أبحاث

أفكار الآخرين

العدد 29

انطلاقا من أن الاختلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية ، وإيمانا بأن اختلاف المبنى على الاجتهاد والملتزم بقوانين الحوار موضوعيا وأخلاقيا هو ضرورة حيوية ، وهو أمر مقرر فى كل مجتمع يسمح للفكرة أن تنمو وأن يعبر عنها بحرية والتزام ، ولأن الحوار حول قضايانا المعاصرة أصبح ذا أهمية بالغة ، للوصول فيها إلى قرار قد لا يكون نهائيا ، ولكنه على الأقل قد يمثل الحد الأدنى من الأنفاق ، وإلا فستضيع جهود كثيرة وتتبدد أوقات ما أشد حاجتنا اليها.

لهذه الأسباب وغيرها رأى الكاتب ضرورة تحديد موقفنا من أفكار الآخرين قبولا أو رفضا مدركين بوعى ما يترتب على هذا أو ذاك من أثر فى حياتنا المعاصرة.

وقد حاول الكاتب أن يبرز أن الرأى الآخر موجود فى تاريخ الفكر والواقع الاسلاميين ، وأن الاسلام لا يحجر عليه ولا يجرمه ما دام فى حدود دائرة الأدب والموضوعية الاسلاميين ، كذلك تعرض لآراء الآخرين فى غير النطاق الاسلامى ، مؤكدا أهمية التعامل معهم للإفادة منهم ومن خبراتهم.

والآخرين كثيرون.

بعضهم منا ، وبعضهم عنا غريب.

وعلاقتنا الفكرية , مع هؤلاء ومع أولئك , يعتريها نقص كبير.

أما الذين هم منا دماً ، وديناً ، وتاريخاً ، فلدينا من الموانع الموراثة ما يحول دوننا والتفاهم معهم ، أو الفهم عنهم ، أو الانصاف فى تقويمهم قولا وعملا.

أما الذين هم عنا غرباء ، فلدينا من الموانع المستحدثة التى قد تختلط ببعض التاريخ القديم ، ما يعجزنا عن إدراك دلالات ما يقولون ، أو تقدير البواعث والدوافع الحقة لأغلب ما يصدر عنهم ، أو التسليم الموضوعى بالضرورات الحضارية والحياتية للأخذ عنهم والعطاء لهم والتفاعل معهم.

وحتى نرشد تعاملنا مع ، ومواقفنا من ، أفكار الآخرين ، وحتى نتقن كيف نقومها وكيف نتعامل معها وكيف نستفيد منها ، فإننا ولابد مضطرون الى التعرف على هؤلاء الغير ، فى الموارث التاريخى وفى الواقع المعاش ، سواء كانوا منا أو كانوا عنا غرباء.

أولا: الذين هم منَا

حتى في عهد الرسول صلوات الله عليه وسلامه عليه لم يكن مجتمع المسلمين يخلو من تفاوتات في الرؤي ، أو خلافات فى الرأى.

حقيقة أن الخلافات في أوائل مبعثه صلوات الله وسلامه علية لم تكن ، كما ونوعا ، مثلما كانت فى أواسط المبعث ، ولا مثلما كانت عندما أكمل الله للمسلمين دينهم وأتم عليهم نعمته وبات وشكياً أن يرحل صاحب الرسالة(ص) الى الرفيق الأعلى. وحقيقة أيضا أن الخلافات فى عهد البعثه ، ما كانت لتقارن ، شكلا أو مضمونا ، بما نشب من خلافات في العهود اللاحقة. ولكن هذا كله لا ينفى أن الخلافات كانت موجودة ، باهته أحيانا ، وواضحة أحيانا أخرى ، ولكنها كانت مستمرة ، بل وكانت متنامية متصاعدة أيضأ.

ولما كان جميع المشاركين فى خلاف الرأى أو فى تفاوت الرؤي ينتسبون بالدين الى المجتمع الاسلامى ، ناهيك عن روابط الدم واللغة والتاريخ التى كانت قائمة في أغلب الأحيان ، فإنهم جميعا تحق عليهم صفة (( الذين هم منا )). ومع هؤلأء شخوصاًً ، ومنذ انبثاق الدعوة المحمدية الربانية زمانا ، ومن أرض المبعث بمكة مكانا ، نبدأ مسيرتنا فى الزمان والمكان ، علنا نعى دروس التاريخ ، ونستوعب حتميات السنن الالهية ،  ونستفيد من حكمة الممارسات المحمدية ، ونخلع عن أعيننا عميات الوهم والجهل التى ابتلينا بها ، وطال منها البلاء!

1- الرأى والرأى الآخر في مجتمع الرسول

عندما أمر الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، أن يقوم فينذر ، وربه يكبر ، وثيابه يطهر ، والرجز يهجر ، ما كان الناس فى مجتمع مكة غير نفر من ثلاثة؛ إما صفوة من الناس ينتظرون الوحى ، يتفهمونه ويقبلون عليه ، وهؤلاء صدقوا بدعوته عليه السلام. وإما قوم قساة غلاظ أصحاب مطامع ومصالح ، وهؤلاء كذبوه وآذوه وأنكروا عليه النعمة الكبرى التى أنعم ربه بها عليه ، بل واستكثر عليه نفر منهم – حسدا أو استهجاناًً – أن يكون اختيار السماء قد وقع عليه وهو ليس رجلا من القريتين عظيم. أما الذين هم وسط بين هؤلاء وبين أولئك ، فما كانوا بقادرين فى اطار الاستقطاب الصريح الواضح الذى حدث فى المجتمع المكى أن يجاهروا بهذا التوسط ، وما كانوا بمستطيعين أن يلعبوا به تربصا بالكفة التى ترجح حتى يتعلقوا بها. أى أن هذا الصنف الوسطائي الرؤية ، الوسطاني الهوى ، الوسطانى السلوك ، ما كان ليجد الفرصة ، وما كان ليجد الظروف مواتية ليقوم بدور ، رغم خطورته أو انتهازيته ، يخفف من حدة الاستقطاب العقيدي والسلوكي الذي حل بالمجتمع المكى. وكانت محصلة هذا كله ، بصفة عامة وبغض النظر عن بعض العوارض والجزئيات  التى لا تغير من الصورة العامة ، أن كان التناقض واضحاً وأن كانت القسمة بينة ، بين البياض والسواد ، أو بين الخير والشر ، أو بين الايمان والكفر ، أى التسميات نشاء. وإن الانسان ليزعم أن هذا كان هو الوضع منذ المبعث حتى الهجرة. ففى هذه المرحلة المكية من الدعوة كان قطبا الصراع واضحين جليين لا يلتبسان على أحد. قطب التجديد والثورة والأيمان يلتف حول محمد بن عبد الله الرسول الأمين(ص) ، وقطب المحافظة والرجعية والكفر يلتفت حول الأكثرية من أعمدة النظام القديم من رؤؤس قريش. فى مثل هذه الظروف كان مجتمع المسلمين متميزا ، غاية التمييز ، عن مجتمع مكة الكافر. وكانت القيادة ، بل الزعامة ، الفكرية والروحية لهذا المجتمع المسلم الوليد هى الأخرى غاية فى السمو غاية فى التحديد. كانت تلك القيادة تعلو بثقة الأتباع على المشابهة ، وتسمو بإيمانهم على المراجعة ، وترقى بانقيادهم للدعوة الجديدة على المشاركة.

وفى تجربة الفاروق عمر بن الخطاب رضى الله عنه ترجمة صادقة لتلك القسمة الواضحة فى مجتمع مكة مع مطلع البعثة المحمدية ، كما أن فيها أيضا الاكبار الجليل للقيادة الجديدة بعد أن هداه الله – أى عمر – إلى الايمان ، وأعز الاسلام به. فقد كان عمر بن الخطاب ، بحكم وضعه الاجتماعى وبمقتضى إمكاناته الجثمانية ، من أشد أهل مكة خصومة للدعوة الاسلامية الجديدة ، ومحاربة لها ، وسعيا لفتنة الذين اتبعوها. ولعله من طريف ما يروى عنه ما ذكره ابن هشام أنه كان يضرب جارية له أسلمت حتى مل كثرة ضربها فقال لها: إنى أعتذر إليك ، إنى لم أتركك إلا ملالة ، فأجابته الجارية:  كذلك فعل الله بك  ، وقد أنقذ الجارية منه أن أبا بكر رضى الله عنه مر عليه وقتئذ فابتاعها وأطلقها. وعمر هذا هو الذى خرج يسعى وراء محمد (ص) ليقتله فانتهى الأمر به مسلماً ، كما ورد فى كتب التاريخ والسيرة. ولما أسلم ، وكان المسلمون حتى ذلك الوقت يتخفون بإسلامهم  ، لم يرضى بأقل من الوقوف على باب المسجد ، ليعلن أمام أندية مكة المنعقدة حول الكعبة ، أنه قد أسلم وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد الله ورسوله ، فلما ثار عليه الكفار المكيون ظل يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على روؤسهم ، ولم يمنعهم من قتله إلا خشيتهم من أهله وعصبيته بنى عدى بن كعب. بل ويروى عنه أنه قال: (( لما أسلمت تلك الليلة تذكرت أى أهل مكة أشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة حتى آتيه فأخبره أنى قد أسلمت فأقلبت حين أصبحت حتى ضربت على أبى جهل بابه ، فخرج الى فقال: مرحباً وأهلاً بابن أختى ما جاء بك؟ ، قلت : جئت لأخبرك انى آمنت بالله وبرسوله محمد (ص) وصدقت بما جاء. فضرب الباب فى وجهى وقال (( قبحك الله وقبح ما جئت به))(1). وهذا نموذج العمرى يصور الموقف من الدعوة المحمدية الثورية الجديدة أدق تصوير ، فجدة الدعوة وجديتها ، ما كانت تترك للمكى غير اختيار من اثنين ، إما أن يكون معها ، وإما أن يكون عليها. فاذا اختار أن يكون عليها فطبيعة الأشياء تفرض علية أن يعد محمدأً(ص) من الأراذل الذين يشغبون على أهليهم ، ويثيرون الفتن بينهم ليفرقوا بين الولد وأهله ، ومثل هؤلاء يستحقون المطاردة والمعاقبة وسوء العذاب. وأما اذا اختار ان يكون لها فإن طبيعة الأشياء هنا تفرض عليه أن يعلو بمحمد(ص) بشرا ورسولا ، وأن يجاهد فى سبيل معتقده الجديد ، بالصبر على المكاره إن كان من المستضعفين ، وبتحدى المشركين ومصاولتهم إن كان من القادرين أمثال الفاروق عمر الذى كان إسلامه نصرا وكانت هجرته فتحاً.

وفى مثل ذلك المجتمع الاسلامى المكى ، كانت القيادة عظيمة ، وكان الأتباع عظماء أيضا. وكانت المواقف المبغضة الغبية من قريش تحول دون غير العظماء – فى ميزان الاعتقاد والايمان – وإتباع محمد (ص). وكان القائد الرسول والذين هم معه فى مرحلة التلقى الصرف فى أمور العقيدة والاعتقاد. هو عليه الصلاة والسلام يتلقى من جبريل عن ربه ، وهم بدورهم يتلقون عنه حقا وصدقا. وكانت النقلة الاعتقادية التى يعمل من أجلها محمد بن عبد الله (ص) تعز على الاستيعاب إلا من قلب كبير وعقل نافذ ، وهو ما لا يتوفر لغير الصفوة فى كل مجتمع ، وهو ما لا يمكن تحقيقه بغير الشقة المطلقة ، والتسليم المطمئن ، والتبعية المؤمنة بالقائد. إنها تحتاج إلى رجال من أمثال أبى بكر الصديق الذى دق الشامتون الشانثون بيته يخبرونه أن صاحبه يزعم أنه ذهب إلى بيت المقدس فى ليلة ورجع ، بينما العير تطرد – أى تتابع سيرها فى غير انقطاع – شهرا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة ، فما كان من الصديق إلا أن قال: (( والله لئن كان قد قاله لقد صدق ، إنه ليخبرنى أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض فى ساعة من ليل أو نهار فأصدقه ، فهذا أبعد مما تعجبون منه))(2). فالقضية إذن لم تكن رد الأمر إلى العقل والخبرة الحسية لقياسه بأدواتها و معايرته بمعاييرها ، ولكن المعيار والمقياس كان التصديق بصحة الرسالة المحمدية أو عدم صحتها. وهذا التصديق هو الذى جعل قول الرسول (ص) يعلو عند أبى بكر على الخبرة المادية القحة التى تؤكد أن الانتقال من مكة إلى بيت المقدس لا يتم بغير ضرب أكباد الابل شهرا للذهاب وشهرا للعودة.

وانطلاقا من هذا كله ، فإننا لا نكون مبالغين ، اذا قطعنا بأنه في مثل هذا المجتمع ، وفى أطار هاتيك الظروف ، ومع هؤلاء الناس ، ما كان ممكنا أن تتعدد الأفكار ، ولا أن تتنوع الرؤى ، ولا أن تتفاوت الآراء ، سواء فى المستوى الفطرى العقيدي او فى المستوى العملى الحياتى. ففي المستوى الأول كان الرسول (ص) يؤسس العقيدة فى نفوس أتباعه بهدى من الله دونما اجتهاد بشري منه يتعلق بأصول وجوهر هذه العقيدة ، وبالتالى فلم يكن أحد دون الرسول (ص) يمكن أن يكون صاحب اجتهاد قى هذا الخصوص. أما فى المستوى الثانى ، العملي الحياتي ، فلم يكن المسلمون قد كونوا بعد مجتمعهم المستقل ، الذى يديرون أموره بمعرفتهم ، وما كانت لديهم من المشاكل الحياتية الكثير ، كما أن الدعوة الاسلامية لم تكن قد تقدمت بعد لعرض ومناقشة وطرح القواعد التنظيمية التى يقوم عليها المجتمع المسلم المنتظر. أى أن أمور الدنيا ، بكل تلافيفها وتعقيداتها ، لم تكن الشغل الشاغل لمجتمع المسلمين المحدث ، قيادة وجماهير ، وذلك رغم كون الدعوة تحمل في مؤشراتها العامة المبكرة الوعد بمجتمع أفضل ، وبمساواة بين الجميع يهفو اليها المطحونون فى مجتمع مكة التى تسود فيه علاقات العبودية وأنماط عدم التوازن الاجتماعى. ومن هنا فإن أبواب الخلاف كانت موصدة أو شبة موصدة. وقد كان موقف المسلمين المحدثين (وقتئذ) من الرسول(ص) لا يعدو أن يكون استيضاحاً هنا ، أو تبيانا هناك ، أو حاجة الى تثبيت الايمان وتقوية العزيمة فى موضع ثالث. والحوار اذ يقوم فى هذا الاطار بين الرسول(ص) وبين أتباعه لا يكون مشاركة منهم للرسول صلى الله عليه وسلم فى إبداء الرأى ، ولا مراجعة لما يلقية صلى الله وعلية وسلم من قول ، ولا محاجة يواجهون بها صاحب الدعوة ، ولا افتعالا للجدل يبحث عن نقاط الخلاف ومظانه ، ولكنه فى حقيقته استزادة من العطاء الالهى الذى ينتقل إليهم عن طريق الرسول الكريم ، وسعيا مخلصا لتثبيت العقيدة فى النفوس ، وتقوية للربطة الايمانية مع القائد العظيم ، ودعما للصلة الاتباعية بالدعوة الجديدة.

أما بعد الهجرة ، فقد كانت الأمور فى يثرب غير ما كانت عليه فى مكة. فالظروف مختلفة ، والقوى الفاعلة فى الحياة اليثربية مغايرة ، وتطور الاسلام ذاته – مجتمعا ودعوة – أسبق كثيرا عما كان عليه فى مكة. ففى المدينة ، منذ مطلع البدر على أهلها من ثنيات الوادع كان القطاع الاسلامى يتصد ر الحياة السياسية ويحتل الموقع الأرقى والأقوى. وكان المسلم – أى مسلم – آمنا على عقيدته ، مطمئنا على نفسه ، قرير العين على ولده وماله. وهذه الظروف فتحت الأبواب عن سعة لانضمام المتردد والخائف والضعيف من اهل يثرب – أومن غير أهلها – الى الاسلام. وكانت الشواهد كلها تقطع أن أنجم الاسلام فى صعود ، وأن مستقبلة فى اتساع ، وأن الأرض لله يورثها لعباده الصالحين ، مما أدى بكثير من الطامعين والمتسلقين والانتهازيين الذين تحركهم شهوة الكسب بغير جهد أن يلحقوا بالركب المسلم على امل كيد بتحقيق بعض – إن لم يكن كل – ما يرجون. وكانت هذه هى البداية الموضوعية لانطلاق ظاهرة ((النفاق )) التى عرفها مسلمو يثرب ولم يعرفها مسلمو مكة.

والى جانب المسلمين في المدينة ، كانت تتواجد قوتان أخريان رئيسيتان. أما القوة الأولى منهما تتمثل في الذين بقوا على شركهم من اليثربيين ، وهم كثير ، بينما كانت اقوة الثانية تضم اليهود ، سواء كانوا يقيمون في داخل المدينة مثل بنى قينقاع ، أو فى أطرافها مثل بنى قريظة وبنى النضير ، أو بالقرب منها مثل يهود خيبر. وهذه القوة الأخيرة (اليهودية) بوصف أتباعها أهل كتاب وأهل جدل قديم ، كانت تقوم بدور رئيسي فى تنمية الصراع الذى دار فى المدينة ، والأهم من هذا أنها كانت تضيف إلية بعدا فكريا وعقائديا كان غائبا – الى حد كبير – في ذلك الصراع الذى عرفه الاسلام وعايشه فى مكة. وقد فرض هذا التواجد المشترك للقوى الثلاثة في المدينة ، وبينها قدر من توازن القوى واضح جلى ، نمطا سياسيا فى التعامل يقوم على أسس الاحترام والتقدير والقبول. وكان مرتكز القوة الاسلامية فى تعاملها فى هذا الاطار تحقيق حرية العقيدة ، وانطلاق الدعوة دون عوائق ، ودون عنت ، ودون معاندة. وكانت القوتان الأخريان تدركان أن لا مفر من القبول بالتعامل مع القوة الاسلامية الجديدة ولو مرحليا ، بل ولربما كانت منهما – خاصة اليهودية – تطمع فى احتواء محمد (ص) واحتواء دعوته ، بل ودعم مواقفها به وبأنصاره. وفي إطار توازن القوى هذا ، كان القانون الذى يجرى على أساس منه العمل السياسى هو قانون (( الوحدة والصراع)). فالقوى الثلاث عون لبعضها البعض فى مواجهة الأعداء والغزاة الوافدين من خارج المدينة وهذا هو جانب الوحدة. بينما الاحتكاك والجدل ومحاولات التأثير من الداخل بين هؤلاء جميعا هو جانب الصراع. وقد تمثل جانب الوحدة فى قوله صلى الله وعليه وسلم لبعض من بايعه من أهل يثرب فى العقبة الثانية: (( أنتم منى وأنا منكم ، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم)) ، كما تمثل فيما تضمنه كتاب المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين بشأن اليهود ، وقد ورد فيه: (( وإن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين ، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم فانه لا يوتغ – أى يهلك ويفسد – إلا نفسه وأهل بيته. وأن ليهود بنى النجار ويهود بنى الحارث ويهود بنى ساعدة ويهود بنى جثم ويهود بنى الأوس ويهود بنى ثعلبة ولجفنة ولبنى الشطيبة مثل ما ليهود بن عوف)).(3) وبينما كانت قاعدة الوحدة تعمل فى الجانب السياسى (والتعاهدى) البحت ، فقد كانت قاعدة الصراع أشد فاعلية فى الجانب الفكرى ، وقد تجسد هذا الصراع في محاولات الاثارة والواقعية بين الأوس وبين الخزرج لاثارة الاضطراب والقلق وتضييق المنافذ الاسلامية الى الجيوب المشركة المتبقية فيهما ، كما تجسد فى الجدل العنيف الذى أثارته يهود مع  المسلمين وبينهم ، والذى تطاول حتى بلغ حد محاولة فتنة محمد(ص) ذاته ، حتى إن الله تبارك وتعالى نبهه إلى ما يراد به وخاطبة بالقول: (( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل اليك فان تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثير من الناس لفاسقون))(4). وقد كانت الأرجحية لأى من القاعدتين – الوحدة أو الصراع – على الأخرى مرهونه بالظروف والملابسات التى تحيط بالممارسات اليومية للمجتمع اليثربى. ففى أحيان تعلو الأولى ، وفى أحيان أخرى تعلو الثانية ، ولكن يمكن القول فى صياغة عامة أن قاعدة الوحدة ظلت ترقى على قاعدة الصراع حتى كانت وقعة النصر الاسلامية الأولى الكبرى فى بدر ، وفي أعقاب ذلك ارتفعت قاعدة الصراع بعض الشئ حتى كادت توازن القاعدة الأولى. أما في أعقاب غزوة الخندق ، وبعد الذى تكشف من أفعال اليهود – وبنى قريظة منهم على وجه التخصيص – فقد قدم المسلمون قاعدة الصراع على قاعدة الوحدة.

والذى يعنينا من هذا الواقع ، أن التعاملات اليومية المعقدة ، وان التفاعلات الفكرية المتنوعة التى كانت تجرى فيه ، كانت تنعكس بصورة أو بأخرى على المسلمين ، خاصتهم وعامتهم ، وتتمثل في تساؤلات واستفسارات ، بل وتشككات أو تخوفات ينقلها بعضهم الى رسول (ص) أو يطوى عليها جوانحه ، وكلها شواهد على بداية تنوع فكري ، وخلافات في الرأى ، تنمو فى المجتمع الاسلامى.

جانب ثالث في المجتمع الاسلامى المدني يجب الوقوف عنده ، ففى ظروف الأمان والاطمئنان التى عمل فيها رسول (ص) وعمل فيها المؤمنون في المدينة ، كان من طبائع الأشياء أن تهتم القيادة الاسلامية العليا بأمور الدنيا قدر اهتمامها بأمور العقيدة. وكان من التداعيات الموضوعية فى هذا الخصوص أن تجرى توجيهات ومحاولات واجتهادات لتنظيم المجتمع الاسلامى وإدارته وضبط العلاقات والتعاملات بين أفراده أو بينهم وبين الآخرين. ولعل في تحول القرآن المدني الى تناول قضايا التشريع للمجتمع وأمور المعاملات فيه – وهى الميزة الأولى التى تفرق بين المكي من القرآن والمدنى منه – الدليل الموثق على ما نذهب إلية. وتنظيم المجتمع بكافة جوانبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحربية كان فتحا موسعا لأبواب يدخلها المسلمون لمشاركة الرسول(ص) – ومجادلته – فى  الأمور الحياتية. وفي هذا الصدد فإننا نلتقى في القرآن بوقائع كثيرة تسجل كيفية ممارسة المسلمين لهذا الحق ، فنقرأ عن المرأة التى تجادل الرسول(ص) فى زوجها ، ونقرأ عن الذين ينادونه من وراء الحجرات ، ونقرأ عن عتب القرآن عليه فى مواضع كثيرة مثل فداء الأسرى وكتمانه توجهه – بأمر من الله – للزواج من أم المؤمنين زينب بنت جحش ، كما نقرأ أمرا له – بعد تسجيل لدمائته في التعامل وديمقراطية سلوكه – أن يشاور المسلمين في الأمر قبل أن يتوكل على الله: (( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلون))(5). أما فى كتب السيرة فإننا نقرأ أخذه بمشورات المسلمين فى تجهيزات الدفاع بحفر خندق حول المدينة في غزوة الأحزاب ، وفى اختيار موقع نزول الجيش في غزوة بدر ، كما نقرأ  مراجعات المسلمين العنيفة له فى أمور السياسة العليا ، المختلطة اختلاطا شديدا بأمور العقيدة وحروب الأيديولوجيا ، حين وقع صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية ، وحتى إن الفاروق عمر احتج عليه غاضبا فيسأله: (( أوليست رسول الله؟! ، فيجيبه: بلى ، فيسأل عمر: ألسنا على حق وهم على باطل؟ ، فيجيب في سماحته: بلى ، فيرتفع الفاروق بغضب الجدل درجات أخرى ويتعجب: فلماذا نعطى الدنية فى ديننا؟! ، فما يكون من السمح الكريم إلا أن يقول: إنى أنا رسول الله ، وإن الله لم يضيعنى أبدا .. وغير هذا وذاك تجد الكثير من المحاورات والمناقشات والمشاورات والمراجعات في كافة مناحى الحياة وأنشطتها… بل ويصل الأمر حدود أن يعرض الرسول (ص) على غطفان ثلث ثمار المدينة إن هم أنفصلوا عن أحزاب الشرك التى أحاطت بالمدينة في غزوة الخندق ، فيرفض رأيه الأنصار ، ويستكثرون على كرامتهم (القومية) أن يشاركهم أغراب أعداء في بعض ثمرهم. ومثل هذه الواقعة بما تحمله من خلافات شديدة في الرأى لها دلالات سياسية وقومية وأخلاقية كبيرة يجب تدبرها.

والخلاصة إذن ، أنه فيما بعد الهجرة وحتى فتح مكة ، كانت الظروف مواتية لتحقيق أمان كبير – بل وكسب كثير أيضا – لمن يتنسب إلى الاسلام ، مما فتح الباب للمتردد والخائف والضعيف بل والمنافق لينضم الى المجتمع المسلم الصاعد في يثرب. فإذا أضفنا الى ذلك البعد الثقافى الذي أقحم على الصراع بدخول اليهود بوصفهم أصحاب ديانه وأصحاب أفكار سابقة ، ثم البعد العملى المتعلق بإقامة المجتمع المسلم وتنظيمه بكل التعقيدات والتداخلات المحتملة ، لآستيقنا أن الوحدة المطلقة والتى كانت تميز المجتمع المسلم والمكى قد انتقصت بعض الشئ في المدينة ، وقد كان هذا هو المقابل الموضوعى لاتساع المجتمع المسلم ، وازدياد عدد أفراده ، وارتفاع القهر المتوحش عن أتباعه. وفى ظل هذا المجتمع اليثربي بدأ المسلمون يعيشون حياتهم الاجتماعية والسياسية كما تحياها كل المجتمعات الثورية الناشطة الصاعدة ، فالأهداف العامة موجودة ، والتوجهات العظيمة مشرعة ، والحماس للقيم الجديدة يوجه حركة الأغلبية الساحقة ، والمصابرة في وجه الخصوم قائمة ، والوحدة الداخلية في حبات عيون الكثرة الكاثرة من الثوار ، ولكن شوررية الثورة(أو ديمقراطيتها) إذ تتفاعل مع تعقيدات الممارسات النضالية ، تترك لكل عنصر في جيش الثورة حق المشاركة بالفعل أو بإبداء الرأى في الأحداث الجارية والقضايا المستجدة ، وذلك رغم المساحة الكبيرة التى تظل حكرا للزعامة الثورية تمارس فيها إدارة الصراع وتوجيه العمل الثورى والتخطيط لاقامة الكيان الاجتماعى الصحيح الذى يجسد فى الواقع المعاش إلهامات وأحلام وأهداف الثورة .

