أبحاث

مصدر المعرفة

العدد 5

مقدمة:لقد وجد الإنسان نفسه في هذا الوجود دون إرادة منه أو علم، وهو يرى نفسه يموت دون إرادة منه أو علم.

والغيب يحيط به من كل جانب.. ماضي الوجود ومستقبله أو ماضي الإنسانية ومستقبلها. ولا بد للإنسان أن يتبين حقائق الوجود والتاريخ؛ لأن هذا البيان ضرورة فطرية وضرورة عقلية وضرورة حسية.

إنه ضرورة فطرية لأن الإنسان مجبول عليها، تراه يظل يسأل عنها ويعاني الحيرة حتى يهتدي إليها، ألم تر إلى الطفل يسأل عنها ويعاني الحيرة حتى يهتدي إليها، ألم تر إلى الطفل يسأل أباه عن السماء وما وراء السماء وخالق السماء؟.

وهو ضرورة عقلية لأن العلم لكي يكون صوابا فلا بد أن يرتبط الوجود كله لأنه مترابط متصل، وأي معرفة تنعزل عن الوجود كله إنما هي معرفة جزئية افتراضية.

وهو ضرورة حسية لأن الإنسان وهو يعيش في هذا الوجود لا بد أن ينسجم معه ليحقق بجهده المحدود أكبر خير ممكن، ولا يتحقق ذلك إلا بإبصاره لحقائق الوجود التي تهدي إلى سبيل الرشاد، وهنا يرحم الإنسان نفسه من عذاب وشقاء الاصطدام بنواميس الكون نتيجة تخبطه في ظلمات الضلال الفكري.

وهذا البيان علامة الرشد في الإنسان، لأنه بدونه لن يكون إلا حيوانا من الحيوانات، فهو ما تميز كإنسان بشيء إلا بعقله، ويوم أن يترك مهمة البحث عن حقيقة الوجود وعن رسالته فيه، ويقصر حياته على الأكل والمتاع يكون أقل من الأنعام التي ليس لها عقل بل بصير بعقله شر الدواب التي تدب على الأرض ويتحول إلى سفيه ليس له أهلية التصرف كسيد في هذا الوجود ويحتاج إلى وصاية الراشدين. وهو أيضا ميت وإن ظهرت عليه أعراض الحياة؛ لأنه لا حياة إلا بهذا النور ولا إنسانية إلا بهذه المعرفة.

وهذا البيان يصبغ الحياة كلها بصبغته، سواء أكان حقا أم باطلا، فالاقتصاد والسياسة والاجتماع… كلها تعبير عن هذا البيان، ذلك لأن سبيل الحياة الذي يسلكه الإنسان ينبعث ويتكون من تصوره للوجود وتقييمه للحياة.

فالاقتصاد لأنه قوام الإنسانية في الإنسان، ومؤشر النشاط الإنساني في عمارة الكون وتوجيه الحياة.

ولقد حاول الإنسان في تاريخه المتلاحق الإجابة عن طريق الفلسفة والعلم على هذا النداء الفطري والعقلي والحسي. فهل وصل إلى إجابة مرضية.

لقد كان هناك على مدى التاريخ اتجاهات ثلاثة يعتمد الإنسان عليها في هذا البيان:

1-   اتجاه حاول الإنسان فيه أن يدرك هذا الوجود معتمدا على حدسه، فأخذ يخمن ويظن، فما انتهى إلا إلى أوهام لم يقتنع بها أحد بل ما أظن أن صاحبها قد اقتنع بها.

2-   واتجاه حاول أن يستعمل حسه وحده في هذه المعرفة، فسجن نفسه في سجن الحس المحدود، رغم مصادمة هذا لفطرته ولعقله ولتجربته، وأحس في أعماقه أنه يخدع نفسه.

3-   واتجاه حاول أن يجمع بين الحدس والحس فخلط الوهم بالعجز وأصبح إدراكه للوجود قائما على ظن الحدس وهدى الحس.

ونحن اليوم في حاجة إلى تقييم لموضوع المعرفة بعد هذه السلطة الطاغية التي استبدت بها النظرية التجريبية لنحدد جديا موقفنا من الإيمان بما وراء الحس أي الغيب.

إن نظرية المعرفة تتساءل: كيف يدرك الإنسان الكون. أبعقله يدركه أم يدركه بحسه أم أن هناك شيئا آخر يدرك به غير العقل والحواس؟ فنذهب مع البشرية نتحسس الطريق.

مصدر المعرفة

لقد فشت النزعة التجريبية منذ عهد قريب في الفكر الإنساني وواجه الإيمان بالغيب إعراضا كبيرا.

وتزداد ثقة الإنسان في نفسه حين يتوالى كشفه عن غرائب الأشياء فيمتلئ بالغرور حتى يظن أنه في إمكانه أن يتبين حقيقة الوجود وسر الحياة.

وها هو أوجست كومت صاحب مذهب الوضعية المنطقية يحلل تاريخ الفلسفة الحديثة فيضعه في ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: تبدأ في العصر الوسيط حيث كان الدين هو مصدر المعرفة، والمرحلة الثانية: كانت في عصر النهضة حيث كان العقل هو مصدر المعرفة، وأخيرا في القرن الثامن عشر، كانت المرحلة الثالثة: التي ساد فيها الحس كمصدر للمعرفة. واعتبر العلم هو المصدر الوحيد لمعرف حقائق الكون باستخدام الملاحظة والاستقراء. ولا إيمان إلا بما يكشفه العلم. وبهذا تسود الطبيعة على العقل والدين معا.

ولكن الإنسان اليوم حين يزداد علمه يحس إحساسا عميقا بقصوره. فهو يرى أنه لم يعلم من الحقيقة سوى قشرة ظاهرة منها وإنه لم يدرك شيئا عن سر الوجود ولا عن مداه ولا عن غايته.

إن نظرة الإنسان إلى العالم الخارجي محدودة بحواسه، وإدراك الحواس متتابع من ناحية الزمان متفرق من ناحية المكان، ذلك أنه يرى بعينه موجات ضوئية معكوسة من الجسم المنظور تحدد شكله وتحدد لونه بسرعة تذبذبها.

والأصابع تلمس جزءا جزءا لتقدر الصلابة والسيولة، وكان على العقل لذلك أن يجزئ موضوع البحث، وهو إذن يجد صعوبة هائلة في تحليله للمادة في حالة الحركة.

