لعل القارئ الكريم يعلم مقدار ما تعرض له الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية من حملات ظالمة ومنظمة، تنزع عن عصبية حينا،
وعن جهل فاضح حينا آخر، لكنها في الأعم الأغلب كانت تصدر عن نزعات كيدية استعلائية، تثبيطا لهمم أهلها، وتعميقا لآلام الجراح التي أصابت الأمة الإسلامية في تاريخها الطويل.
ولن نتعرض في هذا المقال لترديد التخرصات والافتراءات والشبهات التي أثيرت في وجه الحضارة الإسلامية بعامة والفكر والثقافة الإسلامية بخاصة، فلذلك موضع آخر. ويكفي أن نشير إلى أسماء بعض المستشرقين الذين نالوا من قدر هذه الثقافة والحضارة، كما نالوا من أهلها، وخصوا العرب بالذات، بقدر هائل من الهجوم والطعن، وهؤلاء مثل هيجل، وفون كريمر، وجولدشيهر، ورينان، وماكدونالد، ومرجليوث، وغيرهم.
ولن نتعرض في هذا أيضا للردود القوية الحاسمة على هذه الافتراءات والشبه، فقد عالجنا ذلك في مواضع متفرقة وفي مناسبات متعددة.
لكننا سنحصر حديثنا هذا في نقطتين أساسيتين، تختص أولاهما بمقومات الأصالة في ثقافتنا الإسلامية. وتختص أخراهما بمبررات التجديد في هذه الثقافة، وبين الأصالة والتجديد يتراوح بحثنا حتى نصل إلى صيغة مرضية نعتبرها مفيدة في إلقاء الضوء على النمط الثقافي الذي ينبغي أن يكون زاد المسلم المعاصر.
وقبل أن ندخل في لب موضوعنا نود أن نزيح من طريقنا أولا فرية طال عليها الأمد في عقول بعض شبابنا، وأنصاف المثقفين في أمتنا نتيجة لإلحاح بعض خصوم الإسلام عليها، وتكرار بعض المتصدرين للتثقيف في بعض الدول الإسلامية لها، حتى نالت من أعماق الكثيرين من فتياننا وفتياتنا.
وتلك الفرية تتعلق بجمود الحياة الفكرية عند المسلمين نتيجة للموقف السلبي الذي يقفونه من الحياة امتثالا لعقيدة القضاء والقدر، وتلك فرية رددها مستشرقون كثيرون، وألح عليها أ. ميلر A.Miller في عبارته المشهورة التي تقول: “تلك العقيدة الراسخة المطلقة، وذلك الإيمان غير المشروط بالقضاء والقدر الذي يقيد اليوم والحياة الفكرية عند المسلمين بقيود حديدية ثقيلة، لم يكن من الممكن فيما يبدو التحرر منها”.
ونزيح هذه الفرية بقولنا: إن الإيمان بالقضاء والقدر –كما ينبغي أن يكون وكما رسمه الإسلام- لا يمنع مطلقا من الانطلاق، وبذل أوجه النشاط الخلاق.
إن هذه العقيدة –كما أريد لها في الإسلام- تقف بمثابة الظهير القوي لجهود الإنسان. ويظهر نفعها بحق عندما تتعثر أقصى الطاقات الإنسانية في طريقها إلى أهدافها، دون أن نعرف لذلك وجها واحدا من وجوه التقصير أو الخطأ. فبدلا من أن تتحطم جهود الإنسان على صخرة العناد والشقاق والحقد على طبقات المجتمع، أو تتبدد الجهود الفكرية دون الظفر بحقيقة متيقنة ملموسة، أو تتردى الأفئدة في وهدة الحيرة والقلق والشك والحزن العميق لما يبدو لها من إهمال أو تخل، أو خلو الحياة من النظام والأحكام والغاية والهدف نقول –بدلا من هذا كله- ينسب الفكر كل ما جاوز طاقته وحده، إلى القوة التي تجاوز بالفعل كل طاقة، وكل حد.
أفيجد المنصف غاية أبعد في التحرير والانطلاق، وأقرب إلى الحق والإنصاف من هذه الغاية؟.
صحيح أنه ربما قد وجد من المسلمين من أساء فهم هذه العقيدة واتخذها سبيلا لتمرير مآثمه أو مظالمه أو تكاسله، ولكنه ليس من الصحيح أن يكون ذلك راجعا إلى جوهر هذه العقيدة في صفاتها وسمو مستواها.
إن هذه الفرية السالفة تشبه فرية الملحد الذي يدعي كمال تحرره وانطلاقه، كما يدعي تقيد المتدين وضيقه وعبوديته، مع أن الأمر في حقيقته على العكس من ذلك تماما، وهذا ما نود أن نهمس به في أذن شبابنا.
إن الملحد الذي تحرر من العقيدة الدينية، يقع بالفعل أسير لعقيدة أحط قدرا، وأدنى منزلة، وأكثر تنافرا مع كرامة الإنسان وسمو إنسانيته. وهذا بالطبع لا ينطبق إلا على العقائد الدينية الصحيحة التي تقف في قمتها عقيدة الإله الواحد الذي “ليس كمثله شيء وهو السميع البصير” الإله الذي تفوق صفاته وكمالاته أسمى ما يتخيل في كائن. إذ معنى ذلك بصريح العبارة: أن من يعتقد هذا الاعتقاد في عمق وإيقان، قد تحرر تماما من الخضوع والعبودية لأي إنسان، بل لأي مخلوق. حيث ارتبطت عبوديته بمبدأ يسمو على البشر والملائكة، على حين أن الملحد قد أسلم نفسه رخيصة لمبدأ اخترعه هو، أو اخترعه له مجتمعه وقد ينحط هذا المبدأ ليرتبط بالمال أو الحياة أو الطبيعة أو الصدفة أو الحيوان أو الشيطان أو الصفات اللاصقة فعلا بالبشر، فهو بكل تقدير دون الأول فكرا ووجدانا وسلوكا. ولذلك تفصيل يضيق به صدر هذا المقال.
والمهم أن نعلم أن عقيدة القضاء والقدر في صورتها النقية لم تكن، ولن تكون –حجر عثرة في تطور الحياة الإنسانية فكرا وثقافة وحضارة، ولعل أبلغ دليل على صحة ذلك هو ما أثبته التاريخ بصورة لا تقبل الشك، من تدفق النشاط الفكري الإسلامي عبر قرون طويلة، مع وجود عقيدة القضاء والقدر. فلم يؤثر في العصور الزاهية أن هذه العقيدة حدت من نشاط المسلمين أو قللت من جهودهم. أو أسهمت في اضمحلال حضارتهم.
إن الصحيح أن يقال: إن الاحتجاج بهذه العقيدة في البيئات الإسلامية لم يكن إلا في عصور الانحطاط والجمود، حيث كانت بالنسبة للهمم المتقاعسة والعقول الجامدة، خير ملاذ وملجأ. أما في القرون الناهضة فلم تكن هذه العقيدة إلا عونا على اعتدال الإنسان، ومعرفته قدر نفسه، ولم تكن إلا مشجعا على تحمل النوائب لاستئناف الكفاح.
وبعد أن أزلنا مثل هذه الأحجار من طريقنا يجمل بنا الآن أن ننتقل إلى مقومات الأصالة في فكرنا وتراثنا وثقافتنا، وأن نفهم في هدوء ما نعنيه “بمقومات الأصالة” في هذا المقام، حتى يتضح لنا بالتالي المراد بتجديد الثقافة الإسلامية “ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة”.
إننا نقصد “بمقومات الأصالة” الخصائص الجوهرية، والبذور الحقيقية التي ينبثق منها الطابع المميز الثابت لهذه الثقافة، تلك الخصائص الجوهرية التي تمثل في الوقت ذاته نقاط انطلاق لأية حركة تجديدية في هذه الثقافة، وهذا في نظري سر روعتها وجلالها في حد ذاتها، وهذا أيضا من أسباب خفائها وغموضها في نظر الكثيرين من بعض أنصار الإسلام وخصومه على السواء.
فلسنا نقصد –إذن- بمقومات الأصالة، الأمثلة الدالة على هذه الأصالة في الثقافة أو الفكر الإسلامي: كاهتداء المسلمين إلى المنهج الاستقرائي الذي يدنو كثيرا من المنهج العلمي الحديث، ونقدهم للمنطق الأرسطي، ومعالجتهم القضايا الفكرية المختلفة في ضوء عقيدتهم، ونقدهم الدقيق للأنماط الفكرية التي سبقت –أو عاصرت- دينهم، فلذلك مقام آخر، وهو يتصل بالماضي أكثر مما يتصل بالحاضر، كما أن معظم هذه الأمثلة والظواهر لم تعد الآن موضع أخذ ورد كما كانت في سالف العهد.
كما لا نعني “بمقومات الأصالة” إحصاء العلوم التي ابتدعها المسلمون أو عدلوها أو أضافوا إليها، أو تقصي النظم الإدارية والسياسية والقانونية والتشريعية والكلامية والفلسفية التي عاشت وتنسمت عبير الجو الإسلامي أو استضاءت بنور الإسلام، أو انتفعت بسعة صدره ورحابة أفقه، فذلك أيضا رهن بسياق آخر يتجاوز حدود هذا المقال، وإن كنا لا نشك لحظة في أهمية التعرف على كل هذه الجوانب، إحقاقا للحق من جهة، ودعما للوجود الإسلامي في أعماق الفرد من جهة أخرى.
وخير وسيلة لوصف مقومات الأصالة هو عرض مثلها لا أمثلتها كما يتضح مما يلي:
إن اتصاف الثقافة بأنها إسلامية يعني ببساطة انتماءها إلى الإسلام إما بطريقة مباشرة صريحة واضحة، وإما بطريقة تختلف بعدا وقربا، وصراحة والتواء باختلاف قرب أو بعد، وصراحة أو التواء صانعيها. ولذلك كان على الباحث المنصف ألا يلجأ إلى فروع هذه الثقافة المختلفة إلا بعد أن يلجأ إلى النبع الأصلي الذي تفجرت منه سائر الينابيع، أو وجدت بمجرد التجاور في أرض أهله بعض البرك أو البحيرات.
ودون أن نغرق في الرمز والكناية نقول: إن المصدر الأول لمقومات الأصالة في الثقافة الإسلامية يتمثل في القرآن الكريم، مشروحا بمقال النبي صلى الله عليه وسلم وحاله وفعاله.
لكن لا ينبغي التسرع بالقول بأن هذه حقيقة واضحة مكرورة لاكتها الألسن كثيرا، وعالجتها الأقلام غالبا، لأن المتسرع بمثل هذا القول يفقد الكثير من النقاط الهامة التي نود أن نشير إليها من أجل شبابنا المثقف بصفة خاصة.
