صياغة العلوم الاجتماعية صياغة إسلامية
– نشأة العلوم الاجتماعية في الغرب:
لا تكاد الفروع الدراسية التي يطلق عليها الغرب “العلوم الاجتماعية” تبلغ من العمر قرناً من الزمان، وتشمل تلك العلوم في معظم الجامعات خمسة فروع تتمثل في علم الاجتماع،
وعلم الإنسان، والعلوم السياسية، وعلم الاقتصاد، والتاريخ، ويوجد فرعان آخران من الدراسة يتمتعان بمرتبة مزدوجة هما: الجغرافيا وعلم النفس. فإذا بادر علم الجغرافيا إلى معاونة أي من العلوم الاجتماعية الأخرى بأن يأخذ على عاتقه إيجاد علاقة بين نتائج أبحاث تلك العلوم وبين المكان، فإنه يصبح علماً اجتماعياً آخر، ويسمى بالجغرافيا الاجتماعية، أو الإنسانية، أو السياسية، أو الاقتصادية، أو التاريخية أو الثقافية وفيما عدا ذلك، فإن الجغرافيا تعني بدراسة الأرض، كما يشير أصل ذلك اللفظ، وتصنف ضمن العلوم الطبيعية. وفي تلك اللحظة يطلق عليها اسم “الجغرافيا المادية” أو “الطبيعية”. وينطبق نفس الوضع بالنسبة لعلم النفس. فحين يعني بدراسة الأشخاص يتم تصنيفه ضمن العلوم الطبيعية، ولكنه إذا عني بدراسة الجماعة يصبح حينئذ علماً اجتماعياً ويطلق عليه اسم علم النفس الاجتماعي.
لقد حصلت تلك الفروع من الدراسة على مكانة مستقلة بذاتها في الجامعات في القرن الماضي. ومع ذلك فإن الدوافع التي أدت إلى نشأتها ونجاحها ترجع في أصلها إلى أكثر من قرنين ماضيين… إن معتنقي المذهب العقلي في القرنين السابع عشر والثامن عشر قد أقاموا نظاماً عظيماً للفكر حاولوا بمقتضاه إعادة تأسيس الدعامة الأولى للثقافة الغربية المسيحية على أساس عقلي، ولقد كان معظم الأوروبيين الغربيين ينظرون إلى الثورة الفرنسية على أنها الحركة الظاهرية التي أدت إلى تدعيم ذلك النظام وحاولت أن تضفي عليه الصبغة العالمية، ولقد كان فشلها اللاحق يمثل كلاً من العلة والمعلول لظهور مذهب النزوع إلى الشك الذي كان قد شن معركة قاسية على مدى قرون عديدة من قبل ضد سطوة الكنيسة. ولقد تم خوض تلك الحرب الطويلة القاسية في مجالات العلوم الطبيعية، وبصفة رئيسية علم الفلك وعلم الكون حيثما كان كل من الكنيسة، والكتاب المقدس، يعتنقان آراء تتعارض مع ملاحظات العلوم التجريبية؛ ولقد نجح ذلك النزوع إلى الشك في هدم المذاهب التي اعتنقتها الكنيسة حول الكون، وأيضاً النظم العقلية التي بالرغم من منطقيتها كانت لا تزال تؤمن بصحة المبادئ الرئيسية للمسيحية.
وليس من الغريب أن يؤدي تحقيق ذلك الانتصار الهين إلى منح الثقة للاتجاه الجديد، والإيمان بأساليبه التجريبية، ومثابرته على اختبار الأشياء، ورفضه جميع أساليب الاستنتاج واعتماده التام على ميثودولوجيا العلوم الطبيعية. ولقد عاد أوجست كونت بنظره إلى الوراء إلى تلك الفترة، ورأى كيف العالم يتمرغ في الوحل وسذاجة المعتقدات وكيف أنه لم يع ما يمليه العقل إلا حديثاً. ولقد شهد أوجست كونت تلك الفترة القصيرة التي سيطر فيها العقل باعتبارها الفترة التي نجحت فيها أوروبا في إنهاء الطغيان الفكري للكنيسة، ولكنه عندما كان يتطلع إلى المستقبل، كان يشعر بالتفاؤل ويستطيع أن يتنبأ بظهور فجر عصر جديد، عصر العلم الإيجابي، الذي يستطيع فيه الإنسان –بعد تحرره النهائي من كل من الإيمان الساذج والأفكار الجازمة- أن يأخذ مكانه في العالم الذي يكون بدوره قد تحرر من كل من الإثنين. ومن ثم فإن الإنسان طبقاً لـ “كومت” يجب أن يطبق العلم لتنظيم حياته ذاتها، ومثلما طبق الطب على وجوده الفردي المادي، يجب أن يبتدئ في تطبيق العلوم الاجتماعية على سلوكه الاجتماعي وعلى سلوك الجماعة ككل، وطبقاً لأب العلوم الاجتماعية في الغرب، فإن العلوم الطبيعية تحوز على ميثودولوجيا الحقيقة التي لا يمكن وضعها موضع الشك. ونظراً لأنه قد تم تطبيق تلك العلوم في النطاق المادي، فقد حان الوقت الآن لأن يمتد ذلك النجاح إلى نطاق العلاقات الإنسانية.