ومع فتح مكة ، وما أعقبة من سيادة للإسلام على شبة جزيرة العرب كلها ، بدأت مرحلة ثالثة في السلوك السياسى والاجتماعى والفكرى داخل المجتمع الاسلامى. وتتميز هذه المرحلة بدخول نوعيات جديدة من الناس إلى مجتمع الاسلام. هذه النوعيات من الناس اكتسبت إسلامها فى اللحظات الأخيرة ، حيث لم يكن قد بقى أمامها من خيار غير الدخول في الاسلام. ونؤكد هنا ابتداء أن دخول هؤلاء في الاسلام لم يكن ناشئا عن قهر خارجي مباشر وقع عليهم وفرض عليهم أن يعلنوا أنفسهم مسلمين بغير رغبة منهم أو رغم إرادتهم ، ولكنه كان النتيجة المباشرة لكون انتصار الاسلام لم يعد مجرد احتمال مثلما كان فى بداية الخطوات الأولى للرسول وصحبه في يثرب. بل صار هذا الانتصار حقيقة ضخمة وكاسحة في الواقع العربي كله ، وليس في مكة أو في المدينة فقط. وقد تميز دخول هؤلاء في الاسلام بتلقائية وآلية تفتقد إلى الارادة المحركة للاعتقاد والمواجهة للاختيار. ففى مثل هذه الظروف بدأ الالتحاق الجماعى بالمعسكر الاسلامى ، وهذا الالتحاق ما كان مبنيا على اختيار فردى قوى البصر بمسائل الايمان ، أو طموح المسعى في سبيل القيم الانسانية (والإسلامية) العليا ، وهى في مقدمة الميزات التى اتصف بها إسلام الرعيل الأول من السابقين أصحاب الرسول(ص) وأتباعه ، ولكن كانت تخالطه – بصفة عامة وبغض النظر عن مسلمين أكفاء تبعوا الرسول صلى الله وعلية وسلم في هذه المرحلة – شبهات عن الانبهار بانتصار الاسلام الساحق ، أو الانقياد اللسلطة السياسية الجديدة الكاسحة ، أو القفز إلى سفائن الحكومة الجديدة ، أو التداعي المعتقدي محاكاة للكثرة الكاثرة من الأهل والأصحاب الذين أسلموا أمرهم للنظام الصاعد ، أو شراء السلامة القصوى بإعلان الدخول في الدين الجديد.

ومن هذه النوعيات يمكننا أن نميز طوائف ثلاثة كان لها تأثير كبير فيما بعد تطور ونمو وتحرك المجتمع الاسلامى. وأول هؤلاء طائفة الطلقاء من أهل مكة ، والتى خرج من جوفها بنو مروان الذين أفسدوا على ذى النورين عثمان بن عفان حكمه ، ثم تاجروا بقميصه ، ثم حاربوا عليا بن أبى طالب كرم الله وجهه ، حتى أقاموا دولة الطلقاه من بنى أمية. أما الطائفة الثانية فتضم أعراب شبة الجزيرة من خارج المراكز الحضرية المشهورة في مكة والمدينة والطائف ، وهؤلاء كان إيمانهم موضع تساؤل وموضع شك ، حتى إن القرآن خصهم بصفة الاسلام دون صفة الإيمان: (( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان فى قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا ان الله غفور رحيم))(6). ولعله من المفيد أن نذكر أن هذه الآية نزلت فى ناس من بنى أسد ، وأنه في نبى أسد هؤلاء قام (( طليحة ))  يدعى النبوة في أعقاب وفاة الرسول(ص) ، مثلما قامت ((سجاح)) بنفس الدعوى في تميم ، وقام بها ((مسيلمة )) في اليمامة ، و((ذو التاج لقيط بن مالك)) في عمان. أما الطائفة الثالثة التي تعنينا هنا فهى هؤلاء العرب أو الأعراب الذين كانوا على صلة قديمة بالحضارات العالمية الرئيسية التى كانت سائدة وقتئذ ، وهى حضارات الروم والفرس ، وكان هؤلاء يقيمون في شمال الجزيزة المتصل بالشام ، وفى التخوم العليا من منطقة الخليج ، وفى جنوب شبه الجزيزة المتصل بالفرس والقريب من الحبشة. وقد كان هؤلاء متأثرين بالسطوة السياسية والثقافية للروم والفرس ، وقد تتمثل هذا التأثر في مناوأة ومشاغبة الدين الجديد بأساليب متنوعة من بينها التحريض على الاستقلال الذاتى ، والخروج على السلطة المركزية الاسلامية في المدينة ، أو الدعوة العدوانية للديانات المسيحية أو اليهودية أو الوثنية فى تحد مغامر وصريح للحاكمية الاسلامية في تلك الأصقاع. والى هذه الطائفة ينتسب كثيرون ممن حملوا راية العصيان ضد حكومة أبى بكر بعد وفاة الرسول (ص) ، بل وإن المرجع التاريخية تعطى احتمالا بأن أول محاولة لهذا الخروج قد تمت في اليمن بقيادة ((الأسود العنسي ذى الخمار)) فقد قيل أنه تنبأ وظهر أمره وقتل في عهد الرسول(ص) ، بينما يقال في مصادر تاريخية أخرى أنه صبر حتى قبض النبى (ص) ثم قام بالثورة على الاسلام(7).

وفيما يتعلق بهذه الطوائف الثلاثة ، فإنه يعنينا أن نثبت حقائق أربع. أما الحقيقة الأولى فتؤسس على أن أغلب هؤلاء كان دخولهم في الاسلام إضافة إيجابية واضحة للرصيد الكمى له ، بينما كان في الجانب الآخر طرحا سلبيا من الرصيد النوعي لأتباعه الأقوياء الاعتقاد الأقوياء الايمان. والحقيقة الثانية تتجسد في مجئ هؤلاء بأ فكار وثقافات وانتماءات مسبقة حركت تيارات كثيرة في الحياة الاسلامية لم تكن موجودة من قبل. والحقيقة الثالثة تؤكد أن الآثار الحقيقية لأفعال وفاعلية هؤلاء جميعا ، وإن كانت قد بدأت في الظهور في نهاية حياة الرسول صلي الله عليه وسلم ، إلا أن التركمات الكمية الضخمة التى أوجدوها في المجتمع الاسلامي لم تبلغ ذروتها إلا بعد وفاته عليه السلام ، وهو الأمر الطبيعي نظرا لقصرة الفترة التى تفصل بين الفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا وبين رحلية صلى الله علية وسلم الى الرفيق الأعلى. أما رابعة الحقائق التى يجب إثباتها فمؤداها أن الرسول صلى الله علية وسلم لم يترك مجتمعا أصما ، مصمتا ، مسطح الملامح سياسيا وفكريا وثقافيا ، ويشذ عن القاعدة العامة التى تحكم مجتمعات خلق الله جميعا ، ولكنه ترك مجتمعا حيا ، فيه الكثير من التفاوتات والتناقضات والاختلافات ، وإن كان يمتلك في الوقت ذاته أداتين لعلهما من أقوى الأدوات التى تبنى بها المجتمعات ، وأولاهما: نظرية في العمل متمثلة في القرآن الكريم والسنة المطهرة ، أما ثانيهما فهي: طليعة ثورية مؤمنة متمثلة في الصفوة من أصحابة الذين قادوا عن طريق حزب السابقين في الاسلام ، المجتمع من بعده إلى المزيد من الاتساع والاستقرار والتجانس الاجتماعى ، مع ملاحظة أن التجانس الاجتماعى لا يعنى المشابهة الكربونية بين كافة الأفراد أو طمس التمايزات بين القوى والتيارات الاجتماعية ، ولكنه يعنى تكون اتجاهات عامة في المجتمع تعلو على إمكانيات الاختلاف في الرأى أو التفاوت في الرؤى والقبول بهذه الحقيقة الرابعة مهم للغاية ، لأ من ناحية يصادر على الفكرة غير العلمية التى تصور المجتمع الاسلامى الأول مجتمعا ساذج التجانس ، أبله الولاء ، كما أنه من ناحية ثانية يرشد الحلم الطفولى بإعادة بعث مجتمع الرسول(ص) الذى يصوره البعض وجدانيا مجتمع الرأى الواحد والموقف الوحيد ، في هيئة يوتوبيا اسلامية معاصرة نهرب اليها من عجزنا المزمن ومن جهلنا السياسي الاجتماعي العميق ، ثم انه من ناحية ثالثة يفتح الباب لتحقيق فهم أدق وأشمل لما جرى في مجتمعات المسلمين اللاحقة.

2- الخلاف حول الشخص القائد.

بعد انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم الى الرفيق الأعلى جد متغير خطير للغاية على الحياة السياسية في المجتمع الاسلامى.

لقد انتهى الاجماع المطلق ، داخل ذلك المجتمع ، حول الشخص القائد والزعيم.

صعد أبو بكر رضى الله عنه إلى موقع القيادة في المجتمع الاسلامى ، خليفة لرسول الله(ص) ، ببيعة صحيحة. وهذه البيعة ارتضاها أغلب أهل الحل والعقد في مجتمع الحكم بالمدينة ، ثم تابعهم عليها كثيرون من المسلمين من خارجها. ولكن لم يجمع المسلمون إجماعا مطلقا ، على اختيار أبى بكر لقيادة الدولة الإسلامية ، فبعضهم ارتأى لنفسه أو لآخرين حقا في خلافة الرسول(ص) يعلو على حق أبى بكر في هذه الخلافة.

والملفت للنظر أن جانب السياسة في هذه المرحلة كان يطغى على الجانب الديني (العقيدي) فى الصراع أو الخلاف الذى جرى ، أو هو كان على الأقل يناظره. وذلك أمر طبيعى لأن جميع المشاركين فى هذا الرهان كانوا بغير استثناء من أتباع الزعيم العظيم الذى رحل صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن أحدهم بقادر أن يزعم لنفسه مكانة الزعيم ، خاصة جانبها الروحى ، التى كانت. أو حتى مكانة قربية منها. فمحمد بن عبد الله لم يكن الحاكم أو القائد فقط ، ولكنه كان قبل ذلك كله صاحب الدعوة التى أحدثت المجتمع المسلم ، ثم جمعت في رحابة كل جزيرة العرب على قيم ومبادئ الاسلام. أما أبوبكر رضى الله عنه ، أو غير أبى بكر ، فليس غير رجل من رجالات المسلمين يقدم نفسه ، أو يقدمه الناس ، للقيام على الشئون العامة للمسلمين ، بما فيها مسئولية إقامة الدين والخافظ علية. وهذه المسئولية الأخيرة رغم جسامتها وحساسيتها ، إنما هي مسئولية مدنية للحاكم ، تنشأ غن ضرورة حماية القيم العامة ، والمبادئ الكلية للمجتمع ، من ان تنتهك ، أو تتهدم ، أو تتراجع. ومسئولية اقامة الدين هذه لا ترفع الحاكم الى مرتبة الرسول ، وهى بالتالى لا تمنح أقواله أو أعماله أية حصانة ، كما أنها لا تحيط شخصه بأية قداسة تحول بينه وبين مراجعة المخالفين ، او حتى هجوم الطاعنين. ومن هنا فإن التعامل مع الحاكم – سلبا وإيجابا – بات يحكمه قانون التكافؤ بين الحاكم والمحكوم ، وهو القانون الذى كان يتوقف عن النفاذ في أحيان كثيرة حين التعامل مع محمد بن عبد الله صلى الله وعليه وسلم باعتباره رسولا. ولأن قانون التكافؤ هذا ما عاد معرضا للاستثناء فإن المقتضيات العملية الحياتية ( أى السياسية) كان ولابد أن تفرض نفسها على الأحداث التى جرت (والتى سوف تظل تجرى) في المجتمع الاسلامى بعد وفاة الرسول صلى الله وعليه وسلم.

هذا المتغير الخطير الذى نشأ في الحياة الاسلامية ، جعل الخلافات في الاسلام تنتقل الى مستوى آخر غير الذي كانت تجرى عليه في مجتمع الرسول صلى الله علية وسلم. فلم يعد الخلاف يدور حول جزئيات او عوارض بأذن الزعيم ، صراحة أو ضمنا ، بأداء الرأى فيها ، بل إن الخلاف تطور وتضخم ليدور حول الكليات الاجتماعية والسياسية ، بما فيها القبول أو الرفض أو المراجعة الجذرية لقيادة القائد الجديد.

وفي هذه الظروف بدأ أبى بكر رضى الله عنه ، خلافته ، ومكمن العظمة في أبى بكر رضى الله عنه – بعد مرحلة التصديق بالدعوة  المحمدية – هو حنكتة السياسية. فقد التقط رضوان الله عليه كل الخيوط ، وميز بينها ، ونسج من كل منها أفضل النسيج وأمتنه وأحكمه.

فقد تطلع الأنصار الى الخلافة ، وتقدم سعد بن عبادة رضى الله عنه سيد الأوس يطلبها لنفسه ، واختلف الأنصار والمهاجرين في سقيفة بنى ساعدة حول من يكون له الأمر. ولكن أبا بكر رضى الله عنه قام على الأنصار وقال بعد حمد الله والثناء عليه ، والدعوة الى الجماعة والنهى عن الفرقة: (( إنى ناصح لكم في أحد هذين الرجلين ، أبى عبيدة الجراح أو عمر فبايعوا من شئتم منهما. فقال عمر رضى الله عنه: معاذ الله أن يكون ذلك وأنت بين أظهرنا ، انت أحقنا بهذا الأمر ، وأقدمنا صحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأفضل منا في المال ، وأنت أفضل المهاجرين وثاني اثنين ، وخليفته على الصلاة ، والصلاة أفضل أركان دين الاسلام ، فمن ذا ينبغى أن يتقدمك ، ويتولى هذا الأمر عليك ، أبسط يدك أبايعك))(8). وبايع عمر ابا بكر رضى الله عنهما ، وكذلك فعل أبو عبيدة رضى الله عنه ، ثم تبعهما بشير بن سعد رضى الله عنه من سادات الخزرج ، وتبعتهم الكثرة الكاثرة من المسلمين. وقد امتنع سعد بن عبادة رضى الله عنه ، وطالب عمر أبا بكر رضى الله عنهما أن يأخذ بيعته عنوة ، وان لا يدعه حتى يبايع ، ولكن ابا بكر رضى الله عنه أخذ بنصيحة بشير بن سعد رضى الله عنه الذى حذر من إغضاب الأوس ، وترك سعدا رضى الله عنه وشأنه لم يقهره على إعطاء البيعة. ولم يعط سعد بن عبادة البيعة لأبى بكر رضى الله عنه ، ولا لعمر رضى الله عنه من بعده حتى مات في الشام في خلافة عمر رضى الله عنه ، بل إنه رضى الله عنه كان لا يصلي بصلاتهم ، ولا يجمع بجمعتهم ، ولا يفيض بإفاضتهم حتى مات(9). ومواقف أبى بكر رضى الله عنه تجاه تجربة البيعة الأولى للاستخلاف ، ثم تجاه سعد بن عبادة رضى الله عنه المنافس له ، المناوئ عليه ، تكشف عن سياسي متمكن ، ومناور ذكى ، عينه على الاسلام ، وقلبه مع استمراره ، وعقله مع ديمومة دولته. فالرجل يقدم الآخرين فيقدمونه مرشحا للخلافة فائز بها. ثم هو لا يغضبه أن يمتنع سعد بن عبادة رضى الله عنه عن البيعة ، بل يتركه وشأنه ، محاذرا أن يغضب قومه وهم أحد الأعمدة التى يقوم عليها الاسلام فى المدينة.

وشخصيته عامة أخرى ، كانت تمثل نواة لتجمع حزبى هلامى آخر كان لأبى بكر رضى الله عنه منها موفقا مشابها. فقد أبى على بن ابى طالب كرم الله وجهه البيعة لأبى بكر رضى الله عنه ، وطلب الأمر لنفسه ، وساندته فاطمة رضى الله عنها زوجته وبنت عمه ، كما سانده كثيرون من بنى عبد المطلب. ومرة ثانية يطالب عمر رضى الله عنه بإكراه على كرم الله وجهه على البيعة ، بل ويجمع الحطب (كما ورد في إحدى الروايات) حول بيت علي وبيت زوجته فاطمة بنت رسول الله (ص) ، ويهدد بحرق البيت على من فيه من شيعة علي إن لم يخرجوا لبيعة أبى بكر ، غير أن أبا بكر يكرر نفس الموقف الذى وفقه من سعد بن عبادة ، ويتدخل بين عمر وبين على ويوجه إلى الأخير قوله: فان لم تبايع فلا أكرهك. وقد امتنع علي ومعه البعض من بنى هاشم على البيعة أربعين ليلة في بعض الروايات، وستة شهور في غيرها ، وحتى وفاة فاطمة رضى الله عنها في أرجحها(10).

ويهمنا قبل أن ننتقل الى استعراض بعض ما جرى فيما وراء المدينة من قبائل العرب ، ان نسجل الدور الذى قام به بنو أمية محاولين اذكاء الخلاف بين بنى هاشم وبين ابى بكر رضى الله عنه. أقبل أبو سفيان بن حرب بن امية وهو يقول: (( والله انى لأرى عجاجة لا يطفشها إلا دم. ياآل عبد مناف فيم أبو بكر من اموركم؟ أين المستضغفان ، أين الأذلان علي والعباس؟!)) ، وانشد يتمثل:

ولا يقيم على ضيم يراد به                                إلا الأذلان عير الحى والوتد

هذا على الخسف محبوس برمته                         وذا يشج فلا يبكى له أحد

على ان الروايات التى ذكرت هذا الحديث لأبى سفيان تكاد تجمع أن علياً رضى الله عنه أبى أن يتابعه ، وانه قال له: (( إنك والله ما أردت بهذا الا الفتنة ، وانك والله طالما بغيت الاسلام شرا)) ، أو قال له: ((ياأبا سفيان طالما عاديت الاسلام وأهله فلم تضره بذاك شيئا ، انى وجدت أبا بكر لها أهلا)) (11). وهذا الدور الكيدى لبنى أمية والطلقاء منهم على وجه التحديد يجب ان نذكره دائما ، لأنه ان لم يكن قد وجد فرصته في الخلاف الذى نشب بين بنى هاشم وفي مقدمتهم علي أبن ابى طالب والعباس بن عبد المطلب رضى الله عنهما فقد هيأت له الظروف فرصة اوسع في عصر عثمان ذى النورين رضى الله عنه الذى خضع لتطلعات بعض أهله ورفع بني مروان على رقاب الناس ، وخلق مجالا رحبا لانتهازية هؤلاء لتفعل كل ما عجزت عنه فى عهد أبى بكر وفي عهد عمر رضى الله عنهما من بعده. وقد جاء مقتل الامام عثمان رضى الله عنه ، واستخدام بنى أمية قميصه ، مدخلا هؤلاء يؤدى الى الاشارة والاستثارة ، وشق وحدة المسلمين ، والتوسل إلى السلطة بالدهاء وبالكذب ، ومبررا مكذوبا للخروج على الامام على ، وشق عصا الطاعة له ، ومحاربته ومن معه من جاعة المسلمين حتى استقر الأمر لبنى أمية ، وتحولت الخلافة الثوروية على أيديهم إلى ملك عضوض.

وفيما وراء المدينة كان الأمر أسوا مما هو عليه فى المدينة فلم يكن الأمر هناك أمر خلاف بين بعض الشخصيات العامة حول اجراءات وشروط اختيار الخليفة الجديد ، ولكنه كان خروجا صريحا على سلطة الحكومة المركزية في المدينة. وقد كانت هذه هى النتيجة المباشرة لغياب الزعامة التى لا خلاف حولها ، زعامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهى الحالة التى عبر عنها الحطيئة ( جرول بن أوس بن مالك) اذ قال شعرآ:

أطعنا رسول الله اذ كان بيننا                             فيالعباد الله ما لأبى بكر

أيورثها بكرا اذا مات بعده                                وتلك لعمر الله قاصمة الظهر(12)

وقد امتنعت أغلب القبائل ، وشارك أهل مكة وكذلك أهل الطائف في هذا الاتجاه ، عن تسليم الزكاة لعمال الحكومة المركزية فى المدينة. وبلغ التطرف في أماكن أخرى أن ظهر مدعو نبوة. وقد كان هذا التمرد تلتبس فية أمور كثيرة وتختلط. ففى بعض المواضع كان الانتقاض عاما ، وفى بعضها الآخر كان خاصا. وفى بعض النواحى كان قاصرا على الامتناع عن تسليم الزكاة لحكومة المدينة ، بينما هو فى نواح أخرى انكار كامل لسلطة هذه الحكومة ، ثم هو في نواح ثالثة خروج على الاسلام من البعض صريح وواضح. وقد كان هذا اللبس وذلك الخلط وراء الخلاف الكبير الذى طال واحتدم بين كبار الصحابة في المدينة حول قتال هؤلاء الذين شقوا عصا الطاعة على حكومة أبى بكر رضى الله عنه ، ويواجهنا في هذا الصدد موقفان متناقضان – ظاهريا – لكل من أبى بكر وعمر رضى الله عنهما. فعمر رضى الله عنه الذى لم يكن يصبر على تأخر سعد بن عبادة رضى الله عنه أو على بن أبى طالب كرم الله وجهه عن بيعة أبى بكر رضى الله عنه ، يجمع أغلبية أهل الشورى في المدينة وراءه ، ويرى عدم قتال مانعى الزكاة ويتساءل: كيف نقاتل الناس وقد أشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؟ بينما أبى بكر يتنصر لرأى القلة التى رأت الحرب ضرورة وعلاجا ويقول: (( والله لو منعونى عقالاً كانوا يودونه الى رسول الله صلى الله علية وسلم لقاتلتهم على منعه)) ، أو يقول رضى الله عنه ((والله لأقتلن من فرق بين الصلاة والزكاة)).

والحقيقة أنه لا تناقض  في مواقف أبى بكر ، اذا سلمنا برجاحة حدسة السياسى ، وإذا انطلقنا من قوة إحساسه بالدين. فالذى حدث من تأخر البعض عن البيعة في يوم العقبة ، انما يعبر عن مواقف فردية ، وهذه المواقف الفردية تتعلق بشخص الحاكم المنتظر ، ولا تتعداه الى غير ذلك. أما موقف مانعى الزكاة (أو المرتدين) فانه يتعلق بما هو أكبر من شخص الحاكم. انه يتعلق بالنظام ككل ، كما يتعلق بالمبادئ والأسس العامة والكليات التى يقوم عليها هذا النظام. وقد استطاع أبو بكر رضى الله عنه ، الذي كانت ولايته فلتة موقفة كما عبر عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، أن يفصل بين رأس النظام وبين النظام ذاته ، وكان هذا الفصل هو جوهر التوفيق السياسي الذى صاحب كل أفعاله ، وانقذ الاسلام من المحن والعواصف التى تعرض لها عقب وفاة الرسول صلى الله علية وسلم. وفى إطار هذا الفصل الواعى كان أبو بكر في غضبه على الخارجين عن النظام أشد منه على الرافضين لشخص الخليفة من أمثال سعد بن عبادة رضى الله عنه وعلي بن أبى طالب كرم الله وجهه. وفى جانب آخر ، فان الذين امتنعوا عن بيعة أبى بكر رضى الله عنه هم كما أوردنا من الشخصيات العامة التى لا تقف بمفردها ، ولكنها مؤهلة لأن يجتمع حولها تأييد بعض المسلمين ، ولذلك فان الحكمة السياسية تستلزم نوعا من الحرص السياسى والود العملى في التعامل معهم ، بما لا ينشط قدراتهم الشخصية أو الوراثية أو القبلية لجمع المزيد من المؤيدين حولهم وفي عقر عاصمة الخلافة ، وهذا هو بالضبط ما قصده وما فعله أبو بكر رضي الله عنه.

وليس يعنينا ما انتهى إلية الخلاف (أو الصراع) بين أبى بكر رضى الله عنه وبين الآخرين الذين خالفوه ، سواء كانوا من وجهاء المدينة أو من قبائل العرب ، فذلك كله معروفة تفاصليه في كتب التاريخ والسير. ولكن الذى يعنينا هو استنباط المؤشرات التى دار هذا الخلاف (الصراع) على أساس منها. وأول هذه المؤشرات أن التفاوتات في المواقف وفي الآراء في المجتمع الاسلامى قد اتسعت وتنامت حتى نالت شخص رئيس الدولة ، تأييداً ومعارضة ، مبايعة ورفضاً ، ولكن هذا لم يدفع رئيس الدولة إلى حرمان هؤلاء المناهضين حقوق المعارضة ، ولم يرتب له إعلان الحرب عليهم طالما وقفت معارضتهم عند حدود الامتناع السلبي عن القبول لشخصه أو التعاون معه ، ودونما انتقال بالمعارضة إلى الخروج المسلح أو العنيف على النظام ، وطالما كانت حقوق السيادة للحكومة الإسلامية موضع قبول من هؤلاء المناهضين. أما المؤشر الثانى فهو ظهور تيارات المعارضة المنظمة نوعاً ما ، في إطار المجتمع الإسلامى ، والتى تجمعت ولو في صورة هلامية بعض الشئ ، حول بعض الشخصيات العامة في المجتمع. وقد كان ظهور هذه التيارات هو التمهيد العملى للقسمة المتبلورة للمجتمع الإسلامى في مراحل لاحقة إلى أحزاب وفرق ، مختلفة الآراء ، متباينة المواقف. وثالث المؤاشرات أن مواقف التيارات المختلفة فيما نشب في بداية ولاية أبى بكر – رضى الله عنه – كانت تتراوح بين الإخلاص للإسلام وبين محاولة انتهاز فرص سنحت للكيد له أو لتحقيق بعض الكسب الدنيوي من ورائه ، وقد تمثل هذا الجانب في محاولات الوقعية بين أبى بكر – رضى الله عنه – وبين بني هاشم والتى تول كبرها بنو أمية ، كما تمثل في مواقف بعض القيادات القبلية التى امتنعت عن أداء الزكاة ، بل وادعت النبوة في أحيان أخر. ولكن رغم هذا التفاوت في المواقف فإن الحكومة المركزية الإسلامية ، وعلى رأسها الصديق الخليفة الأول أبو بكر ، كانت حريصة على أن لا تعامل الناس بنياتهم ولكنها كانت تعاملهم على أساس أفعالهم ومواقفهم العلمية الظاهرية. وقد تجسد هذا أشد ما يكون التجسيد في التعامل مع الخارجين من أهل القبائل. فقد وجه إليهم أبو بكر – رضى الله عنه – ، قبل الجيوش ، كتأبا جاء فيه: (( وإنى قد انقذت إليكم فلانا في اجيش من المهاجرين والنصار والتابعين بإحسان ، وأمرته ألا يقاتل أحدا ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله ، فمن استجاب وأقر وكف وعمل عملاًً صالحاًً قُبل منه وأعانه عليه ، ومن أبى  ، أن يقاتله على ذلك…))وقد أمر أبو بكر رضى الله عنه رسله أن يقرأو كتابه هذا في مجامع الناس ، وأن يكون الداعية الأذان. لذلك كان المسلمون إذا أذنو فأذن الناس كفوا عنهم ، وإن لم يؤذنوا سألوهم ما هم عليه ، فإن أبوا عاجلوهم(13) ، والمؤشر الرابع يدل على أن أياًً من الاتجاهات التي خالفت الحكومة المركزية ، والاتجاه العام في المدينة المنورة ، لم ينجح في الصمود طويلا على مواقفه التى بدأ بها. فقد استطاع النظام بحكمته السياسية أحيانا ، وبحزمه العسكرى في أحيان أخرى ، أن يفرغ هذه الاتجاهات من شحنات التمرد أو الخلاف التى تتفاعل في داخلها ، بل وقدر في النهاية أن يحتوى هذه الاتجاهات جميعا في إطار الاتجاه العام الذي تقوم عليه الحكومة المركزية. ثم يأتى المؤشر الخامس ، وهو غاية في الأهمية. وصلب هذا المؤشر أن الذين اختلفوا مع أبى بكر – رضى الله عنه – فلم يسارعوا إلى تأييده ومبايعته ، لم يختلفوا معه لاعوجاج رأوه فيه ، ولكنهم رأوا فقد (أو توهموا) أنهم أحق بالأمر أو أقدر عليه منه. كما أن آيا من هؤلاء ، أو من غيرهم منذ ولى أبو بكر – رضى الله عنه – الأمر إلى أن مات بعد حوالي العامين ، لم يسجل على نظام الحكم البكري فساداً في السياسة ، أو عيثا في الأفعال ، أو حتى انحرافا في الأقوال. وقد كان ذلك امرا مهما للغاية ، بل ولربما كانت هذه الاستقامة المتبصرة التى تميز بها نظام الحكم ، والتى تواصلت أيضا في عهد عمر بن الخطاب – رضى الله عنه – ، هى التى مكنته من اجتياز كافة المحن المهلكة التى تكالبت عليه وأخذت بناصيته وأطبقت بخناقة ، ثم مكنته من احتواء الخلافات جميعا ، وجعلته قادرا على إعادة توحيد العرب مرة ثانية تحت راية الإسلام الخفاقة التى حملتها هذه الوحدة العظيمة إلى أقاصي بلاد فارس والروم لتقوم إمبراطورية عظيمة للإسلام ، ولكن بغير أباطرة. امبراطورية يرأسها رجل خشن المظهر ، قوي الخلق ، هو عمر بن الخطاب – رضى الله عنه – الذي سئل يوما عما يحل له من بيت المال فقال: ((أنا أخبركم بما استحل منه ، يحل لي حلتان: حلة في الشتاء ، وحلة في القيظ ، وما أحج عليه وأعتمر من الظهر ، وقوتى وقوت أهلي كقوت رجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم. ثم أنا بعد رجل من المسلمين يصيبني ما أصابهم.)).

