضائع في عملية الإنتاج وفي إدارة المجتمع بمظاهرها المختلفة صار مهددا لكل مشروع ولكل خطة أو برنامج للتنمية .. كما أن وفرة الموارد المالية في بعض الدول الإسلامية لم تحدث أثرها المنتظر, لأن ” العمل الإنساني ” وهو المحرك والمولد للإنتاج بصوره المختلفة, لم يتوفر بشكل كاف سواء من الناحية الكمية أي ناحية الجهد المبذول أو من الناحية الكيفية, أي مستوى الأداء في بذل ذلك الجهد .. وإذا كان صحيحا – وهو في تقديرنا صحيح – أن هذا كله ثمرة أوضاع سياسية واجتماعية معقدة فإنه يظل صحيحا كذلك أن غياب ” التقييم الصحيح ” للعمل, قد ساهم مساهمة سلبية بالغة الخطورة في تشكيل العديد من أنظمة المجتمع .. خصوصا في تحديد توجهات نظام التعليم ونظام التوظيف والعمالة ..
4- النظرة الوظيفية للإسلام .. إن محاولة استخدام السنة النبوية, المطهرة, والقيم والمضامين التي اشتملت عليها في تحقيق تغيرات أساسية في النظام الاجتماعي والسياسي عن طريق توجيه تلك القيم للقرارات السياسية والاجتماعية لا يمكن أن يتحقق بشكل فعال إلا إذا توافر شرط أساسي هو أن يتم النظر للإسلام في إطار ” رؤية وظيفية ومجتمعية ” أي باعتباره مجموعة مبادئ معيارية تهدف إلى تحقيق ورعاية عدد من المصالح الأساسية للناس. وذلك بالاضافة إلى الاعتبارات الدينية والمثالية التي تجعل من ” الالتزام الديني ” ” فضيلة أخلاقية ” , ” وعبادة دينية ” بالمعنى الخاص للعبادة في الإسلام وفي سائر الأديان .. وإذا كان كثير من المفكرين والدعاة “المحافظين ” ينظرون لمبادئ الإسلام وتعاليمه من خلال منظور ” نصي خالص “, ويركزون خلاله على معاني ” الطاعة ” والعبادة التي تقتضي انخراطا آليا في حكم النصوص بغض النظر تماما عن المصلحة الفردية والجماعية التي يحققها تطبيق هذه النصوص في ظروف معينة, فلابد أن يكون واضحا أننا نتبنى هنا نظرة وظيفية لمبادئ الإسلام وقيمه .. ونرى في هذا التبني موقفا إسلاميا صحيحا, وموقفا إصلاحياً سليما من ناحية أخرى ..
فالإسلام – والأديان كلها – وسائل لغايات .. هي هداية الناس وجوهر الهداية هو توجيه حركة الحياة الفردية والجماعية نحو قيم معينة من شأنها تحقيق مصالح فردية أو اجتماعية بالمعنى الواسع لكلمة ” المصالح ” أساس هذا النظر أن ” الخالق ” كما يقول القرآن الكريم ” غنى عن العالمين ” وأن الناس هم ” الفقراء إلى الله ” .. ونتيجته أن مبادئ الإسلام وتوجيهاته تجعل في ثناياها ” تأويجا ” أو ” تعظيما ” للمنفعة الإنسانية وهو ما يصفه القرآن الكريم بقوله تعالى : {وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض } [ الرعد : 17 ] – وما عبر عنه فقيه مشهور هو أبو إسحاق الشاطبي الأندلسي بقوله إن ” تكاليف الشريعة ترجع إلى تحقيق مقاصدها في الخلق” – ثم ما فصله فقهاء المذاهب جميعها من أن أحكام الشريعة ترجع إلى حفظ النفس والعرض والدين والعقل والمال “.
وترتب على هذه النظرة الوظيفية مجموعة من النتائج يضيق المقام عن تفصيلها.
– في مقدمتها : النظر في تعليل الأحكام الشرعية ومحاولة فهم مقاصدها.