إننا حين نعلن ضرورة اعتبار الانبثاق الثقافي الأصيل من القرآن مفسرا بالنبوة، نوجه الأنظار على الفور إلى الضمانات الحقيقية الموضوعية لتحقيق الأصالة وتثبيتها، عن طريق استيعاب وسائل التربية الثقافية التي تضمنها هذا المصدر الجليل، الذي يعد بحق خير مطلق للطاقات الإبداعية في الإنسان، كما سنحاول أن نشير إليه في إيجاز يفرضه المقام، مرجئين تفصيل ذلك ومقارنته بالأنماط الأخرى غير الإسلامية إلى مناسبة أخرى:
ومن التأملات السريعة التالية يتضح ما نقول:
1– يربي القرآن فينا ملكة “النقد النزيه الموضوعي” لما يلقي إلينا من آراء أو أفكار، مع الدقة والأمانة في نقل أو رواية أقوال الغير، وضرورة التفرقة الحاسمة بين العلم والظن.
ولن يعجز القارئ تلمس الأمثلة الكثيرة لهذه الظاهرة في القرآن، وعلى سبيل المثال: موقفه من عرض آراء المخالفين للعقيدة الإسلامية، ثم التعقيب عليها في وفاء تام بالخلق العلمي الأصيل. تأمل مثلا هذه الآية التي تحكي رأي “الدهرية” “وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر” كيف يعقب القرآن على ذلك بقوله “ما لهم بذلك من علم، إن هم إلا يظنون”.
وبالمقل يجبه هؤلاء الذين ادعوا أنوثة الملائكة مثلا بهذا السؤال “أشهدوا خلقهم؟” ومعنى ذلك بلغة عصرنا المبسطة أن فكرة أنوثة الملائكة إذا أريد لها أن تكون صحيحة ويقينية فلا سبيل إلى ذلك إلا بالملاحظة والمشاهدة –وهما كما نعلم وسيلتان معتمدتان من وسائل العلم والمعرفة أليس هذا هو بالضبط ما تعنيه روح المنهج التجريبي الحديث؟.
إن هذه الآية بكل صدق توجه أنظارنا إلى تجنب إلقاء القول على عواهنه، وإطلاق الأحكام جزافا، وإلى ضرورة التحري والضبط قبل الإدلاء بالرأي أو الفكرة.
ويطول الحديث عن كيفية حث القرآن على إطلاق الطاقات الخلاقة والوسائل المعتمدة للمعرفة من نقلية وعقلية ووجدانية، ويكفي أن يحال القارئ على بعض السور والآيات الموضحة بالهامش ليدرك في تأمله الواعي الروعة المعجزة في كيفية إفساح المجال أمام طاقات الإنسان ومكلاته في شتى الآفاق، وأعمق أعماق النفس.
وإن نظرة سريعة إلى المصطلحات التي تتعلق بعملية المعرفة في تدرجاتها والنتائج المترتبة عليها، والتي تكرر ورودها في القرآن في مواضع مختلفة وفي سياقات متباينة لتدل دلالة قاطعة على عناية القرآن بالتربية العقلية والوجدانية والسلوكية في اتساق وتوازن يعيا دونه أي تخطيط بشري مهما تحرى الدقة وبالغ في الحرص والانتباه. ومن هذه المصطلحات ذات الصلة الوثيقة بالنشاط العقلي على وجه الخصوص ألفاظ التفكر والفقه، والعقل واللب والتدبر، والعلم والتذكر وما إلى ذلك من ألفاظ تتعلق بالبصر والبصيرة والقلب، والعبرة إلى غير ذلك.
والحصيلة العامة لهذه الظاهرة في القرآن والسنة تصور المعرفة ذات مصادر متنوعة منها المعاناة الفكرية، ومنها الإشراق النفسي والإلهام، ومنها الطبيعة بما تعرض من موضوعات وظواهر تعتبر مجال التأمل الفلسفي أو البحث العلمي، ومنها التاريخ الذي يحمل من التجارب تراثا يتضمن كثيرا من الحقائق والعبر والدروس. وحسبنا أن نعلم أن أجل أعمال ابن خلدون العلمية المتمثلة في مقدمته وفي كتابه “العبر” كان ثمرة طبيعية للانتفاع بالتوجيه القرآني واستيحاء الروح الإسلامية.
2- يربط القرآن دائما بين المعرفة أو الثقافة والنتائج العلمية المترتبة عليها من حيث النفع أو الضرر، وتختلف مستويات النفع والضرر باختلاف الزوايا التي تتعلق بها هذه المعرفة أو الثقافة. وبعبارة أخرى يرى الإسلام –ممثلا في القرآن والسنة- تكامل العلم والعمل، وتبادلهما النمو والازدهار. وإذا أدينا ذلك بأسلوب العصر قلنا إن المعرفة والممارسة تشكلان حصيلة الخبرة الضرورية لنمو الحضارة والثقافة، وهذا ما يؤيد الرأي الذي نتبناه من أن الدين كان أسبق من العلم الحديث في استخدام التجربة بمعناها الشمولي الإنساني experience لا بمعناه المعملي المقيد experiment.
وذلك الموقف أيضا يفوق في الدقة أولا، والسعة ثانيا، الموقف البرجماتي في ثقافتنا وفي الزاد الثقافي الذي نقدمه لشبابنا المعاصر –إلى الممارسة المستضيئة بالفكرة الموثقة.
وذلك الموقف أيضا يفوق في الدقة أولا، والسعة ثانية، الموقف البرجماتي الذي يدعي كثير من الدارسين سبقه إلى الجدة والفعالية كما يحل المشكلة الأخلاقية على خير وجه وأمثله بمبدأ الأسوة الحسنة، وهو أفضل المبادئ وأحسمها.
