معنى الفتوى: الفتوى لغة: الجواب في الحادثة، اشتقت –كما قال الزمخشري في الكشاف من “الفتى” في السن على سبيل الاستعارة.
والفتوى شرعا: بيان الحكم الشرعي في قضية من القضايا جوابا عن سؤال سائل، معين كان أو مبهم، فرد أو جماعة.
طريقتا القرآن والسنة في بيان الأحكام: وهي إحدى طريقتين في القرآن الكريم، والسنة المطهرة، لبيان أحكام الشرع وتعاليمه وتوجيهاته.
فقد يكون البيان بغير سؤال واستفتاء، وهو أكثر ما جاء في القرآن من أحكام وتعاليم.
فقد يكون البيان بغير سؤال واستفتاء، وهو أكثر ما جاء في القرآن من السؤال كما في قوله تعالى: “يسألونك عن الأهلة، قل: هي مواقيت للناس والحج”، “يسألونك عن الخمر والميسر، قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما”، “ويسألونك ماذا ينفقون؟ قل: العفو، كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون”، “يستفتونك، قل: الله يفتيكم في الكلالة…” إلخ.
وقد تنزل الآيات جوابا عن سؤال بغير صيغة “يسألونك” أو “يستفتونك” مثل ما أخرجه الترمذي أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء، وأخذتني شهوتي، فحرمت عليّ اللحم. فأنزل الله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا”.
وفي السنة، قد يبين الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الأحكام ابتداء دون سؤال من أحد، نفيا لوهم، أو تصحيحا لفهم، أو تعليما لجاهل، أو تثبيتا لمتعلم، أو تخصيصا لعام، أو نحو ذلك من أنواع البيان النبوي للكتاب العزيز.
وفي السنة ما يكون جوابا لسؤال، وهو كثير… من ذلك ما سأله أبو موسى الأشعري قال: يا رسول الله، أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن: البقع، وهو من العسل ينبذ حتى يشتد، والمزر، وهو من الذرة والشعير، ينبذ حتى يشتد، فقال كل مسكر حرام. متفق عليه.
وسأله طارق بن سعيد عن الخمر، فنهاه أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال: إنه ليس بدواء، ولكنه داء”.
وسألته عائشة فقالت: إن قوما يأتوننا باللحم، لا ندري، أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سموا أنتم وكلوا، رواه البخاري.
وسئل عن الرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل حمية (أي غضبا لقومه) والرجل يقاتل رياء: أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، متفق عليه.
وفتاويه صلى الله عليه وسلم لسائليه في عامة أبواب الشريعة، وشتى مفاهيم الحياة، من السعة والكثرة والتنوع، بحيث لا تخفى على دارس سنته عليه السلام، وقد ذكر ابن القيم في “الأعلام” عددا كبيرا منها، ملأت ما بين ص 266 و 414 من الجزء الرابع، مع حرصه على الاختصار والتركيز، وهي جديرة بأن تكون مجالا لدراسة عليا (دكتوراه) في السنة أو في الفقه.
كتب الفتاوى وكثرتها:
وقد ألف المسلمون في مختلف المذاهب وفي مختلف الأمصار والأعصار، كتبا جمة في “الفتاوى” كبرى وصغرى ومتوسطة، ورتبوها غالبا على أبواب الفقه، ولم يكتفوا بكتب الفقه المعتادة، وذلك لما يتضمنه كتاب الفتاوى من واقعات عملية يلمسها الناس، ويحتاجون إليها من واقع حياتهم ولما فيها من عنصر الإثارة والتشوق بالسؤال والجواب.
ومن هذه الفتاوى في المذهب الحنفي: فتاوى قاضيخان، والفتاوى الكبرى والصغرى للصدر الشهيد والبزازية والطهيرة والزينية والحامدية والفتاوى الهندية والمهدية وغيرها.
وفي مذهب الشافعي فتاوى ابن الصلاح والنووي والسبكي والشيخ زكريا وابن حجر الهيتمي، وغيرها.
وكتب الفتاوى في المذهبي، الحنفي والشافعي كثيرة، وفي الإمكان الرجوع إليها في كشف الظنون ج2/ 1218- 1234.
وفي كل مذهب من المذاهب المتبوعة كتب في الفتوى تقصر أو تطول.
فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية:
وفي المذهب الحنبلي اشتهرت فتاوى شيخ الإسلام أبي العباس تقي الدين بن تيمية، التي طبقت شهرتها الآفاق، وطبعت من سنين عديدة في خمسة مجلدات ثم أضيف إليها غيرها من الرسائل والمسائل، في شتى جوانب العلوم الإسلامية وصدرت في 35 خمسة وثلاثين مجلدا، تحت عنوان: “مجموع فتاوى شيخ الإسلام” جمعها الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي وطبعت بالرياض على نفقة الدولة السعودية.
والحقيقة أن شيخ الإسلام –رحمه الله- لم يتقيد فيها إلا بالدليل من النصوص الشرعية، والقواعد الكلية.
ولهذا ربما خالف مذهبه تارة، وربما خالف المذاهب الأربعة كلها طورا آخر. كما في عدم إيقاع الطلاق الثلاث إلا واحدة، وعدم إيقاع اليمين بالطلاق ونحوها.
وهذا ما جر عليه متاعب ومحنا قاسية في حياته الحافلة –رضي الله عنه- وإنما نسب إلى المذهب وإن بلغ مرتبة الاجتهاد المطلق يقينا، لأنه رضي أصول الإمام أحمد ومنهجه في اتباع السلف، واقتفاء الآثار في العقيدة والفقه والسلوك.
وقد استطاع أن يبقى في جل ما كتب في الفقه في دائرة المذهب الحنبلي، نظرا لتعدد الروايات والأقوال المروية عن الإمام أحمد وأصحابه في المسألة الواحدة، فيتيسر له أن يرجع منها ما رآه أقوى برهانا، وأرجح ميزانا، دون أن يضطر إلى الخروج عن نطاق المذهب.
كتب الفتوى في العصر الحديث: وفي العصر الحديث عرفت فتاوى الشيخ محمد عيسى، شيخ المالكية في عصره، والتي سماها “فتح العلى المالك على مذهب مالك” وهو يمثل المدرسة التقليدية بما لها من مزايا، وما فيها من عيوب، ملتزم لمذهبه، معتمد على النقل من كتب المتأخرين، غير مهتم بمشكلات العصر، وما يمور في أعماق الحياة الاجتماعية من تيارات، ولا معترف بما طرأ على المجتمع من تغير.
وكان الشيخ معاصرا للشيخ محمد عبده، ومن ألد خصومه في اتجاهه، ومنهج تفكيره.. وهما يمثلان الصراع بين القديم والجديد.
فتاوى السيد رشيد رضا: وبعد ذلك اشتهرت فتاوى العلامة المجدد السيد محمد رشيد رضا، التي كان ينشرها في مجلته الإسلامية الغراء (المنار) التي استمر صدورها خمسة وثلاثين عاما، ولم يكن يخلو عدد منها من فتوى أو أكثر، جوابا عن أسئلة قراء المجلة في العالم الإسلامي.
ولهذا لا تمثل هذه الاستفتاءات مشكلات إقليم معين، بل مشكلات الأمة الإسلامية، والمسلمين في أقطار الأرض.
وقد جمعت هذه الفتاوى أخيرا في ستة مجلدات، مرتبة حسب تواريخ نشرها في المجلة “المنار”.
وكنا نود أن يلحق بهذه المجلات فهرس “ألف بائي” يقرب موضوعاتها إلى الباحث أو القارئ، كما كان يفعل مؤلفها –رحمه الله- في ختام كل جزء من أجزاء التفسير “تفسير المنار”.
ولهذه الفتاوى مزايا عديدة.. فهي أولا تعالج قضايا عصرية، ومشكلات واقعية، يعيشها الناس ويعانونها، ويحتاجون إلى معرفة حكم الشرع –أو على الأقل- الاجتهاد الإسلامي المعاصر في شأنها.
وهي ثانيا مكتوبة بروح الاستقلال العلمي، والتحرر من ربقة التمذهب والتقليد والتعصب لرأي بعينه. فصاحبها لا يرجع إلا إلى الكتاب والسنة وأصول الشريعة.
وقد كان الشيخ رحمه الله من المتمكنين في فهم القرآن، المتبحرين في علوم السنة، الفاقهين لروح الشريعة، إلى جوار معرفته بعصره، وإحاطته بقضاياه وتياراته، وموقف الفرد المسلم والأمة المسلمة إزاء ذلك كله.
وهي ثالثا تحمل روح الإصلاح والدعوة إلى الإسلام الشامل المتوازن، فهي ليست مجرد جواب عابر عن سؤال طارئ، بل هي رسائل تثقيف وتوعية وتوجيه إلى هداية القرآن، وعدالة الإسلام وتحذير من دسائس
الكائدين له، وتضليل الحاقدين عليه. وتعبئة للأمة الإسلامية لتستيقظ وتتأهب وتتساند لتبني حضارتها، وترد كيد أعدائها.
وهي –والحق يقال- موسوعة علمية عصرية، لا يستغني عنها عالم مسلم، يهتم بهذا العصر ومشكلاته.
وليس معنى هذا أن كل ما فيها صواب، مائة في المائة 100% على حد تعبير علم الحساب، فهذا غير مستطاع لبشر غير معصوم، وحسب العالم أن يكون الصواب أغلب على فتاويه، وأن يكون الإسلام محور تفكيره، وهداية الناس إليه غاية سعيه. وما أخطا فيه بعد ذلك، فهو فيه معذور، بل مأجور، ما دام بعد تحري واجتهاد.
فتاوى الشيخ شلتوت: وعلى نهج فتاوى الشيخ رشيد رضا، جاءت من بعده فتاوى الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت، شيخ الجامع الأزهر السابق –رحمه الله تعالى- فالروح هي نفس الروح، والنهج هو نفس النهج، وإن كان السيد رشيد يمتاز بطول باعه في معرفة السنة وعلوم الحديث، وهو الأمر الذي قصر فيه كثير من المشتغلين بالفقه في عصرنا، وفيما قبل عصرنا بقرون، إلا من رحم الله.
جلالة منصب الفتوى: الفتوى منصب عظيم الأثر، بعيد الخطر، فإن المفتى –كما قال الإمام الشاطبي- قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم فهو خليفته ووارثه “العلماء ورثة الأنبياء”.. وهو نائب عنه في تبليغ الأحكام، وتعليم الأنام، وإنذارهم بها لعلهم يحذرون. وهو إلى جوار تبليغه في المنقول عن صاحب الشريعة، قائم مقامه في إنشاء الأحكام في المستنبط منها بحسب نظره واجتهاده، فهو من هذا الوجه –كما قال الشاطبي- شارع، واجب اتباعه، والعمل على وفق ما قاله، وهذه هي الخلافة على التحقيق.
واعتبر الإمام أبو عبد الله ابن القيم المفتي موقعا عن الله تعالى فيما يفتي به، وألف في ذلك كتابه القيم المشهور “إعلام الموقعين عن رب العالمين” الذي قال في فاتحته: “إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات؟!”.
وقد عرف السلف رضي الله عنهم للفتوى كريم مقامها، وعظيم منزلتها وأثرها في دين الله وحياة الناس، وترتب على ذلك عدة أمور أو مواقف.
تهيب السلف للفتوى: أحدهما: تهيبهم لها، وتريثهم في أمرها، وتوقفهم في بعض الأحيان عن القول، وتعظيمهم لمن قال: “لا أدري” فيما لا يدري، وإزراؤهم على المتجرئين عليها دون اكتراث، استعظاما منها لشأنها، وشعورا بعظم التبعية فيها. وأول الناس في ذلك الصحابة، فكان كثير منهم لا يجيب عن مسألة حتى يأخذ رأي صاحبه، مع ما رزقوا من البصيرة والطهارة والتوفيق والسداد، كيف لا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل أحيانا فلا يجيب حتى يسأل جبريل.
وكان الخلفاء الراشدون، مع ما آتاهم الله من سعة العلم –يجمعون علماء الصحابة وفضلاءهم عندما تعرض لهم مشكلات المسائل، يستشيرونهم، ويستنيرون برأيهم، ومن هذا اللون في الفتاوى الجماعية نشأ الإجماع في العصر الأول.
وكان بعضهم يتوقف عن الفتوى فلا يجيب ويحيل إلى غيره أو يقول: لا أدري. قال عتبة بن مسلم: صحبت ابن عمر أربعة وثلاثين شهرا، فكان كثيرا ما يسأل فيقول: لا أدري!.
وقال ابن أبي ليلى: أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول، وما منهم من أحد يحدث بحديث، أو يسأل عن شيء، إلا ود أخاه كفاه!.
وقال عطاء بن السائب: أدركت أقواما إن كان أحدهم ليسأل عن شيء فيتكلم وإنه ليرعد.
وقال عمر بن الخطاب: أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار.
وقال ابن مسعود: والله إن الذي يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون.
ورُوي عن ابن عباس: إذا أخطأ العالم “لا أدري” أصيب مقالته. ونسب إلى غيره أيضا.
وإذا انتقلنا إلى التابعين نجد سيرهم وأفقههم سعيد بن المسيب كان لا يكاد يفتي، ولا يقول شيئا، إلا قال: اللهم سلمني، وسلم مني!.
وسئل القاسم بن محمد –أحد الفقهاء السبعة بالمدينة- عن شيء فقال: إني لا أحسنه، فقال له السائل: إني جئتك لا أعرف غيرك.
فقال له القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي، وكثرة الناس حولي، والله لا أحسنه. فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي الزمها، فوالله ما رأيناك في مجلس أنبل منك اليوم. فقال القاسم: والله لأن يقطع لساني أحب إلي من أن أتكلم بما لا علم لي به.
وسئل الشعبي عن مسألة، فقال: لا أدري: فقيل له: ألا تستحي من قول “لا أدري” وأنت فقيه العراق؟ فقال: لكن الملائكة لم تستح حين قالوا: “سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا” وبعد التابعين نجد أئمة المذاهب المتبوعة لا يستنكفون من قول “لا أدري” فيما لا يحسنونه.
وقد حفظ عن أبي حنيفة مع براعته في الجواب، وقدرته الفائقة على الاستنباط والتوليد… مسائل معروفة قال فيها: لا أدري…
روى البغدادي بسنده عن أبي يوسف قال: سمعت أبا حنيفة يقول: لولا الفرق (الخوف) من الله أن يضيع العلم، ما أفتيت أحدا. يكون له المهنأ، وعليّ الوزر.
وقال أيضا: من تكلم في شيء من العلم وتقلده وهو يظن أن الله لا يسأله عنه: كيف أفتيت في دين الله؟ فقد سهلت عليه نفسه ودينه.
وكان أشدهم في ذلك مالك رحمه الله، فكان يقول: من سئل عن مسألة، فينبغي له قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب فيها.
وقال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة، فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن.
وسمعه ابن مهدي يقول: ربما وردت على المسألة، فأسهر فيها عامة ليلي.
قال مصعب: وجهني أبي بمسألة –ومعي صاحبها- إلى مالك يقصها عليه، فقال: ما أحسن فيها جوابا، سلوا أهل العلم.
قال ابن أبي حسان: سئل مالك عن اثنين وعشرين مسألة، فما أجاب إلا في اثنتين بعد أن أكثر من “لا حول ولا قوة إلا بالله”.
وكان الرجل يسأل عن المسألة، فيقول: العلم أوسع من هذا، وقال بعضهم: إذا قلت أنت يا أبا عبد الله: لا أدري فمن يدري؟ قال: ويحك! ما عرفتني! وما أنا؟ وأي شيء منزلتي حتى أدري ما لا تدرون؟! ثم أخذ يحتج بحديث ابن عمر يقول: لا أدري، فمن أنا؟! وإنما أهلك الناس العجب وطلب الرئاسة. وهذا يضمحل عن قليل. وقال مرة أخرى: فقد ابتلى عمر بن الخطاب بهذه الأشياء، فلم يجب فيها، وقال ابن الزبير: لا أدري، وابن عمر: لا أدري!.
وقال مصعب: سئل مالك عن مسألة، فقال لا أدري. فقال له السائل: إنها مسألة خفيفة سهلة، وإنما أردت أن أعلم بها الأمير، وكان السائل ذا قدر، فغضب مالك وقال: مسألة خفيفة سهلة! ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قول الله تعالى: “إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا” فالعلم كله ثقيل، وبخاصة ما يسأل.
قال بعضهم: ما سمعت قط أكثر قولا من مالك “لا حول ولا قوة إلا بالله” ولو شاء أن ننصرف بألواحنا مملوءة بقوله لا أدري “إن نظن إلا ظنا، وما نحن بمستيقنين” لفعلنا.
وقال أبو داود: سمعت أحمد (بن حنبل) وسئل عن مسألة فقال: دعنا من هذه المسائل المحدثة! وما أحصى ما سمعت أحمد، سئل عن كثير مما فيه الاختلاف من العلم، فيقول: لا أدري!.
وجاء رجل يسأله عن شيء فقاله: لا أجيبك في شيء. ثم قال: قال عبد الله ابن مسعود: إن كل من يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون”!. وهكذا كان أئمة الإسلام.
إنكارهم على من أفتى بغير علم: ثانيا: كان السلف ينكرون أشد الإنكار على من اقتحم حمى الفتوى ولم يتأهل لها، ويعتبرون ذلك ثلمة في الإسلام، ومنكرا عظيما يجب أن يمنع.
وفي الصحيحين من حديث ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم “إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء. فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا”.
وروى الإمام أحمد وابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم “من أفتى بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه”.
وذلك لأن المستفتي معذور إذا كان من أفتاه لبس لبوس أهل العلم، وحشر نفسه في زمرتهم، وغر الناس بمظهره وسمته.
غير أن من أقر هذا المفتي –بعد ما تبين جهله وخلطه- من ولاة الأمور يشاركه في الإثم أيضا، ولا سيما إذا كان من أهل الحظوة لديهم، والقربى إليهم، فهو ينفعهم، وهم ينفعونه، على طريقة “احملني أحملك”!.
ومن ثم قرر العلماء: إن من أفتى وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص، ومن أفره من ولاة الأمور على ذلك فهو عاص أيضا.
ونقل ابن القيم عن أبي الفرج بن الجوزي رحمه الله قال: ويلزم ولي الأمر منعهم، كما فعل بنو أمية.
قال: وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق… وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس، بل هو أسوا حالا من هؤلاء كلهم.
وإذا تعين علي ولي الأمر منع من لم يحسن التطبيب من مداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية شديد الإنكار على هؤلاء، ولما قال له بعضهم يوما: أجعلت محتسبا على الفتوى؟! قال له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب، ولا يكون على الفتوى محتسب؟.
والإمام أبو حنيفة رغم ذهابه إلى عدم الحجر على السفيه احتراما لآدميته، يقول بوجوب الحجر على المفتي الجاهل والمتلاعب بأحكام الشرع، لما وراء تلاعبه من ضرر عام على الجماعة المسلمة، لا يقاوم حقه الفردي في حرية التصرف.
وقد رأى رجل ربيعة بن أبي عبد الرحمن يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم! قال: ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق!.
قال بعض العلماء فيما نقله ابن القيم عنه: فكيف لو رأى ربيعة زماننا؟ وإقدام من لا علم له على الفتيا، وتوثبه عليها، ومد باع التكلف إليها، وتسلقه بالجهل والجرأة عليها، مع قلة الخبرة وسوء السيرة وشؤم السريرة، وهو من بين أهل العلم منكر أو غريب، فليس له في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف نصيب؟!.
ونقل أبو عبيد الله بن بطة ما رواه الأعمش عن شقيق عن ابن مسعود: والله إن الذي يفتي الناس في كل مسألة لمجنون، وقول الحكم للأعمش: “لو سمعت منك هذا الحديث قبل اليوم ما كنت أفتي في كثير مما كنت أفتي فيه”.
ثم قال أبو عبد الله: فهذا عبد الله بن مسعود يحلف بالله، إن الذين يفتي الناس في كل ما يسألونه مجنون. ولو حلف حالف لبر، إن أكثر المفتين في زماننا هذا مجانين! لأنك لا تكاد تلقى مسئولا عن مسألة، متلعثما في جوابها ولا متوقفا عنها، ولا خائفا لله، ولا مراقبا له أن يقول له: من أين قلت؟ بل يخاف ويجزع أن يقال: سئل فلان عن مسالة فلم يكن عنده جواب… يفتي فيما عيي عنه أهل الفتوى، ويعالج ما عجز عن علاجه الأطباء”.
وقال غير واحد من السلف في بعض أهل زمانه. إن أحد يفتي في المسألة لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر!
وأقول: فكيف لو رأى ربيعة وابن بطة وابن القيم ومن قبلهم ومن بعدهم من علماء زماننا نحن؟ وكيف أصبح يفتي في قضايا الدين الكبرى من لا علم له بالأصول ولا بالفروع، ولم يتصل بالقرآن والسنة اتصال الدارس المتعمق، بل اتصال الخاطف المتعجل؟
كيف أصبح بعض الشباب يفتون في أمور خطيرة بمنتهى السهولة والسذاجة، مثل قولهم بتكفير الأفراد والمجتمعات، وتحريمهم على اتباع حضور الجمع والجماعات، أو قول آخرين بإسقاط الجهاد حتى تقوم الدولة القرآنية، والخلافة الإسلامية.
وكثير من هؤلاء ليسوا من “أهل الذكر” في علوم الشريعة، ولا كلف نفسه أن يجلس إلى أهل الذكر ويأخذ عنهم، ويتخرج على أيديهم، إنما كون ثقافته من قراءات سريعة في كتب المعاصرين، أما المصادر الأصلية فبينه وبين قراءتها مائة حجاب وحجاب، ولو قرأها ما فهمها، لأنه لا يملك المفاتيح المعينة على فهمها وهضمها. فكل علم له لغة ومصطلحات لا يفهمها إلا أهله العارفون به المتخصصون فيه، فكما لا يستطيع المهندس أو الطبيب أن يقرأ كتب القانون وحده دون مرشد ومعلم، ولا يستطيع القانوني أن يقرأ كتب الهندسة وحده، كذلك لا يستطيع أحد هؤلاء أن يدرس كتب الشريعة وحده دون موجه يأخذ بيده.
وهذا ينتهي بنا إلى الأمر الثالث، وهو: ما يلزم الإنسان من علم وثقافة لكي يفتي.
ثقافة المفتي: إن المفتي أو الفقيه الذي يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم بل يوقع عن الله جل شأنه، جدير بأن يكون على قدر كبير من العلم بالإسلام، والإحاطة بأدلة الأحكام، والدراية بعلوم العربية، مع البصيرة والمعرفة بالحياة وبالناس أيضا بالإضافة إلى ملكة الفقه والاستنباط.
لا يجوز أن يفتي الناس في دينهم من ليس له صلة وثيقة وخبرة عميقة بمصدريه الأساسيين: الكتاب والسنة.
ولا يجوز أن يفتي الناس من لم تكن له ملكة في فهم لغة العرب وتذوقها، حتى يقدر على فهم القرآن والحديث.
ولا يجوز أن يفتي الناس من لم يتمرس بأقوال الفقهاء، ليعرف منها مدارك الأحكام، وطرائق الاستنباط، ويعرف منها كذلك مواضع الإجماع ومواقع الخلاف.
ولا يجوز أن يفتي الناس من لم يتمرس بأقوال الفقهاء، ليعرف منها مدرك ويستعمل القياس، ومتى لا يجوز.
ولا يجوز أن يفتي الناس من يعيش في صومعة حسية أو معنية، لا يعي واقع الناس، ولا يحس بمشكلاتهم.
يروي الحافظ الخطيب البغدادي في كتابه “الفقيه والمتفقه” عن الإمام الشافعي قوله: “لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله، إلا رجلا عارفا بكتاب الله، بناسخه ومنسوخه، وبمحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، وفيم أنزل، ثم يكون بعد ذلك بصيرا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث ما عرف من القرآن، ويكون بصيرا باللغة، بصيرا بالشعر، وبما يحتاج إليه العلم والقرآن، ويستعمل –مع هذا- الإنصات وقلة الكلام… ويكون بعد هذا مشرفا على اختلاف أهل الأفكار، وتكون له قريحة (أي ملكة وموهبة) بعد هذا فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فله أن يتكلم في العلم ولا يفتي”.
وسئل الإمام أحمد: ما تقول في الرجل يسأل عن الشيء فيجيب بما في الحديث، وليس بعالم بالفتيا؟ قال: ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا، أن يكون عارفا بالسنن، عالما بوجوه الكتاب، عالما بالأسانيد الصحيحة، وإنما جاء خلاف من خالف لقلة معرفتهم بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها.
ولم يكتف الإمام أحمد بمعرفة المفتي للسنن، فاشترط له المعرفة بأقوال الفقهاء والمجتهدين، قال: ينبغي لمن أفتى أن يكون عالما بقول من تقدم، وإلا فلا يفتي. وقال أيضا: أحب أن يتعلم الرجل كل ما تكلم فيه الناس.
وسأله بعضهم: إذا حفظ الرجل مائة ألف حديث يكون فقيها؟ قال: لا. قال: فمائتي ألف؟ قال لا. قال: فثلاثمائة ألف؟ قال: لا. قال: فأربعمائة ألف؟ قال بيده هكذا وحركها.
وقد خفف علماء الأصول بعد ذلك نزولا على الأمر الواقع في أزمانهم وقالوا: المهم أن يعرف من الأحاديث ما يتعلق بالأحكام، ولا يلزم حفظها عن ظهر قلبه، يكفي أن يكون ممارسا لها، عارفا بمظانها متونا وشروحا. خبيرا بنقدها تعديلا وتجريحا، قادرا على مراجعتها عند الحاجة إلى الفتوى، ومهما قدر على الحفظ فهو أحسن وأكمل.
على أن الحفظ وحده لا يجعل الحافظ فقيها، ما لم تكن لديه المقدرة على التمييز بين المقبول والمردود، والصحيح والمعلول، وكذلك على الاستنباط والترجيح. أو التوفيق بين النصوص بعضها وبعض، وبينها وبين المقاصد الشرعية والقواعد الكلية.
وقيل للإمام عبد الله بن المبارك متى يفتي الرجل؟ قال: إذا كان عالما بالأثر، بصيرا بالرأي.
وبهذا لا يكفي الأثر دون الرأي، ولا الرأي دون الأثر.
ولا بد للمفتي من ثقافة عامة، تصله بالحياة والكون، وتطلعه على سير التاريخ، وسنن الله في الاجتماع الإنساني. حتى لا يعيش في الحياة وهو بعيد عنها، جاهل بأوضاعها.
يقول الخطيب البغدادي في “الفقيه والمتفقه” “اعلم أن العلوم كلها أبازير للفقه، وليس دون الفقه علم إلا وصاحبه يحتاج إلى ما يحتاج إليه الفقيه، لأن الفقيه يحتاج أن يتعلق بطرف من معرفة كل شيء من أمور الدنيا والآخرة، وإلى معرفة الجد والهزل، والخلاف والضد، والنفع والضر، وأمور الناس الجارية بينهم، والعادات المعروفة منهم، فمن شرط المفتي النظر في جميع ما ذكرناه، ولن يدرك ذلك إلا بملاقاة الرجال، والاجتماع مع أهل النحل والمقالات المختلفة، ومساءلتهم وكثرة المذاكرة لهم، وجمع الكتب ومدارستها، ودوام مطالعتها”.
ولا يريد الخطيب من المفتي أو الفقيه أن يجمع الكتب في خزائنه من هنا وهناك دون أن يعيها، وتفهم ما فيها، فهذا كمثل الحمار يحمل أسفارا.
ونقل عن بعض الحكماء أنه قيل له: إن فلانا جمع كتبا كثيرة. فقال: هل فهمه على قدر كتبه؟ قيل: لا. قال: فما صنع شيئا! ما تصنع البهيمة بالعلم؟!.
وقال رجل لرجل كتب، ولا يعلم شيئا مما كتب: مالك من كتبك إلا فضل تعبك وطول أرقك، وتسويد ورقك!.
إن من أسوأ الأشياء خطرا على المفتي أن يعيش في الكتب، وينفصل عن الواقع، ولهذا أحسن الخطيب رضي الله عنه حين طلب إلى المفتي أن يعرف الجد والهزل، والنفع والضر في أمور الحياة.
ومما قاله الإمام أحمد: لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال: أولها: أن تكون له نية، فإن لم تكن له نية، لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور. والثانية: أن يكون له حلم ووقار وسكينة. والثالثة: أن يكون قويا على ما هو فيه وعلى معرفته. والرابعة: الكفاية (أي من العيش) وإلا مضغه الناس. الخامسة: معرفة الناس.
وبدون معرفة الناس ومعايشتهم في واقع حياتهم ومشكلات عيشهم، يقع المفتي في متاهات، أو يهيم في خيالات، ويظل في واد والناس في واد، فهو لا يعرف إلا ما يجب أن يكون، دون ما هو كائن، مع أن الواجب شيء، والواقع شيء آخر.
يقول ابن القيم: الفقيه من يطبق بين الواجب والواقع، فلكل زمان حكم، والناس بزمانهم أشبه منهن بآبائهم.
ذكر هذا في معرض جواز استفتاء مستور الحال، بل الفاسق إذا لم يكن معلنا بفسقه، داعيا إلى بدعته. قال: وإذا عم الفسوق وغلب على أهل الأرض، فلو منعت أمامه الفساق وشهاداتهم وأحكامهم وفتاويهم وولاياتهم، لعطلت الأحكام، وفسد نظام الخلق، وبطلت أكثر الحقوق، ومع هذا فالواجب اعتبار الأصلح فالأصلح.
الجانب الأخلاقي في المفتي: والعلم مع فرضيته والثقافة مع حتميتها للمفتي، ليسا كل شيء. فلا بد مع العلم من عمل، ولا بد مع العمل من خشية، والعلم الذي لا يثمر خشية الله وتقواه لا قيمة له في ميزان الحق. يقول الله تعالى “إنما يخشى الله من عباده العلماء” إن آفة الحياة ليست من فساد العقول، بقدر ما هي من فساد الضمائر، وإن أزمة الناس ليست أزمة معرفة بقدر ما هي أزمة أخلاق.
ولم تفسد الأديان السابقة على الإسلام بسبب الجهال بحقائقها، بقدر ما فسدت من علماء السوء، المتاجرين فيها، المحرفين لها.
ولا عجب أن حمل القرآن بقوة على الذين يخونون علمهم، يشترون به متاعا زائلا، ويلبسون الحق بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون.
نقرأ قوله تعالى “وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه، فنبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون” ونقرأ كذلك قوله سبحانه “إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب، ويشترون به ثمنا قليلا، أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار، ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، فما أصبرهم على النار”.
ونقرأ أسوأ مثلين ذكرهما القرآن لمن علم ولم يعمل بمقتضى ما علم: فالذي آتاه الله آياته انسلخ منها، وأخلد إلى الأرض واتبع هواه، وجعل الله مثله مثل الكلب، إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث” وكذلك بنو إسرائيل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، أي لم يقوموا بحقها، ولم يعملوا بهديها، جعل القرآن مثلهم “كمثل الحمار يحمل أسفارا”.
من هنا أكد علماء الإسلام على الجانب الأخلاقي للمفتي، ولم يكتفوا منه بسعة العلم والتبحر فيه، حتى يزين علمه بالتقوى ومكارم الأخلاق.
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أخبركم بالفقيه كل الفقيه؟ من لم يؤنس الناس من رحمة الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله، ألا لا خير في علم لا فقه فيه، ولا خير في فقه لا ورع فيه، ولا قراءة لا تدبر فيها.
ويقول الحسن البصري: هل تدري ما الفقيه؟ الفقيه الورع الزاهد، الذي لا يسخر ممن أسفل منه، ولا يهمز من فوقه، ولا يأخذ على علم علمه الله حطاما.
ويقول الإمام مالك: لا يكون العالم عالما، حتى يعمل في خاصة نفسه بما لا يلزمه الناس ولا يفتيهم به، مما لو تركه لم يكن عليه إثم.
فأين هذا ممن يفتي الناس بمنع شيء وهو يمارسه ويعمله، أو يفتيهم بوجوب فعل شيء، وهو تاركه ومضيعه؟ والله تعالى خاطب بني إسرائيل فقال: “أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب، أفلا تعقلون؟”.
ومن أمانة الفتوى وتقواه: أن يحيل سائله إلى من هو أعلم منه بموضوع الفتوى ولا يجد في ذلك حرجا في صدره.
سئلت عائشة أم المؤمنين عن المسح على الخفين، فقالت للسائل: سل عليا، فإنه أعلم مني بهذا، وقد كان يسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك، أن يسأل هو إخوانه من أهل العلم ويشاورهم، ليزداد استيثاقا واطمئنانا إلى الأمر، كما كان يفعل عمر، حيث يجمع علماء الصحابة ويشاورهم، بل كان يطلب رأي صغار السن فيهم مثل عبد الله بن عباس، الذي قال له مرة: تكلم ولا يمنعك حداثة سنك.
ومن هذا الجانب الأخلاقي: أن يرجع عن الخطأ إذا تبين له، فالرجوع إلى الحق خير له من التمادي في الباطل، ولا إثم عليه في خطئه، لأنه مأجور عليه، وإنما يأثم إذا عرفه ثم أصر عليه عنادا وكبرا، أو خجلا من الناس والله لا يستحي من الحق.
وقد كان بعض السلف يفتي سائله، فإذا تبين له خطؤه بأمر ينادي في الناس بأن فلانا الفقيه أفتى اليوم خطأ. ولا يبالي بما يقول الناس.
ومن أخلاقيات المفتي: أن يفتي بما يعلم أنه الحق، ويصر عليه، ولو أغضب من أغضب من أهل الدنيا، وأصحاب السلطان، وحسبه أن يرضي الله تبارك وتعالى. وكل الذي فوق التراب تراب.
وقد أفتى الأئمة المتبوعين بأحكام رأوها حقا، ورآها أصحاب السلطان ضد سلطانهم، فأصروا عليها مجاهرين، وعرضوا أنفسهم لسخط المتسلطين، فضربوا وأوذوا، ولكنهم صبروا على ما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا.
ولقد امتحن شيخ الإسلام ابن تيمية من أجل فتاويه التي خالف بها المألوف لدى المقلدين الجامدين، فكادوا له لدى أولي السلطة، حتى دخل السجن أكثر من مرة، وظل في محنته الأخيرة إلى أن وافاه الأجل رضي الله عنه.
ومع هذا لم يتزحزح عن موقفه، ولم يتراجع عما رأى أنه الحق، ولم يبال بسجن ولا نفي ولا تهديد بقتل، ومن كلامه في ذلك: سجني خلوة، ونفي سياحة (هجرة)، وقتلي شهادة.
وقبل ذلك كله يجدر بمن عرض نفسه للفتوى أن يشعر بالافتقار إلى الله تعالى، وصدق التوجه إليه، وأن يقف على بابه متضرعا داعيا، أن يوفقه للصواب ويجنبه زلل الفكر واللسان والقلم، ويحفظه من اتباع الهوى، وخليق به أن يقول ما كان يقوله ابن تيمية: اللهم يا معلم إبراهيم علمني، وما كان يقوله بعض السلف، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
أو يدعو بدعاء موسى عليه السلام: “رب أشرح لي صدري، ويسر لي أمري، وأحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي”.
وبما جاء في الصحيح من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: “اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، أهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم”.
وقد وضع علماء المسلمين جملة من الكتب فصلوا فيها الشروط والواجبات والآداب التي ينبغي أن تتوافر فيمن يقوم بالإفتاء.
منها: “صفة الفتوى والمفتي والمستفتي” للعلامة ابن حمدان الحنبلي، ومنها: “الأحكام في تمييز الفتاوى للأحكام” للإمام القرافي المالكي، ومنها: “الفقيه والمتفقه” للإمام الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي، ومنها: الكتاب الذي طبقت شهرته الآفاق: “أعلام الموقعين عن رب العالمين” للإمام ابن عبد الله شمس الدين ابن القيم.
وينبغي لمن وضع نفسه –أو وضعته الأقدار- موضع الفتيا، أن يراجع هذه الكتب -وبخاصة: آخرها، فهو أجمعها- ليمضي في طريقه على نور من ربه، وبصيرة من أمره.
واجب المستفتي: وإذا كان على المفتي واجبات أن يقوم بها، وآداب يحسن أن يراعيها، فإن على المستفتي مثل ذلك أيضا.
السؤال عما ينفع: وأول ما يجب عليه أن يحسن السؤال، فحسن السؤال نصف العلم، كما هو مأثور. وتطبيقا لهذا المعنى يجب أن يكون سؤاله عما ينفع، أي يسأل في واقعة يعاينها هو أو غيره ويريد الحكم فيها، وهو لا يسأل فيما هو مفترض بعيد الوقوع. فهذا من “أغاليط المسائل” التي جاء الحديث بالنهي عنها (رواه أبو داود).
وقد سأل بعض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم أسئلة لا ثمرة لها، فغضب لذلك غضبا شديدا، كسؤال عبد الله بن حذافة له: من أبي؟ لأن مثل هذا السؤال لا نفع له قط. لأنه إن كان له أب غير الذي ينسب إليه بين الناس، لم يكسب من ذلك إلا أن يفضح أمه، ويزري نفسه.
وقد عاقب عمر رجلا جعل كل همه أن يسأل عن المتشابهات، التي لا يتعلق بها حكم عملي، وقد يثير الجري وراءها مراء وجدلا لا طائل تحته، إلا إضاعة الأوقات، وبلبلة الأفكار، وإيغار الصدور.
ولما سئل الإمام مالك عن معنى “الاستواء” في قوله تعالى “استوى على العرش” غضب وقال للسائل: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة!.
وقد روي في التفسير أن بعض المسلمين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط، ثم لا يزال ينمو حتى يصير بدرا، ثم ينقص حتى يصير كما كان، فأنزل الله قوله: “يسألونك عن الأهلة، قل: هي مواقيت للناس والحج” فعدل عن الجواب عن عين سؤالهم إلى الجواب عن منافع الأهلة في الدين والحياة، فهذا ما يقدرون على فهمه في ذلك الوقت، وهو كذلك أجدى عليهم وأنفعه لهم.
وسائر الأسئلة التي سجلها القرآن للمسلمين في عصر النبوة كانت أسئلة واقعية تتصل بصميم حياتهم، لا بأخيلة وافتراضات وأغلوطات يدفع إليها حب التسلية وتزجية الفراغ، أو التعالم الأجوف، أو التعنت وتعجيز الغير، أو نحو ذلك من البواعث الرخيصة التي لا وزن لها في دين ولا أخلاق.
ومن أسئلتهم التي خلدها القرآن “يسألونك عن الخمر والميسر”، “يسألونك ماذا ينفقون”، “يسألونك عن اليتامى”، “يسألونك عن المحيض”، “يسألونك ماذا أحل لهم”…إلخ.
وقد ظل المسلمون في عصور ازدهارهم يسألون عما يفيدهم في دينهم ومعاشهم ومعادهم، وإذا جمح بأحدهم جواد خيالهم ردهم علماؤهم إلى جادة الصواب، وأفهموهم أن الإسلام يريد المسلم إيجابيا منتجا، يعرض عن اللغو، ويشغل نفسه ووقته بالنافع من القول والعمل والفكر.
ولما تخلف المسلمون –حضاريا وفكريا- أكثروا من الأسئلة التي لا يصلح بها دين، ولا ترتقي بها دنيا، ولا يزكو عليها فرد، ولا تنهض بها جماعة، وشغل عوام المسلمين بمسائل وتفصيلات لم تخطر ما ببال أحد من سلف الأمة.
كان للمتأخرين من علمائهم المقلدين دور كبير في إذكاء هذه الروح، ودعم هذا الاتجاه، لأنهم ضيعوا اللباب، وشغلوا بالقشور، وشغلوا الناس معهم بها، حتى إن تدريس الوضوء والطهارة ليستغرق دروس شهر كامل كشهر رمضان.
ولقد بقى من رواسب عصور الانحطاط بقية من الناس، رأيت من أسئلتهم العجب العجاب، وقرأت في رسائلهم إلى ما يثير الدهشة، ويستفرغ الضحك، وشر البلايا ما يضحك كما قيل.
ما لون كلب أهل الكهف؟ وهل كان ذكرا أم أنثى؟ وأين كانوا ومتى كانوا؟ مع أن الله تعالى لم ينص على شيء من ذلك، ولو علم فيه خيرا لنا لذكره. بل رأينا القرآن يذكر لنا اختلاف أهل الكتاب في عددهم، ما بين ثلاثة وخمسة وسبعة ثم يعقب على ذلك، فيخاطب الرسول بقوله: “قل: ربي أعلم بعدتهم، ما يعلمهم إلا قليل، فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا، ولا تستفت فيهم منهم أحد”.
فلم يصرح الله تعالى بعددهم وهو أعلم به، ونهى الرسول أن يتعمق في الجدال معهم، تعليما للأمة ألا يشغلوا أنفسهم بمثل هذا الخلاف والجدال.
ومن هذا اللون من الأسئلة ما يثيره بعض المتفقهين حول الأمور الغيبية: بأي لغة يتكلم الناس في القبر؟ بالسريانية؟ أم بالعربية؟ أم بغير هذه وتلك؟.
ولقد كان الفقيه التابعي الجليل الإمام عامر الشعبي يستخدم النكتة اللاذعة في الرد على هذا اللون من الأسئلة الغريبة.
سأله أحدهم يوما عن زوجة إبليس!! فقال: ذاك عرس لم أشهده- وسأل آخر: كيف يخلل لحيته في الوضوء وهي كثيفة؟ فقال له: انقعها من الليل.
وقد اتبعت هذه الطريقة نفسها في بعض الأحيان مع بعض الناس…
قال لي بعضهم يوما وأنا ألقي درسا في المسجد وهو يتفاصح ويتعالم يا سيدنا الشيخ، ما اسم أخت سيدنا موسى التي ذكرها الله في القرآن؟ فقلت له: ما لك ولها؟ أتريد أن تخطبها؟!! هب أن اسمها مريم أو زليخا أو مارية هل يفيدك هذا شيئا؟ إن الله لم يذكر لنا اسمها حين قص علينا أمرها ورسوله صلى الله عليه وسلم لم يبين لنا: ما اسمها. فلماذا نجهد أنفسنا ونعنيها فيما أراحنا الله منه، ولا نفع لنا فيه؟!.
وسامح الله بعض المفسرين الذين يبدءون ويعيدون في تعيين هذه المبهمات، وذكر الأقوال المروية فيها على اختلافها، وكلها إسرائيليات لا قيمة لها في ميزان العلم الحق. ولا ثمرة لها في دين الله، ولا دنيا الناس.
استفت قلبك: وعلى المستفتي أن يتقي الله ويراقبه في استفتائه إذا استفتى، ولا يجعل الفتوى ذريعة إلى أمر يعلم من قرارة نفسه أنه غير جائز شرعا. وإنما لبس على المفتي، وغره بزخرف القول، أو بإخفاء عنصر له تأثير في تكييف القضية بوضوح، لا تلبيس فيه ولا تمويه، وظهر له من خباياها ما أخفى عنه، لغير فتواه.
فلا يخدعن المستفتي نفسه، ويحلل ما يوقن –بينه وبين نفسه- أنه حرام، لمجرد أنه حصل في يديه فتوى من هذا الشيخ أو ذاك، هي –في واقع الأمر- في غير موضوعه، أو في غير حالته.
والمفتي هنا كالقاضي الذي يحكم بحسب الظاهر، تاركا إلى الله أمر الخفايا والسرائر، وقضاءه بحسب الظاهر، لا يجعل الحرام في الباطن حلالا. قال تعالى: “ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون”.
وفي الحديث الصحيح: “إنكم تختصمون إليَ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على ما نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار”.
وإذا كان في قضاء الرسول المصطفى بحسب ما يظهر له، فكيف بقضاء غيره؟!.
ولا خلاف أن المفتي في هذا الأمر كالقاضي ولا فرق.
وكل فتوى تحوك في صدر المستفتي، ولا تطمئن إليها نفسه، ولا يستريح إليها ضميره، لسبب من الأسباب المعتبرة، يجب أن يتوقف عن العمل بها، حتى تتضح له الرؤية، ويصل إلى مرحلة الاطمئنان النفسي، بأن يسأل أكثر من مفت، أو يعاود المفتي الأول مرة بعد أخرى، حتى يزول التردد بالتثبت، وينقطع الشك باليقين، ما وجد إلى ذلك سبيل. فالقلب –أو الضمير بتعبير عصرنا- هو المفتي الأول في هذه الأحوال، كما في الحديث المعروف.
يقول العلامة ابن القيم: “لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي، إذا لم تمطئن نفسه، وحاك في صدره من قبوله، وتردد فيها. لقوله صلى الله عليه وسلم: “استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك”.
فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولا، ولا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي بذلك.
ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد أو حاك في صدره، لعلمه بالحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه جهل المفتي، أو محاباته في فتواه، أو عدم تقيده بالكتاب والسنة، أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرخص المخالفة للسنة، أو غير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه وسكون النفس إليها.
فإن كان عدم الثقة والطمأنينة لأجل المفتي، يسأل ثانيا وثالثا حتى تحصل له الطمأنينة. فإن لم يجد، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها. والواجب تقوى الله بحسب الاستطاعة.
تبين الفتوى بكل قيودها: وعلى المستفتي بعد ذلك أن يتفحص فتوى مفتيه تمام التفحيص، ويتبين ما فيها من قيود وشروط تمام التبين، ثم يطبق ذلك على نفسه وحاله. فلا يخطف الجواب خطفا، قبل أن يتأمل أوائله وأواخره، وما يحمل في طيه من قيود أو أوصاف قد لا تنطبق على قضيته عند التطبيق. وقد يجيب المفتي بكلام عام، ثم ينبه في أثناء فتواه أو في أخرها على قيد أو شرط، أو يستدرك كلامه الأول، فيقيد مطلقه، أو يخصص عمومه، أو يفصل مجمله.
فلا بد للمستفتي أن يراعي هذا كله، ولا يأخذ ببعض الجواب دون بعض، إذا أراد أن يتخلص من التبعة، ويلقى الله تعالى سليما من الآثم.
واجب المسلم: طلب العلم: ثم إن على المسلم أن يتفقه في دينه، ويتعلم من أحكامه ما ينفعه، وما يسير به في طريق سوي، حتى لا تختلط عليه الأمور، ويلتبس عليه الحق بالباطل والحلال بالحرام.
ولهذا جاء في الحديث: “طلب العلم فريضة على كل مسلم” والمراد: كل إنسان مسلم، ذكرا كان أم أنثى، فالمسلمة كالمسلم في طلب العلم بالإجماع، وإن لم يرد في الحديث لفظ “مسلمة”.
إذا لم يتعلم المسلم، تكون النتيجة أن يسير في طريق، ولكن غير الطريق السليم… يبتدع في الدين ما ليس منه، ويعبد الله على غير ما شرع، والله تعالى لا يريد من عباده أن يبتدعوا، لأن الله تعالى هو الشارع، وليس لهم أن يشرعوا في دينهم ما لم يأذن به الله. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “من عمل عملا فليس عليه أمرنا فهو رد، إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة”.
إذا لم يتعلم الإنسان دينه، فقد يحلل الحرام، ويحرم الحلال. يحرم على نفسه ما لم يحرمه الله، ويبيح لنفسه أو لغيره ما حرمه الله. قد يرد الصحيح ويقبل الباطل، ويصوب الخطأ، ويخطئ الصواب، وقد رأيت هذا كثيرا وعاينته. فمن الناس من يرد حديثا ورد في البخاري بحديث لا أصل له، بعضهم رد الحديث “لن يفلح قوم ولوا أمراهم امرأة” وهو ثابت في صحيح البخاري، من أجل حديث “خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء” يعني عائشة، وهذا الحديث باطل كما حقق العلماء.
وهذا إنما جاء من الجهل بالدين.. فلا بد أن يتعلم الإنسان دينه، فإذا تعلم دينه استطاع أن يسير على هدى، ويمضي على بينة من ربه، ولكن، من أين يعرف المسلم أحكام دينه وتعاليمه؟
هناك طرق لذلك:
فأول هذه الطرق: هو الكتب الإسلامية المعتمدة: فكل مسلم أدرك حظا من العلم، ويحسن الفهم من الكتب، يجب عليه أن يقرأ منها ما يلائمه، وأن يتثقف، وأن يعي. ولكن هنا بعض الخطر، فهناك كتب محشوة بالإسرائيليات، وهناك كتب لا تخلو من أحاديث موضوعة أو منكرة، وهناك كتب فيها اتجاهات غير سليمة. ولهذا يجب ألا يقرأ المسلم من الكتب إلا ما هو موثق ومعتمد من عالم موثوق به في علمه، وفي سلامة اتجاهه، يعرف المسلم أن هذا الكتاب مقبول أو مرفوض، نافع أو ضار، وقد يكون نافعا ومقبولا، إلا في مواضع معينة منه، فيقرأ مع الحذر.
ومن آفات هذا العصر، أن الناس لا يريدون أن يقرءوا الكتب النافعة، ولا يصبرون على قراءة الكتب الأصلية، حتى أن بعض الأدباء يسمى هذا العصر، عصر “السندوتش” يعني أن الناس ما عادوا يطيقون أن يجلسوا إلى مائدة حافلة لمدة ساعة من الزمان، يأكلون في أناة، وينصرفون على مهل، إنما يريد أكثرهم (سندوتشا) سريعا، يلتهمه وهو ماشٍ أو راكب.
فكذلك الناحية الثقافية أيضا، يريد القارئ أن يقرأ رسالة صغيرة، ونشرات سريعة. أما أن يقرأ كتابا في التفسير كابن كثير، أو كتابا معتمدا في الحديث كالبخاري أو شرحه، فليس عند كثير من الناس من الطاقة والجلد على ذلك في عصر السرعة.
فإن كان ولا بد من قراءة الكتب الملخصة، فليقرأ الجيد منها بإشراف عالم ثقة وبتوجيهه.
هذه واحدة…..
والطريقة الثانية: هي مجالس العلم، ومجالسة العلماء –أن يستفيدوا من دروس العلم- كما قال لقمان لابنه: “يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن القلوب تحيا بالعلم كما تحيا الأرض الميتة بوابل المطر”.
الذي يحيي القلوب هو العلم، العلم النافع. ولهذا جاء في كثير من الأحاديث النبوية حث على مجالس الذكر، وأنها روضة من رياض الجنة: “إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: هي مجالس الذكر أو حلق الذكر”.
وبعض الناس يظن الذكر، هو ما يفعله الدراويش وأدعياء الصوفية من الآهات والكلمات والإشارات. إنما الذكر الذي عرفه الصحابة والتابعون هو تذاكر أمور الدين، وتلاوة كتاب الله، وتذاكر الحلال والحرام، وتذاكر التفسير والحديث والفقه.
هذا هو أعظم ذكر، إنه الذكر النافع، خلاف ما يفعله كثير ممن يسمون بالذاكرين.
والطريق الثالث للتعليم: أن يسأل المسلم فيما يعرض له من أمور، وما يعن له من مشكلات يومية، تشتبه عليه الأمور فيها، ولا يعرف أهي من الحلال أم من الحرام.
لا بد هنا أن يسأل أهل الذكر، وأهل العلم، كما أرشدنا الله تعالى في كتابه بقوله: “فأسالوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون” أي ارجعوا إلى أهل المعرفة وأهل الخبرة، وهذه قاعدة في الحياة كلها. كما أن الإنسان، إذا مرض هو أو مرض ولده، يرجع إلى أهل الاختصاص في الطب، كذلك في كل أمر من الأمور ومنها أمور الدين.
وفي حياة النبي صلى الله عليه وسلم أصيب أحد الصحابة بجرح، وكان عليه جنابة، ولا بد أن يغتسل ويتطهر، فأفتاه بعض من معه بأن ينزل الماء ويغتسل مع هذه الجراحة. فكانت النتيجة أن مات الرجل من آثار ذلك. فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبر هذه الحادثة قال في شأن هؤلاء الذين أفتوه: قتلوه، قتلهم الله! هلا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العيي السؤال، إنما كان يكفيه أن يربط على جرحه، ويتيمم.