– ومنها : اعتبار المصلحة أساسا ومصدرا من مصادر التشريع الإسلامي.
– ومنها : الحرص على التمييز في أفعال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بين ما هو تشريع عام يطبق في جميع الأزمنة .. وبين ما روعي فيه خصوص زمان معين أو مكان معين على تفصيل في ذلك تكفل به العلماء والمحققون قديما وحديثا.
– ومنها .. الاهتمام بالسياسة الشرعية أي استحداث أحكام جديدة لمجرد أنها تحقق مصلحة للناس .. ولو لم يرد بها نص ..
– ومنها فهم منهج الشريعة الإسلامية في تنظيم أمور المجتمع بإيراد نصوص جزئية مفصلة في الأمور التي لا تتصل بأوضاع اجتماعية متغيرة .. والاكتفاء بإيراد مبادئ عامة أو قيم موجهة في الأمور التي ينالها التطور والتغير مع تغير أوضاع المجتمع .. وهو ما عبر عنه الإمام محمد عبده بأنه : ” إجمال ما يتغير وتفصيل ما لا يتغير “.
إن من شأن هذه النظرة الوظيفية التي تركز على فكرة ” المنفعة ” وعلى ” المصالح ” ألا تقوم تصورات للإسلام تسقط أو تغفل جانبا من جوانب العلاقات الاجتماعية والاقتصادية اعتقادا بعدم أهميته, كما رأينا في بعض التفسيرات والشروح التي تغفل قضية ” العدل الاجتماعي ” أو قضية ” الحرية السياسية ” , أو قضية تنظيم علاقة المسلمين بغير المسلمين.
ونعرف جميعا مدى حرارة الجدل الذي ثار ولا يزال ثائرا حول العلاقة بين العروبة والإسلام.. ومع ذلك ففي تقديرنا أن المجال الحقيقي للتفاوت بين العروبة والإسلام هو مجال وحيد متعلق بأساس التحرك السياسي نحو التوحد .. وما إذا كانت الحدود الجغرافية والبشرية لهذا التوحد ينبغي أن تكون حدودا عربية أو حدودا إسلامية .. فالمقابلة هنا إذن هي بين ” الجامعة السياسية العربية ” و ” الجامعة السياسية الإسلامية ” . Pan Islamism, pan – Arabism
أما على المستوى الحضاري فإن العرب لم يبدأ إسهامهم الغزير في نمو الحضارة الإنسانية إلا بمجئ الإسلام .. كما أن انتشار هذه الحضارة وامتدادها خارج الجزيرة العربية قد تم باسم الإسلام وعلى أسس فكرية وخلقية مستمدة من قيمه ومبادئه .. وكل حديث يجري هذه الأيام عن الخصائص الذاتية للحضارة العربية هو في حقيقته حديث عن خصائص شاركت في صنع الجزء الأكبر منها تلك القيم والمبادئ .. إننا لا نغفل هنا أثر الواقع القومي, والانتماء القومي في توجيه المسيرة الحضارية للأمة العربية وجهة قد لا تكون مطابقة لوجهتها في سائر البلاد الإسلامية غير العربية .. ولا غرابة في هذا فإن لمظاهر الوَحدة القومية وعلى رأسها دورا لا ينكر في توجيه تلك المسيرة .. كما أن الامتداد الجغرافي الهائل للعالم الإسلامي يحول – عمليا – دون تحقيق التماثل الثقافي الكامل بين أجزائه المختلفة, ولابد حينئذ أن يلعب الانتماء القومي دورا في تعدد النماذج والأشكال الثقافية في إطار الوَحدة الإسلامية التي تصنعها قيم ومبادئ عامة مشتركة … ولا اعتقد أن انصار الوَحدة السياسية العربية على أساس قومي يجادلون في أن الحضارة الإسلامية أي المرتبطة بقيم الإسلام ومبادئه ونظرته الأساسية للإنسان وعلاقاته, قد شكلت تاريخيا وموضوعيا المحتوى الأساسي لما نسميه اليوم ” الحضارة العربية “. وهذه الحقيقة هي التي تحل من وجهة نظر ثقافية إشكالية العلاقة بين العروبة والإسلام .. وهو حل من شأنه أن يضع نهاية للجدل الطويل بين القوميين والإسلاميين , كما أنه من شأنه أن يحدد على نحو واضح مكان العرب غير المسلمين ومكان المسلمين غير العرب داخل الحياة الثقافية في العالم العربي .. فالعربي المسيحي مشارك بالتاريخ والثقافة في الحضارة العربية, وانتماؤه القومي لا شك فيه ولا انتقاص منه .. كما أن المسلم غير العربي مشارك في الثقافة العربية الإسلامية بحكم محتواها القيمي النابع من الإسلام .. وفي إطار هذه الرؤيا استطعنا في هذه الدراسة أن نتحدث عن الحضارة العربية والحضارة الإسلامية كمترادفين, وذلك كأصل عام .. وهذا كله على المستوى الفكري والثقافي. أما على المستوى الحركي والتنظيمي فإن الواقع الجيوفيزيقي والسياسي قد يفرض العمل على أساس وجود أكثر من مشروع حضاري وتنموي منتمي لذات الأصول الثقافية .. متجه بأصحابه إلى وجهة إنسانية وحضارية واحدة ..