2- نموذج العلوم الطبيعية:
لقد كان جوهر ذلك التطور بأكمله يتمثل في الميثودولوجيا الاستقرائية للعلوم الطبيعية؛ ذلك أن حقائق العلوم الطبيعية تعد قابلة للملاحظة عن طريق الحواس وكل منها يعد منعزلاً عن الآخر وقابلاً للقياس عن طريق الحواس. وتعتبر تلك الحقائق “جامدة” بمقتضى حصانتها ضد نزعة الشخص القائم بالملاحظة، وهي تبدي نفس السمات والسلوك في جميع الأوقات طالما أن الأحوال المحيطة بها تظل كما هي بصرف النظر عن أي تدخل شخصي من الشخص القائم بالملاحظة. وليس ثمة مبدأ في العلوم تضفي عليه صفة القدسية، فإن كل شيء يعد قابلاً للشك؛ والبراهين الناتجة عن التجربة هي فقط التي تعتبر أساساً للنظرية صحيحة طالما لم يتم دحضها عن طريق أي تجربة أخرى. وتعتبر النظرية بمثابة قانون طبيعي عندما تثبت صحتها من خلال التجارب والملاحظات المتكررة.
لقد تضمنت تلك النظرية دعوة لجعل العالم بأجمعه شيئاً قابلاً للتفسير، ولقد تم إرغام الطبيعة أخيراً على أن تفتح أبوابها، فإن العلم قد أرغمها على ذلك بمقتضى تحقيقه في أسباب حدوث الظواهر ونتائجها. فإن اكتشاف السبب الذي يؤدي إلى حدوث ظاهرة معينة، أي تعريف المسببات القادرة على إحداث الظاهرة ووضعها في نطاق الملاحظة والقياس يعد بمثابة تفسير لتلك الظاهرة؛ ويهدف ذلك في الحقيقة إلى تمكيننا من السيطرة عليها وتوجيهها. وهكذا فإن العلوم الطبيعية تعد المفتاح لتحقيق السيطرة على الكون؛ وإن مقدرة تلك العلوم على فهم الأشياء تعد بصفة مباشرة مقدرة على التوجيه والسيطرة. ومن ثم فهي تعد قوة مثلما تعد سعادة. لقد استحوذت تلك الرؤية العلمية على الرجل الغربي وأطلقت طاقات هائلة لاستكشاف الطبيعة واستغلالها، وقد أثبتت المكاسب التي تم إحرازها وتحقيقها تلك الرؤية بما لا يترك مجالاً للشك، وجعلت العلم الطريق المؤكد لتحقيق الحياة المثالية. وبالطبع، فإن ما كان ممكناً تطبيقه بالنسبة للطبيعة قد تم إفتراض إمكانية تطبيقه بالنسبة للإنسانية، أي بالنسبة لكل من الفرد والمجتمع، فإن كليهما يمثل الطبيعة، ويجب إخضاعهما لنفس الأساليب، إن لم يكن لنفس القوانين، بغرض فهمهما، وإلى جانب تلك الثقة، كان يوجد الأمل في توجيه الحقيقة الإنسانية الاجتماعية إلى الغايات التي تم تصورها سلفاً، ولكن المجتمع لم يكن يتحرك بنفس السرعة التي كان يتحرك بها التطور العلمي، وإذا أراد المجتمع أن يحافظ على ذلك القدر من التفاؤل الذي بثه العلم، فإن عليه الإسراع في إحراز التغيير. وقد كان السؤال عن كيفية تحقيق مثل ذلك التغيير حاثاً للعقل الغربي على محاولة فهم السلوك الاجتماعي من أجل توجيهه الوجهة المرغوبة، وسرعان ما توصل التفكير إلى أن الأسلوب التحليلي الخاص بالعلوم الطبيعية يستطيع أن يحقق مثل ذلك الفهم ويفتح أبواب المجتمع لإحلال التنظيم والتخطيط والتوجيه.
3- نقائص الميثودولوجيا الغربية:
إنكار وثاقة صلتها بالحقائق البديهية:
الطالب الغربي الذي يدرس طبيعة الإنسان والمجتمع لم يكن في حالة تجعله يدرك أن ليس بالضرورة أن تكون جميع الحقائق المتعلقة بالسلوك الإنساني، قابلة للملاحظة عن طريق الحواس، ومن ثم خاضعة للقياس؛ فإن الظاهرة الإنسانية لا تتكون من عناصر “طبيعية” على وجه القصد، بل يتدخل فيها عناصر أخرى تنتمي إلى نظام مختلف، أي النظام الأخلاقي الروحي، وتقررها إلى درجة فائقة؛ وتلك العناصر لا تعد بالضرورة بمثابة نتائج لازمة لعناصر الطبيعة أو قابلة للاستنتاج من تلك العناصر؛ وهي لا تتسم بالتماثل العالمي في الجماعات الإنسانية، بل إنها تعتمد على التقاليد والثقافة، والدين، والأولويات الشخصية والجماعية التي ليس من الممكن أبداً وضع تعريف شامل لها. وبمقتضى كونها روحية، فإن تلك العناصر ليس من الممكن عزلها أو فصلها عن أصولها الطبيعية، وليس من الممكن أبداً إخضاعها للأسلوب القياسي الوحيد الذي يعرفه العلم، وهو الأسلوب الكمي، ولقد نظر إليها العلم باعتبارها أشياء غير موجودة أو غير وثيقة الصلة، ولقد فرض العلم تحليله للعناصر الطبيعية القابلة للملاحظة التي تتمثل في سلوك الإنسان، وبإصراره على تفسير السلوك الإنساني. فإنه قدم إلينا نظريات غير متقنة وتفسيرات مشوهة. ومن أجل أن يتسم ذلك التحليل بالصفة العلمية، فإن العالم الاجتماعي قد خفض العنصر الأخلاقي والروحي للحقيقة الاجتماعية إلى تأثيره أو أصله المادي. وإن الميثودولوجيا التي وصفها لا تزال إلى يومنا هذا خالية من الأدوات التي نستطيع بمقتضاها التعرف على الناحية الروحية والتعامل معها.
وقد أدى ذلك الخطأ الجوهري في تعريف حقائق العلوم الاجتماعية والتعرف عليها إلى ظهور خطأ آخر هو أن شخص يقوم بالملاحظة يكون في إمكانه وضع القوانين التي تتحكم في الحقيقة الاجتماعية لو أنه اتبع القواعد العلمية بطريقة مدققة؛ ولكنه يجب أن يتأكد من إبطال أي نوع من التحيز الشخصي والامتناع عن إصدار أي حكم سابق، فالحقائق يجب أن تترك لتتحدث عن نفسها. ولقد ساد الاعتقاد أنه بمقتضى ذلك التشدد لن تستطيع الحقائق إلا أن تكشف عن أسرارها وهكذا تصبح خاضعة للمعالجة العلمية.
ومع ذلك، فإن الحقائق الخاصة بالسلوك الإنساني، باختلافها عن حقائق العلوم الطبيعية لا تتسم بالجمود ولكنها مفعمة بالحياة، فهي ليست ذات حصانة ضد اتجاهات وأفضليات الشخص القائم بالملاحظة، وهي لا تكشف عن صورتها الحقيقية لكل باحث، فالمواقف، والمشاعر، والرغبات، والأحكام، والآمال الخاصة بالبشر من رجال ونساء لا تبدي نفسها للشخص القائم بالملاحظة الذي لا يدين بأي تعاطف تجاهها، ونستطيع أن نجد التفسير لذلك التعصب الظاهر الذي تبديه الحقائق تجاه الشخص القائم بالملاحظة في تحليل الإدراك القيمي. وفيما يتعلق بإدراك الأشياء “الجامدة”، فإن حواس الشخص القائم بالملاحظة تعد سلبية وتتقرر بصفة كلية بواسطة الحقائق. وعلى عكس ذلك فإنه بالنسبة لإدراك القيم، نجد أن الشخص القائم بالملاحظة هو الذي يؤكد الحقائق أو يتعاطف معها بطريقة فعالة سواء أكان مؤيداً أو معارضاً، وإدراك القيم يعد في حد ذاته تقريراً لتلك القيم، أي أنه يحدث فقط عندما يتم تفهم القيم في واقع الحياة. وبعبارة أخرى، فإننا لا نستطيع القول أنه قد تم إدراك القيمة إلا إذا كانت قد حركت، أو أثرت في أو أثارت عاطفة أو شعوراً في الشخص القائم بالملاحظة وفقاً لما تتطلب طبيعتها، ويعتبر إدراك القيم شيئاً مستحيلاً لو لم يتم إحداث ذلك التأثير من خلال قوتها المقررة أو إغرائها المؤثر، ولكن ذلك ليس من الممكن حدوثه بدون إعداد من قبل الشخص القائم بالملاحظة الذي سوف يمر بذلك التأثر، وبدون التعاطف الوجداني مع الشيء. إن اتجاه الشخص القائم بالدراسة تجاه الحقائق موضع الدراسة يقرر نتيجة تلك الدراسة، وذلك هو السبب في أن الدراسات الإنسانية الخاصة بالرجل الغربي والتحليلات الاجتماعية للمجتمع الغربي التي يقوم بها العلماء الغربيون تتسم بالضرورة بالصفة “الغربية”، وليس من الممكن أن تكون نماذج تحتذي لتطبيق دراسات على المسلمين أو مجتمعاتهم.
لقد كان العلماء الاجتماعيون الغربيون من الجرأة، بحيث أعلنوا أن أبحاثهم تتسم بالموضوعية، ولكننا نعلم جيداً أنهم يدينون بالتحيز وأن استنتاجاتهم غير مكتملة، ولكن “علم الاجتماع الخاص بالمعرفة” لديلثي لم يكن قد ظهر بعد حتى يعلمهم أن موضوعيتهم المفترضة لم تكن بأكثر من حلم. ولقد كان علم الإنسان هو أكثر العلوم جرأة نظراً لأن موضوع دراسته –وهو المجتمعات “البدائية” المنتمية للعالم الغير عربي- كان حقيقة جامدة، غير قادرة على رفع إصبع واحد بالانتقاد لأساتذتها، ولقد تم تكوين النظرية تلو الأخرى لإيجاد صيغة لتلك الحقائق التي كانت تعد جزءاً لا يتجزأ من الرأي الغربي عن العالم. إن العقل الغربي، بالرغم من التقدم المفاجئ في علم القيم الفينومينولوجي، كان بعيداً عن الإدراك بأن فهم الأديان أو الحضارات والثقافات الخاصة بالشعوب الأخرى يتطلب نوعاً من التحيز المضاد، وتعاطفاً مع الحقائق لو أنه سيتم فهم تلك الحقائق على الإطلاق. وبالرغم من أن ذلك الاكتشاف قد جاء عن طريق المؤرخين والمختصين بإقامة المقارنات بين الأديان والمدنيات –ولكن العلماء الاجتماعيين نادراً ما كانوا يشيرون إليه- فإننا نستطيع القول عن يقين أن الحقائق الخاصة بالعالم الاجتماعي، أي العناصر السلوكية تعد ملتزمة بعنصر آخر، ذي طبيعة مختلفة وهو العنصر التعتيمي. إن انعدام المقدرة على الرؤية أو انعدام الإحساس يفسد البحث ويبطل استنتاجاته، وإن التعاطف مع الحقائق وتفهم قوتها الدافعة يعد شرطاً لإدراك تلك الحقائق، ومن ثم يعد مكملاً ضرورياً، حتى تكون الاستنتاجات صحيحة؛ فالاتجاهات، والمشاعر والآمال الخاصة بالأفراد والجماعات لا تظهر حقيقتها إلا للمستمع المتعاطف الذي يعد موقفه تجاهها شيئا ًحاسماً، ولو لم يكن ذلك المستمع ذا خبرة ومقدرة على التعاطف فإنه لن يلمس تلك الأشياء ومن ثم سوف يكون الاختبار الذي يقوم به مفتقراً إلى الإتقان اللازم.
علم القيم الشخصي إزاء علم القيم الخاص بالأمة:
لقد أظهرت لنا المناقشات الأولى الخاصة بهذا القسم أن العلوم الاجتماعية الغربية تعد ناقصة، وأظهرت لنا المناقشة الثانية أنها تتسم بالضرورة بالسمة الغربية ومن ثم فهي غير ذات جدوى لأن تكون بمثابة نموذج لطالب العلم المسلم. أما المناقشة الثالثة فقد أظهرت لنا أن العلوم الاجتماعية الغربية تنتهك متطلباً حاسماً للميثودولوجيا الإسلامية.
لعل أكثر صفات الميثودولوجيا الإسلامية وضوحاً هو مبدأ وحدة الحقيقة؛ ويقرر ذلك المبدأ أن الحقيقة تعد شكلاً من أشكال الله وليس من الممكن فصلها عنه، وأن الحقيقة واحدة مثلما أن الله واحد فالحقيقة لا تشتق وجودها من الله الذي هو خالقها وسببها النهائي فحسب. بل أنها تشتق معناها وقيمتها من إرادته التي تعد غايتها وغرضها النهائي، وتقاس فاعلية تلك الحقيقة بمقتضى تحقيقها أو عدم تحقيقها للقيمة. وفي الواقع فإن الحقيقة أصبحت تتسم بالفعالية حتى غدا الممكن وصفها بأنها صياغة للإرادة الإلهية، ولذلك يجب دراستها في إطار تحقيق القيم أو انتهاكها. وبمثل ذلك الأسلوب، فإن الحقيقة خارج هذا الإطار لا تعني شيئاً على الإطلاق. ومن ثم، فمما لا أساس له من الصحة أن نحاول إقامة معرفة الحقيقة الإنسانية بطريقة منفصمة عما يجب أن تكون عليه تلك الحقيقة، ولذلك، فإن أي بحث يتعلق بالإنسان، يجب أن يتضمن موقف ذلك البحث إزاء الغايات.
وذلك المبدأ الخاص بالميثودولوجيا الإسلامية لا يتماثل مع المبدأ الذي يقر بوثاقة صلة الناحية الروحية، ولكنه يضيف إليه شيئاً يتميز بكونه إسلامياً، وهو المبدأ المتعلق بالأمة؛ ذلك المبدأ الذي يقر أنه ليس ثمة قيمة ومن ثم ليس ثمة أمر يتسم بالصفة الشخصية أو يتعلق بفرد واحد. وإدراك القيم أو تحقيق القيم لا يتصل بالشعور الشخصي في لحظة معينة أو بالفرد وعلاقته الخاصة مع الله. إن الإسلام يؤكد أن وصايا الله، أو الأمر الأخلاقي يعد بالضرورة شيئاً خاصاً بالمجتمع، إنه بالضرورة يتصل بالنظام الاجتماعي في الأمة ولا يمكن أن يسود إلا بها؛ وذلك هو السبب في أن الإسلام لا يدين بأية فكرة تتعلق بالأخلاق أو التقوى الشخصية إلا إذا عرفها في إطار الأمة، وحتى في الصلاة التي تعد مواجهة شخصية للغاية مع الله وعبادته، فإن الإسلام قد أعلن أنها وسيلة لتحقيق الأوامر الأخلاقية المتعلقة بحب الغير وما يماثلها. وحقيقة، فإن الإسلام قد جعل قيمته الدينية متوقفة على تلك الأوامر، وذلك هو السبب الذي جعل الإسلام يحرم الأديرة والامتناع عن الزواج، ويترجم مثله الدينية والأخلاقية في الشريعة، أو القانون العام، ويربط وصاياه الأخلاقية بالمؤسسات العامة التي لا يمكن أن تزدهر، إلا إذا كانت الدولة ذاتها إسلامية، ذلك هو مغزى تجاوز الإسلام لحدود الفضيلة المسيحية، وفي حين أن المسيحية قد عرفت الخلاص في إطار النية، أي الشعور الشخصي في لحظة معينة، فإن الإسلام قد عرفه في إطار العمل، أي الحياة العامة في إطار الزمان، والمكان والمجتمع، وفي الحالة الأولى، كان الضمير هو الحكم النهائي على وجه الأرض، أما في الحالة الأخيرة، فإن الحكم أصبح يتمثل في القانون العام، والحكمة العامة، والقوانين