أبحاث

حول ظاهرة المؤتمرات الإسلامية

العدد 15

تمهيد:

لعل أخطر ما يواجه أمة من الأمم أو حضارة من الحضارات في مرحلة النشأة والتكوين أو “الولادة الجديدة” التي تسمى “بالنهضة Renaissance” هو التحديد الواضح السليم لتلك النقطة التي تبدأ منها مسيرتها.

فالبداية الصحيحة لطريقة التطور والتحضر تمثل أكبر عبء يجب أن يضطلع به هؤلاء الذين يتصدون لقيادة الأمة والانتقال بها من السكون إلى الحركة…

ومن سهولة التبعية إلى القدرة على تحمل المسؤولية.. ومن الفوضى والتخبط إلى النظام والتخطيط الواعي الشامل.

وليس تحديد نقطة الولادة الجديدة لأمة من الأمم بالأمر السهل الذي تصلح معه تلك الكلمات الشاعرية أو الارتجالية أو الخطابية الحماسية.. فإن قضايا التاريخ لا تخضع لهذا كله.. بل هي خاضعة لموازين وشروط دقيقة كل الدقة وخطيرة كل الخطورة.

وبدون أن نعتقد المصطلحات التي نستعملها والمضامين التي يتطلب الأمر تقديمها، فإننا نضع هذه الشروط كأساسيات أبجدية بتحتم الوعي بها عند البحث في نقطة البداية لأمة من الأمم:

(أ) الوعي الكامل بسنن الله الكونية الثابتة.

(ب) استيعاب روح العصر الذي تبدأ الأمة منه المسيرة وتحديد الموقف الملائم من قضايا العصر.

(جـ) الوعي بالتكوين النفسي والتاريخي والفكري للأمة، أو ما يسمى بمكان الأمة والمركز الحضاري الذي يضعها تاريخها وتراثها فيه.

(د) وفوق ذلك وقبله لا بد من الوعي بتلك “العقيدة الدافعة” التي يمكنها أن تربط بين العناصر الثلاثة السابقة.. ويمكنا في الوقت نفسه أن تضمن أكبر ولاء جماهيري يقدم أقصى ما يمكنه من عطاء، سواء في جانب الالتزام بالمبادئ، أو في العطاء المادي والثقافي الذي يعتبر انعكاسا للجانب العقائدي والأخلاقي.

إنني موقن بأن هذه المقدمة ضرورية عند الحديث عن أية قضية من قضايا التطور. وهي ضرورة تنسحب على كل مظهر من مظاهر العلاج لأزمة التطور الحضاري في الوطن العربي أو الأمة الإسلامية.

وبدون وعي الموضوعي بمضمونه هذه المقدمة – فإن ولوج باب الحوار حول أية صورة من صور التخلف أو التقدم في قضية الحضارة سيبدو عملا مبتور الجذور.. عفوي البداية.. جدلي الوسيلة والنهاية.. لا يصل إلى معالم واضحة منسجمة سليمة.

وانطلاقا من التصور الواعي بالحقائق السالفة الذكر، أتناول – في علمية محايدة – ظاهرة المؤتمرات الإسلامية.. تلك التي تحتل جزءا هاما من نشاط وجهود المتصدرين لتحضير الأمة الإسلامية، وتحريك مسيرتها في الاتجاه المنسجم مع شروط الحضارة ومعطيات التاريخ.

وفي البداية أطرح هذين السؤالين:

ما موقع المؤتمرات الإسلامية في قضية إنهاض الأمة؟ وما أسباب قصورها.

وما الطريق – في ظل الواقع الإسلامي – لكي تؤدي هذه المؤتمرات دورا إيجابيا؟

الموقع التأثيري للمؤتمرات الإسلامية وأسباب قصورها؟

ونبدأ بالإجابة على السؤال الأول – من وجهة نظرنا – بإجراء مقارنة سريعة بين هذه المؤتمرات الإسلامية وبين المؤتمرات التي قام بها – ويقوم بها اليهود منذ قرروا – في ظل التخوم التي تفصل بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر للهجرة – أن ينشئوا لهم وطنا في فلسطين…

لقد كان هناك هدف واضح محدد، يخضع “لبروتوكلات حكماء صيهون” ويسعى إلى تحيق حلم بني إسرائيل في احتلال وطن له قداسة دينية معينة عندهم وله امتداد – من وجهة نظرهم – في تاريخهم وأعماقهم، وهو – في النهاية – يحقق كل أهدافهم المنسابة في الماضي والمستقبل!!

ولكي يحقق اليهود هذا الحلم فقد عقدوا سلسلة من المؤتمرات على مستويات مختلفة. وانطلاقا منها نجحوا في تحقيق تكل أغراضهم بدءا من إنشاء الجامعة العبرية وانتهاء بما وصلوا إليه من سيطرة على فلسطين، وعلى أجزاء أخرى من الوطن العربي، فضلا عما يحلمون به على المدى البعيد؟؟

ونحن لن نتحدث عن مؤتمر بال المنعقد في سويسرا سنة 1898م، فليس هذا المؤتمر الذي اشتهر أمره إلا حلقة في سلسلة طويلة من المؤتمرات الصهيونية!!

لقد عقد المؤتمر الصهيوني العالمي الأول يعد أن نشر (تيودور هرتزل) كتابه المعروف – الدولة الصهيونية – في برلين 1896م.

ومنذ ذلك الحين والمؤتمرات الصهيونية تتوالى مرة أو مرتين في العام. حتى بلغ عددها في سنة 1939 (سنة قيام الحرب العالمية الثانية) واحدا وعشرين مؤتمرا. لم تنقطع خلالها المؤتمرات إلا في سنوات الحروب. وحين توجد ظروف “استراتيجية” توجب هذا الانقطاع، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا العدد من المؤتمرات كان يسير بصورة رتيبة منظمة، وهو غير تلك المؤتمرات التي كانت تعرف بالمؤتمرات الصهيونية العالمية التي كانت كثيرا ما تتخلل هذه المؤتمرات المنتظمة لتنظر في أمر مصيري تفرضه الأوضاع التي تؤثر على مسار الحركة الصهيونية وآمالها في الاستيلاء على فلسطين!!

والجدير بالتأمل أن هذه المؤتمرات كانت تعقد في ظل اعتبارات محدودة:

– فهناك الهدف الواضح المحدد (حتى وإن كان هناك اختلاف على الوسائل).

– وهناك الإصرار – بالمال والنفس – على تنفيذ هذا الهدف.