معالم التغيير الثقافي المقترح والقائم على توظيف القيم الإسلامية :
إن الخروج من حالة البيات الحضاري, وما أفرزته من ميل إلى العزلة أو قابلية للفناء الحضاري في حضارات أخرى. وما تولد عنها من إحساس فردي سائد بالضياع والتشرذم, هذا الخروج لا يمكن أن يتم على نحو فعال إلا بقيام المشروع الحضاري الذي يشد الأفراد إلى محور حركة بتنظيم طاقتهم ويستقطبها نحو غايات منسقة وواضحة.
وانطلاقا من تحديدنا لمظاهر الأداء الحضاري للعرب والمسلمين المعاصرين, ومن تصورنا لشروط قيام أي مشروع حضاري تنموي .. فإننا نقدم التصور التالي لمكونات التغيير الثقافي الذي يمكن أن توظف لتحقيق ” قيم الحضارة العربية الإسلامية “, والذي لابد أن يترتب عليه تغيير جذري في القرارات السياسية والاجتماعية التي يصنع مجموعها صورة الحياة السياسية والاجتماعية التي يصنع مجموعها صورة الحياة السياسية والاجتماعية للمجتمعات العربية:
1- التوجه نحو مشروع تنموي وحضاري, شامل, ومتميز:
لا نحتاج من جديد في مثل هذا الإطار الفكري إلى أن نؤكد استحالة تحقيق تنمية حقيقته في قطاع منعزل من قطاعات الحياة الجماعية لشعب من الشعوب .. فالتنمية لا يمكن أن تتحقق في القطاع الاقتصادي وحده, منفصلة عن الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية لذلك الشعب .. ونستطيع دون أن ندخل في دوامة الخلاف حول ما إذا كانت الثقافة بناء تحتيا يعزز سائر الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية, أم هي بناء فوقي تفرزه الحقائق والظروف الاجتماعية والسياسية .. نستطيع أن ننطلق من التسليم بوجود علاقة ارتباط وتأثير متبادل بين هذه الأبنية المختلفة بحيث يتعذر معها تحقيق تنمية حقيقية في واحد منها استقلالا عن سائرها.. والإسلام أساس صالح تماما للاستجابة لهذا الشمول, وللتجاوب مع ذلك الارتباط .. فهو من الناحيتين النظرية والتحليلية على الأقل – ينطوي على – تصور شامل متكامل لكل ما يتعلق “بالحياة الإنسانية ” يصدر عن رؤية محددة ” للإنسان ” بحكم ” إنسانيته ” وينطلق من هذه الرؤية الأساسية ليضع أركان بناء ثقافي واجتماعي واقتصادي يتفاوت إسلوبه في تقريرها كما قدمنا من حيث الإجمال والتفصيل ولكن هذه الأركان تظل – دائما – مشدودة إلى التصور الأساسي ومترتبه عليه ..