3- التوحد والاختلاف صنع الظروف الموضوعية

في ظل الحكم العمرى ، كانت التعقيدات السياسية في المجتمع الإسلامى دون ما كانت عليه في ظل حكومة أبى بكر – رضى الله عنه – وإن كانت مسئوليات الدولة الإسلامية في عهد عمر – رضى الله عنه – قد صارت أكثر جسامة. فقد تولى ابى بكر – رضى الله عنه – مواجهة فتن الردة ، ونزعات التمرد ، ودعاوى الاستقلال عن حكومة المدينة ، وإعادة توحيد الجزيرة العربية تحت راية الإسلام ممهداًً الطريق لبداية لموجهة التاريخية بين عرب الجزيرة المسلمين وبين الامبراطوريات المجاورة ، البيزنطية والفارسية. وكان عمر – رضى الله عنه – القائد التاريخي للمرحلة ، عميقا في إسلامه ، قويا في إرادته ، جسورا في فعله. وكانت الاندفاعية العمرية – الإسلامية في  الفتوحات هي الاستثمار المتبصر للوحدة العربية ، وكانت في الوقت ذاته الأتون الذي انصهرت فيه هذه الوحدة فأعيدت بلورتها ، وتدعمت صلابتها ، وتأكدت نقاوتها ، ليصير المجتمع الإسلامى بالتالى في عهد عمر – رضى الله عنه – أكثر استقراراً عما كان عليه فى عهد ابى بكر رضى الله عنه.

وزاد من استقرار نظام الحكم العمرى ، أنه كان نظاما تطهريا وثوريا في الوقت ذاته. كان العدل المطلق أساس النظام ، وكان قيام الحاكم على شئون المسلمين ، وإحساسه بالمسئولية المباشرة عن بلغة عثرت بالعراق (!) هما مناط السلوك الإدارى والسياسي في ذلك النظام. وكانت اليقظة العمرية في استخدام أصلح الناس لحكم الناس عاملا رئيسيا ثالثا في استقرار المجتمع الإسلامى. فبنى عدى بن كعب عشيرة عمر – رضى الله عنه – وأهله لم يكن حظهم مع عمر أفضل من حظهم مع أبى بكر – رضى الله عنه – ، ولا كان أفضل من حظوظ سائر بطون قريش ولا سائر المسلمين ، وما كان عمر – رضى الله عنه – ليفعل مع أهله غير الذى فعل وهو الذى كان إذا حدثته نفسه تغرية بما هو فيه من جاه وسلطان روضها بذكر حياة الشظف في المرعى الخشن ، والتى كان يعيشها قي مطلع حياته مع إبل الخطاب !. وهذا الضابط الأخير في نظام الحكم العمري هو الذى حال دون استئثار قوم – أيا كانوا – بالحكومة العمرية ، يوجهونها وفق هواهم أو بناء على ما يرون فيه مصالحهم ، كما حصن المجتمع الإسلامى ضد لعبة التيارات المتنمرة ، وضد مراكز القوى الطامعة ، والتى وجدت فرصتها عن سعة في عصر ذى النورين عثمان رضى الله عنه.

أمر رئيسي آخر يتعلق بمبايعة عمر – رضى الله عنه – خليفة ، ساعد على استقرار نظام الحكم العمري. فتلك البيعة لم تصاحبها التعقيدات التى صاحبت بيعة أبى بكر رضى الله عنه. ذلك لأن هذه البيعة الأخيرة ، قد كفت المسلمين مئونة توهمات كثيرة كانت تبدو نشيطة عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. فقد صادرت بيعة أبى بكر رضى الله عنه ، بانجازها وبتوفيقها ، جميع التطلعات الفئوية الطامعة إلى الخلافة. فلم تعد الخلافة حقا للأنصار – أهل المدينة وأصحابها – دون المهاجرين ، ولم يعد جائزا أن يكون من هؤلاء أمير ومن أولئك أمير ، بل هو أمير واحد لدولة واحدة. كما أن وراثة النبى – صلى الله عليه وسلم – من بعض أهله هى الأخرى قد صودرت كفكرة تؤدى إلى سدة الخلافة. ومحصلة هذا كله ، أن الشخصيات العامة ، مع ما قد تجمعه حولها من المؤيدين ، والتى تأبت على بيعة أبى بكر رضى الله عنه ، أو تأخرت عنها ، لم تكرر تأبيها أو تأخرها هذا في بيعة عمر رضى الله عنه.

لقد مضت أمور الدولة وأمور الخلافة في عهد عمر – رضى الله عنه – على احسن ما يكون المضى.. وكان لقوة عمر – رضى الله عنه – وجرأته وهيبته الأثر الكبير في تجسيد وحدة المجتمع الإسلامى في هذه المرحلة. فقوة عمر – رضى الله عنه – هى التى وضعت المجتمع الإسلامى العربى الحدود ، فى مواجهة جادة مع الروم والفرس ليصنع المجتمع الإسلامى العالمى الأبعاد والمواطن. وجرأته هي التى وضعته في مقدمة المجتهدين ، والآخذين باجتهادات الآخرين ، والساعين إلى كل صاحب خبرة ، في تنظيم أمور الدولة ، وترتيب حقوق المسلمين ، وإقامة أحكام الشرع. أما هيبته فهي التى جعلت العامة والخاصة – ان جاز أن نقول أن تصنيفا كهذا يقوم في مجتمع العدل والقسمة بالسوية – يلتزمون الجادة والجد في الفعل وفي القول مثلما التزمهما أمير المؤمنين القدوة والقائد.

وهذه الصفات التى اثبتها التاريخ لعمر – رضى الله عنه – ما كانت تؤدى إلى حرمان المواطن المسلم من حق إبداء الرأى في موجهة الآراء أو المواقف العمرية ، ولكنها كانت فقط تضع ضوابط على السلوك والفعاليات تجعلها أكثر رشدا وأكثر جدية وأكثر نفعا للإسلام وللمسلمين. بل لعل الأحداث التى توى عن مراجعة المسلمين لعمر – رضى الله عنه – من أشهر روايات المراجعة التى سجلها تاريخ السير الإسلامية. فعمر – رضى الله عنه – هو الخليفة الذى طلب من الناس إن رأوا فيها اعوجاجاً أن يقوموه ، فوقف واحد منهم يعلن أنهم لو رأوا هذا الاعوجاج لقوموه بسيوفهم ، فحمد عمر الله أن جعل في أمة الإسلام من لو رأى في  عمر اعوجاجاًً قومه بسيفه. وعمر أيضا هو الخليفة الذى طالبه أعرابى في المسجد ، وهو فوق المنبر ، أن يعدل ، وخاطبة بخشونة لأنه أخذ نصيبين لنفسه وأعطى كل واحد من عامة المسلمين نصيبا واحدا من قماش الفئ ، حتى يكفيه النصيبان ثوبا واحدا وهو الطويل الجسيم!. بل إن عمر – رضى الله عنه – بدأ خلافته بمهاجمة من أحد عامة المسلمين ، ولو كان وقع في غير الظروف التى وقع فيها لما سكت عمر – رضى الله عنه – عنه. فقد خرج رضى الله عنه من عند أبى بكر – رضى الله عنه – وهو في مرضه وفي يده كتاب استخلافه لا يدرى ما فيه ، ولكن الخليفة الأول طلب منه أن يعلم الناس بما فيه ، فقال له رجل: ماذا في الكتاب يا أبا حفض؟! ، قال لا أدري ، ولكنى أول من سمع وأطاع ، فقال الرجل: ولكنى والله أدرى ما فيه ، أمرته عام أؤل ( يعني مبايعة عمر أبا بكر في السقيفة قبل عامين) وأمرك العام(14). إن هذه الوقائع وغيرها كثير تثبت أن تفاوت الآراء ، وتعارضها ، وتبادلها ، حتى ولو كان ذلك في إطار المبادئ والقيم الكلية للمجتمع الإسلامى ، كانت جميعها حقائق مجسدة في كل حقب ومراحل التاريخ الإسلامى.

تبقى ملاحظة أخيرة أساسية يجب أثباتها. فقد بدت الوحدة السياسية والفكرية في المجتمع الإسلامي في عهد عمر رضى الله عنه أفضل كثيرا عما كانت عليه في عهد أبى بكر رضى الله عنه ، بل وحتى في نهاية عهد الرسول صلى الله علية وسلم ، كما أنها كانت بغير شك أفضل منها في عهد عثمان رضى الله عنه ، وبالتالى كانت الخلافات في عصره دون مثيلاتها في هاتيك العصور جميعا. ولست أحسب أن كل هذا يرجع فقط إلى كفاءات عمر رضى الله عنه الشخصية ، رغم عظمتها ، ومناسبتها للمرحلة التاريخية التى حكم فيها عمر رضى الله عنه ، ولكنه يرجع أيضا إلى الظروف الموضوعية التي أحاطت بمرحلة الحكم العمرية. فعمر رضى الله عنه حكم في أفضل المراحل من تاريخ الراشدين. فقد تولى أمور الخلافة بعد أبى بكر – رضى الله عنه – الذى تحمل عبء إعادة توحيد عرب الجزيرة بعد ذلك الخطر الرهيب الذى أوشك – لولا العبقرية السياسية للصديق – أن يذهب بمجتمع الرسول – صلى الله عليه وسلم – بددا وضياعا بين المرتدين والمراجعين من العرب والأعراب . ثم إنه – رضى الله عنه – أي عمر – انتقل إلى جوار ربه قبل أن يبدأ التفاعل السلبي بين العرب المنتصرين وبين الموالي المهزومين من نصارى ومجوس( أو روم وفرس) ، وبعضهم ، إن لم يكن الكثير منهم ، قد أغضبه وجرح كرامته القومية ما حاق بأهله وبحضارته القديمة العظيمة. وهذا العامل الرئيسي الجديد بدأ عطاؤه السلبي في نهايات حكم عمر – رضى الله عنه – ، وتراكم في عهد عثمان رضى الله عنه ، حتى إن الموالي وأهل الأمصار كان لهم الدور الرئيسي في قتل عثمان رضى الله عنه وإحداث ذلك الهول العظيم الذي حاق بالمجتمع الإسلامى في نهاية حكمه. بل إن مقتل عمر رضى الله عنه ، على يد ابو لؤلؤة فيروز المجوسي غلام المغيرة بن شعبة ، مع شبه اشتراك الهرمزان وجفيتة من الموالى وكعب الأحبار من اليهود ، كان الإنذار الأول بذلك الدور الخطير السياسي الذي سوف يلعبه غير العرب في تشكيل التاريخ الإسلامى في مراحله المقبلة(15). أي أن عمر رضى الله عنه ، حكم في مرحلة ما بين توحد الجزيرة العربية نهائيا حول راية الإسلام وبين عودة تهديد وحدة ذلك المجتمع الإسلامى بدخول الأمصار الواسعة الأراضى الكثيرة الناس في إطار الدولة الإسلامية ، وهى أكثر المراحل استقرارا في التاريخ الاسلامى على إطلاقه. وقد أكد هذا الاستقرار ، بالطبع  ، سياسة عمر رضى الله عنه العادلة ، كما أكدته عمليات المواجهة العربية للموالي ، أثناء معارك الفتح ومواقعه ، لكل ما تخلقه وتؤكده من عناصر التوحيد السياسي.

والملاحظ عموما ، أنه توجد مشابهات  – مع الفاروق – بين فترة الاستقرار المحمدية وبين فترة الاستقرار العمرية اللتين مر فيهما المجتمع الاسلامى مظمئنا. ففي بداية كل منهما كانت المواجهة مع الخصوم أحد العناصر أو الدوافع الرئيسية لوحدة الجماعة المسلمة أو التجمع المسلم. ففى الفترة المكية من بعثه محمد صلى الله عليه وسلم كانت وحدة الجماعه المسلمة وتميزها عن المجتمع القريشي الكافر هي الزاد للصمود ، وهي الوسيلة والمخرج للاسلام من النطاق الذي هو محصور فيه الى النطاق الأوسع الذي شمل جزيرة العرب كلها فيما بعد. وفي فترة الحكم العمري كانت وحدة المجتمع العربى المسلم هي الزاد والوسيلة والمخرج للأسلام من نطاق شبه الجزيرة الى النطاق الأوسع الذى ضم أراضى فارس والروم وملحقاتها ، حتى يصبح محمد صلى الله عليه وسلم مرسلا بحق رحمة العالمين. وكما فرض عنف الصراع وحدته على جماعة المسلمين الأول التوحد في مواجهة المجتمع المكي المناوئ المقاوم المحارب ، كذلك فرض عنف الصراع وفرفضت حدته وحدة القوة والفعل على المجتمع الاسلامى الناهض في عهد عمر حتى يمكن مواجهة الخصوم الأقوياء من الفرس والروم ، وكانت المواجهات الخارجية بكل عناصر التحدي التى تلازمها عاملا موكدا لتدعيم الوحدة الداخلية في المجتمع العربى المسلم. أما في نهاية كل من المرحلتين المحمدية والعمرية في التاريخ الاسلامى فان الاتساع المفاجئ والنشيط للرقعة الإسلامية كان يقذف الى المجتمع الاسلامى بالكثرين ممن لم يتشربوا الدين الجديد ، اعتقادا وفكرا وخلقا وسلوكا والتزاما ، وكان لهؤلاء دور كبير فيما حدث من خلل سياسي في أعقاب كل من هاتين المرحلتين المتميزتين بالاستقرار السياسي الشديد داخل المجتمع الاسلامى. وهؤلاء الملحقون بالطفرة على المجتمع الاسلامى كانوا طلقاء مكة ثم أعراب شبة الجزيرة العربية في حياة الرسول صلى الله علية وسلم ، بينما كانوا من الموالي من فرس وروم (أو من أتباعهما مثل المصريين) أثناء فترة الحكم العمري. وقد كان من التوفيق الشديد أن جاء أبو بكر رضي الله عنه بعد الرسول صلى الله علية وسلم فاستطاع  بحكمته السلوكية وحنكته السياسية أن يحتوي الأزمة وأن يخرج بالإسلام منها سليما معافى. أما بعد عمر رضى الله عنه ، ورغم أن الملحقين الكثر بالإسلام كانوا أكثر خطرا وأشد أثرا ، لأنهم أصحاب حضارات وثقافات قوية وعميقة الجذور كانت ولا بد ستحاج الاسلام وتصارعه بل وتتآمر عليه ، فقد جاء عثمان ذى النورين رضى الله عنه ، ولم يكن مؤهلا 0 رغم ميزاته الشخصية وصلاحياته النفسية وقدراته الإيمانية – لمواجهة هذا التغيير السياسي الخطير الشأن بما هو أهل له.

4- الخروج على القائد

كما أوضحت من قبل ، فانه في عهد الرسول صلى الله علية وسلم كان الإجماع الايمانى حول شخص القائد والرسول يجعل الخلاف في الرأي ، أو في العمل ، داخل المجتمع الاسلامى ، في حدوده الدنيا.

ومع أبى بكر ، وعمر ، رضى الله عنهما اذا ما استثنينا فترة الردة القصيرة(بالمدلول السياسي قبل المدلول الديني) ، فان الاجماع السياسي حول القائد الصحابي ، الحازم العادل القوي ، قد حصر الخلافات داخل المجتمع الاسلامى في حدوده المعقولة ، حيث كان هذا الخلاف ينحصر في النظر إلى الأمور التفصيلية لتعقيدات الحياة اليومية – ومن بينها القبول بشخص الخليفة أو رفضه – دون أن يرتفع لتناول الكليات القيمية التي يسير على أساس منها مجتمع المسلمين ، ودون الخروج العملي على مكانه الخليفة وسلطته المدنية.

ولكنه مع مجئ عثمان رضى الله عنه ، انتقل الخلاف واتسع إلى حدوده الطبيعية ، إن لم يكن تجاوزها. فشخص الخليفة ، وسياسته ، وأفكاره ، وفهمه للكليات القيمية الاسلامية ، وأعماله كلها ، أصبحت مواضع مراجعة عنيفة من الشعب المسلم. بل إن الخروج بالقوة على الخليفة أصبحت مبررة ، إن لم تكن قد أصبحت مطلوبة في رأي وفهم الكثرين. إن المستوى الذى بلغه الخلاف ، بل الصراع ، في عهد عثمان رضى الله عنه تعبر عنه بالدقة تلك الرسالة الموجهة من الأشتر (مالك بن الحارث) أحد وجوه المعارضة في مصر الكوفة الى الخليفة في المدينة. والأشتر كان قد تعرض هو ومجموعة من الكوفيين معه إلى النفي الادارى من سعيد بن العاصى(أموى) عامل الكوفة بموافقة عثمان الخليفة رضى الله عنهما. وقد تمكن الأشتر ومن معه قي وقت لاحق أن يحولوا بين سعيد وبين دخوله الكوفة ، وأن يفرضوا على عثمان عزله ، وإعادة تولية أبى موسى الأشعري رضى الله عنه. بدلا منه ، وكان عثمان رضى الله عنه قد ولى الوليد غقبة بن أبى معيط (أموى آخر) ثم سعيدا مكان الأشعري  في الكوفة. يقول الأشتر في ذلك الكتاب إلى أمير المومنين:

((من مالك بن الحارث الى الخليفة المبتلى الخاطئ الحائد عن سنة نبيه النابذ لحكم القرآن وراء ظهره. أما بعد فقد قرأنا كتابك ، فانه نفسك وعمالك عن الظلم والعدوان وتسيير الصالحين ، نسمح لك بطاعتنا. وزعمت أنا قد ظلمنا أنفسنا ، وذلك ظنك الذى أرداك فأراك الجور عدلا والباطل حقا. وأما محبتنا فأن تنزغ وتتوب وتستغفر الله من تجنيك على خيارنا ، وتسييرك صلحاءنا ، وإخراجك إبانا من ديارنا ، وتوليك الأحداث علينا ، وان تولى مصرنا عبد الله بن قيس وأبا موسى الأشعري وحذيفة ، فقد رضيناهم ، واحبس عنا وليدك وسعيدك ومن يدعوك اليه الهوى من أهل بيتك إن شاء الله. والسلام)) (16).

فمالك بن الحارث في خطابه هذا لا يدين سياسات الخليفة وموافقة العملية وحمله بنى مروان على رقاب الناس فقط ، ولكنه يدين فهمه للقرآن ، وحيادة عن السنة ، مما يعنى أن الكليات والمؤشرات العامة في المجتمع الاسلامى قد وضعت للمرة الأولى موضع الخلاف والمراجعة بها والمجالدة.

لقد شمل هذا الخلاف فيما شمل من الكليات طبيعة الخلافة. فقد رأى فيها عثمان رضى الله عنه ما جعله يقول: (( ما كنت لأخلع قميصا قمصنيه الله عز وجل)) ، أو يقول: (( لأن أقدم فتضرب عنقى أحب الى من أن أنزع سربالا سربلنيه الله عز وجل)). ورأى عثمان رضى الله عنه هذا يرفع عنه المساءلة أمام الناس ، وهو رأي وافقه فية البعض ، ولكن خالفه فيه كثيرون ، بل وخرجوا عليه بسببه. ولعل هذا الفهم العثماني لطبيعة السلطة هو الذي دفع عثمان رضى الله عنه ، وقد وصف قبل استخلافه بأنه أرفق الناس بالناس ، إلى التخشن في معاملة كثيرين من خيار الصحابة مثل عبد الله بن مسعود ، وعمار بن ياسر ، وأبى ذر الغفارى ، رضى الله عنهم ، فضرب بعضهم ونفى بعضهم الآخر نفيا إداريا ، بينما حرم بعضهم الثالث حقوقهم في أعطيات بيت المال.

ونشب خلاف آخر أشد حول طبيعة مالية الدولية الاسلامية. فقد رأى عثمان رضى الله عنه والولاة من أقاربه وفي مقدمتهم معاوية رضى الله عنه: (( مال الله)) الموكول اليهم للتصرف فية كيفما شاؤوا ، بينما رآه الآخرون ، وعلى رأسهم ألصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضى الله عنه: (( مال المسلمين )) وللمسلمين الحق في مراجعة الخليفة بشأنه ومحاسبته عليه. فعندما يعطى عثمان مروان بن الحكم مالا كثيرا ، والحارث بن الحكم رضى الله عنه ثلثمائة ألف درهم ، وزيد بن ثابت الانصاري رضى الله عنه مائة ألف درهم ، وعندما يغضب أبو ذر الغفاري رضى الله عنه لذلك ، وكان يكره ان يعطى الامام مال الاسلام للأغنياء بغير حقه فيزيدهم غنى ويزيد الفقراء فقراء ، ويتلو قول الله عز وجل: (( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم)) ، عندما يحدث هذا الفعل من عثمان رضى الله عنه ويخرج هذا القول من أبى ذر رضى الله عنه ، يرسل عثمان الى أبى ذر رضى الله عنه أحد موالية ينهاه عما يقول ، فيرد أبو ذر رضى الله عنه: (( أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله وعيب من ترك أمر الله! ، لأن أرضى الله بسخط عثمان أحب الى من أن أرضى عثمان بسخط الله)). وقد بلغ الأمر بعثمان رضى الله عنه أن حلى بعض أهله من النساء بجوهر كان في بيت المال ، فلما روجع في هذا الشأن قال: (( لنأخذن حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت أنوف أقوام)). بل لقد حدث أن أمر لبعض أهله ( وأغلبهم من بنى مروان) بعطايا كبيرة استكثرها خازن بيت المال عبد الله بن الأرقم رضى الله عنه وأبى أن يدفعها لهم ، فلامه عثمان رضي الله عنه قائلا: (( ما أنت؟!.. إنما أنت خازن لنا)) فرد عليه القول (( ما كنت أرى أنى خازن لك ، وإنما خازنك أحد مواليك ، لقد كنت أرانى خازنا  للمسلمين)) ، ثم أقبل عبد الله بن الأرقم رضى الله عنه بمفاتيح بيت المال فعلقها على منبر الرسول صلى الله عليه وسلم وجلس في داره.

وقد ترتب على ذلك الفهم العثمانى لطبيعة السلطة وطبيعة مالية الدولة الإسلامية أمور كثيرة ، كانت جميعها تؤدي إلى التوترات الاجتماعية في المجتمع الاسلامى. فإطلاق عثمان رضى الله عنه يده في الأموال العامة كان بمثابة الضوء الأخضر لكا عماله في الأمصار ليمدوا أيديهم حتى إلى أموال الصدقة ، وكان ظلم هؤلاء ينسب إلى عثمان رضى الله عنه ويبلغه ذلك فلا يغير منه شيئا. وقد كان نصيب بنى أمية من ذلك كبير. فعطؤه لهم: (( لم يقتصر على السائل من المال ، وإنما تجاوزه الى الجامد ايضا ، وقد نقم الناس من عثمان أنه كان يقطع القطائع الكثيرة في الأمصار لبني أمية)) (17). وقد كان لعثمان منطقة الخاص في تبرير ما ذهب اليه من توسعة الأعطيات والصلات من بيت مال المسلمين على بعض أهله ، ففيما يروى عنه أنه كان يقول : (( إن أبا بكر وعمر كانا يظلمان أنفسهما وقرابتهما تقربا الى الله ، وأنا أصل رحمى تقربا الى الله)). سواء كان هذا التكييف الشخصي لأفعال عثمان رضى الله عنه منطلقا له اختاره لنفسه ، أسبق من نقد الناقدين ، أو كان تبريرا لاحقا لذلك النقد ، وسواء كان ذلك المنحى مقبولا من وجهة الأخلاق الفردية او غير مقبول’ فإنه من وجهة النظر السياسية ورفق مقتضيات الانضباط الاجتماعى ، كان خطيرا بل وغاية في الخطورة. لقد كان عثمان رضى الله عنه يوسع في أعطياته على الأغنياء من أهله ومن غير أهله ، وهو بالتالى كان يراكم ثروات المجتمع الاسلامى إلى جانب من أناسه عن غير وجه حق ، حتى زاد الغني غني وازداد الفقير فقرا.  وقد كان هذا مثار سخط كثرين ، سواء من الشخصيات العامة مثل أبى ذر الغفاري وعبدالله بن مسعود وعلي بن أبي طالب رضى الله عنهم ، أو من عامة الناس الذين اذاهم المسلك العثمانى إيذاء اجتماعيا بليغا ، وقد أدت السياسة المالية لعثمان رضى الله عنه إلى تنمية طبقة من المنتفعين بلاسلام. وكان أغلب هؤلاء من طلقاء الفتح من بنى أبى معيط الذين رفعهم عثمان رضى الله عنه على رقاب الناس ، وقد كان ميل عثمان رضى الله عنه هذا إلى محاباة أهله ، هو الذى فتح الطريق لكي يسيطر أحد التيارات الخطيرة والنفعية على إمكانات ومقدرات الحكومة الاسلامية والمجتمع الاسلامى. وهذه  الطبقة أو هذه المجموعة من الناس هي التى خرجت بعد مقتل عثمان رضى الله عنه تنازع عليا كرم الله وجهه الخلافة ، وتحول بينه وبين الثورة التصحيحية التى كان يحلم بإنفاذها في المجتمع الاسلامى الذى اضطربت مؤشراته القيمية ومبادؤه الكلية اضطرابا شديدا في عهد عثمان رضى الله عنه.

وترتب على الفهم العثمانى لطبيعة السلطة أيضا ، أن أغلب الأمصار قد تولى أمورها عمال من أقارب الخليفة ، لا سبق لهم في الاسلام ولا خبرة لهم في شئون المسلمين ، بل وكانوا في أغلب الأحيان غلمانا تثور حول تدينهم وحول أخلاقهم شبهات كثيرة ولم يكن لهم من الصلاحيات شئ ينفعهم غير صلاتهم بالخليفة. ولو تتبعنا من استعملهم عثمان رضى الله عنه على الأمصار الرئيسية لوجدنا عثمان رضى الله عنه قد استبدل ابن خاله الفتى عبد الله بن عامر بأبى موسى الأشعرى رضى الله عنه على البصرة ، واستبدال الوليد بن عقبة بن أبى معيط ثم الفتى سعيد بن العاصى بسعد بن أبى وقاص رضى الله عنه على الكوفة ، واستبدال أخاه في الرضاع عبدالله بن أبى سرح ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم أهدر دمه لشدة عنته مع المسلمين ، بعمرو بن العاص رضى الله عنه على مصر ، بينما أبقى معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه على الشام. وقد كان مجرد اختيار هؤلاء النفر ، حتى لو كانوا أصحاب تدين  واضح وكفاءة بينة ، كافيا لإثارة الكثيرين ضد سياسات عثمان رضى الله عنه ، ولكن هؤلاء قد أضافوا إلى قرابتهم لعثمان أعمالا سيئة ، سواء على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعي. وقد كان في تخبطهم العملي ، وفى العنت الذى أوقعره بأهل الأمصار ، ما نشط دوافع التمرد لدى أهل الأمصار لتزعم الثورة على عثمان رضى الله عنه. وقد جاء أكثر المتمردين على عثمان رضى الله عنه من مصر والكوفة والبصرة ، بل إن هؤلاء المتمردين عندما حصروا عثمان رضى الله عنه في بيته ، ومنعوه من الصلاة في مسجد النبى صلى اله عليه وسلم ، وقد أقامرا رجلا منهم يصلي بالناس وهو الغافقى زعيم الثائرين الذين قدموا من مصر. وليس بمستبعد بالطبع أن الثوار لواردين من الأمصار هؤلاء كانوا يضمون جانب الغاضبين من الظلم الباحثين عن العدل عددا من المشاغبين الذين وجدوا فيما يجرى فرصة للكيد للإسلام ، وتنفيسا عن مشاعر النقمة التى يحملونها لتلك الحضارة الاسلامية الوافدة التى وضعت النهايات القاصمة لتلك الحضارات ( الفارسية أو الرومانية) التى كانوا ينتسبون اليها ويباهون بيها.وإذا كانت سياسات عثمان رضى الله عنه قد وضعت مصير الخلافة بين فريقين متطرفين ، أولهما فريق الطلقاء النفعين الذين كانوا يخربون الخلافة الاسلامية من الداخل لتحقيق مصالحهم العاجلة ، وثانيهما فريق الثوار الذين وفدوا من الأقاليم يناهضون الخلافة بالعنف الشورى ، فإن فريقا ثالثا آخر كان يقف قريبا من الأحداث ، ويعتمد في تعامله معها مبدأ المعارضة السلمية. وقد ضم هذا الفريق الثالث الشخصيات العامة التى أوشكت جميعها أن تقف ضد عثمان رضى الله عنه. وقد فرضت الظروف الموضوعية أدورا رئيسية لهذه الشخصيات العمة كانت قد كفت عن القيام بها منذ استقرار الأمر لأبى بكر رضى الله عنه خليفة لرسول الله صلى الله علية وسلم. وقد ضم هذا الفريق فيمن ضم عبد الرحمن بن عوف ، والزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد الله ، وعليا بن أبى طالب ، وعبد الله بن مسعود وعمارا بن ياسر ، وأبا ذر الغفاري  رضى الله عنهم. وقد تفاوتت مواقف هؤلاء عثمان بن عفان رضى الله عنه ، فيما بين المعارضة الرفيقة التى اعتمدها عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه ، وكان عثمان رضى الله عنه يؤثره في بداية ولايته ، وبين المعارضة الجرئية التى أخذ بها أبو ذر الغفاري رضى الله عنه الذى سبق للرسول صلى الله علية وسلم وأن وصفة فقال: (( ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء رجلا أصدق لهجة من أبي ذر)). وقد تميزت مواقف هؤلاء جميعا بعدم الرضى عن سياسات عثمان رضى الله عنه ، ولكن دون الخروج الصريح عليه ، أو الدعوة الى العنف ضده ، أو تأليب الثوار ومساعدتهم على النيل منه. والواضح الجلى أن هذا الفريق الثالث ، وإن كان قد لعب دورا سياسيا هاما في هذه المرحلة العصيبة  ، إلا أن فرصته في المناورة ، وبالتالى الاصلاح أو الانقاذ كانت محدودة. فقد كان تمادى عثمان رضى الله عنه في ممارساته المرفوضة من أغلبية المسلمين ، سواء في أمور الدين أو أمور الدنيا ، ومعاداته لكل من ينصح له بلى واعتدائه عليه ، من الأمور التي كانت تدفع بهؤلاء الى الاستمرار في  المعارضة السلمية له بل والتشدد فيها ، كما كانت تقلل من إمكانية قيام هؤلاء بدور فعال يمكن عن طريقة احتواء غضب الغاضبين وضبط ثورة الثائرين. وقد جاءت الخاتمة حين تسور الثوار بيت الخليفة ذى النورين عثمان بن عفان رضى الله عنه وقتلوه.

والدرس العلمي الذى يجب أن نخرج به من كل ما تقدم هو أن خلافات الرأى وتفاوتات العمل في مجتمعات الاسلام الأولى ، إنما كانت دالة للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في كل مرحلة من مراحل تطور ذلك المجتمع ، وأنها كانت تعبيرا موضوعيا عن مواقف القوى المختلفة الفاعلة في تلكم الأوقات ، ولم تكن مجرد افتعالات تآمرية ، أو انحرفات أخلاقية ، أو تحريضات عملية ، كما يحاول البعض تصويرها. والقبول بهذه النتيجة التاريخية هو في رأينا أحد الشروط الموضوعية التى يجب التسليم بها أولا حتى يمكننا أن نتعامل مع قضايانا الخلافية المعاصرة ، في إطار المفاهيم الاسلامية الكلية الصحيحة ، دون تهاون في معطيات الدين ، ودون امتهان لمقتضيات الدنيا.

5- إرهاب الفرقة الناجية!

بمقتل ذي النورين عثمان رضى الله عنه ، وانتقال الخلافة إلى الامام علي كرم الله وجهه ، مع وجود امتناع متربص أو مخلص من كثيرين عن استخلافه ، دخلت المعارضة ودخل الخلاف في الرأى في المجتمع الاسلامى مرحلة جديدة في هذه المرحلة اكتسبت المعارضة الفكرية – بغض النظر عن صدق أو عدم صدق مقاصدها- وجودها المادى ، وتجسدت في أشكال تنظيمية ، بل وتكون لكل منها جهازها العسكرى أو القمعي حسب الأحوال. فالذين خرجوا يطالبون بالثأر لعثمان رضى الله عنه  ، ويرفعون قميصه ، وآل أمر الخلافة اليهم في الشخوص الأموية بعد صراع مرير مع انصار الامام علي كرم الله وجهه ، كنوا وتبنوا التيار السنى المحافظ. أما الذين ناصروا عليا كرم الله وجهه فقد كانوا التيار الشيعي الثوري. بينما كون التيار الخارجي الذين رفضوا الفعلى الأموي كلية ، ورفضوا في ذات الوقت أساليب علي كرم الله وجهه التي بدت له أضعف مما يجب ، وخرجوا على هؤلاء وأولئك. والصنف الرابع الذي اعتزل ذلك الصراع ، في صورة المادية ، واهتم بدلا عنه بالقضايا الفكرية الجوهرية في الاسلام ، قد كون التيار المعتزلي. أما ذلك الصنف الخامس الذى أرجأ الحكم على المتخاصمين جميعا ، وترك أمر الحكم بشأنهم لله تبارك وتعالى ، فقد كون تيار المرجثة. والملفت للنظر أن هذه المواقف الخمس المتميزة من قضية استمرار الخلافة بعد عثمان رضى الله عنه ، وهى قضية سياسية تماما ، قد تطورت فيما بعد لتأخذ صبغة تكاد تكون دينية بحته. وقد ورثنا نحن المسلمون المعاصرون من هذه التيارات طبعاتها الدينية فقط ، وأدمنا التعامل معها ، حتى إن الكثيرين منا لا يزالون يخدعون عن الجوهر السياسي لها بالمظهر الديني الذى بقى عنها.

وليس يعنيني هنا أن أتعرض للمنشأ التاريخي لهذه التيارات ، ولا أن أدرس كيف نمت وكيف تطورت وكيف أدارت الصراع فيما بينها ، فذلك مكانه في كتب التاريخ والسير ولكن الذى يعنيني أن أبين الظروف التى أحاطت بالعمل السياسي في المجتمع الاسلامي ، وأن أحدد الملامح الحاكمة لعمليات التأييد والمعارضة ، وأن أعين المستوى الذى دار علية الخلاف الفكري في هذه المرحلة. ذلك الطابع الارهابي في الحكم على الآخرين ، والذي تولد عن الصراعات الرهيبة لأتى دارت وقتئذ ، لا يزال يحكم ممارساتنا المعاصرة ، في مجتمعاتنا الاسلامية المحدثة.

ففيما يتعلق بالقوى النشيطة المتحركة في إطار ذلك الصراع الذى دار بين علي بن أبى طالب كرم الله وجهه وصحبه في جانب ، ومعاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه ونصرائه في الجانب الآخر فإننا نصطدم بحقيقة جوهرية تثبت تصاعد وتأكد الأدوار التى لعبها فريقا الطلقاء وأهل الأمصار في الحياة السياسية في هذه المرحلة. فمعاوية رضى الله عنه وأهل بيته من الطلقاء كانوا على قمة الجهاز المدني العسكري المعارض للخليفة صاحب البيعة الصحيحة ، وكانوا بمثابة الرأس المدبر والعقل الكيدي المحرك لأغلب الفتن التى شهدتها تلك الفترة. وجند معاوية رضى الله عنه كانوا في غالبيتهم من أهل مصر والشام ، وحتى الجند الفاعلين في قوات الامام علي كرم الله وجهه كانوا من مصر العراق بناحيتيه الرئيسيتين البصرة والكوفة. وهكذا وبينما كان مصران(خارج شبة الجزيرة ) لم يكتمل تعريبهما ولا أسلمتهما بعد ، هما المصدر الرئيسي للوقود اليومي البشري لتلك الحروب الطاحنة التى قامت وقتئذ ، فان العرب الأصلاء من شبة الجزيرة كان لهم الدور الثانوي ، أو الأقل أهمية ، في تلك الظروف. ومما لا شك فيه أن أهل الأمصار هؤلاء كانوا الأحداث عهدا بالإسلام ، كما أنهم تلقوه على بعد نسبي مصدره النبوي المصفى ، كما أن ظروف التوسع العاجل في الرقعة الاسلامية ، وفي ظروف حروب الفتح ، بل تداعياتها العسكرية والسياسية والإدارية ، جعل من اندفاع كثيرين منهم إلى الدخول في الاسلام ، دين الفاتحين الحكام ، موردا لقوى ، رابطتها النفعية بالدين أمتن من رابطتها الايمانية به ، مما يرتب إمكانية وسهولة استخدام هذه القوى فيما بعد في أعمال السياسة ، شغبا على الحكومة المركزية ومناوأة لها. وقد يكون في نقمة البعض من هؤلاء وحسرتهم على تهدم وسقوط الحضارات التى كانوا ينتسبون إليها ، أمام الزحف العربى الاسلامى الجسور ، دافعا لهم إلى خوض غمار الخلافات السياسية والصراعات الدنيوية ، وربما كان فيه أيضا المدخل السهل لاستقطابهم إلى أي من الجوانب المتلاحمة. ومن ناحية أخرى فقد يكون في التنافس بين أصحاب هذه الحضارات القديمة ، أحد العوامل وراء الاختبارات الصراعية الجديدة التي أخذ بها هؤلاء الأقوام.

فأهل الشام ، وهم بصورة أو بأخرى قريبون من حضارة بيزانطة ، يختارون الوقوف مع معاوية رضى الله عنه ، بينما أهل العراق الذين كانوا أقرب حضارة إلى الفرس يختارون الوقوف الى جانب علي كرم الله وجهه ، ولو قبلنا بهذا التصور المنطقي لبعض دوافع التحركات السياسية في هذه المرحلة ، فإننا نصل إلى نتيجة غاية في الأهمية ، مؤداها أن الثقافات والحضارات والأفكار غير العربية كان لها في الانتقال بخلافات الرأى وتباينات المواقف في المجتمع الاسلامى دور خطير ومؤثر. وقد بدأهذا الدور يظهر جليا منذ لاحق المسلك الفردي المستخفي الغادر لبعض هؤلاء الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضى الله عنه فطاله وقتله. وتصاعد في عهد عثمان رضى الله عنه ، حين اجتمع كثير من هؤلاء في غير تنظيم متماسك ، ولكن في علانية صريحة ، وثاورا بالإمام ، وتسوروا عليه دار فقتلوه. ثم كانت مرحلة ثالثة عندما انتظم هؤلاء جيوشا وفرقا توظف لصالح هذا الفريق أو ذاك من الفوة العربية التى اختلفت فيما بينها حول شئون الخلافة والإدارة والملك. وهذا ويحسن التنبية هنا ، الى أن البعض من اهل الأمصار الذين شاركوا في هذا الصراع ، كانوا إلى جانب حداثة تدينهم ، طفولي الايمان والاعتقاد ، وذلك يعنى أن الحدة النفسانية لإسلامهم لم تكن مدعومة بالوضوح الفكري المناسب ولا بالاستقرار الفقهي الرصين. وقد كون هؤلاء مع بعض الأعراب البداة الذين سكنوا البصرة والكوفة ، بعد فتحهما في عهد عمر رضى الله عنه ، الكتلة الأساسية من ذلك الجمع الذي عرف التأريخ للفرق الاسلامية باسم الخوارج. وقد يكون هذا الفريق قد لعب دورا متميزا  ، فيه الكثير من النقاء والمباشرة والحرص الغيور على الاسلام ، ولكن هذا الحرص الايمانى ما كان يبر ما يظهر في سلوك هؤلاء من تناقض يثير الغرابة ، بل ويثير الفزع في أحيان كثيرة. فمنهم من استحل دماء أطفال المشركين – ويضمون في رأيه أبناء المخالفين من المسلمين – ولم يستحل أكل ثمرة بغير ثمنها. ومنهم من كان يقتل المسلم المخالف ولا يقتل الذمي. بل وإن أحدهم ، وهو عبد الرحمن بن ملجم ، يقتل الامام علي كرم اله وجهه ثم يظل يقرآ القرآن ، ويرى أنه تقرب بعمله إلى الله ، فإذا أريد قطر لسانه جزع لأنه حسب قوله: (( أكره أن أكون في الدنيا مواتا لا أذكر الله…..)) (18). غير أن هذه النوعية من أهل الأمصار الشديدى التدين ، الملتهبي النزعة الاسلامية ، ليسوا غير استثناء في أهل الأمصار ، خاصة إذا عرفنا أن القيادات الفاعلة في الحركة الخارجية ، وكذلك الأكثرية ممن تسربلوا بسرابيلها ، هم من بدو الجزيرة العربية ، البسيطي التدين ، بل والسذج الاعتقاد ، الذين سكنوا كور ونواحى العراق بعد الفتح. هذا إضافة إلى أن اطلاق التعميم في توصيف الناس يؤدي إلى الخطأ في الاستنتاج ، ذلك لأن أي مجتمع أو تجمع أو جماعة ، فيها البعض الذي يشذ على عرف ومناهج واختيارات قومه ، لكونه من القلة المستنيرة ، أو لكونه من القلة الجامحة ، حسبما يكون اختياره وكيفما يكون مسلكه.

والملاحظ أنه في جميع المراحل السابقة، في عهود الرسول صلى الله علية وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم، كان التعامل بين المسلمين وبعضهم البعض يضبطه الحكم على الآخرين بظواهر أعمالهم. أما الباطن فقد كان أمره لدى الجميع موكول الى الله. وعلى سبيل المثال فان المنافقين من أهل المدينة ، وهم جزء من المجتمع المسلم ، كانت تجري عليهم أحكام الاسلام ، وكانت دماؤهم وأموالهم محفوظة ، رغم القلق الذى كانوا يحدثونه في مجتمع المسلمين بالمدينة. أما عندما جرد أبو بكر رضى الله عنه قواته لحرب الأعراب من أهل الردة ، فقد كانت وصيته لقواده أن يدعوا الناس إلى دفع الزكاة ، فان دفعوها – إقرارا بأحقيتها وخضوعا للسلطة المركزية في المدينة – فلا حرب ، ولا تفتيش في الضمائر ، ولا تنقيب عن حسن الاسلام في نفوسهم أو سوئه. وعثمان رضى الله عنه كما أوردت في أمثلة سابقة ، عندما اختلف مع الآخرين واختلفوا معه ، لم يصادر أيهم حقوق الآخرين في حسن المآل ولم يطعن تدينهم ، ولم يحط من إسلامهم.

صحيح أن بعضهم كان يتهم البعض بالحيدة عن كتاب الله وسنة نبيه وسياسة الخليفتين أبى بكر وعمر رضى الله عنهما ، ولكن ذلك الاتهام ، كان في طابعة العام ، يقف عند حدود التقييم الاجتهادي للفعل اليومي الظاهر ولا ينتقل إلى المعتقد الداخلي ، ولا يتطاول إلى ما وقر في القلب إسلاما كان أو إيمانا. أي أن الخلاف كانت حدوده الواضحة: هل أخطا الانسان أم أصاب؟ ولم تكن: هل بقي في الاسلام أم خرج منه؟!

وصفة ثانية أساسية كانت تميز الخلاف في الرأى فيما قبل مجتمع الفرق السياسية هذا. ذلك أنه قبل نشوب الصراع الأموي –  الشيعي ، وظهور الخوارج على وجه التحديد ، كان الحكم الدينى على الآخرين ، إن قام ، يظل محصورا في إطار المسئولية الفردية. فالنجاة الدنية أو الهلاك الدينى للإنسان لا ينشان من وقوفه أو إقامته مه هذا الفريق أو ذاك ، ولكنهما يؤسسان على معتقدة الشخصي المعلن ، بغض النظر عن الظروف والملابسات التي تحيط بممارساته اليومية واجتهاداته الحياتية.

وعلى النقيض من كل ذلك فانه قد ظهرت في أعقاب الأحداث الدامية التي واكبت الفتنة الكبرى ، نزعة متعصبة لتجاوز طواهر الأفعال الى مستبطنات الخلق المسلمين. كما بدأ خلط رهيب بين الأفعال الفردية والمعتقدات الشخصية للمسلم وبين السلوكيات الجماعية التى أملاها الصراع الذي دار وفرضتها التداخلات التي جرت ، فبعد أن كان إعلان المسلم الشهادتين يلحقة بالاسلام ، ويحفظ علية دمه وماله ، بدأت قسمة المجتمع المسلم ذاته إلى مؤمن وكافر ، ولم يعد إعلان الشهادتين في حد ذاته كافيا لتحصين المسلم في مواجهة خصومة ، ولم تعد حتى مظاهر التعبد والتعامل وفق قواعد الاسلام تشفع له في مواجهة الاتهامات ، ان لم تكن الاعتداءات التى قد تقع عليه. لقد كان كل فريق من الفرق التجارية ، بيحث لنفسه – بالحق ويغير الحق – عن سلاح بتار يقهر يه خصومه. ولما كان الدين الاسلامى لا يزال نشطا في النفوس ، يقظا في الوجدانات ، فقد كان اتجاه الكثيرين إلى البحث عن ذلك السلاح دينى المنحى والأغراض.

والملاحظ هنا أنه كلما كانت قيادة الفريق الباحث عن وسيلة قهر الخصوم ، في الكفة المرجوحة دينيا ، سواء لحداثة في الاسلام ، أو لشبهة ودخن في الاخلاص للدين ، كلما كان إسرافه في تجريح المعتقد الديني للخصوم أكثر عنفا وأشد مبالغة.وحتى تكون هذه القضية أكثر تحديدا ، فان علينا أن نتذكر فقط أن فرقا ثلاثا رئيسية كانت متواجدة وفاعلة في الصراع حتى مقتل الامام علي كرم الله وجهه ، وتلك الفرق الثلاث هى : علي كرم الله وجهه وشيعته ، ثم معاوية رضى الله عنه وأنصاره ، ثم الخوارج ومؤازرهم. ثم علينا أن نتذكر أيضا أن فريق معاوية رضى الله عنه ، وكانت الشبهات حول إخلاصهم للدين كبيرة ، وأن فريق الخوارج ، وكان إسلامهم قريب العمق مسطح الاعتقاد ، كانا – كلاهما – أسرع الى اتهام علي كرم الله وجهه وشيعته في دينهم.

وبالنسبة للفريق الخارجي ، فقد كان تكوين أفراده الفقهي والنفسي يفسر ، بل ويبرر أيضا تسرعهم في  الاتهام. أما فريق معاوية رضى الله عنه فلست أظن شيئا يفسر تطاولهم على معتقدات الآخرين ، سوى الكيد السياسي الذي ميز أفعال هؤلاء ، قبل وبعد خدمة التحكيم الشهيرة. وقد كان تقسيم الفرق المتصارعة – على أساس ديني – إلى فرقة ناجية ، وفرق هلكي ، هو في بدايته من فعل ذلك الفريق وقد ساعد استقرار الملك لهؤلاء فيما بعد على احتكار صفة النجاة لهم ولن شايعوهم فكريا وسياسيا ، مثلما أكد حسم الصراع الدنيوي لصالحهم صفة الهلاك لكافة الفرق الأخرى المناوثة. وقد جاء هذا التقسيم الدينى للفرق إلى فرقة ناجية وأخر هلكي بمثابة التغطية الدينية للموقف السياسي الضعيف نسبيا لهؤلاء ، بوصفهم خارجين على الخليفة الذي سماه أهل الحل والعقد بعد مقتل ذى النورين عثمان رضى الله عنه.

وقبل أن نتعرض للكيفية التي تطورت بها هذه الفكرة المدمرة ، التي تقسم المجتمع المسلم إلى فرقة وحيدة ناجية وكثرة من الفرق باغية ، والتى لا نزال نعيش في إسارها حتى وقتنا الراهن ، فانه يحسن أن نقف أولا على تجاوزات هذه الفكرة والضوابط الأصولية في الشريعة الاسلامية السمحة. فالمستقر في الفكر الإسلامى – فقها ومعتقدا – أن الأفعال مسئولية فردية للمسلم ، وأن كل نفس بما كسبت رهينة ، وأن لا تزر وازرة وزر أخرى.

وتلك هي القيمة الأولى التي تنهدم حين يأخذ البعض منا أحدا من المسلمين ، عنوة وافتعالا ، بالسلوك الجماعي للفرقة التي ينتسب إليها ويعمل معها ، خاصة وأن هذه الفرقة لم تعلن خروجها من الاسلام ، ولم تجاهر بخروجها عليه ، بل وإنها تقول بغير ذلك. وحتى لو أن فرقة من الفرق قالت بما هو تجاوز صريح للثوابت التي هي من الدين بالضرورة ، فان أخذ الأفراد الذين يعيشون مع هذه الفرقة بتلك العموميات ليس من الدين في شئ ، ذلك لأن هؤلاء الأفراد قد يكون تعاملهم مع هذه الفرقة وخضوعهم لها إنما كان إملاء ضرورة فرضها المواطن أو فرضتها الملابسات السياسية وهي جد كثيرة ومتنوعة. والخضوع لهذه القاعدة ، قاعدة التمييز ، بين الفرد وبين الجماعه في مسائل الاسلام والايمان والاعتقاد ، هي التي كان المسلمون الأولون جميعا يعملون على أساس منها مع الخصوم حين يدعونهم الى الاسلام ، فمن قبل الاسلام فهو آمن ، ومن لم يقبله ولم يحمل ضد المسلمين سلاحا فهو آمن ، بل وفي بعض الأحيان (( من أغلق عليه دراه فهو آمن)) رغم أنه قد يكون منتسبا بالدم أو بالتاريخ أو بالعهد لقوم هم في موقفهم الجماعي خصوم للاسلام وأهله. والأصل الثاني التي تتجاوزه فكرية الفرقة الناجية ، والنجاة خصيصة تترتب على المحاسبة يوم القيامة ، أن البعض قد أعطى نفسه حق إعادة تصنيف الناس الذين أعلنوا اسلامهم إلى مؤمنين وغير مؤمنين ، أو إلى مؤمنين وكفار ، أو إلى ضعيفي الايمان وأقوياء الايمان ، أو حتى إلى مسلمين وكفار ، وهذه المحاولات تدخل كلها في عداد التطاول على حق لله تبارك وتعالى لا يشاركه فيه أحد ، ولا يقدر عليه سواء. ذلك لأن مثل هذا التصنيف يقوم على معرفة بالظاهر والباطن ، وأولهما لا يدركه الخلق كله وثانيهما لا يدركون منه شيئا على الاطلاق  ، كما أنه يحتاج الى دقة في التقويم والمعايرة ، خاصة وان من فطرة الانسان أن يخلط في حياته الدنيا عملا طيبا بعمل خبيث ، إلى حد أن محصلة أعماله – إيجابا أو سلبا – يستحيل أن يقدرها غير الحق المطلق سبحانه وتعالى ، وبالتالى تتقرر له النجاة أو يتحدد له الهلاك على أسس دينية.

ويبدو أن فكرة لنجاة والهلاك هذه قد بدأت في الظهور عقب مقتل عمار بن ياسر رضى الله عنه في موقعة صفين التى دارت بين جند علي وبين جند معاوية رضى الله عنهما وقد كان عمار –ر ضى الله عنه – يأخذ صف علي كرم الله وجهه. وطبقا لرواية ابن قتيبة (19) فإنه (( إلتقى عليه رجلان – من أصحاب معاوية – فقتلاه ، وأقبلا برأسه إلى معاوية يتنازعان فيه ، كل يقول أنا قتلته ، فقال لهما عمرو بن العاص : والله إن تتنازعان إلا في النار ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتل عمارا الفئة الباغية ، فقال معاوية: قبحك الله من شيخ ، فلا تزال تتزلق في قولك ، أو نحن قتلناه؟ ، إنما قتله الذين جاءوا به. ثم التفت إلى أهل الشام فقال: إنما نحن الفئة الباغية التي تبغى دم عثمان!.))

والواضح أننا هنا أمام موقف يستغل فيه معاوية – رضى الله عنه – براعته العقلية (الكيدية) وحذلقته اللغوية ليصرف صفة البغى إلى خصومه ، ويخص نفسه وفريقة بصفة الصلاح. وقد لا نجافي الحقيقة كثيرا إذا قلنا أن مصنف البغي – الصلاح هذا هو الذي تطور فيما بعد إلى مصنف النجاة – الهلاك.

ويبدو أيضا أن الخوارج بمباشرة وإيمانهم ، وانفعالية اعتقادتهم ، قد صبوا الكثير من الزيت على الحريق الكيد ومستوقدات السياسة مما عجل بنضج هذا التصنيف وتطوره والتفنن في توظيفة لافحام الخصوم وإرهابهم. فبعد أن تمخضت موقعة صفين ، عن فريق جديد يضم الخوارج ، رفض هذا الفريق خدعه التحكيم ، وخرج على الإمام علي كرم الله وجهه لقبوله بها ، ورأى في الخضوع لها وفي التعامل بها ارتكابا لكبيرة دينية ولا يجب الوقوع فيها ، ثم حاول دعم رؤيته هذه وتبرير حر به لكل من علي ومعاوية – رضى الله عنهما – فاعتبر مرتكب الكبيرة كافرا ، بهدر دمه وتستباح أمواله ، وتسبى نساؤه ، ويقتل ولده!. وهكذا ، تحت حجب من الحماس الديني  ، خص الخوارج بقية الفرق بالهلاك ، وتعاملوا معهم على هذا الأساس. ويبدو أنه قد شاع بعد ذلك تبادل مثل هذه الاتهامات بين الفرق المختلفة وتصاعد ، حتى إن كتب الحديث قد أوردت على لسان النبي – صلي الله عليه وسلم – قولا في هذا الشأن نصه: (( افترقت اليهود على إحدى وسبعين ( أو اثنين وسبعين ) فرقة ، وتفرقت النصارى على إحدى وسبعين (أو اثنين وسبعين) فرقة ، وتتفرق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة)) (20). وفى كتابة الملل والنحل أورد الشهر ستاني(21) على لسان الرسول – صلى الله عليه وسلم – حديثا يدور في هذا المدار ويتقدم على سالفه وفيه يروى عنه – صلى الله عليه وسلم: (( ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، الناجية منها واحدة ، والسباقون هلكي. قيل: ومن الناجية؟ ، قال أهل السنة والجماعه. قيل: وما السنة والجماعة؟ ، قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي)). وفيما يتعلق بتقويم الفرق الأخرى المخالفة للسنة والجماعة ذكر الشهرستانى أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه كل فرقة ضالة من هذه الأمة بأمة ضالة من الأمم السالفة فقال: (( القدرية مجوس هذه الأمة)) ، وقال : (( المشبهة يهود هذه الأمة ، والروافض نصاراها)). والقدرية كمصطلح كلامي متأخر يطلق على المعتزلة ، أقوى الفرق الكلامية التى عرفها المجتمع الإسلامى. أما الرافضة فهي فرقة من الشيعة سميت كذلك لرفضهم تولية زيد بن علي بن الحسين عليهم لأنه عندما سألوه عن رأية في أبي بكر وعمر أحسن القول فيهما وترحم عليهما ، ولعل الشهر ستانى يعني بالروافض كل تيارات الشيعة.

