تم اختيار موضوع هذه المحاضرة عن قناعة تامة بأن البشرية تعاني اليوم من مشكلات اجتماعية خطيرة مرتبطة بالنساء وبالعلاقات بين الجنسين في المجتمع. وقد يلمس بعضنا خطورة هذه المشكلات ويشعر بالانزعاج تجاهها أكثر من غيره.
كما أننا قد لا نجد منطقة في عالمنا المعاصر لا يعاني مواطنوها من إرهاصات هذه المشكلات بصورة أو بأخرى لهذا فإننا نشعر بحاجة ملحة للبحث عن الحلول الممكنة لهذه المشكلات. وقد ربطت في هذه المحاضرة بين موضوع النساء والقرآن أو ما أسميه المجتمع القرآني (( عن قناعة تامة بأن القرآن يقدم لنا أكثر الحلول قابلية للتطبيق في مسار الإصلاح الاجتماعي المعاصر ولا يمكن أن نجد ) لها مثيلا في أي تراث أو كيان ثقافي.
وقد يستغرب الكثير منكم عنوان هذه المحاضرة (( النساء في المجتمع القرآني )) ويتساءل لماذا لم تكن (( النساء في المجتمع الإسلامي ))؟ دعوني أوضح لكم أسباب استبعادي لهذين المصطلحين (( المسلم )) و (( الإسلامي )) وأسباب استخدامي لهذه التسمية غير المألوفة (( المجتمع القراني )).
هناك ثلاثة أسباب- على الأقل- لاختياري لهذا العنوان، أولها ينبثق من إدراكي أن كثيراً من المعتقدات والممارسات قد وصفت بأنها (( مسلمة )) أو (( إسلامية )) وهي لا تستحق هذه الصفة، كما أن هناك ما يقرب من أربعين دولة في هذا العالم تدعي لنفسها الحق في أن تكون النموذج الأمثل للمجتمع المسلم أو المجتمع الإسلامي باعتبار أن غالبية سكانها من المسلمين. مما أدى بالطبع الى قدر كبير من عدم وضوح الرؤية حول أي هذه الدول أكثر صدقا في تمثيل المجتمع (( الإسلامي )) الحقيقي. وكثيرا ما نجد من بين المسلمين من يزعم أن مجتمعه سواء كان هذا المجتمع يمثل إقليما دوليا أو قومية ما- هو أكثر المجتمعات التزاما بتعاليم الله سبحانه وتعالى.
ومن جهة أخرى نجد غير المسلمين وخاصة علماء الانثروبولوجيا الغربيين الذين يتنقلون حول العالم لدراسة عادات وأخلاقيات شعوبه يعتبرون الممارسات الحياتية المتنوعة التي يجدونها في المجتمعات المسلمة على درجة واحدة من الصحة، وأعتقد أن هذا يرجع الى تمسكهم بما أسميته نظرية حديقة الحيوان Zoo Theory في تصنيف المعرفة مما جعلهم ينظرون إلى المسلمين باعتبار أنهم نوع مختلف من أنواع الجنس البشري داخل حديقة الحيوان البشرية، وتنسحب هذه النظرية بالطبع على الشعوب الأخرى من غير الغربيين. فقد اتجه هؤلاء الباحثون الى بعض البلاد المسلمة وقاموا بتسجيل ملاحظاتهم وما يشاءون من صور لكل ممارسة غربية أو مثيرة واعتبروها ممارسة إسلامية أو هي الإسلام بعينه. وحين اتجهوا إلى ناحية أخرى من العالم المسلم مستخدمين أدواتهم الدقيقة المتقدمة في التسجيل والتصوير خرجوا بمجموعة من التقارير عن أشكال متنوعة من الممارسات التافهة واعتبروها أيضا (( الإسلام )) أو (( ممارسة إسلامية ))، ولم يكلف هؤلاء الباحثون أنفسهم عناء فهم الإسلام ككل لتمسكهم بنظرية (( حديقة الحيوان )). ونتج عن هذا أن تشكك كل باحث في حقيقة ما رآه وأصبحت الأمور كلها نسبية في نظره وعاد إلى وطنه ولديه اقتناع بأنه ليس هناك إسلام واحد بل عشرات منه متناثرة في هذا العالم. ويسير الباحث على نفس النهج فيكتب عن تعريفات كثيرة وأوصاف عديدة لمكانة النساء والدور المناط لهن في المجتمع المسلم، وكل واحدة من هذه التعريفات وتلك الأوصاف توسم بأنها (( مسلمة )) أو (( إسلامية )) حتى ولو كان بعضها في نظرنا- نحن المسلمين- تعتبر تحريفا وخروجا على مبادئها ومعتقداتنا، ويقوم بها بعضنا عن جهالة أو ضلالة.
ولذا فإن من بين الأسباب التي دعتني إلى استخدام تسمية (( القرآني )) في هذه المحاضرة تجنب الالتباس وإزالة سوء الفهم الذي يمكن أن ينتج عن هذه الأوصاف المختلفة وآمل أن أكون بذلك قد تخطيت الانتساب المحدود والخصوصية التي ارتبطت بالدراسات التي تمت في إطار من (( نظرية حديقة الحيوان ))، وانتقلت الى عرض يتم فيه تجنب مثل هذه التجزئة ويتفق من الناحية العقائدية مع تعاليم الإسلام الحقيقية، فنحن لا نرضى مطلقا بمجرد تقرير صحفي يتناول حيوانات بشرية معينة في (( حديقة الحيوانات )) وينظر إليهم من الناحية الإحصائية كمسلمين ويصف عاداتهم بأنها إسلامية، خاصة وأن هذا الأمر يتعلق بتحديد مصيرنا وإثبات وجودنا. من هنا نجد أن كلمتي (( مسلم )) و (( إسلامي )) قد أسىء تطبيقها أحيانا أما مصطلح (( القرآني )) فلم يسبق استخدامه ويشير بوضوح الى موضوع هذه المحاضرة.
وثانيها أن (( المجتمع القرآني )) يعتبر أنسب عنوان حيث أنه يوجهها إلى اكتشاف تلك المبادئ الجوهرية في القرآن ذاته والتي تشكل الإطار التحتي الذي تقوم عليه مجتمعاتنا في العالم الإسلامى. فهدفنا جمعيا هو ذلك المجتمع القائم على المبادئ القرآنية- حتى لو انحرافنا عن هذه المبادئ عن غير علم من حين لآخر. إن الانتساب إلى مجتمع يقوم على القرآن هو الغاية التي يجب أن نعمل لها جميعا إذا ما كان للشعوب المسلمة أن تتمتع بمستقبل هانئ. ولا يجب أن نعتبر هذا المجتمع متمثلا في نمط المجتمعات الموجودة في اندونيسيا أو باكستان أو المملكة العربية السعودية أو مصر أو نيجيريا على إطلاقه وإنما في مجتمع قائم على أساس ثابت من تعاليم القرآن الكريم، حينئذ فقط يمكننا أن نجد تعريفا سليما لدور المرأة في المجتمع، وحيث أن هذه التعاليم تشكل مادة هذا البحث فإن (( النساء في المجتمع القرآني )) يُعتبر أنسب عنوان لها.
وثالثها أنني رغبة باختياري لعنوان هذا البحث والواجهة التي أخذها أن أؤكد على وجوب أن ننظر إلى القرآن الكريم كنور يهدينا في كل جوانب حياتنا، فالقرآن لا يعتبر المصدر الأساسي لمعرفتنا عن المعتقدات والالتزامات والممارسات الدينية فحسب بل أيضا هو الدليل الهادي لأي مظهر من مظاهر الكيان الإسلامي والحضارة الإسلامية، سواء كان ذلك بطريقة محددة أو بصورة ضمنية، فقد كان هذا القرآن- في القرون التي شهدت المجد التليد- هو الفيصل في تحديد الإبداع الفني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي للشعوب المسلمة، ويجب أن يكون هو المعيار الذي يحدد تفكيرنا وأعمالنا بطريقة شاملة جامعة إذا ما كان لنا أن ننجح كأفراد ينتمون إلى مجتمع إسلامي يقوم في العقود القريبة وربما في القرون القادمة. فالدين ( كمفهوم ) لا يقتصر على الأعمدة الخمسة: الشهادة والصلاة والصيام والزكاة والحج، كما أنه لا يقبل المقابلة البسيطة بينه وبين المصطلح الانجليزي الدال عليه وإنما يتغلغل مغزاه في كل صغيرة وكبيرة في سلوك الإنسان ووجوه. ومن المؤكد أن هدفنا يجب أن يكون ربط كل عمل بديننا، ولا يمكننا أن نقول بذلك إلا حين نجعل القرآن الكريم يتغلغل في كيان حياتنا ويشكل الأساس في إعادة تشكيل كل مجالات هذه الحياة.
وكخطوة في هذا الاتجاه دعونا نستعرض أمامنا تعاليم القرآن بشأن هذا المجتمع الذي يجب أن نجاهد من أجل تحقيقه ونتعمن في تأثيرها على وضع المرأة. فما هي السمات الأساسية للمجتمع القرآني التي تتأثر بها النساء على وجه الخصوص؟
فيما يلي سنعرض لخمس سمات أساسية هامة وحاسمة بالنسبة للمجتمع القرآني ورغم أن ذلك سيتم في تسلسل متتابع إلا أن كل منها تقوم على الأخر وتتغلغل فيها. وهذا التداخل والتشابك بين هذه السمات الخمس يجعل من الصعب أن نتحدث عن أي منها دون ذكر الأخرى وبالطبع فلا يمكن أن تتواجد أي منها بمفردها:
أولا: المساواة بين الجنسين في المكانة والقدر:
وأول هذه السمات الخاصة بالمجتمع القرآني والتي تؤثر في النساء هي المساواة بين الجنسين في المكانة والقدرة، فالقرآن يعلمنا أن النساء والرجال هم من خلق الله تعالى أوجدهم على مستوى متساو من القدر والقيمة وإن كان هذا التساوى في القدر لا يقف إلى جانب دعوى التماثل أو التطابق بينهم. ويسوق القرآن المساواة بين الذكر والأنثى في الآيات التي تتصل بأربعة جوانب- على الأقل- من جوانب الوجود الإنساني والتعامل بين أفراده.
أ- الآمور الدينية: وقد وردت أولى هذه التأكيدات القرآنية على المساواة بين الذكر والأنثى في الآيات التي تشير إلى الأمور الدينية مثل أصل الأنسان أو الالتزامات الدينية والإنابة.
1- أصل الإنسان.. يخلو القرآن من القصص التي نجدها في العهد القديم ( التوراة ) والتي تُحط من قدر النساء فليس هناك إشارة إلى أن المرأة الأولى التي خلقها الله أقا قدراً من الرجل الأول أو أنها تابع له تشكل من أحد أعضائه. بل إننا نجد بدلا من ذلك أن الله خلق الذكر والأنثى من (( نفس واحدة )) ليكمل كل منهما الآخر، (النساء/1، الأعراف/ 189). وبينما نجد التوارة يعتبر حواء غاوية- في جنة عدن- ساعدت الشيطان في إغواء آدم على معصية الله نجد القرآن ينظر إلى أدم وحواء على قدم المساواة فيعتبرهما متساويان في المسئولية عن الخطيئة وكلاهما أصابه نفس القدر من العقاب عندما طردا من الجنة وكلاهما ناله العفو بنفس القدر عندما تابا إلى الله.
2- الالتزمات الدينية والإثابة عليها… يأمرنا القرآن- وبنفس القدر من الوضوح- بالمساواة بين الرجال والنساء وذلك في توجيهاته بالنسبة للالتزامات الدينية والإثابة فنقرأ فيه: ] إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيما [ ( الأحزاب /35 ).(1)
ب- الالتزامات الأخلاقية والإثابة عليها: ومن ناحية ثانية نجد القرآن يبين للبشرية المساواة التي يرغبون فيها بين الجنسين بإقرار التزامات أخلاقية ومردودات ثوابية واحدة للرجال والنساء ] ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا [ ( النساء/124 )، ] من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعلمون [، (النحل/97 ).(2)
فتلك الآيات الواضحات الدالة على المساواة بين الجنسين في الالتزامات الأخلاقية والمردودات الثوابية لم تكن لترد في القرآن لو أن الله سبحانه وتعالى لم يقض بأنهما على قدر متساو وفي المكانة والقيمة.
ج- التعليم: رغم أن الأوامر التي تبين الحقوق المتساوية للرجال والنساء في التعليم جاءت بصورة واضحة ومحددة في ما ورد من أحاديث إلا أننا نجد القرآن ( أيضا ) يشير- على الأقل – إلى أن طلب العلم فريضة على كل مسلم بغض النظر عن جنسه. فعلى سبيل المثال نجد فيه أوامر متكررة للقارئين أن يقرأوا، ويرتلوا، ويتفكروا، ويتعقلوا، ويتعلموا من آيات الله في الطبيعة. وفي الحقيقة فإن أول ما أنزل على الرسول محمد r أمر بتعليم الإماء، وطلب من شفاء بنت عبد الله أن تعلم حفصة بنت عمر(4). كما أن خُطب الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحضرها الرجال والنساء، ويوم مات الرسول صلى الله عليه وسلم كان هناك نساء كثيرات متفقهات في الدين وكانت زوجته عائشة مرجعا في الدراسات القرآنية والشرعية، وكان الرسول r ينصح أصحابه بتعليم الإسلام منها(5)
د- الشخصية القانونية: والدليل الرابع الذي نسوقه من القرآن ويدل على المساواة بين الرجال والنساء يكمن في تحديده للشخصية القانونية التي ترتبط بالفرد منذ مولده حتى مماته. فعلى النقيض مما يحدث في الغرب- حيث كان من المستحيل على المرأة المتزوجة حتى القرن الماضي أن تقتني ممتلكات باسمها أو أن تبرم عقودا مع آخرين أو أن تتصرف في ممتلكاتها دون موافقة زوجها(6) نجد القرآن يقرر حق المرأة في أن تتعامل في البيع والشراء وإبرام العقود والتكسب(7) وأن تدير أموالها وممتلكاتها، وأن تحتفظ بما تشاء منها. وقرر القرآن- علاوة على ذلك- حق المرأة في ميراث الأسرة؛ ( النساء/7، 11 ) وحرّم حرمانها من هذا الميراث، ( النساء/19 ) وبّين أن صداقها عند زواجها ملك خالص لها لا يحل لزوجها أن يأخذ منه شيئا، ( البقرة/ 237 )(8)
وهذه الحقوق الممنوحة للنساء والتي تضمن لهن شخصية قانونية غير قابلة للتحويل- شأنها شأن أي امتياز- تحمل معها مسئوليات مقابلة؛ فإذا ما اقترافت جريمة ما وقع عليها من العقاب نفس القدر الذي يقع على الرجل فى مثل هذه الحالة، كما يخبرنا بذلك القرآن؛ ( المائدة/ 38، النور/2 )، وإذا ما أصابها ضرر أو تعرضت لأذى فلها حقها في التعويض مثلما للرجل.(9)
وفي موضوع الطلاق- تلك الممارسة الإسلامية التي تعرضت للنقد المستمر من بين غير المسلمين- وضع القرآن أسس الحقوق المتساوية، فيقول الله سبحانه وتعالى ( في الطلاق ).. ] ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف.. [، ( البقرة/ 228 )، وما جاء بعدها من أن ]للرجال عليهن درجة [ لا تنقص ما جاء قبلها من المساواة في المكانة، وإذا كان هناك في تاريخ المسلمين ممارسة مناقضة فإنها لا تصدق على روح القرآن. وقد كانت هذه النقطة مثار مناقشة كبيرة وجدال كثير بين أنصار تحرير المرأة وأصحاب الاتجاه الإسلامي المتشدد، ومهما كان الإنفاق الذي توصلوا إليه حول المعنى المحدد والمغزى الحقيقي لمدلول (( الدرجة التي عليهن )) فإن ما سبقها يُبطل دعوى أنصار تحرير المرأة من أن القرآن يمثل نوعا من المغالاة إلى جانب الذكور والتمييز ضد المرأة.
إن الأمر الواضح حقا هو أن القرآن يوصي- بل يؤكد – أن أدلّ سمات المجتمع القرآني هي المساواة بين الرجال والنساء، ويرفض ما ذهب إليه النقاد من غير المسلمين من دعاوى بأن الإسلام يحط من قدر المرأة وما مرتبة أقل من الرجال في الدين والعقل والخلق مثلما جاء من قبل في التراث المسيحي واليهودي.
ثانيا: مجتمع ذو جنسين:
والآن ننتقل الى السمة الرئيسية الثانية للمجتمع القرآني التي تؤثر في وضع النسا، تلك التي نجدها في التوجيهات التي تشير بأن المجتمع يجب أن يتكون من جنسين لا من جنس واحد. فبينما يُقر القرآن المساواة في القدر بين الرجال والنساء فإنه لا يعني بالمساواة التطابق بين الجنسين أو المثلية المطلقة ولعلكم جميعا على دراية بالحركة المعاصرة التي تدعو إلى خلق نمط موحد للجنسين والملابس والأحذية واحدة، والحلي وتسريحات الشعر متماثلة والأنشطة ووسائل الترفيه موحدة.. حتى أصبح من الصعب الآن في أمريكا أن تفرق بين الفتى والفتاة حين النظر إليهما. وهذه الحركة إفراز للفكرة السائدة في المجتمع الغربي بأن هناك فرقا طفيفا لا يذكر بين الجنسين في قدراتهما الجسمية والعقلية والانفعالية، ومن ثم يجب ألا يكون هناك فرق بين الجنسين في قدراتهما الجسمية والعقلية والانفعالية، ومن ثم يجب ألا يكون هناك فرق بين أدوارهما ووظائفهما في المجتمع(12) وليس الملبس أو الأنشطة المعنية إلا دليلا سطحيا لهذا الاعتقاد الدفين. وقد أدت سيادة هذه الفكرة إلى مجتمع الجنس الواحد يتم فيه تحقير الخصائص المميزة لجنس النساء والأدوار التي ارتبطت بهن في التراث، وفي نفس الوقت يتم على الجانب الآخر توقير الأدوار التي يقوم بها الرجال، ويدعون فيه الى المشاركة في إكتساب الرزق وإتخاذ القرارات. ورغم أن هذه الدعوة قد استحدثت معيارا أوسع للمساواة عند النساء بدلا من المساواة بينهم وقد أدت إلى اندفاع النساء إلى تقليد الرجال واحتقار أنوثتهن فخلقت نوعا جديدا من المغالاة إلى جانب الذكور. كما أن إهمال الإلتزامات والمسئوليات التي كانت مناطة بالنساء ورفضهن لها بالتدريج أو إعطائها لهيئات حكومية أو مؤسسات تجارية مجردة من العامل الشخصي.. قد أدى إلى خلق ضغوط إجتماعية هائلة داخل المجتمع وإصابته بالتدهور.
على النقيض مما سبق نجد أن المجتمع القرآني ثنائي الجنس؛ لكل جنس فيه مسئوليات محددة تضمن توظيفا لطاقاته لصالح جميع أفراده، فجعل تقسيم العمل فيه على أساس إلقاء المسئوليات الاقتصادية بنسبة أكبر على عاتق الرجال (البقرة/ 233، 240- 241، النساء/ 34)، الأعراف/189). واعترافا من القرآن بأهمية هذا التخصيص في الأدوار والمسئوليات بين الجنسين القائم على التكامل بينهما فإنه قد خفف من عبء المطالب الاقتصادية الكثيرة على الرجال فأعطاهم نصيبا في الميراث أكبر من النساء، وفي الوقت ذاته ألزمهم بالانفاق على النساء ورعايتهن كحق لهن مقابل ما يسهمن به في الحفاظ على كيان الأسرة المادي والانفعالي ودورهن في تربية الأطفال. إن فكرة مجتمع الجنس الموحَّد قد خلقت علاقة تنافسيه بين الجنسين كما في أمريكا وأدت الى تدمير أفراد المجتمع جميعا: شبابا، أطفالا وآباء وأمهات، متزوجين وغير متزوجين، أما المجتمع ثنائي الجنس- فعلى النقيض من ذلك- نجده يقوم على العلاقة الطبيعية بين الجنسين فيشجع التعاون بدلا من المناقشة بينهما وقد ظهر في مجتمعات لا تحصى على مرار التاريخ وأعطى صورة ملائمة للعلاقة بينهما، فلم تنشأ فكرة التشابه بين الجنسين ولم تسد فكرة التطابق بينهما إلا في العصر الحديث حيث بدأت أساسا في المجتمعات الغربية، التي أخفت البحوث فيه الأدلة على الفروق بين الجنسين في النواحي الجسمية والفعلية والانفعالية والتي توصلوا إليها في البحوث الطبية، لأن هذه الأدلة تهدم فكرة المطابقة بين الجنسين التي سادت في هذه المجتمعات، ولا نعرف إلى متى سوف تستمر هذه الفكرة الهدامة قبل أن تقرأ هذه المجتمعات بإفلاسها وعلينا نحن المسلمين أن نعي مخاطر هذه الفكرة وما تجره من مشكلات وما يحيط بها من نقائص وتنشر الوعي بأخطارها بين مجتمعاتنا وشبابنا.
ويستنكر مجتمع الجنس الواحد التنظيم الإنساني القائم على الثنائية الجنسية بإعتباره خطرا على كيان المرأة وتلك هي النتيجة المتوقعة إذا ما قصدنا بالثنائية الجنسية تفوق جنس على آخر ولكن هذا الأمر غير ممكن في المجتمع القرآني الذي نصبو إليه جميعا. فكما رأينا ذكر أن القرآن يتحدث بوضوح عن المكانة المتساوية للرجل والمرأة في نفس الوقت يعترف فيه بالفروق المرتبطة بطبيعتهما ووظيفتهما. وهكذا فإن القرآن حين يقر المساواة بين الرجال والنساء في الأمور القانونية والفكرية والأخلاقية والدينية لا يعتبر الجنسين متطابقين أو متماثلين، ويدعم هذا الموقف بتحديد المسئوليات المختلفة لكل منهما متبوعة بمواد تحدد نظام الإرث والانفاق المرتبط بهذه المسئوليات.
ثالثا: الاعتمادية المتبادلة بين أفراد المجتمع:
السمة الثالثة للمجتمع القرآني التي تؤثر في وضع المرأة تأثيرا قويا تتمثل في التأكيد على الاعتمادية المتبادلة بين أفراد المجتمع. فعلى النقيض من الاتجاه المعاصر الذي يؤكد حقوق الفرد على حساب حقوق الجماعة الأكبر، نجد القرآن يؤكد باستمرار تبادل الاعتماد بين الرجل والمرأة مثلما يؤكده لكل أفراد المجتمع. فعلى سبيل المثال نجده يصف الزوج والزوجة بأن كل منهما (( لباس )) للآخر، ( البقرة/ 187) وأن كل منهما سكن للآخر ( الأحزاب/ 21، الأعراف/ 189)، وتأتي توجيهاته للرجال والنساء بأن يتكاملا ولا يتنافسا وأنهم أولياء بعض، (التوبة/ 71)، وأن على كل منهما مسئوليات محددة مبينة يؤديها من أجل صالح الآخر وصالح الجماعة الأكبر.
ولضمان هذه الاعتمادية المتبادلة والتي تعتبر ضرورية جداً لسلامة البناء النفسي والمادي للرجال والنساء على السواء أوضح الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم الواجبات والالتزامات المتبادلة لأفراد الأسرة رجالاً ونساءً، آباءً وأمهات، صغاراً وكباراً، وذوي القربي من كافة الدرجات ( الاسراء/23- 26، النساء/1، الأنفال/ 41، النحل/ 90…الخ ). إن الاهتمام بأمر أفراد المجتمع الآخرين واجب على المسلم لا يقل عن أي واجب آخر. ] .. ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربي واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب [ ( البقرة/177).
والقرآن بذلك يغرس في قلب المسلم إحساسا بالمكان الذي يشغله في المجتمع وبالمسئولية التي يحملها تجاه جماعته ولا يرى الفرد في ذلك أو يستشعر فيه كبتا له. بل أن المسلم يجد التشجيع المستمر من خلال تبادله الأعباء تلك فيما يخبره من فوائد تعود عليه. فالمزايا النفسية والاجتماعية والاقتصادية لهذه العلاقات الوثيقة والاهتمامات المتعديه داخل الجماعة تهيئ للفرد مجالا واسعا للوفاء والعوض حين يتمكن من إعلاء رغباته الفردية. إن ما نراه في المجتمع الغربي من غياب الاعتمادية المتبادلة وسيادة سياسة اغفال الآخرين قد أدت إلى مشكلات خطيرة تتمثل فيما يعانيه الأفراد من وحدة، وما يتعرض له المسنون من إهمال، والفجوة بين الأجيال وارتفاع معدلات الانتحار وجرائم الأحداث، تلك كلها يمكن إرجاعها إلى الأنهيار المتزايد للنسق التبادلي في الاعتماد وإنكار الفردية الإنسانية للرعاية المتبادلة والمسئوليات المشتركة بين أفراد المجتمع.
رابعا: الأسرة الممتدة:
تأتي السمة الرابعة الرئيسية للمجتمع القرآني والتي تؤثر تأثيراً جليا في النساء وفي العلاقة بينهن وبين الرجال، هذه التسمية التي تتداخل مع السمة السابقة- الاعتمادية المتبادلة- وتشكل معها خيطا واحدا هي الأسرة الممتدة كمؤسسة اجتماعية. فالعائلة الإسلامية تشمل إلى جانب أفراد الأسرة العددية- ( الأب والأم وأولادهما ) الجد والجدة، والأعمام والأخوال، والعمات والخالات، وكل ذرياتهم. وعادة ما تكون العائلات المسلمة مترابطة في مجال الإقامة أي أن أفرادها يعيشون بصورة جماعية في مبنى واحد أو مجمع يحوي ثلاثة أجيال أو أكثر من الأرقارب، حتى في حالة عدم إمكان تحقيق هذا النوع من الترابط في مجال الإقامة- أو الرغبة في التخلي عنه- فإن الصلة العائلية التي تتخطى حدود الأسرة النووية تظهر واضحة قوة الروابط النفسية والاجتماعية والاقتصادية بل والسياسية بين أفرادها.
وقد أوصى القرآن الكريم بالتضامن بين أفراد الأسرة الممتدة وشدد عليه فنجد الإشارات المتكررة إلى حقوق ذوي القربي ( الإسراء/23- 26، النساء/ 7-9، الأنفال/ 41، النور/22،.. الخ) وإلى أهمية معاملتهم بالرفق ( البقرة/83، النحل/90،…الخ) كما أن تقسيم الإرث لم يقتصر على أعضاء الأسرة النووية بل امتد ليشمل أنصبة محددة لأفراد الأسرة المتحدة ( البقرة/180- 182، النساء/33، 176) وحذر أولئك الذين يحيدون عن هذه الحدود الؤدية إلى التماسك الأسري وأنذرهم بعذاب أليم، (النساء/7- 12) وهكذا فإن الأسرة الممتدة التي نجدها في الثقافة الإسلامية ليست مجرد إفراز من إفرازات النمو الاجتماعي وإنما موسسة أقامتها كلمة الله جل جلال ودعمتها النصائح والقواعد الفرآنية. وتعتبر الأسرة المتحدة مؤسسة ذات عطاء واف من المكاسب للنساء والرجال عندما تقوم داخل المجتمع القرآني متضامنة مع السمات الأخرى الرئيسية:
(1) فهي تقف حائلا دون ما قد يبدو من أي طرف من أنانية أو انجراف فإذا ما حاد الفرد عن الصراط لم يواجه شريكا واحدا وإنما عائلة بأسرها فيها الانداد والكبار والصغار.
(2) وهي تسمح للنساء بالعمل دون جلب المضرة إلى أنفسهن أو أزواجهن أو أطفالهن أو من يرعين من الكبار، فلا يخلو البيت من الآخرين القادرين على تقديم المساعدة للزوجة أو الأم العاملة، والنساء العاملات اللاتي ينتمين إلى أسرة متحدة مسلمة لا يقاسين من معانات بدنية أو انفعالية نتيجة ما ألقى على عاتقهن من عمل زائد كما لا ينشأ لديهن شعور بالذنب تجاه إهمالهن لما عليهن من مسئوليات أمومية أو زوجية أو أسرية. وواقع الأمر أنه من المستحيل أن نتخيل حلا مناسبا للمشكلات التي تواجه المجتمع الغربي بدون هذا النمط من المؤسسات الأسرية، فالأسرة النووية غير قادرة على إشباع حاجات أعضائها في وقت يتزايد فيه التحاق النساء بالقوة العاملة. ناهيك عن الصعوبات التي تواجه الأسرة التي فقدت أحد الزوجين فتلك الصعوبات تتضاعف مائة ضعف. إن الضغوط التي أدى أليها هذا النسق من الأسر النووية على المرأة العاملة ضغوط مدمرة للفرد وللروابط الزوجية والأسرية كما أن التفسخ الأسرى الناتج عنه والآثار الاجتماعية والنفسية المتشبعة لازدياد معدل الطلاق في أمريكا والدول الغربية أصبحت مثار الاهتمام المتزايد للأطباء والمحامين والمعالجين النفسيين وعلماء الاجتماع.. أضف إليهم بالطبع تعساء الحظ ضحايا تلك الظواهر.
(3) إن الأسرة المتحدة تكفل تنشئة اجتماعية سلمية للأطفال، فبينما نجد نصيحة الأب أو الأم في الأسرة النووية أو الأسرة التي فقدت أحد الزوجين صعبة التحقيق مع طفل عنيد أو صعب المراس، نجدها في الأسرة المتحدة القوية مصحوبة بالتأكيد من جانب أفرادها مشتركين مما يجعلها فعالة في مواقف العناد أو العصيان.
(4) وتهيئ الأسرة المتحدة فرصة التنوع النفسي والاجتماعي في الرفقة للكبار وللصغار على حد سواء. فحيث يتضاءل الاعتماد القائم على العلاقة بين فردين متقابلين تتضاءل معه المتطلبات الانفعالية الواجبة على كل فرد فيها. كما أن اختلاف وجهات النظر أو المصادمات التي يمكن أن تحدث بين الكبار والصغار أو بين الأشخاص الذين ينتمون إلى أجيال مختلفة لا يرقى إلى احداث الأثر المدمر الذي يمكن أن يحدثه في الأسرة النووية فهناك دائما أفراد آخرين من الأسرة يقومون بتخفيف حدة الألم وتقديم البلسم الشافي في صورة إرشاد نفسي وتآذر. بل ان رابطة الزواج ذاتها لا تتعرض لما تتعرض له في الأسرة النووية من أشكال التوتر الحادة حين لا يتوفر فرد آخر من الراشدين يقوم بإشباع الحاجات الاجتماعية والفكرية والمادية والانفعالية التي قد تنشآ عند أحد الزوجين.
(5) وتقف الأسرة المتحدة أو هذا النمط من العائلة حائلا دون تكون الفجوة بين الأجيال، تلك المشكلة الاجتماعية التي تنشأ عندما تتقوقع كل مجموعة عمرية منعزلة عن باقي الأجيال وتجد صعوبة في تحقيق التفاعل الناجح المجدي مع المستويات العمرية الأخرى، فنجد ثلاثة أجيال أو أكثر تعيش سويا وتتفاعل باستمرار مع بعضها لبعض داخل العائلة الكبيرة مما يهيئ للأطفال خيرات تربوية نافعة وتنشئة اجتماعية سلمية ويمنح أفراد الجيل الأكبر سنا ما يحتاجونه من شعور بالأمن وإحساس بجدواهم.
كما يستأصل هذا النمط العائلي مشكلات الوحدة التي تطحن قاطني المراكز السكنية في المدن في المجتمعات المعاصرة الذين يعانون من العزلة وعدم الانتماء. فلن تقاسي المرأة العزباء أو الأرملة بوجودها في الأسرة المتحدة المسلمة.. لن تقاسي من المشكلات التي تواجه مثل هذه المرأة في المجتمعات الأمريكية المعاصرة. وفي المجتمع القرآني تنتفي الحاجة الى المؤسسات التجارية التي تقوم بالتوفيق بين المخطوبين باستخدام الحاسبات الآلية، أو إلى حانات أو نوادي العزاب أو بيوت للمسنين أو قرى خاصة يتقاعد اليها كبار السن أو يعيشون فيها حياة منعزلة، ففي الأسرة المتحدة نجد دائما من يعتني بحاجات الفرد النفسية والاجتماعية رجلا كان أو امرأة.
وكلما ضعفت رابطة الزواج وزادت وهناً كانت النساء هن أولى الضحايا لذلك فهن أقل من الرجال قدرة على الزواج مرة أخرى أو إيجاد روابط بديلة وهن أكثر عرضة للضغوط النفسية المدمرة لهذه الكوارث.
(7) توفر الأسرة المتحدة مناخا انسانيا تسهل فيه المشاركة في رعاية المسنين، ففي الأسرة النووية قد يقع عبء رعاية والدي الزوجة (أو أحدهما ) أو الزوج على عاتق فرد واحد وعادة ما تكون الأم هي التي تتحمل هذا العبء وحدها. فعليها أن تنهض بأعباء الرعاية البدنية والانفعالية لهؤلاء الكبار كما يلقي عليها حملا ثقيلا علاوة على ما لديها من واجبات تجاه زوجها وأولادها وقد يفوق قدرتها إذا ما كانت من الأمهات العاملات فيلجأون إلى وضع أولئك الكبار في بيت للمسنين انتظار لأجلهم المحتوم. ولكن المناخ الذي تهيؤه الأسرة المتحدة بما فيه من فرص المشاركة في المسئوليات والواجبات يضع عن كاهل المرأة غالبية هذا العبء.
خامسا قوامه الأب في الأسرة:
السمة الخامسة للمجتمع القرآني هي أن القوامة فيه للألب. فالقرآن يدعو إلى مجتمع تكون فيه مهمة القيادة المطلقة ومهمة إصدار القرار في الأسرة موكلة للرجال وهو أمر يتعارض مع أهداف حركة تحرير النساء. أي أن مجتمع يتشكل من تنظيمات بشرية صغيرة- مثل الحكومات والأحزاب السياسية والمنظمات الدينية والمشروعات التجارية والأسر المتحدة…الخ. وكل واحدة من هذه التشكلات العضوية عليها أن تتميز بالاستقرار والتماسك والقدرة على التحرك في براعة اذا ما هدفت إلى فائدة اعضائها ولكي تتحقق هذه الميزات فإن المنظمة تقوم بتكليف أحد أفرادها أو جماعة ما من بين كوادرها بتحمل المسئولية الكاملة ولذا نجد أن المواطنين قد يدلون بأصواتهم والبرلمان قد يقوم بالتشريع والشرطة قد تنفذ القوانين ولكن رئيس الدولة هو في النهاية الذي يتحمل عبء اتخاذ القرارات الرئيسية بالنسبة للأمة وعليه مسئولية قبولها وما قد يجره ذلك. وعلى نفس المنوال فإن العمل في المصنع يقوم به أفراد كثيرون ولكنهم جميعا ليسوا على قدم المساواة في استطاعتهم اتخاذ قرارات نهائية بالنسبة للشركة كما أن هؤلاء الموظفين لا يتحملون نفس القدر من المسئوليات تجاه ما يترتب عليها من نجاح أو فشل. والأسرة بحاجة إلى فرد يحمل عن الجميع عبء المسئولية الكاملة وتلك أو كلها القرآن إلى أكبر أفراد الأسرة سنا من الذكور. وقد جاء هذا التكليف بالسلطة والمسئولية للرجال في بيان ] للرجال عليهن درجة [ (البقرة/228) وقد سبقت الأشارة إليها في بيان الشخصية القانونية للمرأة: الفقرة الأخيرة، والرجال قوامون على النساء.. (النساء/34) ولا تعني هذه الآيات- كما يسئ أعداء القرآن بيانها- أن النساء خاضعات للرجال على أساس من دكتاتورية جنس على آخر، فمثل ذلك التأويل يظهر تجاهلا يتسم بالفجاجة والسماجة لما ينادي به القرآن مرارا وتكرارا بالمساواة بين الجنسين (انظر ما ورد بهذا الخصوص في القسم المعنون أولا ) وما أوصى به من احترام النساء وبذل الرحمة لهن. إنما تشير هذه الآيات إلى وسيلة نتجنب بها التمزق والانشقاق الداخلي من أجل صالح كافة أعضاء الأسرة إنها دعوة إلى مجتمع تكون فيه القوامة للأب. ويجب علينا علاوة على ذلك- أن نلفت الانتباه إلى استخدام كلمة (( قوامون )) كما وردت في الآية.
فـ (( قوامون )) اسم فعل من الفعل (( قوم )) وهو لا يعني هذا الفعل دكتاتورية استبدادية وإنما يشير إلى الفرد الذي يقوم من أجل فرد آخر يحميه ويرعاه. ولو كان المقصود فيها دون السيطرة والتحكم من نصف المجتمع من الرجال لاستخدمنا مشتقات أخرى وهي كثيرة مثل (( مسيطرون )) أو (( مهيمنون )).ونجد مصداق هذا التفسير لكلمة (( قوامون )) في استخدامات أخرى وردت في القرآن حيث يأخذ معنى الولاية وارعاية تبعد عن السيطرة والاستعداد. ( انظر الآيات النساء/127، 135، المائدة/8 ولذا فإن تأويل هذه الآية محرفا عن ذلك يعتبربعيدا عن الاتساق الفكري كما ينقصه التعزيز اللغوي. لماذا يحدد القرآن الولاية في العائلة ويسندها إلى الرجال بدلا من النساء؟ يجيبنا القرآن على ذلك ] بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم [ ( النساء/34) أي أن التكليف بالمسئولية والبذل الاقتصادي والبدني هي مسوغات اسناد القوامة للرجال- بدلا من النساء- في المجتمع، وتلك التكاليف كانت على مر التاريخ، وما زالت بصفة عامة مرتبطة بالرجال لعدم استطاعتهم القيام بتكليف الحمل والتربية.
فمنحهم الله سبحانه وتعالى القدرات التي تمكنهم من القيام بالولاية والانفاق على أفراد الأسرة الآخرين، إنها حقيقة من حقائق الطبيعة البيولوجية للانسان سواء قبلها معاصرونا أو أنكروها.
بدأ بعض الغربيين- عندما واجهتهم مشكلات المجتمع المعاصر- فى التساؤل: أين نذهب في طلب العون؟ ماذا نفعل في مواجهة التفسخ الحالي؟ انه وقت يسود فيه احساس باليأس كما يسود فيه التقصي والبحث ونحن نرى المجتمع الغربي يترنح تحت الضربات المتزايدة المنتظمة من التفسخ المجتمعي والاختلال الشخصي.
ماذا يمكننا نحن المسلمون أن نقدم من عون؟ بادئا ذي بدء يجب علينا أن نبني المجتمعات القرآنية الحقة في كافة أنحاء العالم المسلم فبدونها لا يمكننا أن نقيم كل ما يؤمن تفاعلا بين الرجال والنساء في المجتمع يتميز بقابليته للتطبيق وخضوعه لمبادئ العزل والانصات. علاوة على ذلك فلا يمكننا أن نأمل في غرس الاحترام والولاء لمجتمعاتنا- والمؤسسات التي بها- عند الأجيال القادمة إذا ما كانت المجتمعات الشبه اسلامية هي كل ما يمكن أن نقيمه أن نحافظ عليه، فالاجراءات أو المؤسسات شبه الإسلامية هي في الواقع مضادة للإسلام حيث أنها تقدم نموذجا لا يمكن احترامه ثم تلصقه بالإسلام. ويؤدي هذا الأمر الى افتعال خاطئ لوزر تلك المؤسسات الخاطئة فتلتصق بدين الإسلام ذاته، وذلك في عقول كثير من المسلمين وغير المسلمين على حد سواء.
يجب علينا أن نلقن إخواننا في الغد- أهمية تعاليم القرآن بالنسبة للنساء والأسرة والمجتمع وقابلية هذه التعاليم للتطبيق. فرغم فشل الأنماط الاجتماعية الغربية المعاصرة في تقديم البديل إلا أن بعض المسلمين يلهثون وراء النمط الغربي في التساوي بين الجنسين وأفكاره حول الجنس الموحد ونماذج السلوك المصاحبة وسموم التفرد والتحرر الشخصي من المسئولية ونسق الأسرة النووية يجب علينا أن نكون يقظين في مواجهة الأخطار التي تصاحب هذه الأفكار والممارسات الاجتماعية وإذا لم ندرك نتائجها إدراكا جيدا ونقاومها بعنف فهناك مستقبل تعيس ينتظرنا لأن هذه التجارب الاجتماعية يتم تقليدها بغير بصيرة وتنتهي بالفشل.
ولكن ذلك في حد ذاته لا يشكل ردا سليما كافيا بالنسبة لنا كمسلمين فنحن خلفاء الله على الأرض ( البقرة/30 ) ومن واجبنا أن نهتم بأمر العالم كله وبمخلوقاته كافة ان أمر الله لنا بنشر دينه في كل ركن من أركان الدنيا يجعل من الواجب علينا ألا نبخل بخير نعرفه أو نصيحة نعلمها على الآخرين. لقد جاء الوقت الذي يقوم فيه الإسلام والمسلمون بتقديم حلولهم لمشكلات المجتمع المعاصر للمسلمين وغير المسلمين على السواء. وذلك يمكن- بل يجب- أن يتم من خلال المثال الحي للمجتمعات القرآنية الحقة حيث يتم حل مشكلات الرجال والنساء كما يجب أن تتم أيضا من خلال الكتابات والمناقشات التعليمية يقوم بها دارسونا وتوضع في متناول المسلمين وغير المسلمين على حد سواء.
ليس هناك وسيلة أفضل من ذلك لتأدية واجب الله علينا ولخدمة البشر أجمعين وليس هناك دعوة أفضل من تقديم يد المساعدات لضحايا المجتمع المعاصر في نضالهم.
الحواشي
(1) ] وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هى حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم [ (التوية/68).
(2) انظر أيضا الآيات 67،72 من سورة التوبة.
(3) عن حديث للرسول r ، انظر أيضا كتاب محمد عزت دروزة المرأة في القرآن والسنة: بيروت- المكتبة العصرية، 1980، ص ص44، 47،51.
(4) محمد فؤاد عبد الباقي: اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان: بيروت، دار الكتاب الجديد 1970، ﺠ1، ص ص30-31.
(5) حاجي فيصل بن حاجي عثمان: النساء ونباء الأمة: تحليل معاصر ومنظم لمشكلة المرأة في المجتمع المعاصر في مالاي. رسالة دكتوراه للمناقشة مقدمة لجامعة تمبل ص85. باللغة الانجليزية Women and Nation Building: Syalenatic and Contemporary Malay Muslim Society.
(6) محمد خيرت: مركز المرأة في الإسلام: القاهرة، دار المعارف، 1975، ص108.
(7) Monrod G.Raulse, Women, Legal Rights of Encyclopedia Americana Danbury, Con.: American Cop., 1980, Vol. 24, pp 108- 109.
(8) ] … للرجال نصيب مما إكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن…[ ( النساء/32)
(9) انظر مصطفى السباعي: المرأة بين الفقه والقانون:حلب: المكتبة العربية: 1976: ص38، محمد عزت دروزة الدستور القرآني في شئون الحياة: القاهرة: عيسى البابي الحلبي، بدون تاريخ: ص78.
(10) ] يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما ءاتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا [ ( النساء/19).
(11) See Infra, basic characteristic ll,pp.17 ff.
(12) كتبت كارولين بيرد- في وصفها لحركة تحرير النساء في أميركا- تقول: (( إنهم يلجأون إلى محو فكرة وجود فروق جوهرية فطرية بين طبيعة الذكور وطبيعة الإناث وهي الفكرة التي تبرز عادة لتأكيد هذه الأعراف ( مثل الزواج، الأسرة، العلاقات بين الجنسين،.. الخ) ( (( تحرير المرأة )) دائرة المعارف الأمريكية مجلد 29ص111آ ( Encyclopedia Americana- 29-P111a )
(13) في عام 1979، أشار الاحصاء العام في الولايات المتحدة إلى وجود 1181000 حالة طلاق مقابل 2331000 حالة زواج طبقا لما نشر في تقويم 1983. وتتزايد نسبة حالات الطلاق كل عام بمعدل ملحوظ.