ودون دخول في أبحاث تفصيلية حول نظرية الإسلام في الإنسان فإننا نستطيع أن نلخصها بقولنا ” إن الإسلام يرى في الإنسان مخلوقا مفضلا متميزا ” وأن تميزه يرجع – كما يقرر القرآن – إلى ما منحه الخالق من قوة روحية وعقلية يتوصل بها إلى المعرفة : { وعلم آدم الأسماء كلها } {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي } – { ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا } وأنه بحكم هذه القوة العقلية والروحية مطالب – في حياته – بمهمة ذات شقين : شقها الأول تعمير الكون .. وإحياؤه .. عن طريق اكتشاف القوانين الضابطة له واستخدامها, وشقها الثاني : إشاعة مجموعة من القيم والمبادئ تضمن تحسنا مطردا في نوعية العلاقات على وجه الأرض, وهو ما نسميه – نحن المعاصرين – تحسين نوعية الحياة Improvement of the quality of life وما يسميه القرآن – من وجهة نظر مثالية: ” هداية البشرية ” .. والشهادة على الناس بالقسط. إن المسلم مطالب – وفق هذا المنهج – بمواصلة الدفع لتحريك الحياة من خلال التعامل مع السنن والتوافق معها ..
ومطالب فوق ذلك بحراسة ” نوعية الحياة ” من خلال المحافظة على علاقات إنسانية صحيحة من خلال التشديد على احترام تلك العلاقات ابتداء من دوائرها القريبة ( الأباء والأمهات والأسرة الصغيرة ) و ( العلاقات المترتبة على الجوار ) ومرروا بمجتمع المؤمنين { إنما المؤمنون أخوة } – وانتهاء بالمجتمع الإنساني العام ” الخلق كلهم عيال الله “.
على أن استقلال هذا المشروع – لا يمكن أن يعني عزلته كما قدمنا؛ لأن هذه العزلة لم تعد ممكنة عمليا من ناحية, ولا هي مرغوب فيها من ناحية أخرى والتواصل الحضاري بدوره توجه له أصله الواضح في الإسلام, لولا أن النصوص الدينية تفسر عادة بعيدا عن الظروف المجتمعية والأوضاع الحقيقية للناس .. وإلا فماذا يعني ” التعارف بين الشعوب ” الذي تذكره صراحة الآية الكريمة : .. { وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا } ؟
2- إسقاط المنهج الغيبي, وتثبيت منهج فكري وحركي, يعمر الكون, ويتعامل مع السنن :
إن إسقاط المنهج الغيبي لا يعني المساس بقاعدة ” الإيمان بالغيب ” التي هي جوهر الارتباط الديني في الإسلام وفي المسيحية على السواء, وإنما يعني – في الحقيقة – تحديد مجالها بالأمور الخارجة عن نطاق الحواس والعقل .. كما يعني إعادة العقل إلى عرشه الذي أنزل منه خلال فترة ” البيات الحضاري ” .. أنه يعني في بساطة تثبيت منهج للمعرفة تعتمد على العقل وعلى النقل .. كما يشجع هذا العقل على ارتياد كل أفق, والتنقيب في كل مجال بحثا عن الحقيقة, واكتشافا لمواضع المصلحة, ووزنا لكل قديم وكل جديد بروح نقدية موضوعية ..
كما أن الدعامة الثانية لهذا التوجه الجديد هي تصحيح التصور السائد لدى العامة عن ” الكون والمجتمع ” .. فكل منهما نسق موزون, محكوم بضوابط وقوانين .. لها قدر من الثبات والإطراد .. لم يتردد القرآن في التصريح به بما لا يترك مجالا للتأويل .. وذلك في قوله: { سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا } { ولن تجد لسنة الله تحويلا } .. إن النقل يقرر الحقائق الكونية والاجتماعية .. والعقل يكشف عن موازين الحركة الداخلية التي تصنع تلك الحقائق, والتي من شأنها أن تجدد هذه الصنعة إذا توافرت ظروف وشروط مماثلة .. وحين يستقر هذا النظر في “وعي الأمة ” و ” وجدانها ” .. فإن المنهج النقدي في التربية وفي السياسة وفي التعليم لابد أن يعود بشكل تلقائي .. كما أن التخطيط العلمي لابد أن يعود من جديد كأسلوب لاتخاذ القرارات في أمور السياسة والاجتماع والثقافة والاقتصاد.
