إن العنوان الغريب لهذه المقالة يأتي من الحديث النبوي الشهير الذي تنبأ فيه رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بأنه سيأتي يوم يقوم فيه المسلمون بالتقليد الأعمى لأساليب المسيحيين واليهود برغم سخفها الواضح وصفاتها غير الإسلامية.
وقد صور ذلك جيدا في قوله صلى الله عليه وسلم “حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم”. وتظهر صحة ذلك الحديث بوضوح في جميع نواحي الحياة الحديثة للمسلمين، مما يجعلنا في غير حاجة إلى تقديم أية أمثلة.
وعلى المستوى الأكاديمي، فإن حقل العلوم الاجتماعية يعد واحدا مما تتمثل فيه ظاهرة التقليد الأعمى بأوضح صورها. لقد سادت النظريات والممارسات التي تعد نتاجا للمدنية الغربية المنتمية للمسيحيين واليهود أقسام العلوم الاجتماعية بالجامعات في البلدان المسلمة والصحافة، وقد عاونت الإذاعة والتليفزيون على إقرار مبادئها الأجنبية بين عامة المسلمين.
إن تكرار النظريات والممارسات الغربية في علم النفس بدون ترو ربما يقدم أخطر تهديد لمركز المذهب الإسلامي بين الدارسين والعامة من المسلمين. ويقدم علماء النفس الغربيون نظريات حول شخصية الإنسان، ودوافعه وسلوكه تتعارض مع الإسلام في الكثير من النواحي. وتغلف تلك النظريات وتطبيقاتها بغلاف “علمي” جذاب.
وإن علماء النفس المسلمين – مثلهم مثل زملائهم في جميع أنحاء العالم – تكون لديهم رغبة متلهفة لأن يتم تقديمهم تحت لواء العلم الرفيع. ولسوء الحظ فإن ذلك الدافع يقود الكثيرين منهم إلى القبول، سواء بوعي أو بدون وعي للنظريات والممارسات التي أقل ما يمكن أن توصف به أنها غير ملائمة لتطبيقها في بلدانهم الإسلامية. وإنني سوف أقتصر في هذا البحث على مناقشة أخطار ذلك التقليد الأعمى من جانب علماء النفس المسلمين بأسلوب مبسط غير معقد، وسوف أحاول أن أقدم بعض الأمثلة المحدودة التي حصلت عليها من خلال تجاربي كأستاذ في الجامعة وكمعالج نفساني. وسوف أتناول الموضوع أولا في عبارات عامة قبل أن أتحدث بصراحة عن علماء النفس المسلمين.
إن الباكستاني الذي يتدرب على الجراحة في بريطانيا لن يحتاج لأي تكيف عندما يقوم بإجراء عملية جراحية في بلدته. فإنه سوف يجد نفس النوع من القناة الهضمية، ونفس القلب والكليتين، بصرف النظر عن العقيدة أو نوع الطعام أو النشأة العائلية أو التضخم الاقتصادي. ومن الناحية الأخرى فإن علم النفس الإنساني يتأثر بشدة بالتغييرات الحضارية.
وحقيقة، فإنه يوجد القليل جدا من مبادئ علم النفس التي حازت شرعية في الحضارات المختلفة مثل أهمية دعم التعليم، ولكنه حتى عند تطبيق ذلك المبدأ فإن نوع التدعيم – الإيجابي أو السلبي – المستخدم، وأسلوب تقديمه يعد ظاهرة مرتبطة بالحضارة مع وجود الاختلافات الفردية في نطاق كل حضارة.
وعندما نأتي إلى المفاهيم السيكولوجية الأكثر “مرونة” فإننا نجد أنفسنا في حالة ارتباك طبيعي لا يستطيع فيها أي شخص، حتى في المجتمعات الغربية المتطورة، أن يتأكد أي جحر ضب يجب الدخول إليه لحل مشكلة سيكولوجية معينة. وتمتلئ كتب علم النفس المتقدمة والجرائد المتخصصة بالنتائج المتعارضة للأبحاث التي تعالج مشاكل متماثلة، والتي تمتلئ بالمناقشات، والمناقشات المضادة للمدارس المتنافسة التي تبدي اختلافات حادة فيما بينها حول تصور كل منها لظاهرة سيكولوجية معينة. وعلى مستوى الحضارات المختلفة فإن الإنسان يجد نفسه غير قادر على التعريف الواضح والدقيق لبعض المشكلات الحيوية، هذا إذا تجاوزنا عن ذكر المهمة الشاقة لإيجاد الحلول لها.
ولنأخذ المشكلة العامة البسيطة تلك التي تتعلق بمن هو الشخص السوي ومن هو الشخص الشاذ؟. إن مجال علم نفس الشواذ والصحة النفسية لا يستطيع حتى الآن تحديد معايير معينة لتوضيح من هو الشخص الطبيعي ومن هو الشخص الشاذ، وإذا نظرنا إلى الشذوذ من وجهة النظر الإحصائية البحتة، فإن الشخص العبقري سوف يعتبر شاذا مثله مثل الشخص ذي المستوى المنخفض جدا من الذكاء. ومن وجهة النظر الحضارية، فإن الشذوذ يصبح أقل وضوحا إلى درجة كبيرة، وإنه حتى في بعض الأحيان يصبح عبارة بلا معنى. إن السلوك الذي يعتبر شاذا في بلدة سوف يكون متوافقا مع المعايير في خلال ساعات قليلة من السفر الجوي، أو حتى بعد مرور القليل من السنين في نفس المكان.
وأستطيع أن أقدم القليل من الأمثلة من أنماط حضارتنا الإسلامية والعربية التي ذكرتها بالفعل في أماكن أخرى. وطبقا للعادية السودانية المندثرة وغير الإسلامية لجلد المتطوعين بالسياط في احتفالات الزواج، فإننا لا زلنا نستطيع أن نرى العريس في القرى النائية في الجزيرة – وسط السودان – وقد زخرف نفسه وهو يجلد بلا رحمة الظهر العاري لرجل مفعم بالحماس يتحمل جروحه النازفة بما يفوق طاقة البشر كما لو كان في نشوة نوم مغناطيسي عميق. وتؤيد الفتيات ذلك الاستعراض المتطرف للشجاعة الذي يقدمه صديق العريس بتهليلاتهم النسائية الفطرية، وتعاد رواية تلك القصة في القرية الصغيرة بأسلوب يضمن الحفاظ على ذلك النمط الحضاري الشعبي.
ماذا يكون رأي عالم النفس الأوروبي في تلك الممارسة كشكل منفرد للسلوك؟ إن العريس السوداني لن يُنظر إليه كشخص قاس وشاذ اجتماعيا فحسب، بل إنه أيضا سوف يتم تشخيصه كشخص منحرف جنسيا يستخلص متعته من إنزال العقاب على الآخرين، أي إنه شخص (سادي). ويعتبر الصديق الذي جلد بالسياط كشخص (ماسوشي) يشبع حاجاته الجنسية الشهوانية عن طريق العقاب الذاتي.
ولذلك يستطيع الإنسان أن يتحدث عن العادات الشاذة على مستوى الحضارات، أو حتى التي تصل إلى حد المرض. ويعالج المرضى في وحدات العلاج النفسي من السرقة غير الإرادية والجنسية المثلية. ويخبرنا القرآن الكريم عن قوم النبي لوط حينما أصبحت الجنسية المثلية عادة قوية جدا وشائعة حتى إن الأشخاص ذوي الجنسية الغيرية (مثل لوط والشخص المخلص الذي اتبعه) قد تم اضطهادهما علانية لكونهم كذلك. ويصور لنا القرآن الكريم الكلمات التي تم تبادلها بين النبي لوط، عليه السلام، وقومه:
(أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون. فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون).
ولقد كان النبي شعيب على نزاع مع قومه بسبب فقدانهم الشعور بالذنب كلية بالنسبة لفعل السرقة الآثم. وقد قال لهم (ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين). وقد أجاب رؤساء قبائل قومه على هذا الأمر الأخلاقي قائلين: (لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا).
وهكذا فإننا نجد أن الأشخاص الذين يتمسكون بمعايير أخلاقية عالية في المجتمعات التي تكون العادات غير الأخلاقية قد أصبحت راسخة بها، من الممكن أن يعتبروا شاذين، أو منحرفين جنسيا، أو مضطربين عقليا. ويكون من الممكن ترحيلهم أو قتلهم لتمسكهم بالطهارة، ومن الممكن أن يصل ذلك إلى حد إعلانه صراحة، (أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون..).
وعلى ضوء تلك المناقشة الطويلة، نستطيع أن نطرح السؤال، ما هي المعايير والمقاييس التي يضعها علم النفس الغربي الحديث بالنسبة للشخصية الطبيعية السوية، وهي الفكرة الرئيسية التي قامت على أساسها نظرية علم النفس الغربي وأبحاثه العلمية. وإذا تتبعنا مقياس الشخصية السوية كشخصية لديها “شعور كاف بالطمأنينة”، و”قدرة على مجابهة الواقع”، و”درجة معقولة من التقييم الذاتي” (نفاذ البصيرة) و”إشباع كاف للرغبات الجسدية”… الخ. ولم يرد أي ذلك على الإطلاق للأوجه الأخرى للإنسان، سواء الوجه الديني، أو الروحي أو حتى الظاهرة البداهة “Transcendental”.
إن تعريف علم النفس الحديث هو أنه الدراسة “العلمية” للسلوك، ويعرف سلوك الإنسان ببساطة بأنه ما يفعله الإنسان أو يقوله أو يشعر به حتى يتكيف مع بيئته. ونظرا لأن هدف علم النفس الغربي هو تكوين تلك الشخصية السوية الطبيعية طبقا للمقاييس التي ذكرناها من قبل، فإنه يجب على المسلم الطبيعي، إذا تجاوزنا عن عمليات النفس المسلمين الممارسين، أن يدحض بعض ما يعتبر كأساس علم النفس الحديث ذاته، وأسلوب تصويره للإنسان.
وبالرغم من أن علم النفس -باعتباره علما من العلوم- يدعي أنه يتخذ وجهة نظر محايدة تجاه وجود الله ووضع الدين، وأنه يقوم بتطبيق أسلوب “علمي” موضوعي غير متحيز عند دراسة تلك الظاهرة الروحية، فإنه مع ذلك ينظر إلى الإنسان كحيوان مادي هدفه الوحيد هو التكيف مع بيئته المادية والاجتماعية في “المكان” الذي يكون به وفي وقته “الراهن”، وتعتبر وجهة النظر هذه إلحادية في حد ذاتها.
إن وجهة نظر علم النفس العام تلك تعد على أي حال أقل عداء للدين من بعض مدارس العلاج النفسي التي تتخذ موقفا عدائيا من الله ومن الدين ككل. ويقول فرويد في كتابه المحاضرات التمهيدية الجديدة في العلاج النفسي.
“إن الظواهر الدينية تفهم فقط من خلال نموذج الاضطرابات العصبية المألوفة تماما والتي تعتبر صدى لأحداث ماضية طواها النسيان، ترجع إلى التاريخ البدائي للعائلة الإنسانية…”.
ويقول في كتاب آخر:
“قد يجرؤ الإنسان على اعتبار الاضطراب العصبي الشديد كجزء مرضي متمم لتكوين الدين، ويصف ذلك الاضطراب العصبي كنظام ديني خاص، ويصف الدين كاضطراب عصبي عالمي شديد…”.
ويبشر الإسلام بأن دور الإنسان في الحياة، كما هو معروف جيدا، هو عبادة الله (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).
إن مفهوم العبادة في الإسلام واسع جدا حتى إنه يشمل جميع الأنشطة، والمشاعر، وحتى الرغبات التي يطلق لها الإنسان العنان في سبيل الله. ونستطيع في هذا الشأن أن نرى المفاهيم المتعارضة للإنسان، وسلوكه، ووضعه في العالم طبقا لكل من الإسلام وعلم النفس الغربي.
وهكذا، فإن المسلم الذي يدرس علم النفس الحديث في الغرب سوف يجد نفسه على خلاف مع زملائه الأوروبيين، على الأقل بالنسبة لبعض المسائل التي ناقشناها منذ لحظات. وأكثر من ذلك، فإن العالم النفسي المسلم الممارس عند وجوده بين علماء النفس ذوي الثقافة الغربية سوف يجد نفسه “شاذا” تماما، ويعوزه التكيف، أو على الأقل غير نموذجي. وإذا وجد ذلك العالم النفسي نفسه على انسجام تام مع النظرية والممارسات النفسية الحديثة ومع الأكاديميين ذوى التفكير الغربي، وإنه يختلف فقط في تفضيله الشخصي لإحدى النظريات الحديثة أو الأخرى، حينئذ أو الأخرى، حينئذ فإنه يعتبر على الأرجح كمتطفل اجتماعي في جحر الضب.
فلنأخذ مثل أستاذ علم النفس المسلم في دولة إسلامية وهو يقوم بإلقاء المحاضرات على طلبته، ويقدم النصح للأهالي بالنسبة للمشاكل المتعلقة بتربية الأطفال وتنشئتهم ويعالج مرضاه، معتمدا تماما في جميع تلك الأنشطة على نظريات وممارسات أخذت مباشرة وبدون تكييف من كتب تم نشرها في الولايات المتحدة أو أوروبا أو من كتب مترجمة بدقة عن تلك المصادر. ألا يقوم ذلك الأستاذ بصياغة تفكير الناس، ومثلهم العليا وعواطفهم، سواء عن وعي أو بدون وعي، بأسلوب سوف يؤدي في نهاية الأمر إلى انسياقهم التام في “جحر الضب الغربي؟”.
وعند التحدث مع الكثير من علماء نفس الأطفال العرب والمسلمين حول مشاكل الأطفال، فإننا نجد أن معظمهم يتقيد بشكل جازم بالموقف الغربي بأن: “الوالدان دائما على خطأ”. ويكونون بشكل ما متحمسين تماما للمفهوم الخاطئ الحديث الشائع حول “الشخصية الهشة للطفل” الذي يجب أن يجنب جميع أنواع العقاب البدني أو النفسي حتى لا يصبح شخصا شاذا عند بلوغه. وقد يكون ذلك جزئيا نتيجة للحرمان الذي عانى منه الكثير من الأهالي من آبائهم في مجتمعاتنا المسلمة التقليدية.
ويجدر أن نلاحظ أن القليل منهم يستطيعون إدراك الاختلافات المتأصلة بين نظام العائلة المتسعة الإسلامية وبين نظام العائلة الغربية المعاصرة المغلقة المندثرة، تلك الاختلافات التي تجعل التوحيد الأعمى لنظريات علم نفس الطفل وتطبيقاته ليست بأقل من جريمة اجتماعية نظرية.
ولعل نظريات علم نفس الطفل تلك وتطبيقها التجريبي والعملي العامل الرئيسي الوحيد والمسئول عما يسمى “باندثار” العائلة الغربية. ومن ثم، فإن تطبيق الممارسات الأمريكية والأوروبية المتعلقة بتربية الطفل بدون تعديلها، وحتى بدون أن نقحم الإسلام في الموضوع، يكون له تأثيره الخطير في عزل أجيال المسلمين الأصغر سنا. وفي الحقيقة فإن ذلك التأثير قد ابتدأ في الظهور في البلدان المسلمة الأكثر ميلا للنزعة العصرية. ومن الممكن أن يكون الضرر أكبر إذا حاول علماء نفس الطفل المسلمون التمويه وإخفاء ذلك الأسلوب من التطعيم تحت ستار دخاني علمي زائف. فإن ذلك من الممكن أن يؤدي إلى إقناع الأهالي والمعلمين بتأييد علمية “الشتل غير المتكافئ” الذي سوف يؤدي في نهاية الأمر إلى أعراض خطيرة من “النبذ”. ومن وجهة النظر الإسلامية يعد الحفاظ على العلاقات العائلية المستمرة ضرورة أمر بها الدين (الحفاظ على روابط القرابة)، في حين أن ذلك الاتجاه المتراخي الذي يزعم أن “الطفل دائما على حق” من الممكن أن يؤدي إلى تشجيع الطفل على عدم احترام والديه وقد يؤدي ذلك بعد وصوله إلى سن البلوغ إلى ارتكابه واحدة من أبغض الآثام في الإسلام، وهي الجحود للوالدين..
ونستطيع أن نصور ذلك الأمر أكثر بعودتنا إلى الأستاذ المسلم لعلم النفس الذي يطابق نفسه مع النموذج الغربي. فهو يقول للأب القلق الذي له طفل مدلل بأنه يجب أن يكون أكثر تساهلا خشية أن يصاب طفله المسكين باضطراب عصبي، ويجعل الأب يشعر بالذنب لإنزاله العقاب على طفله لعدم مراعاة الأدب مع أمه. وإذا اتبع الأب الشاعر بالذنب تلك النصيحة التي جاءت عن “خبير” وفقد الحدود بين التساهل والإفراط في التساهل، فلك أن تتصور أي نوع من الرجال سوف يصبح ذلك الصبي؟.. في الواقع أن بعض العلماء حتى في الغرب يعتبرون أن الإفراط في التساهل والافتقار إلى وجود قواعد محددة لضبط السلوك بين الأهالي الأوروبيين من الطبقات المتوسطة الحديثة، كنتيجة مباشرة أو غير مباشرة لعلم النفس الحديث، يعتبر مسئولا عن الأمراض النفسية والسلوك الجانح الذي يسود الآن بين الشباب.
وإنني دائما أقول لزملائي المتحمسين لعلم نفس الطفل الحديث، خاصة هؤلاء الذين يعيشون في البلدان الغربية والمجتمعات الإسلامية التي تميل إلى النزعة العصرية، إنكم إذا أردتم أن يعمد أطفالكم – عندما يصبحون أشخاصا بالغين – إلى وضع أحذيتهم على المنضدة أمام وجوهكم ويحادثونكم بالأسلوب الذي ترونه في الأفلام الأمريكية، وإذا أردتم منهم أن يضعوكم أنتم وأمهاتهم في مؤسسة للمسنين عندما تصبحون عبئا كبيرا كثير التذمر، حينئذ كونوا عبيدا لكتب علم نفس الطفل الأمريكي الحديث. ولكن إذا كنتم محافظين على آيات القرآن التي تربط بين عبادة الله والرحمة بالأبوين:
(وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا).
وإذا كنتم محافظين على قول النبي صلى الله عليه وسلم “الجنة تحت أقدام الأمهات”، حينئذ سوف يكون عليكم أن تراقبوا خطاكم. فإنكم قد تنزلقون إلى جحر ضب واسع بدون أن تعلموا. وفي الحقيقة أنه حتى إذا كان أبناء العالم النفساني لا يعاملونه بالأسلوب الذي ذكرته منذ لحظات، فإن أبناء أبنائه سوف يفعلون ذلك مع آبائهم. إن العادات قد تندثر بمرور الوقت، ولكن ذلك ليس بعذر للشخص لأن يجعل نفسه عاملا نشيطا يحث على اندثار التقاليد الإسلامية الحميدة.
إن بعضا من علماء النفس التربويين المسلمين في جحر ضب يدينون بالولاء الزائف لتلك العبارات الغامضة مثل الثقافة الجنسية، و”الروح الصحيحة للحياة الجامعية”. وقد أعلن البعض منهم تأييده الصريح للتعليم المختلط على مستوى التعليم الثانوي والجامعة كأسلوب وحيد للثقافة الجنسية والتخلص من “الكبت والعقد الجنسية” التي تؤدي إلى إصابة الشباب المسلم “بشلل نفسي”. إنهم يدعون أن العزل بين الجنسين في التعليم سوف يؤدي إلى جعل كل منهما أكثر ضعفا في مواجهة الإغراء وأنهم بأية حال سوف يجدون الأساليب والوسائل لملاقاة بعضهم البعض. ومن ثم فإن التعليم المختلط لا يؤدي إلى تربية الروح “الأخوية” بين الجنسين الذين يعيشون في روح جامعية حقيقية سامية فحسب، بل أنه أيضا سوف يقلل الاتصالات الجنسية غير المشروعة بينهم. وإن الشيء المؤسف هو أنه بسبب مركز علماء النفس التربويين هؤلاء، وبسبب فصاحتهم وإساءة استخدامهم للمصطلحات العلمية فإن الكثير من عامة الناس، حتى الذين يتجهون وجهة دينية، قد يقبلون تلك الاقتراحات كحقائق تربوية معترف بها في “المعامل العلمية” للرجل الأبيض. وبالطبع فإنه يوجد كثيرون آخرون سوف يقبلون تلك الأفكار لأغراض غير تربوية.
ما هي الثقافة الجنسية، إذا سمح لي بهذا السؤال، وما هي الأدلة التي لدينا بالنسبة لأهميتها المزعومة حتى في العالم الغربي؟.
إلى أي مدى نجح التعليم المختلط في الغرب وفي المجتمعات المسلمة ذات النزعة العصرية في الوفاء بالمطالب التي يقوم بعض التربويين المسلمين بترديدها وإلى أي مدى يتعارض ذلك المفهوم مع الإسلام؟.
ليس لدي الوقت أو الفراغ الكافي لمناقشة الإجابة على تلك الأسئلة بالتفصيل في هذه المقالة، ولكنه قد يكون من الهام أن نلاحظ أن اختلاف الأدب الحديث حول موضوع الثقافة الجنسية لعله أكبر خلاف في ميدان علم النفس التربوي والنظم المتعلقة به. وقد لا يتفق الكتاب المختلفون حتى حول تعريف محدد في هذا المجال أما بالنسبة لأهدافه وكيفية السعي وراءها فإن الإنسان سوف يجد نفسه وكأنه يقف في رمال متحركة. ولقد قال عالم مشهور منذ وقت قريب “يوجد سؤالان قد أثارا ضيقي دائما لأنني لم أستطع أن أقدم أي إجابات واضحة لهما، وهما: “ما هو الغرض من الثقافة الجنسية؟ وما هي الأدلة والحقائق التي لدينا بالنسبة لوجود أي أهمية للثقافة الجنسية؟”. وقد كتب مؤلف آخر لكتاب مشهور قائلا: “لقد كتب هراء حول موضوع الثقافة الجنسية أكثر مما كتب عن أي موضوع عام آخر. وبالرغم من تلك الكتابات، أو لعله بسببها بكيفية ما، فإن الاتجاهات الجنسية الأمريكية.. مشوشة تماما”.
وإذا كان هذا هو الحال في الغرب، فإن الاتجاه المؤيد من بعض علماء النفس التربويين وعلماء النفس المسلمين يعتبر اتجاها ضارا تماما. ومن الممكن فهم هذا الاتجاه لو أنهم كانوا يريدون – عن وعي – تقديم الثورة الجنسية الغربية إلى بلدانهم المسلمة ويستخدمون لذلك النظرية التربوية والنفسية كواجهة، ولكن إذا كان الأمر يقتصر على مجرد ترديد صدى تلك النظريات التي يقرءونها في الكتب الغربية. فإنهم سوف يجدون أنفسهم حقيقة في جحر الضب.
وإن النمط السلوكي الذي يعتبر أكثر خطرا لدي الكثيرين من علماء المسلمين هو الإصرار على الضلال العميق في جحور الضب بينما يكون علماء النفس الغربيون قد تخلوا عنها جزئيا أو كلية. ولعل هوة التحليل النفسي تعد أوضح وأخطر في مثل هذا الشأن. إن التحليل النفسي ليس مجرد مدرسة لعلاج الاضطرابات النفسية فإن نفوذ فرويد العالمي قد عبر حدود الطب الحديث وعلم النفس الإكلينيكي ليظهر بصماته الملموسة على العلوم الاجتماعية، والفلسفة، والدين، والفن والأدب. وقد صاغ أحد المؤرخين الأمريكيين تلك المسألة، فقال: “…لقد كان مذهب سيجموند فرويد من بين جميع المذاهب في أمريكا أكثرها تأثيرا وأهيمة بالطبع، وقد أدت زيارته في 1909 إلى حدوث زلزال في الرأي العام” ولا تزال آثار ذلك الزلزال تستطيع بإيقاعاتها القوية أن تزعزع أساس المذهب الإسلامي ذاته بين علمائنا المسلمين من الشباب.
إن الكثير من الأطباء النفسيين والعلماء النفسيين الإكلينيكيين المسلمين يبجلون التحليل النفسي ويستخدمون مفاهيمه ونظرياته في شرح جميع أنماط السلوك الإنساني الطبيعي والشاذ. وعندما تتحدث معهم تشعر وكأن تلك التعبيرات المرنة مثل “الجانب اللاشعوري من النفس” و”اللبيدو” أو “عقدة أوديب” بمثابة ظواهر مادية واقعية قابلة للقياس تمت صياغتها في أنابيب الاختبار، وليست مفاهيم غامضة غير قابلة للإثبات العلمي كما هي في الواقع.
ولقد أخبرني طبيب نفسي مسلم ورع ذات يوم أنه قد أبلغ أبوي طفل حاد الطباع في الثالثة من عمره كان يجلس دائما بطريقة مضطربة ويخدش منطقة الشرج بأظافره، بأن تصرف الطفل هذا كان نتيجة لمرحلة طبيعية في نموه الجنسي نظرا لأنه كان في الجزء الأخير من المرحلة الشرجية. وطبقا لنظرية فرويد للنمو الجنسي، فإنه من المفروض أن يشبع غرائز جنسية لبيدية، عن طريق احتفاظه أو طرده الإفراز من الشرج ويعطي فرويد أهمية كبيرة لتلك المرحلة ويشرح حتى سلوك الشخص البالغ في نطاق التجارب الطفولية في تلك المرحلة الشرجية. وهكذا فإن الشخص البالغ المتصف بالجشع والعناد والإفراط في النظام طبقا لفرويد قد كان شخصا ذا نشاط احتفاظي، فإنه كان يجد لذة في إمساك الإفراز رغما من مناشدة الأبوين؟ ولكنه مع ذلك قد ظهر أن ذلك الطفل الذي تحدثنا عنه كان يعاني من بعض الديدان الشرجية التي تدعو إلى الحكة في منطقة الشرج.
ويدهش الإنسان حين يجد من بين المعالجين النفسيين الممارسين المسلمين مثل هؤلاء المعالجين النفسيين المخلصين الذين يؤمنون بالتحليل النفسي.. لقد قرءوا فرويد بدقة وحفظوا بعض أقواله المترجمة ولكنهم مع ذلك لا يشعرون بأي صراع أو ذنب باعتبارهم مسلمين أتقياء. وإنني أشعر في بعض الأحيان وكأن هؤلاء العلماء قد جعلوا حياتهم العاطفية والعقلية في اتجاهين منفصلين، أو أنهم قد نجحوا في خلق نمط من الشخصيات المزدوجة غير الباثولوجية من الناحية الظاهرية. وإلا، فكيف نستطيع أن نشرح تحمسهم القوي لشخص يسخر صراحة من الدين ويضع الجنس كدافع رئيسي لجميع أشكال السلوك الإنساني..؟
ويتم تقديم بعض الاقتراحات والتفسيرات ذات الخطر البالغ إلى البالغين من المرضى، والتي يتناول البعض منها الجنس اللاأخلاقي بصراحة وذلك عن طريق المعالجين النفسيين المسلمين الممارسين الذين يبررونها من خلال نظرية فرويد، مثل الطاقة الجنسية اللاواعية، والعقد، والكبت وغير ذلك من الاصطلاحات المماثلة. وإن ما يحدث هو أن بعض هؤلاء المعالجين النفسيين يزيدون الشعور بالذنب في مرضاهم المسلمين بدلا من معالجتهم. فهم يزيدون معاناتهم بإثارة شكوكهم بالنسبة لصدق الإسلام في حل مشاكل البشرية.
وتوجد مجموعة ثالثة تندفع بعمق أكثر في هوة التحليل النفسي. وتلك تتكون من بعض المحللين النفسيين المسلمين المؤهلين الذين “طابقوا” أنفسهم تقريبا بأساتذتهم الأمريكيين والأوروبيين الذين قاموا بتحليلهم نفسيا خلال فترة تدريبهم. وهم لا يستخدمون التحليل في معالجة مرضاهم فحسب ولكنهم يعملون أيضا بتعصب على نشر نظريته الفلسفية وموقعه الفكري. وقد يكون من الجدير بنا أن نشير إلى واحد من هؤلاء الكتاب الذين تشتهر أعمالهم في التحليل النفسي في البلدان العربية.
يقول الأستاذ مصطفى زيور، المحلل النفسي المعروف، في تقديمه لكتاب الدكتور مليجي حول تطور الشعور الديني بأن المحاولات الأولى لفهم علم النفس الديني، بأسلوب علمي، كانت في حوالي نهاية القرن الماضي ومع ذلك فإن إسهام تلك الدراسات كان محدودا لأننا إذ أردنا فهم الظواهر الدينية فإننا يجب أن نبحث في أعماق العقل الإنساني. ويعني ذلك دراسة اللاوعي الإنساني… وهكذا فإنه كان من المستحيل للبشرية أن تكون قد عرفت تطور الشعور الديني قبل اكتشاف فرويد للتحليل النفسي.. وهو يستمر في شرحه للتأملات Speculations الفرويدية حول العلاقة بين الاضطرابات العصبية المفرطة والدين، تلك العلاقة التي استشهد بها بالفعل، ويستمر في ذكره لتلك النظريات غير العملية كحقائق ثابتة في “علم التحليل النفسي”. وهو يقول بوضوح “إن أسلوب التحليل النفسي يشتمل على جميع شروط البحث العلمي التجريبي. ولذلك فإن نتائجه تكون صحيحة وموثوقا بها مثل جميع الأعمال التجريبية”. ثم قام بعد ذلك بتلخيص نظرية فرويد التي تصف مفهوم الإنسان لله وتعلقه به بأنه مجرد سعي وراء وهم صورة الأب. ويواصل دكتور زيور كلمته كما يلي: “… إنه لذلك لا يوجد شك في أن التحليل النفسي يظهر مصادر المشاعر الدينية وتطور الشعور الديني في الإنسان بأوضح صورة. وإن الطفل يضع أباه في قالب مثالي ويراه كأقوى الناس وأكثرهم معرفة… ولكنه بإتمامه المرحلة الأوديبية المعروفة، واكتشافه نقاط ضعف أبيه فإنه لا يستطيع أن يفعل أي شيء إلا أن يضفي تلك الصفات مثل كمال المعرفة والقوة إلى كائن جديد أعلى، وهو الله”.
وكما هو معروف، فإن المرحلة الأوديبية التي اعتاد فرويد أن يشرح فيها و”يستقصى” كيفية توصل الإنسان إلى ابتداع الله والتي قام أحد المسلمين بترديدها، وهو دكتور مصطفى زيور، من المفروض أنها تتكون من مجموعة من الأفكار والمشاعر التي يغلب عليها اللاوعي والتي تتعلق برغبة الطفل في الامتلاك الجنسي للأب والأم من الجنس المغاير وتخلصه من الآخر الذي ينتمي إلى نفس جنسه. إن تلك العقدة طبقا لفرويد تعتبر عالمية وتؤثر على جميع الأطفال، وهي تنشأ فيما بين سن الثالثة والخامسة. إن الطفل الصغير يحب أمه بأسلوب جنسي طفولي ويريدها كلية له، ولكنه يخشى عقاب أبيه ومنافسته. ثم يتوصل إلى اكتشاف أن أخته الصغرى ليس لديها قضيب ويستنتج بالضرورة أنها كانت لديها نفس الدوافع الجنسية ولذلك عاقبها والدها بقطعه تاركا فقط بظر ناتئ صغير.. وإن البرهان الذي قدمه فرويد لهذه النظرية التي حازت على اسمها وأصلها من مجموعة الأساطير اليونانية قد جاء من التحليل النفسي الذي أجراه على نفسه والذي يدعي أنه قد استخرج منه ذكريات لرغبات جنسية طفولية طواها النسيان تتعلق بأمه عندما رآها ذات مرة وهي عارية. وقد جاء الدليل الوحيد الآخر من “المرضى المضجعين”، أي البراهين الإكلينيكية التي قام فرويد بتجميعها من خلال اعترافات مجموعة من مرضاه. وحتى هذا التاريخ، فإن التأييد الوحيد لذلك المبدأ يعتبر ذا طبيعة مماثلة قادت بعض علماء النفس للقول بأن الصراع الأوديبي لم يبتل به إلا شخص واحد فقط في العالم، وهذا الشخص هو سيجموند فرويد.
وإنه من المحزن حقيقة أن نرى العلماء المسلمين يسلمون بتلك النظرية ويستخدمونها لشرح كيفية نشأة الشعور الديني وعبادة الإنسان لله الرحمن الأعلى وإنه أيضا مما يثير القلق أن نرى مثل تلك المؤلفات متداولة تماما بين الطلبة الجامعيين العرب والذين قد يسلمون بكلماتها باعتبار أنها آتية من مرجع ذي شأن.
ولحسن الحظ، فإن قبضة التحليل النفسي القوية على الطب النفسي وعلم النفس الإكلينيكي قد بدأت في الاسترخاء السريع في العالم العربي. فقد قام علماء النفس التجريبيون والسكوكيون بثورة قوية ضده على أساس أنه مبني على مفاهيم غامضة من الصعب تحديدها، مثل “تركيز الطاقة النفسية”، و”اللبيدو” و “الهذا”. وهم يؤكدون أن الكثير من نظريات التحليل النفسي تعد مجرد تأملات ليس من الممكن إثباتها أو دحضها عن طريق الملاحظة ومن ثم لا تعد علمية. مثلا كيف تحدد بوضوح أن الطفل المولود حديثا من خلال المرحلة الفمية للتطور النفسي الجنسي يحصل على نوع من المتعة الجنسية من منطقة الفم “الحساسة جنسيا” أثناء قيامه بالرضاعة..؟ هل نسأل المولود: “هل تحصل على متعة حسية عندما تقوم بالرضاعة يا بني؟”.
إن الانتقاد الآخر لفرويد والذي يقوم على أساس قوي يأتي من علماء النفس العلميين وفحواه أنه قد أقام استنتاجاته على أساس عينة صغيرة من مرضاه مستخدما الملاحظة غير المراقبة وقد أدى ذلك إلى أن يوصف عمله بأي شيء فيما عدا أنه علمي.
وبالرغم من ذلك فإنه استخدم تلك الاستنتاجات وبالغ في تعميمها على السلوك الإنساني، مدعيا دائما عالمية نظرياته.. وهكذا فإنه ادعى صحة الاستنتاجات التي استخلصها من حفنة من الإناث المرضى النمساويات عند تطبيقها على القبائل البدائية في قلب أفريقيا أو عند تطبيقها على تاريخ الحياة والأعمال الأدبية والفنية لرجال عظماء ماتوا قبل ظهور التحليل النفسي بقرون. وقد صور جاهودا الأمر قائلا: “لعل أول وأكثر الاتهامات شيوعا هو أن النظرية (نظرية فرويد) غامضة تماما حتى إنها لا يمكن وضعها موضع الاختبار، وأنها تشرح كل شيء ومن ثم لا شيء”. وإن بعض علماء النفس يؤمنون الآن بأن فرويد، الذي كان طالبا متفوقا في العلوم الطبيعية لم يكن غير مدرك لطبيعة نظريته، ولكنه عمد إلى صياغة أفكاره بأسلوب يجعلها غير قابلة للاختبار ومن ثم تصبح نظريته محصنة ضد التكذيب. وإن ذلك الأمر في حد ذاته، يجعل التحليل النفسي غير علمي كما يؤكد فلاسفة العلوم.
إن في تلك النظرية الكثير من المنافذ التي تمكن المحلل من ادعاء أنه دائما على حق. إن الدافع اللاشعوري بصفة عامة والإجراءات الدفاعية بصفة خاصة تستخدم بمهارة للتلاعب في حقائق الأبحاث والناس بأسلوب يثبت أن النظرية معصومة من الخطأ. وببساطة، فإنه إذا قال المحلل إنك تشعر بشعور معين أو إنك مصاب بنوع من أنواع الشذوذ النفسي ووافقته أنت على ذلك، فإنه يكون حينئذ على صواب، ولكنك إذا ذكرت بصراحة أنك لست كذلك، ففي تلك الحالة سوف يدعي أن ذلك يمكن في اللاوعي: إن التكوين العكسي، وهو إجراء دفاعي، سوف يجعلك تنكر عن عمد أنك في الحقيقة تختزن ذلك في اللاوعي..
وقد كشف الباحثون في تاريخ علم النفس والتحليل النفسي وثائق هامة أيضا ووثيقة الصلة بموضوعنا من تاريخ حياة المتصلين بفرويد ومن رسائله إليهم، ومن دراسات تاريخية أخرى في هذا الميدان. ومن بين ذلك، ولعله أكثرها أهمية، الكتاب البارز لإيلنبرجر “اكتشاف اللاوعي”. وحتى وقت قريب، فإن أشد نقاد فرويد قسوة كانوا يصفونه بالأصالة ولكن تلك الدراسات قد أظهرت بدون شك أن الكثير من أفكاره، وحتى مصطلحاته يجب أن تنسب للآخرين. إذ إن الأفكار القيمة في نظرية فرويد والتي لم تثر مشاعر الاستياء تجاه التحليل النفسي قد كانت هي الأفكار التي اقتبسها فرويد من الآخرين.
ومما يعد هاما في هذا الصدد هو دراسة باكان القيمة التي أوضح فيها أن فرويد لم يستخدم مرضاه كمصدر رئيسي للبيانات السيكولوجية كما زعم. ولكنه استخدم الثقافة التلمودية اليهودية المبكرة، وإن لذلك الأمر بالطبع صلة خاصة بمناقشتنا حول جحر الضب كما صورها نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
ولعل تلك الدراسات الحديثة هي التي جعلت إيسنك يقول عن التحليل النفسي: “إن ما هو صحيح في تلك النظريات ليس بجديد وما هو جديد ليس صحيحا..”.
ومع ذلك فإن أقصى الضربات التي وجهت للتحليل النفسي قد جاءت بطريقة تدعو إلى السخرية من ميدان العلاج النفسي. لقد كان ذلك هو الميدان الذي شعر فيه فرويد بالطمأنينة وكان يستخدم ما حققه فيه من نجاح مزعوم كمبرر لتطبيق نظريته حتى في مجالات لا تتصل على الإطلاق بالعلاج، مثل الدين والفلسفة. وفي مقالة تحت عنوان “العصاب والتلبس الشيطاني” يقول فرويد: “إننا نسمع الانتقاد المألوف الذي يوجه للتحليل النفسي مرة أخرى بصفة أنه ينظر بطريقة معقدة وغير ملائمة إلى أبسط الأشياء، ويكتشف أسرارا ومشاكل غير موجودة في الواقع، ويبالغ في أتفه الأشياء ليساند استنتاجات شاذة بعيدة المنال..”.
وللدفاع ضد تلك الانتقادات المألوفة والمعقولة، لم يجد فرويد سندا آخر أفضل من النجاح المزعوم لنظريته في فهم وعلاج الأمراض العصبية. وهو يستمر في نفس المقالة فيقول:
“إن تبريري لذلك يكمن في نجاح أبحاثنا في طبيعة العصاب بصفة عامة. وإننا بكل تواضع، قد نجرؤ على القول بأنه حتى أكثر الناس تبلدا في الذهن من بين زملائنا ومعاصرينا قد ابتدءوا في إدراك عدم إمكانية التوصل إلى فهم الحالات العصابية دون مساندة التحليل النفسي.
وكما قال أودسيوس في فيلوكتات سوفكليس، فإنه “لا يمكن التوصل إلى طروادة إلا بتلك الأعمدة فقط”.
إنه يبدو الآن من عدد من الأبحاث المنظمة التي تتناول الفاعلية الحقيقية للتحليل النفسي كعلاج سيكولوجي أنه لم يمكن التوصل إلى طروادة، على الأقل ليس بالأسلوب الذي أكده فرويد عن “تواضع” وقد أقيمت دراسات منظمة أجري فيها التحليل النفسي على مجموعة من مرضى العصاب في المستشفيات وطبق عليهم العلاج النفسي الذي يميل تجاه التحليل النفسي، في حين أنه لم تحصل المجموعة الضابطة المماثلة تماما على أي علاج على الإطلاق عام أجريت المقارنة بينهما. وقد كانت النتيجة المروعة هي أن نسبة المرضى الذين تحسنوا في كل من المجموعتين كانت متساوية. وقد تم إعادة التجربة مع جنود يعانون من الانهيار العصبي، ومع أطفال يعانون من اضطرابات عاطفية، ومع بعض الجانحين. وقد تم التوصل إلى نفس النتيجة دائما. ولم يكن هناك اختلاف يحمل دلالة إحصائية على أن تأثير تلك الأبحاث، وظهور مدارس جديدة للعلاج النفسي ذات فعالية أكبر في العلاج، كما أنها تقدم تفسيرات بديلة حول الاضطرابات النفسية أكثر بساطة وأكثر تطابقا مع الأسلوب العلمي مثل علاج السلوك، كانت من بين الأسباب الرئيسية التي أدت إلى زعزعة التحليل النفسي عن مكانته.
وهكذا بينما نرى اليوم الكثير من علماء النفس، خاصة في بريطانيا وأوروبا، وقد انصرفوا عن التحليل النفسي، وبينما نشهد ظهور مدارس جديدة متنافسة وغير متعارضة مع الإسلام نسبيا، فإننا لا نزال نرى الكثير من علماء النفس في البلدان الإسلامية يحصنون أنفسهم في جحور الضب المنتمية لفرويد. وأن البعض منهم مثل دكتور زيور، قد سمح لنفسه بتفسير أنبل المشاعر الإنسانية، مثل العلاقة بين الأطفال والآباء، وأعظم هبة منحها الله للمسلمين، وهي الإيمان به، بلغة عقدة أوديب وخوف الصبية الصغار من أن يقوم آباؤهم باقتطاع قضيبهم.
إنني آمل أن أكون قد أوضحت غايتي وهي أن بعض علماء النفس المسلمين يصرون بشكل قاطع على التطفل في جحور الضب التي تخلى عنها علماء النفس الغربيون جزئيا وكليا.
والآن وبعد أن ناقشت بعض التهديدات الحقيقية والكامنة لعلم النفس الغربي الحديث وأثرها على المذهب الإسلامي، وبعد أن ذكرت بعض الأمثلة لترديد المسلمين للممارسات الغربية بدون تكييفها وتقليدهم لنموذج “العالم النفسي الغربي”، فإنني أشعر أنه يجب أن لا ألقي القلم قبل أن أقدم إجاباتي غير النهائية لسؤالين يتسمان بالصعوبة.. أولهما: ما موقف علماء النفس المسلمين القلة الذين يوجدون خارج جحر الضب تجاه علم النفس الغربي الحديث؟.. وثانيهما: ما الذي يستطيعون أن يفعلوه بالنسبة للأغلبية الساحقة من زملائهم الذين كرسوا أنفسهم لعلم النفس الغربي؟.
وقد قال معلم تربوي سعودي ذات يوم بعد محاضرة عامة ألقاها الأستاذ محمد قطب، المفكر المصري المسلم المعروف، إننا كمسلمين، لسنا في حاجة إلى علم النفس الحديث. وإن ذلك الموضوع، بجميع فروعه، يعد كمجموعة من النظريات والممارسات التي تعتبر نتاج المدنية الغربية الأجنبية الكافرة. وقد حث بقوة على إلغائه من مناهج دراسة تدريب المعلمين في السعودية إلى أن يحين الوقت عندما يضع العلماء المسلمون كتبا جديدة في علم النفس قائمة على أساس المذهب الإسلامي.
وبالنسبة للسؤال الأول، هل يجب أن يتخذ عالم النفس المسلم الممارس ذلك الموقف؟.. لو أنه فعل ذلك، فإنه في اعتقادي يكون كمن يلقي بمياه قذرة ويلقي معها بعدد من الأطفال الأصحاء، وكمن يلقي بجواهر قيمة مع الكثير من النفاية.
إن علم النفس الحديث لا يعد “غربيا” كلية.. إنه بصفة عامة يتكون من التحارب المجمعة التي أجراها أشخاص حول أشخاص آخرين. وقد أخضع علم النفس الحديث بعضا من تلك التجارب لأساليب.. للبحث بقية.