العامة، والثواب والعقاب بواسطة الله على مدى التاريخ. لقد صاغ الإسلام الإيمان بالأخرويات من أجل تدعيم ذلك الصرح التاريخي من الأفكار، والقيم، والقوانين، والمؤسسات، وحتى المعرفة الإسلامية، ذاتها، أي معرفة إرادة الله كما هي واضحة في الوحي قد جعلها الإسلام ممكنة فقط في إطار المجهود الجماعي الدائم من خلال الإجماع والتواتر. وطبقاً للرأي الإسلامي، فإن الناحية الخاصة بعلم القيم والناحية الخاصة بالأمة يعتبران متكافئين وقابلين للتحويل، وهما سوياً يكونان بعداً جوهرياً، وشرطاً لا بد منه للحقيقة، وليس من الممكن أن تكون ثمة قيمة دينية أو أخلاقية إلا في إطار الأمة، وتصور لنا قصة حي بن يقظان تلك الحقيقة الخاصة بالوعي الإسلامي بشكل مثير. فبعد أن اكتشف الإسلام بالمنطق الطبيعي، وبعد أن توصل من خلال جهوده الخاصة إلى إدراك الرؤية العالمية والرؤية الأخلاقية الخاصة بالإسلام، تقدم حي يجوب البحار بحثاً عن الأمة التي لا يستطيع أن يحيا بدونها.
لقد فصل الغرب العلوم الإنسانية عن العلوم الاجتماعية بسبب الاعتبارات الميثودولوجية؛ ولقد نجح ذلك الفصل في استبعاد جميع التقييمات من العلوم الاجتماعية فيما عدا تلك التي تقوم على أساس غايات مقيدة، فإن الموضوعية (العلمية) لم تستطع إجازة تلك التقييمات ومن ثم صرفتها إلى العلوم الإنسانية التي أصبح اهتمامها وتطبيقها يتسم بالصفة الشخصية والفردية التامة، وذلك التطهير المتعمد للعلوم الاجتماعية من جميع اعتبارات القيم الجوهرية قد جعلها عرضة للتأثر بأي قوة تتعرض لها؛ وكانت النتيجة لذلك هي استحواذ الحقائق الواقعية لأي مجتمع على المقدرة لتكوين المعايير الخاصة به. لقد أدى مبدأ الواقعية، ومن ثم الاستقلال الذاتي القيمي للحقائق الاجتماعية، ووضعها موضع الاختبار إلى التدهور الأخلاقي الحتمي للمجتمع؛ ولقد كانت نتيجة البحث الجنسي المتحرر من القيم الذي أجراه “كينزي” هي تحول الانتباه عن الزنا وتركيزه على منع الحمل. ومن الناحية الأخرى، فإن منح الغرب العلوم الإنسانية مكاناً خارج نطاق العلم قد أعفى تلك العلوم من التشدد الخاص بالموضوعية؛ وبإنزالها إلى المرتبة الدنيا حيث لا تطالب بالموضوعية العلمية، أو حيث لا يمكن إحراز تلك الموضوعية أبداً، فإنها قد أصبحت عرضة للهجمات من مذاهب النسبية، والتشكك والذاتية، وقد ساعد ذلك على إبطال أثرها بصفة أكبر وإفساد قوة متضمناتها (أي الإيمان، والعقيدة، والأمل، والخير، والواجب، والجمال، الخ). في تقرير الحياة والتاريخ.
4- إضفاء الصفة الإسلامية على العلوم الاجتماعية:
أ- لازم وحتمي لجميع الدراسات. سواء كانت تتصل بالفرد أو الجماعة، بالإنسان أو الطبيعة، بالدين أو العلم، أن تعيد تنظيم نفسها تحت لواء مبدأ التوحيد، أي أن الله سبحانه وتعالى موجود وهو واحد، وهو الخالق، الملك، الرزاق، وهو مسبب الإظهار وهدف وغاية كل شيء في الوجود، وأن جميع المعرفة الموضوعية عن العالم تعد بمثابة معرفة لإرادته، وتدبيره، وحكمته، وأن جميع نوايا البشر ونضالهم تتقرر بإذنه وأمره. ويجب أن توجه جميعها للإلتزام بأمره. أي الإلتزام بالنمط الإلهي الذي أوحى به، حتى تجلب السعادة والهناء للبشر.
ب- العلوم التي تدرس الإنسان وعلاقاته مع البشر يجب أن تقر أن الإنسان يحيا في ملكوت يحكمه الله في كل من الناحيتين الغيبية والقيمية؛ وتتضمن تلك العلوم التاريخ الإنساني –أي المجال الذي نستطيع أن ندرك فيه المستويات العليا من النمط الإلهي- ويجب أن تعني تلك العلوم بخلافة الله على الأرض، أي خلافة الإنسان؛ ونظراً لأن خلافة الإنسان تعد اجتماعية بالضرورة، فإن العلوم التي تقوم بدراستها يجب أن تسمى العلوم الخاصة بالأمة، فالدراسة الإسلامية ترفض الاعتراف بتشعب العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية؛ بل إنها تتطلب إعادة تصنيف فروع الدراسة وتقسيمها إلى العلوم الطبيعية التي تتناول الطبيعة، والعلوم الخاصة بالأمة التي تتناول الإنسان والمجتمع. ولو أننا نحن أعضاء اتحاد العلماء الاجتماعيين المسلمين وأصلنا تسميتها بالعلوم الاجتماعية، فإننا سوف نفعل ذلك متحدين الغرب الذي يصر على فصلها عن العلوم الإنسانية؛ ويجب أن نتذكر أن دراسة المجتمع لا يمكن أن تخلو من الأحكام والتقييمات ومن ثم فهي تخضع لنفس التشدد، أو تخلو منه مثل الفلسفة، واللاهوت، والقانون، والأدب والفنون. وعلى عكس ذلك، فإن العلوم الإنسانية تعني بدراسة ما يطلق عليه النظم الاجتماعية، وهي قادرة على تطبيق نفس المبادئ لإثبات صحة موادها واستنتاجاتها.
ج- العلوم الخاصة بالأمة لا يجب إهدار مكانتها بواسطة العلوم الطبيعية، فإن كليهما يحوز على نفس المرتبة في الخطة الخاصة بالمعرفة الإنسانية، والفارق الوحيد بينهما يكمن في موضع الدراسة، وليس في الميثودولوجيا. وكلاهما يهدف إلى اكتشاف، وفهم النمط الإلهي: أحدهما يعمل على استكشافه في نطاق الأشياء المادية، والآخر في نطاق الشئون البشرية. وذلك النمط في كل من المجالين يستدعي بالضرورة إيجاد أساليب ومناهج مختلفة، وفي التحليل النهائي، أي عند تصوير النمط الإلهي، يخضع الإثنان، لنفس القوانين لإثبات صحتها. وفيما عدا أشياء مثل المواصفات الخاصة بالطقوس، ووصف الأشياء التي تسمو فوق الوجود المادي، ووضع التقريرات عن الماضي الغير معروف التي يكون من الصعب إخضاعها للبحث المنطقي، فإنه ليس ثمة شيء قدمه لنا الإسلام عن طريق النقل أو الحديث، إلا وقد كان ثابتاً أو قابلاً للإثبات عن طريق العقل والفهم، مثلما اكتشفناه ولا نزال مستمرين في اكتشافه عن طريق العقل. فإنه ليس ثمة شيء يكمن فوق استراتيجية الفهم الإنساني.
د- ويدعي الغرب أن علومه الاجتماعية تتسم بالصفة العلمية لأنها محايدة، وتتعمد تفادي الأحكام والتفصيلات الإنسانية، وتعامل الحقائق باعتبارها حقائق وتتركها تتحدث عن نفسها، ولكن ذلك كما رأينا يعد ادعاء غير ذي جدوى؛ فإنه ليس ثمة إدراك نظري لأية حقيقة بدون إدراك طبيعتها وعلاقاتها القيمية، ومن ثم، فإنه بدلاً من الامتناع عن تحليل الناحية القيمية الذي لا يمكن تطبيقه على أي حال، والسماح للاعتبارات القيمية أن تقرر الاستنتاجات بطريقة سرية، سوف يتولى أحد العلماء الصادقين القيام بعمل جميع التحليلات بطريقة صريحة، ذلك العالم الذي لن يدعي أبداً التحدث عن المجتمع الإنساني في حين أنه في الحقيقة يعني المجتمع الغربي، أو يدعي التحدث عن الدين في حين أنه في الحقيقة يعني المسيحية، أو يدعي التحدث عن القوانين الاجتماعية والاقتصادية، في حين أنه في الحقيقة يعني بعض الممارسات العامة للمجتمعات الغربية.
هـ- وأخيراً، إن إضفاء الصفة الإسلامية، على العلوم الاجتماعية يجب أن يعمل على إظهار الحقيقة موضع الدراسة مع ذلك الوجه أو تلك الناحية من النمط الإلهي المتصلة بها، ونظراً لأن النمط الإلهي يعد المعيار الذي يجب أن تعمل الحقيقة على إحلاله، فإن تحليل الأمر الواقع لا يجب أبداً أن يغفل ما يجب أن تكون عليه الأشياء، وفوق ذلك، فإن النمط الإلهي ليس فقط شيئاً معيارياً يتمتع بشكلية مقدسة للوجود لا تتصل بالحقيقة الواقعة؛ بل أنه أيضاً يعد حقيقياً بمقتضى أن الله قد جعل الحقيقة تميل إلى تجسيده، وذلك نوع من الوجود الفطري الذي غرسه الله بمقتضى رحمته في الطبيعة الإنسانية، سواء في الإنسان أو الجماعة أو في الأمة باعتبارها نهراً مستمر التدفق. وهي تدخل في إطار الواقع والتاريخ بمقتضى القيام بالفعل الأخلاقي؛ ولذلك فإن كل تحليل علمي –لو كان إسلامياً- يجب أن يعمل على كشف ذلك النمط الإلهي في الشئون الإنسانية، وأن يؤكد ذلك الجزء الواقعي منه وذلك الجزء الذي تكمن فيه القوة، وأن يكشف عن العوامل التي تؤدي إلى تحقيق أو إعاقة إتمام عملية التجسد، وأن يركز ضوء الفهم على علاقات تلك العملية مع جميع العمليات الأخرى الخاصة بالحياة في الأمة.
إن العالم الاجتماعي المسلم يعهد إليه بغاية الإسلام، ويتركز جميع اهتمامه الدائم ورعايته، وأيضاً أمله وتوقه على النمط الإلهي المتمثل في الشئون الإنسانية، وإن أسلوبه لا يتسم فقط بالصفة العلمية بمقتضى أنه لا يترك النواحي القيمية، ولكنه أيضاً يكون نزاعاً لإنتقاد الحقيقة في ضوء النمط الإلهي.
وعلى عكس ذلك، فإن العالم الاجتماعي الغربي لا يستطيع أن يكون نزاعاً لانتقاد الأهداف أو الغايات الجوهرية للمجتمع، ولكنه فقط ينتقد الوسائل بسبب التزامه الواعي بتصوير الأشياء وليس تأييدها، ولكنه نادراً ما كان يتم احترام ذلك الإلتزام، لأن إنكار العالم الاجتماعي الغربي لوثاقة صلة الناحية الروحية كان يعد في التحليل النهائي إنكاراً لوثاقة صلة القيم الخاصة بالكنيسة، وتأكيداً لوثاقة صلة القيم النفعية والثقافية التي كان يجلها بصفة شخصية بأسلوب يتسم بالقبلية. ومن الناحية الأخرى، فإن العالم الاجتماعي المسلم كان يلتزم بالقيم الإسلامية بطريقة صريحة وعلنية، وذلك يعد مذهب يطالب بالحقيقة بأسلوب عقلي نزاع للإنتقاد، وهو لا يشعر بالأسف أو الخجل إذا قام أنداده المسلمون أو غير المسلمون بتوجيهه، فإن الحقيقة في رأيه ليست بأكثر من تفهم ذكي للطبيعة المتمثلة في التقارير والتجارب العلمية، أو تفهم الوحي الإلهي المتمثل في القرآن. وكلاهما من صنع الله، وكلاهما موصوف بالصفة العلنية، ولا يحتكمان لشيء سوى العقل والفهم.
وطبقاً لذلك الرأي، فإن العالم الاجتماعي المسلم يكون قادراً على تقديم أسلوب انتقادي جديد في العلوم الاجتماعية. لقد أدى الولاء للوسائل والغايات التي تؤدي إلى تحقيق فائدة إلى تدهور العلوم الاجتماعية الغربية حتى أصبحت “دراسات استراتيجية”، أي دراسات للإستراتيجيات التي تؤدي إلى تحقيق أهداف لا يستطيع أي شخص أن يدعي إمكانية إثبات شرعيتها بطريقة حاسمة. إن العالم الاجتماعي المسلم، بمقتضى إلتزامه بالإسلام يجب أن يعتبر الإنسان خليفة لله على الأرض، يتمثل واجبه في تحقيق القيمة على مدى التاريخ، ولذلك فإن العلوم الاجتماعية الإسلامية تستطيع أن تضفي الصفة الإنسانية على ذلك الفرع من الدراسة؛ وتعيد المثل الأعلى الإنساني إلى وضعه السابق في حياة الإنسان، الذي كان طبقاً لوجهة نظر العلوم الاجتماعية الغربية ألعوبة لا حول لها ولا قوة في أيدي القوى الغامضة.
5
– توصية للعمل:
الموارد الإنسانية:
إن أعضاء هيئات التدريس في الجامعات المسلمة في جميع أنحاء العالم ليسوا بالعدد المطلوب، وليس ثمة جامعة مسلمة واحدة تستطيع إدعاء أن منهجها في العلوم الاجتماعية، يتسم بالصفة الإسلامية. إننا لا نستطيع أن ننكر وجود مراكز متفرقة في العالم الإسلامي تتسم بقدر أكبر من الإستنارة، ولكنه توجد حاجة ملحة للغاية يفتقر إليها التعليم الإسلامي وتلك هي الموارد الإنسانية. إننا حقيقة لدينا مئات الآلاف من حملة الماجستير وحملة الدكتوراه، ولكن القليل منهم يمكن اعتباره من بين هؤلاء الذين لديهم حتى الإدراك بوجود تلك المشكلة المتعلقة بإضفاء الصفة الإسلامية على فروع الدراسة، فإن معظمهم قد مر بعملية تامة من غسل المخ بواسطة الغرب حتى أنهم أصبحوا أعداء أشد ضد إضفاء الصفة الإسلامية، أو على أفضل وجه أصبحوا متفرجين تماماً يتسمون باللامبالاة –بل والتشكك وانعدام القابلية للتأثر أو التأثير. وفيما يلي سوف نذكر أربعة إجراءات يجب اتخاذها من أجل الخروج من وضعنا الحالي المتسم بالجمود.
1-تكوين اتحاد العلماء الاجتماعيين الملتزمين بالإسلام، الذي يكون هدفه هو نشر وتقوية الوعي لبث الإدراك بوجود تلك المشكلة وخطورتها وإلحاحها، وأن جميع الجهود الأخرى التي تهدف لإعادة بناء الأمة تعد غير ذات جدوى لو لم يكن لدى أهل الفكر الوعي برسالة الأمة الإسلامية، الذي يحثهم على القيام بترجمة تلك الرسائل إلى توجيهات تتعلق بالمجالات المختلفة للسعي الإنساني، ذلك هو الهدف النهائي لاتحاد العلماء الإسلاميين، الملتزمين بالإسلام، ذلك الاتحاد الذي يجب أن يتم تكوينه بواسطة القلة الذين لديهم الوعي والذين يتسمون بالإخلاص والإيجابية. ولحسن الحظ، فإننا لدينا مثل ذلك الإتحاد بالفعل وهو يبلغ من العمر ست سنوات. ولو لم يكن موجوداً لكانت الخطوة الأولى التي نتخذها هي تكوينه.