إن المجتمع الذي يكفر أفراده – في أعماقهم – بالقوانين الضابطة للكون والحياة .. لا يمكن أن تصدر قراراته السياسية والاجتماعية على أساس علمي يتعامل مع تلك القوانين. إن إشاعة الانضباط في مواجهة التسيب, والتحديد في مواجهة التقريبية , هي نتائج عملية ملازمة لمنهج تثبيت ” النظر العقلي والنقدي ” , وتوكيد الاعتماد فكريا وتنظيميا على ” القوانين ” .
3- تثبيت النظرة ” الإنسانية ” وإسقاط التمييز بين الناس على أسس ” غير إنسانية ” :
لسنا بحاجة هنا إلى ترديد النصوص العديدة التي تؤكد جوهر الإنسانية في الإنسان, وتقيم نظرة تعتمد المساواة بين أفراد المجتمع الإنساني. ويكفي أن النص المشهور الذي قرر ” مبدأ المساواة ” في القرآن – والنص الذي قرر المبدأ نفسه في أحاديث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) – يتحدثان عن ” الناس ” لا عن المؤمنين أو المسلمين .. فالنص القرآني يقول: { ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } – ونص الحديث النبوي يقول : ” الناس سواسية كأسنان المشط “.
إن تثبيت هذه القيمة الإنسانية الإسلامية عن طريق التربية والتثقيف الاجتماعي والسياسي من شأنه أن يؤثر تأثيرا مباشرا على القرارات السياسية والاجتماعية التي تمس غير المسلمين, والتي تتصل ” بالأقليات ” على اختلافها … فلا يتصور, في ظل هذه القيمة أن يصدر تشريع مخل بصورة صارخة بالمساواة المدنية بين المسلمين وغيرهم, أو جائر على حقوق أقلية عنصرية أو دينية .. أو مثبت لوضع اجتماعي فاسد يحرم الناس من الفرصة المتكافئة في تنمية الشخصية أو الثروة .. إن محاولات علاج التفرقة الاجتماعية والسياسية بين الأفراد عن طريق التشريع وحده لا يمكن أن يقدر لها النجاح إلا بقدر ما ينمو في بيئتها الثقافية من قيم تؤكد المساواة وترفض التمييز بين الناس على أساس عقائدتهم أو أجناسهم أو ألوانهم .. ولاشك في أن التجربة الأمريكية الطويلة في محاربة التفرقة بين البيض والملونين من خلال إجراءات تشريعية تؤكد استحالة تحقيق هذا الهدف النبيل بعيدا عن تثبيت القيم التي تخدمه و تحافظ عليه.
4- تثبيت قيمة الحرية, ودوره في تغيير اتجاه العديد من القرارات السياسية والاجتماعية ..
وأول ما نلاحظه في شأن هذه القيمة أن لفظ الحرية غير وارد في القرآن والسنة النبوية بمعناه المتعارف عليه في علمي السياسة والاجتماع. ومع ذلك فإن مضمونه ثابت فيما يقرره القرآن من ” ربط الجزاء بالقرار الإنساني الحر ” – كما في قوله : { كل امرئ بما كسب رهين } (52) (21) وقوله : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } – ولذلك يستوقف الباحث قول عمر بن الخطاب المشهور : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ” .. – كذلك يتضح موقف الإسلام من الحرية بما قرره من رفع المسئولية عن المكره والمضطر والعاجز ” عقليا ” عن ممارسة الاختيار. على أن قضية الحرية تتداخل نظريا وعمليا مع قضية ” حقوق الإنسان “, من المؤكد أن القضيتين جميعا لم تلقيا في الفكر العربي والإسلامي ما تستحقانه من اهتمام. وفي تقديرنا أن هذا الإهمال مسئول – جزئيا على الأقل – عما زخر به تاريخنا من انتهاكات للحقوق والحريات تتصادم – بشكل صارخ – مع التوجهات الأساسية للإسلام.
إن مما يستحق الأسف والأسى أن مشاركة العرب والمسلمين في الحملات الدولية المنظمة لرعاية حقوق الإنسان وإنعاش حرياته الأساسية مشاركةٌ ضئيلةٌ لا تتناسب مع المكانة الرفيعة التي وضع الإسلام فيها كلا من الحقوق والحريات.
إن أخص ما تتميز به نظرة الإسلام للحقوق والحريات .. أنه اعتبر حرية الإنسان جزءا متمما لعقيدة التوحيد وليس مجرد حكم فقهي من الأحكام ذلك أن توجيه مشاعر العبودية كلها نحو الخالق المعبود, ينزعها مباشرة من سائر العباد والمخلوقين .. فانعتاق الناس من سلطان الناس شق متمم للدخول في ” العبودية ” للخالق الواحد.
وفوق ذلك تتميز نظرة الإسلام لحقوق الإنسان بأمرين بالغي الأهمية :
الأول : أن الإسلام يعالج الحقوق من وجهها الآخر, وهو الواجبات فالخطاب التكليفي فيه موجه للملتزم باحترام الحق .. أكثر من توجيهه لصاحب الحق .. وذلك حتى يضاف الحافز الديني إلى الضمان القانوني لاحترام تلك الحقوق .. والأمثلة على ذلك في القرآن كثيرة جداً :
– { والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم } المعارج 23, 25
– { كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده } الأنعام آية 141.
– { وآت ذا القربى حقه والمساكين وابن السبيل } 17 الإسراء آية 26 .
والقيمة العملية لهذا الإسلوب غير المألوف أن يسود في المجتمع تسابق على أداء الواجبات, يستفيد منه في النهاية أصحاب الحقوق, دون أن تكون صيغة العلاقات الاجتماعية ” صيغة صراع على الحقوق ” .. وفي هذا رعاية لقيمة ” السلام الاجتماعي ” لا يمكن إغفالها .. وبالرغم من ذلك يحرص الإسلام على تحريض صاحب الحق على الدفاع عنه عند الاعتداء .. ولهذا يحتاج موقف العرب والمسلمين الذين يرضون بالمذلة والخضوع إلى تفسير .. إذا هو مسلك مخالف تماما لهذا التحريض الذي نقرؤه صريحا في الآية القرآنية : { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان } 4 النساء آية 75 والآية القرآنية : {.. قالوا كنا مستضعفين في الأرض, قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } النساء : 97.
وهذه الآية الثانية تحرض المستضعفين على مقاومة الظلم الواقع عليهم .. بينما الآية الأولى تحرض الجميع على مقاومة الظلم الواقع على المستضعفين.
ومن وراء هذه الدعوة الملحة لأداء الواجب, والدعوة الصريحة لرد الظلم والعدوان .. تقوم دعوة ثالثة إلى تبادل العفو, وتبادل الفضل والعطاء يقول القرآن. { وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم } 2 البقرة 237 ويقول : { وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم } 64 التغابن آية 14.
إن تثبيت هذه القيم من شأنه أن يضع قيودا هائلة على سلطة الدولة في المساس بحريات الأفراد وحقوقهم .. ومن شأنه أن يفتح الباب لمحاولات أكثر جدية وأوفر نشاطا من أجل توفير الضمانات الفعالة لحماية هذه الحقوق ورد العدوان الواقع أو المتوقع عليها.
ويصل بنا البحث إلى قضية بالغة الأهمية هي قضية المشاركة السياسية .. وهي لا تتصل بقضية الحرية وحدها وإنما تتصل فوق ذلك بقيمة سياسية خاصة أو مبدأ من المبادئ السياسية المقررة صراحة في القرآن الكريم وهي قيمة الشورى وهي في جوهرها تقرير لمبدأ المشاركة في اتخاذ القرارات ..
