1- يشكو كثير من الناس من أن القيم السائدة في مجتمعاتنا المعاصرة أخذت تهتز، وهذا راجع في الحقيقة إلى طبيعة العصر، فإنه عصر صراع فكري وعقيدي حاد؛ وخصوصا حول قضايا المجتمع الاقتصادية والسياسية والثقافية.
وفي مثل هذا الجو من الصراع الفكري يشعر المواطن في العالم العربي والإسلامي بحاجة ملحة إلى فهم ثقافات عصره على اختلافها وتحديد موقف الإسلام منها حتى لا يفقد ذاتيته، خصوصا أنه يحس من أعماق نفسه أنه ينتمي إلى حضارة أصيلة كان لها أكبر الأثر في تقدم البشرية، وأنه إذا كان قد تخلف عن الركب بعض الوقت فإنه قادر على المضي قدما إلى الإمام ليلحق بمن سبقوه على الطريق.
على أنه لا يريد في هذا اللحاق أن يقلد تقليدا أعمى، وإنما يريد أن يحافظ على استقلاليته الفكرية، وقد يتفتح على كل الآراء والمذاهب المعاصرة، ولكن يلزمه ضرورة التمييز بين النافع منها والضار، وتنمية قدرته دائما على الابتكار، فليس كل ما تنتجه المجتمعات في الشرق أو الغرب صالحا بالضرورة لمجتمعه، وملبيا احتياجاته الفكرية والروحية، ومحققا تقدمه الحقيقي لا الوهمي.
وقد أدت سهولة الاتصال بين شعوب العالم في عصرنا إلى غزو فكري لمجتمعاتنا فوفدت إليها فلسفات شتى، منها ما يؤدي بالتفسير المادي للوجود، فليس ثمة إلا المادة وقوانين تطورها، وما العقل الإنساني إلا أسمى نتاج للمادة، والعالم لم يوجد إلا اتفاقا أو مصادفة؛ ومنها ما يبدأ سيره من إيمان لا حد له بمنهج العلم التجريبي بحيث يجعل معيار الحقيقة التجربة الحسية وحدها، ومن ثم لا مجال للفكر الذي يحاول تجاوز عالم الحس إلى ما وراءه. ومنها ما يؤكد على أن معيار الحق هو المنفعة، بمعنى أن الفكرة فيها من الصواب بقدر ما تحقق من نفع عملي في واقع الحياة.
وهناك فلسفات أخرى من فلسفات العصر في أوروبا تنطلق من القول بأن حياة الإنسان لا معنى لها ولا هدف منها إلا الإلحاد. ويرى بعضها وجود الإنسان مجرد مأساة وأمرا غير مفهوم ويرى بعضها حرية الإنسان بإطلاق في تحقيق ماهيته إذ لا إله يخلق وفق ماهية سابقة، ولذلك يكون الوجود سابقا على الماهية، ومآل الإنسان إلى العدم، فلا بعث ولا ثواب ولا عقاب. ويرى بعضها الآخر، عدم الإيمان بأي قيمة أخلاقية أو حقيقية مؤكدة، ويتجه أصحابها بعنف إلى الهدم، فتوصف فلسفاتهم بوصف العدمية، وجميع هذه الفلسفات الأخيرة في رأينا عبثية من حيث أنها ترى الوجود الإنساني مجرد عبث، وتشاؤمية الطابع.. ومن أسف أنها شاعت شيوعا غير عادي عن طريق الكتابات الأدبية والمسرحية المعاصرة في أوروبا، وهي كفيلة في رأينا بالقضاء على أعظم ما أنتجته البشرية من حضارة لأنها تقتل في الإنسان طموحه ولا تجعل له هدفا يسعى إليه.
2- وتتناول هذه المحاضرة الفلسفة الوجودية المعاصرة، وهي تنتمي إلى هذه المجموعة الأخيرة من الفلسفات العبثية، وذلك من وجهة نظر نقدية إسلامية، ولنبدأ أولا بالتعريف بهذه الفلسفة:
الفلسفة الوجودية المعاصرة ثورة عارمة ضد الفلسفات العقلية التقليدية، ويرى الوجوديون أن الفلسفة حين شغلت نفسها بالبحث في الوجود المطلق، أو بالبحث في المعرفة والعلاقة بين الذات العارفة وموضوع المعرفة، فقدت موضوعها الرئيسي وهو البحث في الإنسان الواقعي المشخص.
وليست الفلسفة الوجودية في الحقيقة فلسفة واحدة وإنما هي عدة فلسفات تتفق على مبادئ وتختلف في التفاصيل، ويمكن وصفها بوجه عام بأنها نوع من الفلسفات الذاتية يهدف إلى الكشف عن الإنسان ذاته من حيث إن له وجودا خاصا به يعانيه معاناة مباشرة، ويرتبط بزمانه ومكانه وظروفه وأحواله، أو بعبارة أخرى الكشف عن الإنسان باعتباره “تجربة حية”.
ولعل محن الحربين العالميتين في النصف الأول من هذا القرن كانت عاملا أساسيا في شيوع هذا اللون من المذاهب الوجودية في أوروبا، وعلى الأخص في فرنسا، وجعلت أصحابها يندفعون بقوة إلى اكتشاف معنى جديد للحياة الإنسانية وإلى إعادة النظر في مواقف الإنسان من ذاته ومن الوجود الخارجي مع طرح كل قوالب فكرية موضوعة جانبا والاعتماد على منهج يسمى بمنهج الظواهر يعني بوصف الوقائع الفكرية على نحو ما نحياها في صميم شعورنا، وصاحب ذلك عندهم هز عنيف للقيم السائدة.
وقد أطلق على الفلسفة الوجودية هذا الاسم لأنها خلافا للفلسفات السابقة ترى أن وجود الإنسان سابق على ماهيته، بعبارة أخرى ترى أن الإنسان لا يأتي إلى هذا العالم بناء على مثال سابق، ويتفق الوجوديون على ذلك منذ أيام كيركجارد (Kierkegard) المتوفى سنة 1855م والذي يعتبر أبا لهم.
ولم تخل مذاهب الوجوديين من أن تتلون أحيانا بلون التشاؤم وأحيانا أخرى بلون التفاؤل، وإذا كان بعضهم مثل هيدجر (Heidegger) وسارتر (Sarter) قد تصورا الإنسان في عزلة تامة بلا معين، فإن ثمة آخرين منهم طبعوا مذاهبهم بطابع الإيمان والتفاؤل فوضعوا الإنسان في علاقة مباشرة مع الله مثل “كيركجارد” و “يسبرز” و “مارسيل”.
وقد تحددت معالم الفلسفة الوجودية في العصر الحاضر بظهور كتابين، أحدهما وضعه الفيلسوف الوجودي الألماني مارتن هيدجر عام 1927م وعنوانه “الوجود والزمن”، وثانيهما وضعه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر عام 1943م عن “الوجود والعدم”، وبهذين الكتابين وسيل المؤلفات التي جرت مجراهما انتقلت الفلسفة من ميدان دراسة الوجود المجرد إلى دراسة الإنسان الواقعي في حياته اليومية من ناحية، وفي علاقته بالآخرين من ناحية أخرى.
ويعمد كثير من الوجوديين في عصرنا إلى التعبير عن آرائهم الفلسفية من خلال الكتابات الأدبية والمسرحية، وأدى ذلك إلى ذيوع تلك الآراء ذيوعا غير عادي.
3- وحسبنا أن نقف الآن عند آراء أبرز الفلاسفة الوجوديين المعاصرين في فرنسا، وأكثرهم ضجيجا، وأعني به الفيلسوف جان بول سارتر (19004م) لنرى كيف يتصور وجود الإنسان، وحريته وسلوكه، وموقفه من الآخرين، وهو يمثل الوجودية الإلحادية ذات الطابع التشاؤمي، ثم نبين موقف الإسلام من آرائه حول هذه المسائل:
يفرق سارتر بين ثلاثة أشكال من الوجود:
1- الوجود الواقعي ويعني به الوجود الكائن بالفعل، ووجوده موضوعي وثابت وإن شئت قلت: هو وجود أي موضوع مادي كثيف متجانس ممتلئ. والمصطلح الفلسفي الذي يعبر به عن هذا الوجود هو: الوجود في ذاته.
2- وجود الإنسان ويعني به ما وجوده متحركا متغيرا زمانيا، وهو وجود ينزع نحو المستقبل هاربا من الماضي، وهو مفارق لذاته دائما، وهو وجود حائر، بل هو وجود يحمل العدم في صميمه، ويسميه سارتر اصطلاحا: الوجود لذاته.
3- وجود الإنسان حين يكون موضوعا بالنسبة للغير، أو بعبارة أخرى وجود الإنسان حينما يحيله الآخرون إلى “موضوع”، ويطلق سارتر عليه اصطلاحا: الوجود للغير.
والوجود الأول عند سارتر، وهو الوجود الواقعي، يمكن لنا أن نحدد ماهيته (ماهية الشيء عند الفلاسفة القائلين بالماهية هي مجموع الصفات التي بدونها لا يمكن تصوره، كقولنا الإنسان حيوان ناطق أو المثلث سطح مستو محاط بثلاثة خطوط مستقيمة متقاطعة) وذلك لأن ماهيته سابقة لوجوده: فالبذرة مثلا تنطوي على إمكانيات الشجرة.
أما الوجود الثاني فهو في رأي سارتر، بل وفي رأي الوجوديين جميعا كما ذكرنا من قبل، ماهيته لاحقة على وجوده، وهو وجود الإنسان، ومن ثم لا بد له من أن يعثر لنفسه على ماهيته، ووجوده عبارة عن تحول مستمر يكون الإنسان خالقا فيه لذاته باستمرار. وما دام ليس هناك ما يعين له سلوكه فالإنسان حر في أن يفسر الأشياء كما يشاء، وهو محكوم عليه في كل لحظة أن يخترع الإنسان فما الإنسان إلا ما يصوغ نفسه، وما يريد نفسه؛ وما يتصور نفسه بعد الوجود. فالوجود الإنساني إذن هو اختيارنا الحر لماهيتنا أو الشخصية التي نريد أن نكون عليها.
وهذا الوجود الإنساني يتميز بأنه يعاني القلق، وهو آت من أن الإنسان قد قذف به في هذا العالم دون أن يدري لذلك سببا، وهو شعور مبعثه ضرورة اختيار الإنسان في الوقت الذي ليس فيه معيار سابق للاختيار، وفي الوقت الذي لا يعرف فيه أيضا هل أساء اختياره أو أحسنه، فالإنسان محكوم عليه دائما بالاختيار، وهذا هو مبعث قلقه وهو قلق مؤلم. وتتمثل حرية الإنسان في أنه حينما يكون بصدد اختيار موقف فعليه أن يختار بين عدة مواقف، فهو الذي يحدد ماهيته بهذا الاختيار الحر، ومن هنا فإن الوجود الإنساني عند “سارتر” مرادف للحرية، وهو أيضا مرادف للقلق إلى الحد الذي جعل “سارتر” يقول “نحن قلق” (الوجود والعدم: ص81).
وتتميز حرية سارتر بعد ذلك بأمرين:
الأمر الأول: أن هذه الحرية ضرورية بمعنى أن الإنسان عنده ليس حرا في أن يتخلى عن حريته، وهذا يفسر لنا لماذا يهرب الإنسان أحيانا من حريته إلى العمل وفق ماهية ثابتة سابقة، وهو بهذا يخفف من قلقه المؤلم، ولذلك عنده صور؛ منها أن يخضع نفسه لقوانين جازمة أو للعرف أو للطبيعة أو لله، وهذه كلها عنده أساليب قاضية على حرية الإنسان الذي خلق معاييره وقيمه، ويقول “سارتر” حول هذا المعنى الأخير ما نصه: “ويترتب على ذلك أن حريتي هي الأساس الوحيد للقيم، وليس ثمة شيء مطلقا يمكنه أن يلزمني باصطناع هذه القيمة أو تلك (الوجود والعدم ص76).
والأمر الثاني الذي يميز حرية سارتر أنها ذات طابع ذاتي بحت ليس إلى إنكاره من سبيل. ذلك أن الاختيار عند سارتر لا ينفصل عن شعورنا بذواتنا، فليس هناك شيء في الخارج يمكنه أن يحدد لي اتجاه ذلك الشعور، ويبالغ “سارتر” إلى الحد الذي يقرر فيه أننا نحن الذين نخلق العالم وبخلقه نخلق ذواتنا!.
بل إن سارتر يمعن إمعانا في إطلاق الحرية فيقول إنها ليست سوى إرادتنا وأهوائنا (الوجود والعدم، ص520).
وبهذا يكون سارتر ممعنا في الذاتية، ما دام اختياره مردودا إلى الشعور وحده، وهو مطلق، والحرية بهذا مطلقة، وقبل الاختيار ليست هناك قيم ملزمة، والحرية بهذا تصبح فوق كل تفسير أو مبرر عقلي، ما دامت هي التي تخلق القيم والمعايير.
ويرتب “سارتر” على فكرته في الحرية فكرته عن المسئولية، فلما كان الإنسان هو خالق القيم فهو لا يخلقها من أجل ذاته وإنما من أجل المجموع. فالإنسان بهذا يشرع للإنسانية بأسرها، ومن ثم شعوره بالمسئولية الكلية، فالإنسانية تنظر إليه! وعندئذ يتساءل الإنسان هل أنا الموجود الذي يمكن أن يكون قدوة للبشرية؟ ويحمل “سارتر” نفسه بناء على هذا التصور كل شيء بما في ذلك الحرب التي اشترك فيها كأنه أعلنها قائلا: “إنني مسئول من الأعماق عن الحرب كما لو كنت أنا الذي أعلنتها” (الوجود والعدم، ص 641).
ونأتي الآن إلى الوجود الثالث عند سارتر وهو الوجود للغير لنراه يتصور علاقة الإنسان بالغير تصورا قاتما للغاية، فجوهر العلاقات بين الإنسان والغير عنده صراع، والذات تسعى إلى استعباد غيرها من الذوات. والحب ليس إلا امتلاكا للآخر بحيث تسيطر حريتي على حريته، وينتهي سارتر إلى نتيجة غريبة وهي أننا لا يجوز لنا أن نتحدث عن حب أو تضافر أو تعاون ما دام “الآخرون هم الجحيم” على حد تعبيره وأن الخطيئة الأولى للإنسان أنه ظهر في عالم يوجد فيه “الآخرون”.
4- نلاحظ أن “سارتر” يركز على وجود الفرد، وينكر أوجه الشبه الجامعة للنوع البشري، وهي أوجه شبه مقررة ومعروفة، ولو كان الوجود سابقا على الماهية كما يقول لما كان هناك خصائص مشتركة تجمع أفراد الإنسان، ويضاف إلى ذلك أن “سارتر” يجعل من حياتنا ضياعا وعبثا ويصف الإنسان بأنه عاطفة لا فائدة منها (الوجود والعدم، ص 708)، وهذا من شأنه أن يدفع الإنسان دفعا إلى اليأس والتشاؤم.
وعلى العكس من ذلك نجد الإسلام يقرر أن الإنسان خلق على مثال سابق، فالماهية إذن سابقة على الوجود، يقول تعالى “لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم” (التين: 4)، وينظر إلى الإنسان نظرة أساسها التكريم، يقول تعالى: “ولقد كرمنا بني آدم” (الإسراء: 7) ويقول تعالى مشيرا إلى خلق الإنسان: “إني جاعل في الأرض خليفة” (البقرة: 30).
هذا ونظرة “سارتر” إلى الوجود الواقعي لا تخلو من سطحية، فالوجود في ذاته ليس له بعد تطور البحوث الطبيعية على يد أينشتين تلك الصفات التي خلعها “سارتر” عليه من أنه فار أو ثابت. كذلك فإن الوجود شيء معطي وليس العالم هو ما أخلقه أنا أو ما أريده أنا، بل إن العالم سابق على وجودي، وهذه كلها أمور تحكم بها بالفطرة السليمة.
ووجود النوع الإنساني ليس بل هدف أو غاية، بل هناك نوع من الغاية نلاحظه في الوجود. وهو أمر تؤيده المشاهدات العلمية التجريبية، وإلا فمن أين تأتي ملاءمة العالم لوجود النوع الإنساني، وما أعمق المعنى في قول الله تعالى: “أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا” (المؤمنون: 115) وقوله تعالى: “أيحسب الإنسان أن يترك سدى” (القيامة: 36).
ولما كان العالم –بما فيه الإنسان- محكوما بقوانين طبيعية هي موضوع العلم الطبيعي، فلا مجال للفصل التام بين وجود الإنسان والوجود الخارجي، فمن الواضح أن الإنسان لا يعيش في فراغ وإنما يعيش في العالم.
وللإنسان أن يزعم لنفسه أنه حر في أن يخلع ما يشاء من تصوراته على العالم الخارجي وأحداثه، أو أن يزعم لنفسه الحرية في تفسير المواقف، ولكن هذا لن يغير من واقع الأشياء شيئا. فالثنائية التي تفصل بين الإنسان وما حوله يحكم بها الذهن القاصر فقط، إذ أن الإنسان يتفاعل دائما مع البيئة، ويتأثر بما يجري في العالم من وقائع وأحداث.
(ب) وكذلك فنحن لا نقر “سارتر” على ما يذهب إليه من قوله بالحرية المطلقة، واستقلالها عن عالم الأشياء، فمن الواضح أن الإنسان ليس حرا بإطلاق، وإرادته ليست خارقة للعادة، وإنما هي إرادة محدودة، وبنوع من الاستيطان الذاتي يستطيع الإنسان أن يدرك قيمة المؤثرات الخارجية في توجيه مجرى سلوكه توجيها ضروريا بل إن الإنسان بإراداته هو يحد من حريته، وكذلك فإن قيم الأسرة التي ينشأ فيها الإنسان أو قيم المجتمع الذي يعيش فيه لها من الفاعلية المباشرة أو غير المباشرة في سلوك الإنسان ما لا يمكن أن ينكر أو يقلل من أهميته. إن اصطدام حريتي بالواقع الخارجي، وإحساسي بذلك في كثير من الأحيان ينهض دليلا على أن حريتي محدودة، وكل ما تستطيعه أنها تكافح في سبيل تحقيق أماني، فهي إذن ليست مطلقة.
ولقد نبهنا القرآن الكريم إلى حقيقة الإنسان من هذه الناحية فهو كائن ضعيف من حيث أن إرادته محدودة تقوى على أشياء ولا تقوى على أشياء أخرى، يقول تعالى: “وخلق الإنسان ضعيفا” (النساء: 28)، بل إن الإنسان لا يكون على نفس المستوى من القوة في مراحل حياته كلها، فالأصل فيه الضعف ثم تمده قوة خارجة عنه هي القوة التي خلقته، بقوة عارضة، ثم يعود إلى حالة الضعف الأولى، وهذا أمر يحكم به العقل كما تحكم به المشاهدة، وهو المشار إليه في قوله تعالى: “الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة، ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير” (الروم: 54).
وكذلك فإن القرآن الكريم ينبهنا إلى أن للإنسان إرادة، ولكن إرادته هذه إرادة محدودة، وإذا كانت هناك في القرآن آيات توحي بأن الإنسان مختار مثل قوله تعالى: “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” (الكهف: 29) وقوله تعالى: “كل نفس بما كسبت رهينة” (المدثر: 38)، فإن هناك آيات أخرى توحي بأن الإنسان خاضع دائما لقوة أعلى، نحو قوله تعالى: “وما تشاءون إلا أن يشاء الله” (الإنسان: 30)، وقوله تعالى: “ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله” (الكهف: 23-24). وليس ثمة تعارض بين النصوص التي توحي بالاختيار والنصوص التي توحي بالجبر، فكل مجموعة منها تعبر عن جانب واحد من جوانب علاقة الإنسان بربه، فالإنسان مجبور إذا نظرنا إليه في الوجود الأعم الخاضع لقوانين صارمة، ومختار إذا نظرنا إليه في نطاق وجوده الخاص الذي تمتد إليه قدرته واستطاعته، وحقيقة الإنسان مجموع الأمرين معا، وإن شئت توضيحا: دائرة حريته داخلة في دائرة أكبر هي دائرة القدر، وقد عبر ابن عطاء الله السكندري عن هذا المعنى في “الحكم” بقوله: “سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار”.
ولم يكن حل مشكلة الحرية على أساس من منهج الظواهر أمرا قاصرا على الوجوديين، فنحن نلاحظ أن بعض المتكلمين في الإسلام قد فطنوا إلى هذا المنهج، وكانوا يلجئون في حل مشكلة الجبر والاختيار إلى نوع من التحليل العميق لما يشعر به الإنسان محاولين حصر الظواهر الكائنة في الشعور للوصول إلى نتيجة في المشكلة يمكن الاطمئنان إلى صدقها، ومن هؤلاء الإمام أبو الحسن الأشعري فيقول الشهرستاني ناقلا عنه: “قال (الأشعري): والعبد قادر على أفعاله إذ الإنسان يجد من نفسه تفرقة ضرورية بين حركات الرعدة والرعشة، وبين حركات الاختيار والإرادة” (الملل والنحل بهامش الفصل لابن حزم، ج2، ص124).
فالإنسان بحسب ما يقرر الأشعري لا يستطيع أن يغفل من نفسه ما يشعر به من إرادة وقدرة على الأعمال الاختيارية (أو اختيار المواقف كما يقول سارتر) ولكنه في نفس الوقت يحس أن ثمة أفعالا يجبر عليها كالرعدة والرعشة الاضطرارية المصاحبة للمرض أحيانا. وهذه النتيجة التي توصل إليها الأشعري من أنه ليس هناك جبرية كما أنه ليس هناك اختيار مطلق هي كما نرى نتيجة وصف ما يتبدى من ظواهر نفسية في الشعور الإنساني.
والأشعري فيما يقرره في هذا الصدد أكثر واقعية من “سارتر” لأنه لا يمضي مع فرض الحرية إلى النهاية ودون حدود كما يفعل “سارتر”، خصوصا أن موقف “سارتر” أدى به في النهاية إلى وصف حريته بأنها نوع من الضرورة فبدا كلامه في طابع “لا عقلي” فعند الفيلسوف الفرنسي المعاصر أن الإنسان ليس في مقدوره ألا يكون حرا. إن الإنسان في رأيه قد قضي عليه بالحرية، كيف؟ لا ندري.. وإليك ما يقوله سارتر في هذا الصدد:
“والنتيجة الضرورية لملاحظاتنا السابقة هي أن الإنسان محكوم عليه بأن يكون حرا…الخ” (الوجود والعدم، ص638)، وهو يقول أيضا: “لقد حكم عليّ دائما أن أوجد فيما وراء ماهيتي، وأيضا فيما وراء دوافع وبواعث فعلي، إنه قد قضي علي أن أكون حرا، وهذا يدل على أنه ليس من الممكن أن يوجد لحريتي من حدود سوى وجودها ذاته أو إذا شئت قلت: إننا لسنا أحرارا في أن نتخلى عن كوننا أحرارا” (الوجود والعدم، ص515).
أليست حرية “سارتر” هذه نوعا من العبودية يئن الإنسان تحت وطأتها؟
ج- يضاف إلى ما تقدم أن “سارتر” متناقض مع نفسه حين يقول بالحرية المطلقة ثم حين يجعل القلق ملازما لها، فلو كان اختيار الإنسان اختيارا حرا تماما لا يقيده شيء ففيم إذن القلق؟
وما دام سارتر يقرر أن الإنسان هو خالق ذاته وخالق معاييره، وهو يبرر لنفسه بحريته كل اختيار ممكن، ففيم يخشى إذن إساءة الاختيار، ولماذا يقع فريسة للقلق؟ وكذلك لماذا يفترض أن ما اختاره لنفسه من موقف سيكون دائما وأبدا موضع اهتمام الآخرين؟
إن القلق على اختلاف صوره لا يكون في رأينا إلا نتيجة شعور بالانحراف عن قيم معينة يراها الإنسان محققة لإنسانيته، فحياة الإنسان في حقيقتها صراع مستمر بين ميوله وعواطفه ونزواته، وبين مبادئ الأخلاق أو الأوضاع الاجتماعية، وهذا هو مبعث كل قلق، “فسارتر” في فلسفته يبدو وكأنه تائه في زحمة القيم المحيطة به، ولما كان قد أراد لنفسه عدم التقيد بهذه القيم فإنه قد أحس بالقلق.
وقد عالج الإسلام ما يحس به الإنسان الحائر من قلق، وبين لنا أن جهاد النفس هو العلاج الحاسم له، فالنفس طبيعتها تميل إلى تحقيق نزواتها وشهواتها، وهي تأمر الإنسان بالإقدام على هذا التحقيق، يقول تعالى: “إن النفس لأمارة بالسوء” (يوسف: 53) وحثها على الجهاد في مثل قوله: “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين” (العنكبوت: 69)، ويقول تعالى: “وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى” (النازعات: 40).
د- ومما نعجب لصدوره عن “سارتر” قوله بالمسئولية الكلية الشاملة التي تجعل من الإنسان مسئولا عن العالم كله أو على حد تعبيره هو تجعله يحمل العالم على كتفيه (الوجود والعدم، ص 638)، فهذا التصور للمسئولية نوع من تأنيب الضمير لا مبرر له، فأنا مسئول أمام ضميري أو أمام الناس أو أمام الله ولا شيء غير ذلك ومسئوليتي على قدر عملي الذي يتمثل في هذه الواقعة الجزئية أو تلك، فمسئولية سارتر التي ينادي بها مسئولية “لا معقولة” في الحقيقة.
ومن البديهي أن هذا التصور للمسئولية مناف لما ورد في القرآن الكريم، وحسبنا على ذلك الشواهد التالية:
قال تعالى: “تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون” (البقرة: 134)، وقال تعالى “وأن ليس للإنسان إلا ما سعى” (النجم: 36) وقال تعالى: “وما تجزون إلا ما كنتم تعملون” (الصافات: 39) وقال تعالى: “ولا تزر وازرة وزر أخرى” (فاطر: 18).
5- بقيت كلمة أخيرة، وهي أنه إذا كانت الوجودية بوجه عام تدعو إلى أن يطرح الإنسان المذاهب النظرية القائمة على أساس من التجريد المنطقي وحده وإلى أن يحيا –بدلا من ذلك- آراءه ويعانيها معاناة مباشرة، فإن تاريخ الفكر الإسلامي يظهرنا على مفكرين دعوا بإخلاص إلى ضرورة الممارسات العملية لأحكام الإسلام والمعاناة البشرية لقيمه الروحية، وحسبنا شاهدا على ذلك الإمام الغزالي، الذي نقد مذاهب المتكلمين والفلاسفة من حيث أنها مذاهب نظرية جامدة تصرف الإنسان عن التجربة الدينية الحية. وقد عانى الغزالي ما عاناه الوجوديون من قلق ولكنه لم يجعل القلق الوجود الحقيقي أو الحرية الحقيقية كما يذهب إلى ذلك “سارتر” وإنما اعتبره مرحلة يجب تجاوزها إلى الإيمان بالله والصلة المباشرة.
وفي رأي الغزالي ومن اقتدى به من الصوفية السنيين المتقيدين بالكتاب والسنة أن الإنسان لا يكون حرا بالمعنى الحقيقي للحرية إلا إذا ارتفع فوق شهواته وأهوائه بإرادته. أي بفعل حر، وهم يعيبون على الإنسان تمزقه الروحي بين اللذة والألم. فنحن في العادة نفرح حين تقبل علينا الدنيا بأسبابها، وقد يحدث أن تزول عنا هذه الأسباب على الرغم منا فنألم لذلك أشد الألم، وتصبح حياتنا بين تعاقب الفرح والألم عذابا نفسيا لا يطاق، ولو سكن الإنسان منا وثبت، فلم يشتد فرحه بما يقبل عليه من أسباب الدنيا، وخضع لحكم وقته، لم يحزن قط لوجود زوالها عنه، وهذا هو المعنى المشار إليه في قوله تعالى: “لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم” (الحديد: 23).
وبهذا يصبح الإنسان حرا بالمعنى الحقيقي للحرية، فيتقبل الشدائد ويتمكن من الوقوف على قدميه في معترك الحياة مكافحا كفاح الشجاع الواثق بنفسه وبالله.
وقد أجاد ابن عطاء الله السكندري في التعبير عن هذا المعنى من معاني الحرية، فقال ناصحا مريده: “ينبغي لك أن لا تيئس على فقد شيء، وأن لا تركن إلى وجود شيء، فإن من وجد شيئا فركن إليه، أو فقد شيئا فحزن عليه، فقد أثبت عبوديته لذلك الشيء الذي أفرحه وجوده وأحزنه فقده”.
وهو يقول لمريده أيضا: “متى كنت إذا أعطيت بسطك العطاء، وإذا منعت قبضك المنع، فاستدل بذلك على وجود طفوليتك وعدم صدقك في عبوديتك”.
ومن أجمل ما يعبر به أيضا عن هذا المعنى أيضا قوله: “لتقبل ما تفرح به تقبل ما تحزن عليه”.
وهذا المعنى من معاني الحرية إيجابي لا سلبي، ويضفي على حياة الإنسان معنى ساميا لأنه يجعل الإنسان ثابتا في معترك الحياة وغير خاضع للتمني أو أحلام اليقظة، بل عليه أن يعمل إذا أراد أن يحقق أمانيه ويخرجها إلى حيز الوجود الفعلي، وإلى هذا المعنى يشير ابن عطاء الله السكندري بقوله: “الرضا ما قارنه عمل وإلا فهو أمنية”.
وإذا وصل الإنسان إلى هذا المستوى من الحرية فقد نعم بالاستقرار النفسي وتخلص بذلك من كل قلق. ولعلك بعد هذا تدرك عمق المعنى في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “تعس عبد الدينار والدرهم”. فأنت حر في أن تملك الدينار والدرهم، ولكن لا تكن لهما عبدا، أي لا تكن عبدا لشهوة امتلاكهما.
يتبين لك مما تقدم أن الحرية الجديرة بالإنسان ليست حرية سارتر التي تصلح منطلقا لانحراف الإنسان، طالما كان هذا الإنسان هو الذي يخترع نفسه ومعاييره وقيمه، وطالما لا يكون ثمة ما يعين سلوكه أو ما يحد من حريته، وإنما الحرية الحقيقية هي حرية الإسلام التي تتمثل أولا في أن للإنسان قدرته على الاختيار، وهو أمر يشعر به ضرورة، ولكنه ليس قادرا بإطلاق لأنه يحس من نفسه ذلك أيضا، وتتمثل ثانيا في أن يرتفع الإنسان بنفسه فوق شهواته ونزواته التي يكون عبدا لها.
وفي رأينا أن ذلك الإنسان الذي يوهم نفسه أنه حر بإطلاق، وأن حريته مصدر كل قيمة، سرعان ما يتخلى عن مسئولياته وواجباته تجاه الآخرين، ويندفع بسرعة إلى هوة الشهوات، أو هوة الجبر المتمثل في الخضوع لها تماما، والتي لا يرجى له منها خروج.
والإنسان من بين سائر الكائنات هو القادر على أن يرتفع بنفسه إلى بدعة عالية من السمو الروحي، وهو القادر في نفس الوقت على أن يهبط بنفسه إلى أسفل سافلين، وهو مسئول في الحالتين عما يصنع من نفسه أمام الله ثم أمام المجتمع الذي يعيش فيه ولكن “أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون” (السجدة: 18).
وسيظل إنسان العصر في هوة الضياع إذا لم يتجاوز القلق إلى الإيمان، وستزداد مشكلاته حدة إذا ظل يمارس حرية كتلك التي يدعو إليها سارتر، وهي حرية من شأنها أن تؤدي به إلى التردي في الهوة السحيقة التي يريد سارتر أن يئول إليها كل وجود إنساني، وهي هوة العدم.
وحين يركز فلاسفة هذا العصر اهتمامهم على ما يسمونه “مأساة الإنسان” فهم ينطلقون من الإلحاد، والذي ينطلق من الإلحاد (كمن مثله في الظلمات ليس بخارجٍ منها” (الأنعام: 40)، (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور” (النور: 40).
إن كثيرا من فلسفات العصر كالوجودية الملحدة -إذ تنتهي إلى العدمية (Nihilism)- لا تمثل إلا خواء فكريا كفيلا بالقضاء على كل ما هو عظيم من إنجازات الإنسان.