ثم إنه ليس هناك شيء في هذا الوجود فكرا كان أو مادة لا يؤثر في غيره ولا يتأثر به. وعلينا إذا أردنا الوصول إلى نتيجة سليمة أن ندرس هذه الآثار ونتبعها حتى تكون معلوماتنا دقيقة سواء كانت هذه الآثار تتصل بالعلاقات المكانية في حالة هذا الوجود الممتد أو بالعلاقات الزمانية في الماضي والمستقبل.

ونتائج العلوم بذلك مقصورة على الميادين الكمية في الوصف والتنبؤ وتبدأ بالاحتمالات وتنتهي بالاحتمالات فهي تقريبية وليست يقينية ولذلك تكون عرضة للأخطاء وقابلة للتعديل.

وإذا استوعبنا اليوم حصيلة الإنسانية في معرفة حقيقة المادة لوجدناه ضئيلا لم يتعد إلا قشرة ضئيلة من ظاهرها. فما هي مكونات الذرة؟ لا زال كل يوم يأتي بجديد عنها حتى أصبحت أمامنا عالما من المجهول؟ وما هو الإلكترون جزئ الذرة؟ أهو جزء من المادة يظهر في ثوب من الطاقة؟ أهو مقدار من الطاقة منفصل تمام الانفصال عن أي جوهر مادي؟ ولا يمكن أن يتصور الفرض الأخير؟ ويقول ليبون “قد يمكن لا ريب لعقل أسمى من عقلنا أن يتصور الطاقة بغير مادة… ولكن مثل هذا التصور في غير مقدورنا فنحن لا نستطيع أن نفهم الأشياء إلا بوضعها في الإطار المشترك لأفكارنا ولما كانت ماهية الطاقة مجهولة فنحن مضطرون إلى صوغها صيانة أدبية حتى نفكر فيها، فنحن كما قال برجسون ماديون بالطبع، فقد ألفنا التعامل مع المادة والأمور الميكانيكية وإذا لم ننصرف عنها كي ننظر إلى أنفسنا فإننا نتصور كل شيء كآلة مادية، ومع ذلك فإن أوستوالد Ostwald يصف المادة على أنها صورة من الطاقة فحسب ويرد ريد فورد الذرة إلى وحدات من الكهرباء الموجبة والسالبة. ويعتقد لودج أن الإلكترون لا يشتمل على نواه مادية أكثر من شحنة. ويقول ليبون ببساطة: “المادة صورة مختلفة من الطاقة” ويقول ج.ب.س هالدين: “يعتبر بعض الناس من أقدر المفكرين في العالم اليوم المادة كمجرد ضرب خاص من الاضطراب التموجي” ويقول أدينجتون: “إن المادة مركبة من بروتونات وإلكترونات –أي شحنات موجبة وسالبة من الكهرباء فاللوح هو في الحقيقة مكان فارغ مشتمل على شحنات كهربية مبعثرة هنا وهناك”. ويقول هوايت هيدر: “إن مفهوم الكتلة في طريقه إلى فقدان امتيازه الوحيد باعتباره المقدار الواحد الدائم في النهاية… فالكتلة الآن اسم لكمية من الطاقة في علاقتها ببعض آثارها الديناميكية ويقول ليبون: “إن عناصر الذرات التي تنحل تفنى تماما فهي تفقد كل صفة للمادة بما في ذلك الثقف وهو أكثر صفاتها أساسية. ذلك أن الميزان يعجز عن وزنها ولا شيء يستطيع أن يعيدها إلى حالة المادة. فقد اختفت في عظمة الأثير… والحرارة والكهرباء والضوء إلى غير ذلك… تمثل آخر مراحل المادة قبل اختفائها في الأثير.. والمادة التي تنحل تخرج من ماديتها بمرورها في حالات متتابعة تنتزع منها تدريجيا صفاتها المادية حتى تعود في نهايتها إلى الأثير الذي لا يمكن وزنه، ذلك الذي يبدو أنها نشأت عنه الأثير… ولكن ما هذا الأثير؟ لا أحد يعرف، ليس الأثير كما يقول لورد سالسبوري إلا أسماء على الفعل “يتموج” والأثير خرافة ابتدعت لإطفاء الجهل المثقف للعلم الحديث فهو غامض الشبح أو الروح.

والإنسان اليوم ينظر إلى الكون الهائل، فلا يستطيع أن يرى حتى تفاهة الأرض التي يسير عليها إذا نسبها إليه. فأين هي من الشمس؟ وأين الشمس من النجوم الهائلة التي تحتويها المجرة التي يعيش فيها؟ وما تكفي عشرات الأصفار لتحديد عدد المجرات، وما تقدر عين أن ترى أو عقل أن يعي أين تتجه هذه المجرات وهي تختفي عن ناظره وبسرعة هائلة إلى المجهول!.

ونحن إن ننقل هنا صورة من أقوال الماركسية أشد الناس جحودا للإيمان. “إن المسافات في العالم أعظم كثيرا من المسافات التي تعودنا عليها في الأرض: إن المجاهر الحديثة قد مكنتنا من اكتشاف النظام النجومي الذي ضوءه يصل إلينا في مئات الملايين من السنين، رغم أن سرعة الضوء تصل على 300000 كم/ثانية، ورغم أن هذه المعلومات محدودة إلا أنها تعطينا صورة صحيحة عن اتساع العالم الذي هو لا نهائي، إن لا نهائيته تتعدى حدود الخيال ولا يمكن وصفه والتعبير عنه بالعلم…!.

والأرقام الخاصة بعمر الأرض وتطورها تذهل الخيال. إن الإنسان كما نعرفه اليوم ظهر منذ 50000 إلى 70000 سنة.. وأول أشكال النبات والحياة الحيوانية ظهر منذ أكثر من ألف مليون سنة والأرض نفسها منذ عدة آلاف الملايين من السنين. وهذا هو العمر الزمني لتاريخ الأرض. ولكن هذه الأرقام ولا أكبر منها تستطيع أن تعطينا أي دلالة حقيقية عن لا نهائية الطبيعة، لأن هذه اللانهائية يتمثل وجودها اللانهائي في الزمان.

وهكذا يتحول الفكر الماركسي إلى غيبيات، ولكنها غيبيات تعتمد على الظن والفرض وليس لها سند من علم أو تجربة.