ولما كانت هذه المشاركة هي العنصر الأساسي في جوهر الديمقراطية كأسلوب في إدارة المجتمع واتخاذ القرارات المتعلقة بمصالح أفراده .. أما الفروق التي يصر عليها البعض ويبالغون في تضخيمها فإنها ترجع – عند التحليل – إلى قضية أخرى هي قضية مصادر التشريع في الجماعة .. وما إذا كانت هناك قيود موضوعية مطلقة على سلطة الجماعة في اتخاذ القرارات .. وهي – حينئذ – قيود ترجع إلى وجود قواعد قانونية ملزمة, وليس إلى تدخل إرادة بشرية أخرى تحد من إرادة الأغلبية ..
إن الإلحاح على هذه القيمة من خلال العمل الثقافي النشيط والدءوب لابد أن يتجه – ولو تدريجيا – إلى تغيير إسلوب اتخاذ القرارات السياسية في المجتمعات العربية والإسلامية .. فتختفي صيغة المستبد العادل .. ويزول تصور إمارة المؤمنين باعتبارها منصبا يحل بمقتضاه رئيس الدولة محل شعبها في اتخاذ القرارات وتحمل المسئوليات .. ولا يتسع المقام هنا لمناقشة الآراء المختلفة التي ظهرت في تاريخ الفكر الإسلامي حول طبيعة الشورى وحدودها ورسائل تطبيقها .. ولكن من المهم في مشروع توظيف القيم الإسلامية الممتدة من السنة النبوية, أن نسجل – مع الأسف – أن المائة سنة الأخيرة قد شهدت تقصيرا هائلا في تحقيق المشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات داخل المجتمعات العربية والإسلامية .. وأن هذا التقصير مسئول – إلى حد كبير – عن حالة الاغتراب واللامبالاة والاتجاهات التدميرية التي ظهرت على سطح الحياة السياسية والاجتماعية في تلك المجتمعات, ولقد وقعت في هذه الخطيئة معظم التيارات الفكرية والتنظيمات السياسية والدينية .. ولذلك يكون من المهم – بنفس الدرجة – أن توظف نظرة الإسلام للشورى توظيفا كاملا في إحياء وتنشيط جميع صور المشاركة على النحو الذي يشد الفرد المجموع. ويخلق شعور الانتماء الذي لا غنى عنه لقيام أي مشروع حضاري أو تنموي.
5- توظيف نظرة السنة النبوية ” للعمل ” لتحريك مشروعات التنمية :
اهتمت النصوص الإسلامية بالكلمة المقروءة والكلمة المكتوبة اهتماماً خاصا باعتبارها أول خطوات المعرفة وأول مراحل التحرك نحو الفعل .. يقول القرآن في أول آية نزلت منه : {اقرأ باسم ربك } ويقول – احتفالا بالكلمة المكتوبة : { ن والقلم وما يسطرون } القلم : 1.
كما يقرر حماية وأمنا لقائل الكلمة شهادة بالحق, ولكاتبها على السواء فيقول : { ولا يضار كاتب ولا شهيد } البقرة : 282, ومع ذلك يضيق الإسلام أشد الضيق بالكلمة حين تنفصل عن الفعل: { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون } الصف 2, 3.
كما يجعل ” الفعل ” وليس الكلمة أداة التغيير والإصلاح .. متخذا من العمل شعارا عاما له : {وقل اعملوا } ..
وفي واقع العرب والمسلمين تقصير هائل في أداء العمل .. يتناول كم هذا العمل, كما يتناول الحرص على مردوده وعائده, ويتناول في النهاية ما يحمله من خصائص الإبداع الذي هو مدخل التطور والتقدم في كل سعي بشري .. وغني عن الذكر أن مجتمعا متخلفا يستمر في احتقار ” العمل ” ثم يقصر في أدائه إنما يغتال كل فرصة حقيقية للحاق وللخروج من التخلف.
إن الثقافة الإسلامية الجديدة لابد أن تنشر على أوسع نطاق مبدأ ” احترام العمل ” وتقديسه من ناحية ومبدأ إتقانه وحسن أدائه من ناحية أخرى ..