2-ومثل ذلك الاتحاد يجب أن يربط نفسه بواحدة أو أكثر من الجامعات المسلمة لكي تقوم بتزويده بالموارد الإنسانية وغيرها وتزويد قاعاته الدراسية وقاعات محاضراته بعمل بمعمل خاص باكتشافاته وإنجازاته، وإننا لمحظوظون لأننا بالفعل لدينا مثل ذلك الإتحاد الذي يحوز على عضوية واسعة الانتشار على نطاق عالمي. ولكن اتحاد العلماء الاجتماعيين المسلمين لا يزال ينشد تلك الجامعة المسلمة التي يستطيع أن يرتبط بها.
3-والإجراء الأول الذي يجب أن يتخذه اتحاد العلماء الاجتماعيين هو تحديد وتعريف أعضائه الكامنين الذين يتمثلون في “الخريجين من حملة الدكتوراه” المخلصين للإسلام، و (العلماء) الذين لديهم المقدرة على التعرف على تراث الثقافة الغربية إلى جانب تضلعهم في التراث الإسلامي، والذين لديهم الموهبة الإسلامية للقيام بالتفكير الخلاق المتعلق بالأمة فيما وراء حدود النظام الأكاديمي.
4-إنه لا يوجد إلا القليلون ممن يشاركون في الرؤية الخاصة بإضفاء الصفة الإسلامية على العلوم الاجتماعية التي لم تصل بعد إلى الدرجة التي تتيح إدراكها على جميع المستويات، وتدريب أعضاء الإتحاد لإدراك تلك الرؤية يعد الواجب التالي في أهميته. ويجب تطبيق مثل ذلك التدريب على هؤلاء الذين يحوزون على درجات علمية تفوق الدكتوراه، ويجب أن يقوم الإتحاد بتنظيم برامج خاصة معدة للإيفاء بحاجة كل من أعضائه، وتهدف إلى استكمال ثقافتهم. ويجب أن تتكون مثل تلك البرامج من مجموعات مكثفة من الدراسات والمحاضرات، والحلقات الدراسية المكثفة، والقراءات ومشروعات البحوث، وأيضاً المؤتمرات.
6- مواد الدراسة وأدوات البحث:
إن تلك الأشياء ليست متوفرة في أي من الغايات، ويجب أن يتم إعدادها، وهي تتضمن ما يلي:
أ- بيانات المراجع المزودة بالحواشي والمرتبة طبقاً للموضوعات التي تركز على كل فرع من فروع الدراسة، وعلى كل مشكلة رئيسية في أي من تلك الفروع يجب أن يتم إعدادها، ويجب على وجه السرعة تكوين مجموعات متخصصة من الكتب وغيرها مما يساعد في إقامة البحوث لوضعها تحت تصرف العلماء المعنيين بالأمة.
ب- يجب أن يقوم الخبراء بإعداد معاينات تحليلية للمقالات والمقتطفات الأدبية المختارة التي تتناول التطور التاريخي للمشكلة أو فرع الدراسة، أو الوضع الحالي للبحوث حتى تكون مرشداً للأشخاص الأقل خبرة في ذلك المجال، وبافتراض إلحاح تلك الحاجة، فإن ذلك يعد أسرع الطرق التي تمكننا من إتاحة الأدوات اللازمة لتوسيع حدود المعرفة الإسلامية أمام العقول الإبداعية.
ج- بعد أن تتم تعبئة وتدريب الموارد الإنسانية، وإعداد وتجميع أدوات البحث، يجب أن يتم إعداد برامج خاصة بالحلقات الدراسية الحرة بهدف تمكين أصحاب المواهب المتوفرين لدينا من العمل وتقديم المقالات المبدعة والكتب التي تثبت وثاقة صلة الإسلام، بالفروع الدراسية المختلفة وبالمشاكل الرئيسية الخاصة بكل فرع بأسلوب يتقبله الفهم. ومن الممكن أن يتكون ذلك البرنامج من عدة ندوات للمناقشة وحلقات دراسية حرة معدة بصفة خاصة، وندوات أو تعيين للأشخاص أو الجماعات لإقامة البحوث ووضع المؤلفات.
وبعد أن نكون قد أسسنا بعض التراث الخاص بالفكر الإسلامي المبدع في العلوم نستطيع أن نستهل إعداد الكتب الدراسية لاستخدامها في معاهدنا التعليمية، والسبب في ذلك هو أن الكتاب الدراسي في حد ذاته غير كاف بدون المعلم المدرب، ويكون تقريباً غير ذي جدوى لو كان ولاء المعلم يتركز في ناحية أخرى، ولو كانت رؤيته ومعرفته يتسمان بعدم الكمال.
ومن الممكن إدماج الخطوات الثلاثة في عملية، واحدة، لأن كلاً من تلك الخطوات تكمل الأخرى. ويستطيع المؤتمر، بل إنه يجب أن يأخذ بالبدء في إنجاز تلك العملية.