وهكذا كلما ازداد العلم تعمقا –كما رأينا- كلما ازداد إدراكا لضآلته وقصوره، بل كثيرا ما يتناقض ويرفض اليوم ما سلم به بالأمس. فأين هي المادة التي كنا نعتبرها –ولا زال البعض- الحق المطلق، فقد نقصت رؤيتنا لها بازدياد معرفتنا عنها. وصرنا لا نعرف إلا ظاهرا منها حتى تحول القياس الحسي لها صورا من المعادلات الرياضية فحسب تقوم على الاستنتاج لا الرؤية أو التجربة. وبهذا انهار ذلك البناء الذي قام في القرن التاسع عشر والذي تخيل به الإنسان أنه يستطيع أن يرى الوجود والتاريخ ويفسره بانعدام الأساس الذي يقوم عليه التفسير المادي والواقعي والتجريبي..

هذا فيما يختص بالعلم التجريبي ويزداد الأمر تعقيدا في البحوث الاجتماعية لأن (طبيعة الموضوعات التي تعالجها العلوم الإنسانية –وفي مقدمتها علم الأخلاق- كغاية السلوك وماهية الخير وطبيعة الواجب، ونحو ذلك لا تحتمل مناهج التجربة، هذا بالإضافة إلى أن الإرادة البشرية تتدخل في سير الظواهر الإنسانية –خلقية وغير خلقية- وتتكفل بتغيير مجراها تغييرا يجعل من العسير إخضاعها لقانون علمي ثابت ويتعذر مع هذا إجراء التجارب في الموضوعات الإنسانية، إلا في نطاق ضيق محدود لا يبرر جعل المنهج التجريبي أساسا لدراستها، بينما يتعذر كشف قوانين العلوم الطبيعية بغير مناهج التجربة، لأن من أظهر خصائص البحث في هذه العلوم أن يكون موضوعيا ذاتيا، ونزيها لا تتدخل فيه عواطف الباحث وميوله، أما مقررات العلوم الإنسانية فمتأثرة لا محالة بعقيدة الباحث وثقافته وتقاليد وطنه ونحوها من عوامل تكوينه، وإذا كانت الظواهر الطبيعية تنشأ عن علة أو علل يسهل تحديدها إلى جانب أنها تطرد على غرار واحد، فإن الظواهر الإنسانية –خلقية أو نفسية أو اجتماعية أو غيرها- تستثيرها وتتدخل في توجيهها عوامل كثيرة متشابكة يرتد بعضها إلى حرية الفرد وخبراته الثقافية والاجتماعية بوجه عام، ويرجع بعضها إلى البيئة التي تكتنفه وتؤثر في توجيهه، وهذه العوامل من التداخل والتشابك بحيث يصعب إن لم يتعذر حصرها وتحديد نصيب كل منها في الظاهرة التي ندرسها. إن العلم فشل فشلا ذريعا حين تطلع إلى تفسير الوجود والحياة وأصلها وغايتها فانطلق الإنسان لذلك في شقاء يعيث في الأرض. وتحول العلم إلى مجموعة افتراضات مقبولة أو سخيفة لا سند لها من الحقيقة أو الواقع وانتقل بذلك من النقيض إلى النقيض في متاهات شتى. مرة يقول إنه لا وجود إلا للعقل ولا وجود للمادة، ومرة يقول إنه لا وجود للعقل وإنما الوجود فقط للمادة والعقل نتائجها… وهكذا في إفراط وتفريط أو خلط باطل بما يشبه الحق، (إن العلم الحديث تفصيل لما يحدث وليس بتفسير لهذا الأمر الواقع، فكل مضمون العلم هو إجابة عن السؤال: “ما هذا؟” وليس لديه إجابة عن السؤال “ولكن لماذا؟”).

ويقول البروفيسور أ.ي. ماندير “إن الحقائق التي نعرفها مباشرة تسمى الحقائق المحسوسة Perceived facts، يبد أن الحقائق التي توصلنا إلى معرفتها لا تنحصر في “الحقائق المحسوسة”، فهناك حقائق أخرى كثيرة لم نتعرف عليها مباشرة، ولكننا عثرنا عليها على كل حال، ووسيلتنا في هذه السبيل هي الاستنباط، فهذا النوع من الحقائق هو ما نسميه “بالحقائق المستنبطة” Inferred facts والأهم هنا أن نفهم أن لا فرق بين الحقيقتين، وإنما الفرق هو في التسمية، من حيث تعرفنا على الأولى مباشرة، وعلى الثانية بالواسطة، والحقيقة دائما هي الحقيقة سواء عرفناها بالملاحظة أو بالاستنباط”.

وبهذا لا ينبغي القول بأن الدين هو “الإيمان بالغيب” وبأن العلم هو الإيمان “بالملاحظة العلمية”، فالدين والعمل كلاهما يعتمد على الإيمان بالغيب. غير أن دائرة الدين الحقيقية هي دائرة “تعيين حقائق الأمور” نهائيا وأصليا، أما العلم فيقتصر بحثه على المظاهر الأولية والخارجية.

وهذه نتيجة طبيعية لمحدودية القدرة على المعرفة عند الإنسان. فمثلا قد لا يرى من هذه الأشياء أمامه إلا ما يعكسه مدى من الأشعة لو طالت موجتها عنها أو قصرت لم ير شيئا وكذلك لا يسمع إلا مدى من الموجات الصوتية لو زادت أو قلت عنه لم يسمع شيئا وفي كثير من الأشياء كالإلكترون لا يراها وإنما يؤمن بها بآثارها كالكهرباء. فكيف يتسنى له علميا أن ينكر الغيب!؟. إن هذا الإنكار إهدار للعلم وإهدار للعقل الإنساني- والفكر الراشد يؤمن يقينا اليوم أنه أوتي من العلم إلا قليلا وأنه لا يعلم إلا ظاهرا من الحياة الدنيا وأن الغيب أمامه لا يستطيع أن يدرك منه إلا قليلا ولكنه يسعى في شوق إلى إدراكه. العقلية العلمية إذن هي التي تؤمن بالغيب ولا يمكن للعلم أن يكون حقا إلا إذا بدأ من نقطة الإيمان بالغيب.

الله:

(والمهرب الوحيد الجدير بالعقل الناضج من هذا الاضطراب هو أن نرتفع عن النظر إلى الشوارد والأجزاء كي نتأمل الكل، لأن ما فقدناه قبل كل شيء هو هذه النظرة الكلية، وتبدو الحياة من التعقيد والتحرك بحيث يصعب علينا إدراك وحدتها ومفهومها. إننا نفقد صفة المواطن فلا نصبح سوى مجرد أفراد، ليس لنا غايات أبعد من لحظة موتنا، فنحن بضعة من الناس ولا شيء سوى ذلك ولا تجد أحدا اليوم يجسر على وصف الحياة في كليتها. والحل سريع والتركيب بطيء… وثقافتنا اليوم سطحية، ومعرفتنا خطرة لأننا أغنياء في الآلات فقراء في الأغراض وقد ذهب اتزان العقل الذي نشأ ذات يوم من حرارة الإيمان البدني وانتزع العلم الأسس المتعالية لأخلاقياتنا ويبدو العالم كله مستغرقا في فردية مضطربة تعكس تجزؤ خلقنا المضطرب).

والذين يعتمدون على الحس يقصرون المعرفة على ما تدركه الحواس، وقد كان هذا الاتجاه رد فعل للاتجاه المثالي المفرط الذي يعتمد على العقل المجرد، وهذا الاتجاه الحسي لا ينتهي إلا إلى تفسير الوجود على أنه صدفة وخبط عشواء وتقتصر نتيجة ذلك غايته في الوجود على شهواته. وهنا يكون الحكم والتفسير هو الهوى النابع من الغرائز. “وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم”.

والعقل سواء استخدم الحدس أو الحس لا يستطيع أن يفسر وحده الوجود لما وجدنا من قصوره عن إدراك الوجود في اتساعه، أو الوجود في ذاته، أو الوجود في حركته وارتباطه. ومن ثم إذا ادعى لنفسه هذا الحق فإنه لا ينتهي إلا إلى ضلال ذلك أنه قائم على الظن. “إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا”.

ولكن لا بد للإنسان أن يعرف حقيقة الوجود بإلحاح من فطرته ونداء من عقله ورجاء من حسه.

وما بقي أمامنا إلا سبيل الدين الذي يقدم تفسيرا للوجود والتاريخ قائما على قاعدة أساسية هي أن هذا الوجود من خلق اله عليم حكيم. وأن الله وحده هو القادر على تقديم تفسير للوجود والتاريخ للناس عن طريق الوحي لعجز الإنسان عن إدراكه وحده. فلنبحث علميا هذا السبيل الباقي للإنسان بحثا موضوعيا دون أن نبدأ بالرفض أو القبول تحت تأثير شعور أو رأي سابق.

إن العلماء يتحدثون عن الإلكترون وهم لم يروه فلم يوجد الجهاز المكبر الذي يرون به هذا الإلكترون. ولكنهم يجهلون من ينكره لأن له من الآثار ما دفعهم على أن يؤمنوا به.

ولقد اكتشف Leverier العالم الفلكي الفرنسي 1811- 1877 “عن طريق الحاسبات الفلكية ضرورة وجود كوكب سيار وعين محله بالضبط بآثاره رغم أنه لم يره ثم اكتشف هذا الكوكب فعلا فيما بعد وسمي بنتون”.

وفي عام 1935 نبه عالم الرياضيات الياباني هيديكي يوكاوا إلى وجود جسيم ذري هو الميزون وتنبأ مقدما بوزنه وعمره. إلى أن كان عام 1947 اكتشف عالم الذرة الإنجليزي “س. ف. باول” هذا الميزون ومنح الياباني جائزة نوبل عام 1949.

ولكن من الناس من إذا قيل لهم عن ضرورة الإيمان بالله سبحانه عن طريق شهادة الوجود التي تبده العقول رأيتهم يصدون عنك صدودا ويقولون: أرنا الله جهرة! وكأن هذا الوجود الهائل وهذا النظام المبدع لا يكفيان كدليل.

إن الإيمان بالله يجده الإنسان عميقا في فطرته وفي حسه ويعرفه العقل حتما إذا ما فكر في نفسه وفي الوجود ومصدره وما يرى من بديع خلقه ودقيق صنعه فيما بين الأرض والفضاء واليابس والماء والجماد والأحياء.

فهذا الوجود معجزة تتفتح له الألباب وتعجب منه العقول. إنه معجزة من الذرة الصغيرة التي تتحرك أجزاؤها بسرعة هائلة، والخلية الضئيلة التي تذهل وظائفها العقول، والنفس الإنسانية التي ترى في كل يوم عجائب منها حتى في الذبابة التي لا يستطيع المتألهون الكاذبون أن يخلقوا مثلها ولو اجتمعوا لها. وهذه الأرض التي مهدت على هذا الوصف. الجبال فيها أوتاد وينزل لها الماء من السماء فيخرج منه نبات كل شيء، ويدب عليها الحيوان من كل صنف وتتوزع فيها البحار واليابسة بنظام عجيب، وتسير الرياح عليها من مكان إلى مكان بتخطيط دقيق ثم تدور الأرض حول نفسها ثم حول الشمس ثم تجري الشمس لمستقر لها. ومواقع النجوم العظيمة في أبعادها التي لا يدركها البصر ولا يحصيها الحس. أهي خلقت نفسها أم الله خالقها؟ أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون؟… إن الآلة البسيطة تملي على العقل أن وراءها إنسانا وإنه لا يمكن أن توجد هكذا اعتباطا فكيف بسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج.. “وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون، سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون، وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون، والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون، وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين”.

يقول أحد علماء الغرب “كثيرا ما يقال: إن هذا الكون المادي لا يحتاج إلى خالق، ولكننا إذا سلمنا بأن هذا الكون موجود، فكيف نفسر وجوده؟… هنالك أربعة احتمالات للإجابة على هذا السؤال فإما أن يكون هذا الكون مجرد وهم وخيال –وهو ما يتعارض مع القضية التي سلمنا بها حول وجوده- وإما أن يكون هذا الكون قد نشأ من تلقاء نفسه من العدم و-إما أن يكون أزليا ليس لنشأته بداية- وإما أن يكون له خالق.

أما الاحتمال الأول فلا يقيم أمامنا مشكلة سوى مشكلة الشعور والإحساس فهو يعني أن إحساسنا بهذا الكون وإدراكنا لما يحدث فيه لا يعدو أن يكون وهما من الأوهام، ليس له ظل من الحقيقة. وقد عاد إلى هذا الرأي في العلوم الطبيعية أخيرا “سير جيمس جينز” الذي يرى أن هذا الكون ليس له وجود فعلي، وأنه من الأوهام! فمثلا هذه القطارات التي نركبها ونلمسها ليست إلا خيالات وبها ركاب وهميون، وتعتبر أنهارا لا وجود لها، وتسير فوق جسور غير مادية… إلخ. وهو رأي وهمي لا يحتاج إلى مناقشة أو جدال!.

أما الرأي الثاني القائل بأن هذا العالم، بما فيه من مادة وطاقة، قد نشأ هكذا وحده من العدم فهو لا يقل عن سابقه سخفا وحماقة، ولا يستحق هو أيضا أن يكون موضعا للنظر أو المناقشة.