وتكريم العمل, والعمل اليدوي, بصفة خاصة قيمة إسلامية غائبة عن حاضر العرب والمسلمين.. فالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يقول إن من ” أمسى كالا من عمل يده أمسى مغفورا له ” ويذكر بالإجلال والرضا موقفا ” يحمل فيه الرجل حبله ويحتطب به ” ويطرد من أوهام الواهمين كل آثار تحقير العمل حين يقول إن ” نبي الله داود كان يأكل من عمل يده “.
أما حسن أداء العمل والحرص على إتقانه فالحديث النبوي فيه واضح صريح : ” إن الله يحب أحدكم إذا عمل عملا أن يتقنه ” ” إن الله كتب الإحسان على كل شئ “.
وعلى أهمية العمل, فإنه ليس القيمة الإسلامية الوحيدة التي تخدم مشروع التنمية بمعناه الأوسع.. فالإنتاج, واستثمار الموارد, والمحافظة عليها وتحريك الثروة قيم إضافية إلى جانب العمل تخدم – بدورها – فرص تحويل عناصر التنمية الكامنة في أمة من الأمم إلى مشروع تنموي حقيقي ففي الحديث : ” من أحيا أرضا مواتا فهي له ” ..
وفي القرآن تحذير ووعيد من اكتناز الذهب والفضة وحبسهما عن الإنفاق والتداول وفيه أيضا إنكار شديد على من { يهلك الحرث والنسل } – وفي وصايا النبي (ص) للقواد والغزاة من أصحابه تحذير من حرق الشجر والثمر – وتنبيه إلى أن الموارد مودعة في الأرض بحساب وقدر, وأن الإسراف فيها – لذلك – إفساد للبيئة وتدمير لها, يقول القرآن عن الأرض : { وقدر فيها أقواتها } (37) فصلت : 10, ويقول : { إنا كل شئ أنزلناه بقدر } (38) القمر : 49 .
وينهي القرآن صراحة عن التوسع في الاستهلاك بما يجاوز الحاجة فيقول : { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } وينهي النبي (صلى الله عليه وسلم ) أصحابه عن الإسراف في استخدام الماء “ولو كنت على نهر جار ” وبعد .. فلا يمكن أن يتسع المقام لأكثر من هذه الأمثلة :
وهي في تقديرنا عمد و أصول في التصور الإسلامي الذي قرره القرآن ومصطلح السنة وما هو ثابت فيه من قيم ومبادئ, يمكن توظيفها في مشروع إسلامي هدفه تحريك الواقع الإسلامي تحريكا ينهي مرحلة بياته تحريك الواقع الإسلامي تحريكا ينهي مرحلة بياته الحضاري, ويوجه القرارات السياسية والاجتماعية التي تحكمه وتنظمه وجهة تخدم غاية إنسانية محدودة .. هي الإسهام – مع الآخرين – في دفع مسيرة الإنسان وهو يعمر الأرض, وترشيد هذه المسيرة بالمحافظة على ” علاقات إنسانية ” قوامها احترام إنسانية الإنسان, واتخاذها أساسا للمساواة والعدل .. واتجاهها المحوري يتمثل في تبادل العطاء .. وتبادل العفو .. إبقاء على إحساس الإنسان الفرد بصحبة أخيه الإنسان, وهي صحبه تدفع عنه أعتى أعدائه فيما يقضيه على كوكبنا هذا من سنوات : والإحساس بالحاجة والجوع .. والإحساس بالوَحدة .. وهكذا تستطيع الثقافة أن تحول هذه القيمة المعلنة في القرآن والسنة إلى مصدر لقرارات سياسية واجتماعية تحفظ الثروة, وتنظم استثمارها, وتمنع التوسع في استهلاكها وإفنائها … وذلك مما يخدم التنمية بكل صورها.. تأويجا وتعظيما للإنتاج, وضبطا وتنظيما للاستخدام والاستهلاك .. والإحساس بزوال الأمن .. وتلم الناس من جديد في رحاب { رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف }.