(1)
إعجاز القرآن الكريم، وثيق الصلة بالتقدم العلمي، بكافة أنواعه وسائر آفاقه، وكل أحواله.
وأقرب لمحة لبيان هذه الحقيقة، تجدها في نظم القرآن وترتيب آياته.
فنظم القرآن وترتيب آياته هو أهم حقائق إعجازه
والترتيب هو أعم حقائق العلوم كلها، وأكثرها ارتباطا بسائر المعارف الإنسانية.
فنحن لا نستطيع معرفة حقيقة علمية، إلا إذا رتبناها بين غيرها من الحقائق، ورددنا كل جزء من أجزائها إلى أصوله العامة التي تنتمي إليها.
وسنرى أن كل كلمة من كلمات القرآن، ترتبط بترتيب عام، حين نجدها متصلة بموضعها من آية قرآنية بذاتها، بينما هي ترتبط كذلك بترتيب تفصيلي، حين نتدبرها بمواضعها المتفرقة في ثنايا العديد من الآيات والسور.
وسنرى في الوقت نفسه، أن هذا النظم القرآني المعجز، يحمل معه منهج الترتيب في السموات والأرض وما بينهما فأنت لا تقع عيناك على مشهد من مشاهد الكون والحياة، إلا أعطاك ترتيبا، عاما، من حيث ارتباط أجزائه له ترتيبه التفصيلي، الذي يربطه بمواضع تنوعه وتكاثره، على تفرق هذه المواضع، وامتدادها في الزمان والمكان.
بل إننا سنجد – مع ذلك – أن السنة النبوية بكل مكوناتها من أقوال النبي وأعماله وإقراراته، منسجمة مع هذا النظم القرآني، كما يقول الشاطبي في الموافقات «ترك القرآن موضعا للسنة، وتركت السنة موضعا للقرآن(1)».
ولقد تنوعت بحوث الرواد الأوائل في نظم القرآن، فمنهم من تكلم عن الحروف في اجتماعها وتفرقها، ومنهم من تكلم عن الكلمات، ومنهم من تكلم عن الجمل، وقليل منهم ربط بين هذه التراكيب وبين السنن النبوية، والسنن الكونية (2).
ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد علم صحابته الأبرار، الفرق الواضح بين ترتيب آيات القرآن، وبين فهم معانيها والعمل بمضامينها، حيث لم يكونوا ينتقلون من آية إلى غيرها، حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل.
فحيثما نزلت آيات القرآن متفرقة، كان لنزولها ترتيب موافق لبناء الحياة الإسلامية، بكافة مقوماتها، السياسية والاقتصادية، والعسكرية والاجتماعية والعملية، وغير ذلك.
ثم جاء بعد ذلك، ترتيب الجمع الذي يقول عنه الله تعالى «إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه»
17 – 18 : القيامة
كما اقترن بذلك ترتيب السنة في اتباعها للقرآن، وعملها بمقتضاه، كما يقول الله تعالى «ثم إن علينا بيانه» «كلا بل تحبون العاجلة» «وتذرون الآخرة»
19 – 20 – 21 : القيامة
فاتباع النبي للقرآن، فيه اتباع لترتيبه من جهة، واتباع لمعانيه، من جهة أخرى، وتحويل هذين معا إلى بناء علمي وعملي جامع، له حركة ممتدة من الدنيا إلى الآخرة، كما رأينا في هذه الآيات السابقة.
ولقد جعل الله للسنة نصيبها الأوفى في تريب آيات القرآن في سورها، ثم ترتيب السور على النحو الذي عمل الصحابة بمقتضاه، حين جمعوا القرآن في المصحف.
ففي حديث عثمان بن أبي العاص قال: «كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ شخص بصره، ثم صوبه، ثم قال : أتاني جبريل آنفا فأمرني أن أضع هذه الآية، بهذا الموضع، من هذه السورة. (3) (4)»
«إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإتاء ذي القربى»
90 : النحل
فهذا كله، مما يبين عمق ارتباط السنة بتركيب القرآن وترتيبه، على هذا النحو الذي يقوم إعجازه، على الوصل بين الجوانب اللغوية والكمية، في حقيقة واحدة جامعة.
فالجانب اللغوي يقوم على التحكم في الوصل والفصل، لكل ما في القرآن من حروف وكلمات وجمل، وهي كل مكونات الكلام، ويقابلها تكوين المجتمع من أفراده، والأفراد من أجزائها، في آيات الله الكونية.
والجانب الكمي، يقوم على تقدير عدد المواضع التي تخص كل حرف أو كلمة أو جملة في ارتباطه بآية، أو تفرقة بمواضع متعددة في الآيات والسور.
والسنن الكونية، وثيقة الصلة بهذا الترابط، بين الحقائق الوصفية والحقائق الكمية، فكل شيء عند الله تعالى بمقدار، وعلى التقدير الكمي، تظهر لنا صفات كل شيء، وتتجلى حقائقه العلمية، ومنافعه العملية.
السبع المثاني مفاتيح كل العلوم
والذي يواصل التدبر لهذا النظم القرآني، يجده يقوم على سبعة من التراكيب، هي أساس السبع المثاني، كما جاء ذكرها في القرآن والسنة.
وهذا بيانها على سبيل الإجمال.
ثم يأتي في نهاية هذا البحث، بعون الله، شرح مجالات تأثيرها العلمي والعملي، في كل العلوم، وسائر أنواع الحقائق.
- الآية القرآنية في الموضع الواحد
مثل قوله تعالى : «إياك نعبد وإياك نستعين» 5: الفاتحة
وقوله : «ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين»2 : البقرة
- الآية القرآنية في المواضع المتعددة
مثل قوله تعالى : «فبأي آلاء ربكما تكذبان» سورة الرحمن
- الجملة القرآنية في المواضع المتعددة
مثل قوله تعالى 1- «أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً» 82 : النساء
وقوله 2- «أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها» 24 : محمد
- الكلمة القرآنية في الموضع الواحد مثل قوله تعالى : «فمنهم شقي وسعيد» 105 : هود
فقد جاءت كلمة (شقي) بموضع واحد في القرآن كله، ومثلها كلمة (سعيد) وسنرى (بعد ذلك) أن تعدد المواضع أو تفردها، له شأن العظم في نظم آيات الله القرآنية، ثم نظم آيات الله الكونية.
- الكلمة القرآنية في المواضع المتعددة
مثل قوله تعالى : «ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم» 87 : الحجر
وقوله : «وبنينا فرقكم سبعا شدادا»
12 : النبأ
فكلمة (سبعا) كلمة واحدة من حيث نصها، ولكن لها ارتباطها بمشهد جديد، مع كل موضع من موضعيها.
- الحرف القرآني في الموضع الواحد
مثل حرف الصاد بقوله تعالى : «ق والقرآن المجيد»
1 : ق
وقوله تعالى : «ن والقلم وما يسطرون» 1 : القلم
وستأتي تفصيلات كثيرة، فيما يخص هذه الحروف، في ثنايا هذا البحث.
- الحرف القرآني في المواضع المتعددة
مثل واو العطف بالآيات الأوائل، من سورة (ص) وسورة (ق) وسورة القلم.
هذه هي التراكيب السبعة التي يظهر معها نظم القرآن الكريم.
وستجد مع مواصلة قراءتنا لهذا البحث، أن كل ما في القرآن من جملة على مستوى آية أو أقل من آية، أو كلمة، أو حرف، لها في تعدد مواضعها أو تفردها، حكمة بالغة، تنطوي على كل قوانين البحث العلمي، في آيات الله الكونية وتراكيبها وتراتيب أجزائها.
ونخص بالذكر هنا ثلاث قواعد أساسية، أولها: ثبات المكونات الأساسية، في نصوص القرآن كما سبق بيانها، ثم ثبات المكونات الأساسية لآيات الله الكونية، سواء نظرنا إلى المجتمعات وكيف تتكون من أفرادها، أو نظرنا إلى الأفراد وكيف تتكون من أفرادها، أو نظرنا إلى الأفراد وكيف يتكون كل نوع منها من أجزائه.
والمقصود بالثبات، نفي التبديل والتغيير.
وثانيهما: اقتران الحركة لأي نص قرآني، يتجدد المشاهد، وزيادة وجوه العلم، على قدر عدد المواضع.
وكذلك الشأن في كل نوع من أنواع آيات الله الكونية، فالماء واحد من حيث ثباته على نوعه وتركيبه، وترتيب مكوناته، ولكنه في تجمعه وتفرقه، تتجدد منافعه وتزداد، على قدر مواضع حركته في آفاق الوجود.
وثالثها: ترتيب أي نص قرآني، من حيث توالي حركته، في مواضعه على قدر تعددها.
وكذلك نجد أنواع الخلق يتوسط بعضها بعضا، ويتفرق بعضها في ثنايا بعض، ولكل نوع منها مع ذلك، ترتيب وجوده الذاتي، كما يتوالى في الزمان والمكان(5).
ثم أن هذه التراكيب السبعة، لها دليلها النقلي، في القرآن والسننة.
يقول الله تعالى : «ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم» 87 : الحجر ويقول سبحانه:
«الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني» 23 : الزمر
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول : السبع المثاني، فاتحة الكتاب (6).
وأخرج بن جرير عن ابن عباس أنه قال : المثاني ما ثنى من القرآن (6) ألم تسمع لقول الله «الله أنزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني» 23 : الزمر
وأخرج بن جرير عن الضحاك أنه قال : المثاني القرآن يذكر القصة الواحدة مرارا (7).
إننا حين ننظر إلى الموضعين القرآنين، اللذين جاءت فيهما كلمة «المثاني» وكلمة «المثاني»، نجد كل موضع منهما قد وصلنا في سياقه، بحقيقة خاصة به.
فسورة الحجر أشارت بطريقة مجملة، إلى أن فاتحة الكتاب هي «السبع المثاني»، وهكذا ارتبط الحديث النبوي الذي مر بنا آنفا، بهذه الحقيقة القرآنية المجملة، ففسرها بما يؤكد أن الفاتحة، هي السبع المثاني أما الآية التي جاءت بها كلمة (مثاني) في سورة الزمر، فقد وصلتنا بحقيقة جديدة، هي أن المواضع المتعددة، لكل آية وأجزائها في القرآن، تتشابه علينا، ولكنها لا تتكر هذا التكرار الجامد الذي نعهده في كلامنا البشري، بل عي تتجدد معها تراكيب النص الواحد وتراتيبه، بحيث يتسلسل بها ترتيب تفصيلي يخصها ويصلها بألوان من العلم، بعدد مواضعها في القرآن كله.
وقد أكدت السنة المطهرة هذه الحقيقة، التي يجدها في القرآن، كله من تدبره تدبيرا، عمليا، حيث أشار ابن عباس، إلى أن المثاني، هي ما ثنى من القرآن، أي ما تعددت مواضعه، ثم استشهد بآية سورة الزمر.
فهناك تنوع مترابط لبيان الحقيقة الواحدة، حين نجدها في القرآن، ثم في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم في كلام صحابي مثل ابن عباس، ثم يتصل هذا التنوع، حتى نجد الضحاك يبين لنا أن المثاني هي القصة الواحدة، يذكرها القرآن مراراً.
إن هذا التأير العلمي القرآني المتجدد، يحمل الحقيقة الواحدة، فيضعها في مواضع متوالية من المكان والزمان، والرؤى والمشاهد، والمجتمعات والأفراد، فإذا الحقيقة في داتها لها شأنها، وإذ حركتها وتفاعلها العلمي، بالمجالات المناسبة لذلك، زيادات لها حسابها ولها تقديرها، ولها دورها البناء في الحياة الإسلامية إلى أن تقوم الساعة، فيسعد المتبعون للقرآن، ويشقى المخالفون له (8) (9).
من هنا كان علينا، أن ننظر في نصوص القرآن في ذاتها، ثم ننظر في نصوص القرآن من حيث ارتباطها بمواضعها المتعددة في القرآن كله، لنتلقى هذا الدور القرآني، العملي، فنتعلم كيف نبحث في الحقائق الذاتية لكل أشياء الوجود من الذرة إلى المجرة، وكيف نعرف كل شيء في ذاته، ثم نعرفه في ارتباطه بغيره، حيث تتنوع التراكيب والتراتيب، والنتائج التي تحققها هذه الحركة الدائبة، في هذه المخلوقات الكثيرة، التي أبدعها الله رب العالمين (10).
والفوائد التي نحصل عليها من هذه الحقائق، التي يدور عليها هذا البحث فوائد كثيرة، أهما ترسيخ عقيدة التوحيد، وبيانها للعقول والقلوب، المتعطشة إليها في العالم كله.
ويكفي أن ننظر في كلام عالم الفسيولوجيا والكيمياء الحيوية الأمريكي، وولتر أوسكار لندبرج ح. حيث يقول : «في جميع المنظمات الدينية المسيحية، تبذل المحاولات لجعل الناس يعتقدون منذ طفولتهم في إله هو على صورة إنسان» ويواصل هذا العالم كلامه، فيبين أن تركيب الكون المادي الذي نعيش فيه وترتيب أجزائه، يشهد بوجود إله واحد لا شريك له. (11)
ثم إن عالم الرياضيات والفيزياء إيرل تشستر ريكس يقول : إن الظواهر العديدة التي تدل على وحدة الغرض، في هذا الكون، وتشير إلى نشأته والسيطرة عليه، تبين كذلك، انه لابد أن يتم هذا كله، على يد إله واحد لا آلهة متعددة. (12)
فما بالنا إذا أوضحنا لأمثال هذين العالمين الكبيرين، وهم كثيرون جدا بين علماء العالم كله، أن تركيب الكون المادي، قائم على منهج التركيب والترتيب لآيات القرآن وأجزائها مع استقلال كل منها بحقيقته الخاصة به، وأن السنن النبوية هي أداة الوصل بين معرفتنا نحن البشر ووجودنا، وبين هذا المنهج العلمي العملي الواحد في آيات الله القرآنية، وآياته الكونية إننا حينئذ لن نجد تفرقة بين الماديات والأخلاقيات، ولا بين العلم النظري، والتطبيق العملي، وسنعود جميعا إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها.
بل إن المسلمين أنفسهم، سيتعلمون كيف يحتكمون إلى كتاب ربهم، وسنة نبيهم في كل مشكلاتهم مهما تختلف هذه المشكلات.
والله ولي التوفيق.
مواضع تعريف الإعجاز الإلهي في آيات القرآن وسوره
- عجز الإنسان في معرفته ووجوده ما لم يتهد بهدى الله
جاءت الكلمات الدالة على الإعجاز الإلهي، في القرآن كله، حاملة معها حقيقة العجز في إمكانات المخلوقين، أن يتحدوا إرادة خالقهم أو أقواله وأفعاله.
- ونجد أول موضع يصلنا بأهم وجوه هذا التعريف القرآني حيث يقول تعالى : «قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي»31 – المائدة
فالقرآن يبدأ ببيان عجز الإنسان أن ينتصر على دوافع الشر في نفسه، كلما تخلى عن طاعة الله سبحانه.
وهكذا قتل قابيل أخاه هابيل، ثم عجز أن يواري سوأته.
وهذا متعلق بمعرفة الإنسان، ولا مخرج للإنسان من هذا العجز، إلا بالخضوع للأحكام التي جاء بها دين الله، مع البراءة من كل ما يخالفها.
- عجز الإنسان أن يخرج من حدود المكان والزمان
ثم نمضي إلى موضع قرآني آخر يبين لنا عجز الإنسان، أن يخرج من حدود وجوده في المكان والزمان، فمهما – معا – حجاب من الغيب يجعلنا بحاجة دائمة إلى الإيمان، بما جاء به دين الله، من حقائق الوحي في القرآن والسنة.
«إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين»134 – الأنعام
فالمستقبل علمه عند الله، والماضي ننسى منه ما ننسى، ونذكر ما نذكر.
- حتمية انتصار الإسلام في الدنيا والآخرة
أما الموضع القرآني الثالث، الذي يبين لنا حقيقة جديدة من حقائق الإعجاز الإلهي، وأسباب العجز البشري، فهو حيث يقول الله تعالى :
«ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون»
«وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة»59 – 60 – الأنفال
فحيث سبق في الموضع الأول أن الإنسان عاجز عن حفظ نوعه، منساق وراء دوافع الشر، حتى أنه ليقتل أخاه لو لم يكن له رادع من أوامر الله، ونواهيه.
وحيث جاء في الموضع الثاني، حتمية الإيمان بكل ما جاء من عند الله، عن حقائق وجودنا ومصيرنا، وانتهينا في الموضع الثالث إلى أن الذين يأبون أن يؤمنوا بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر، ستكون لهم معارك ضد المؤمنين، وسيكون لهم سباق في التسلح، ودعاوى غير صحيحة في السبق الحضاري، فكذبهم الله وبين أنهم لا يعجزون الله الذي خلقهم ثم أمر عباده المؤمنين أن يعدوا لهم، ما استطاعوا من قوة وأن لا يظنوا أن الآخرة تغنيهم عن طلب النصر في الدنيا والأخذ بأسباب التقدم فيها.
- عجز المشركين أن يقاوموا القوة الإسلامية
ونصل إلى الموضع الرابع حيث قول الله سبحانه
«وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم».
3 – التوبة
وهنا نجد الإعجاز الإلهي، يبين لنا عجز المشركين أن يدفعوا عن نفسهم عذاب الله لهم في الدنيا بمحاربة النبي لهم بمن معه من المؤنين، حتى يتوبوا عن الشرك أو يقتلوا وهو مشركون، فيكون عذابهم في الآخرة أشد من غذابهم في الدنيا.
- عجز المشركين أن يخرجوا من العذاب الأبدي
ثم نجد في الموضع الخامس قوله تعالى :
«ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ويستنبؤنك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين».52 – 53 : يونس
وهنا نجد الإعجاز الإلهي مبينا للمشركين أنهم خالدون في العذاب يوم القيامة، لا مفر لهم من ذلك وأن دين الله الحق لا ريب فيه، وأنهم عاجزون عن الفرار من مصيرهم، إذا ماتوا على الشرك.
ففي الموضع الرابع جاء ذكر العذاب عاما.
«وبشر الذين كفروا بعذاب أليم»
أما في الموضع الخامس فقد ذكر العذاب خاصا بما يلقى المشركون يوم القيامة «ذوقوا عذاب الخلد»
- وفي الموضع السادس نجد قوله تعالى :
«أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون»20 : هود
إن أوامر الله ترقى بالبشر من مستويات عجزهم إلى آفاق التقدم بكل أنواعه.
أما الذي ينهى الله عنه فهو حماية لنا من مفتريات أهل الباطل، ومن موالاة أهل الشر.
فمن أطاع الله في كل ما أمر به ثم اجتنب كل ما نهى عنه فهو الذي انتفع بما يسره الله له من نعمة السمع والبصر.
أما الذي لم يأتمر بما أمر الله به، ولم ينته عما نهى الله عنه، فهو من الذين «ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون»
وهكذا ندرك أن الإعجاز الإلهي، إنما هو ظاهر دائما في كل نعم الله على عباده وأن عجزهم عن طاعة الله، هو أول ما يكشف عن استحقاقهم للعجز وتخلفهم في كل أمورهم ابتداء عن عدم استطاعتهم أن ينتفعوا بأقرب نعم الله منهم، فهم لا يستطيعون أن يسمعوا أو يبصروا مع وجود آذانهم وأعينهم.
ولعلنا نلحظ عظمة الترتيب القرآني، حيث جاء ببيان العذاب الدنيوي والأخروي بوجه عام، في الموضع الرابع، ثم جاء بعده الموضع الخامس بعذاب الآخرة خاصة –ثم جاء الموضع السادس بشيء جديد، ولكنه متعلق بالموضعين السابقين، وهو مضعفة – العذاب لنوع من العصاة، الذين صاحبوا رفقاء السوء، وعجزوا عن انتفاعهم بنعم الله عليهم، في وحي الله حيث أمرهم ونهاهم، فلم يستجيبوا، وفي خلق الله، حيث منحهم سمعا وبصرا، فلم ينتفعوا بهما (12).
- وهكذا جاء الموضع السابع بقوله تعالى :
«قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين * قال إنما يأتيكم به الله إن شاء الله وما أنتم بمعجزين».32 – 33 : هود
لقد جاءت هذه النقلة القرآنية الجديدة، حاملة معها مشهدا تاريخيا يتبين لنا معه، حدود قدرة الأنبياء وإطلاق القدرة الإلهية.
فالله هو القادر وحده على أن يأتي بما شاء فيما يشاء من الزمان والمكان.
ولقد رأينا في الموضع السادس عجز العصاة عن انتفاعهم بنعم الله عليهم لا في وحي الله، ولا في خاصة أنفسهم، حيث نعمة السمع، ونعمة البصر.
فها نحن في الموضع السابع نشهد عناد البشر إذ يؤثرون هلاكهم، على تصديقهم بالحق الذي جاء من عند الله.
وقد كان الطوفان هو الجزاء الذي استحقوه، فإذا الماء الذي تقوم عليه حياتهم هو سبب غرقهم، وهلاكهم، فقد عجز البشر – أولا – أن ينتفعوا بنعمتين في أجسامهم، هما السمع والبصر، ثم عجزوا – ثانيا – أن ينتفعوا بنعم الله المتصلة بالكون الذي يعيشون فيه.
- كل ما في العالم من النعم فهو من الله وحده لا شريك له.
- وفي الموضع الثامن نجد قول الله تعالى :
«قالت ياويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا»72 – هود
وهكذا تتصل حلقات الإعجاز الإلهي، حتى نجد حفظ السلالة الإنسانية وتكاثرها، تاليا من حيث ترتيب هذا النوع من الكلمات في القرآن لحادث الطوفان، الذي أهلك الله به قوم نوح.
فكأن الله يذكرنا بأنه هو القادر على خلق الإنسان، وتكثير ذرية البشر، ولو كانت الأم عجوزا طاعنة في السن، وكان زوجها شيخا فانيا.
وكلمة (عجوز) تنتسب من حيث أصولها في اللغة، إلى العجز، الذي يزول من وجودنا البشري بمقدار ما يمنحنا الله من أنواع نعمه الدالة على الإعجاز الإلهي.
- وتتصل هذه الحقائق المترابطة بالموضع التاسع لهذا النوع من كلمات القرآن، حيث نصل إلى قوله تعالى:
«أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون * أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين * أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم»45 -46 -47 : النحل
لقد وصلنا – هنا – إلى أصحاب المذاهب الإلحادية الفاسدة وذوي المناهج الباطلة، فالله تعالى يبين لهم عجزهم أن يتحكموا في الأرض التي أسكنهم الله فيها، وعجزهم أن ينتفعوا بأنواع نشاطهم، الذي يظنون أن فيه من التقدم، ما يجعلهم في حل من العمل بدين الله والنزول على حكمه.
ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما، مفسرا قوله تعالى «أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين»
(تقلبهم ) أي اختلافهم (13)
والمقصود اختلاف حركتهم وأنواع نشاطهم في الدنيا، مزهوين بما استحدثوا من البدع الصارفة لهم، عن الدين الذي أمرهم الله باتباعه، والاحتكام إليه.
ونلحظ الترتيب المعجز حيث جاء التكاثر في النوع البشري، في الموضع الثامن، بينما جاء في الموضع التاسع، النهي عن التكبر، بما يستكثر الإنسان، من متاع الدنيا، حتى يصرفه عن طاعة ربه.
- وحي الله في القرآن مرتبط به وحيه في السنة:
وفي الموضع العاشر ثم نصل إلى قوله تعالى :
«قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم * والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم»49 – 51 : الحج
إن آيات الله تشمل آيات القرآن، وما بينهما لنا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما تشمل آيات الله الكونية، وبذلك يعلم البشر أنهم عاجزون عن تبديل شيء مما قدر الله لهم في دنياهم وآخرتهم، فالجنة لمن أطاع الله والنار لمن عصاه. (14)
ولذلك اجتمع في هذا الموضع ذكر السنة مجملة – في بيان النبي لما أوحى الله إليه.
«إإنما أنا لكم نذير مبين» وقد أنذر النبي الناس بالقرآن والسنة كذلك.
ثم تبع ذلك، ذكر الجنة للصالحين من عباد الله، وذكر النار للذين سعوا في آيات الله معاجزين، أي واهمين أنهم سيغلبون الحق بأباطيلهم ! وهذا لا يكون أبدا.
ونلحظ الإعجاز في الترتيب، حيث جاء الموضع الثامن عن كثرة النوع الإنساني، ثم جاء الموضع التاسع ببيان استكثار الكافرين من طيبات الدنيا واستكباهم بما يجمعون، وبعدهم عن جادة الحق، بينما الموضع العاشر جاء مبينا أن الناس جميعا في هذه القضية فريقان، فمنهم الصالحون، ومنهم غير ذلك.
- العمل بالقرآن والسنة وحتمية انتصار المسلمين والتمكين لهم في الأرض :
وفي الموضع الحادي عشر نصل إلى قوله تعالى :
«وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض» إلى قوله سبحانه «لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض»55 – 57 : النور
إن النتائج الكبرى، لكل ما تقدم في المواضع السابقة، هي مجملة في استخلاف الله للمؤمنين في الأرض، يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله.
ولابد حينئذ من عجز الكافرين، أن ينالوا من المؤمنين شيئا وقد بدل الله ضعفهم قوة، وخوفهم أمنا.
والواقع العملي، يبين لنا أن الفتوحات الإسلامية، ظلت موجودة دائما، تحقيقا لوعد الله رغم كل ما ذهب منها.
وفي السنة المطهرة تفصيل ذلك (15)
- الإعجاز القرآني في السبق إلى حقائق العلوم
وفي الموضع الثاني عشر نصل إلى قوله تعالى:
«قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشيء النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير»20 – 21 – 22 : العنكبوت
ها هنا يتصل الإعجاز الإلهي، بقضية جديدة، ولكنها وثيقة الاتصال، بما جاء في المواضع السابقة إذ أن الجديد هنا هو بيان السير في الأرض للنظر في أحوال السابقين من البشر، ثم بيان أن البشر ليسوا معجزين في الأرض ولا في السماء.
فالكلام عن عجز البشر أن يحيطوا بحقائق الأرض والسماء، مما يظهر معه التطور الحديث في حياتهم، وهو أمر لم يكن معروفا أيام نزول القرآن، وإنما تحقق بعد ذلك بزمن طويل حيث عرفنا نحن المعاصرين صناعة الطيران، وما يسمى عصر الفضاء، والأقمار الصناعية أو الصواريخ (16)
- وهكذا نصل لقوله تعالى :
«وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين».
«والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم».3 – 5 : سبأ
ومن الجديد هنا لبيان الإعجاز الإلهي، في الإحاطة بكل ما هو أكبر وأصغر في خلق الله، مع إنذار الناس بيوم القيامة.
بعد ما سبق من بيان عجز البشر عم معرفة كل حقائق الأرض والسماء وبيان أن القرآن قد سبق بكشف وصولهم إلى الفضاء قبل أن يصلوا إليه فواجبهم – إذن – أن يؤمنوا بيوم القيامة – قبل أن يأتي هذا اليوم.
ونلحظ الترتيب المعجز حيث جاء الكلام عن الفضاء في الموضع الثاني عشر بينما جاء الكلام عن يوم القيامة في الموضع الثالث عشر، إذا الوصول إلى الفضاء غاية ما يتطلع إليه الإنسان، في الدنيا.
- الإعجاز الإلهي في كل النواحي الاقتصادية :
وفي الموضع الرابع عشر نصل إلة قوله تعالى :
«وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عند زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون * والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون»37 – 38 : سبأ
ومن الجديد هنا بيان الجانب الاقتصادي بين نعم الله على الإنسان وأن الذين يستغلون هذه النعمة – في غير ما أمر الله به ولا يبتعدون عما نهى الله عنه ليسوا بمنجاة من عقاب الله لهم.
- الإعجاز الإلهي وتقويمه لعلوم البشر:
وفي الموضع الخامس عشر نصل إلى قوله تعالى :
«وإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم» إلى قوله تعالى «والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين»49 – 51 : الزمر
ومن الجديد هنا بيان جهل الكثير من الناس بحقائق الإعجاز الإلهي في كل ما يصيب الناس من ضر أو نعمة فهم يضرعون إلى الله بالدعاء إذا أصابهم الضر ثم يغترون بالنعمة إذا رزقهم الله بها ظانين أنها جاءتهم بما لديهم من العلم.
ونلحظ الترتيب المعجز، حيث جاء الكلام عن المال في الموضع الرابع عشر وجاء بيان عن جهل الإنسان بحقيقة نعم الله في الموضع الخامس عشر. وواضح أن الإنسان لا يفكر في هذه الأمور إلا بعد تحقيقها فذلك سبق ذكر المال ثم تبعه من حيث الترتيب الكلام عن معرفة نعم الله.
- الإعجاز الإلهي وتأديب العصاة:
وفي الموضع السادس عشر نصل إلى قوله تعالى :
«وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير * وما أنتم بمعجزين في الأرض»30 – 31 : الشورى
ومن الجديد هنا بيان مسئولية الإنسان عما يصيبه من المصائب وأن الله يعفو مع ذلك عن كثير من ذنوب البشر مع كونهم غير معجزين في الأرض، وإنما الإعجاز الإلهي هو الغالب عليهم، وقد جاء في الموضع السابق ليكون تفصيلا له وبيان لمسئولية الإنسان عن أفعاله.
- حتمية العمل بالقرآن لمن أراد السعادة في الدنيا والآخرة:
وفي الموضع السابع عشر نصل إلى قوله تعالى:
«ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض»32 : الأحقاف
وفي هذا الموضع إشارة إلى اجتماع القرآن والسنة، على حمل دعوة الله إلى الناس كافة ليدخلوا في دين الله وهو الإسلام.
فمن أبى أن يجيب داعي الله وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من عند الله فليس بمعجز في الأرض، وإنما هو خاضع لحكم الله عليه في الدنيا والآخرة.
ولا ريب في أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد دعا الناس بالقرآن، والسنة معاً.
وواضح أن ترتيب هذه المواضع بعد كل ما سبق، مناسب لجعل الدعوة قائمة في الناس إلى يوم القيامة.
- واخيرًا ننتهي إلى قوله تعالى، حكاية عن الجن «وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا» 12 – الجن
وهذا الموضع الأخير من المواضع القرآنية التي جاء بها ذكر الإعجاز الإلهي قد تفرد بمعجز الجن عن الهرب من الله تعالى.
فلما كان هذا النوع من الخلق، مع ما خصه الله به، من القدرة على التشكل والتحول، عاجزا عن الهرب، فإن البشر أظهر عجزا، عن مثل ذلك.
ومع بعض ما جاء في السنة عن هذه الحقائق نواصل النظر، والتدبر
- الإعجاز الإلهي وحتمية الايمان بالقدر
الحديث الأول : كل شيء بقدر حتى العجز والكيس (17)
وهذا الحديث يربط بين العجز والكيس وبين القدر.
والقدر حق وعدل لأسباب كثيرة، منها أنه يقوم على علم الله بما سيفعله كل إنسان، بعد أن يخيره الله بين الطاعة أو العصيان.
يقول الله تعالى :
- «إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا»
3 : الإنسان
ويقول الله تعالى :
«ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين»
10 : البلد
وكذلك فإن هذا الحديث يبين لنا الحدود الفاصلة بين العجز وأهمية تفريط الإنسان في طاعة ربه – وبين الكيس وأهمية قيام الإنسان بحق الله عليه فيكون مطيعا له عاملا بأوامره، مجتنبا نواهيه.
- الإعجاز الإلهي والحث على الإنفاق :
الحديث الثاني :
يقول الله تعالى : «يا ابن آدم، أني تعجزني وقد خلقت من مثل هذا حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت (18) بين بردين، وللأرض منك وتد، فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت التراقي قلت : أتصدق، وأني أوان الصدقة»
ومن الجديد هنا أن الله يبين لنا (19) في هذا الحديث القدسي، أصل خلق الإنسان في رحم أمه، وكيف يرعاه الله فيكبر ويملكه الله من الأموال، فيبخل ولا يتصدق، ولا يفكر في ذلك إلا بعد فوات الأوان.
- الإعجاز الإلهي والتيسير على الناس
الحديث الثالث :
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم – في جوف الليل، فصلى في المسجد فثاب رجال فصلوا معه بصلاته، فلوا أصبح الناس وتحدثوا أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد خرج فصلى في المسجد من جوف اليل فاجتمع الليلة – المقبلة – أكثر منهم.
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، اغتسل من جوف الليل فصلى وصلوا معه بصلاته ثم أصبح فتحدثوا بذلك فاجتمع الليلة – الثالثة – ناس كثير، حتى كثر أهل المسجد.
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من جوف الليل، فصلى فصلوا معه فلما كانت الليلة الرابعة، اجتمع الناس حتى كاد المسجد أن يعجز عن أهله، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يخرج حتى سمع ناسا منهم يقولون الصلاة، فلم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما صلى صلاة الفجر، سلم ثم قام في الناس فتشهد ثم قال : «أما بعد فإنه لم يخفف عن شأنكم الليلة ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها»
وفي الحديث (20) بيان أنواع العجز في المخلوقات، فالمسجد يعجز عن أهله لضيق مساحته.
والنبي صلى الله عليه وسلم يخشى أن تفرض صلاة الليل على المسلمين فيعجزوا عنها !!
فالعلاقات بين الأسباب وغاياتها، قد أحاط الله بعلمها، وجعل سبحانه لكل شيء قدرا.
وكل شيء خرج عن حدوده التي وضعه الله فيها، فهو باطل.
- الإعجاز الإلهي ومحو أسباب الرزق
الحديث الرابع:
أيما عبد كوتب ثم عجز فهو رقيق (21)
وهذا الحديث يقدم لنا قضية جديدة وهي قضية المنهج ال؟إسلامي في تخليص الإنسان من دوافع العجز، والخضوع للقهر في نفسه.
فالرقيق أما في فرصة العمل، ليتخلص من رقه، الذي يكون من أسبابه في أغلب الأحوال، الميل للكسل، والعجز عن مطالب الحرية، والعظمة في الحياة.
فالتغلب على الرق بالعمل الكثير، فيه تدريب على بلوغ آفاق العظمة، ومراتب القوة، كما يريدها الله لعباده جميعا، ولهذا جعل عجزهم هو نقطة الانطلاق نحو الكيس بمعناه السابق.
- الإعجاز الإلهي وبيان نسبية العجز بين المخلوقين:
الحديث الخامس:
جاء فيه أن امرأة ركبت العضباء ونجت عليها من مختطفيها، فجاء في الحديث (فطلبوها فأجزتهم)
ثم إن المرأة نذرت لئن أنجاها الله على هذه الناقة لتنحرنها فقال النبي صلى الله عليه وسلم بئس ما جزتها، لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم.
والجديد هنا (22) أن الإنسان ليس مطلق الإرادة في كل ما يقول ويفعل، وإنما هو عاجز أن ينذر في معصية لله، وفيما لا يملك البشر.
ومن الجديد هنا كذلك – أن العجز يكون في التسابق وبه يظهر العجز على من لم يلحق بما يطلبه.
- الإعجاز الإلهي وبيان أن الاستعانة – بالله تنقذ الإنسان من عجزه
الحديث السادس:
المؤمن القوي، خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز.
وإن أصابك شيء فلا تقل، لو أني فعلت كذا لكان كذا. ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان.
من الحقائق الجديدة هنا (23) في تعريف الحقائق التي نحن بصددها ان الله جعل الاستعانة به طريقا أمام الإنسان، يتمكن بها من مفارقة العجز، والوصول إلى الكيس، والتقدم نحو الخير والسعادة والقوة التي جاء معرضها في أول الحديث.
والحديث ينهى عن التردد ويأمر بالمواصلة في طلب الخير ومحاولة الوصول للقوة.
وهذه معان عملية، لابد من معرفتها، للوصول إلى فهم حقائق القرآن التي سبقت في تعريفه للإعجاز الإلهي والعجز البشري.
- الإعجاز الإلهي والتوجه بالدعاء إلى الله وحده
الحديث السابع :
«اللهم أني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن وضلع الدين، وغلبة الرجال»
وما يزدنا تعريفا (24) بالإعجاز الإلهي والعجز البشري، أن هذا الدعاء يبين لنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم، حاجة الإنسان إلى الله تعالى ليعينه على دفع الهم والحزن، وهما يدلان على فساد الأحوال، واختلاف النظم، بعد انصراف المسلمين عن العمل بما جاء به دين الله في كثير من أمورهم.
فإذا كان ذلك ركن الضعفاء من الناس إلى العجز والكسل.
فإذا كان ذلك، أمسكوا عن الإنفاق، وبخلوا، فأصابهم الجبن.
فإذا كان ذلك، وقعوا فريسة للفقر والدين، الذي لا يجد أحدهم له وفاء.
فإذا كان ذلك، كان هناك قهر وانهيار وتسلط.
فلهذا ختم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء النبوي باستعاذته بالله من غلبة الرجال وهو معنى يتسع لأنواع كثيرة من الاحباط والهزائم منها، هو خاص بالنفس البشرية، فيما يخص الفرد الواحد أو هو خاص بانهيار المجتمع ووقوع أفراده، بعضهم تحت ظلم البعض.
فإذا كان ذلك عز النصر على الأعداء وتعطلت الدعوة إلى الحق وكثر الترويج للباطل.
الحديث الثامن:
«اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل، والهرم والقسوة والغفلة والعيلة، والذلة، والمسكنة».
«وأعوذ بك من الفقر والكفر، والفسوق والشقاق، والنفاق والسمعة والرياء»
«وأعوذ بك من الصم، والبكم، والجنون، والجذام، والبرص، وسيء الأسقام»
وهذا الحديث (25)وثيق الصلة بالحديث الذي قبله بل هو امتداد له يبدأ بالاستعاذة بالله تعالى، من العجز والكسل، ثم الاستعاذة به سبحانه من أنواع القهر، وما يتبعه من أهوال.
وتأتي بعد الاستعاذة بالله، من أنواع الفقر البادي، والأخلاقي، والعلمي والاستعاذة بالله من أنواع الأمراض.
الحديث التاسع:
اللهم أني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل والهرم، وعذاب القبر وفتنة الدجال.
اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها.(26)
وهذا الحديث امتداد للحديثين السابقين، ابتداء من الاستعاذة بالله من العجز والكسل، ثم يأتي الجديد هنا في الاستعاذة من عذاب القبر، وفتنة الدجال.
قدم عذاب القبر لأنه أشد على من استحقه، من فتنة الدجال وأن كانت هذه الأخيرة، أسبق في التسلسل الزمني.
ولهذا الترتيب حكمته القائمة على النظر للأحداث من حيث خطرها وشدتها، وترتيبها تبعا لذلك.
ثم دعا النبي ربه عز وجل، أن يؤتي نفس الإنسان تقواها ويزكيها مع الإقرار بأن الله هو الولي وهو المولى، الذي لا ملجأ منه إلا إليه.
ثم استعاذ النبي بربه جل وشأنه من أربعة أمور، الأول : هو العلم الذي لا ينفع، إذ النفع مقترن بالعلم، ولولاه لتعطلت آثار العلم.
والثاني:هو القلب الذي لا يخشع لله تعالى، لأنه يكون قلبا غير مود لأهم وظائفه.
والثالث: هو النفس التي لا تشبع، لأن العلم إذا كان مؤديا إلى الرياء، والكبر، لم يكن نافعا وكان ضارا فيقسو القلب ولا يخشع لله ولا يحب عباد الله تقربا إليه، فتكون النفس شرهة، قاسية، جامدة.
وهذا ليس بسبب العلم، وإنما بسبب تعطيل العمل به.
والرابع: هو الدعاء الذي لا يستجيب الله له.
وهذا نتيجة لكل ما سبق، لأن الله إنما يستجيب لمن دعاه وهو تقي، نقي. تدرج في ترتيب مما هو سابق زمانا، إلى ما هو لاحق.
فإذا نظرنا نظرا أعم، وجدنا هذا التسلسل الواقعي محتويا على ترتيب عام قائم على تقديم العذاب، لعظمة المصاب فيه.
على فتنة المحيا، والممات مع أن فيها الاختبار الذي يكون أولا، ثم تتبعه العذاب.
فبذلك يكون الترتيب في أجراء الحديث واقعيا من حيث التسلسل الزماني.
بينما هو متضمن من الناحية الموضوعية، ترتيبا مراعيا لأحوال الإنسان، وما يصيبه من الكوارث التي لا منجى منها إلا باللجوء إلى الله، فقدم النتيجة لأنها أشد وقعا وألما على المقدمة المؤدية إليها.
وقد رأينا أن الترتيب القرآني أعظم من ذلك كثيرا، ثم يتبعه كلام النبوة، الذي لا يدخل في كلام البشر، وإنما هو وحي الهي خص الله به عبده وخاتم رسله، وأجراه على لسانه.
الحديث العاشر:
«اللهم اني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن ، والبخل، والهرم وأعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من عذاب النار»
وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات (27) هذا الحديث، امتداد للأحاديث السابقة التي دارت كلها حول الاستعاذة بالله من العجز والكسل، ومن المآسي التي تتفرع من هذين الأصلين.
ومن الجديد هنا – الاستعاذة بالله، من عذاب القبر وعذاب النار. وفيه تدرج في الترتيب من العذاب الأدنى إلى العذاب الأكبر.
ثم عاد إلى أسباب ذلك كله فاستعاذ بالله من فتنة المحيا والممات.
- الإعجاز الإلهي وقبول شفاعة النبي يوم القيامة:
الحديث الحادي عشر :
حديث طويل عن أهوال القيامة.
وقد جاء في نهايته قول النبي صلى الله عليه وسلم ونبيكم قائم على الصراط يقول : رب سلم سلم
حتى تعجز أعمال العباد (28)
وهذا الحديث يبين لنا أن أعمالنا الصالحة انما هي طريق إلى رحمة الله وليست وفاء بحقوق الله علينا (29)
وعجز أعمالنا الصالحة عن القيام بكل ما يجب علينا الله تعالى، معنى جاءت به السنة وتفردت به ولكنه وثيق الصلة بالحقائق التي سبقت بها آيات القرآن واستخلصت منها التعريف للإعجاز الإلهي في الخلق والوحي. ثم جاءت الأحاديث السابقة بوجه من العلم، يكتمل بها فهمنا وتتم بها معرفتنا لجملة – الحقائق الخاصة بذلك.
ولقد جاء في هذا الحديث، بيان لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، لمن استحق شفاعته يوم القيامة.
وهذه الشفاعة تكون بإذن من ربه عز وجل.
وهذا أمر له مغزاه في بيان الإعجاز الإلهي والعجر البشري.
هذه كلها أصول أجمل الوحي الإلهي فيها الحدود الفاصلة بين ما جعله الله، مناطا لقوة الإنسان ومجالا للتقدم في العلم النافع والعمل الصالح، وبين ما جعله الله سبحانه سببا في عجز الإنسان وتخلفه، فطاعة الله معها التقدم والتعلم والنجاح والفلاح، وعصيان الله معه دائما الخسران المبين والعجز الأليم.
من أصول الإعجاز العلمي
عند طائفة من العلماء السابقين
سننظر – بعون الله – إلى ما سبق به الرواد الأوائل، ممن كتبوا عن الإعجاز، ابتداء من الخطابي في القرن الرابع الهجري، وانتهاء بالسيوطي في القرن التاسع الهجري.
ثم نختم هذا العرض، بمثل واحد من العلماء المعاصرين، هو العلامة الراحل، الدكتور الغمراوي.
- مع الخطابي وكلامه عن المنهجين المعنوي والتركيبي:
القرآن الكريم، يحمل معه علوما بعدد كلماته، وعدد تراكيبها، وتراتتيبها.
والخطابي يركز اهتمامه على منهجين اثنين، يستخلصهما من سور القرآن وآياته (30).
فأما المنهج الأول: فهو المنهج المعنوي، وأساسه أن يستخلص كل من يقرأ القرآن، ما يتيسر له من معانيه، لتكون فرقانا يعرف به الحق من الباطل، والهدى من الضلال.
ذلك أن معاني القرآن حق خالص، ويقين دائم، ومهما تكن الفترة التاريخية، لكل أمة من الأمم، التي تحيا في نوره، فإن كل أمة تأخذ منه ما يناسب عصرها، ومبلغها من العلم، ومع ذلك فإن الذي يقف عند النور القرآني، لا يتعداه بأوهامه، وظنونه، لا يزال في حصن حصين من عثرات الفكر، وسقطات الضلال، وسيئات الأقوال والأعمال.
يقول الله تعالى :
«الشمس والقمر بحسبان»
5 : الرحمن
فأهل العلم القدامى قالوا عن قوله تعالى «بحسبان»، أي بحساب فعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عن مقادير الزكاة، (ولا يفرق أبل عن حسبانها) (31)أي حسابها.
وعن أبي مالك رضي الله عنه.. «الشمس والقمر بحسبان» قال عليهما حساب وأجل كأجل الناس، فإذا جاء أجلهما هلكا (32).
ومجاهد من كبار التابعين، وتلميذ الصحابي الجليل ابن عباس، فسر لنا هذه الكلمة بقوله أي بحسبان كحسبان الوحي، وزاد القرطبي : يعني يدوران في مثل القطب (33).
حتى إذا وصلنا إلى الراغب الأصفهاني المتوفى سنة 503 هـ وجدناه يقول عن قوله تعالى «بحسبان» أي ما يحاسب عليه فيجازى بحسبه (34).
أما في القرن الثامن الهجري فإن ابن كثير المتوفى سنة 774 يقول عن قوله تعالى «بحسبان» أي يجريان متعاقبين، وبحساب مقنن، لا يختلف ولا يضطرب.
والمعاصرون من أهل العلم، يربطون بين هذا كله في تنوع لا تناقض فيه، ليؤكد لهم ما وصلوا إليه من الحقائق الدالة على أن لكل ذرة فما فوقها، حسابا خاصا بها.
فهذا التنوع الذي يتسع لكل درجات الفهم للحقيقة الواحدة، ليصلها جميعا باليقين من وجوه كثيرة، لا يقدر البشر أن يحققوه لمعانيهم بحال من الأحوال.
والقرآن مهما تتنوع الصيغ في كلماته، فهي دائما تصلنا بمدلولاتها العملية في الوجود كله، وصلا دائما لا انقطاع له، لأنه قائم على الحق الذي لا يختلف، واليقين الذي لا يزول.
وانظر – مثلا – إلى قول الراغب الأصفهاني عن قوله تعالى «وهم من كل حدب ينسلون»
96 : الأنبياء
الأصل في الحدب حدب الظهر، يقال ناقة حدباء، ثم شبه به ارتفاع من الأرض.
فكأن الراغب، نظر إلى أن قوله تعالى «من كل حدب» أي من كل مكان مرتفع (35).
ولكن أهل العلم من المعاصرين يعلمون يقينا أن الأرض كروية الشكل، فكلمة حدب تتسع لكل مكان من الأرض، وقوله تعالى ينسلون يتسع، لكل مشاهد النزول من أعلى إلى أدنى، وهذا هو شأن الزحام حين نشاهده، من بعيد.
ولوجاء هذا المشهد في كتاب البشرى، يحدثنا اليوم عن كروية الأرض ما التفت صاحبه إلى تضمين هذا المعنى في كلمة واحدة هي كلمة (حدب) فربما قال من كل صوب، أو من كل سبيل، ولم يذكر الحدب، على وجه التحديد.
وتتنوع الكلمة في مثل هذا الشأن حيث يقول الله تعالى :
«يأتين من كل فج عميق»
27 : الحج
فأنت ترى أن كلمة عميق بعد كلمة فج أفادت معنى التكور، على نحو من الوجوه، العمق تصحبه الاستدارة تعني الانثناء والانحناء ولهذا قالو:
الفجاج جمع فج منها الظليم أي ذكر النعام، يبيض بيضة واحدة، وجاء في شعرهم
بيضاء مثل بيض الفجاج
وقالوا حافر مفج مقبب
وقالوا واد أفجيج أي عميق وربما سمي به التثني في الجبل (36)
فها نحن نرى أن حقيقة استدارة الأرض، لم تفارق أي كلمة من الكلمات التي لم تأت أصلا في هذا الشأن، وإنما جاءت في أمور أخرى، وفي صيغ لغوية شديدة التنوع، مما كان يحتمل معه أن لا تتسع لمثل هذه الحقائق البعيدة عن سياقها وقصدها.
انه كلام الله وكفى.
وإعجازه يحمل معه، دفعا متواصلا لكل حقائق التقدم العلمي.
أما المنهج الثاني: فهو المنهج التركيبي، الذي ننظر من خلاله، إلى عدد المواضع الذي يخص كل قدر من الكلام في القرآن كله، فمهما تكثر مواضع كلمة قرآنية فهي واحدة في نصها، ولما كانت كثرة مواضعها، مما يظن معه الاختلاف أو التناقض، فهي في هذه الحالة تتصل بوجوه متجددة، ولكنها مترابطة في حركة واحدة لا تنقطع، مع الترتيب المعجز في مقاصدها (37).
وهذا وجه آخر من وجوه التقدم العلمي المتواصل الذي يحمله معه إعجاز القرآن.
- والخطابي يصف المنهج المعنوي حيث يقول:
في إعجاز القرآن، وجه آخر، ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم.
وذلك صنيعه بالقلوب، وتأثيره في النفوس، فإنك تسمع كلاما غير القرآن، منظوما أومنثورا، إذا قرع السمع، وخلص له إلى القلب، من اللذة والحلاوة، في حال، ومن الروعة والمهابة، في أخرى، ما يخلص منه إليه.
- ثم يتجه إلى المنهج التركيبي فيقول:
إنما يقول الكلام، بهذه الأشياء الثلاثة فقط:
لفظ حامل، ومعنى به قائم، ورباط لها ناظم.
وإذا تأملت القرآن، وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة، حتى لا ترى شيئا من الألفاظ، أفصح ولا أجزل، ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظاما أحسن تأليفا، وأشد تلاؤما، وتشاكلا من نظمه.
- تم يربط بين المنهج المعنوي، والمنهج التركيبي – معا – فيقول :
وأما المعاني فلا خفاء على أي عاقل أنها هي التي تشهد لها العقول بالتقدم في أبوابها، والترقي إلى أعلى درجات الفضل في نعومتها، وصفاتها (38).
ومعاني القرآن زاجرة بحقائق العلم، التي تفتح الطريق دائما أمام التقدم في آفاقها.
ثم يبين الخطابي أن الأصول الثلاثة وهي اللفظ الحامل، والمعنى، الذي يقوم به، والرباط الذي ينظمه، لا تأتي بتمامها إلا في كلام الله، الذي أحصى كل شيء عددا، وأحاط بالكلام كله علما (39).
والخطابي في هذا القدر من كلامه، ربط بين الوحي القرآني في معانيه وتراكيبه، وبين وقائع الوجود كله، وبهذا جاءت السنة ضمن وقائع الوجود.
ولكن السنة أصل تشريعي، مصاحب للأصل الأول وهو القرآن، فلو خصها بالذكر، وبحث في تركيبها بالنسبة لآياته وسوره، لزادنا بيانا، على بيان، وتم هذا الكلام القيم من كل وجوهه.
فلعله جاء بهذا الطلب في موضع آخر من كلامه، ولم أطلع عليه.
ولعله أكتفى بالاجمال حيث كنا نحتاج إلى التفصيل.
ومهما يكن من أمر، فإننا بحاجة إلى كلام الخطابي، في عصورنا هذه المتأخرة، أكثر مما احتاج إليه المتقدمون.
وهذا من روعة هذا الكلام، وكثرة وجوه العلم فيه.
- مع الباقلاني ورأيه في الإعجاز بين القرآن والسنة:
إن كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتا بينا في الفصل الوصل، والعلو والنزول، والتقريب والتبعيد، وغير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عند النظم، ويتصرف فيه القول عند الضم والجمع.
أما القرآن فهو على اختلاف فنونه، وما يتصرف فيه من الوجوه الكثيرة، والطرق المختلفة فهو يجعل المختلف كالمؤتلف، والمتباين كالمتناسب، والمتنافر في الإفراد إلى حد الآحاد.
وهذا أمر عجيب، وتبين به الفصاحة، وتظهر به البلاغة، ويخرج معه الكلام، عن حد العادة، ويتجاوز العرف (40).
ونقف عند قول الباقلاني (إن القرآن يجعل المختلف كالمؤتلف، والمتباين كالمتناسب، والمتنافر في الإفراد إلى حد الآحاد).
ومن معاني هذا الكلام للباقلاني رحمه الله، أن القرآن كله، في جملته وتفصيله، متجدد في صلاته، فلكل قدر من كلماته، تفرد في مبناه ومعناه، وحركة دائبة في مواضعه، من الآيات والسور، فلا ينبغي أن يؤمن الناس ببعض منه ويكفروا ببعض، وإنما كلام الله، وما يفسره، ويطبقه، من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ملزمان للناس كافة، بوجوب العمل بهما معا، إلى يوم القيامة.
ولكن الباقلاني، جاء يخطب من خطب النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب من كتبه إلى ملوك العالم، وقال : (قد بينا أنّا إذا وازنا بين خطبه ورسائله وكلامه، وبين نظم القرآن، تبين من البون بينهما، مثل ما بين كلام الله عز وجل، وبين كلام الناس).
فلا معنى لقول من ادعى، أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم، معجزة وإن كان دون القرآن في الإعجاز (41).
وهذا الكلام يقتضينا أن نتبين معا أن السنة القولية والعملية والتقريرية، ليست داخلة في كلام البشر، ولا أفعالهم، ولا تقريرهم، وإلا كان الإلزام بهذا كله من النبي صلى الله عليه وسلم، كالإلزام بما صدر من غيره من سائر الناس، سواء بسواء.
وما كان لمؤمن بالله ورسوله، أن يدعي هذا أو يعتقده، بحال من الأحوال.
«قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا» 88 : الإسراء
وكيف يتصور أحد ذلك، مع قول النبي صلى الله عليه وسلم : (ألا أني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السبع، ولا لقطة معاهد، إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يُعْقِبَهُم بمثل قراه) (43).
فالآية السابقة من سورة الإسراء، جاءت ببيان عجز البشر أن يأتوا بمثل القرآن.
أما الحديث النبوي السابق، فقد جاء ببيان عجز البشر أن يأتوا بمثل السنة، لأنها تتضمن حقائق تشريعية جديدة بالنسبة، للحقائق التشريعية في القرآن.
فهكذا نعلم أن عجز البشر، أن يأتوا من عند أنفسهم بمثل كلام الله، كعجزهم أن يأتوا من عند أنفسهم بمثل السنة، التي خص الله بها نبيه من بين عباده جميعا.
عن أبي إمامة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (ليدخلن الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي، مثل الحيين ربيعة ومضر، وإنما أقول ما أقَوَّلُ) (44).
إن هذه الكلمة الجامعة في هذا الحديث النبوي «إنما أقول ما أقَوَّلُ» ترد الإعجاز في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، إلى الفعل الإلهي، في نطاق الله تعالى، لعبده وخاتم رسله بما انطقه به.
يقول الله تعالى : «وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى». 3 – 4 : النجم
ولكن الباقلاني – رحمه الله – وقف عند خوفه من أوهام الملحدين، أن يدعوا أن القرآن، من كلام محمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء لا وزن لهم، ولا ينبغي أن نسكت عن الحق من أجلهم.
ولقائل أن يقول بعد ذلك أن – الباقلاني رحمه الله –نظر إلى ما تفرد به القرآن من الفصاحة التي لا ينبغي أن تجدها في أي كلام غيره.
والحق مع الباقلاني في ذلك، ولكن الله تعالى، جعل للإعجاز القرآني، آثارا، بكل مقوماتها القولية، والعملية، والتقريرية.
ولهذا جاءت بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) أو أمر من النبي صلى الله عليه وسلم، متصلة بأصول قرآنية، ولكنها منفصلة في الحديث تفصيلا لم يأت بنصه في القرآن.
فقوله تعالى : «يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث» 157 : الأعراف
يتسع لكل المعاني السابقة، من حقيقة الإلزام الإلهي، بالقرآن زالسنة معا، كما يتسع لقوله صلى الله عليه وسلم (ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي).
فقد شاء الله أن يحرم، كل الخبائث إجمالا كما جاء في القرآن، وأن يحرم رسوله بما علمه الله، وبما أذن له، أكل لحم الحمار الأهلي، كما جاء هذا التفصيل في السنة.
وبذلك نظل ملتزمين بالوحي الإلهي، من قرآن وسنة، التزاما دائما.
هذه الأمور لم يتحدث عنها الباقلاني، ولو تحدث عنها، وهو أهل لذلك، لما وقف عند حد الخوف، مما يدعيه الملحدون، بل لغلبهم على أمرهم، بهذا التنسيق المعجز، بين معاني القرآن، ومعاني السنة، وهو أمر لا يقدر على أن يأتي من شاء من عباده، ويجعله ملزما للناس كافة، إلا الله وحده.
فهذا كله يؤكد لنا أن الإعجاز في حقيقته الأساسية، إنما هو في كل أفعال الله، أقواله، وإحاطته بكل شيء، من خلقه ووحيه.
ثم إن الباقلاني – رحمه الله – حيث وقف من الناحية اللغوية وحدها، بما هو متعلق بها من الفصاحة، والبلاغة، لم ينفذ إلى المضمون المعجز الذي جاء في كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
ذلك أن الباقلاني، ضمن كتابه، عددا من خطب النبي صلى الله عليه وسلم، محاولا بها أن يؤيد رأيه في أن الفرق، بين القرآن، والحديث النبوي هو كالفرق، بين كلام الله، وكلام سائر الناس (45).
ثم ذكر الباقلاني أنه يخشى أن يقول إن السنة غير كلام سائر الناس، حتى لا يظن الملحدون أن القرآن نفسه، من كلام النبي صلى الله عليه وسلم !!
وفي الحقيقة أن كلام الله تعالى، له من الفضل على سائر الكلام، ما ليس لغيره.
ولكن الله شاء جلت حكمته، أن يلزمنا بوحيه القرآني، ثم بوحيه في الحديث النبوي، الزاما واحدا، لا اختلاف فيه، من حيث وجوب اتباعه، والاحتكام إليه، والتسليم له.
فهكذا نعلم، أن الحديث النبوي، مع سائر أعمال النبي صلى الله عليه وسلم، وتقريراته، كل هذا له حظه من الإعجاز، بمعنى أنه لا يقدر أحد غير خاتم رسل الله، أن ينطق به، أو يكلفنا بالأعمال المستفادة منه.
ولو كان كلام النبوة، بالنسبة لكلام الله، مثل كلام سائر الناس، لاستطاع مسيلمة الكذاب، وسجاج، والأسود العنسي، أن يؤيدوا دعواهم الكاذبة، بألوف القصائد الرائعة، والخطب الفصيحة، ولو انتحلوها، انتحالا، وأعانهم عليها، أتباع كثيرون.
ولكن صلة السنة النبوية، بكلام الله، وهي صلة عقدها الله تعالى، هي مناط الإعجاز في السنة.
ولولا ذلك لكانت الدنيا بأسرها، بوسائل اعلامها الحديثة، ومطابعها ومكتباتها، وفلاسفتها، وعلامائها، قادرة أن تلزمنا بهذا كله، أو بشيء منه، أو تقنعنا بأنه كلام لا ريب فيه، ولا مجال لأي خطأ فيه، ولكن هيهات هيهات، ان كلام الله وسنة رسوله، مصدران تشريعيان لا خطأ فيهما البتة، وهذا هو الجانب العملي في إلزامهما للناس كافة، إلزاما يقوم على الاقناع بلا قهر ولا تسلط، لأنه هو الحق الذي لا باطل فيه، وهذا هو سر تغلغلهما في القلوب، ورسوخ حبهما الدائم في النفوس.
أما كل النظريات الفلسفية، فهي تختلف عن شروحها، ويعارضها الكثير من تفسيراتها، بوعي من المفسرين،أو بغير وعي منهم، لأن كل الناس يكتشفون فيهما الخطأ بعد الخطأ، والتناقض مع حقائق الوجود، بعد التهافت.
وبذلك ندرك الأصل العملي، للحدود الفاصلة بين الإعجاز في كلام الله وسنة رسوله، وبين نظريات البشر، وما يتداعى عليها من شروحها القولية، وتطبيقاتها العملية، وسائر ما يقر عليه أصحابها بعضهم بعضا، من أفكارهم وأقوالهم وأفعالهم.
ولننظر في خطبة أيام التشريق، التي ضمنها الباقلاني كتابه، ليبني عليها وعلى غيرها من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، رأيه الذي ناقشناه – معا – في هذا السياق.
(يا أيها الناس أتدرون في أي شهر أنتم، وفي أي يوم.
قالوا : في يوم حرام، وشهر حرام، ويلد حرام.
قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم، عليكم رحام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقونه.
ثم قال : اسمعوا مني تعيشوا (ألا لا تظالموا، ألا لا تظالموا، ألا لا تظالموا)
ألا إنه لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفس منه، ألا وإن كل دم ومال ومأثرة، كانت في الجاهلية، تحت قدمي هذه، إلى يوم القيامة، وان أول دم يوضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، كان مسترضعا، في بني ليث، فقتله هذيل.
ألا وإن كل ربا كان في الجاهلية موضوع، وان الله عز وجل، قضى أن أول ربا يوضع، ربا العباس بن عبد المطلب.
لكم رؤوس أموالكم، لا تُظلمون ولا تَظلمون.
ألا وإن الزمان، قد استدار كهيئته، يوم خلق الله السموات والأرض، قم قرأ «إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم».
36 : التوبة
ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض.
إلا إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون، ولكنه في التحريش بينكم.
فاتقوا الله عز وجل في النساء، فإنهن عندكم عوان، لا يملكن لأنفسهن شيئا، وان لهن عليكم، ولكم عليهن حقا، أن لا يوطئن فرشكم أحدا غيركم، ولا يأذن في بيوتكم لأحد تكرهونه، فإن خفتم نشوزهن، فعظوهن، واهجروهن في المضاجع، واضربوهن، ضربا غير مبرح.
ولهن رزقهن، وكسوتهن، بالمعروف، وإنما اخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن، بكلمة الله عز وجل.
ومن كانت عنده أمانة، فليؤدها إلى من أئتمنه عليها.
وبسط يديه فقال : ألا هل بلغت، ألا هل بلغت، ألا هل بلغت ثم قال : ليبلغ الشاهد الغائب، فإنه رب مبلغ أسعد من سامع (46).
إن الباقلاني – رحمه الله – نظر إلى ناحية الفصاحة اللغوية وحدها، كما يفهمها هو ومعاصروه، في القرن الرابع الهجري، وكل ما فيها هو فخامة الديباجة، واختيار الغريب من الألفاظ، وإظهار البراعة في سبك المعاني، وحسن صياغتها.
ولو نظر إلى صلة التي عقدها الله تعالى، بين القرآن والسنة، لفتحت أمامه، كنوز الحقائق، التي لا سبيل إليها في غير الوحي الإلهي.
لقد تحدث النبي صلى الله عليه وسلم، عن المكان والزمان، وعن الحلال والحرام، وصلتهما بما يهتم به الناس، من دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
ثم بين حقائق العدل، حيث نهى عن الظلم، وبين حرية الإنسان في أن يحتفظ بأمواله، فلا يأخذها أحد، عن غير طيب نفس منه.
ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم، أن الله أمره أن يضع دماء الجاهلية، وربا الجاهلية، وأمره أن يخص بالذكر دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وربا العباس بن عبد المطلب.
ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم، أن رؤوس الأموال، هي الأصول التي أمر الله أن يحتفظ بها أصحابها، ليستقبلوا بها أيامهم المقبلة، في الحياة الإسلامية.
وهنا بين النبي صلوات الله وسلامه عليه، إن الزمان قد استدار، كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض.
واستدارة الزمان، شيء يعرفه في تاريخنا المعاصر، كبار العلماء الذين يعرفون تكوين أجزاء السموات والأرض وما بينهما، ومكوناتهما الدقيقة، على مستوى الذرة، والخلية، وصلة كل شيء من ذلك بالزمان والمكان.
وهؤلاء العلماء، هم الذين يدركون سر العظمة، في قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن الزمان استدار).
وقد تكون الاستدارة بمعنى الحركة، التي علمنا أخيرا أنها دائرية، كما أن مكونات كل شيء في خلق الله دائرية الشكل، والهيئة، وبذلك ندرك سر العظمة، في قول النبي صلى الله عليه وسلم، (إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السموات والأرض).
وهنا قرأ النبي صلى الله عليه وسلم، الآية السادسة والثلاثين من سورة التوبة.
وهذه الآية تأتي من حيث الترتيب في المصحف، في بداية الترتيب لأربعة آيات، جاء فيها كلها، قوله تعالى : «ذلك الدين القيم» موصولا بباب جديد من أبواب العلم في القرآن كله، مع كل آية بذاتها، من بين هذه الآيات الأربع.
- إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا إلى قوله تعالى : «ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم» 36 : التوبة
إن الزمان من أهم حقائق الغيب الذي يواجهه الإنسان، منذ شعوره بذاته، فوق الأرض، وتحت السماء.
- «ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون» 40 : يوسف
فلما تم بيان علاقة الإنسان بالزمان، في آية التوبة، جاء في الآية السابقة من سورة يوسف، بيان أول ما يحتاج الإنسان من أعلى أنواع المعرفة، وهو معرفته لإلهة الحق، وهو الله لا إله غيره.
- «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون» 30 : الروم
لقد جاءت هذه الآية في ترتيبها بين الآيات الأربع التي نجد فيها قوله تعالى «ذلك الدين القيم» لأنها بينت لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم، مكلف من ربه أن يتبع دين الله الذي فطر الله عليه كل المجتمعات الصالحة، فيما خلا من التاريخ قبله، وفطر عليه السماوات والأرض، وسائر خلق الله الذي لا تبديل له.
فها هنا يظهر لنا النظم الإلهي للزمان والمكان، في حقيقة جامعة.
- «فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله» 43 : الروم
إن هذه الأيات الأربع، بترتيبها القرآني، العظيم في إعجازه، قد انتهت بنا مع آخر آية فيها، إلى يوم القيامة، وبينت بنا مع آخر آية فيها، إلى يوم القيامة، وبينت أن النبي صلى الله عليه وسلم، مكلف أن يستمر على العمل بدين الله، لا لنفسه وحده، وإنما لكل الناس، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
فلهذا وجدنا خطبة أيام التشريق، قد أخذت بعد قراءة الآية السادسة والثلاثين من سورة التوبة، الطريق المنتهي إلى بيان النبي عن الحرب بين المسلمين بعضهم بعضا، وبيان أن الشيطان قد يئس أن يعبده المسلمون، بعد أن أسلموا، ولكنه يحرش بينهم، أي يوقع بينهم العداوة والبغضاء.
ولأن المسلمين يتكاثر عددهم، منذ عهد النبي إلى قيام الساعة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : فاتقوا الله في النساء، ثم بين حقوق الرجال على النساء، وحقوق النساء على الرجال، ثم أمر بالأمانة، حتى أنهى خطبته بقوله : ألا هل بلغت (ثلاثا)، وأمر أن يبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أسعد من سامع.
إن هذه الخطبة، تقوم على ترابط وثيق بين قضايا كل مكان وزمان، كما جاءت مجملة في القرآن، وكما فصلتها هذه الخطبة في السنة أو أن حاولنا – معا – أن نصيب بعض الحقيقة أكثر من ذلك، فإننا نقول : (إن معاني القرآن والسنة، كما ظهرت معجزاتهما معا، في الآيات الأربع التي فتحت لنا هذه الخطبة أبوابها، وكذلك في الخطبة ذاتها، إنما هما متفاعلان تفاعلا لا يقدر على تنسيق أجزائه، وربطه بتأثيراته الدائمة، في جملة الحقائق الخاصة به، في كل زمان ومكان، إلا الله وحده لا شريك له).
وهذه الحقائق لا تخفى على الباقلاني الذي تعلمنا منه، كيف نفكر في الإعجاز.
ولكنه كان يتحدث عن النص القرآني في ذاته، لا عن تأثيره العملي في الحياة، وهو معجز بنصه وتطبيقاته العملية معا، غير أن هذه الأخيرة لا يتم الكلام عنها، إلا مع الكلام عن السنة.
فلا ريب في أن التقدم العلمي، بكل أنواعه، يجد آفاقه الرحيبة، في الربط بين القرآن، والسنة النبوية، والسنة الكونية، بما يتفق مع كل قضية بذاتها من قضايا العلوم.
- مع الخطيب الإسكافي في بيانه للآيات المتشابهات:
في كتاب (درة التنزيل وغرة التأويل، في بيان الآيات المتشابهات في كتاب الله العزيز) يحدثنا الخطيب الإسكافي (47) عن التركيب القرآني، المتجدد المقاصد، مهما تتشابه آيات القرآن.
وننظر إلى ثلاث آيات متشابهات لنرى كيف تحدث عنها الخطيب الاسكافي.
- «إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون» 62 : البقرة
- «إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون» 69: المائدة
- آية سورة الحج وفيها قول الله تعالى : «إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة» 17 : الحج
يقول الاسكافي – رحمه الله – للسائل أن يسأل فيقول : هل في اختلاف هذه الآيات، بتقديم الفرق وتأخيرها ورفع الصابئين في آية، ونصبها في أخرى، غرض يقتضي ذلك؟
والجواب أنه (لابد من حكمة هناك تطلب، فإذا أدركتموها فقد ظفرتم، وإن لم تدركوها فليس لأنه لا حكمة هناك بل جهلتم)(48).
- ونلخص ما قاله الاسكافي عن ذلك فنجده يبين لنا أن ترتيب المقاصد لآية البقرة قد تم على أساس الفترات التاريخية التي جاءت فيها الكتب السابقة بحسب فترة كل كتاب منها.
أما الصابئون فهم قوم يتقلبون من دين إلى آخر، ولهذا جاء ذكرهم بعد ذكر أهل الكتابين.
- أما الترتيب في آية المائدة فقد تم على أساس كل أمة من هذه الأمم فالصائبون وجدوا قبل النصارى، ولهذه ذكروا قبلهم، وقد جاءت الصابئون مرفوعة على أن النية فيه التأخير بعد خبر ان وتقديره ولا هم يحزنون والصابئون كذلك فهو مبتدأ والخبر محذوف (49).
- أما آية الحج فقد ذكرت فيها هذه الأمم، وفق أزمنتها كذلك، مع تأخير الذين أشركوا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، بعث فيهم، وجاءهم بالدعوة الخاتمة إلى دين الله تعالى.
وبانتهاء ملحوظات الاسكافي، رحمه الله يتبين لما أن هذه الآيات الثلاث قد جاء في أولها ترتيبا وهي آية البقرة قوله تعالى :
«فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون».
بينما آية المائدة وهي الثانية، في ترتيب المصحف، قد جاء فيها قوله تعالى:
«فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون» ولم نجد فيها «فلهم أجرهم عند ربهم»
فتبين بذلك أن آية البقرة لمن بقى على دينه منهم ولم يمت سواء أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ودخل في دينه، أو لم يدركه، وإنما كانت مؤمنا به، ومات على ذلك قبل بعثته، على أساس انه قرأ عنه في التوراة والإنجيل.
وبذلك تكون الآيات قد صورتا حالة هؤلاء جميعا، في حال موتهم أو حياتهم ما داموا كما قال الله عنهم «من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا».
والإيمان بالله واليوم الآخر، يقتضي أن يكونوا أهل توحيده، وأن يكونو مؤمنين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فهم على هذا الاعتقاد سواء أدركوه فآمنوا به أو ماتوا قبله مؤمنين، بأنه مبعوث لا محالة.
ومن الدليل على ذلك أن الآية الأخيرة، في ترتيب المصحف، وهي الآية الحج جاء بها قوله تعالى :
«إن الله يفصل بينهم»
ولم نرى بها تأمينهم من الخوف والحزن، كما جاء في آية البقرة وآية المآئدة.
فهذا يدل على أن آية الحج، تخص المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم، من هؤلاء جميعا.
ومع أن هذا الفهم يقوم على مجرد الاجتهاد في الرأي إلا أن النصوص هذه الآيات المتشابهات، تؤكد ثلاثتها ما ذهبنا إليه والعلم كله عنده تعالى.
ثم ان مما يؤكد هذا أيضا، هذا الحديث الذي يبين لنا، سبب نزول آية البقرة.
فقد روى مجاهد قال : قال سليمان الفارسي رضي الله عنه، سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم، قلت يا رسول الله : كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون بك ويشهدون أنك تبعث بيننا، فأنزل الله هذه الآية (50).
وهكذا نفهم ان ما جاء في هذه الآية إنما هو أمر مخصوص، يخص حالة بعينها هي حالة الذين آمنوا بالكتب الإلهية السابقة وعملوا بها، وعرفوا منها نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وآمنوا به ثم ماتوا قبل بعثته.
وهكذا نعلم أن السنة تضع لنا أي حقيقة قرآنية، في صيغة مترابطة مع الواقع العملي للحياة المتجددة وهذا المنهج يفتح آفاق التقدم العلمي، حيث يعلمنا كيف ترتب أحداث التاريخ ونترقب، ما هة غيب منها حتى يجئ أوانه.
ولكن الاسكافي – رحمه الله – لم يربط اجتهاده في فهم الآيات المتشابهات بما يفسرها من السنة.
ولو فعل الاسكافي ذلك، لكان كتابه أكثر نفعا، وأوضح بيانا، ولكل درجات مما عملوا.
والحمد لله رب العالمين.
- مع تاج القراء الكرماني في نفس التكرار عن القرآن
التكرار في كلام البشر، هو استعمال قدر من الكلام، مرات كثيرة، حيث تكفي مرة واحدة.
أما القرآن فإنه كل صلة بين الكثير والقليل من كلماته، دائمة التجدد، موصولة التفرد.
وكلام هذا شأنه، لا مكان فيه التكرار وإنما هو الإحكام والتفصيل، الذي لا يقدر على مثله إلا الله وحده.
ولقد بين تاج القراء الكرماني بعض الأصول التي يقوم عليها هذا النظم، الذي لا تكرار فيه، مهما تتعدد، مواضع الآيات ومواضع أجزائها في جملة القرآن وتفصيله (51).
فمما بين الكرماني، أنه ينفي التكرار عن الكلمة القرآنية المتعددة المواضع، انه نظر في قوله تعالى :
«صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين»
7 : الفاتحة
ثم قال :
إن كلمة (عليهم) لا تكرار فيها، لأن كل واحد من موضعيها متصل بفعل غير الآخر، وهو الانعام والغضب.
فإذا نظرنا إلى الأسس التركيبية، التي تقوم عليها هذه الحقيقة، التي تحدث عنها الكرماني، فإننا نعود – معا – إلى القواعد الثلاث التي تحدثنا عنها من قبل.
1-فكلمة (عليهم) ثابتة على نصها مهما تهدد مواضعها.
2-وهذه الكلمة متصلة بجديد من المقاصد، مع كل موضع نجدها به.
3-وهناك إعجاز في ترتيب هذه المقاصد لأن قوله تعالى :
«صراط الذين أنعمت عليهم»
قد اتصلت فيه كلمة عليهم (بالإنعام) وهو موضعها الأول في سورة الفاتحة.
أما قوله تعالى :
«غير المغضوب عليهم ولا الضالين»
فقد اتصلت فيه كلمة عليهم بالغضب والضلال
ولقد جاء في السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم، لما خلق الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي (52)
فبذلك ندرك سر الإعجاز في ترتيب الإنعام قبل الغضب.
والنظر في ترتيب كل كلمة قرآنية متعددة المواضع، يعلمنا البحث العلمي، في مكونات السموات والأرض، وكيف نجد كل نوع من أنواع الخلق، ثابتا على نوعه شكلا ومضمونا، ثم نجده متجدد الصلة بكل موضع من مواضعه في الوجود ثم نجده مرتبا في مجتمع يخصه.
ويتحدث الكرماني عن مواضع قوله تعالى «من شر» كما نجدها في سورة الفلق، حيث ارتبطت في الآية الثانية بالشر كله حيث قال تعالى «من شر ما خلق».
ثم تبع ذلك ما هو أصغر مما قبله وأكبر مما بعده، حيث جاء ذكر القبر إذا أظلم. «ومن شر غاسق إذا وقب» ثم تبعه أصغر منه وأكبر مما بعده حيث جاء ذكر الساحرات وهن يجمعن بين الحمد، وبين عمل من الأعمال الناتجة منه وهو السحر.
«من شر النفاثات في العقد»
وأخيرا جاء ذكر الحاسد إذا حسد، لأنه لم يبلغ ما بلغته النفاثات في العقدإذ جمعن بين الحسد والعمل به، بينما هذه الآية الأخيرة جاء فيها الاستعاذة بالله من الحاسد إذا حسد، فهذا أخف لأنه فيه شرطا إذا وقع فعلا، فقد سبقته الاستعاذة منه، وكهذا تأخير ترتيبه، حيث ختمت هذه السورة بقوله تعالى : «ومن شر حاسد إذا حسد»
أما الذي جعلنا نفهم أن الغاسق إذا وقب هو القمر إذا دخل في الظلام، فهو حديث نبوي صحيح الاسناد.
عن عائشة رضي الله عنها قالت، نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر لما طلع فقال يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب (54).
فهذا تفسير لمعنى من معاني الشر وبيان لسر من أسرار الخلق، هو أن في كثير من المخلوقات خير من وجه وشره من وجه آخر.
فالقمر إذا هو منير فهذا مما أودع الله فيه من الخير، بينما هو إذا ذهب نوره، كما هو شأنه عند قيام الساعة، فهذا شر على الكافرين.
ولو ربط الكرماني بين تفسيره لنظم القرآن وما فيه من نفي التكرار، عما تتعدد مواضعه من آياته وأجزائها، وبين ما يفسر من السنة لزادنا بيانا كما رأينا.
أما أصول التقدم العلمي، التي يقدمها لنا إعجاز القرآن، وما يفسره من السنن النبوية، والسنن الكونية، فهي – هنا – في هذا الترابط بين الحقائق العلمية المتنوعة، التي نجدها في علوم بشرية مختلفة، مثل الفلسفة التي تخص بالبحث في الخير والشر، ومثل الفلك الذي هو علمي كوني مستقل بذاته، ومثل الحسد الذي يستقل به علم الاخلاق.
فالربط بين هذه العلوم كلها، في علاقات مترابطة، نوع من أنواع الإعجاز القرآني، الذي يعيد التفكير العلمي إلى فطرته الأصلية من الوحدة الجامعة، حيث لا مكان للتناقض بين الحقائق، وإن تفرقت بها الاختصاصات العلمية المختلفة.
- مع عبد القاهر الجرجاني، ونظريته في نظم القرآن
تتلخص نظرية عبد القاهر الجرجاني في الإعجاز القرآني، يعود في جملة وتفصيله إلى النظم (55).
والنظم كما تبينه عبد القاهر الجرجاني في آيات القرآن وسوره، تجتمع فيه كل وجوه الإعجاز، بحيث لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله، مع أن البشر أنفسهم لا تقاس بمثله، مع أن البشر أنفسهم لا تقاس بلاغتهم إلا من خلال نظمهم لكلامهم فهيهات أن يأتي المخلوقون بمثل نظم الخالق لكلامه !!
يقول عبد القاهر الجرجاني رحمه الله معلوم ان ليس النظم سوي تعلق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب من بعض.
والكلمة ثلاث، اسم وفعل وحرف، وللتعلق