والرأي الثالث الذي يذهب إلى أن الكون أزلي ليس لنشأته بداية، إنما يشترك مع الرأي الذي ينادي بوجود خالق لهذا الكون. وذلك في عنصر واحد هو الأزلية. وإذن فنحن ننسب صفة الأزلية إلى عالم ميت، وإما أن ننسبها إلى حي يخلق، وليس هناك صعوبة فكرية في الأخذ بأحد هذين الاحتمالين أكثر مما في الآخر. ولكن قوانين “الديناميكا الحرارية” تدل على أن مكونات هذا الكون تفقد حرارتها تدريجيا، وإنها دائرة حتما إلى يوم تعتمد فيه جميع الأجسام تحت درجة من الحرارة بالغة الانخفاض، هي الصفر المطلق، ويومئذ تنعدم الطاقة وتستحيل الحياة. ولا مناص من حدوث هذه الحالة من انعدام الطاقات عندما تصل درجة حرارة الأجسام إلى الصفر المطلق بعض الوقت. أما الشمس المستعرة والنجوم المتوهجة والأرض الغنية بأنواع الحياة فكلها دليل واضح على أن أصل الكون أو أساسه يرتبط بزمان بدأ من لحظة معينة، فهي إذن حدث من الأحداث. ومعنى ذلك أنه لا بد لأصل الكون من خالق أزلي، ليس له بداية، عليم محيط بكل شيء، قوي ليس لقدرته حدود ولا بد أن يكون هذا الكون من صنع يديه”.

والعلم يقرر أن هذا الوجود يستحيل أن يكون قد خلق اعتباطا من تجمعات عابرة لسدم وأنها مجرد كرات ستلتهب إلى فناء. وأن الإنسان لا يمكن أبدا أن يكون مجرد حيوان يدب على الأرض مصيره الانحلال إلى الأبد. لأن هذا الكون ليس فلتة عابرة ولا تصلح الصدفة قاعدة علمية لتفسير الوجود –يقول أحد علماء الغرب “إن البروتينات من المركبات الأساسية في جميع الخلايا الحية تتكون من خمسة عناصر هي: الكربون- الإيدروجين- النتروجين- الأكسجين والكبريت. ويبلغ عدد الذرات في جزئ البروتين الواحد 40 ألف ذرة. ولما كان عدد العناصر الكيماوية في الطبيعة 120 عنصرا موزعة كلها توزيعا عشوائيا فإن احتمال اجتماع هذه العناصر الخمسة لكي تكون جزئيا من جزيئات البروتين يمكن حسابه لمعرفة المادة التي ينبغي أن تخلط خلطا مستمرا لكي تؤلف هذا الجزئ ثم لمعرفة طول الفترة الزمنية لكي يحدث هذا الإجماع بين ذرات الجزئ الواحد.

وقد قام العالم الرياضي السويدي “شارلزيوجين جاي” بحساب هذه العوامل جميعا فوجد أن الفرصة لا تتهيأ عن طريق المصادفة لتكوين جزئ بروتين واحد إلا بنسبة 1: 10 160 أي بنسبة واحد إلى رقم عشرة مضروبا في نفسه مائة وستين مرة وهو رقم لا يمكن النطق به أو التعبير عنه بكلمات وينبغي أن تكون كمية المادة التي تلزم في حدوث هذا التفاعل بالمصادفة بحيث ينتج جزئ واحد أكثر مما يتسع له كل هذا الكون بملايين المرات. ويتطلب تكون هذا الجزئ على سطح الأرض وحدها عن طريق المصادفة بالملايين لا تحصى من السنين “10 243 سنة”.

إن البروتينات تتكون من سلاسل طويلة من الأحماض الأمينية فكيف تتألف ذرات هذه الجزئيات؟ إنها إذا تألفت بطريقة أخرى غير التي تتألف بها تصبح غير صالحة للحياة. بل تصير في بعض الأحيان سموما. وقد حسب العالم الإنجليزي ج. ب. ليثر. الطريق الذي يمكن أن تتألف به الذرات في أحد الجزئيات البسيطة من البروتينات فوجد أن عددها يبلغ الملايين “10 48” وعلى ذلك فإنه من المحال عقلا أن تتألف كل هذه المصادفات لتبني جزيئا بروتينيا واحدا.

ولكن البروتينات ليست مواد كيماوية عديمة الحياة ولا تدب فيها الحياة إلا عندما يحمل فيها ذلك السر العجيب الذي لا ندري من كنهه شيئا –إنه العقل اللانهائي وهو الله وحده الذي استطاع أن يدرك ببالغ حكمته أن مثل هذا الجزئ البروتيني يصلح لأن يكون مستقرا للحياة فبناه وصوره وأغدق عليه سر الحياة.

وتجد (بخنر، الذي هو من أشد المؤيدين لمذهب النشوء والارتقاء، ومن أكثر الماديين غلوا ومن الذين اتهموا “دارون” بأنه كان مصانعا لرجال الدين، قد وقف أمام خلق الحياة من الجماد حائرا حيث يقول بأنصاف العلماء وتجردهم “إن البت في أمر التوالد الذاتي للكرية الأولى التي نشأ عنها الأصل الأول أمر غير متيسر، لأن الأحوال المناسبة لتولد الكريات الأولى تولد ذاتيا غير معروفة، والكرية ذاتها، على بساطتها، ذات بناء وتركيب يمتنع معه صدورها من الجماد مباشرة. بل إن ظهورها من الجماد ليعد في نظر العلم معجزة ليست أقل بعدا عن العقل من ظهور الأحياء العليا من الجماد رأسا”.

وتأمل قول الله تعالى “إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب”.

ولهذا فإن العقل الراشد لا يحتاج إلى خارقة من الخوارق العارضة ليؤمن بالله. إن السنة المألوفة خارقة لو تؤمل فيها، إنه حين يفتح عقله على هذا الوجود يتجاوب معه ويتعرف إلى البارئ الحكيم “أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق” لأنه “في السماوات والأرض آيات للمؤمنين، وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون، واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون، تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون؟”. وهي التي أراها الله إبراهيم “كذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين”.

والذي لا يؤمن بهذه الخارقة الكبيرة، خارقة الوجود الشاهد، لا يؤمن بالخوارق الصغيرة “وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا”.

ولهذا رد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ظن أن الخسوف يوم موت ابنه إبراهيم معجزة بقوله: “إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله”.