– وهناك مشكلات محدودة عاجلة تتطلب حلولا قريبة عاجلة لا تنفصل عن الهدف البعيد.

– وهناك وعي بتقلب الظروف العالمية واستغلال لهذا التقلب.

– وهناك حشد لكل الإمكانات، وتخطيط منظم لاستغلالها.

– وهناك تقويم للمؤتمرات الماضية، ووصل لها بالمؤتمرات اللاحقة.

* * *

إنه ليخيل إلى أن مدلول مصطلح “مؤتمر” يتطور، تبعا لتطور مستوى إرادة الأمة، ووعيها الحضاري.. ففي ظل الإرادة الخامدة المبعثرة المنشئة، تصبح كلمة “مؤتمر”.. مجرد مظهر متهافت، قوى الدلالة على المستوى الخامل المنهار للأمة.. أما إذا كانت الإرادة قوة وإيجابية فإن المؤتمرات قد تسهم في رفعها إلى المستوى المطلوب.

وإن الفرق بين المؤتمرات التي تعقدها الأمم القوية والمؤتمرات التي تعقدها الأمم النامية أو المتخلفة لينبع من اختلاف هذه الموضوعية…

لقد عقدت على امتداد الساحة الإسلامية خلال القرن الرابع عشر للهجرة مؤتمرات تربو عدة مرات على تلك المؤتمرات التي عقدها اليهود خلال الفترة نفسها:

لكن النتيجة كانت مختلفة تماما كما هو معلوم، بحيث لا يبح تجنيا كبيرا: الحكم بأن موقع هذه المؤتمرات في قضية إنهاض الأمة موقع متأخر جدا فما الأسباب الحقيقة لهذا يا ترى؟؟

إن أبرز الأسباب – بالطبع – هي تلك التي ذكرناها حول ضعف الإرادة والوعي وحول غموض الأهداف وافتقار التنظيم والتخطيط البعيد المدى وفهم الأخطاء المحيطة والتقلبات العاجلة.

لكن يبقى – مع ذلك كله – أن هناك أسبابا أخرى اكبر مباشرة وتأثيرا.

– فمن هذه الأسباب أن هذه المؤتمرات تخضع في توجيهها الأعلى للدولة الداعية!!!

– بل من هذه الأسباب أن هذه المؤتمرات تخضع في تمويلها لهذه الدولة أو تلك (يلاحظ هنا الأهمية الكبرى للمؤتمر الإسلامي الحر.. مؤتمر الحج).

– ومن هذه الأسباب أن هذه المؤتمرات في أغلبها مؤتمرات جزئية غير مرتبطة بخطة كلية.. فهذا مؤتمر للسيرة.. وذلك للفقه.. وثالث للاقتصاد.. ورابع للمسجد.. وخامس للتقارب المسيحي الإسلامي.. وسادس بلا هوية واضحة ولا جدول أعمال واضح وإنما أقيم لأمر ما.. وليقال فيه ما تجود به القرائح.. وهلم جرا..

– ومن أسباب قصور المؤتمرات أيضا انفكاك الصلة بين بعضها البعض وعدم اهتمامها بالتوصيات السابقة للمؤتمرات الإسلامية، ولا سيما المشابهة.

– ومن الأسباب كذلك أن هذه المؤتمرات غير ملزمة من ناحية قراراتها وتوصياتها لا للحكومات ولا للمؤسسات ذات الشأن.. وهذا – للأسف الشديد – عكس الأسلوب المتبع في مؤتمرات أعدائنا.

وإني لأذكر – على سبيل المقابلة – فقرة واحدة صدرت عن المؤتمر الدولي السادس للحزب الشيوعي المنعقد في عام 1928م حول الموقف الشيوعي من الدين، محددة أن “الحرب على الدين – أفيون الشعوب – ينبغي تشغل مكانا هاما بين أعمال الثورة الثقافية.. ويلزم أن تستمر هذه الحرب بإصرار وبطريقة جديدة منظمة”.

هذه الفقرة حركت جيوشا من عملاء الثورة الثقافية لاستعمال أبشع الوسائل لتحطيم الدين والمتدينين.. حتى بلغت في ذلك غايتها.

فهل ثمة قرار خرج عن مؤتمر إسلامي – على أي مستوى – حرك الجماهير المؤمنة على هذا النحو؟؟

– ومن أسباب القصور أيضا – جنوح هذه المؤتمرات إلى لون من الإسراف الإنشائي البغيض، مما يجعل توصياتها مجرد أحلام ومثاليات لا ترتبط بالواقع.. وحسبنا أن نعلم أن مؤتمرا أخيرا قد انبثقت عنه توصيات تقترب من الثمانين..

– ومن أهم أسباب عجز هذه المؤتمرات عن تحقيق الفعالية المطلوبة – هو بناؤها الداخلي نفسه.. أعضاؤها.

فالبنية الداخلية للمؤتمرات الإسلامية الفكرية تتكون غالبا من أعضاء تنفيذيين، قلما يصلون إلى درجة القدرة على قرض آرائهم.. بل كثيرا ما تتكون هذه البنية من أعضاء تختلف تصوراتهم للإسلام بمقدار الاختلاف “الأيديولوجي” والسياسي بين نظم أوطانهم.

وحتى مع افتراض وحدة التصور فإن إمكانية تطبيقهم لما يرون على مستوى مجتمعاتهم – المغزوة فكريا – أمر فيه نظر.

– لقد نظرت إلى قائمة المدعوين لمؤتمر ما.. فوجدتها من الكثرة والتباين بحيث أدركت أن من الصعب جدا أن يقيم هؤلاء تخطيطا لعمل إسلامي موضوعي مركز في أي اتجاه من اتجاهات الإصلاح..

– وفي الآونة الأخيرة أصدرت حكومة لبلد إسلامي كبير قرار بأن تكون الدعوات الإسلامية (وغير الإسلامية للتمويه) عن طريقها..

ومعنى ذلك بوضوح أن هؤلاء الذين سيرشحهم هذه الحكومة لحضور المؤتمرات الإسلامية سيمثلون هذه الحكومة أكثر من تمثيلهم للفكر الإسلامية.

إنني هنا أريد أن ألمح إلى حقيقة هامة…

فإنه على الرغم من اختلاف اللغات والأوطان لليهود، فقد نجحوا في تحقيق أهدافهم لأنهم ينطلقون من “أيديولوجية” واحدة، وشعور واحد، وأمل واحد.

ومع الوعي بكثير من التحفظات يمكن القول بأن الشيوعيين قد نجحوا منذ سنة 1917 في تحقيق تقدم عالمي.. لنفس الأسباب التي نجح من أجلها اليهود. حتى وإن وضحت وهميتها فيما بعد.

أما التجمعات الأخرى التي تنتظم العالم الآن.. دون أن يتوفر لها أساس “أيديولوجي” وشعوري – فقد ثبت فشلها.. وجامعة الدول العربية.. ومنظمة الوحدة الإفريقية.. وكتلة عدم الانحياز.. كلها من الأمثلة الدالة على ذلك.

وبالتالي فما لم يتوافر للمؤتمرات الإسلامية بكل وضوح “الأيديولوجية الحركية” والشعور والواحد.. والأمل الواحد – فإن مصيرها سيكون كمصير المؤتمرات التي تعقدها المنظمات السالفة الذكر..

وإن الانتماء الرسمي للإسلامي، أو للمنظمات الإسلامية، أو للعلوم الإسلامية – ليس كافيا لتوفير هذه الثلاثية الضرورية: العقيدة، والوجدان، والأمل والمصير.

* * *

إن هذه المؤتمرات – في ظل وضعيتها الراهنة – تفقد كثرا من جدواها، وتحتل بالتالي موقعا متأخرا في قضية إنهاض الأمة – كما ذكرنا.

ولكي تحتل هذه المؤتمرات موقعا حيويا يجب أن تخضع لتقويم جديد، ولرؤية جديدة تخلصها من كثر مما يعوق عطاءها.

وكما رأينا من مسرة اليهود خلال هذا القرن، فإن المؤتمرات يمكن أن تتحول إلى أداة قوية لو تخلصت من هذه المعوقات، ولو انطلقت حرة خالصة تبحث عن علاج لأزمة التطور الحضاري للأمة الإسلامية في مجالات المرض المختلفة…

موقف المسلم من المؤتمرات:

سنعالج بإذن الله في الصفحات التالية، ما يتعلق بالمؤتمرات الإسلامية في مستوياتها بالمختلفة، مركزين على المؤتمرات الفكرية.. ومقدمين معالم طريق جديد – من وجهة نظرنا – للمؤتمرات الإسلامية. أي أن الصفحات التالية سوف تحمل الإجابة على السؤال الثاني الذي طرحناه، وهو: – “ما الطري – في الواقع الإسلامي – لكي تؤدي هذه المؤتمرات دورا إيجابيا؟..”.

لكننا – قبل ذلك – نجد أنفسنا مضطرين للإجابة عن سؤال آخر يرتبط بهذا السؤال الأساسي، ويمد له.. وهو: “ما موقف المسلم – في ظل الواقع الإسلامي بكل ما يحمله هذا الواقع من ملامح – تجاه هذه المؤتمرات؟؟”..

وواضح – بقليل من التمعن – أن البناء الداخلي للسؤال يوحي بأن الواقع الإسلامي ينتمي إلى تلك لحالة التي أطلقنا عليها حالة “الإرادة الخامدة المبعثرة” وبالتالي فهذا الواقع غير قابل للعطاء الحقيقي في ظل تركيبه التلفيقي غير المنسجم.

– لكن هل يعني ذلك أن يعطل المسلم دولاب كل حركة ثقافية أو اجتماعية إصلاحية أو شبه إصلاحية (كالمؤتمرات مثلا) وبالتالي يقف سلبيا منزويا.. حتى يتغير تركيب هذا الواقع الإسلامي وفق الأسس المنسجمة مع الإرادة المبدعة للحضارة؟..

ألا يعني ذلك أن المسلم قد غرق في وحل العلاقة الجدلية التي تربط البيضة بالدجاجة؟ أو إلى ذلك الوحل الآخر الذي تردى فيه هؤلاء الذين يسقطون إقامة الصلاة حتى يقول المجتمع الإسلامي الموافق لتصوراتهم؟؟..

– إن القضية تحتاج من المسلم أن يتساءل من زاوية ثالثة: ألا يمكن أن تكون هذه الحركات شبه الإصلاحية – ومنها المؤتمرات – مجرد بدائل للعلاج الحقيقي الجذري، تمنحها أبنية فوقية ترفض أن تتعاطى مجتمعاتها العلاج الحقيقي للداء الخبيث.. وتعمد إلى بعض المسكنات والمهدئات؟

– وإن التاريخ لقادر – ولا سيما المعاصر – على إسعافنا بنماذج من تلك البدائل التي قدمتها الأبنية الفوقية للشعوب الإسلامية، كلما أوشكت هذه الشعوب – في بعض ساعات العسرة – أن تمسك بخيط العلاج الحقيق المنقذ لها من ورطتها الحضارية…

والطرق الصوفية التي لعبت دورا خطيرا في الجزائر قبل الاستقلال، وفي مصر إبان الحكم الديكتاتوري الانقلابي – أبرز دليل على ذلك…؟

والأجهزة الإسلامية “الاسمية” التي كان يرعاها الاستعمار، أو ترعاها الحكومات “الاشتراكية” دليل آخر يقدم في هذا السبيل.

* * *

إنها في الحقيقة معادلة صعبة يواجهها الإنسان المسلم في هذا العصر!!!

ومع ذلك، فطبيعة الإسلام وتجربته التاريخية الحية يقدمان للإنسان المسلم الزاد الكافي للسياحة في كل البحار الصعبة.

وفي هذا الموقف يقدم التصور الإسلامي ثلاثة خيوط لا بد أن يمسك بها المسلم في آن واحد:

أولا: إن الإنسان المسلم – من حيث جذوره الإسلامي – يجب أن يتعامل مع الكون والتاريخ على أساس الإسلامية المتكاملة وحدها.. وبالتالي، فهو مطالب بأن يدفع بلا ملل أو ترقب للنتائج السريعة، عجلة الحضارة الإنسانية في اتجاه سنن الله الكونية التي تمثل في عطائها الأخير قيم الحق والخير والجمال… بحيث يمكن أن تجد خلية الحضارة الإسلامية مهادها وتربتها الصالحة لميلاد سليم…

ثانيا: والإنسان المسلم، إذ يحرك عجلة التاريخ بلا يأس في هذا الاتجاه الأساسي، عليه كذلك أن يقلق مضجع الباطل، وأن يرشقه بما تجود به كنانته من سهام.. في ظل الظروف المتاحة..

وبهذا المنظار يقتحم الإنسان المسلم كل المجالات، سواء أكانت مؤتمرات جزئية، أو ترقيعات لبعض الأوضاع، كقضية إعادة الإنسان المسلم إلى نظافته في بعض البلدان، وكقضية تحريم الخمور، أو تطبيق الحدود، أو “قانون من أين لك هذا” – أي مشروعية الثروة – أو التصنيع، أو إحياء رسالة المسجد في بعض البلدان الأخرى.

إن هذه الإصلاحات – في واقع الأمر – مجرد أجزاء ترقيعية في تصور ووعي المسلم، وهي لن تؤتي ثمارها إلا في ظل الإسلامية المتكاملة.. هذا حق.

ومن الحق الذي ينضم إلى هذا التصور كذلك أن الإنسان المسلم يعي أن “ميلاد حضارة” لا يمكن أن يخرج من حلقة توصيات أو قرارات أو شعارات.. وإنما يخرج من محضن الحضارة الوحيد الذي يتشكل من عناصر أبرزها وأقواها: “إن الله لا يغر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).. أي عنصر إطلاق الإرادة من إسار الخمول والتشتت والاستسلام.

كل هذا حق في التصور الإسلامي.

لكن من الحق كذلك، ضرورة تطبيق هذا الحديث الشريف الصحيح: “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده.. فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه.. وذلك أضعف الإيمان..”.

فهذه مستويات مرحلية للتغير معترف بها كذلك، وهي منسجمة – على المستوى البعيد – مع التغير الحضاري الكلي المنشود، ذلك الذي يمثل البداية الصحيحة والوحيدة.

ثالثا: وهذا الإنسان المسلم – مع هذا الوعي بالحقيقة التاريخية الكبرى، ومع الإسهام في التغير المرحلي – عليه كذلك إسقاط كل البدائل المطروحة وإجهاضها..

ويكون ذلك عن طريق الإصرار على التمسك بالحقيقة الكبرى وبالجذور الحضارية، وبتحويل هذه البدائل إلى فرص لصالح مبادئه وتصوره.. ينفذ منها بأكبر قدر ممكن إلى خدمة أهدافه..

فإذا راحت دولة إسلامية – مثلا – تعقد مؤتمرا إسلاميا بمناسبة “قرب الانتخابات” كي تكسب أصوات الدهماء، فلا ضير من حضور الإنسان المسلم هذا المؤتمر، والعمل على توجيهه.. بل إن في الإمكان توجيهه ضد عملية التمويه نفسيها..؟

والأمر نفسه إذا عقدت دولة أبرز معالم حكمها تدمير قوانين الأحوال الشخصية والإسلامية والشرعية كلها “أسبوعا” للفقه فإن على المسلم – أيضا أن يكون الكيس الفطن القادر على توجيه هذه الفرصة ضد أعداء الشريعة الإسلامية، حتى ولو كانوا الداعين للمؤتمر..

* * *

ن هذه الخطوط الثلاثة سالفة الذكر تدلنا على طبيعة الأسلوب الذي يتعامل به الإنسان المسلم مع ما يجرى الآن من أنشطة في العالم الإسلامي كله. ومنها المؤتمرات الإسلامية، بيت القصيد في هذا الحديث.

* * *

المؤثرات الإسلامية والمؤتمرات المشبوهة

(تقويم وتوجيه)

ونعود للسؤال الأساسي الذي لا يزال مطروحا:

– ما الطريق لكي تحقق هذه المؤتمرات دورا إيجابيا في ظل الواقع الذي ألمعنا سلفا؟

إننا هنا نجد أنفسنا مضطرين لتصنيف هذه المؤتمرات وفق مستوياتها المختلفة، بادئين ينفي نوع من المؤتمرات، نراه خارجا عن دائرة المؤتمرات الإسلامية، ويمكن أن نطلق عليها: “المؤتمر المشبوهة”..

ثم – بعد هذا النفي – نعرج على دراسة المؤتمرات الإسلامية بمستوياتها المختلفة.

أولا: المؤتمرات المشبوهة

تتبنى أحيانا جهات غير إسلامية أو إسلامية موجهة توجيها غير إسلامي عقد مؤتمرات ذات طابع فكري إسلامي.

وهذه المؤتمرات بعد لها إعداد جيد، وتتوافر لها إمكانات كبيرة. ويخطط لها تخطيط غير عادي، وهي تنفرد عموما بمميزات خاصة:

– فهي تحدد سلفا أهدافا استراتيجية.

– وهي تمول من جهات غير إسلامية.

– وهي تسعى إلى توجيه الأفكار في العالم الإسلامي عن طريق إثارة مشكلات بعينها.

– وتسعى إلى استكشاف الأفكار التي تهب في العالم الإسلامي، والتي قد تحرك تيارات عقدية أو سياسية.

– وهي تدعو – من العالم الإسلامي – أناسا بعينهم أو هيئات بعينها، لكي تصل إلى غرضها بيسر.

ونحن لن نقف عندما عرف باسم “مهرجان لندن” (1396 هـ)، والشخصيات التي خططت له وقادته بذكاء شديد من أمثال “سير هارولد بيلي” – سفير سابق لبريطانيا لدي السعودية وشخصية سياسية معروفة -، و”لورد كارادون” – شخصية سياسية دبلوماسية تقلبت في مناصب سياسية خطيرة -، و”سير أنتوني ناتنغ” – وزير خارجية سابق لبريطانيا -، إلى آخر هذا الطراز من الشخصيات.

قلت.. إني لن أقف عند هذا المهرجان لأن اقتناعي الشخصي أن هذا المهرجان مشروع سياحي تجاري أكثر منه أي شيء آخر… ومثله – بالتالي – ليس مناط بحثنا..

وحسب أن أقف وقفة وجيزة عندما يسمى بندوات الحوار الإسلامي المسيحي، وذلك لثقتي التامة في أنها تندرج تحت قائمة المؤتمرات المشبوهة، لأنها على الأقل لا تحترم توصياتها من الجانب المسيحي من الناحية العملية، ولأنها كذلك حوار بين الأقوياء والضعفاء، ولأنها أيضا لم تبرز إلا في ظروف معينة.. يقصد الإسهام في تحقيق أهداف معينة.

وأمامي الآن وأنا أكتب هذه السطور التوصيات الأربع والعشرون المنبثقة عن آخر ندوة عقدت للحوار الإسلامي المسيحي في مدينة طرابلس بليبيا، في الفترة الواقعة ما بين الأول والسادس من شهر صفر عام 1386 هـ.

وإن النظرة الفاحصة في هذه التوصيات لتكشف عن استغلال الجانب المسيحي لها أكبر استغلال – بغية ضرب التصورات الإسلامية الصحيحة في الصميم.