3– يربي القرآن العقل والبصيرة على الكفاءة في رؤية الوحدة من خلال الكثرة، وتلمس الرباط الموحد الذي ينظم ما يبدو متنافرا متباينا. ونتيجة هذه التربية هي الأناة في الحكم على الأشياء من مظاهرها، وعدم الاغترار بظواهر التدبر والانفصال، بل عدم الاغترار بالظواهر عموما، وضرورة الغوص لسبر الأغوار والبلوغ بالاستقصاء إلى المبلغ الذي تقف عنده الطاقة البشرية
ولا يخفى أثر هذه العناصر في الزاد الثقافي الذي ينبغي أن يقدم إلى الشباب المعاصر على وجه الخصوص، ولعل أدنى ما ينتظر من فائدة مثل هذه العناصر يتمثل في عصمة عقل الشاب ووجدانه من التأثر بالشعارات الجوفاء، أو العبارات الرنانة، أو المذاهب البراقة التي تغشي الأبصار وتخدر العقول وتعطل الملكات السامية، لتطلق الغرائز الجائحة، أو الميول الجامحة.
فالقرآن يعلمنا مثلا أنه ليس من الضروري أن يكون حكمنا بخيرية عمل ما أو بشرية عمل ما –حكما سليما، لا سيما إذا بني حكمنا على دوافع عاجلة ملحة، لا تمنح للعقل ولا للوجدان الوقت الكافي أو الفرصة المناسبة لإطلاق مثل هذه الأحكام.
وللقارئ أن يتصفح الكتاب الكريم في عديد من السور والآيات ليتعلم هذا الدرس المعروض في أثواب مختلفة، ومن زوايا متعددة تتعلق بالماضي والحاضر والمستقبل.
ولن نستمر في عرض الملاحظات الأخرى التي نخرج بها من تأملنا للقرآن الكريم، وإنما نكتفي بالملاحظات الثلاث السابقة كإشارة إلى مدى ما يمكن أن نفيد من النظرة الإسلامية في تشكيل الزاد الثقافي على أسس تكفل له الأصالة والتميز. وإنا لنعد القارئ بأن نعود إلى موضوع “آفاق المخطط الثقافي من القرآن” في أقرب فرصة تسنح إن شاء الله.
وحسبنا أن نشير في نهاية هذه الملاحظة الثالثة إلى أن الروح الإسلامية المستوحاة من القرآن والسنة علمت الخلص من المتصدرين لصنع الثقافة في العالم الإسلامي حقيقتين هامتين، هما في نظرنا موضع اعتزاز كل مثقف نزيه:
أولاهما: التمييز بين ضربين من الاتجاه الثقافي: الاتجاه الاستيعابي الأفقي المستعرض، بغية الإحاطة والإلمام بخلاصة الحصيلة الثقافية والفكرية لجوانب الحضارة. والاتجاه التخصصي المتعمق، بغية الإجادة والإتقان لفرع أو أخر من فروع الثقافة.
والأخرى: التطور الفكري المستمر حقيقة يجب أن يعيها المسلم بصورة تليق بكرامته العقلية، لا بالصورة التي تفتعلها بعض المذاهب السطحية. وتمثل الأديان في حد ذاتها حلقات متتابعة في هذا التطور حتى بلوغ الإنسانية رشدها بفضل الصيغة النهائية الخاتمة لهذه الأديان، ممثلة في الإسلام.
ودون أن نغرق القارئ في تفصيلات حول حقيقة هذه النقطة الخاصة بالتطور في صورته العامة، والتطور الحيوي والفكري في صورته الخاصة، ينبغي أن نشير إلى أن الإسلام يقف متميزا فوق مصادر الأنماط الثقافية باحتوائه على خصيصة فريدة لا يشاركه فيها دين سماوي أو مذهب فكري. وهذه الحقيقة تتصل بأقصى الأبعاد المحتملة للتطور كما تتحمل الطاقة البشرية الذهنية. فالواقع أن فكرة التطور في الإسلام لا تقف عند حد هذه الحياة الموقوتة المحددة بل تمتد إلى الحياة الأخرى، مع ارتباط هذه الفكرة بمبدأ الترقي وازدياد المعرفة والخبرة.
ولم أصادف فيما قرأت عن الأديان أو المذاهب الإنسانية نصا يدل على الحاجة إلى العلم أو المعرفة في الآخرة، وأن وظيفة التعليم والتعلم تستمر في هذا النمط الجديد من الحياة كما وجدت في الإسلام، ولذلك تفصيل يسد عنه في هذا المقال أن نشير إلى مثالين أحدهما قرآني يعكس ما يراه المفسرون للآية الكريمة “لتركبن طبقا عن طبق”، والآخر ينتمي إلى أصل نبوي من قريب أو من بعيد، وإن شئت قلت ينتمي إلى الروح التي استخلصها ذوو الشموخ الفكري في الإسلام.
ونوجز المثال الثاني بالتعبير عن احتياج أهل الجنة إلى العلماء لأن الأولين حين يستوفون غاية آمالهم، وقمة تطلعاتهم تقف هممهم دون التقدم للمزيد لعدم درايتهم بما وراء ما استوفوه، فيلجئون إلى العلماء ليبصروهم بما ينبغي أن يطمحوا إليه في خطواتهم المتقدمة، لأنهم أقرب إلى إدراك ما يليق في ضوء معرفتهم بربهم وبما يليق بكماله وجماله.