ولكن الإنسان حين يفكر من نقطة غير منطقية فلا يتيسر له وضوح الرؤية، إنه يبدأ من الوجود كما رآه وألفه والواجب عليه ليعرف المعجزة على تمامها والحق الكامن فيها أن يبدأ من لا شيء فيسير في الوجود كالرائد الذي يهبط أول مرة فيشاهد حينئذ الروعة والحكمة والإعجاز في رؤيته الجديدة.

ولو أخذنا الإنسان مثلا في صورته وبدأنا به من النطفة لشاهدنا المعجزة. فهل نستطيع أن نتصور بعقولنا في فراغ فكرة خلق إنسان بهذه الصورة المتناسقة في الحركة وفي التكوين، بل إذا تأملنا عمل العين أو الأذن وأسرارها ووظائفها لوقفنا أمام عالم هائل تذهل فيه العقول وحينئذ نتدبر قول الله تعالى “ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين”.

وفي كل شيء نجد أن التفكير ينتهي بنا إلى أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان. وأن هذا الإبداع لا يملك أمامه الإنسان إلا أن يسجد للخالق البارئ المصور الذي أحسن كل شيء خلقه.

وفي دراسة التاريخ مجال آخر للعقل يهتدي به إلى الله، حيث تظهر العظة البالغة في أحداث التاريخ وتقلبات الأيام وتداول الأحوال، تأكيدا تاما لأن سنة الله غلابة فإن سار على سنته هدى وإن نازعها وعصاها شقي. “أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون، فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنه به مشركين. فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون”.

إن آية الوجود والتاريخ أو الكون والحياة –كتاب الله المفتوح- طريق لمعرفة الحق “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق” لهذا كان الإنكار شيئا عجيبا غريبا على مدار التاريخ الإنساني “قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض؟”.

ونستطيع أن نقول دون مغالاة أن المنكر لله شر من عابد الوثن وأكثر ضلالا. فعلى أي أساس ينكر؟ وكيف يفسر الوجود وغايته؟ ولهذا كان للعلماء مكانة مرموقة في القرآن حيث رفعهم الله إلى أسمى مكان حين جمع بينهم وبين الله والملائكة في الشهادة لله بأنه لا إله إلا الله هو قائما بالقسط أي أنهم عدول في أكبر قضية وأعظم شهادة.. (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط) لأنهم هم الذين يخشون الله (إنما يخشى الله من عباده العلماء) ولأنهم هم الذين يعلمون الحق ويقفون عند المتشابه (وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به من كل عند ربنا وما يتذكر إلا أولو الألباب) ويحترم الإسلام عمل الفكر وإن وسوس ما دام يسعى إلى معرفة الله. جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ قد وجدتموه؟ قالوا: نعم- قال: ذلك صريح الإيمان. وسئل صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة؟ فقال: تلك محض الإيمان.

ويعتبر الإسلام على هذا الأساس، دراسة الوجود والتاريخ عبادة يثاب عليها الإنسان. (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك”.

وفطرة الإنسان مهيأة أصلا لإدراك هذه الحقيقة، وهي تتصادم مع أي تفسير غير حقيقي وتعيش في صراع معه إلى أن تنتصر عليه. يقول الله تعالى “وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا”. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه” ولهذا نجد الإنسان سرعان ما يتذكر هذه الحقيقة حين يتجرد من حوله وقوته. يقول تعالى “وإذا مس الإنسان ضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه”.

فالإيمان بالله أمر لا يحتاج إلى جهد لأنه ظاهر ظهورا لا يمكن أن يعرض عنه إنسان أو لا يؤمن به إلا إذا كانت حواسه الأساسية مريضة مرضا يحجب عنها هذه الحقيقة الفطرية والعقلية… “إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون، وقالوا النبي لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون”.

وهكذا نجد الفطرة والعقل والحس كلها وهي سوية تؤدي بصاحبها إلى الإيمان بالله الخالق الهادي. وكيف ينكر وهو يرى ما في السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى أدلة لا ينكرها إلا أعمى أو ذو هوى. “قال: فمن ربكما يا موسى؟ قال: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، قال: فما بال القرون الأولى؟ قال: علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى، الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا، وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى، كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولى النهى”.

وأنظر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه وكيف أسكت “ألم ترى إلى الذي حاج إبراهيم في ربه، أن أتاه الله إذ قال: إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت قال: أنا أحيي وأميت. قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، فبهت الذي كفر. الله لا يهدي القوم الظالمين”.

وما دمنا عرفنا الله الخالق فإننا نعرف أنه قادر. فأصغر شيء في الوجود لا بد لخلقه من خلق السماوات والأرض وتحريكها وهذا ما لا يقدر عليه إلا الله “ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون؟”.

ثم إن خالق هذا الوجود هو بالطبع الذي يهيمن عليه لأن من له الخلق له الأمر “ألا له الخلق والأمر تباك الله رب العالمين”.

وهو يعلم ما خلق علما تفصيليا ويعلم خفاياه ودقائقه “ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير”.

ثم يستحيل عقلا أن يتصور هذه السلطة مجزأة بين آلهة شتى وإلا لفسدت السماوات والأرض “لو كان فيها آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون” لأنه (لو كان للعالم صانعان فعند اختلافهما مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم وآخر تسكينه، أو يريد أحدهما إحياءه والآخر إماتته – فإما أن يحصل مرادهما أو مراد أحدهما، أو لا يحصل مراد واحد منهما. والأول ممتنع لأنه يستلزم الجمع بين الضدين، والثاني ممتنع لأنه يلزم خلو الجسم عن الحركة والسكون. وهو ممتنع ويستلزم أيضا عجز كل منهما. والعاجز لا يكون إلها، وإذا حصل مراد أحدهما دون الآخر، كان هذا هو الإله القادر، والآخر عاجزا لا يصلح للإلهية). ويتبين هذا في قوله تعالى: “ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذن لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض” فهذا برهان بلفظ وجيز “فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقا فاعلا، يوصل إلى عابده النفع ويدفع عنه الضر، فلو كان معه سبحانه إله آخر يشركه في ملكه لكان له خلق وفعل، وحينئذ فلا يرضى تلك الشركة، بل إن قدر على قهر ذلك الشريك وتفرده بالملك والإلهية دونه فعل، وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه وذهب بذلك الخلق، كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بملكه، إذا لم يقدر المنفرد منهم على قهر الآخر والعلو عليه. فلا بد من أ حد ثلاثة أمور: إما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه، وإما أن يعلو بعضهم على بعض، وإما أن يكون تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء، ولا يتصرفون فيه، بل يكون وحده هو الإله، وهم العبيد المربوبون المقهورون من كل وجه.

وانتظام أمر العالم كله وإحكام أمره، هو أول دليل على أن مدبره إله واحد، لا رب غيره، ولا إله سواه.

فالإله الخالق القادر العليم الواحد لا بد أن يتنزه عن العبث والعمل الباطل، فما خلق السماوات والأرض باطلا ولا خلق الإنسان عبثا “أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى” “أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا وإنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق”.

لهذا كان من غير الممكن أن يترك الإنسان دون توضيح لغايته ومنهجه لأن الإنسان لا يملك القطع لمحدوديته بأحسن وسيلة يحقق بها غايته لأن ذلك يلزمه معرفة شاملة بالوجود كله والزمان على امتداده للاتصال العضوي بين الإنسان والزمان والمكان ومنه ما يضرب في عمق الغيب. والتاريخ يدل على شقاء الإنسانية حين انحرفت عن هدى الله وشريعته. فمن رحمة الله أن أرسل الرسل لتبيان ما يعجز الإنسان عن إدراكه عن سر الوجود وغاية الحياة وشريعة الحكم.

الطريق إذن إلى معرفة الوجود يبدأ من معرفة الله تعالى فهو الذي خلقه من العدم وقدره تقديرا بكامل علمه وعظيم حكمته، وهيمن عليه بسلطانه وحكمته “الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل له مقاليد السماوات والأرض”.

لهذا فمن عرف الله تعالى فقد عرف الوجود الحق، وعرف الأول والآخر والظاهر والباطن والبقاء والفناء… وهدى إلى الصراط المستقيم.

وهذا هو السر في أن آيات القرآن وهي تهدي الإنسان إلى معرفة الحق سواء في رحلة كونية أو تاريخية تنتهي به في كل آية إلى صفات الله تعالى الفاعلة في هذا الكون وهذه الحياة “ولئن سألتهم من خلق الله السماوات والأرض ليقولن الله، قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون، لله ما في السموات والأرض إن الله هو الغني الحميد، ولو أنما في الأرض شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفذت كلمات الله إن الله عزيز حكيم، ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير، ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير، ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور”.

اليوم الآخر:

إن الوجود الحقيقي أكبر بكثير من ظاهرة الشهود. إنه الدنيا والآخرة لا الدنيا فحسب والوقوف عند الحس في التعرف على الكون موقف بدائي سطحي لا يلبث أن يصطدم مع الواقع حين يتسع أفق المعرفة وتعمق النظرة العلمية لأبعاد الوجود. والعلم اليوم بدأ يدرك لا نهائية الوجود بدراسته للمجرات التي لا يستطيع أن يحصيها عددا أو حتى أن يتابع رؤيتها وهي تبتعد بسرعة أسرع من سرعة الضوء. والإيمان بالآخرة كالإيمان بالله تعالى مقروء في كتاب الكون المنظور وإدراكها بالفعل ميسر كإدراك الوحدانية. ولهذا كان الدليل القرآني (سيروا في الأرض فانظرا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة والله على كل شيء قدير).

فالمتأمل في السموات وما فيها من أجرام وما يحكمها من قانون آيات تؤدي إلى اليقين بالآخرة (الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش، يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون).

وفي أرضنا فإن المتدبر في قوانينها يعلم هذه الحقيقة علم اليقين (ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت، إن الذي أحياها لمحيي الموتى، إنه على كل شيء قدير).

أليس ذلك كله دليل على الخلق الآخر (أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم)، (أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعيي بخلقهن بقادر على أن يحيى الموتى، بلى إنه على كل شيء قدير).

وخلق الإنسان من عدم دليل آخر على البعث و الحساب (ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى، فجل منه الزوجين الذكر والأنثى، أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى)، (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وهو أهون عليه).

وفي التاريخ الإنساني وما تتابع من قرون وما ظهر واختفى من حضارات (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وأثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون، فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين، فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون)

والإيمان بالله تعالى وبآثار الحكمة والقصد من الكون يثبت استحالة أن يكون هذا الوجود خلق باطلا أو أن الإنسان خلق عبثا. تعالى الله الملك الحق فالإيمان بالآخرة قرين الإيمان بالله (ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى). (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق). (ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد) والشك في الآخرة شك في الألوهية والربوبية فشهادة العقل بالجزاء كشهادته بالوحدانية. ولهذا كان الصحيح: أن الميعاد معلوم بالعقل، وإنما اهتدى إلى تفاصيله بالوحي.

ويجعل الله سبحانه إنكار الميعاد كفرا به سبحانه لأنه إنكار لقدرته ولإلهيته وكلاهما مستلزم للكفر به قال تعالى (وإن تعجب فعجب قولهم: أئذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد؟ أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) وهذا أمر لا غرابة في الاعتقاد به لأن الإيمان بأن الله خلق الوجود أول مرة قادر على أن يعيده ثانية وذلك أهون (أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيى الموتى، بلى إنه على كل شيء قدير). (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه). (أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد).

(وجسمنا مثل النهر الجاري، يخضع لعملية مستمرة، حتى إنه يأتي وقت لا تبقى فيه أي خلية قديمة في الجسم لأن الخلايا الجديدة أخذت مكانها. هذه العملية تتكرر في الطفولة والشباب بسرعة، ثم تستمر بهدوء ملحوظ في الكهولة، ولو حسبنا معدل التجديد في هذه العملية فسوف نخرج بأنها تحدث مرة كل عشرين سنة. إن عملية فناء الجسم المادي الظاهري تستمر ولكن الإنسان في الداخل لا يتغير، بل يبقى كما كان –علمه وعاداته وحافظته وأمانيه وأفكاره تبقى كلها كما كانت ولو كان الموت فناء للإنسان فمن الممكن أن نقول- بعد كل مرحلة من مراحل حدوث هذا التغيير الكيميائي الذي يجري في الجسم- إن الإنسان قد مات وأنه يعيش حياة أخرى جديدة بعدة موته!… فإذا لم يمت هذا الإنسان بعد فناء أجزاء جسمه المادية… فكيف أستطيع أن أعتقد بأنه مات؟).

وقد أجريت تجارب عديدة بعد وفاة الإنسان مباشرة وعملت أجهزته الحيوية ولكن ظل دائما جثة هامدة تعمل كما تعمل الآلة لا غير.

(فنحن نعرف قطعا أن أحدا عندما يحرك لسانه ليتكم، يحرك بالتالي موجات في الهواء.. ولقد ثبت قطعيا أن هذه الموجات تبقى كما هي في (الأثير) إلى الأبد، بعد حدوثها للمرة الأولى، ومن الممكن سماعها مرة أخرى، ولكن علمنا الحديث عاجز حتى الآن عن إعادة هذه الأصوات أو بعبارة أصح أن يضبط هذه الموجات مرة أخرى، مع أنها لا تزال تتحرك في الفضاء من زمن بعيد. وصدق الله العظيم (ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيب عتيد).

(فالعلم الحديث يؤكد إيمانه بأن جميع أعماله –سواء باشرناها في الضوء أم في الظلام، فرادى أم مع الناس- كل هذه الأعمال موجودة في الفضاء، في حالة الصور، ومن الممكن في أي لحظة تجميع هذه الصور، حتى نعرف كل ما جاء به إنسان ما من أعمال الخير والشر طيلة حياته، فقد أثبتت البحوث العلمية أن كل شيء حدث في الظلام أو في النور، جامدا كان أو متحركا تصدر عنه (حرارة) بصفة دائمة، في كل مكان، وفي كل حال، وهذه الحرارة تعكس الأشكال وأبعادها تماما، كالأصوات التي تكون عكسا كاملا للموجات التي يحركها اللسان. وقد تم اختراع آلات دقيقة لتصوير الموجات الحرارية التي تخرج من أي كائن حي، وبالتالي تعطي هذه الآلة صورة فوتوغرافية كاملة للكائن حينما خرجت منه الموجات الحرارية… فإن جميع تحركاتك تسجل على شاشة الكون، حيث لا يسعك منعها أو الهرب منها، سواء أكنت في الظلام أم في النور فحياتك كالقصة التي تصور في الأستوديو ثم تشاهدها على شاشة السينما بعد حقب طويلة من الزمن).

وصدق الله العظيم (ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا، وعرضوا على ربك صفا، لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا، ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه يقولوه يا ويلنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا). وصدق الله العظيم (وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم. قل يحييها الذي أنشاؤها أول مرة وهو بكل خلق عليم، الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون، أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم؟ بلى وهو الخلاق العليم، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون).

(فلو رام أعلم البشر وأفصحهم وأقدرهم على البيان أن يأتي بأحسن من هذه الحجة أو بمثلها بألفاظ تشابه هذه الألفاظ في الإيجاز ووضوح الأدلة وصحة البرهان لما استطاع، فإنه سبحانه أفصح هذه الحجة بسؤال أورده ملحد اقتضى جوابها، فكان قوله: “ونسى خلقه، ما وفي بالجواب وأبان الحجة وأزال الشبهة كما أراد سبحانه من تأكيد الحجة وزيادة تقريرها فقال: “قل يحييها الذي أنشأها أول مرة”. فاحتج بالإبداء على الإعادة وبالنشأة الأولى على النشأة الأخرى. إذ كل عاقل يعلم ضروريا أن من قدر على هذا قدر على هذا، وأنه لو كان عاجزا عن الثانية لكان عن الأولى أعجز وأعجز ولما كان الخلق يستلزم قدرة الخالق على المخلوق، وعلمه بتفصيل خلقه، أتبع ذلك بقوله (وهو بكل خلق عليم) فهو عليم بتفاصيل الخلق الأول وجزئياته ومواده وصورته فكذلك الثاني.

فإذا كان تام العلم، كامل القدرة، كيف يتعذر عليه أن يحيي العظام وهي رميم! ثم أكد الأول بحجة قاهرة، وبرهان ظاهر، يتضمن جوابا على سؤال ملحد آخر يقول: العظام إذا صارت رميما عادت طبيعتها باردة يابسة، والحياة لا بد أن تكون مادتها وحملها طبيعة حارة رطبة بما يدل على أمر البعث، ففيه الدليل والجواب معا فقال: “الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون” فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة من الشجر الأخضر الممتلئ بالرطوبة والبرودة، فالذي يخرج الشيء من ضده وتنقاد له المخلوقات وعناصرها ولا تستعصي عليه هو الذي يفعل ما أنكره الملحد ودفعه، من إحياء العظام وهي رميم.

ثم أكد هذا بأخذ الدلالة من الشيء الأجل الأعظم على الأيسر الأصغر، فإذا كان عاقل يعلم أن من قدر على العظيم الجليل فهو على ما دونه بكثير أقدر وأقدر، فمن قدر على حمل قنطار فهو على حمل أوقية أشد اقتدارا، فقال أو ليس الذي خلق السموات والأرض، على جلالتهما، وعظم شأنهما، وكبر أجسامهما وسعتهما، وعجيب خلقهما، أقدر على أن يحيي عظاما قد صارت رميما فيردها إلى حالتها الأولى. كما قال في موضع آخر “لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون” وقال “أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم؟ بلى، وهو الخلاق العليم” ثم أكد سبحانه ذلك وبينه ببيان آخر، وهو أنه ليس فعله بمنزلة غيره، الذي يفعل بالآلات والكلفة والنصب والشق ولا يمكنه الاستقلال بالفعل، بل لا بد معه من اله ومعين بل يكفي خلقه لما يريد أن يخلقه ويكونه نفس إرادته، وقوله للمكون “كن” فإذا هو كائن كما شاءه وأراده، ثم ختم هذه الحجة بإخباره أن ملكوت كل شيء بيده فيتصرف فيه بفعله وقوله “وإليه ترجعون” ومن هذا قوله سبحانه: “أيحسب الإنسان أن يترك سدى، ألم يك نطفة من مني يمنى، ثم كان علقة فخلق فسوى، فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى، أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى” فاحتج سبحانه على أنه لا يتركه مهملا عن الأمر والنهي والثواب والعقاب، وإن حكمته وقدرته تأبى ذلك أشد الإباء، كمال قال تعالى: “أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون” إلى آخر السورة. فإن من نقله من النطفة إلى العلقة ثم المضغة ثم شق سمعه وبصره وركب فيه الحواس والقوة والعظام والمنافع والأعصاب والرباطات التي هي أشده، وأحكم خلقه غاية الإحكام وأخرجه على هذا الشكل والصورة، التي هم أتم الصور وأحسن الأشكال كيف يعجز عن إعادته وإنشائه مرة ثانية، أم كيف تقتضي حكمته وعنايته أن يتركه سدى! فلا يليق ذلك بحكمه، ولا تعجز عنه قدرته).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر