عرفنا من دراستنا لأهداف هذا النظام الرخاء المادي القائم على أساس متين من القيم الروحية هو ركن رئيسي في فلسفة الاقتصاد في الدين الإسلامي.
وهذا النظام يختلف في الأساس عن الرأسمالية والاشتراكية اللتين لا تتقيدان بالقيم الروحية، الأمر الذي يدعوه لأن يكون مختلفا عنهما بالضرورة في الهيكل. وما من أحد يحاول أن يتبين أوجه الشبه بينهما وبين النظام الإسلامي إلا وتدل محاولته على عدم إلمامه بأسس النظم الثلاثة. فالنظام الإسلامي موجه كليا شطر حرية الفرد في إطار الرفاهية الاجتماعية، والأخوة الإنسانية المقترنة بعدالة اجتماعية واقتصادية وقسط في توزيع الدخول. وهذا التوجه ينمو نحو الروح ويندمج في قواعد النظم الاجتماعية والاقتصادية. بينما نرى النقيض في النظامين الآخرين. فالرأسمالية الحديثة تتجه أيضا إلى العدالة الاجتماعية والاقتصادية والقسط في توزيع الدخول لكنه اتجاه جزئي منبعث عن ضغوط جماعية وليس هدفا في حد ذاته يرمي إلى إقامة أخوة إنسانية، فضلا عن أنه لا يشكل جزءا متكاملا مع فلسفتها الكلية. وأما الاشتراكية، فرغم ما يقال عن اتجاهها نحو هذين الهدفين وأنهما من نتاج فلسفتها الأساسية، فإن هذا القول لا يتفق والواقع، لسببين:
الأول: افتقار هذا التوجه إلى الأخوة الإنسانية، وإلى المعايير التي تلتزم جانب الحق في العدالة والمساواة.
الثاني: غياب كرامة الفرد وهويته من جراء إنكار حاجة الإنسان الأساسية للحرية.
إن التزام الإسلام بحرية الفرد يجعله متميزا عن الاشتراكية أو عن أي نظام آخر يلغي هذه الحرية. وعلى سبيل المثال تجمع كافة مدارس الفقه الإسلامي على أن رضا البائع والمشتري هو شرط أساس لأنه معاملة تجارية. وهذا الشرط صادر عن قوله تعالى في الآية 29 من سورة النساء: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) وعن قوله عليه الصلاة والسلام: “دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض”.
والنظام الوحيد الذي يمتثل لروح هذه الحرية وفق الأسلوب الإسلامي هو النظام الذي يكون فيه إدارة القسم الأكبر من الإنتاج وتوزيع السلع والخدمات منوطة بأفراد أو جماعات تشكلت بلا إكراه، وهو النظام الذي يحق فيه للفرد أن يبيع أو يشتري من أن شخص بسعر يرضي عنه هو البائع، وحرية العمل التي أقرها الإسلام مما أقره من عناصر أساسية كالملكية الخاصة وآلية السوق توفر المناخ المطلوب، وهذا ما يتناقض مع الاشتراكية.
ولقد ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وكتب الفقه تفصيل رائع لقواعد حيازة الملكية الخاصة والتجارية والتصرف بهما، وقواعد البيع والشراء، وتشريع الزكاة والميراث. وهذه القواعد لم يكن لينص عليهما لو لم يعترف الإسلام بالملكية الخاصة لغالبية موارد الإنتاج. يضاف إلى ذلك أن المسلمين كانوا عبر تاريخهم الطويل متمسكين بها باستثناء بضع حالات لم تؤخذ على أنها تدخل في النهج العام للفكر الإسلامي، ولذلك فإن إنكار هذا النوع من الملكية لا يعتبر متفقا مع التعاليم التي جاء بها الإسلام.
وبخصوص آلية السوق فيمكن اعتبارها جزءا مكملا للنظام الإسلامي لأن الملكية الخاصة لا تعمل بدون سوق، ولأنها تمنح المستهلكين فرصة للتعبير عن رغباتهم في الشراء بدفع الثمن، كما تتيح لأصحاب الموارد الفرصة أيضا أن يبيعوا مواردهم بمحض إرادتهم.
ودافع الربح، وهو العامل الأساسي في إنجاح أي نظام يأخذ بحرية العمل، وارد أيضا في الإسلام. وبشأنه يقول الجزيري:
“البيع والشراء مشروع ليربح الناس من بعضهم، فأصل المغابنة لا بد منها، لأن كلا من البائع والمشتري يرغب في ربح كثير، والشارع لم ينه عن الربح في البيع والشراء ولم يحدد له قدرا، وإنما نهى عن الغش والتدليس ومدح السلعة بما ليس فيها، وكتم ما بها من عيب ونحو ذلك”.
ومرد ذلك أن دافع الربح يخلق لدى الرجل الحافز الذي يحضه على استثمار ما سخر الله له استثمارا مجدا. وهذا الاستثمار في تخصيص الموارد هو عنصر ضروري في حياة أي مجتمع صحي نشيط. وتحسبا لاحتمال انقلاب الربح من مجرد أداة إلى هدف أولى مع ما يرافق هذا الانقلاب من أمراض اجتماعية واقتصادية فقد فرض الدين ضوابط أخلاقية تعمل على إنماء مصلحة الفرد ضمن إطار اجتماعي، وفي الوقت نفسه لا يتخطى أهداف العدالة الاجتماعية والاقتصادية والقسط في توزيع الدخول والثروات.
ورغم ذلك كله فإن اعتراف الإسلام بحرية العمل والملكية الخاصة ودافع الربح لا يشكل فرية يستدل بها على أن الإسلام صنو للرأسمالية التي تقوم أيضا على حرية العمل. ويعود هذا إلى سببين هامين:
السبب الأول: الملكية الخاصة مباحة في الإسلام لكنها لا تعتبر أكثر من مجرد ائتمان من مالك السموات والأرض. والإنسان ليس إلا مستخلفا، له حق التمتع بما استخلف فيه. ولنقرأ قوله عز وجل:
(لله ما في السموات والأرض)
(قل لمن الأرض وما فيها إن كنتم تعلمون. سيقولون لله، قل أفلا تذكرون).
(وآتوهم من مال الله الذي آتاكم).
السبب الثاني: بما أن الإنسان خليفة الله في الأرض وأن ما يملكه أمانة منه، فهو لذلك ملزم بشروط الأمانة، أو بالتحديد ملزم بآداب الدين لا سيما ما يتعلق منها بالحلال والحرام، والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، والقسط في توزيع الدخول والثروات، وتنمية الصالح العام، والإنسان مطالب بالامتثال لتعليم الدين فيما يدخر وباستثمار ادخاره فيما رسم الله سبحانه من حدود، قال عليه الصلاة والسلام:
– إن هذا المال خضرة حلوة. فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع. واليد العليا خير من اليد السفلى”.
وفي دراستنا التالية لبعض نظام السوق في نظام السوق في الرأسمالية سيتضح الفرق بين عامل التملك كاستئمان من الله تعالى، وعامل التقيد بالقيم الروحية.
أولا: نظام السوق هو استفتاء، كل وحدة نقد تنفق فيه تعتبر اقتراعا. واستنادا إلى مجموعة الاقتراعات التي يدلي بها كل الأفراد يجرى تخصيص الموارد القومية. فإذا كان إنفاق الناس على الخمور أكثر من إنفاقهم على الحليب فإن ذلك يدل على أن حاجتهم إلى الخمر تفوق حاجتهم إلى الحليب، وعليه يخصص المزيد من الموارد لإنتاج المزيد من الخمور. ومعنى هذا حسب نظام السوق أن الموارد القومية ستكون مخصصة على هذا النحو التخصيص الأمثل. ومنه يكون نظام السوق هو الفيصل الأدبي المحايد الذي لا يتخذ قراراته إلا بناء على ما يسفر عنه الاستفتاء من نتائج.
أما النظام الإسلامي فلا يستطيع أن يكون حياديا في وضع كهذا لأن تخصيص الموارد يعطي أفضل نتائجه إذا تم بمقتضى قواعد الدين أولا، وبمقتضى أفضليات المستهلك ثانيا. وفي المجتمع المسلم الصحيح ليس ثمة احتمال لتعارض هذين الشرطين. ولو وقع التعارض فالدولة لا تقف مكتوفة اليدين، فالواجب يملي عليه أن ترشد الرأي العام إلى تعاليم الدين وأن توجه معدات الإنتاج ووسائل التوزيع إلى الجهة التي تضمن تخصيص الموارد وفق ما أمر به الدين، وهنا قد يسأل سائل: ومن ذا الذي يقرر ما إذا كانت الموارد مخصصة لما يتفق والدين أم لا؟ الجواب: بما أن الإسلام لم يحدد هيكلا تسلسليا كما هو الحال في التنظيم الكنسي فإن اتخاذ القرار سيكون بالأسلوب الديمقراطي الكامن في تعاليم الإسلام السياسية.
ثانيا: يفترض نظام السوق أن رغبات الناس على اختلافهم يمكن مقارنتها من حيث حاجتهم إليها بالسعر الذي يدفعونه لأن كل وحدة نقد هي بمثابة اقتراع يدلون به. فمثلا تعتبر رغبة شخصية بصرف مبلغين متساويين مؤشرا لحاجات يتساوى طلبهما عليها، ومع ذلك، وحتى لو أمكن عمل هذه المقارنة، فإن حرية قوية السوق لتخصيص الموارد في ناحية معينة تشترط التوزيع العادل في الدخول، وإذا لم يتوفر هذا التوزيع فإن التخصيص بالاستناد إلى نظام السوق قد لا ينسجم مع رغبات غالبية المستهلكين لأنه سيسمح للطبقات العليا التي يفوق نصيبها من الدخول القومي حجمها العددي أن تحول الموارد النادرة – لما لها من وزن في الاقتراع – إلى منتجات ليس عليها طلب كبير، وبذلك تكون محصلة تخصيص الموارد غير المحصلة التي ينشدها المجتمع.
إن نظام الأسعار بمفرده لا يعني كثيرا بعدد الأصوات التي يحق للشخص أن يدلي بها بقدر ما يعني بمجموع الأصوات الذي تناله سلعة ما، أو خدمة بالنسبة لسلعة أو خدمة غيرها، ومن هذا نستنتج أن التوزيع العادل للدخول الذي يشكل هدفا من أهداف النظام الإسلامي هو شرط سابق للوصول إلى التخصيص المنشود للموارد من خلال وظيفة نظام الأسعار.
ثالثا: ليس ببعيد أن تصاب فعالية قوى السوق ببعض العيوب من جراء الاحتكارات التي تأخذ أشكالا متعددة، أو من جراء الظروف التي لا تعكس فيها الأسعار التكلفة الحقيقية أو النفع الحقيقي، وهذه العيوب قد لا تقتصر على كون أسعار السلع أو الخدمات أعلى بكثير من التكلفة المناسبة، أو كون ما يدفع إلى أصحاب الموارد أقل أو أقل بكثير من قيمة مساهمتهم في الناتج الفعلي، بل إن الناس أنفسهم قد لا يبالون بالتكاليف أو الفوائد الاجتماعية رغم ما يكون لهذه التكاليف أو الفوائد من أهمية كبيرة من ناحية الرفاهية الاجتماعية التي لها وزنها الهام في النظام الإسلامي، على أن الاتجاهات المصالح الخاصة ومصالح نفسها بنفسها في نظم الأسعار والتي تميل إلى التخلص مما بين المصالح الخاصة ومصالح المجتمع من فروق قد تأخذ وقتا طويلا وطويلا جدا في عملية التصحيح بسبب النواقص الموجودة عادة في عملية السوق، أو بسبب ضيق أفق الأفراد والشركات، وإزاء هذه العيوب لا يستطيع نظام السوق بمفرده أن يحقق التخصيص الأمثل للموارد دون أن يتلقى توجيها أو يخضع لتنظيم أو مراقبة حكومية.
رابعا: في نظام السوق الرأسمالي الفرد هو مالك بضاعته وهو حر التصرف فيها ولا يتعرض لعقوبة أدبية إذا عمد إلى إتلاف ما أنتج كأن يلقي به في النار أو البحر ليرفع أسعاره أو ليحافظ على ارتفاعها. أما في النظام الإسلامي فالأمر جد غير لائق لأنه جريمة أدبية لا تغتفر. وقد نص القرآن الكريم على أن إزهاق الروح وإتلاف الممتلكات يعادلان نشر الفساد في الأرض:
(وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد).
وهذا التوجيه القرآني جعل أبا بكر الصديق – رضي الله عنه – يأمر قائده يزيد بن أبي سفيان الذي بعثه في إحدى الغزوات:
– لا تقتل امرأة، ولا صبيا، ولا كبيرا، ولا تقطعن شجرا مثمرا، ولا تخربن عامرا، ولا تعقرن شاة، ولا بعيرا، إلا لمأكله، ولا تحرقن نخلا ولا تغرقنه، ولا تفلل ولا تجبن.
وهذا العمل إذا كان غير مباح في الحرب فمن باب أولى أن يكون غير جائز في السلم، ويصدق ذلك على رفع الأسعار. لأن المجتمع يدفع ثمن فعل كهذا غاليا، ولا يمكن للدولة الإسلامية أن تسمح به.
خامسا: لقد أظهر نظام السوق حتى في ظروف المنافسة الصحية التي تعتبر شرطا سابقا لعملياتها الفعالة أنه لا ينزع بطبيعته إلى حل المشاكل الاقتصادية، ومرامي التوزيع المقسط للدخول. فما لم تفرض على الناس ضوابط أخلاقية مدعومة بأنظمة فعالة صادرة عن حكومة هي نفسها موجهة أخلاقيا، لا يحتمل – بالضرورة – أن تقضي المنافسة على ما هو غير مجد، ولا أن تثيب السلوك الاجتماعي المفيد، وتفرض العدالة الاقتصادية والاجتماعية، وتعزز التوزيع المقسط للدخول.
ولهذا فإن نظام السوق، وإن أقره الدين الإسلامي لما يمنحه للناس من حرية، يجب أن لا ينظر إليه على أنه شيء مقدس لا يقبل التغيير، المهم هنا هو أهداف المجتمع المسلم، وما نظام السوق سوى وسيلة يتم التوصل بها إلى الأهداف وبصورة خاصة الهدف المتعلق بالحرية الشخصية. وانطلاقا من هذا المفهوم ينبغي تعديل هذا النظام كلما دعت الحاجة، لينسجم مع المثل العليا قدر المستطاع، وقد أقر الدين الإسلامي للدولة أن تقوم بدور إيجابي كي تدخل التعديلات المنشودة على عمليات السوق. بيد أن تدخل الحكومة بمفردها لا يخلق سوقا صحيا اقتصاديا موجها نحو العدالة والرخاء الاجتماعي، حتى لو أمكن لهذا التدخل أن يرفع بعضا من قيود نظام السوق.
أما غير ذلك من عيوب فلا يزال، إلا إذا ظهرت بوادر صحية اجتماعية يمكن الوصول إليها بالتحاق النظام الاقتصادي بفلسفة أخلاقية تشتمل فيما تشتمل على قواعد للعدالة الاجتماعية والاقتصادية والتوزيع المقسط للدخول وللثروات والرخاء الاجتماعي.
وهنا ينكشف لنا التفاوت الكبير بين الإسلام وبين الرأسمالية التي رغم اعترافها بدور الحكومة في الاقتصاد لا تزال علمانية في مضمونها ومفتقرة إلى فلسفة قائمة على أساس أخلاقي تعمل على استتباب العدالة الاجتماعية والاقتصادية وتحقيق الرخاء العام.
وهذه النتيجة تركز الضوء على موضوعين هامين: هما: الناحية الروحية في نظام الاقتصاد في الإسلام، ودور الحكومة في شئون الاقتصاد في المجتمع المسلم. ولما كان التوسع في دراسة الناحية الروحية يخرجنا عن نطاق البحث فسوف نكتفي أولا بدراسة موجزة للقواعد الروحية التي تؤثر على الناحية الاقتصادية في الحياة، وثانيا: بمعالجة موجزة أيضا للدور الذي تلعبه الحكومة في هذا المضمار.
القيم الروحية ونظام الاقتصاد في الإسلام
من سمات الإسلام البارزة عنايته بالخلق والسلوك المسئولين أدبيا في كل ما يقوم به الإنسان من نشاط. يقول عز وجل:
(الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا).
وأكد الرسول صلوات الله عليه هذا في مناسبات عديدة وأبان أن إتمام مكارم الأخلاق من المهام التي بعث بها فقال:
– إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.
– أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا.
إن قبول العقيدة قبولا لفظيا – رغم ضرورته – لا يكفي لنجاة المسلم في الحياة الآخرة، فالمؤمن – ليصح إيمانا – لا بد له من التقى والامتثال لما جاء به الإسلام. ومن الملاحظة أن الإسلام في توكيده على الإيمان أنما يؤكد في الوقت نفسه على صالح الأعمال ويحض المسلمين على أن يطابقوا القول مع العمل لأنه سبحانه وتعالى يمقت التناقض بينهما، ويوجه خطابه إلى المؤمنين:
(يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون).
كما أكد عليه الصلاة والسلام أن الإيمان والعمل صنوان، وأن الله لا يقبل أحدهما دون الآخر “الإيمان والعمل أخوان شريكان في قرن لا يقبل الله أحدهما إلا بصحابه”. وتشديد الإسلام على لزوم الانسجام بين الإيمان بالعقيدة وبين الامتثال لتعاليمها الأخلاقية صوره النبي بقوله إن المسلم الذي يرتكب الفواحش لا يكون في كامل وعيه الإيماني عند إتيانها.
“لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن. ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن. ولا ينهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن”.
وما المسلم إلا من أسلم نفسه لله. أما أن يكون قوله شيئا وعمله شيئا آخر فليس بمسلم، وما جاء الإسلام إلا ليثري الحياة بالعيش الفاضل أو السلوك القويم المبني على مجموعة سليمة من المعتقدات، والمجتمع الصالح في نظر الإسلام هو المجتمع الذي يشيده أفراد يحيون على ما تمليه آداب الشريعة، وتعاليم الدين كلها تهدف إلى إعداد أفراد يستلهمون مكارم الأخلاق ويطيب بهم مجمعهم، والصلاة والصوم والزكاة والحج، وهي الأركان التعبدية التالية لركن الإيمان – على مكانتها وما لها من قيمة مستقلة – لها غاية نهائية هي تزكية النفوس وتنمية الإحساس بالقيم والأخلاق ليعيش الناس حياة فاضلة. فعن الصلاة نقرأ قوله تعالى: (وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر).
وعن الصوم (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلهم لعلكم تتقون).
وعن الحج (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب).
(لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم).
وعن الزكاة (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها).
وحتى الجهاد فقد عرفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (المجاهد من جاهد نفسه فجهاد النفس وما توسوس به، يصلح طوية الفرد ليكون على حد قول أبي زهرة مصدر خير لجماعة ولا يكون منه شر لأحد من الناس ولا يتحقق هذا إلا بموقف فكري سليم ينظر إلى الفضيلة لا من خلال إقامة صورية للشعائر وإنما من خلال الوفاء بالتزاماتها الأخلاقية تجاه الناس والنفس. وهذه النظرة لها مغزاها في الوصول إلى المثل الأعلى الاجتماعي للبيئة الصالحة التي تنعم بالرفاهية الحقيقية.
(ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون).
لهذا الآية مغزى كبير لأنها تضرب على الوتر الحساس في التعاليم القرآنية.
عن أبي ذر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الإيمان؟ فتلا عليه: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب… إلى آخر الآية، قال ثم سأله أيضا فتلاها عليه، ثم سأله فقال: “إذا فعلت حسنة أحبها قلبك وإذا عملت سيئة أبغضها قلبك”.
قال ابن عباس في هذا الآية: ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا.
وقال مجاهد: ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله.
وثمة بعد آخر لهذا الشرط الصارم في الإيمان العملي هو التزام المرء جانب الصواب في الأخلاق وابتعاده عن الخطأ فيها وإن لم يقع عليه لوم إذا ما اكتشفته سلطة دنيوية تعاقبه عليه، وما ذلك إلا لأن السلطة السماوية سلطة عليمة بصيرة والمرء إن أفلت من قبضة الحاكم الدنيوي فلن يجد له عاصما من السماء. فالشريعة الإلهية يجب أن تطبق بحذافيرها. وأعمال الرجل ونواياه التي لا تخالف تشريعا وضعيا تضعه في قفص الاتهام إذا خالف تشريعا أخلاقيا أسمى. فهو قد يكون بريئا في أعين الناس بيد أن براءته هذه لا تجديه أمام الله.
(أيحسب أن لم يره أحد).
(ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا”.
وفي مجال الاقتصاد – وهو موضوع بحثا – تتمثل التقوى في إرساء العمل الاقتصادي على أسس أخلاقية لا تعدو في مجملها الكسب من حلال، والإنفاق فيما أمر به الشرع، ومد يد العون للمحتاج. وقد أجمل النبي الكريم هذا ووضعه في منظوره الصحيح عندما قال:
“لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه وعن علمه ما عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه”.
وفي هذا المقام لا بد لنا أن نلم إلماما موجزا بآداب الإسلام التي تنظم شئون المسلمين فيما يكسبون وفيما ينفقون.
الكسب: وضع الإسلام معايير أخلاقية سامية وأمر المسلمين بالامتثال لها في كسبهم وإنفاقهم. ففي الحديث:
“يا أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم”.
وأكد القرآن الكريم على الإجمال في الطلب. في قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم).
ووصف عليه الصلاة والسلام الأمانة في البيع والشراء بقوله:
“التاجر الصدوق الأمين، مع النبيين والصديقين والشهداء”.
وبين مصير من يغتصب حقوق الناس:
“من أخذ من الأرض شيئا بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين”.
“لأن يجعل أحدكم في فيه ترابا خير له من أن يجعل في فيه ما حرم الله”.
أما طرق الكسب غير المشروعة فمحرمة ولو كان ريعها ينفق في وجوه البر لأن “الله طيب لا يقبل إلا طيبا” ولأنه “لا يقبل الله إلا الطيب” وزيادة في التحذير من اتباع هذه الطرق قال عليه الصلاة والسلام:
“لا يقبل الله صلاة أو صيام من يلبس جلبابا من حرام حتى ينحي”.
وذات مرة بعد أن تلا قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) وذكر “الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه من حرام ومشربه من حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له”.
وهكذا تبدو واضحة ودقيقة مطالب الممارسة الأخلاقية في العمل التجاري إلى الحد الذي لا يترك فيه مجال للمسلم لأن يظن أن “العمل عمل” وأن “الدين دين”. إذ ليس هناك حاجز يعزل ما هو دنيوي عما هو روحي. فالعمل التجاري في المجتمع المسلم يجب أن يشاد على آداب الدين السامية، ولا تهاون في ذلك.
والمسلم ملزم باحترام العهود والمواثيق وإن كان احترامها يعود بضرر مادي عليه، والإخلال بها يعد من النفاق. ورد الأمانة واجب حتى إلى من نقض العهد:
(يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود).
(يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون).
(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها).
وفي الحديث “آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان”.
“أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك”.
ومن الحرام أيضا الكسب من طرق تفضي إلى انتشار الانحلال، وبيع سلع وتأمين خدمات تخل بالأخلاق. ففي تحريم الفواحش نقرأ قوله تعالى:
“قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق”.
وفي وعيد من يعملون على نشرها:
(إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليهم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
وطلب الرزق بالسرقة والغش والخداع ليس من الأخلاق في شيء. ورجل الأعمال المسلم لا يكفيه أن يمتنع عن التضليل أو عن معسول الكلام لينفق سلعته أو ليحبط من قيمة ما عند منافسيه، بل يجب عليه أن يطلع المشتري على حقيقة سلعته:
(ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون).
(ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور).
وفي هذا يقول رسول الله:
“لا إيمان لمن لا أمانة له”.
“لا يدخل الجنة صاحب مكس”.
“لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن”.
“المسلم أخو المسلم ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا فيه عيب إلا بينه له”.
وعني الإسلام بالمكيال والميزان وشدد عليها في آيات كثيرة، واعتبر الإخلال بها كالإضرار بالناس.
(أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين، وزنوا بالقسطاس المستقيم، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين).
(ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون. وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين).
هذا وعيد من يخسر الكيل والميزان. فما بال من يغش في نوعية البضاعة وجودتها اللتين يحب أن تتوافقا والوصف، أو أن تكونا كما يتوقعه الناس. الغش في الأقوات عمل لا أخلاقي. وكذلك بيع السلع التي يضر استعمالها بصحة الناس.
فعن الغاش قال صلى الله عليه وسلم: “من غشنا فليس منا”.
وعن كثرة الحلف في البيع: “الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب”.
وعن الإضرار بالناس: “ملعون من ضار مؤمنا أو مكر به”. “من ضار ضار الله به ومن شاق شاق الله به”.
أما الرشاوى فقد نالت حظها من النهي. فهي إثم وأكل لأموال الناس بالباطل وفي شأنها يقول عز وجل:
(ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون).
ويقول الرسول صلى عليه وسلم:
“لعن الله الراشي والمرتشي والرائش – يعني الذي يمشي بينهما”.
وإذا كانت الرشوة تقدم لحاكم أو ذي منصب طلبا لمغنم وثلاثة أطرافها ملعونون، فكذلك الحال بالنسبة للهدايا التي يقبلها الحكام. وفي إحدى خطبه نعى النبي صلى الله عليه وسلم على الحكام الذين يقبلون الهدايا قائلا:
“ما بال عامل أبعثه فيقول – هذا لكم وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه أو بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا. والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه، بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر. ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ثم قال “اللهم هل بلغت؟ (مرتين)”.
وتكديس البضائع وخزنها انتهازا لفرصة أو احتكارا حرام. وقد وصف النبي عليه الصلاة والسلام المحتكر بقوله: “لا يحتكر إلا خاطئ”.
وسبب ذلك أن منع السلعة عن المستهلكين إنما هو – كما قال صاحب الهداية – إبطال لحقهم وتضييق الأمر عليهم فأما إذا كان لا يضر أحدا فلا بأس به. إما إذا كان المنع لا يرفع سعرا ولا يحرم الناس ولا يضيق عليهم فلا تثريب. وقد عرف الإمام أبو حنيفة المنع بأنه تخزين الأقوات لمدة طويلة من شأنه أن يضر بالمصلحة العامة. لكن تلميذه أبا يوسف توسع فيه وجعله يشمل كل ما يلحق الضرر بهذه المصلحة سواء كانت السلعة أساسية أم لا. وكلا الرأيين يدل على أن صاحبيهما يهدفان إلى حماية المصلحة العامة حيث رأيا أن التحكم في سلعة أساسية واحتكارها لرفع سعرها أمران غير مقبولين. بيد أن أبا يوسف توسع هنا أيضا وارتأى أن تكديس السلع بكافة أنواعها أو احتكارها مكروه مهما كان الطلب عليها مرنا، وأن حجبها عن السوق يضر بالمصلحة العامة.
ولعل تردد أبي حنيفة في جعل التكديس يشمل السلع كلها ينبثق من اهتمامه بحرية الفرد التي لا تحجر إلا إذا أضرت بالمصلحة الاجتماعية.
وفي ظروف العالم المعاصر الذي شاعت فيه الأعمال التجارية الكبيرة فإن الاحتكارات غير الطبيعية يجب أن تخضع للقيود بسبب إضرارها بالمصلحة العامة نتيجة نزعتها للإبقاء على الإنتاج دون مستواه الأمثل ورفع السعر فوق حده التنافسي، والتقصير في زيادة الكفاءة وتحسين الإنتاج، أما الاحتكارات الطبيعية كالمرافق مثلا فلا ما نع من وجودها إذا عملت الحكومة على تقييدها بأنظمة تضمن عدم انخفاض الإنتاج أو توزيعه عن مستوييهما الأمثلين وعدم ارتفاع الأسعار إلى حد الاحتكار. ويصدق هذا المنع أو السماح على الاحتكارات بأنواعها.
والإسلام في سعيه لإقامة عدالة اجتماعية واقتصادية يدعو إلى إزالة الاستغلال بكافة أشكاله – استغلال المنتجين أو الوسطاء للمستهلكين، استغلال أصحاب العمل للعمال، استغلال الرأسماليين للمقاولين، أو العكس إذا انقلب مستغلا. فالفرد لا يحصل إلا على ما يستحق عدلا لا زيادة فيه ولا نقصان، مصداق قوله تعالى:
(ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين).
وفي هذه الروح حرم الربا أو العائد الثابت لرأس المال بدون مساهمة في مخاطر العمل، واعتبر أخذه استغلالا ومخالفة لقواعد العدالة الاجتماعية والاقتصادية. أما إذا ساهم المرء في مخاطر العمل وتحمل الربح والخسارة فلا جناح عليه فيما يأخذ.
والمسلم إذا ما ابتعد عن الطرق غير المشروعة في الكسب يحق له أن يزاول أي عمل شريف. وقد عرف الجزيري هذا البيع المبرور بأنه البيع الذي يبر فيه صاحبه فلم يغش ولم يخن ولم يعص الله فيه.
وصاحب العمل المسلم هو الذي يدخل في عداد من وصفهم الله تعالى بقوله: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار).
وفيمن وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى”.
أما حب المال والجاه والسلطان، وهو الحب الذي يأخذ بناصية الإنسان إلى مهاوي الكسب اللاشرعي أو اللاأخلاقي، فموضع استنكار النبي بقوله: “لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا”.
وصور مغبة هذا الحب في حديثه:
“ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه”.
“من فقه الرجل أن يصلح معيشته وليس من حب الدنيا طلب ما يصلحك”.
نكتفي بهذا القدر من الحديث عن الكسب، وفي تفصيل ما هو صحيح وما هو باطل في أخلاقيات العمل التجاري في الإسلام حيث النصوص والأحكام القرآنية والنبوية واضحة صريحة، والفقه زاخر في بحثهما.
وإزاء ما قد يستجد من قضايا لم يرد نص فيها يستطيع أهل الذكر أن يميزوا بين الحق والباطل إذا عادوا إلى ضمائرهم. فعن الصحابي وابصة بن معبد قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: جئت تسأل عن البر والإثم؟. فقلت: نعم. فقال استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك”.
وقد تكتنف المرء ظروف لا يستطيع أن يتأكد فيها من صحة حل شيء وفي هذا الوضع اعتبر العلماء الحديث التالي أساسا من أسس التعاليم الأخلاقية التي ينبغي الاهتداء بها:
“إن الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه”.
الإنفاق: المال في الإسلام مال الله. ولذلك نهى عن كنزه وتعطيله إذا كان متكسبا حلالا لأن الكنز والتعطيل يخالف المقصود منه وهو تعميم نفعه على الناس، سواء أعادت المنفعة على الناس أم عادت المنفعة إلى المالك بالذات أو إلى غيره. وقد توعد الله سبحانه الذين يكنزون المال ولا ينفقونه فيما أراد بعذاب أليم:
(والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم).
وفي الأرض القابلة للزراعة، نهى الرسول الكريم عن إبقائها بلا استغلال فقال: “من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يزرعها فليُزرعها أخاه”.
وروى عن الخليفة عمر رضي الله عنه قوله: “من كان له مال فليصلحه، ومن كانت له أرض فليعمرها”.
وقد أدرك ابن خلدون هذا المعنى فأورده في مقدمته في كتاب طاهر ابن الحسين لابنه عبد الله عندما ولاه المأمون الرقة ومصر وما بينهما:
“… واعلم أن الأموال إذا اكتنزت وادخرت في الخزائن لا تنمو، وإذا كانت في صلاح الرعية وإعطاء حقوقهم وكف الأذى عنهم نمت فيها العزة والمنفعة”.
أما الإنفاق على الاستهلاك الشخصي فإن الاعتدال فيه من صميم ما يدعو إليه الدين، والله تعالى يقول:
(وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين).
(والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما).
ولما كان الإسلام دينا لا رهبانية فيه فقد حث النبي المسلمين على أكل الطيبات: “إن لنفسك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا”.
“ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال”.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم.
لكنه، يأخذ بالطريقة الكلية والعقلانية في معالجة المشاكل، فلم يحدد سوى بعض المبادئ ليسترشد بها الناس لأن الإنفاق الشخصي زمانا ومكانا يتحدد بالضرورة بحالة الشخص ودخله ووضع المجتمع المسلم من حيث ثراؤه ومستوى العيش فيه. غير أنه يجب أن يليق بالشخص المخلوق المتواضع. فرغم ما هو مطالب به من استخدام ماله فيما يجلب له اليسر في معاشه ويزيد من فعاليته، إلا أنه لا يجوز له أن يعمد إلى تبذير موارده فيما يتنافى والذوق السليم رياء وبطرا ومباهاة، وفي هذا قال الرسول الكريم:
“لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا”.
“إن الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد”.
أو أن يصرفها في الخمر والميسر والفحشاء أو في أي نشاط مخل بآداب الدين:
(يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون).
(قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق).
(… يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث)…
والإسلام في حرص على بناء مجتمع قائم على العدل والأخوة يؤكد على ضرورة إزالة الحواجز الاجتماعية التي توجدها الفوارق الضخمة في الدخل والثراء بين الغني والفقير، كما يشدد على ما للعباد من حقوق، ويبين ما يجب على المسلم الذي يكسب فوق حاجته المعقول من عمله إزاء من هو أقل حظا منه:
(والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم).
(وآتوهم من مال الله الذي آتاكم).
واستلهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه قول الله عز وجل هذا، فقال:
– وليست الصدقة فضلا للغني على الفقير، بل هي حق في مال الغني للفقير. وفي الإحسان، ليست المثالية في التصدق بالعفو، وإنما هي في تنازل الرجل عن شيء مما يحبه هو إلى من هو أكثر حاجة إليه. وفي هذا الإيثار يقول سبحانه:
(ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة).
(لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون).
ويقول عليه الصلاة والسلام:
“لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”.
“من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة”.
“ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم”.
ومد يد العون يجب أن يتحلى بالنية الطيبة تزكية للنفس وابتغاء لوجه الله:
(الذي يؤتي ماله يتزكى، وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى)
لا رياء فيه ولا إذلالا لمن تسدي إليه:
(قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى).
(يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر).
وليتمكن المسلمون من بناء مجتمع مترابط ترابط الأسرة الواحدة يوزع فيه المال بالعدل وتوفى حاجات المحتاجين، فرض الإسلام نظاما متينا للتكافل الاجتماعي وأضفى عليه قدسية لا مثيل لها في العالم. وهذا النظام هو الزكاة. وبموجبه صار من فروض المسلم الدينية أن يؤدي نصيبا من صافي ماله بنسبة اثنين ونصف في المائة إلى بيت مال الزكاة أو إلى صندوق التكافل الاجتماعي. ولأهمية هذه الفريضة جعلت عنوانا من عناوين الإيمان، وقرنت بالصلاة في معظم الآيات التي ذكرت فيها ولعظم شأنها، قال عبد الله بن عمر:
– من أقام الصلاة ولم يؤد الزكاة فلا صلاة له.
وفي تحصيلها، يحبذ الإسلام أن تعمل الدولة على جبايتها في حالة وجود دولة إسلامية. وهذا ما حدث بالفعل في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وفي عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وأبو بكر قاتل المرتدين الذين امتنعوا عن تأديتها. أما في عهد الخليفة عثمان ذي النورين فقد سمح بدفعها إلى المحتاج مباشرة.
ويرى أبو بكر الجصاص أنها يجب أن تدفع إلى الدولة فقط لا إلى المحتاج مباشرة، عملا بقوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)
والزكاة ليست هي البند المالي الوحيد الذي يحق للدولة أن تعمل على تحصيله. بل من حقها أيضا أن تجبي المزيد من الأموال إذا عجز ريع الزكاة عن سد حاجة المجتمع المسلم. وقد جاء في الحديث الشريف:
“إن في أموالكم حقا سوى الزكاة”.
ومال الزكاة لا يدمج بالضرائب العادية التي تفرضها الدولة الحديثة لتواجه بها نفقاتها لأن هذا المال ضريبة خاصة لها نصابها في مال الغنى للفقير والمحتاج ضمانا لمستوى من العيش في حده الأدنى لكافة أفراد المجتمع، وللإقلال من التفاوت في الدخول وجعلها في مستوى مقبول وصحي.
أما توزيع الدخول فإن العدل يسير سيره الطبيعي في التوريث. فالوصية لا تسري إلا على ثلث ما يترك المتوفى، والثلثان الآخران يوزعان وفق نسب متوازنة حددها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة بغية الوصول إلى العدالة المنشودة. ومن المأمول من الشخص أن يوزع الثلث الذي يحق له الوصية به في وجوه تتحقق بها أهداف الدين، وذلك بسد حاجات، ومطالب المجتمع أو أفراد معينين، وهي الحاجات والمطالب التي لم ترد في تشريع الإرث.
والإسلام في وضعه نظاما لتوزيع الدخول وللتكافل الاجتماعي لا يقصد تشجيع الخمول أو تثبيط الهمم عن العمل الجدي. وخير ما نستشهد به هنا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
“لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني فإن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة. ولكن الله يرزق الناس بعضهم من بعض”.
“ابتغوا من فضل الله ولا تكونوا عيالا على الناس”.
وبخصوص المؤسسات الحكومية أو الاجتماعية التي تعنى بالزكاة فيجدر بها أن تقوم بتدريب الفقراء على مختلف المهارات ومساعدتهم في العثور على أعمال تتناسب وقدراتهم ليكونوا أنفسهم بأنفسهم كما أراد لهم الإسلام، ولنا قدوة بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع الأنصاري الذي رآه يسأل الناس فلم يتصدق عليه وإنما أوجد له عملا. وخطوة رسول الله هذه دليل عملي على أن الإسلام يحض على إسداء المعونة للعاطلين عن العمل والمرضى والمعوقين والمسمنين، وفي الوقت نفسه بيان لمن تجب الصدقات إذ قال:
“لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي”.
وإمساك اليد عن التبذير والبذخ يبقى لدى الرجل فائضا لا بأس رغم ما يصرف في وجوه التضامن الاجتماعي. وهذا الفائض يجب أن يستثمر في المنافع الاجتماعية المنشودة وفي الإكثار من فرص العمل لأن كنز المال أو تعطيله غير جائز. والاستثمار نفسه سيساعد على تحقيق أهداف المجتمع الإسلامي لأنه انتفاع بنعم الله لتحسين أحوال الناس من خلال إيجاد فرص العمل لكل الناس، ومن خلال زيادة معدلات النمو الاقتصادية اللذين بدورهما سيحصران الفقر في أضيق نطاق ويوفران قاعدة عريضة للرخاء الاقتصادي والتوزيع العادل للدخول. ومعنى هذا كله أن الاستثمار في حد ذاته يعتبر عملا فاضلا يساعد على تحقيق أهداف الدين. وفي نهيه عن إبقاء المال معطلا قال صلى الله عليه وسلم:
“من باع دارا ثم لم يجعل ثمنها في مثلها لم يبارك له فيها”.
“من باع عقر دار من غير ضرورة سلط الله على ثمنها تالفا يتلفه”.
ولعلنا نوجز هذا الفصل بالقول: إن الإسلام يعلق أهمية كبيرة على القيم الروحية، وإن نظامه الاقتصادي يقوم على أساس أخلاقي متين. والمسلم – لينعم في دنياه وأخراه – عليه أن يراعي آداب الدين في طلب الرزق، وأن يضع ماله فيما يجلب الخير له وللناس. وللوصول إلى أهداف المجتمع القائم على الأخلاق والأخوة والتعاون لا بد من وجود نظام تربوي يغرس هذه القيم في نفوس النشء، وينظر إليه كإلزام أدبي للمجتمع، ومهمته أساسية من مهام الدول الإسلامية تعمل على تنفيذها بكل جد وإخلاص.