– فالتوصيات الثماني الأول – في رأيي – هي لصالح المسيحيين؛ لأنها تخلط في التصور الاعتقادي بين المسلمين والمسيحيين على قدر سواء، مع أن هذا غير صحيح… وفيها أيضا تكتيل للجانب الإسلامي ضد قوى معينة لخدمة الأهداف الاستعمارية وحدها.. ولن يصيب الجانب الإسلامي منها أي خير.

– والحقوق الإنسانية الإسلامية ضائعة في زحمة هذه التوصيات الكثيرة، ولم ترد إلا إشارة مائعة عن شعب فلسطين المسحوق.

– وهناك عدة توصيات تسوى بين المسيحية والإسلام في كثير من القضايا التي لم تهتم بها المسيحية، بل كانت – تاريخيا – من أكبر العيوب المأخوذة عليها، كموقفها من العلم، والتصور الكوني، والتنظيم الحياتي.

– وهناك عدة توصيات تسوي بين المسيحية والإسلام في كثير من القضايا التي لم تهتم بها المسيحية، بل كانت – تاريخيا – من أكبر العيوب المأخوذة عليها، كموقفها من العلم، والتصور الكوني، والتنظيم الحياتي.

– وهناك دعوة مسيحية للمسلمين بأن يعيدوا النظر في فهم الإنجيل.

– وهناك تضليل متعمد في التوصيتين رقم 18، 20 فالأولى تجعل الحرب اللبنانية حربا غير دينية، والثانية تفرق بين اليهودية والصهيونية بنفس المنظار السياسي الذي يخدم اليهود ومصالحهم.

وبنفس الإيجاز أتناول نموذجا آخر للمؤتمر التي تظللها غيوم الشك، وهو “المؤتمر الدولي عن الإسلام وباكستان وإيران ودول الخليج” ومن خلال الرصد للقضايا التي عولجت وكتابها سيتضح لنا الانتماء “الاستراتيجي” لهذا المؤتمر والقائمين عليه.

– فمن الموضوعات التي عولجت: نهضة الإسلام بمنظور عالمي للدكتور “رالف بريبانتي” أستاذ العلوم السياسة في جامعة ديوك.

– ومن الموضوعات: “ما يواجه الإسلام من مشكلات في لبنان كدولة ذات نسبة كبيرة من السكان غير المسلمين” للدكتور حسن صعب.

– ومن الموضوعات: “التغيير في أنماط وأشكال الفترة في جنوب آسيا منذ عام 1971 وآثارها على العالم الإسلامي” لغلام وحيد شدوري – أستاذ العلوم السياسية ومدير الدراسات الدولية في جامعة كارولينا الشمالية.

فهذه الموضوعات وغيرها مما يخدم قضايا “إستراتيجية غربية” أكثر مما يخدم العالم الإسلامي أو الفكر الإسلامي.

ومن هنا فلم يكن غريبا أن تنفق على هذا المؤتمر وزارة الخارجية الأمريكية!!

ولا يجوز أن يعمينا عن الطبيعة الحقيقية لأمثال هذه المؤتمرات ما تتشح به من أردية المنهج العلمي.. أو وجود بعض عناصر إسلامية فيها.. فهذا داخل في إطار السياسة الاستعمارية لتمويه حقيقة الصراع الفكري.

ثانيا: المؤتمرات الإسلامية:

(أ) مؤتمرات القمة:

فهناك مؤتمرات على مستوى القمة (الملوك والرؤساء) وهذه المؤتمرات لا مجال لتفصيل الحديث عنها في هذه الصفحات..

ومع أن مؤتمرين إسلاميين فقط قد عقدا على هذا المستوى خلال العصر الحديث – فإن الأمل كبير في أن تستمر مسيرة مؤتمرات القمة الإسلامية، بما ينبثق عنها من مؤتمرات وزارة الخارجية، أو المالية.

لكن المرجو كذلك أن تكون هذه المؤتمرات دورية على المستويين، وأن لا يبقى انعقادها خاضعا لظروف طارئة…

فمن المعروف أن مؤتمر القمة الإسلامي الأول “مؤتمر الرباط” – الذي عقد في سبتمبر 1969م – على أثر إحراق إسرائيل للمسجد الأقصى – كان رد فعل لهذا الاستفزاز اليهودي للمشاعر الإسلامية، وبالتالي، فإنه لم يسبقه إعداد مناسب أو دراسات كافية، ولم يكن لدي المؤتمرين جدول أعمال محدد، اللهم إلا قضية القدس.

ولم ينته هذا المؤتمر – نتيجة هذا – إلى إصدار أية قرارات، وإنما تركزت قيمته في أنه إعلان عن منعطف جديد.. هي سياسة التضامن الإسلامي التي غرس بذرتها شهيد الإسلام “الفيصل” رحمه الله رحمة واسعة، لكن مؤتمرات أربعة على مستوى وزراء الخارجية قد نلت هذا المؤتمر: (جدة 1970م، وكوالالامبور 1971م، وجدة – مرة ثانية 1972م، وبنغازي 1973م) – فأعطت هذه المؤتمرات الأربعة قيمة جديدة لمؤتمر الرباط، بالإضافة إلى نتيجة تنظيمية أخرى قد يكون لها تأثير في المستقبل الإسلامي، وهي إنشاء ما يعرف بمنظمة المؤتمر الإسلامي التي كانت – أيضا – إشارة جديدة لمنعطف التضامن الإسلامي العظيم.

أما مؤتمر لاهور (30 محرم 1394 هـ – 22 فبراير 1974م) فقد توفرت له ظروف صالحة لم تتوافر لمؤتمر الرباط… وبالتالي، فقد مثل أكبر يجمع إسلامي في العصر الحديث (38 دولة) كما مثل أقوى نبض في مسيرة المؤتمرات الإسلامي ودورها في تحقيق البعث الإسلامي الوشيك بإذن الله.

ب – المؤتمر الفكرية الإسلامية (تقويم وتوجيه)

إن المؤتمرات التي تعنينا بالدرجة الأولى – في دراستنا هذه – ليست هي المؤتمرات السياسية في مستوياتها المختلفة، ولا تلك المؤتمرات المشبوهة التي تتلمس وسائل الانقضاض على العالم الإسلامي… وذلك لأن هذين النوعين من المؤتمرات يحتاج الحديث إلى تناول تشريحي لهيكل العالم الإسلامي كله في العصر الحديث.

وإنما الذي يعنينا هو تلك المؤتمرات “الإسلامية الفكرية” التي تتبناها مؤسسات الإسلامية أو علمية أو جهات رسمية أو شعبية.

وفي البداية أحب أن أعيد ما قررته سلفا من أن مسيرة هذه المؤتمرات – إلى الآن – لا تكشف عن آثار ذات شأن، تسبهم بها في عملية التطور الحضاري للأمة الإسلامية.

– وما دراستي هذه إلا محاولة، لتخطي هذا الحاجز التقليدي، كي يحقق هذا النوع من المؤتمرات عطاء إيجابيا، وحتى تكون هذه المؤتمرات – حقيقة لا ادعاء – وسيلة من وسائل تقدم الأمة الإسلامية ورقيها.

معالم طريق جديد “واقعي” لهذه المؤتمرات:

ولكي تحقق هذه المؤتمرات أغراض عملية، فإن من الأفضل للمؤسسات القائمة عليها – أن تعقدها بغية الوصول إلى رأي شامل حول نقاط محددة. وبهذا التصور سوف أحلل وأقوم بعض المؤتمرات… ذاكرا ما أراه فيها من إيجابيات وسلبيات.

وانطلاقا من هذا فإنني أرى أن أفضل الموضوعات المطروحة للبحث في مؤتمر الفقه الإسلامي الذي هيمنت على إعداده جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية (1 – 11 – 96 هـ) – هو موضوع “الشبهات التي تثار حول تطبيق الشريعة” فهذا موضوع محدد لا تنسحب عليه هذه العمومية التي تنسحب على موضوعات مثل “أثر تطبيق الحدود الشرعية” أو “الاجتهاد”، أو “نظام القضاء”، أو “الغزو الفكري” أو “الإعلام” – فإن كل موضوع من هذه الموضوعات يكاد يكون في حاجة إلى مؤتمر مستقل.

وبالمنظار نفسه أرى أن أفضل ما توصل إليه مؤتمر الاقتصاد الإسلامي العالمي المنعقد في مكة (21 – 26 صفر 1396) بإشراف جامعة الملك عبد العزيز – هما هاتان التوصيتان اللتان تنص أولاهما على “حصر المراجع والمصادر المتعلقة بالاقتصاد الإسلامي عبر العصور الإسلامية”، وتنص ثانيتهما على أن “تنشئ” جامعة الملك عبد العزيز ضمن جهودها العلمية “مركزا لدراسة الاقتصاد الإسلامي”.

أما مؤتمر “رسالة المسجد” الذي عقدته رابطة العالم الإسلامي (15 – 18 رمضان 1396 هـ (فإن أفضل ما توصل إليه – في رأيي – هو فكرة تكوين مجلس أعلى باسم “المجلس الأعلى للمساجد”..

كما كان مؤتمر التضامن الإسلامي في مجالات العلم والتكنولوجيا الذي أقامته جامعة الرياض (20 – 25 مارس 1976م) موفقا في توصيته “بإنشاء مؤسسة للعلم والتكنولوجيا تهدف إلى القيام بالدراسات المتسمرة ذات الطبيعة التخطيطية، وإلى إنشاء معاهد بحوث علمية متخصصة..”.

– إن هذه التوصيات هي الاتجاهات والنتائج الأكثر واقعية وإيجابية. وهي التوصيات التي يجب أن تحصر فيها جهودها تلك المؤسسات المهيمنة على عقد المؤتمرات التي تنتمي إلى هذا النوع.

ويرتبط بذلك أن يكون في وعي هذه المؤسسات أنها ملزمة – أدبيا – بأن تكون هي القدوة في تنفيذ هذه التوصيات الواقعية المحدودة، وأن تجعل هذه التوصيات جزءا من سياستها العلمية وأهدافها القريبة والبعيدة.

ومع ذلك، وإحقاقا للحق وحده، فإن هذه الآثار المحدودة للمؤتمرات سالفة الذكر تبدو وكأنها ومضات مشعة وسط ركود مسيطر على الطابع العام للمؤتمر الإسلامية…

– فإن مؤتمرا إسلاميا عقد في الكويت على مستوى وزراء الأوقاف – لم يكن له صدى عملي ذو بال.

– وإن مؤتمرات كثيرة عقدتها – بجهد مخلص – رابطة العالم الإسلامي تحتاج نتائجها وتوصياتها لمراجعة وتقويم عادل… خاصة وأن كثيرا من توصيات هذه المؤتمرات لم يخرج إلى حيز التنفيذ في أي مستوى من مستويات التطبيق…

ويبدو الأمر أحيانا وكأن هذه التوصيات مناط تنفيذها بجهات أخرى….. أو كأنها إرشادات وتوجيهات…

وكنموذج لهذا… فإن من بين وصايا المؤتمر الإسلامي الإفريقي الأول الذي عقد بدعوة من الرابطة في مدينة “نواكشوط” – عاصمة موريتانيا – (في الفترة من 4 – 6 من جمادى الأولى 1396 هـ) – توصية تحث على “العمل على إعداد كتب مبسطة لأطفال المسلمين تمكنهم من فهم دينهم، وتغرس فيهم روح المقاومة والحصانة”…

ومبلغ علمي أن الرابط وزعت نشرة على الصحف الإسلامية تأمل فيها أن يعمل مديروها على إخراج هذه الكتب… أو الاتصال بالقادرين على إخراجها…

وهكذا تدور الأمور ف حلقات مفرغة دون أن يخطط لمسيرتها بحيث تصل إلى نتائج حاسمة معروفة الدراسة والغاية…

– هناك مؤتمرات عقدت في مصر قام بها جهاز منظم، تمثل المؤتمرات معلما كبيرا في نشاطه (مجمع البحوث الإسلامية) إلا أن أثرها لم يخرج عن دائرتين:

1 – دائرة البحوث التي تطبع وتوزع بمقابل مادي.

2 – دائرة إصدار بعض الفتاوى التي لا زالت تتصل بقضايا جزئية، ولم تصل إلى حد إبداء الرأي في القضايا التي تلح على ضمير الإنسان المسلم، مما فرصته طبيعة العصر الاقتصادية والاجتماعية. وقس على هذا لنمط من المؤتمرات… مؤتمر العراق 1395هـ، ومؤتمر تونس للفقه الإسلامي!!، ومؤتمر السيرة في باكستان 1396هـ… ومؤتمرات كثيرة أخرى في ليبيا وسوريا والمغرب وغيرها.