أما المشبهة فتطلق على جماعة من غلاه الشيعة ، ومثلهم جماعة من اصحاب الحديث ، قالوا عن الله جل وعلا: أنه على صورة ذات أعضاء وأبعاض ، إما روحانية وإما جسمانية ، ويجوز عليه الانتقال والنزول والصعود والاستقرار والتخلي(22). والملاحظات  الموضوعية على هذه الأحاديث ، إضافة إلى كونها مضعفة (لأنها أحاديث آحاد وغير متواترة إذا جاز أن نأخذ بها في المجالات العملية فإنه لا يجوز اعتمادها في مجال الاعتقاد) ، أنها تتجافى مع الواقع التاريخي مجافاة تامة. فكل الذين أرخوا لهذه الفرق لم يقفوا بعددها عند الثلاث والسبعين.

فهي عند الأشعري فوق المائة ، وعند إبن حزم خمس فقط ، وعند الملطى أربعة ، وعند الشهر ستانى ست وسبعون ، وعند الخوارزمي اثنان وسبعون ، هذا إذغ عددنا الأصناف (الفروع ) فرقا ، وهو الخلط الذى يبدو أن أغلب مؤرخي الفرق قد وقعوا فيه (23). هذا مع ملاحظة أن عدم التطابق بين عدد الفرق الإسلامية وبين نصى الأحاديث السابقة يتكرر أيضا مع الفرق النصرانية واليهودية. أما الملاحظة الجوهرية الثانية ، فهي استخدام الرسول – صلى الله عليه وسلم – لو صحت نسبة الأحاديث المذكورة إليه ، للمصطلحات الكلامية التي أحدثت بعد وفاته بقرون. ولو قبلنا جدلا أن الرسول – صلى الله علية وسلم – قد تنبأ عيبا بدد الفرق ، ( وهو ما يتعارض مع المنحى القرآني الرئيسي الذي يقصر معرفة الغيب على الله الذي عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو)  ، فإنه من الصعب أن نقبل باستخدامه – صلى الله عليه وسلم – للمصطلحات الكلامية ، بل وبالتجديد للمسميات الدعائية التى كان الخصوم يطلقونها على منافسيهم ، مثل القدرية والروافض والمشبهة ، ناهيك عن انحيازة السابق في الزمن لفرقة بعينها( أو تيار بعينه ) ينتسب إليها كل الذين رووا مثل هذه الأحاديث عنه ، وكانت تسميتهم ((بأهل السنة والجماعة)) هى الأخرى تسمية لاحقة لعصر الصادق الأمين!.

6- الفرقة الناجية والسياسة المعاصرة.

الذي يعنينا من أمر الفرقة الناجية هذه ، هو ذلك التراث القهري الذي تحاول كل جماعة من المسلمين  ، أن ترهب به بقية الجماعات. فنحن لا نجد الظلال الخبيثة لهذه الفكرة المخيفة في تاريخننا القديم فقط ، ولكننا نعانى منها أيضا في حياتنا المعاصرة. فالخلافات في مجتمعات المسلمين المعاصرين لا تدور ، عند البعض من الناس وعند كل الحكومات  ، في إطار الصواب والخطا ، ولكنها تدور في طاحونة الحلال والحرام ، وبالتالي الإيمان والكفر. ومحنة الأبيض والأسود ، دون غيرهما من الألوان ، في مجتمعات المسلمين المعاصرة ، هى التى أفرزت تيارات وجماعات تحتكر لنفسها صفات العلم والإسلامية ، وتصف من يعملون خارجها من المسلمين بأنهم أهل جاهلية ، وتصم مجتمعهم بأنه مجتمع جاهلي ، وتعتبر دارهم دار حرب ، فتهدر دمهم ، وتبيح أموالهم ، وتدعو إلى مفاصلتهم عند العجز وقتالهم عند القدرة!.

وهذا الاحساس الوحداني (الأدنى) بالنجاة ، سواء أتاه هؤلاء عن وعي أو عن غير وعي ، هو الذى أصبح يحول بيننا وبين أن نعيش خلافاتنا مثلما كان يعيشها المتحضرون من أهل الأرض الذين يعاصروننا ، ويشاركوننا الزمان والمكان ، والذين سوف نعرض صورا من خلافات حياتهم فيما هو آت من هذه الدراسة. أما ذلك الاصرار المتغاني على أن يكون الهلاك مصير الآخرين فلعله المحرض الرئيسي للكثيرون منا على أن ينقلوا الخلافات في الفروع إلى المستويات الأصولية ، وأن يرتفعوا بالقضايا العملية الحياتية التجريدية إلى مراتب الاعتقادات ، ذلك لأن مكان الفرق المخالفة هو في النار ، بينما مكان أصحاب ذلك الإصرار في الجنة! ، وهي قسمة تغري ولا شك بالتطرف في الخصومة ، واللدد في النقاش ، والإغراب في الخلاف ، والتجني بالباطل ، والتجاوز عن الحق!.

ورغم النكهة الدينية الحريفة ، فإن مصطلحات مثل الفرقة الناجية والفرقة الهالكة ، إنما هي أدخل في باب السياسة منها في باب الدين. فالتقويم الجماعي للآخرين في أمور الاعتقاد الديني ، كما اوضحت من قبل ، لا يستقيم مع العطاء الديني الصحيح ، حيث في الإسلام يصير الحكم في أمر صحة الاعتقاد لدى المسلم بعد أن يعلن دخوله الإسلام من خصوصيات صاحب الدين سبحانه وتعالى.

ولكن في جانب السياسة ، يلعب تعميم الأحكام على الآخرين دورا رئيسيا في إدارة الصراع السياسي وفي التأثير في حروب الأيديولوجيات. وهذا التعميم في دنيا السياسة ينشأ عن كون القضايا المادية الحياتية ، التى هي شغل السياسة المباشرة إنما هي مشاع بين جميع الناس ، كما انها اختصاص لهم لا تصدهم عنه قوة أخرى غير اجتماعية غير إنسانية ، ومادامت تلك هي طبيعة أمور السياسة العملية ، فان كل فريق قد يكون من حقة أن يصدر أحكامه العامة بشأن الفرق المناولة أو المخالفة. بل إن الإنسان قد يضيف إلى ذلك أن أية ممارسة سياسية ، مهما كانت درجة تطهرها ، ومهما كانت قوة الضوابط الأخلاقية التي تحكمها ، لابد وأن تختلط بقدر كبير من البراجمانية (النفعية) التي قد تفرضها ملابسات الواقع ، وقد تمليها ظروف الصراع السياسي ، بكل ما يصاحبه من مد وجزر قد يكونان في صالح بعض الأطراف أو ضد مصالح بعضها الآخر.

لقد ماتت القضايا الحياتية التي ثار حولها الخلاف في مجتمعات الاسلام التاريخية ، والتى جرى تبعا لها تقسيم الفرق المتنازعة إلى فرقة ناجية وفرق هالكة ، وكان على رأس هذه القضايا مسألة الخلافة. وحتى تراثنا التاريخي المترتب عل الخلاف ، يبدو أن الزمن ، أو السلطة الزمنية على تعاقب العصور ، قد أفرغته من أغلب إن لم يكن من كل محتواه السياسي ، ولم يبق منه غير الورقة الدينية التي استخدمها رجال السياسة وفتثذ للحماية والتموية.فالسنة لم تعد تخالف الشيعة ، أو الخوارج( وبعضهم لا يزال موجودا في شمال افريقية وجنوبي الجزيرة العربية في اليمن)في أمور السياسة ، ولكنها تخالفهم في قضايا الدين ، اعتقادية كانت أو تعبدية. محاولات التقريب بين المذاهب (والفرق) لاتزال تلقى النفور من البعض ، بل وتلقى المقاومة من الكثيرين. والخلاف في الفروع ، بل وفروع الفروع ، يصد عيونا كثرا عن رؤية الانفاق في الكليات وفي الأصول. وبينما يشغل المنقطعون لشئون الدين أنفسهم بجزئياتهم الخلافية الدينية الطابع ، فإن محترفي السياسة ، ورجال السلطان في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة ، يوظفون نظرية الفرقة الناجية لمواجهة خصوم السلطان السياسيين ، الذين لابد وأن يلحقوا بقطيع الهالكين. ويحدث ذلك بالطبع بعد خروج هؤلاء البغاه من دنيا السلطان وزنزانته إلى الدار الآخرة!. وتبدو لعنة السلطان كما لو كانت تصر على أن تكون هي الفاعلة في الأولى والآخرة!. والنتيجة العملية لهذا التوظيف السياسي لموروثاتنا المشوهة تلك ، أن جميع أحزاب المعارضة إنما هي في ضلالة ، وأن جميع الأصوات الناقدة في البرلمانات أو في مجالس الشورى( لأصوات الناقدة في البرلمانات أو في مجالس الشورى( إن وجدت وإن بقيت بعد وجودها) إنما هي أصوات مستوردة ، تعمل لغير تراثنا ، وتنبت من غير ترابنا. صحيح أنه في أكثرية دول العالم الثالث ، تعاني المعارضة مثلما نعاني في مجتمعاتنا الإسلامية ، غير أن الطعن في المعتقدات الدينية للمخالفين في السياسة يبدو كما لو كان أكثر إسرافا وأشد مبالغة عندنا. وصحيح أيضا ، أن مجتمعات الغرب المتقدمة ، مرت في مرحلة التبلور السياسي المعاصر بمثل ذلك الذي نتحدث عنه ، حيث تم توظيف رايات دينية لإرهاب المعارضة السياسية ، غير أن ذلك حدث في عصر لم تكن ثورة المعرفة والاتصالات فيه مثلما هي عليه الآن. ففي تلك الظروف القديمة كان الجهل بأفكار المعارضة وبرامجها وخططها ، كما كان المستوى الحضاري المتدني للغاية ، يسمح بالكثير مما جرى. أما في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة فإن الظروف هي بغير شك أفضل مما كانت لدى هؤلاء الغربيين في ماضيهم القريب . كما أن بساطة الإسلام ، ومباشرة العلاقة بين المسلم وبين ربه ، وغيبة السلطة الكهنوتية في ديننا ، كلها عوامل إيجابية كان من الأولى أن تحول بين رجال السلطان وبين ذلك الغي الذى يندفعون إلية ، ويوغلون فيه.

وما دامت الأمور كذلك ، فإنه يكون من المنطقي أن نفسر أكثر الذي يجري في عالم السياسة في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة بأنه الترجمة الأمنية لتعسف السلطان وخدم السلطان في استخدام أسلحة التدمير السياسي الموروثة ، ومشاركة الكثيرين ممن يلبسون سمت الدين ( أوسكوتهم في أفضل الأحوال) في جريمة الاستخدام غير الشرعي لتلك الأسلحة المحرمة!.

وخلاصة الأمر: أنه لا الخبرة التاريخية ، ولا العطاء القرآنى الذي يصف أهل هذه الأمة بأن أمرهم شورى بينهم ويأمر الرسول – صلى الله علية وسلم – أن يشاورهم في الأمر ولا الكليات والأصول الشرعية ، تؤيد ما يذهب إليه أولئك الذين يزعمون أنهم وحدهم أصحاب الرأي الواحد الصحيح بينما غيرهم إن لم  يكونوا في ضلالة فإنهم على خطا أكيد.

فالمجتمع الإسلامى (مع استيفاء شرط تطابق الوصف مع الواقع) لم يكن في أية تاريخية مر بها رأيا واحدا ، كما أنه لم يكن أبدا قسرى الفكر ، قهرى الاعتقاد ، عبودى الممارسة ، اسبرطي القيادة. وإن كان ذلك المجتمع يبدو للبعض – تاريخيا – على غير ما صورناه ، فمرد ذلك أن هؤلاء يرونه وهما ، بينما نراه نحن حقيقة تاريخية ، فكرية ومادية واجتماعية واقتصادية ، جرت عليها سنن الخالق مثلما جرت وتجرى مع كل الظواهر وفي كل المجتمعات. وإذا كان البعض من الأحداث التي أوردناها إنما هي تبيان لكيفية فعل هذه السنن في مجتمعات التطهر الاعتقادي ، والغيرة الإيمانية ، والقيادة النبوية والزعامة الصحابية ، فإنه من باب أولى أن يكون فعلها في مجتمعاتنا المحدثة المعقدة أكبر في التأثير وأوجب في القبول من كافة الفرق السياسية المعاصرة.

ثانيا: الذين هم عنا غرباء

والغرباء هم أولئك الذين ينتسبون إلى ثقافات أو حضارات مغايرة لثقافتنا وحضارتنا ، كما نحب نحن أن نرى هذه الثقافة وان نتصور تلك الحضارة.

وقد يكون البعض من هؤلاء الغرباء ثقافة من بني وطننا ، ومنهم علي سبيل المثال الأقليات المتميزة عرقيا كالأكراد في المشرق والبربر في المغرب ، كما أن من بينهم الأقليات الدينية من مسيحية ويهودية.

وحتى نحدد موقفنا من هؤلاء الآخرين الغرباء (ثقافة على الأقل ) ومن أفكارهم على أسس علمية وفي اطار ضوابط موضوعية يكون من المستحسن أن نحدد معارفنا وان نضبط مفاهيمنا الخاصة بالثقافة كظاهرة انسانية ، على اعتبار أن الخلاف في الرأى بيننا وبينهم ، انما هو في الجانب الأهم والأعظم منه تعبير عن المغايرة الثقافية بين مجتمعنا وبين مجتمعاتهم.

1- حول الثقافة والظاهرة الثقافية

ثقافة اى مجتمع ، وبصورة أشمل حضارته ، إنما هي نتيجة تفاعل الزمان والمكان والعقلية الاجتماعية. والعقلية الاجتماعية ماهي إلا ثمرة التزاوج بين الموروث النقلي وبين المحدث المكتسب من الخبرة الحياتية ومن العطاء العصرى. لذلك فإنه قد يتوحد المكان ويتطابق الزمان لجماعتين من الناس ، ويظهر بالتالى أقدار من التشابة بين عطائيهما الحضاريين ولكن تبدو إلى جانب ذلك التشابة فروق جوهرية بين ثقافتيهما أو بين حضارتيهما. ومثل هذه الفروق الخلافية ترد بغير شك إلى العقلية الاجتماعية (أو الجمعية) لكل من هاتين الجماعتين ، وهى تتأثر بالزمان والمكان ، ولكنها في نفس الوقت لها قدر من الاستقلالية والفاعلية كبير مما ينتج لها أن تقوم بدور مضاد في إعادة تشكيل المكان وضبط إيقاع الزمان.

والثقافات المغايرة لثقافتنا كثيرة كثيرة وهذه الكثرة الكاثرة تنشأ عن الامتداد الأبدي الأزلي للزمان ، وتنبت عن الاتساع الكوني للمكان ، وتتولد عن المفارقات للانهائية بين العلقيات الاجتماعية.

وحتى تلك الصيغة الضيقة الأفق ، المتبذلة البناء المسماة (( ثقافتنا )) أو (( حضارتنا )) ، أنما تعبر عن مغالطة لا يحسن السكوت عليها ، فنحن تاريخنا ، لسنا أصحاب ((ثقافات)).

صحيح أن عناصر توحيد ، وملامح مشابهة ، ومحاور استمرار ، كانت موجودة في ثقافاتنا القديمة وهي لاتزال فاعلة في ثقافتنا المعاصرة ، ولكن ذلك لا ينفي أن تبدل الزمان ، وتبدل العقلية الجماعية ، كل منهما يحدث تبدلا في الثقافات يجب الاقرار به والتسليم له. ويبدو أن هذا الفهم الاستاتيكي(( لثقافتنا )) إنما ينشأ عن مساواة غير عاقلة وغير عملية بين كل من الدين والتراث والثقافة. ولما كان الدين (كعطاء نصي إلهي ) من الثوابت ، ولما كان الجانب الموروث من فكرنا الاسلامي القديم والذي يحتكر تسمية (( التراث )) قد أضفى عليه الكثيرون من القداسة ما هو ليس فيه ، ولما كان البعض لا يتصور من الثقافة غير جانبها القولى فقط (ولا أقول الفكري) ، ولما كان هذا البعض لا يقبل من الجانب القولي هذا غير الجزئيات التى تستهوية ، فإنه قد ينتهي إلى اعتناق تلك المقولة الخاطئة التي تتوهم (( ثقافة )) واحدة تتجاوز الزمان ، وتتجاهل المكان ، وتتمرد على التطورات العقلية (الفردية والجماعية) التي تحدث للناس بحكم سسن الله في خلقة.

والثقافة في أبسط وأشمل تعريف لها ، انما هي جماع الانتاج المعنوى والمادي لمجتمع ما ، والأنتاج المعنوي يتمثل في القيم والسلوك والفن والأدب والفكر ، بينما يتجسد الانتاج المادي في البحوث العلمية والتقدم الصناعي والانتاج الزراعي وانماط المعيشة والعمل بصفة عامة.

ويمكن تمييز عناصر ثلاث رئيسية تكون بمثابة الأركان والأعمدة التي تشكل بنيان أية ثقافة وهي: الأفكار والقيم ، ثم المؤسسات الفاعلة في المجتمع (فردية أو اسرية أو اجتماعية ) ، ثم الانجازات المادية المتحققة وبالطبع فإن هذه الانجازات المادية ما هي إلا نتيجة فعل المؤسسات الاجتماعية من خلال الاطار الفكري (والقيمي) الذى يتبناه المجتمع في لحظة تاريخية بعينها.

وإذا قبلنا أيضا بكفرة أن الترأث هو الآخر ، كما أن له جانبا معنويا يتمثل في السلوك والقيم والآثار الأدبية والدينية فان له جانبا آخر ماديا تعبر عنه الآثار وأدوات الانتاج والأنماط الموروثة في المعيشة والمسكن ، فإننا قد نقبل بتعريف التراث على انه تراكم مادي وقيمي وسلوكي ومعرفي. ، يسع كل العصور والحضارات السابقة ، ويأخذ عنها جميعا بغض النظر عن كؤن هذا الأخذ إراديا أو غير إرادى. ويترتب على هذا أن يكون التراث كمصطلح ثقافي أوسع كثيرا وأشمل من ذلك المفهوم التقليدي للتراث كتراكم للمعارف الدينية البحته ، كما أنه يكون أكثر اتساعا من الذين ، حتى ولو كان الدين جوهر أساسيا في هذا التراث وصبغة رئيسية له. ثم إننا إذا سلمنا بأن الأخذ والنقل الثقافين (الحضارين ) كما ينتقلان في الزمان من الماضي الى الحاضر ، فانهما ينتقلان في المكان أيضا من مجتمع ما ( أو حضارة ) الى مجتمع آخر متزامن معه ، فإننا نستطيع وصف ثقافة أي مجتمع بأنها تركيبة تاريخية حضارية من مكونات ثلاث: أولها الموروث المادي والمعنوي من الثقافات القومية القديمة ، وثانيها الاضافات المادية والمعنوية للمعاصرين أصحاب الثقافة ذاتها ، وثالثها المنقولات المعاصرة عن الثقافات الاخرى التى يتم الاحتكاك بها والتعامل معها ثم التفاعل وإياها. وبالطبع فإن هذا المكون (العنصر ) الثالث يتضخم دوره كلما تضخمت سبل الاتصالات بين الثقافات. وبالتالى فإننا لا نجاوز الصواب إذا زعمنا أن التأثير المتبادل بين الثقافات (الحضارات ) المتغايرة في المكان ، المتوحدة في الزمان ، أنما هو أسرع وأوضح في عصرنا الراهن ، عصر ثورة الاتصال والمواصلات ،عنه في السابق من العصور.

وإذا كانت الثقافة ، كما تتضح من تعريفها ومن توصيفها ، إنما هي في حقيقتها ظاهرة دينامية ، بمعنى أنها قابلة للتغير والتبديل والاضافة والحذف ، وانها مشابهة للشجرة اليانعة المتواصلة النمو تتجدد أوراقها من حول إلى حول ، فإن ذلك يفرض علينا أن يكون فهمنا لثقافاتنا ولثقافات الآخرين هو الآخر ديناميا ويترتب على هذا وجوب تجنب الأحكام السرمدية على الثقافات فليست ثقافتنا هي ذلك الوجود الاستاتيكي الذي جمع الفضل كله على طول الزمان ، كما أن ثقافات الآخرين ليست ذلك التراكم الشائن الذي تجمد على القبح البغيض الذي يزعمه البعض.

فثقافتنا ، وثقافات الآخرين  ، يجري عليها جميعا قانون التغير ، وتؤثر فيها جميعها فاعلية الأحداث ، وبالتالى فإن توصيف وتقويم هذه الشقافات لابد وأن يختلفا من آونه الى آونه أخرى ، وأن يتفاوتا من موقع إلى موقع آخر.

ولما كانت الثقافة في حقيقتها ليست ظاهرة ذهنية مجردة ، ولكنها وبنفس القدر وجود مادي أيضا ، فإن محاولة البعض الفصل تعسفا بين الإنجازات المادية وبين الإبداعات الفكرية (والقيمية ) عند الأخذ عن أو عند تقويم ثقافات الآخرين ، انما يمثل فعلا يدل علي تبذل حضاري ، ويكشف عن فهم قاصر ، وينم عن افتعال ساذج. ولو أردنا أن نضرب مثلا على ارتباط المفاهيم الفكرية (والقيمية ) بالموجودات المادية المنتسبة الى ثقافة ما ، لقلنا أنه في عصور المشي على الأقدام ، واعتماد المطايا وسائل للانتقال ، كان المتعجل سفره – في ثقافات هاتيك العصور – مثله كمثل المنبت لا أرضا قطع ظهرا أبقي ، وكانت النصيحة  المحصيف – في حكم القدامى – أن يسير شهرا ولا يعبر نهرا ، ووفق صياغة التراث الشعبي: (( أمشى سنة ولا تعدي قنا)). ومما لا شك فيه أن (( ثقافة الركايب )) البائدة تلك لا يمكن أن تستمر تعمل في عصر يصبح جوهر الصراع الحضاري فيه اقتتالا حول توظيف الوقت والاستفادة منه ، وتصبح فيه عابرات المحيطات من السفن صور متئذنية للسرعة اذا ما قورنت بالطائرات الاسرع من الصوت ، أو بالصواريخ العابرة للقارات ، أو بالسفن المنطلقة إلى الفضاء الخارجي. والحتمى ، وقتئذ ، أن تواكب هذه الموجودات المادية المعاصرة مفاهيم للوقت والحركة ، ملائمة لها ومتوافقه معها.

والنتيجة المنطقية الأولى لذلك الارتباط العضوي بين الانجازات المادية وبين الابداعات الفكرية لثقافة ما ، أن جميع المفاهيم الفكرية التي هي نبت وجود مادي (مكاني وزماني ) قديم قد أنقضى ، لابد وان تنقرض وتخلى الساحة لكل ما هو خير منها ، وهذا الذى هو خير إنما هي القيم والأفكار الجديدة التى ترتبط بالوجود المادي والحديث القائم وتتوافق معه. أما النتيجة المنطقية الثانية فهي استحالة النقل المادي عن حضارة ما ( أو ثقافة ) دون اعتماد قدر ما – كبرأو صغر – من الافرازات المعنوية لهذه الحضارة. وعلى سبيل المثال فإنه يستحيل استيراد تقنيات الصناعة المعاصرة الى مجتمع متخلف ، دون أن ننقل معها الاحساس الصناعي بالوقت ، والادراك التقني لترتيب الأعمال وتنظيمها ، والالتزام الأصم بمسئولية العمل ، والجهد الايجابي نحو التجمع المهني أو النقابي ، كلها قيم تبدو غير ذات دلالة في مجتمعات الزراعة المتخلفة ، أو في مجتمعات الرعي شبة الميته. ومثل هذا يمكن أن يقال عن القيم المعنوية التي هي ولا بد منتقلة مع المستورد من السيارات والطائرات وأجهزة التكييف وأجهزة الاعلام وغيرها الكثير من منجزات العصر المادية. ولعل في هذه الأمثلة التنبيه الكافي إلى المغالطات التى يرتكبها البعض إذ يزعم أن في الامكان نقل الانجازات المادية عن الآخرين دون التأثر بقيمهم الفكرية وإبداعاتهم المعنوية ، كما أن فيها الادانة المناسبة للحماقات التي يدمنها آخرون حين يقومون ثقافات الآخرين من منطلقات انتقائية ، فيرون في انجازاتها المادية قمة سمو ، بينما هم يتوهمون في إبداعاتها الفكرية والقيمية والسلوكية قاع انحطاط !

إن هذا الفهم العلمي لظاهرة الثقافة يؤدي إلى اقتناع أكيد بأن أصحاب أية ثقافة لا يمكنهم إتيان أشياء ثلاثة  ، ولو حاولوا اتيانها لما نجحوا ، ولو نجحوا فإنما يكون ذلك إيذانا بانهيار ثقافي ، قد يتطور إلى موات ، وهو منتهي الفسل بكل تأكيد. فهم أولا عاجزون عن الانسلاخ التام من ماضيهم ، وهم ثانيا غير قادرين على الهروب من حاضرهم ، ثم إنهم ثالثا لا يمكن أن يكفوا عن الفعل الثقافي الذي هو ثمرة تفاعل قدراتهم العقلية مع البيئة الحضارية(بمركبتيها الرئيسستين الزمان والمكان ) التي يعيشون فيها. فلانسلاخ من الماضى بتر للاستمرارية الثقافية مستحيل ، كما أنه محاولة مسبقة الفشل للبدء من الصفر ، وكلاهما من الأمور التي لم تثبت نقلا أو عقلا خلال تاريخ البشرية المتعدد المراحل والصور. أما الهروب من الحاضر فإنه يعنى العيش الارادى (وإن كان سليبا) في (( جيتو ثقافي )) ، وفي مثل هذه البيئة المتقوقعة تنحسر الثقافات وتتحوصل وتنحجر وقد تموت وقد تكون هذا التقوقع الثقافي ممكنا فيما مضى ، ولكن في إطار العصر الحاضر ، عصر انفجار المعرفة وثورة المعلومات ، فإن حصون العزلة الثقافية مهما قويت لا تعز علي الاقتحام ، وبالتالي فإن العزلة الممكنة في عصرنا هذا ، لا يمكن أن تكون عزلة مادية ، ولكنها يمكن فقط أن تكون عزلة نفسية ، هي ألصق بالمرض منها بالصحة ، وأقرب إلى الموت منها إلى الحياة. أما استحالة أن تكف جماعة انسانية عن الفعل الثقافي ، فمرد ذلك إلى أسباب ثلاثة والسبب الأول أن لكل من الزمان والمكان وجود مستقلا عن الادراة الانسانية (فردية كانت أو جماعية ) ، وبالتالى فإن تراكمات مادية وموضوعية كثيرة لابد حادثة ، ولابد أن يكون لها آثار ثقافية وبصمات فكرية ، شاء هؤلاء الناس أم أبوا.

والسبب الثاني أنه كلما زاد الاتصال بين رقع العالم ، كلما زادت قوة الدفع الحضارية ، وازداد تأثر البقع المختلفة بهذه القوة ، واضطرت – راغبة أو مرغمة – على تعاطي الانجازات المادية والمعنوية التي هي نتاج الثقافات القوية المجاورة ، أما السبب الثالث فهو أن أي مجتمع إنساني  ، مهما كانت درجات انهياره وتحلله وتخلفه ، لا يعبر عن رؤية واحدة ، ولكنه يعبر عن رؤى متعددة. وفي مرحلة ما قد يبدو العازفون عن التجديد الثقافي وكأن لهم الغلبة ، ولكن التحديث الثقافي – رغم ما قد يبدو عليه من ضعف – لابد وأن يحدث التراكم المطلوب ، والذي يتحول مع الزمان إلى وجود حضاري له قيمته وإضافات ثقافية لها مغزاها.

2- موقفنا الراهن من أفكار الغرباء!

موقفنا من أفكار وثقافات الآخرين ، هو بغير شك موقف غير متوازن ، بل أوشك أن أقول أنه غير سوى. وهذا الموقف غير المتوازن لابد وأنه ينشأ عن الاصرار على عدم الفهم العلمي للثقافة كمصطلح ، وللثقافة كحياة ، وللثقافة كأحد أبواب الاحتكاك الانساني والحضاري.

وهذا الموقف غير المتوازن تجاه أفكار الآخرين وثقافتهم يزداد تحيزا ، ويضاعف تشوها ، عند أولئك الذين يقومون هذه الأفكار والثقافات من منطلقات دينية. ولما كان أمثال هؤلاء يتصورون الثقافة ، مجرد تراكمات معنوية بحته ، تتولد عن تخريجات ذهنية مجردة ، وتنتقل من جيل إلى جيل عبر المورثات النقلية المرصودة في كتب القدامي ، فإن من النتائج الطبيعية أن يسيطر سوء الظن بأفكار الآخرين وثقافتهم على رؤي هؤلاء ، وأن تصبغ النظرة التآمرية لممارسات الآخرين الفكرية كل محاولاتهم التقويمية لهاتيك الأفكار والثقافات.

وسوء الظن هذا بأفكار الآخرين ، عندما تلقحة الرؤية التآمرية للمنتوجات وللاجتهادات الثقافية ، فإنه ولابد سوف ينجب موقفا عدوانيا حين التعامل مع هؤلاء الآخرين. وهذا الموقف العدواني تجاه الأفكار المخالفة ، يفجر في أصحابه وضحاياه نوعين متناقصين من المشاعر تجاه الآخرين ، خاصة إذا كانت إنجازات هؤلاء في مجالات الفكر والثقافة كثيرة ومتنوعة وواضحة ولا يمكن إنكارها أو تجاوزها ولو حتى بالتعامي عنها. وأول هذين النوعين المتناقضين من المشاعر هو الاحساس بالدنو أمام فاعلية هذه الأفكار والثقافات وهذا الاحساس المتدنى قد يتضخم عندما يكون حاملو ميكروبه في وضع حضاري وثقافي متخلف لا يتيح لهم تقديم أية إنجازات فكرية أو ثقافية ذات قيمة ، مما يدفعهم إلى تبنى الرفض العصبي أو التبعية المرضية لأفكار الآخرين وثقافتهم. أما ثاني النوعين من هاتيك المشاعر المتناقضة فهو إحساس كاذب بالاستعلاء على أفكار الآخرين وثقافتهم. وهذا الاحساس الكاذب بالاستعلاء عندما يسيطر على بعض أصحابة فإنه  يدفعهم إلى الحط الدائم من قدر الآخرين ، وإلى التهوين الساذج من إبداعاتهم ، وإلى التحامل الطفولي على إنجازتهم الثقافية. وكثيرا ما تتم تغطية هذا الاستعلاء الكاذب بالمزاعم غير العملية حول السبق القومي أو الوطني أو الديني في الوصول إلى كافة الأفكار والأبداعات الأنسانية الجيدة – والتى لا يمكن تجاهل جودتها ولا إنسانيتها – التى تتضمنها ثقافات الآخرين المخالفين. لذلك المزاعم ، والتى قد تكون صحيحة إلى حد ما ولكنها مبالغ فيها ، تقوم عادة على إعادة قراءة التراث القومى ، أو الموراث الديني  ، أو الثقافة الوطنية ، تحت الاضاءات الفكرية المعاصرة التي تقدمها ثقافات الآخرين ، وبواسطة المعطيات والقيم الجوهرية والمحورية لهذه الثقافات ، ثم محاولة استنباط هذه القيم والمعطيات من الثقافة الذاتية بأثر رجعي ، وبوسائل توفيقية في بعض الأحيان ، أو تلفيقية ، في أحيان أخرى ، ونظرا لأن أصحاب هذه المحاولات يرون في الثقافة مجرد تراكمات قولية ، وليست حياة معاشة زنابضة ومجسدة في واقع مادي ، فانهم لا يعدمون وجود توافق ، بل وتطابق في بعض الاحيان ، بين المفاهيم المجردة حول الحق والخير والجمال  ، وكذلك بين المفاهيم القولية الانسانية حول كرامة الانسان وحقوقه الأساسية ، في كل الثقافات القديمة والمحدثة  ، المادية والمثالية ، مما يوقعهم في وهم العثور ( الوطني أو القومي أو الديني ) المبكر على كافة هذه القيم وتلك المفاهيم ، ويؤدى بالتالى إلى التضخم المرضي لأحساس الاستعلاء الكاذب الذي أشرنا إلية. وكمثال حياتي ، لبيان كيفية حدوث ذلك التوافق المكذ وب نذكر أن جميع أمم الأرض في عصرنا هذا ، تقر في وثائقها وفي دساتيرها وفي أطرها القيمية بصفة عامة بحق المواطن  – أيا كانت منزلته الاجتماعية – في أن يوفر له المجتمع (أو الدولة ) كافة مطالبة الأساسية من مسكن ومأكل وملبس وتعليم وعلاج… غير انه في المقابل ، نجد أن مجتمعات كثيرة ، وفي مقدمتها مجتمعاتنا المنتسبة إلى العالم النامي (تأدبا) ،  المتخلف ولا الهياكل الخدمية والانتاجية التي يمكن عن طريقها إحداث التراكمات المادية اللازمة لاستيفاء هذه المتطلبات الحياتية لكل مواطن. إن الفرق القولي بين نمطين من المجتمعات ، يوفي أحدهما بمطالب المواطن الأساسية في حين يعجز عن الوفاء بها الآخر ، قد لا يكون كبيرا ، بينما الفرق الحياتي بينهما يكون جد خطير. وهذا الفرق الحياتي ، هو في بعض أبعاده على الأقل ينشأ عن تفاوت الفهم للظاهرة الثقافية ، فالمجتمع الأول يرى في الثقافة أفكارا وقيما ، ثم مؤسسات تخدم وتجسد هذه الأفكار والقيم ، ثم إنجازات مادية لهذه لمؤسسات تستوفى لهذه الأفكار والقيم لحمتها الحياتية وسداها المعاشية بينما يراها المجتمع الثاني مجرد مقولات مباركة مترفة ، تستخدم للشقاق اللفظى في الأندية ، أو لعمل الأحجبة ، أو لدغدغة مشاعر المواطن وخداعه بأمل لا يعرف إن كان قريبا أو بعيدا ، أو للتظاهر الخطابي في المناسبات أو للادعاء الكاذب بأفضال لاجود حقيق له.

ودون تحديد لنماذج بعينها ، وما أكثر النماذج التي يمكن الاستدلال بها ، فان موقفنا ، وبالتحديد موقف الأكثرية من أصحاب الرؤى الد ينية ، من الحضارة المعاصرة يمكن اعتباره تجسيدا لكل المثالب والعيوب التي أوردناها من قبل. والحضارة ( أو الحضارات ) المعاصرة ، وبالتحديد النوعيات الفاعلة منها والمنتجة هي بغير شك ، ورغم كل مكابرة ، غريبة الطابع. والمحتوى الثقافي لهذه الحضارة المعاصرة مدان ، إن لم يكن مرفوضا ، من ذلك الفريق ، ذلك لأن هذا المحتوى حسب زعمهم ، مادي الهوي ، نفعي الاتجاهات ، متجاهل لفطرة الانسان ، مهدر لانسانيته. وهذا الفريق ليس يعدم ، إلى جانب مزاعمه الذاتية ، أن يجد في بعض كتابات الغربيين بعض الأفكار المتشائمة التي تتحدث عن عجز حضارة الغرب عن استيفاء المطالب الانسانية الروحانية الواسعة ، أو التي تتوقع انهيارا سريعا لهذه الحضارة المادية. ويلجا هذا الفريق عادة إلى غريزة الانتقاء ، التي تميز الفعل الثقافي لاشباء العالمين ، ويتشبث بهذه  الأفكار والكتابات الشاردة نوعا ما عن تيارات الابدع الثقافي والفكري الغربي ، ويستند إليها ، في غير حق ، لدعم تصوراته العدونية المريضة عن ثقافات الآخرين وحضارتهم ومن الممكن أن يقع هذا الفريق على بعض الكتابات الغربية التي كتبت دعما للحضارة الغريبة المعاصرة ، وصيغت بقصد ترشيدها ، وألفت بقصد إحداث المزيد من التوازن في خطوها ، فاذا به ينتقي منها ما توافق مع هواء المتحامل ضد ثقافة الغرب وحضارته ، ثم يتعسف في استخدام هذه الكتابات لتعضيد توهماته الجاهلة بشأن هذه الثقافة وتلك الحضارة. ولعل أوضح الأمثلة على ذلك استخدام كتاب كثيربن من أصحاب المنطلقات الدينية لكتابات العالم الغربى الكبير ألكيس كاريل خاصة كتابه  المعنون (( الانسان ذلك المجهول)) كدليل على عجز الحضارة الغربية وقصورها وحتمية الأقول السريع لها ، بينما كان كاريل نفسه يقدم ما يكتب ، وعلى وجه التحديد كتابه السابق ذكره ، من منطلق العالم الغربي الضالع في صناعة الحضارة (والثقافة) الغربية ، الحريص على تقدمها ، والمستهدف لامكانيات أفضل للعلم المعاصر كي يلج ويضئ ويتعرف على النطاقات المجهولة في التكوينين النفسي والفسيولوجي للانسان!. وأنا لست أريد أن أصل هنا ، إلى زعم مضاد آخر ، ذلك لأنني شخصيا أرى في هذه الحضارة أنماطا من الصراع الاقتصادي – الاجتماعي تتجاوز الضوابط الانسانية ، كما أنني أرى فيها انحيازا متعاليا وغبيا لأنماط (أو أجناس) من البشر دون بقية الأنماط الأخرى التي هي أيضا من خلق الله ، هذا باضافة إلى أنني أرى في الخطو السريع (التكنولوجي ) لهذه الحضارة في العقود الأخيرة نوعا من القهر الموئس للمجتمعات النامية ، وهو القهر الذي يمزق آمال التنمية والتطور والتحديث في تلك المجتمعات شر ممزق ، والذي يفرض عليها الخروج المستسلم من حلبه الكفاح في سبيل الغد الأفضل الذي هو ادنى المتطلبات الحضارية للانسان الواعى المعاصر ، غير أن الانصاف يقتضي أن نسلم تماما بأن الحضارة الغربية المعاصرة ، في كافة المجالات المادية والمعنوية ، قد نقلت العالم الأرضي كله خطوات كبيرة وخطيرة إلى الأمام ، وبخصوص  التسهيلات المادية ، من وسائل انتقال وأجهزة اتصال ومؤسسات خدمات ، فلست أحسب أحدا بقادر على إنكارها آثارها. أما في الجانب المعنوي ، ورغم تحفظات لا تزال قائمة في نفسي وفي نفوس آخرين ، فإن الانتاج الغربي في مجالات الفن والأدب والفلسفة والفكر بصفة عامة إنما هو كثير ، وبصورة واضحة ، كما أنه مفيد للبشرية كلها وبمستويات لا يجدى معها إنكار المنكرين. ولعله من المفيد ، في مواجهة المكابرين ، أن نذكرهم فقط بأن حقوق الانسان (السياسية والاجتماعية والاقتصادية والاعتقادية) في هذه المجتمعات الغربية ، تتقدم عشرات المرات عنها في مجتمعات هؤلاء الذين يتحاملون على الحضارة الغربية ، وهو الأمر الذي يؤكد أن الجانب المعنوي في هذه الحضارة المتهمة ليس على هذه الدرجة من التدني التى يجاهر بها كذب هؤلاء.

واستطرادا مع هذه التوهمات غير المتوازنة ، لثقافات الآخرين فإن التاريخ السياسي ، مثله مثل كافة الانجازات الفكرية ، يجري تصويره كما لو كان مؤامرة مستمرة ومتصلة ضد الاسلام. وهذه الرؤية التآمرية للتاريخ وللابداع الفكري (بل والعلمي) الغربي ، تتوهم تكوينات ديناصورية خرافية ثلاث تقوم بتنفيذ المؤامرة وتتولى كبرها ، وتؤجج نارها وتقتسم عوائدها وفوائدها ومكاسبها العدوانية. وهذه التكوينات الثلاث هي ما اصطلح البعض ، ممن يكتبون باسم الدين ، على تسميتها الصلبية ، والشيوعية ، واليهودية.

وهذه القوى الثلاث الشريرة ، هي في وهم هؤلاء تجسيد لظاهرة (( الكل في واحد )). فهي جميعها موحدة الهدف ، مكتلة الارادة ، مشرعة العزم ، من أجل حرب الاسلام وفي سبيل إبادة أهله ، وعلى طريق إزاحته كليا من خارطة التأثير الانساني. ومن بين هذه التكوينات الشريرة الثلاث فإن (( اليهودية)) لها الدور الأكبر في هذه الممارسات القبيحة المعادية للاسلام ، بل إن هذه اليهودية اللئيمة هي المحرك الرئيسي – بل والخالق الأول – لكل ما عداها من نزعات فكرية ، ومن بدع أيديولوجية ، ومن تخريجات ثقافية ، سواء كانت صليبية ، أو شرعية أو ليبرالية ، أو ماسونية ، أو كما هي في أحدث طبعات الادعاء يسارية!… وليس أدل على صدق الوهم لدى هؤلاء من كون فرويد رائد مدرسة التحليل النفسي ، مثله مثل ماركس ، مثلهما مثل دارون (غير أن دارون هو في الحقيقة مسيحي ولكن يبدو أن كثيرين أعمتهم الحساسية فهم لا يعرفون ) ، ومثلهم مثل كثرين من قادة الفكر والرأى والعلم المعاصر ، من اليهود الأقحاح ، أو من المتهودين الذين تحولوا عن دياناتهم الأصلية إمعانا في التمويه والخداع والمراءاة.

والذى غاب عن هؤلاء ، أن الصلبية ، مثلها مثل الشيوعية ، مثلهما مثل الصهيونية ( وهي المقابل العلمي لما يسمونه اليهودية) ، هي في حقيقة الأمر من المحاور الفكرية التي أفرزتها الحضارة الغربية. فوجودها في الكيان الثقافي الغربي وجود حقيقي ، كما أن التناقضات الجذرية بينها جميعا هي أيضا تناقضات حقيقة. غير أن التفسير الصحيح لهذ الوجود إنما هو أبعد ما يكون عن التمرضات التي يقدمها هؤلاء. فهذه الظواهر جميعها ، أفرزتها مجتمعات الغرب نتيجة الظروف الموضوعية التاريخية التى مرت بها ، ونتيجة الاشتراطات الحياتية التي عاشتها والتي لا تزال تعيشها.

فالصلبية إن وجدت إنما تكون تعبيرا عن الاتنماء العقيدي المسيحي ( أو الصلبي اذا رضى المغالطون ) الذي تلبس أوربا والعرب طوال عشرين قرنا من الزمان. ومن طبائع الأمور أن أصحاب هذا الانتماء عندما يتعاملون مع العقائد الأخرى فإنهم لابد منحازون لمعتقدهم ، متحاملون على معتقد الآخرين ، بل ومتصادمون معه في أحيان كثيرة. وأصحاب أي معتقد دينى ، عندما يقومونه ، فإن موقفهم منه يتميز بالتسليم المسبق ، المرتكز أساسا على الدليل النقلي. أما عندما يقوم هؤلاء معتقدات الآخرين فإن تعاملهم معها يكون نقديا ، كما انه يكون متحررا من التزامات الإقرار الإيمانى بصحة بعض أو حتى كل ما تتضمنه تلك المعتقدات ، ومن هنا يبدو فيما يكتبونه أو فيما يرددونه عنها شئ – قليل أو كثير – من التطاول والتهوين والتحرير  وغير ذلك من انماط الانتقاض المتبصر أو المتعصب. ولو أننا نظرنا بعيون الآخرين ، لبعض أو لكل ما تكتبه عن معتقداتهم الدينية ، لرأينا فيما نكتب مشابهات كثيرة لذلك الذي نره في كتاباتهم عن معتقداتنا الاسلامية. فاذا أضفنا إلى ذلك الزيغ الذي ينشأ أصلا عن الاختلاف في المعتقد ، إثر التراكمات التاريخية التي استوعبها الموروث الثقافي لأي طرفين متنافسين ، أو متحاورين ، أو متنازعين ، حسبما يكون مستوى الصراع بينهما ، فإننا قد نحسن فهم حقيقة الحساسيات التي تثور بين الغرب المسيحي وبين الشرق الاسلامى. فمنذ ذلك الصدام التاريخي الكبير نشأ بينهما ، والذي عرف بأسم الحروب الصليبية ، وهى تلك الحروب التي يجمع. المؤرخون الموضوعيون على أنها لم تكن دينية الجوهر وان كانت دينية الصبغة والمظهر.منذ ذلك الصدام ترسب في الموروث الثقافي لكل من الطرفين إحساس دفين بالعداوة ، ومشاعر ملتهبة من الشك ، ورغبات مرضية في الثأر. وقد بقيت هذه الأحاسيس والمشاعر والرغبات بقايا لم يستطع طول الزمان أن يزيلها ، وذلك رغم أن بابوية العصور الوسطى ، وملوك الاقطاع المتاجر في الدين ، قد أصبحوا جميعا من أشباح الذكرى التي تجتهد هذه المجتمعات ، بل وتجهد نفسها ، لطمسها نهائيا من ذاكرتها المعاصرة ، ولازالتها كليا من مدوناتها الفكرية والثقافية. ولأن أي مجتمع ، كما أوضحت من قبل ، لا يمكن أن ينسلخ تماما من موروثه الثقافي ، كما أنه لا يمكنه البته أن يبرأ منه ، فإن الحساسية المسيحية الغربية تجاه المعتقد الديني الاسلامي يمكن أن تكتسب حتى في أيامنا الراهنه – نكهة صليبية ، لا ترضينا كمسلمين ، بل وقد لا ترضى المحايدين والموضوعيين من أصحاب المعتقدات الأخرى ، الذين قد يكون بعضهم مسيحي المعتقد والولاء. ومن الأنماط الصارخة لهذه البقايا المتقيحة من التعصب ، ما يرونه بعضهم عن اللنبي قائد القوات البريطانية حين دخل فلسطين في نهايات الحرب العالمية الأولى إذ قال: (( اليوم انتهت الحروب الصليبية)). ومنها أيضا ما ينسب إلى قائد فرنسي وقف هو الآخر عندما دخل مدينة حمص السورية على قبر الناصر صلاح الدين قاهر الحقد الصلبي القديم ، وصرخ قائلا ، وفي تحدي مريض للبطل الكردي المدافع عن العروبة والاسلام: (( هاقد عدنا يا صلاح الدين!)).

وهذه الصيحات المتطرفة ، إنما تعبر عن بقايا من الموروث التاريخي والمعتقدي العدواني تجاه العرب وتجاه الاسلام. وهذه البقايا قد تصلح للكشف عن مشاهر الفرد الغربي المسيحي ، ولكنها لا تصلح لتفسير سلوك المجتمعات والدول. فالدول توجه سياساتها أمور وعوامل أكثر أتساعا من الدين ، وبعض هذه العوامل سياسي ، وبعضها الآخر اقتصادي ، وبعضها الثالث أيديولوجي ، وبعضها الرابع قومي وطني .. الخ وعلى سبيل المثال فإن الاستعمار الغربي لم يكن يقصد القضاء على الاسلام ، ولا حتى مصارعته بصورة مباشرة ، ولكن هذا الاستعمار الحديث ، وقد رأى في الاسلام ، مثلما رأى في العروبة ، عناصر تمايز ، ومدد قوة ، ومتاريس صمود وأسلحة كفاح ، فقد حاول جاهدا أن يحطم عناصر القوة هذه ، مثلما حطم نظام التعليم الوطني ، وهياكل الاقتصاد القومي ، والمؤسسات الوطنية العسكرية والمدنية التي قد تمثل خطرا عليه وعلى مطامعه. وقد حدث هذا في الجزائر التي رفع الزعيم بن باديس فيها شعار الثورة المتحدي للاستعمار الفرنسي ( شعب الجزائر مسلم… والى العروبة ينتمى) ، مثلما حدث في مصر ، ومثلما حدث في بقية المجتمعات الاسلامية التي خضعت للاستعمار. ثم إن هذا الاستعمار الغربي ما كان متغافلا عن أصحاب المعتقدات الدينية غير الاسلامية في الدول الكثيرة التي مد إليها سطوته وبسط عليها سيطرته. فالمسيحيون الشرقيون في العالم العربي ، وفي لبنان خاصة ، لم يكونوا أسعد حظا من المسلمين ، مثلهم مثل الهندوسي في الهند ،والمسيحيون في أثيوبيا ، والبوذيون والكونفشيوسيون في الصين وفي جنوبي شرق آسيا. بل وإن الهتلرية المسيحية ( وهي نمط من الكولونيالية الغربية) لم تتورع عن اجتياح وتهديم أوربا المسيحية ، دون اعتبار لرابطة الدين التي يفترض ، وفق منطق من يرون في حركة التاريخ نتيجة حتمية لصراعات الأديان ، أنها إن لم تكن توحد بين الشعوب الأوربية جميعا فإنها تقيم بينها أشكالا متعاطفة من العلاقات الأخوية. كما أن وحدة الديانه المسيحية هذه ، لم تمنع الدول الأوربية ، وعلى وجه التحديد بريطانيا وفرنسا وأسبانيا ، من استعمار المجتمعات الميسحية التى نشأت في الأمريكتين بعد اكتشاف العالم الجديد ، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية ، كما أنها لم تمنع هذه الشعوب والمجتمعات من خوض حروب للتحرير طويلة وعنيفة حتى أمكنها التخلص من استعمار الاخوة في الدين (والعنصر أيضا) من الأوربيين.

والاجرام الاقتصادي ، والخلل الاجتماعي ، والتعصب الديني ، والاستعلاء العنصري ، وانحرفات المؤسسات الدينية ، ومثيلاتها من صور الظلم التي عاشتها المجتمعات الغربية ، كانت وراء الانبعاثات الفكرية والحركية والتنظيمية التي استهدفت إقامة العدل ، وعملت من أجل الخلاص –  ولو حتى بالتطرف – للأقليات المضطهدة . وفي هذا الجو الملبد بالتعقيدات نما وتطور الفكر الاشتراكي ، ثم الفكر الشيوعي ، وكذلك تخلق الفكر الصهيوني الذي أنشا منظماته العدوانية ، تلك المنظمات التي هربت من ظلم الغرب لتقيم نصب ظلم جديدة لأهل الشرق من الفلسطينيين والعرب. هذه الأنماط الفكرية والتنظيمية تكونت في رحم المجتمع الغربي ، في إطار نزعة إنسانية للخلاص من ظلم ذلك المجتمع ، ولم تنشا أصلا بقصد العداء للاسلام ، ولا بنية شن الحروب المقدمة ضده.

وحتى لو كانت هذه الحركات ، نتيجة انتشارها ونموها الطبيعيين ، قد مارست صراعا مع بعض المجتمعات المنتسبة إلى الاسلام ، فانه يجب فهم هذا الصراع في أطره الفكرية الشاملة ، وفي أغلفته المادية الموضوعية السليمة. وقد نخوض ، بل ويجب في بعض الأحيان أن نخوض ضد بعض هذه الأفكار والحركات صراع حياة أو موت ، وقد نعاديها عداء مسرفا ، مثلما نفعل في عالمنا العربي مع الحركة الصهيونية بجناحيها الأيديولوجي والتنظيمي ، ولكن يحسن أن نفهم الدوافع الحقيقية لهذا الصراع ، وأن نتيقن الطبيعة الجوهرية له ، وأن نتقن أساليب النضال فيه ، وكلها أمور لا يمكن أن تتحقق لو ضيقنا نظرتنا الى ذلك الصراع فأحلناه إلى خلاف حول أمور الاعتقاد الديني ، وتلهينا بحساسياتنا الوجدانية عن الجوانب الحضارية ، والأقتصادية ، والإقليمية ، والوطنية والإنسانية فيه ، وتورطنا في سوء الفهم ، ينشأ عادة عن الرؤية السريعة والمتشنجة لبعض العناصر الدينية التى يوظفها العدو صبغة مظهرية للمجتمع الاسرائيلي الذي يقيمه على أرضنا المغتصبة في فلسطين ، في حين أنه يقيم في مواجهتنا مجتمعا علمانيا معاصرا ، لا يقبل  من موروثه الديني إلا يعضد نزعته الصهيونية ، ويستقطب الجماهير اليهودية في العالم كله لتنتمي تعصبا إلى دولة إسرائيل!.

والشيوعية ، بفلسفاتها الماركسية ، وبتجسيداتها التنظيمية دولا واحزابا ، بدأت (ولا تزال ) متناقصة مع الهنوت المسيحي ، ورافضة للارهاب البابوي وللسلطة الدينية المكرسة للتخلف. وهذه الشيوعية انتهى بها الأمر أيضا إلى معاداة للصهيونية شديدة ، لأسباب أيديولوجية ، ولأسباب تتعلق بالخبرة السياسية والتاريخية بالصراع العربي الاسرائيلي . وذلك يعني أن التضاد بين هاتيك المكونات الثلاث في الحضارة الغربية ، أي الصلبية ( المسيحية ) والشيوعية والصهيونية ، واضح وصريح ولا يحتمل اللبس. بل وإن التجربة الحياتية تثبت أن الاطار العام للثقافة الغربية قد بدأ ينقسم مع دخول القرن العشرين الى إطارين فرعيين متمايزين ، أولهما: إطار أوربا الغربية ومعها الولايات المتحدة الأمريكية ، وألحقت بهما اليابان مؤخرا ، وثانيهما: إطار أوربا الشرقية والاتحاد السوفيتي. ومن هنا فإنه يمكننا أن تخلص إلى أنه ، باستثناء الصهيونية التي نرى في العداء لها واجبا وطنيا وقوميا ودينيا وإنسانيا على كل مواطن عربي (مسلم أو مسيحي أو حتى يهودي) ، يمكن لأى فرد كان أن يعادي الشيوعية أو الصلبية ، ولكن بشرط أن لا يخلط بينهما ، وبشرط أن لا يجمع بينهما وهما النقيضان اللذان لا يجتمعان ، وأن لا يزعم أنهما موحدا الأهداف والوسائل ضد العروبة والاسلام!.

وهذه الموقف غير المتوازن من ثقافات الآخرين وأفكارهم ليس مقصورا فقط على المجتمعات الأخرى المخالفة لنا ، ولكنه قد يمتد أيضا الى أجزاء من تاريخنا ، ونماذج من حضاراتنا ، فيسقطها ويتجالها. فالفرعونية في مصر ، والفينيقية في فلسطين ولبنان ، والسومرية في العراق ، والسبئية في اليمن ، إن لم تكن موضح تحامل من البعض فإنها قد تبدو في كتابات البعض الآخر من العورات التي يحسن سترها ويحسن السكوت عنها ، وهذا البتر التعسفي لفترات طويلة كاملة من تاريخنا ، إنما يعبر عن مكابرة جاهلة إزاء قانون الاستمرارية الثقافية في المجتمعات الانسانية. ولعله من قبيل التنبيه فقط أن نذكر هؤلاء بأن الكثير من أشكال السلوك الاجتماعي المعاصر ، وبعضها ديني الصبغة ، لا يمكن فهمها أو تطويرها أو حتى معالجتها ، دون الرجوع إلى ، ودون الالمام بالموروث الثقافي المنتقل عبر التاريخ من المجتمعات القديمة إلى المجتمع الجديد. ومن الأمثلة الصارخة في هذا السبيل تلك الشعائر الجنائزية التى يتبعها المسلمون في مصر ، مثل تقبل العزاء لمدة ثلاثة أيام ، وإقامة ذكرى الأربعين ، والقراءة وتوزيع القرابين على قبور الموتى وعلى أروحهم .. الخ ، وكلها أمور موروثه عن مصر الفرعونية ، صبغت بصبغة الاسلام في مصر الاسلامية ، ولكنها لا تزال من أنماط السلوك الاجتماعي السائدة في مصر المعاصرة!.

3- نحو موقف مستنير من أفكار الآخرين

وإذا كانت هذه هي السمات وملامح الموقف غير السليم للبعض منا تجاه أفكار وثقافات الآخرين ، فكيف يكون الموقف السليم؟.

ذلك الموقف السليم ، لابد وأن يتصف بالاستنارة ، وأن يتميز بها.

والاستنارة التي أعنيها ، لها دعامتان ، الأولى علمية والثانية عملية.

والدعامة العلمية تتجسد في فهم موضوعي للظاهرة الثقافية.

وكما أوضحت من قبل ، فإن ثقافات الشعوب والأمم ، إنما هي جماع الانجازات المادية والمعنوية التي تحققها هذه المجتمعات. والمركب الثقافي لأية أمة إنما هو العمود الفقرى الذي تبني عليه وحوله حضارة هذه الأمة وهذا المركب الثقافي له أبعاد ثلاثه ، متمثله في القيم والأفكار ، ثم في المؤسسات القائمة على أساس منها ومن أجلها أيضا ، ثم الانجازات المادية (العلمية والاقتصادية والاجتماعية والصناعية… الخ) التى يتوفر على إحدائها جهد أى مجتمع. وهذه الأركان الثلاثة للبناء الثقافي أنما تتأثر بالخبرات المكتسبة (معنوية أو مادية) لهذه الأمة أو لذلك الشعب. وهذه الخبرات قد تتكون لدى الناس من تفهمهم لموروثهم الثقافي ، الفكري والديني والمادي أيضا ، ثم محاولتهم ترشيد أو تطوير أو إعادة توظيف هذا الموروث بما يلائم روح العصر. كما أنها قد تتكون لديهم من التجارب التي خاضتها الأمم والشعوب في صراعها مع العوامل الطبيعية ومع العوامل البشرية الخارجية (كالاستعمار والتعامل مع الأمم والشعوب الأخرى ) أو الداخلية ( خلافات وتعاملات الفرق والأحزاب والطبقات والفئات الاجتماعية المختلفة). ثم إن هذه الخبرات قد تتراكم نتيجة للمعارف العلمية المكتسبة عن طريق التنمية الذهنية للشعب أو عن طريق الاتصال الثقافي أو التماس الحضاري. أي أنه يمكن القول بأنه الاختلاف بين ثقافة شعب وآخر ، أو أمة وأخرى ، إنما ينشأ عن طبيعة العناصر المكونة للثقافة من دين أو خبرة أو معرفة علمية أو ظروف حياتية ، كما أن النكهة الأخيرة لهذه الثقافة تتوقف على نسب دخول كل هذه العناصر في تكوين المركب الثقافي الشامل للشعب أو للأمة. ومن هنا ، فإنه يمكننا أن نؤكد أن المجتمع أو الشعب إنما يصنع ثقافته بقصد التكيف مع ظروفه الحيايتة ، ومع شروط حياته الموضوعية. كما يمكننا أن نقطع بأن الفعل الثقافي لأي مجتمع إنما هو صورة من صور المواجهة التي يمارسها هذا المجتمع لمشكلاته اليومية ، كما أنه نمط من انماط الصيانه لحياته المستقبلة بما يحقق مصلحته القومية ، واستمراه القيمي ، وتطوره الحضاري. أى أن أي مجتمع ، وأية امة ، إنما يصنع كل منهما ثقافته بقصد نفع نفسه ، وليس بقصد الاضرار بالآخرين ، بمعنى أن الثقافة السليمة الراشدة إنما هي في الأساس فعل يقصد تحقيق مصلحة حياتية وحضارية للمجتمع ، وليست رد فعل عدواني عينه على الخارج ، يأخذ منه عقدا ويقذف إليه عداوة ، ويعامله بالمهاترة. والثقافة الحقيقة ، القابلة للاستمرار ، والقادرة على الفعل لأجيال طويلة ، إنما هي تلك الثقافة التي تستجيب للمتطلبات الحقيقية ، غير الزائفة ، للمجتمع.

أما الثقافة المتعصبة الفجة المتربصة بالآخرين ، عن إحساس بالدنو أو توهم كاذب بالعلو ، فقد تكون بسبب عصبيتها وانفعاليتها عالية الصوت في عصرها ، ولكنها بعد هذا العصر ، بل وقبل انقضائه ، لابد وأن تخمد وتموت. وعلى سبيل المثال ، فإن الموروث الثقافي الديني من حضاراتنا الاسلامية الذي بقي حيا حتي يومنا هذا ، إنما هو ذلك التراث الايجابي الذي التزم الجدية في فهم الدين ، وتمنهج بالموضوعية في درسه لأمور الشريعة ، وصرف جهده لاستنباط الايجابيات والاسلامية ، بدلا من تعقب مثالب الآخرين ، مسلمين وغير مسلمين. ومثل هذا يقال بشأن الثقافات المعاصرة ، فالأنواع منها التي تهتم بذاتها ، تعمقا وتطورا وترشيدا وتقويما ، إنما هي الأقدار على الفعل ، والأشد في التأثير على المجتمعات المعاصرة. وإنني لأحسب أن هذه الصفات تنطبق بدرجة كبيرة على ثقافات المجتمعات الغربية ، بينما نقيضها يتلبس الكثير من اجتهاداتنا الثقافية ، التي لم يعد لها من هم غير لعن أفكار وقيم ومعتقدات الآخرين!.

وإذا كانت هذه هي طبيعة الظاهرة الثقافية ، فإن أية محاولة منا لتقويم أفكار الآخرين ، يجب أن تأخذ في الاعتبار طبيعة العناصر المكونة لهذه الثقافة ، كما يجب عليها أن تقيم الوزن المناسب لانعكاسات هذه المكونات على سلوك وتصرفات الناس المنتسبين لهذه الثقافة. وإذا كنا نحن العرب المسلمين ، لا نقدر أن نخلص من تأثير موروثاتنا القومية. ولا من واقعنا التاريخي ، ولا من الظلال الناشئة عن إنجازاتنا الحياتية المادية ، فإننا يجب أن نسلم بأن الآخرين هم أيضا ليس بمقدورهم أن ينجنبوا تأثير هذه العوامل على تكويناتهم النفسية والثقافية. وهذا التسليم من جانبنا ، بهذه الحقيقة الموضوعية ، ليس يعني قبولنا بكل أفكار الآخرين ، كما أنه لا يعني سكوتنا الضعيف على ما قد تتضمنه هذه الأفكار من قصور أو انحراف ، ولكنه بالدرجة الأولى يتطلب منا ان يكون موقفنا النقدي من هذه الأفكار الموضوعيا. والموضوعية هنا تعنى تعاملنا مع جوهر هذه الأفكار ، وفقا لمناهج العلم ، مع الالتزام بآداب الحوار ، لفحصها وتقويمها واستكشاف الايجابي من مكوناتها للاستفادة منه ، والتعرف علي السلبي منها للتجاوز عنه.

ومن واقع خبرتنا التاريخية ، الاسلامية والعربية ، فإننا يمكن أن نتعلم أن هذا النوع من التعامل الايجابي مع افكار وثقافات الآخرين ، يمكن أن يؤدي إلى طفرات ثقافية طيبة ، نحن المستفيدون منها بغير شك. ففي العصر العباسي الأول ( وفي عصر المأمون على وجه التحديد) عندما ازدهرت حركة الترجمة ، ونشط تعامل المسلمين مع الثقافات القديمة من يونانية وسريانية وهندية وغيرها ، وعندما كان الموقف الغربي الاسلامي من هذا المدد الثقافي الجديد متوازنا ومتبصرا ، طفرت حركة التأليف تمتينا للعقيدة الاسلامية فظهر علم الكلام ، ونمت مدارس التفكير الوطنية فظهرت الفلسفة الاسلامية ، وأتيحت المعارف العلمية في الحساب والهندسة والكيمياء والطبيعة وغيرها للكثيرين من المسلمين فكان منهم علماء أفذاذ في كل هذه المجالات ، قامت على أكتافهم الحضارة الاسلامية لفترة طويلة ، ثم لحقت بأعمالهم أوربا العصور الوسطى ، فخرجت بفضلهم من ظلمه الجهل  إلى نور المعرفة العلمية التي لا تزال متصلة في كافة إنجازات الحضارات المعاصرة. وفي العصر الحديث أيضا تكررت هذه التجربة ، وكان الفضل فيها لطموح محمد على الحاكم الجريء الذي تولى زمام الحكم في مصر في مطلع القرن التاسع عشر. ورغم تحفظات كثيرة قد يراها البعض على نظام حكم محمد علي ، إلا أن أحدا لا ينكر أن حركات الترجمة ، وإيفاد البعثات ، بكل ما صاحبها من احتكاكات حضارية بالعالم المتقدم وقتثذ ، كانت المنافذ إلى القبسات المستنيرة التي وردت إلى المجتمع المصري ، وكان في مقدمتها أعمال الطهطاوي (الشيخ رفاعة رافع ) وعلى مبارك وغيرهما من قادة الرأي والفكر في مصر المعاصرة. والذي كان يميز الاجتهادات الثقافية في هذه المرحلة ، وفيما لحق بها من فترات ، انها كانت في أغلبها صحابة نظرة إيجابية  إلى ثقافات الآخرين ، كما أنها كانت أيضا صاحبة نظرة قويمة لثقافتنا القومية ، مما مكن أعلام الفكر في هذه المراحل من التقدم بمحاور جديدة سليمة تطورت على أساسها هذه الثقافة القومية. ومثل هذه المواقف الثقافية الايجابية هي التي وضعت بين أيدينا كتابات وإنجازات عظيمة لرواد عظام مثل عبد الرحمن الكواكبي ، وجمال الدين الافغاني ، والشيخ محمد عبده.

والادراك العملي لمقتضيات التعامل مع أفكار وثقافات الآخرين لا يكتمل مالم نقبل بظاهرة التأثير المتبادل بين الأفكار والثقافات وهذه الاحتكاكات الثقافية ( أو الحضارية ) عملية مستمرة منذ بدء التاريخ الانساني ، ولكنها في عصرنا الحاضر أكثر قوة وأشد وضوحا بسبب ثورة الاتصالات التي حولت العالم كله إلى ما يشبه قرية كبيرة بمقاييس العصور القديمة. وهذا الواقع الاتصالي المعاصر يرتب نتيجة حتمية ، وهى تبادل التأثير الثقافي بين المجتمعات المعاصرة ، سواء رضى الناس في تلك المجتمعات بهذا التأثير أو رغبوا عنه. وإذا كان الاحتكاك الثقافي ، بحكم طبيعة العصر ، حتميا ، فإن قدرة أي ثقافة على الصمود إنما تتوقف على بصرها في التعامل مع الثقافات الأخرى ، وهذا بدوره يستلزم أن تكون هذه الثقافة فائقة الحيوية. وهذه الحيوية ترتبط بتوفير شرطين أساسيين ، أولهما أن تكون هذه الثقافة منتجة فكريا وماديا ، وثانيهما ان تكون قادرة على استنباط الايجابي في الثقافات الأخرى ، فإن رأته مناسبا للمجتمع الذي تعمل فيه ، فإنها قد تتبناه وتعيد توظيفه ، لتدعيم مواقفها الفكرية ، وتقوية فعالياتها  الاجتماعية ، وتطوير تأثيراتها الحضارية. وهكذا ، فإنه كلما كانت إحدى الثقافات أشد حيوية ، كلما كان تعامل أصحابها مع ثقافات الآخرين أكثر دلالة علي الثقة في النفس ، وأعظم تعبيرا عن النضج الحضاري. وفي إطار هذا النضج المتحضر ، وتلك الفعالية الواثقة ، فإن إفكار الخائفين حول الغزو الفكري ، والاستيراد الثقافي ، لا تقوم لها قائمة. فأي تبادل ثقافي في عصرنا الراهن إنما هو من الأمور الطبيعية ، كما أن تعرض أي مجتمع معاصر لتيارات ثقافية غريبة أصبح في حكم الظواهر الكونية المتوفرة شرط حدوثها باستمرار.

والفصيل بين التفاعل الثقافي وبين الغزو الثقافي إنما هو في وجود إرادة الاختيار الثقافي من عدم وجودها. فإذا توفرت إرادة الاختبار الثقافي هذه لدي مثقفي أي مجتمع فإنهم يصبحون قادرين على التعامل ، بل والتفاعل ، مع كل الثقافات. وفي مجتمعاتنا العربية والإسلامية المعاصرة ، فإن إرادة الاختبار الثقافي متوفرة والحمد لله ، وذلك هو النتيجة الطبيعية لاستقلال الارادة الوطنية ( السياسية والاقتصادية ) ، وقيام الولاية العامة علي شئون هذه المجتمعات لأبنائها العرب والمسلمين. إن السيادة الوطنية اذ تتكرس لأبناء شعب بعينه ، يحكمون أنفسهم بأنفسهم ، يمكن أن تخلق موقفا متوازنا من الثقافات الأخرى النشطة التي قد ترد من المجتمعات الغربية. ففي إطار هذه السيادة يصبح الأخذ والرفض من هذه الثقافات الوافدة حق المجتمع الوطني المطلق ، كما تصبح ارادة البت في شئون الثقافة من خصوصيات هذا المجتمع التي لا يمكن منازعته فيها. وإذا كانت هذه هي الحال ، في أغلب المجتمعات المعاصرة ، ومن بينها مجتمعاتنا العربية والاسلامية ، فانه يبدو على قدر كبير من الغرابة ، كل ذلك الصراخ والعويل والتباكي الذي يطلقة البعض بخصوص الغزو الفكري والتبعية الفكرية ، وكلها أفكار لعلها كانت تبدو صحيحة تماما في الأوقات التي كان الاستعمار الغربي فيها صاحب الولاية المطلقة على شئون المستعمرات ، مما كان يمكنه من تمرير كل تصوراته الفكرية والثقافية الى هذه المستعمرات بل وفرضها على شعوبها ، دونما اعتبار لصلاحية أو عدم صلاحية هذه التصورات للمجتمعات التيك انت تفرض تعسفا عليها. صحيح أن أغلب شعوب المستعمرات لا تزال تعاني من آثار ذلك القهر الثقافي الذي تعرضت له في الحقب الاستعمارية ، وصحيح أيضا أن بعض أبناء هذه المستعمرات قد تم استقطابهم في بؤر التبعية الثقافية للاستعمارين القديم والجديد ، وصحيح أيضا أن الامكانات الاعلامية والثقافية للدول الاستعمارية (والامبربالية) كبيرة للغاية بما يؤثر سلبيا على أغلب الدول النامية ويؤخر من استقلالها الثقافي. ولكن هذا جمعيه لا يبرر ذلك الموقف السلبي الذي يتبناه البعض اذ يدعو الى مخاصمة كل الثقافات المعاصرة ، ويحرض على الاستهانه بها ، ويضلل بني وطنه فيصرفهم عن التعرف العلمي والموضوعي على هذه الثقافات الحيه.

ذلك لأن في مثل هذا المنهج خروج من العصر لعله والموت الحضاري سواء بينما المطلوب والأصلح هو ان نعيش عصرنا ، وأن نكون فاعلين فيه ، وان تكون متفهمين له ، وكلها أمور لا تتحقق بغير التعامل مع الآخرين في كافة مجالات النشاط الانساني ، ثقافية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية.

وحتى يدرك المكابرون الأخذ الارادي الثقافي عن الآخرين ، فانني أحيلهم إلى الكتابات التى صدرت في بدايات القرن التاسع عشر تتحدث عن الحرية في الاسلام وتكشف أفاقا جديدة لهذه الحرية فيه ، كما أحيلهم إلى الكتابات التي ظهرت مع نهايات نفس القرن وبدايات القرن العشرين تتحدث عن العدالة الاجتماعية في الاسلام وعن حقوق العاملين والكادحين فيه ، ثم أطلب منهم أن يربطو بين هذه التوجهات في الكتابة الاسلامية وبين سيادة الأفكار الليبرالية (المستوردة ) في الفترة الأولى ، وبينها وبين سطيرة الأفكار الاشتراكية (المستوردة أيضا ) في الفترة الثانية. وإنني لأحسبهم سوف يدركون ولو لم يعترفوا بذلك صراحة – أن هذه التوجهات المعاصرة ، والتى جعلت للاسلام قبولا عصريا لدى الأجيال المعاصرة من الشباب المسلم ، إنما جاءت ثمرة الاحتكاك المتبصر ، الذي مارسه مفكرون شجعان ، من أبناء العروبة والاسلام. حتى لا تختلط الأمور على أصحاب النوايا الحسنة ، وأيضا حتى لا يتصيد في الماء العكر البعض من أصحاب النوايا السيئة ، فاننى أوضح أن مواءمة الاسلام للأفكار السائدة في المرحلتين كلتيهما لا تعني أنه كان رأسماليا (ليبراليا) في النوعية الأولى من الكتابات ، بينما هو يصبح اشتراكيا في النوعية الأخرى  ، ولكن المعنى يستقيم اذا سلمنا بأن مشكلات المجتمعات الانسانية تتنوع أشكالها ومظاهرها بين مرحلة تاريخية ومرحلة أخرى ،وحيث أنه في كل مرحلة تكون إحدى المشكلات الانسانية أكثر حدة ( مثلما كانت مشكلة الحرية في مرحلة الليبرالية ، ومشكلة العدل الاجتماعي في مرحلة الاشتراكية) ، وحيث أن جوهر الدين أن يكون مع العدل ومع كرامة الانسان ، لذلك فان أصحاب الرؤى والمنطلقات الدينية المستنيرة إذ يعبدون فهم جوهر الدين في إطار المواصفات الحياتية المستجدة ، إنما يجدون في المعطيات الدينية الكلية الأصلية سندا حقيقيا لكل جهودهم الخالصة لوجه الله والتي تكرس في سبيل إعلاء الكرامة الانسانية وفي سبيل إقامة العدل الذى يراه البشر المؤمنون محققا لارادة الله جل وعلا في إحقاق الحق في الدنيا والآخرة.

وحتى لا تختلط منا الخطى فنتخبط ونحن نتعامل ثقافيا مع الآخرين ، فانني أتصور أن عملية تبادل الأخذ والعطاء بيننا وبينهم يمكن أن تحكمها مجموعة الضوابط التالية. أما الضابط الأول فهو أن تكون الأولوية في الأخذ عن الآخرين لمناهج البحث في مجالات المعرفة المختلفة وليس للنتائج التي توصل اليها هؤلاء ، ذلك لأن هذه النتائج هي بغير شك بنت الظروف الزمانية والمكانية التي طبقت فيها تلك المناهج ، وهى لا بد مختلفة بشكل أو بآخر عن ظروف الزمان والمكان التي نعمل نحن من خلالها. ثم إن ما نأخذه من أفكار الآخرين يجب أن يتطابق مع مقتضيات العقل من جهة ، وأن يتفق مع مقتضيات العلم المعاصر من جهة ثانية. أما ثالث الضوابط وأهمها فيتمثل في ضرورة انتقاء ما هو (عام وإنساني) في تجارب الآخرين الثقافية ، ورفض كل ما هو ذاتى يخصهم هم دون غيرهم ، لكونه مرتبطا ارتباطا نفسانيا بتجاربهم الذاتية.

ومن قيبل الارتباطات الذاتية ذلك الموقف المعادي للدين الذي يبدو في أغلب الانتاج الثقافي الغربي ، والذي نشأ أساسا عن ذلك الصراع الرهيب الذي دار بين الكنيسة الغربية وبين كافة أشكال التحديث التي عرفتها هاتيك المجتمعات ، سواء في مجالات العلم أو الفلسفة أو الاقتصاد أو الاجتماع.

تبقي ملاحظة أخيرة بشأن تعاملنا مع أفكار الآخرين حين ينشب صراع عدائي بيننا وبينهم. ومثل هذا الصراع العدائي قد ينشأ عن دوافع قومية ، أو عن أسباب اقتصادية ، او حتى عن تناقضات أيديولوجية. ومن المؤكد أنه في إطار هذا الصراع فان التوظيف العدائي للأفكار والثقافات لاقتحام مواقع الخصم ، وهدم متاريس الصمود النفسي والمادي لدية ، تصبح كلها من الأساليب المطروحة للاستخدام. بل انه من الممكن القول ، أنه حتى دون قيام أنماط عدائية من الصراع ، فانه قد تحدث نتيجة احتكاك الأفكار والحضارات أشكال من الصدام الثقافي يحاول فيها كل من الأطراف المتلاحية أن يثبت وجوده في مواجهة الطرف الآخر ، وأن يفرض إرادته الثقافية عليه. وبالطبع فانه في مثل هذه الظروف الصدامية ، سواء كانت صريحة العداوة أو مغلفة ، فان الاستنارة في التعامل مع الخصوم ، بشقيها العلمي المتمثل في الفهم الموضوعي للظاهرة الثقافية والعملي المتمثل في إدراك مقتضيات التعامل مع الآخرين ، ولابد من دعمها بالحرص على التمايز الثقافي (القومي أو الوطني أو الديني) ، وتقويتها باليقظة تجاه فكر العدو وثقافته ، وتسليحها بالقدرة العلمية على ردع الفكر المنحرف ( والموجه إعلامياعادة) ودحض دعواء الكاذبة ، وتنشيطها معرفيا وعلميا وحضاريا حتى تصبح قادرة على الانتقال من مواقع الدفاع إلى مواقع الهجوم الفكري إذا استوجبت ظروف الصراع أن تحدث هذه النقلة. وإن من أنماط الصراع التي يخوضها عالمنا العربي الاسلامي ، وتستوجب أن يتصف تعاملنا مع الآخرين بصفات اليقظة والصلابة والتشدد واتخاذ مواقع الهجوم ، ذلك الصراع المقدس ضد الصهيونية العالمية وضد دولة اسرائيل وضد القوى الامبربالية  المساندة لهما ، خاصة بعد ان استطاعت هذه القوى المعادية أن تجد لها بعض المنافذ الشرعية(!!) الى مواقع متسعة ( أرضا وعقولا) من عالمنا العربي المسلم بعد توقيع معاهدة الصلح المصرية – الاسرائيلية – الامريكية في مارس 1979م.

4- القرآن وأفكار الآخرين

فيما سبق ، قدمنا الظوابط العلمية والعملية التي نتصور أن يقوم تعاملنا مع أفكار وثقافات الآخرين على أساس منها. والسؤال المطروح الآن ، ما دمنا نتحرك في إطارة الدائرة الدينية ، هو: هل ثمة ضوابط شرعية ، تؤيد وتؤكد ما ذهبنا اليه ، وتعضد بالنقل ما تصورناه واجبا بالفعل؟

نعم… إن الدعم الشرعي لكل ما ذهبنا اليه موجود ، وفي صلب القرآن الكريم ، الذي تركه فينا الرسول العظيم محمد بن عبد الله صلي الله عليه وسلم وقال: (( إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا)). ولكن قبل عرض دليلنا القرآني ، يحسن أن نقف وقفة متأنية مع المستنبطات المتسرعة والخاطئة من القرآن لبعض المسلمين ، فيما يتعلق بالتعامل الحياتي والفكري مع المخالفين لنا دينا.

هذا البعض منا ، يتصور القرآن ويصوره للآخرين حشدا عدائيا من النصوص ، يجمع قلوب المسلمين وعقولهم على الصدود العدواني تجاه المخالفين لهم في الدين ، ويرى في كل تعامل بين أي من المسلمين وبين هؤلاء موادة لمن حاد الله ورسوله ، وموالاة لأعداء الاسلام ، واتخاذ بطانة من المفسدين لا تريد للمسلمين ولا للاسلام غير العنت وشدة الضر. وفي إطار فهم إرهابي لكثير من النصوص القرآنية فان هذا البعض منا قد وصل بامكانية الأخذ عن غير المسلمين أو العطاء لهم( ماديا كان أو معنويا) إلى حواف الخروج من اللمة الحنفية السمحاء ، وهو ما يوقع المسلم المعاصر في حرج شديد ، خاصة وان التعامل مع غير المسلمين ( كاتابيين كانوا أو كفارا) أصبح من الضرورات  الحتمية ، داخل المجتمع الواحد ، كذلك بين المجتمعات المختلفة. ونبدأ أولا بتسجيل بعض النصوص القرآنية التي يسيء هؤلاء توظيفها ومنها:

(( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذو بطانة من دونكم لا يألونكم  خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون))(آل عمران – 118).

((  ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم وما هم منكم ولا منهم ، ويحلفون على الكذب وهم يعلمون)) ( المجادلة – 14)

(( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله واو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم … )) (المجادلة – 22).

(( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذو اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم فانه منهم ان الله لا يهدي القوم الظالمين…)) (المائدة – 51)

(( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذو عدوى وعدوكم أولياء تلقون اليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم …)) (الممتحنة -1)

وابتداء نؤكد أن التعامل مع غير المسلمين ، وفقا للمقتضيات الحياتية أو الانسانية ، هو شيء غير الموالاة للعدو ضد بني الوطن أو ضد شركاء الدين ، كما أن الموقف الموضوعي غير العدواني غير المتجامل تجاه ثقافات الآخرين وأفكارهم ، إنما هو شيء مختلف تماما عن التواطؤ مع هؤلاء ضد الذات أو ضد الاهل أو ضد المعتقد الشخصي ، هذا إضافة إلى أن الموالاة ، في أغلب المواطن القرآنية التي عرضت لمصطلحها إنما هي النصرة. والنصرة إنما تكون في ظروف شقاق حاد ، أو حرب صريحة ونحن لا نظن قراءة أفكار الآخرين أو تفحصها ، حتى لو كانت لا ترضينا ، فيها شيء من طبيعة الحرب أو لدد الشقاق ، كما لا نظن أن القبول ببعض هذه الافكار إن كانت سلمية أو حكمية ، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى بها ، فيه انتصار لغير المسلمين على المسلمين! أما عن تقويم الفهم الخاطئ لهذا البعض منا للآيات القرآنية السالفة الذكر ، وغيرها من الآيات التي تصرح أو تشير إلى المنح من موادة المؤمنين لغير المؤمنين ، فانني أخلى الساحة للعالم المجتهد الامام محمد عبده الذي يقول في هذا الشأن :

((…على أنه لا شبهة لهؤلاء الجهلة في مثل هذه الآيات تسوغ لهم تفسيق إخوانهم أو تكفيرهم بعدما جاء في الآية المحكمة من قوله تعالي: (( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون – الممتحنة / 9)) ، وبعض ما جاء من القصص الذي قصه الله علينا لتكون لنا فيه أسوة إذ قال: (( وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا – لقمان /15)) ، وبعد ما أباح الله لنا في آخر ما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم نكاح الكتابيات ، ولا يكون نكاح في قوم حتى تكون فيهم قرابة المصاهرة ، ولا تكون تلك القرابة حتى تكون المودة.

وحقيقة ما جاء في الآيات الدالة على النهي عن موالاة غير المؤمنين أو موادة الفاسقين والمحادين الله تعالى ، أنه نهي عن الموالاة في الدين ، ونصرة غير المؤمن على المؤمن فيما هو من دينه ، وإمداد الفاسق بالمعونة على فسقه ، وعن اتخاذ بطانة من غير المؤمنين يكون من صفتها أنها تبذل وسعها في خذلانهم وإيصال الضرر اليهم ، فيكون إدلاء المؤمنين اليها بأسرارهم ، واتخاذها عضدا لهم في أعمالهم ، إعانة لها على الايقاع بهم ، أما اذا أمن الضرر ، وغلب الظن بالنفعة ، ولم يكن في الموادة معونة على تعدي حدود الله ومخالفة شرعه فلا خطر في الاستعانه بمن لم يكن من المسلمين ، أو لم يكن من الموفقين الصالحين ممن يسمونهم أهل الأهواء ، فإن طالب الخير يباح له ، بل ينبغي له أن يتوسل إليه بأية وسيلة توصل اليه ، ما لم يخالطها حذر للدين وللدنيا)) (24).

ونفس هذا النهج المستنير في التعامل مع الآخرين في الدين ، يراه عالم جليل آخر ، وهو الامام الأكبر الشيخ محمود شلتوت الذي يرى أن المسلم هو العلاقة الأصلية بين الناس في الاسلام ويقول: (( وبذلك كان السلم هو الحالة الأصلية التي تهيء للتعاون والتعارف وإشاعة الخير بين الناس عامة ، وهو بهذا الأصل لا يطلب من غير المسلمين إلا أن يكفوا شرهم عن دعوته وأهله ، وألا يثيروا عليه الفتن والمشاكل ، ويأبي الإباء كله أن يتخذ الإكراه طريقا للدعوة إليه ونشر تعاليمه ، (( أفانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين – يونس /99)… واذا احتفظ غير المسلمين بحالة السلم فهم والمسلمون في نظر الاسلام إخوان في الانسانية ، يتعاونون على خيرها العام ، ولكل دينه يدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة ، دون إضرار بأحد ولا انتقاض لحق أحد .. والاسلام لا يخرج عن هذا الوضع الطبيعي الا اذا امتدت اليه يد العدوان ووضعت أمامه العراقيل وأخذت في فتنة الناس عنه بالايذاء والتنكيل ، وهنا فقط يؤذن لأهله أن يردوا العدوان إقرارا للسلم وإقامة للقسط ، وهو بذلك يحرم عليهم حرب الاعتداء والعسف واستنزاف الموارد والتضييق على عباد الله ، وفي ذلك يقول: (( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله – الحج/ 39 ،40)). ويقول: (( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ))(25).

وفي موضع آخر من كتابه (( الاسلام عقيدة وشريعة)) يقول فضيلته بخصوص موقف الاسلام بالنسبة لغير المسلمين: (( والاسلام لا يرى أن مجرد المخالفة في الدين تبيح العداوة والبغضاء ، وتمنع المسالة والتعاون علي شئون الحياة العامة فضلا عن أن تبيح القتال لأجل تلك المخالفة ، والقرآن يقول: (( قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أتنم عابدون ما أعبد ، ولا أنا عابد ما عبدتم ، ولا انتم عابدون ما أعبد ، لكم دينكم ولي دين – سورة الكافرون)). ويقول: (( فلذلك فادع ، واستقم كما أمرت. ولا تتبع أهواءهم ، وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب ، وأمرت لأعدل بينكم ، الله ربنا وربكم ، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ، ولا حجة بيننا وبينكم ، الله يجمع بيننا ، واليه المصير – الشورى/15)). ويقول ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ، إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين ، وأخرجوكم من دياركم ، وظاهروا على اخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون – المتحنة/ 8 ، 9)

ويستطرد فضيلة الامام الأكبر الشيخ محمود شلتوت ويضيف: (( وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا – لقمان/14)).

وحتى لا يتصور البعض أن المعاملة بالمعروف تترتب للوالدين بحكم الوضع الخاص لهما تجاه الأبناء ، فقد ضرب فضيلته مثلا آخر بشأن المعاملة (بل والمعاونة) بالحسنى بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين عمه أبى طالب فقال: (( ولقد استمر أبو طالب عم النبي صلي الله عليه وسلم على شركه إلى ان مات ومع ذلك كان طول حياته سفير صلح بينه وبين خصومه ، وكان قوة تحمية من أذاهم))(26).

وتحت عنوان (( نصوص فهمت على غير وجهها)) يعلق الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه (( غير المسلمين في المجتمع الاسلامي )) على الفهم السطحي المتعجل الذي يوحي بتعصب الاسلام ضد المخالفين له من اليهود والنصارى وغيرهم ، والذي يمارسه البعض حين يتعاملون مع الآيات القرآنية التي تنهي عن موادة غير المسلمين ، ويقول : (( إن الموادة التي نهت عنها الآيات ليست هي موادة أي تخالف في الدين ، ولو كان سلما لمسلمين وذمة لهم. إنما هي موادة من آذي المسلمين وحاد الله ورسوله)). ثم يعلق على قوله تعالي في مستهل سورة الممتحنة (( تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق ويخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم)) ، فينبه إلى أن الآية تعلل تحريم الموالاة أو الالقاء بالمودة إلى المشركين بأمرين مجتمعين: كفرهم بالاسلام وإخراجهم للرسول والمؤمنين من ديارهم بغير حق(27).

وإذا كانت المستخلصات السابقة من كتابات علماء أجلاء تتحدث عن الموقف العام للمسلم تجاه غير المسلمين ، وهو بالطبع يتضمن موقفه من أفكارهم وثقافاتهم ، فإن نظرة خاصة ومحددة تستكشف حدود وأساليب الخلاف الفكري بين المسلمين وبين المخالفين لهم في المعتقد يجب أن تكون الآن موضع اهتمامنا.

في القرآن الكريم آيات كثيرة تتحدث عن المحاجة الفكرية وعن الجدال بين المسلمين وبين غير المسلمين ، وهذه المحاجة وهذا الجدال قد يكونان لينين في بعض الأحيان ، بينما هما متشددان في أحيان أخر. واللين والتشدد هنا ليسا يعنيان الانتقال من المسلك الدمث في الحوار إلى المسلك الفظ ، ذلك لأن الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة هي القاعدة المأمور بها في الإسلام ، كما أن نفي الفظاظة عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – من الحالات التي أثبتها القرآن له ، ولكنهما يعنيان أن الموقف الفكري في تصويره القرآني يكون تجاه بعض الأمور الخلافية متسامحا متساهلا ، بينما هو مع أمور أخرى وحالات يحرص على صعوبة  ، إن لم يكن استحالة ، حدوث اللقاء بين الفكرة الإسلامية وبين الفكرة المخالفة.

ومن سنن الله في خلقه أن جعل الناس أمما مختلفة وشعوبا: (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا … الحجرات -13)).

ومن حكمته جل وعلاه ، ومن فضله أيضا ، أن جعل من اختلاف هؤلاء ، بما يؤدي إليه من تصارع وتدافع ، سبيلا إلى عمارة الكون وصلاح الأرض: (( … ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ، البقرة -251)).

بل إن هذا التدافع والتنافس قد يكون السبب وراء استمرار التدين كظاهرة والتعبد كسلوك: (( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز. الحج – 40)). وفي إطار اختلاف الناس إلى أمم وشعوب وقبائل فإن من سنن الله التي لا تتخلف أيضا أن تتعدد الشرائع والمناهج ( الدينية والدنيوية) للفئات المختلفة منهم: ((لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم … المائدة – 48)).

بل إن آيات من القرآن تذهب إلى أن اختلاف الناس في الرأي والمعتقد حتمي ، بل وإن من أسباب خلقهم أن يمارسوا ذلك اختلاف فيما بينهم: (( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم … هود – 118 – 119)). ويرى الحسن البصري ، ومقاتل بن سليمان ، وعطاء بن دينار ، كما ورد في الجامع لأحكام القرآن ، أن الإشارة في قوله تعالى (( ولذلك خلقهم)) إنما هي للاختلاف ، أى وللاختلاف خلقهم (28).

ولأن اختلاف الناس سنة إلهية لا تتخلف ، وتدافعهم أو تصارعهم قانون رباني لا يتعطل ، فإن أشكالا من الحوار لابد وأنه تقوم بينهم. وهذا الحوار قد يمليه مجرد التجاور الزماني أو المكاني بين الأفكار ، كما تمليه أيضا دعوة كل فريق الفريق الآخر أو الفرق الأخري إلى فكرته ومعتقده. وقد رسم الحق تبارك وتعالى في القرآن للمسلمين من عباده حدود وقواعد وضوابط هذا الحوار الذي لابد وأن يجري بينهم وبين المخالفين لهم في الرأي والمعتقد. وهذه الحدود والقواعد والضوابط قد يوجه إليها المسلمون مباشرة ، أو قد تلفت إليها أنظارهم من حصيلة الخبرات والممارسات التي مرت بها أمم سابقة ، أو عاشها أنبياء سابقون عرض القرآن الكريم قصصهم. وقد تناول القرآن هذا الحوار ، أو هذا الاحتكاك الفكري ، أو هذا التبادل الثقافي ، في إطار مصطلحات ثلاث قرآنية وهي : الجدال ، والحجاج ، والمراء. ونحن سوف نقف مع المصطلحين الأولين لأن كل منهما يمكن أن يعبر عن نوع من الحوار مفيد. أما المصطلح الثالث (( المراء)) فإنه يعبر عن نمط من الجدال أو المحاجه لآفائدة منه. فالمراء لغة يعني الجدال ، إلا أنه يكون مصحوبا بالطعن في القول أو الفكرة موضوع الجدل نزييفا للقول وتصغيرا للقائل ، ولا يكون المراء إلا اعتراضا(29) ، أى مكابرة ومغالطة. وامترى في الأمر أي شك فيه ، ولذلك فإن المراء يصاحبه سوء الظن ، والشك المسبق والمطبق في الآخرين وفي أفكار الآخرين. ونظرا لأن القرآن الكريم لم يخرج في كافة استخداماته لمصطلح (( المراء)) ومشتقاته ( في عشرين موضعا قرآنيا تتضمنها تسع عشرة آية) عن هذه المعاني غير الطيبة وغير النافعة ، فإننا نكتفي بأن نشير فقط إلى أن القرآن قد نهي المسلمين عن ممارسة هذا النوع من الجدال العبثي الذي لا فائدة منه ، بل ونصحهم أن ينصرفوا عن الممارين والممترين من أصحاب الأفكار أو المعتقدات المخالفة ، وأثبت لهم أن هؤلاء الذين يمارون في الحق إنما هم في ضلال بعيد.

أما الجدال فإنه قد يكون مقصودا به الوقوف على الحق فيكون محمودا  ، وإلا فهو مذموم. ولذلك فإن تقويم القرآن لذلك الجدال ، سواء كان من جانب المسلمين أو من جانب مخالفيهم ، يرتبط بالقصد منه. والذين جادلهم المسلمون متنوعون ، منهم أهل الكتاب ، ثم الكفار ، ثم المنافقين.

والجدال بالحسنى مأمور مأمور به في القرآن الذي يوجه الخطاب إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن يجادل عامة الناس بالتي هي أحسن: (( ودع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسنإن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين. النمل – 125)). وفي إطار هذه التوصية العامة السمحاء التي تنتهي بالقول الجميل الذي يخفف من غلواء الذين قد تستدرجهم حدة الجدال إلى ما لا يحمد من تطاول وافتئات على الآخرين (( وأنربك أعلم بمن ضل عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين )).

فإن لأهل الكتاب من يهود ونصارى وضع خاص ، بسبب وحدة الذين بينهم وبين المسلمين ، ورغم اختلاف الشرائع والمناسك لكل منهم. وفي هذا الصدد يوجه القرآن الخطاب إلى عامة المسلمين فيقول:(( ولا تجادلو أهل الكتاب إلى بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون – العنكبوت – 46)). والملاحظ في هذا الصدد أن السماحة والاستنارة اللتين يطلب من المسلمين أن يتصرفوا مع الآخرين من أهل الكتاب على أساسهما ليستا من النوع السلبي ، ولكنهما إيجابيتان بدليل ذلك الموقف القوي اليقظ المطلوب منهما تجاه الذين يظلمون من أهل الكتاب ، وهم هؤلاء الذين تجاوزرا حدود الحوار أو الجدال النافع إلى

 التحامل والافتئات والعدواة. وهى قاعدة في التعامل حاسمة تسري مع جميع المخالفين في الرأي والاعتقاد ، سواء كانوا من أهل الكتاب أو لم يكونوا.

وينتقل القرآن بالخلاف وبالجدال نقلة أخرى راقية ، فيها حسن التصرف مع الآخرين ، ما داموا لم ينتقلوا بخلاف الرأي إلى عداوة الفعل. بل ويسلب القرآن في هذه النقلة العظيمة أي فريق أن يولي نفسه مسئولية عقاب الآخرين على المخالفة الفكرية فيقول في سورة الحج: (( ولكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلي هدى مستقيم. وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون. الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون. الحج – 67 ، 78 ، 69)).

ومثلما ينهي القرآن المسلمين أن يجادلو إلا بالتي هي أحسن ، فإنه يدين مسلك أولئك الآخرين ، إن هم تحولوا بالجدال من الحق إلى الباطل ، وأقاموه على غير علم ، وصرفوه إلى عقم التعامل مع آيات الله. وحتى رغم هذه التجاوزات التي يمكن أن يقع فيها هؤلاء ، فإن الله سبحانه وتعالي لم يكلف قوة بشرية ما ، ولا طابورا إنسانيا معينا ، أن يتولى مهام تأديبهم أو تقويمهم أو معاقبتهم على ما اقترفوه ، ولكنه  أوكل إلى ذاته العلية ما سوف يحيط بهم من خزي في الدنيا ومن عذاب السعير في الآخرة.

ونقف الآن مع بعض الآيات التي تنحو هذا المنحى ، وهى كثيرة ، علنا نفقة حكمة القرآن التي إن أخذنا بها يسلم تعاملنا مع الآخرين من شوائب التعصب والافتعال والمغالاة وتوهم صلاحيات لنا ما أنزل الله بها من سلطان.

يسجل القرآن حماقات الذين يجادلون بالباطل فيقول في موضع: (( وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق… الكهف -56)). ثم يضيف في موضع آخر: (( … وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب . غافر – 5)). وتأتي بعد ذلك النتيجة القرآنية التي تكل أمر هؤلاء إلى الحق العدل المطلق سبحانه وتعالى ، في آيتين لاحقتين ، تقول أولاهما:

(( وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا. الكهف – 58)) ،بينما تقول الثانية: (( وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا إنهم أصحاب النار. غافر – 6)).

والذين يجادلون في الله بغير علم ، أنما يضلهم الشيطان وهم في عماية وعلي غير هدى: (( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد. الحج – 3)) وكذلك: (( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. الحج – 8)). ومآل هؤلاء تحدده الآيتان المتممتان للمذكورتين آنفا: (( كتب عليه – أي الشيطان المريد المذكور في آية الحج 3 – أنه من تولاه فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير. الحج – 4)) ، ثم: (( ثاني عطفه – أي متكبرا لاوى عنقه ذلك المجادل في الله بغير علم – ليضل عن سبيل الله ، له في الدنيا خزي ونذيقة يوم القيامة عذاب الحريق – 9)).

والذين يجادلون في آيات الله ، ليسوا بأفضل ممن ذكرنا ، فإنه: (( ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد – غافر -4)). أما مسلكهم وصفتهم فهما مسلك وصفة الذين أدينوا في الآيتين الخامسة والسادسة من نفس السورة والمذكورتين في فقرة سابقة ، والذين حقت عليهم كلمة ربك فكانوا من أصحاب النار.

والملاحظ في كل الاستشهادات السابقة أن أيا منها لم يجعل القتال أو القتل أو الاعتداء على الآخرين مترتبا على خلاف في الرأى أو في المعتقد معهم ، كما أن أيا منها لم يفوض ناسا من الناس لعقاب الآخرين على خلل في أفكارهم ، أو اعوجاج في ثقافتهم ، أو انحراف في اعتقاداتهم ، رغم أن دعواتهم إلى الصواب وإلى الحف واجبة ، وهي النتيجة التي تؤكد صحة ما يذهب إليه الذين أحسنوا الفهم من الفقهاء – قدامي ومحدثين – فقالوا إن حرب المخالفين في الرأي لا تنشأ في الإسلام عن مجرد المخالفة في الرأي ، ولكنها تنشأ عن انتقال هؤلاء إلى اتخاذ إجراءات عملية معادية تصد عن سبيل الله ، وتحارب الفكرة الاسلامية ، وتحول بينها وبين أن تأخذ حق الدعوة ، وحق الانتشار ، وحق الانتشار ، وحق الفعل ، الذي هو متاح لبقية الأفكار العاملة في المجتمع أو في العالم.

وإذا انتقلنا إلى مصطلح (( الحجاج أو المحاجة)) في القرآن فإننا قد نقابل بعض المفاهيم السلبية المرتبطة بهذا المصطلح. وهذه المفاهيم السلبية قد تمثل مصادرات على إمكانات تبادل الحوار والجدال ( بالمعنى الإيجابي) بين المسلمين وبين غيرهم.

فالمصطلح يرد في أغلب مواقعه القرآنية متضمنا معاني المخاصمة والمناوأة. ثم إن الحجاج الذي يمارسه غير المسلمين ضد المسلمين ، أو المكذبين للرسل في مواجهة هؤلاء الرسل ، يبدو في الآيات القرآنية ، مدانا ومستهجنا. ولكن لا ننكص على أعقابنا فيما يتعلق بإمكانيات التعامل الفكري مع الآخرين ، فإننا نثبت بداء أن مصطلح (( الحجاج )) هذا يكاد يكون استخدامه في القرآن مقصورا على أمور العقيدة العليا ، المتعلقة بذات الله وبأصل الدين ، وكذلك على أمور الغيب التي لا يمكن تناولها بالمنطق أو بالرواية الآدمية ، ولكن دليلها النقلي الوحيد هو ما جاء به الرسل حديثا عن الله تبارك وتعالى. ومن هذه الآيات على سبيل المثال لا الحصر:

(( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه…)) (البقرة -258)

(( فمن حاجك فيه – أى في الغيب المتعلق برفع عيس وخلقه – من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم…)) (آل عمران – 61)

(( وحاجه قومه – أي قوم إبراهيم عليه السلام – قال أتحاجوني في الله وقد هدان .. )). (الأنعام – 80)

(( فإن حاجوك – في كون أصل الذين عند الله الإسلام – ، والخطاب للنبي محمد صلي الله عليه وسلم – فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أاسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد)) .(آل عمران – 20 ) .

(( قل أتحاجوننا في الله– والمعني هنا اليهود والنصارى – وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون)) (البقرة – 139)

(( والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له – والإشارة إلى الرسول – صلي الله عليه وسلم – والمناوأة من اليهود – حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد)). (الشورى – 16)

ويسبق هذه الآية الأخيرة من سورة الشوري آية يحسن أن نوردها هنا ، وفيها يقول الحق تبارك وتعالي موجها أمره إلى الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم -: (( فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم ، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ، لا حجة بيننا وبينكم ، الله يجمع بيننا وإليه المصير)) ، (الشورى – 15).

وقد تكون كل هذه الآيات التي أوردناها سابقا تضع بعض الضوابط والحدود على الحوار الذي يمكن أن يقوم بين المسلمين وغير المسلمين ، حتى لا ينتقل – مع أية شبهة عبث – إلى الكليات والمحاور الاعتقادية التي لا يجوز التهاون فيها ، أو إلى الغيبيات التي يصعب تناولها بالمنطق أو بالفكر المجرد. غير أن الملاحظة التي يجدر إثباتها ، والتي تتضح في أغلب خواتيم الآيات ، ثم في الآية الأخيرة (الشورى -15) التي ألحقناها باستشهاداتنا عمدا ، فهي استمرار حكمة الإسلام العظيمة التي تكل أمر هؤلاء المحاجين المكابرين إلى الله ، وتترك الحكم بينهم وبين المسلمين له سبحانه وتعالى ، وتمتنع عن تقديم أية مبررات ، أو مداخل للتجاوز من فريق ما على حساب الفرق الأخرى ، حتى ولو كان هذا الفريق على الحق بينما هؤلاء الآخرون  على الباطل.

أى أن الآيات المذكورة لا تنهي المسلمين عن ممارسة الحوار ، كما أنها تمنعهم من إتيانه ، ولكنها ترشد هذا الحوار ، وتوجهة ، ونضعه في مساره الصحيح. فالمحاجة في أمور العقيدة العليا ، مثلها مثل الجدال في أمور الغيب ، كلاهما يحسن التحفظ فيهما ، توفيرا للجهد.

ومحافظة على الدين ، وإيقاء على الحد الأدنى من الود الاجتماعي الذي يجب أن يقوم بين المسلمين وبين المخالفين لهم في المعتقد المشاركين لهم في الحياة الاجتماعية.

بقى أن نقف أمام واقعة في التاريخ تكشف عن حرية الفكر ، واستنارة الحوار ، وسماحة الظروف التي عاشت فيها وتعايشت مع الأفكار الإسلامية تلك الكثيرة الكاثرة من الأديان والمذاهب والتيارات الفكرية والفلسفية ، والتي كانت مناظرات أصحابها وقادتها ومفكريها تنعقد حلقاتها في بلاطات الخلفاء ، وقصور الموسرين ، وبيوت الحكمة ، ومعاهد الدرس ، بل وفي المساجد أيضا. ففي عهد الخليفة المأمون يأتي بغداد زعيم المانوية من مجوس فارس يزدانبخت ، فيناظرة المتكلمون المسلمون ويفحمونه ، ويتوق الخليفة إلى أن يسلم يزدانبخت ويفاتحه في ذلك ، فيرفض الرجل في أدب ، ويقول للخليفة : نصيحتك يا أمير المؤمنين مسموعة ، وقولك مقبول ، ولكنك ممن لا يجبر الناس على ترك مذهبهم!…

فيتركه الخليفة وشأنه ، بل ويأمر بحماتية من العامة حتي يبلغ مأمنه بين أتباعه وأنصار مذهبه(30).

ثم نقف أخيرا أمام حديث شريف يروي عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – ، لو أنه صح ، لما جاز لأحد أن يتطاول فيزعم أننا ما عدنا في حاجة لأن نأخذ عن الآخرين شيئا من عوائدهم ، ول من أفكارهم. ذلك أنه يروي أن النبي صلي الله عليه وسلم قال:

إن عبد المطلب سن في الجاهلية خمس سنن أجراها الله في الاسلام. حرم نساء الآباء على الأبناء فأنزل الله قوله: (( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء)).

ووجد كنزا فأخرج منه الخمس وتصدق به فأنزل الله قوله: (( واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسة وللرسول ولذي القربي واليتامي والمساكين وابن السبيل…)).

ولما حفر زمزم سماها سقاية الحاج ، فأنزل الله قوله تعالي : (( أجعلتم سقاية الحاج ، وعمارة المسجد الحرام ، كمن آمن بالله واليوم الآخر…)).

وسن في القتل مائة من الابل ، فأجرى الله عز وجل ذلك في الاسلام. ولم يكن للطواف عدد عند قريش ، فسن فيهم عبد المطلب سبعة أشواط ، فأجرى الله ذلك في الإسلام.

 

 

الهوامش:

1.        محمد حسين هيكل (الدكتور) ، الفاروق عمر ، دار المعارف بمصر (1977) ، الجزء الاول ، ص43 ، 51 ، 52.

2.       محمد حسين هيكل (الدكتور ) ، حياة محمد ، دار المعارف بمصر(1977) ، الطبعة الرابعة عشر ، ص209.

3.                محمد حسين هيكل (الدكتور ) ، حياة محمد ، مرجع سابق ،ص240 ،.

4.                سورة المائدة – الآية 49.

5.                سورة آل عمران – الآية 159.

6.                سورة الحجرات – الآية 15.

7.       محمد حسين هيكل(الدكتور) ، الصديق أبو بكر ، دار المعارف بمصر (1975) ، الطبعة السابعة صى75.

8.       ابن قتيبة ، الامامة والسياسة ، مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع ، القاهرة (1967) ، الجزء الأول ص 16 ،.

9.       ابن قتيبة ، المرجع السابق ، ص17.                                                             لم نعثر على اثر لهذه الرواية في المراجع التاريخية المعتمدة (التحرير)

10.     محمد حسين هيكل(الدكتور ) ، الصديق أبو بكر ، مرجع سابق ، ص 64 – 66 ، نقلا عن اليعقوبي ، وبذكر بن قتيبة كلاما مشابها في كتابة الامامة والسياسة ( المرجع السابق ص 18 -22 ) ويذهب إلى ان عليا بايع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاة فاطمة ، أي بعد خمس وسبعين ليلة على وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

11.           محمد حسين هيكل (الدكتور) ، الصديق أبو بكر ، مرجع سابق ، ص 66.

12.           أبو الفرج الأصفاني ، الأغاني ، طبعة درا الكتب المصرية ، الجزء الثاني ، ص 157.

13.           محمد حسين هيكل (الدكتور) ، الصديق أبو بكر ، مرجع سابق ، ص 110.

14.           ابن قتيبة ، الإمامة والسياسة ، مرجع سابق ، ص25.

15.     الروايات الشهيرة تذهب إلى أن أبا الؤلؤة قتل عمر – رضى الله عنه – لأنه لم ينصفه بتخفيف الخراج عنه. ولكن الأستاذ العقاد في كتابه (عبقرية عمر) ، ومثله الدكتور هيكل في الجزء الثاني من كتابه (( الفاروق عمر )) يذهبان إلى أن عمر انما ذهب رضى الله عنه شهيد مؤامرة من أعداء الدولة الإسلامية.

16.     طه حسين (الدكتور) ، الفتنة الكبرى ، دار المعارف بمصر (1970) الطبعة الثامنة ، الجزء الأول – عثمان  ،ص 129 – 130 ، نقلا عن أنساب الأشراف للبلاذري (طبع القدس – ص46).

17.           طه حسن( الدكتور) ، الفتنة الكبرى ، الجزء الاول – عثمان  ، مرجع سابق ، ص194

18.     أحمد أمين ، ضحى الاسلام ، مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة الجزء الثالث ، الطبعة الثانية ، ص334 ، 335.

19.           ابن قتيبة ، الامامة والسياسة ، مرجع سابق ص105

20.     أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم وابن حبان عن أبى هريرة (وله رواية أخرى مشابهة عن عوف بن مالك عن الرسول) بهذا اللفظ أو بنحو هذا اللفظ. أنظر محمد عمارة (دكتور) ، الإسلام وفلسفة الحكم ، جزء اول ، ص129 ، 137. والكتاب جزء من رسالة للدكتوراة في الفلسفة الإسلامية مجازة من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة.

21.     أبو الفتح الشهرستاني ، الملل والنحل ، مؤسسة الحلبي للنشر والتوزيع بالقاهرة (1968) ، الجزء الأول ، ص11 ، 19.

22.           أبو الفتح الشهرستاني ، الملل والنحل ، مرجع سابق ،ص105.

23.      محمد عمارة (دكتور) ، الإسلام وفلسفة الحكم ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت (1977) ، الجزء الأول ، ص129. مع ملاحظة أن صحة العدد عند الشهرستاني ست وستون فرقة ، وذلك رغم ما ورد في كتابة الملل والنحل (مرجع سابق) من أنه يستوفي أقسام الفرق الإسلامية ثلاثا وسبعين – جزء أول – ص35 ط

24.     الأعمال الكاملة للامام محمد عبده ، تحقيق وتقديم محمد عمارة ( دكتور) ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ببيروت (1972) ، الجزء الأول ص ، 711 ، 712. والمنقول هنا جاء في إطار فتوى أبداها الامام حول استعانة المسلمين بالكفار وأهل البدع والأهواء

25.           محمود شلتوت ، الاسلام عقيدة وشريعة ، دار القلم بالقاهرة ، الطبعة الثانية ، ص473 ، 474.

26.           محمود شلتوت ، الاسلام عقيدة وشريعة ، مرجع سابق ، ص59 ، 60.

27.     يوسف القرصاوي (دكتور) ، غير المسلمين في المجتمع الاسلامي ، مكتبة وهبة بالقاهرة (1977) ، 67 – 70.

28.     الجامع لأحكام القرآن ،محمد بن أحمد القرطبي ، طبعة دار الكتب الجزء التاسع ، ص115 ، وانظر أيضا محمد عمارة (دكتور) ، الإسلام والوحدة الوطنية ، كتاب الهلال ، فبراير 1979 ، ص55 – 62.

29.     احمد بن محمد بن علي المفيومي ، كتاب المصباح المنبر في غريب الشرح الكبير ، المطبعة الأميرية ببولاق ، الطبعة الثامنة (1939) ، ص782.

30.     سير توماس أرنولد ، الدعوة إلى الاسلام ، ترجمة د. حسن ابراهيم حسن وآخرين ، طبعة القاهرة (1970). (نقلا عن محمد عمارة (دكتور) الاسلام والوحدة الوطنية ، مرجع سابق ، ص13 ، 14).