ويقف الساذج أمام هذه الفكرة دون أن يعي الحصيلة الهامة وراءها. إذ قد يظن أن المراد أن هؤلاء العلماء –على فرض الحاجة إليهم، إنما يدلون هؤلاء على قوائم أخرى من الطلبات التي يقدمونها لربهم، وهذا في نظرنا إجحاف مشين بسمو هذه الفكرة، وإغفال تام للقيمة الحقيقية لأبعادها.
إن هذه الفكرة –باختصار شديد ترمي إلى تنبيه العقل البشري للوجدان الإنساني إلى الإمكانيات الهائلة التي منحها الإنسان، كما ترمي إلى المصير اللامحدود في الترقي لهذا الكائن، في الوقت الذي نشير فيه إلى لانهائية الكمال الإلهي الذي تسبح في أفاقه أرقى العقول وأصفى القلوب، والذي يظل القدر الأكبر منه غيبا تتكشف جوانبه تباعا، مفضية إلى نمو المعرفة واطراد الترقي، وهذا ما بحثه علماؤنا –وبخاصة الصوفية منهم- حول مبدأ “المزيد”.
تجديد الثقافة ونوعيتها:
إذا احتفظنا بتأملاتنا السابقة في الذاكرة وانتقلنا إلى هدفنا الأساسي من هذا المقال –وهو وضع الإطار العام الذي تعاد فيه صياغة الثقافة الإسلامية للمسلم المعاصر، صياغة تجمع إلى الأصالة عنصر المعاصرة- نقول: إذا احتفظنا بذلك أمكننا أن نقول على الفور أن تجديد الثقافة في حد ذاته يعتبر تطبيقا عمليا للروح الإسلامية، كما يعتبر وفاء بمتطلبات الحياة المعاصرة على تشابكها وتعقد مسالكها.
فليس بخاف على أحد أن حركات التجديد في الفكر والحضارة قد بدأت بالإسلام نفسه، وبما حوى من آراء وحقائق ومواقف عبر تاريخه الطويل، كما أنه ليس بخاف كذلك أن طبيعة الفكر من جهة، وطبيعة الإسلام من جهة أخرى تشجع على التجديد وتعتبره في النهاية محاكاة لصانعي التراث.
فطبيعة الفكر تقبل الامتداد والنماء والتطور والتغير نتيجة للاحتكاك بين أفراد المجتمع من ناحية، وبينهم وبين غيرهم من المجتمعات أو الحضارات من ناحية أخرى. وطبيعة الإسلام تسمح بهذا النماء وتشجع عليه وتسلك إلى ذلك كل سبيل، ومناشدة القرآن للعقل والتجربة أمر معروف للدارسين، كما أن تصويره لتنوع مصادر المعرفة، ونظرته الموسوعية وتنوع زواياها –كل ذلك يدحض آراء المتعصبين المتقوقعين الخالدين الذين يقنعون بأبسط الحيل في تثبيط همة كل داعٍ إلى التجديد، وهي الوسم بالضلالة والزيغ لكل من ود أن يعرض على أمته فهما جديدا، وكأنه في نظرهم قد أتى بشرع جديد، وشتان بين الموقفين.
كما أن لأمثال هؤلاء –وهم قلة- حيلة خبيثة أخرى وهي الخلط بين المبادئ والأشخاص، فإذا عارضت رأي أحد منهم، عدك معارضا للدين الذي يدعي أنه يمثله، ووحد بين شخصه وبين المبدأ الذي يحتمي بحماه.
وأود في هذا الصدد أن أعبر في صراحة مسئولة أمام الله قبل أي كائن، أنه لم يوجد على وجه الأرض منذ أن شرفها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من يستطيع أن يثبت بالبرهان المقنع، والحجة البالغة أنه حمى أو أيد أو نصر الإسلام مهما كان مركزه: عالما أو فقيها أو فيلسوفا أو قاضيا أو ملكا أو حاكما.
وقد يدهش القارئ لهذا الحكم ويسارع إلى تكذيبه أو يبادر إلى ذكر الأعلام الذين يحتلون من عقولنا وقلوبنا أعز المواطن، ذاكرا ما كان لهم من بلاء وكفاح وجهود في نصرة الإسلام ذهنا ولسانا ويدا. لكنني أطمئن هؤلاء وأولئك إلى أن التأمل العميق في حقيقة أدوار هؤلاء الأبطال في ميادين القلم والسيف يفضي إلى إدراك أن هؤلاء جميعا ابتداء من الصحابة الأجلاء، إلى الفرسان والعلماء الفضلاء- إنما نصرهم الإسلام وحماهم الدين بحكم أنه القانون الذي لا تختلف نتائجه، شأنه في ذلك شأن سائر القوانين الطبيعية.
ولو كان هؤلاء هم الذين نصروا الإسلام حقيقة، بحكم ما لهم من اجتهادات فردية فحسب، لكنا نحن أولى منهم في تحقيق النصرة لكثرة أعدادنا، ووفرة إمكانياتنا.
لقد تمت فيهم على الحقيقة مكارم الإسلام في أجلى صورة، فكان لها أن تضيء، وأن تكتسح ما أمامها من ظلام، وأن تسود بحكم قانون السماء وكان عائد ذلك كله على أهل هذه المكارم، ولله المثل الأعلى.
فليطمئن هؤلاء المتشدقون إذن، ولتطمئن نفوسهم في حضرة الله، وليستحوا أن يمنوا أو يتصدروا فإن الله يمن عليهم أن حباهم بهذا الدين، وأن بوأهم مكانا ظليلا في حماه.
لكن ذلك لا يمنعنا من التنبيه إلى أنه ينبغي أن يعلم هؤلاء أن هناك مبادئ ومثلا وعناصر ثابتة، أكدت الأحداث والتجارب والتأملات صدقها وثباتها، ولكن صور هذه المبادئ والمثل كما تبدو في الواقع تعتبر متطورة متغيرة متحركة، وليست هامدة ساكنة، فلعل ذلك يخفف من حدة التعصب.
والواقع أن من الأهمية بمكان تحديد مفهوم “التجديد الثقافي” ووصفه في أوجز صورة بأنه تجديد أمثلة الواقع المشكل لجزء هام من الحقيقة الكبرى التي يجب أن يعيها المثقف، كما أنه تجديد يرمي إلى الربط بين المعارف المختلفة التي يزخر بها عصرنا، والمشاكل المتعددة التي تواجهنا، والتيارات المعاصرة التي تهب ريحها فتقلع وجوه شبابنا بزمهريرها أحيانا، وشواظها أحيانا أخرى، دون وقاية أو حماية فكرية أو ثقافية.
ولسنا نعني بالرقابة والحماية هنا الحيلولة بين شبابنا وبين هذه التيارات أو حجب هذه الأفكار والمذاهب عنهم، لأن ذلك في نظرنا خيانة لشبابنا، وغباء مؤسف، وجهل فاضح بنتائج هذا المسلك المستخذي الهزيل، إننا نعني بالوقاية والحماية إشراب شبابنا حصيلة المعطيات المطبقة لروح الملاحظات والتأملات التي أسلفنا الحديث عنها، بحيث تكتسب عقلياتهم المناعة الحقيقية، والحصانة الذاتية، فلا ينطلي عليها زيف، مهما أحكمت حلقاته، وتتهاوى على أعتابها المذاهب المنحرفة، مهما أجيدت حيكتها.
فإذا ما انتقلنا إلى الإطار الذي يحوي خلاصة الزاد الثقافي الذي يجب أن يقدم لشبابنا بوجه خاص، ولمثقفينا بوجه عام أمكننا أن نقول إنه إطار يتسع لكل ألوان المعارف العلمية والفنية والدينية بما يحقق المستوى اللائق بالشاب أو المثقف المسلم المعاصر.
ولكي نضع ذلك في صورة واضحة تماما نعرج مؤقتا على أنماط تصانيف العلوم التي تتخذ الملكات الإنسانية أساسا في عملية التصنيف، وأصحاب مثل هذه التصنيفات يختلفون زمنا وجنسية ودينا، فهناك الفرنسيون في طلع النهضة، وهناك الإنجليز بعدها، وهناك الأمريكيون في مشارف القرن العشرين، وهناك قبل هؤلاء وأولئك المفكرون المسلمون، وبالطبع لا يتسع هذا المقال لاستعراض هذه التصنيفات والمقارنة بينها واستخلاص أساس يجمع العناصر المشتركة بحكم أنها تمثل احتياجات الإنسان بما هو إنسان، لكننا بالرغم من ذلك قد نوهنا بما سيكون عليه الأمر تقريبا وهو الأخذ بمبدأ الكفايات أو الملكات الإنسانية كأساس للتصنيف المعتمد، ويمكن اختصار ذلك كله إلى ما يشبع الفكر والوجدان والسلوك.
لكن النظرة الموضوعية إلى واقع الأمر بالنسبة لشبابنا تفرض علينا أن نراعي أن يكون الزاد الثقافي المقدم لهؤلاء على مستويين يختلفان إجمالا وتفصيلا، أو إسهابا واختصارا، ولكنهما يتفقان جوهرا وأصولا. وتلك حكمة تسديها التجارب، وتحتمها طبيعة الأشياء، إذ لا يعقل أن يتساوى كافة الشباب المعاصر في مستوى وعي واحد.
ولا يظنن أحد أن المطلوب من مشروع التجديد الثقافي أن يأتي بمنط ثقافي يتناقض مع المنجزات العلمية المعاصرة بحكم إنه إسلامي، إذ الحقيقة أن هذا النمط الثقافي ينتفع تماما بهذه المنجزات في تأييد نقطة الانطلاق الإسلامي، وبذلك يثبت تماما أن العلم حليف الدين، لا عدوه.
ولإيضاح ذلك بالمثال، نقول: إنه لا داعي مطلقا لأن نصدر فتاوى توقيتية حول كل ما يجد في حياتنا الحضارية، لأن معنا الأساس العام والتصور الإسلامي الكامل لأبعاد التطور الإنساني. وباختصار لأن روح ديننا ونصوصه وما نتج عنهما، تشهد بأن هذه الحياة ستكون معرضا لأروع صور التطور، وأن مبلغ ذلك كله لا يتجاوز ظاهرة هذه الحياة، وأن أي كشف علمي يمكن أن يكون دعما للعقيدة أو على الأقل متمشيا مع روحها.
إن فهم الروح الإسلامية الصحيحة تهيئ الانسجام والتناسق بين مواد المعرفة وعناصر الثقافة مفضية بذلك إلى خلق الشخصية السوية الموحدة المتكاملة، والإيجابية في كل ما يعهد إليها.
لذلك كان من الضروري خلق المواءمة والتوفيق بين نتائج فروع المعرفة المختلفة داخل هذا الإطار الذي أشرنا إليه، ومن ثم لا تتبلبل خواطر الشباب حول نتائج المخترعات الحديثة، أو حول الانتصارات العلمية مع تصريحات العلماء أنفسهم حول القضايا أو المسائل الدينية.
ويجب أن يوضح في هذا الزاد الثقافي المجدد أن العناية بوجهة النظر الدينية ليست إلا لتحقق أمثل الفرص لضمان الدقة والضبط والصلاح والنفع الذاتي للمثقف، وبالطبع لن يوضح هذا في الزاد الثقافي عن طريق الوعظ أو الخطابة أو الكتابة الأدبية، وإنما يوضح بشتى الطرق غير المباشرة تبعا لطبيعة الحقل الذي تعالجه هذه الثقافة.
أما الجوانب التي يجب أن تطرقها الثقافة على المستويين المشار إليهما آنفا فيمكن تحديدها تحديدا تقريبيا قابلا للبسط أو الطي على النحو التالي:
الجانب الديني الخالص، وفيه تصنع “التركيبة” الثقافية التي تمزج الأحكام الدينية وعللها العقلية وآثارها النفعية وعلاقاتها بكل من الفكر والوجدان والسلوك، كما تربط كذلك بين المبادئ والقيم وصورها الواقعية ممثلة في الرواد والأعلام الذين هم موضع القدوة من السابقين والمعاصرين، تأكيدا للفعالية والحيوية التي يمكن أن تؤدي إليها هذه القيم والمبادئ.
لكنا في هذه النقطة نود أن نركز تأكيدنا على ضرورة الدقة والحصافة في اختيار الأسلوب والطريقة والمنهج الذي تقدم به الثقافة الخاصة بهذا الجانب، مع ملاحظة أن هذا الجانب الديني لا يقتضي بالضرورة أن يفسر تفسيرا عقليا صرفا، كما هو دأب الكثيرين الذين يتباهون بأنهم يستطيعون إحالة النظام الديني إلى نظام عقلي بحت، وهم في ذلك مخطئون أشد الخطأ، لأن طبيعة الدين تفترض أن يكون فيه بعض العناصر التي تتجاوز الحدود العقلية، ولكنها لا تتناقض مع هذه الحدود. ولو لم يكن الأمر كذلك لأضحى النظام الديني والنظام الفلسفي شيئا واحدا وهذا ليس صحيحا. ومن أجل ذلك قلنا إننا نوافق على صياغة فلسفة دينية، ولا نوافق على تأليف دين فلسفي.
وفي هذا الصدد نود أن نلفت أنظار الكثيرين الذي يكتبون بأقلام يسيل منها الاستخفاف بالجوانب الغيبية في الدين، بدعوى التحرر والتقدم العقلي، ومحاولة إظهار الإسلام –فيما يزعمون- بالمظهر اللائق، وهم يتابعون في بلاهة أقلاما مشبوهة تخطط للنيل من التمكن الذي تتصف به العقيدة الإسلامية، ومن مظاهر تطبيق هذا التخطيط مهاجمة ما يسمونه “العقلية الغيبية” ويقصدون بذلك العقلية التي تتسع للإيمان بالغيب، مع أننا نعلم أن الإيمان بالغيب سمة من سمات الكمال البشري التي أثنى عليها كتابنا الكريم ونوه به ديننا، ويكفي أن نعلم أن أكبر السور في القرآن تفتح بالثناء المستطاب على الذين يؤمنون بالغيب.
وبالإضافة إلى ذلك نرى أن إفساح العقل والقلب للإيمان بالغيب بقدر ما ينبئ عن سعة الأفق وعلو الهمة، هو في الوقت ذاته تتويج للأساس اليقيني الذي يركن إليه المؤمن بعد وضوح البراهين، ونصاعة الشواهد، فهو إذن ملائم في إطاره العام مع ما سبق التسليم به بناء على صدق الداعي وأحقية الدعوة، وكأنه استصحاب لهذا التصديق وذلك التسليم.
ثانيا: الجانب العلمي ويجب في هذا الجانب أن ننوه بضرورة الربط بين النتائج العلمية المختلفة، بحيث لا تدفع إلى الشباب الذي نريد تثقيفه مبعثرة أو منتثرة لا تضمها وحدة، لأن ذلك قد يحرم الشباب من رؤية الحقيقة الكبرى التي تكمن وراء هذه النتائج. وهذا الموقف الذي يؤلف بين النتائج العلمية ويضعها في قالب موحد جذاب يختلف بالطبيعة عن موقف العالم نفسه حين يستقصي في أبحاثه الجزئية الاحتمالات الممكنة لفروضه أو لتجاربه حتى يصل إلى نتائج كل نتيجة تقف بحد ذاتها مستقلة مقطوعة الصلة أحيانا بالنتائج الأخرى بحكم كل نتيجة تقف بحد ذاتها مستقلة مقطوعة الصلة أحيانا بالنتائج الأخرى بحكم التخصص الضيق والدقيق للعالم. ولا مانع من أن يقدم الزاد العلمي أيضا على مستويين: المستوى المتوسط الذي يلائم جمهرة الشباب المثقف، والمستوى السامي الذي يلائم الطلعة والمستزيدين.
ثالثا: الجانب الوجداني ويعرض في هذا الجانب من الزاد الثقافي ما يرهف الوجدان، ولا يرعبه أو ينال من قوة تحمله، وبديهي أن هذا الجانب يتمثل اعتماده أكبر ما يكون على الفنون، وهذه هي الفرصة المناسبة الحكيمة التي نربط فيها بين قيمنا الجمالية وقيمنا الخلقية، في غير تزمت أو تحلل، ليقيننا أن الالتزام الخلقي النزيه لا ينال من الكمال الفني ولا يعوق رقيه.
إن الوسائل المستخدمة لإشباع هذا الجانب والتي تشمل الكلمة واللون أو الصورة والصوت أو النغمة يجب أن تكون هي الأخرى ملتزمة بالدقة والأمانة والصدق. وأن تكون حاثة على تكميل البناء النفسي والحضاري في الإنسان، وذلك لا يتم بالطبع إلا إذا كان لمن يبدع في أي من هذه الوسائل غاية نبيلة وهدف شريف.
وباستكمال هذه الجوانب الثلاثة على المستويين السابقين تتكون لنا الحصيلة الثقافية التي تقدم للمسلم المعاصر، والتي يمكن وصفها وصفا عاما أنها الحصيلة التي تجمع إلى العناصر الأصيلة في التراث العناصر الجديدة المعاصرة رابطة الحاضر بالماضي لا بمجرد العودة إليه والانفصال عن العصر، بل بأحياء أو تجديد ما يحتاج إلى ذلك من الأفكار والمناهج والقيم والمعارف.
ولا يفوتنا في نهاية هذا المقال العاجل أن نشير إلى أننا لم نعمد إلى تقديم خطة كاملة قابلة للتنفيذ لإعداد مثل هذا الزاد الثقافي المجدد الذي ندعو إليه، ولا ندعي أننا وحدنا قادرون على تحقيق هذا الأمر برمته، ولكننا نعتقد أن من الواجب أن يجند لهذا العمل فريق من العلماء والفنانين والمفكرين في حقول الثقافة المختلفة. وهذا الفريق لا ينبغي أن يقتصر على المتخصصين المحترفين لأن هؤلاء كما أسلفنا فيهم قصور ضيق النظرة نتيجة للمبالغة في التخصص وطرح ما عدا ميدان التخصص الدقيق.
فمثلا الكيمائي، أو الفقيه، أو الأديب، أو المفكر الاجتماعي -ومن إليهم- كل واحد من هؤلاء لا يصلح وحده لإنتاج هذه الثقافة لأنه لو تم ذلك لخرج نظامه الثقافي مغلقا لا يخدم إلا وجه التخصص الذي يخلص له المنتج أو الدارس.
وإننا لنعد أن نعرض الخطوات والميادين التي تعالج في هذه الثقافة وكيفية إبراز هذا الزاد الثقافي وجعله في متناول الشبيبة المثقفة نعد بأن نقدم هذا في مقال آخر لا نغفل فيه كيفية التنفيذ.
وختاما لحديثنا نود أن نلخص ما أردنا عرضه في هذا الموضوع، على القائمين على أمر الثقافة الإسلامية يصيخون لهذا النداء المخلص والملح على ضرورة تجديد هذه الثقافة بحيث لا يقف شبابنا حائرا بين حاضر لا يستطيع إدراكه بل يلهث دون اللحاق به. وبين ماضٍ أنبتت صلته بالحاضر، لأنه أهله وقفوا به عند حدود حياتهم المخصوصة.
وعلى الهيئات الإسلامية والجامعات العربية وذوي الكفاءة من هذه الأمة أن يكرسوا جهودهم لإنتاج هذه الثقافة الآن لأن الظروف تلح على ضرورة ذلك. على ألا ننسى دائما أن الثقافة المستقيمة تنتج الإنسان المستقيم البناء.
فإذا ما تم إعداد هذا الزاد الثقافي الذي يشمل تفسيرا القرآن تفسيرا يجمع بين جانبي الفكر والوجدان، مع تأكيد أهمية التطبيق، كما يشمل خلاصة العلوم الإسلامية المساعدة لإدراك الحقائق القرآنية في وضوح ويسر. ولست أقلل أبدا من قيمة عرض زبدة الحياة الروحية والخصائص التربوية للحياة الصوفية الخالصة المستقيمة ومن البديهي أن يشمل هذا الزاد خلاصة النتائج والحلول للمشكلات العقلية والدينية والمدنية بنفس المرونة والانطلاق الذي نتمتع به في معالجة قضايانا الفنية وقيمنا الجمالية.
إن الزاد الثقافي المجدد يعفي كما قلنا من تتبع المكتشفات بفتاوى عفوية أحيانا، أو بهمهمة من الشك والتردد والاستخفاء. فإننا نثق بأن هذا الزاد المنطلق أساسا من منطلق إسلامي بصير يحقق لنا فتية يؤمنون بربهم وبأنفسهم وبمستقبلهم وبأمتهم، ويرون في التاريخ الإسلامي سلسلة ممتدة من محاولات التجديد باستيحاء هذا الدين، وعندئذ ممكن لهذه الأمة المسلمة أن تعتمد على هؤلاء الشباب في صنع نهضة وحضارة جديدة تصحح أخطاء الحضارات المعاصرة، حيث تزيل التعارض. وتسد الهوة الفاصلة بين التطور العلمي ومكانة الإنسان الحقيقية في العالم.
وما أعظم ثقافة انطلقت صيحتها، وصدر باعثها من دين يجعل الإنسان خليفة الخالق في الأرض. ويمنحه مكان الصدارة والسيطرة بين الكائنات وما أقرب اليوم الذي يهفو شباب العالم فيه إلى الإسلام كمصحح للتكوين الثقافي والهداية الحقيقية لهذا العدد الهائل من الشباب الضائع.
إن ذلك رهن –بلا شك- بنجاحنا في تقديم هذا الزاد الثقافي الجديد الذي يغني ويبني ويعد أمتنا للنهوض بأضخم المسئوليات وذلك ما نضرع فيه إلى الله.
وما نعاهد به أنفسنا على السهر عليه والإسهام فيه وإنا لنرجو أن يوفق الله شباب أمتنا إلى الانتفاع بمثل هذا الزاد الثمين إنه نعم المولى ونعم النصير.