أما مؤتمرات الجزائر الدورية التي يطلق عليها “ملتقيات الفكر الإسلامي” فقد تميزت ببعض الخصائص التي تجعلها نهجا متميزا في أسلوب المؤتمرات الإسلامية…

– فهذه الملتقيات تقام كل عام منذ عشر سنوات بصورة منتظمة.

– وهي تعالج موضوعات تاريخية وإسلامية.. كي تصل إلى رؤية إسلامية علمية فيها… وعلى سبيل المثال فهي تلح على ثلاث نقاط، لها أهميتها بالنسبة لكفاح الجزائر وتحررها العقدي والفكري من السيطرة الفرنسية على تاريخها وحضارتها:

( أ ) النقطة الأولى هي: “التاريخ الجزائري” – من وجهة نظر إسلامية عربية جزائرية.

وتدعيما لهذا الاتجاه، فهي تقيم المؤتمرات في مدن جزائرية تختلف كل سنة عنها في الأخرى… فمرة يعقد الملتقى في العاصمة، وثانية في قسنطينة، وثالثة في تيزي وزو، ورابعة في بجاية، وخامسة في تلمسان، و… وعاشرة في عنابة… وهكذا…

وتصبح المدينة المضيفة – بتاريخها وحضارتها – موضوعا من موضوعات الملتقى… تخضع للدرس والتحليل.

(ب) والنقطة الثانية هي: “التاريخ الإسلامي” – ولا سيما الدولة العثمانية – وقد نجحت نجاحا كبيرا في إنصاف هذه الخلافة، وإعطائها حقها من المدح والقدح.

وأذكر أن الدكتور زكي نجيب محمود – الفيلسوف الوضعي المعروف والحائز على جائزة الدولة في مصر – قد صرح لي في ملتقى تلمسان 1395 هـ.. بأنه أفاد من هذه الملتقيات فائدة كبرى فيما يتعلق بإنصاف الدولة العثمانية… فقد كان هو ككل المثقفين ثقافة غربية لا يعرف للدولة العثمانية حسنة من الحسنات.

(جـ) والنقطة الثالثة التي تركز عليها الملتقيات… هي إبراز المعاني الحية للقيم الإسلامية… ففي كل ملتقى تتناول عبادة من العبادات الإسلامية بمنظار جيد كأثر الحج في الحضارة الإسلامية، أو الآثار السياسية والاجتماعية للصلاة والزكاة والصيام… وهلم جرا…

– ومن خصائص هذه الملتقيات أيضا أنها تضع في برنامجها دعوة عدد محدود من الذين لا ينتمون انتماء كاملا للفكر الإسلامي الأصيل، بل تدعو أحيانا بعض المستشرقين.

وهؤلاء في الحقيقة بالنسبة للمجتمع الجزائري الذي عاش الحضارة الأوروبية رغم أنفه – يكون لهم تأثيرهم في قدح زناد الإسلاميين، وتهيئة الجو لحوار علمي قوي.

وأشهد أن مستوى الحوار الإسلامي يرتفع من عام لعام، متلخصا في مسيرته من الخطابية والانفعالية والإنشائية.. لدرجة أن ملتقى الفكر الإسلامي الأخير الذي عقد “بعناية” في 12 رجب 1396 هـ (10 – 7 – 1976م) كان قوى الدلالة على تفوق الفكر الإسلامي بصورة واضحة.

– ومن الخصائص التي لا يمكن إغفالها كذلك – حضور عدد من طلاب الجامعات والمعاهد العليا ومدرسي المراحل التعليمية – يتراوح بين ألف وألف وخمسمائة… وهم يحضرون من مختلف مناطق الجزائر باشتراكات رمزية وتتولى وزارة التعليم الأصلي والشئون الدينية سائر نفقات إقامتهم وسفرهم. وليس لهم حق الاشتراك في المناقشات، وإنما لهم حق توجيه بعض الأسئلة ف يوقت محدد، بالإضافة إلى حضور كل المحاضرات والمناقشات وتسليم المحاضرات. وهم يفيدون من حضور عشرة أيام وسط هذا المستوى الفكري الإسلامي والعلمي الحافل – فائدة كبرى يلمسها الشعب الجزائري كله، وهو يخوض معركة “الأسلمة” والتعريب”…

وفي ضوء هذه الخصائص تتحقق فوائد متعددة، ولا تقف الفائدة عند حد التوصيات والقرارات والنشرات والمطبوعات…

وحبذا أن تفيد المؤسسات الإسلامية من فكرة الملتقيات الجزائرية وأسلوبها – بما يتلاءم مع ظروفها وبيئتها وإمكاناتها.

وما يقال عن ملتقيات الجزائر، يقال كذلك عن الفوائد العملية التي تحققها المؤتمرات الدورية لاتحاد الطلبة المسلمين في الولايات المتحدة وكندا… فهذه المؤتمرات السنوية لا تبحث عن “التوصيات والقرارات” في الدرجة الأولى. وإنما تمثل مؤتمراتها ظرفا مناسبا لتدعيم الارتباط العقدي والسلوكي بالإسلام وسط بحر المدنية الأوروبية المتلاطم الأمواج.

وعلى سبيل المثال، فإن المؤتمر السنوي الرابع عشر للاتحاد المنعقد في الفترة من 28 إلى 31 مايو سنة 1976م – حضره حوالي 1300 رجل و500 امرأة وحوالي 400 طفل – وضعت لهم كافة الترتيبات اللازمة لإقامة الشعائر في أوقاتها، وتوفير اللحوم الحلال… وغير ذلك من مظاهر المناخ الإسلامي… وهذا الأسلوب يخرج المؤتمر عن الشكل المعروف للمؤتمرات التقليدية، ويجعله أشبه بتجميع إسلامي.. يعيش مناخا إسلاميا وحياة إسلامية لفترة محددة…

أسلوب جديد للمؤتمرات الإسلامية:

إنني أعتبر هذه الدراسة – بجملتها – مشروعا قابلا للقبول والرفض والتعديل.

– وهي – كلها – أحكام قد يختلف حولها الكثيرون.

– وهي – في اقتناعي – اقتراح بإعادة النظر في الطريق الذي تسير فيه المؤتمرات الإسلامية، مقدم بالدرجة الأولى إلى الجامعات الإسلامية وعلى رأسها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

– وهي اقتراح مقدم إلى رابط العالم الإسلامي والندوة العالمية للشباب الإسلامي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي.

– وهي اقتراح مقدم إلى مجمع البحوث الإسلامية بمصر، وإدارة الملتقيات الإسلامية بوزارة التعليم الأصلي بالجزائر، وبقية المؤسسات المهتمة بهذا اللون من النشاط الإسلامي.

وإلى أن يتحقق الأمل في أن تخضع المؤتمرات الإسلامية لدراسة وتخطيط يحقق لها التكامل، فإني أقدم – إلى جانب ما قدمته في الصفحات السابقة – مجموعة من التصورات والموضوعات التي أراها جدير بعناية من أتوجه إليهم بهذه الدراسة.

ففي تصوري أن هناك مستويين يجب أن تنسق هذه المؤتمرات على أساسها.

أولا: مستوى القضايا المصرية للأمة الإسلامية…

وفي هذا المستوى… وانطلاقا من المسئولية القيادية للفكر الإسلامي، يجب أن تعالج بكل شجاعة ووضوح – تلك القضايا التي يتحدد على أساسها الدور الذي يمكن أن يحتله هذا العالم الإسلامي في التاريخ والحضارة.

ولكي تكون المفاهيم التي أقدمها واضحة، فإنني أقدم نماذج من هذه القضايا، لم تعالج – للأسف الشديد – خلال المؤتمرات الإسلامية العديدة التي عقدت على امتداد الساحة الإسلامية…

فمن هذه القضايا:

1 – قضية الوحدة الإسلامية

العقبات التي تحول دون تحقيقها… مسئولية الأجهزة الحاكمة… مسؤولية الفرد المسلم… مسؤولية الغزو الفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي… الطرق الواقعية التحقيق هذه الوحدة… الخ.

2 – النظام السياسي الإسلامي

( أ ) الحقوق الإنسانية للفرد ولا سميا الحرية,.

(ب) حق عزل الحاكم.

(جـ) قضية الدكتاتورية في العالم الإسلامي، وضد الإسلام بخاصة.

(د) “ملف” تعذيب الإنسان المسلم في العصر الحديث.

(هـ) طرق حماية المسلم – في المستقبل – من هذه الأنظمة الدكتاتورية المأجورة.

(و) وطرق حماية المسلم من التصفية الجسدية والإنسانية التي يتعرض لها خلال هذا القرن…

3 – قضية التراث الإسلامي

طرق بعثة… الموقف “العقلاني” العصري للإفادة من هذا التراث… إمكانية نقد التراث في الأصول والفروع… القضايا التاريخية في التراث التي تستحق “التحنيط والتجميد” كبعض قضايا علم الكلام مثلا.

4 – فكرة القومية وخطرها على الروح الإسلامية والكيان الإسلامي.

5 – حصر التصورات الخاطئة للإسلام وتأثيرها السلبي على تقدم العالم الإسلامي.

4 – قضية الحكم بغير ما أنز الله في العالم الإسلامي:

أسبابها…. على من تقع مسئوليتها. واجبات الفرد المسلم تجاه القوانين الوضعية. كيفية تعايشه “الإجباري” أحيانا معها. وأسلوب مقاومتها… وإجهاضها.

(وهذه مجرد نماذج تدل على غيرها من القضايا الكبرى المصيرية التي تحتاج إلى علاج، في هذا المستوى.).

ثانيا: مستوى المشكلات الإسلامية النوعية:

وفي هذا المستوى يجب الاقتراب قدر الاستطاعة من الواقع المحيط بالمسلمين، بدلا من الاستغراق في عموميات وجدليات نظرية، بحيث تقدم مشكلة محدودة، وتدرس دراسة شاملة، لينتهي الأمر فيها إلى مواقف محددة.

وفي السطور التالية أطرح بعض هذه الموضوعات التي أرها جديرة بالدراسة في هذا المستوى:

1 – معالم التخطيط الصليبي لالتهام إندونيسيا في نصف قرن وطرق مقاومته.

2 – مأساة المسلمين في البلاد الشيوعية، ولا سيما في روسيا والصين، وواجب المسلمين نحوهم.

3 – أخطار ابتعاث الشباب للدراسة في الخارج، وطرق حمايتهم.

4 – خطر استيراد “الأشياء” و”الأفكار” على قضية البناء الحضاري الذاتي للأمة الإسلامية.

5 – تقويم أوضاع الأقليات الإسلامية في آسيا، وسبل الحفاظ عليهم.

6 – أطماع إسرائيل في شبه الجزيرة العربية.

7 – أخطاء دائرة المعارف الإسلامية، ومنظمة اليونسكو، في حق الإسلام، فكرا وتاريخا وحضارة.

8 – بروز الدور الهندوسي في الهجوم على الإسلام خلال ربع القرن الأخير، وطرق مقاومته.

9 – أساليب الدعوة إلى الإسلام في البلاد الصناعية والمتقدمة.

10 – أزمة الفكر الإسلامي الحديث… تعبيرا ومضمونا، وطرق وعلاجها.

11 – برنامج تعليمي للمرأة المسلمة، يناسب فطرتها ورسالتها “المراحل الدراسية – النوعية العلمية – المناهج – الخطة – الأعمال”.

12 – أسباب ضياع فلسطين من وجهة نظر إسلامية.

13 – مسلمو لبنان… والمؤامرات العالمية، والمواقف العربية، التي أدت إلى نكبتهم.

14 – التأثير الحضاري للبترول على البلدان الإسلامية إيجابية وسلبيا.

(وثمة – بالتأكيد – قضايا نوعية كثيرة تصلح للعلاج والدراسة في هذا المستوى. كما أن القضايا التي طرحناها يمكن أن تعدل صياغتنا بالطريقة الملائمة).

– بيد أن من الضروري الربط بين المستويين… مستوى القضايا الكبرى، ومستوى القضايا النوعية المحددة التي لا تزيد على كونها مجرد أقراص أو عقاقير، لا ينفصل “مفعولها” بالتأكيد عن تأثير العلاج الشامل الجذري الذي يحققه المستوى الأول.

إن هذا الأسلوب الذي نقترحه، بمستويين سالفي الذكر، يقترب بالمؤتمرات الإسلامية – على وجه العموم – من الواقع. ويعطي بحوث هذه المؤتمرات صفتي: “التحديد” و”التجديد”، ويجعل هذه المؤتمرات – في أقل درجاتها – محركا قويا للعقول والأفكار في اتجاه الأخطار “الواقعية” المحدقة، فلعلها تخطط وعمل لتداركها.. ومحركا – أيضا – في اتجاه تحقيق بعض التقدم للأمة الإسلامية التي تعاني – بحق – أزمة حضارية كبرى، وتقف – بحق – على مفترق الطرق…

والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون،،،

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر