أبحاث

أخبار الجريمة – من منظور إسلامي

العدد 51- 52

مفاهيم مبدئيــة :

هذا المقال هو بداية لسلة من البحوث تتعلق بالصحافة الاسلامية, نحاول أن نطرح فيها رؤية شاملة للصحافة من منظور اسلامى, تتناول المقاصد والمفاهيم, كما تتناول التقنيات والأساليب.

وقد فضّلنا أن نبدأ بموضوع الجريمة لأنه من أكثر اموضوعات حساسية وأشدها تعقيداً .. وهو إلى ذلك يتضمن شمولاً لعديد من القضايا النظرية والعملية, ةيطرح كثيرا من القضايا الأساسية, مما يجعله أفضل ما نقدم به هذه السلسلة.

واذا كنا نستهدف من نشر هذه السلسلة تقديم اطار عملى يستطيع الممارس أن يسترشد به فى معالجة مايطرأ له من الأمور اليومية, فإننا نريد أيضا أن يسند هذا الدليل العملى إلى أساس متين من المعرفة النظرية, التى تنير الطريق وتحدد معامله. فالاعلام ليس مجرد حرفة مثل النجارة أو الحدادة تصنع منتجات محايدة بطبيعنها يمكن استخدامها فى الخير والشر, إنما هو حرفة فكرية,ناتجها متميز, بحكم أنه ينبع من الجهاز المعرفى السيكلوجى للانسان, وهو جهاز غير محايد بطبيعته وطبعه ..

كما أن الاعلام المعاصر يعتمد على تقنيات حديثة تستند إلى العديد من المعارف والنظريات العلمية لابد من فهمها جيداً حتى يكون التطبيق دقيقا وواعياً ..

واتباعا للمنهج العلمى يكون علينا أولاً أن نجدد أبعاد وحدود القضية التى نتناولها, ومن ذلك :

أولا : ماذا نقصد بالصحافة الاسلامية ؟

الصحافة الاسلامية فى عرفنا مفهوم واسع يشمل :

أ ـــ الصحف العامة التى تصدر فى مجتمع اسلامى بهدف خدمة هذا المجتمع, وليس بهدف التجارة والربح. ولا يعنى هذا أننا ننكر على صحافة خدمة المجتمع أن تكون ناجحة تجارياً وأن تحقق ربحاً. فهذا أمر وارد, بل ومطلوب, فالصحيفة الراسخة ماليا تسطيع مقاومة الضغوط المختلفة من مالية وسياسية ما يخرج عن مفهومنا هذا أن تقوم هذه الصحافة بهدف الربح وحده, أو أن يكون تحقيق الربح مقدماً وسابقا على كل غرض آخر.

ويدخل ضمن هذا الاطار صحف الخبر ـــ وهو الطابع الغالب الآن على الصحف فى العالم ـــ وصحف الرأى. كما تشمل هذه الصحف الصحف المملوكة للحكومات(1) بشكل مباشر ( مثل جريدة الاتحاد الظبيانية ) أو الصحف ذات الوضع الخاص, والتى يسميها البعض نصف حكومية, أو قومية, مثل الأهرام والأخبار القاهريتين. وكذلك الصحف التى تملكها الأحزاب مثل جريدة الشعب المصرية. بالاضافة بالطبع إلى الصحف المملوكة ملكية خاصة, مثل غالبية الصحف التى تصدر فى العالم العربى, ومنها مثلاً القبس الكويتية والراية القطرية وغيرها ..

كما يشمل تصنيفنا هذا الصحف التى تصدر خارج العالم الاسلامى, ولكنها تتوجه بالأساس إلى القارىء المسلم مثل جريدة الشرق الأوسط التى تصدر بلندن.

الشرط الوحيد الآخر الذى يجب توفره فى كل الصحف المندرجة تحت هذا المفهوم هو اتفاقها فى الأصول وأولها مبدأ سيادة الشريعة الاسلامية فى المجتمع الاسلامى.

ب ـــ الصحف ذات الصبغة الدينية, وهى التى تنطق باسم جماعة اسلامية, أو تركز بشكل خاص على أحوال المسلمين, ولكنها تخاطب القارىء العام, وتعالج جميع القضايا والمواضيع الدينية ( بمعناها الواسع ) مثل صحيفة << المسلمون >> ( لندن ـــ جدة ( واللواء الاسلامى ( القاهرة ). وهى تختلف عن الصحف الدينية ( بمعناها الضيق ) مثل مجلة الأزهر .. الخ, والتى تعتبر صحافة متخصصة, ليس لها صفة شمول المضمون( UNIVERSALITY OF CONTFNT, والتى تعتبر شرطا أساسياً حتى ينطبق عليها تعريف الصحافة العامة.

ثانيا : ما هى حدود أخبار الجريمة ؟

تعريف الجرائم فى الشريعة الاسلامية بأنها محظورات شرعية زجر الله عنها بحد أو تعزير ( الأحكام السلطانية للماوردى 192 ـــ الطبعة الأولى ـــ مكبعة السعادة ). والمحظورات هى إتيان فعل منهى عنه, أو ترك فعل مأمور به. وقد وصفت المحظورات بأنها شرعية, اشارة إلى أنه يجب فى الجريمة أن تحظرها الشريعة ( عبد القادر عوده ـــ التشريع الجنائى الاسلامى ـــ ج 1 ـــ ص 66 ).

وتتفق الشريعة تمام الاتفاق مع القوانين الوضعية الحديثة فى التعريف, فهذه الوضعية الحديثة فى التعريق, فهذه القوانين تعرف الجريمة بأنها اما عمل يحرمه القانون, واما إمتناع عن عمل يقضى به القانون. ولا يعتبر الفعل أو الترك جريمة فى نظر القوانين الوضعية إلا اذا كان معاقبا عليه طبقا للتشريع الجنائى ( المرجع السابق ص 67 ).

ولكن ليس معنى هذا الاتفاق المبدئى بين الشريعة والقانون الوضعى وحدة مفهوم مكونات الفعل المجَّرم. فبشكل عام الجريمة هى الخروج على القواعد والأعراف. ويختلف تقديرها لذلك من مجتمع إلى آخر ومن زمن لآخر.

« فالغزو » وما يستتبعه من قتل وسبى ونهب وسلب كان فى جاهلية العرب عملاً شريفاً, بل وبطولياً .. والزنا واللواط وغير ذلك من الجرائم الجنسية, التى حرمتها الأديان السماوية كافة وشرعت لها عقوبات تصل إلى القتل, أصبحت الآن فى أغلب الدول الغربية مباحة. واشترط القانون فقط البلوغ والرضا !

هذا الاختلاف البيّن فى مفهوم الجريمة ومعايير تقييمها يضع رجل الاعلام فى الدول الاسلامية فى مأزق كبير. فالدول الاسلامية تقع داخل خريطة العالم الثالث, والذى يعانى مايسمى بفقدان التوازن فى انسياب الأنباء عالمياً .. فتدفق المعلومات يتم من الشمال إلى الجنوب فى اتجاه واحد تقريباً وبكثافة عظيمة بحيث يصبح من الصعب على رجل الاعلام مغالبة هذا الطوفان فى مختلف الميادين, فينشر الكثير مما يأتيه على اسلاك البرق دون تمحيص أو رويّة ـــ والأخطر من هذا مايتعرض له الكثيرون من العاملين فى هذا المجال من فقدان للحساسية (DESENSITIZUNG ) إزاء الكثير من المفاهيم الغربية, بحيث لاينتبه اليها حين يراها. من ذلك القصص المرتبط بالسكر البيّن وارتباطها بخفة الدم وغير ذلك من المفاهيم المجتمعية المختلفة ..

ثالثا : ما هو هدفنا من النشر ؟

الاعلان عن الجريمة هو جزء من العقاب. سواء إتخذ ذلك فى العصور الماضية بشكل « التجريس » ( كان الجرم عند العرب يُركَب مقلوباً على بغلة, بينما يقرع جرس يجمع الناس ليسمعوا جرمه ) أو شكل طلائه بالقار وكسائه بالريش فى أوروبا العصر الوسيط, أو النشر بالصحف فى عالمنا المعاصر.

وبعض الأحكام تصدر والنشر ( على نفقة المجرم ) أحد بنودها. بل أن بعض المحاكم فى عدد من الولايات المتحدة الأمريكية بدأت فى الأعوام الأخيرة تجعل النشر بديلاً للسجن أو الغرامة فى بعض الجنح. فيقوم المجرم بنشر اعلان فى الصحيفة أو الصحف ذات الانتشار فى منطقته, يحمل صورته وندمه واعتذاره للمجتمع عن ارتكابه جريمة اختلاس أو تزوير أو غير ذلك من الجرائم.

ولكن الاسلام جعل الاعلام عن الجرائم بكل درجاتها جزءاً لايتجزأ من العقوبة. ففى الزنا : << الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة, ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين >> ( النور : 2 ) وقطع يد السارق ( فى عصر لم تكن فيه أطراف صناعية ) كان عقابا فيزيقيا وإعلامياً << والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم >> ( المائدة : 38 ).

وقد روى عن الرسول ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ أنه قال لعبادة بن الصامت لما بعثه على الصدقة يعظه : اتق الله يا أبا الوليد, لا تأت يوم القيامة ببعير تحمله على رقبتك, له رغاء, أو بقرة لها خوار, أو شاة لها نواح ». فقال عبادة : « يارسول الله ان ذلك كله كذلك ؟ فقال : « أى والذى نفسى بيده إلا من رحم الله » فقال : والذى بعثك بالحق لا أولى على اثنين أبداً >> وجاء فى السندى أن المراد بالعقوبة بذلك : فضيحة الغال على رؤوس الأشهاد فى ذلك الموقف العظيم, وأن الحكام ( المسلمين ) أخذوا من هذا الحديث مشروعية التجريس بالجناة, أى التسميع بهم, والمراد بذلك تشهيرهم ( عبد العزيز عامر : التعزيز فى الشريعة الاسلامية 455 ومابعدها ).

وكان القاضى شريح, وقد تولى القضاء فى عهد عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب, إذا ثبت على أحد أنه شهد زوراً, بعث به إلى ظاهل سوقه, ان كان سوقيا, وإلى قومه, ان كان غير سوقى, بعد العصر وقت اجتماع الناس مع من يقول : إنا وجدنا هذا شاهد زور فاحذروه, وحذروه الناس, وكان يكتفى بذلك فلا يضيف اليه عقوبة أخرى. وفى حين ذهب ابو حنيفة إلى الاكتفاء فى شهادة الزور بالتشهير فلا يضاف اليه عقوبة أخرى .. مستدلاً على رأيه بما فعل القاضى شريح, ال أبو يوسق ومحمد : ان شاهد الزور يعاقب بالتعزير وبالحبس على قدر مايرى القاضى حتى تظهر توبته. واستدل بحديث عمر حيث قال فى شاهد زور : << يضرب أربعين سوطاً ويسخم وجهه, ويطاف به ».

وقد أجاز الفقهاء التشهير بالمجرم ( الاعلام عن جرمه ) بتسويد الوجه وركوب الدابة منكساً تعزيزاً, وعلق عليها ابن تيمية بقوله : « ان الكاذب ـــ يقصد شاهد الزور ــ سُوَّد الوجه, فَسوَّد وجهه, وقلب الحديث, فَقُلبِ ركوبه ».

ومن ألوان التعزير التى أوردها ابن اليم ( اغاثة اللهفان ) عن عمر رضى الله عنه أنه : كان يحلق الرأس, وينفى, ويضرب, ويحرق حوانيت الخمارين, والقربة التى تباع فيها الخمر. وحرق قصر سعد بالكوفه, لما احتجب فيه عن الرعية » ولاشك أن الرأس هو لون من التشهير بالمجرمين.

فى كل ماتقدم يتبين لنا حرص الشرع الاسلامى على التشهير بالمجرم. ليس نكاية فيه, وانما من أجل الصالح العام, الذى هو الهدف النهائى من كل الزواجر والعقوبات والحدود. وكما قال ابن عاشور فى كتابه القيم  « مقاصد الشريعة الاسلامية » أن من أكبر مقاصد الشريعة من العقوبات من قصاص وحدود وتعزير هو حفظ نظام الأمة.  « وليس يحفظ نظامها إلا بسد ثلمات الهرج والفتن والاعتداء». « ولذلك فمقصد الشريعة من تشريع الحدود والقصاص والتعزيز ثلاثة أمور :

* تأديب الجانى

* وارضاء المجنى عليه

* وزجر المقتدى بالجناة

يشرح ابن عاشور الأمر الثالث بأنه : ( زجر المقتدى مأخوذ من قوله تعالى : « وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ). قال ابن علابى فى أحكام القرآن « ان الحد يردع المحدود ومن شهده وحضره يتعظ به ويزدجر لأجله ويشيع حديثه فيعتبر به من بعده ». وهو راجع إلى اصلاح مجموع الأمة, فإن التحقق من اقامة العقاب على الجناة على قواعد معلومة يقنط أهل الدعارة من الاقدام على ارضاء شياطين نفوسهم فى ارتكاب الجنايات. فكل مظهر أثر انزجاراً فهو عقوبة. فلذلك كان من حكمة الشريعة أن جعلت عقوبة الجانى لزجر غيره فلم تخرج عن العدل فى ذلك. فإذا كان من شأن الشريعة اقامة الحدود والقصاص والعقوبات حصل انزجار الناس عن الاقتداء ( ابن عاشور 205 ـــ 207 ). ويؤكد الامام الأكبر محمود شلتوت هذا المعنى بقوله :

« ان هدف الشريعة في مسلكها فى العقوبة انما هو اصلاح النفوس وتهذيبها والعمل على سعادة الجماعة البشرية .. وأنها لم تكن شديدة الحرص على الحكم بالعقوبة وتنفيذها, إلا بقدر مايتصل بها من صلاح ».

( محمود شلتوت ـــ الاسلام عقيدة وشريعة ـــ دار الشروق ـــ بيروت والقاهرة ـــ 1985 ص 302 ).

أى ان انفاذ الحدود الشرعية له أساساً وظيفة تربوية. والنشر يحقق الجانب التربوى من هذه الأهداف. ولذلك فإننا لانسمح فقط بنشر أخبار الجريمة فى الصحافة الاسلامية, بل اننا نجند ذلك, لأن فيه إنفاذ لأهداف الشريعة(1).

وتحديد هذا الهدف هو الفيصل بين رجل الاعلام المسلم وغيره فصحلفة المعسكر الشرقى ووسائل اعلامه عامة تتجاهل أخبار الجريمة إلى أبعد حد, فى محاولة للحفاظ على الصورة الوهمية لمجتمع اشتراكى « فاضل », حتى ولوضحّت من أجل ذلك بالوظيفة التربوية.

أما صحلفة الغرب الليبرالية فتترواح أهدافها بين مجرد الإِخبار ( أى سرد الوقائع التى تحدث فى حياه الناس, وتكون على درجة من الأهمية والغرابة … الخ ) وبين الاثارة ( وهى اقتناص مايثير نقاط الضعف فى النفس البشرية, والمبالغ فيها بهدف الربح المادى ) والتى كثيرا ماتستخدم الإِدانة الشكلية ستاراً للوصف المثير, والتفاصيل المهيّجة .. والقلة القليلة هى التى تنحى منحى مسئولاً وتوظف أخبار الجريمة بشكل تربوى. أما عند رجل الاعلام المسلم فنشر أخبار الجريمة يقوم بوظائف متعددة :

1) تربية المجتمع : وهو أسمى هدف للاعلام بالمشاركة فى خلق مجتمع فاضل, بالمتابعة المستمرة لنشر الأخبار التى تعطى المثل والعظة وتبين بشاعة الجريمة وأثرها المدمر فى المجتمع والتى تؤكد أن الجريمة لاتفيد, وأن المجرم مآله دائما الفشل والفضيحة والنبذ من المجتمع .. وهى بذلك تقوم بتغيير ( تصحيح ) المفاهيم الخاطئه وتثبيت وترسيخ القيم الفاضلة ـــ

2) التنبيه إلى الأخطار : وهى الوظيفة الأولى للاتصال فى رأى علمائه, والذين يرون أن الاتصال يخدم أساسا « المحافظة على الذات » بمراقبة البيئة لتوضيح الأخطار والفرص التى تؤثر فى قيم المجتمع ومكوناته ( لاسويل ) والجريمة واحدة من أهم الأخطار التى يتعرض لها الفرد فى المجتمع الانسانى.

3) التعريف بالقانون : من وظائف نشر أخبار الجريمة التعريف بالقانون. فالجمهور لايستطيع أن يتابع القوانين المستحدثة التى تنشربالجريدة الرسمية المحدودة الانتشار. بل ولا يعلم عن كثير من القوانين القديمة, رغم أنها قد تمس كثيراً من الشئون الحياتية اليومية, وهو ما يمكن تسميته « بالأمية القانونية ».

وفى هذا حماية للجمهور من الوقوع تحت طائلة العقاب, حيث أن الجهل بالقانونليس عذراً.

هذه الوظائف هى التى تحدد معايير اختيار الخبر وتحديد أهكيته ( المساحة والابراز ) كذلك مكوناته. هذا الاختيار الذى يجب أن يتم بعناية شديدة لأنه الركيزة الأولى فى عملية النشر الهادف.

ننتقل بعد ذلك إلى القواعد الواجب مراعاتها فى النشر.

1ـــ [ الجريمة لاتفيد ]

لعل أهم معيار فى اختيار أخبار الجريمة هو أن يكون مضمونها أن الجريمة لاتفيد. فهذا المفهوم هو الفارق بين أن يكون خبر الجريمة بناءً أو هدماً للمجتمع .. وليس المقصود بذلك عدم نشر أخبار الجريمة إلا بعد توقيع العقوبة تشهيرا بالفعل فكم من الجرائم لايعرف مرتكبوها. وحتى اتهام شخص ما بجريمة لا يعنى بالضرورة عقابه عليها فقد يكون بريئاً, وقد لاتكفى الأدلة لادانته .. إنما المقصود هنا هو خطورة نشر أخبار جرائم نجح مرتكبوها فى تجنب العقاب أو كان العقاب من الضآلة بحيث لايمثل رادعاً. فهذا يؤدى بطبيعته إلى كسر حاجز الخوف وإضعاف عناصر الردع فى النفوس. والأمثلة على ذلك من الواقع العملى كثيرة :

·مثلاً خبر عن امرأة فى الكويت ( وهى دولة تسود فيها التقاليد والقيم الاسلامية ) انطلقت ـــ كما كتبت احدى الصحف ـــ فى « الاتجاهات الأربعة فعاشرت خلال أيام عشرات الرجال » ثم يعفو عنها زوجها فتكتفى المحكمة بكفالة شخصية وتعهد بالمحافظة على حسن السلوك لمدة سنتين وأما الرجال ـــ والذين اعترفوا أمام سلطات التحقيق والمحكمة بما وقع ـــ « فنظراً لان المتهمة هى التى استدرجتهم (!) وعدم وجود سوابق لهم (!) » ( القبس 7 / 11 / 86 ص 5 ) وهكذا عاد الجميع بالسلامة وكأن شيئا لم يكن.

أغرب قضـايـا

شهدتـها المحكمـة الكليـّة

ومحكمـة الاستئناف

متهم يهرب كالزئبـق مـن ست قضــايا أخلاقيـــّة

تصل عقوبتها إلى السجــــن 60 عــــامـــًا !

فالصحيفة تقول ان ( م ) قد خطف واعتدى خلقيا على تسع فتيات تقل أعمارهن عن 18 سنة « وأفلت منها جميعاً كالزئبق ولم يترك أثراً وراءه واستطاع أن يحصل على البراءة فى الجنايات والاستئناف » !

·ومن قبيل ذلك أن تؤكد الصحيفة نسبة تهمة إلى شخص برأته المحكمة لتهافت الأدلة مثل مانشرته صحيفة القبس ( 15 / 11/  86 ) بعنوان :

الجنايات تحبسه 5 سنوات والاستئناف تبرئه :

خطف عائشة « 14 عاما » بعد أن هددها بسكين !

فالصحيفة تقول أن القضاء قد برأ مجرً خطف طفلة صغيرة بعد أن هددها بسكين .. وفى هذا اتهام ضمنى للقضاء بالتهاون والفساد. ويعتبر هذا جريمة فى القوانين الأوروبية , وتسمسه جريمة احتقار المحكمة (CONTEMPT OF COURT  ) بالاضافة إلى الدرس المستفاد من أن الانسان يستطيع أن يفعل مثل ذلك ثم تبرئه المحكمة. وبالرغم من أن الأسباب التى استندت اليها محكمة الاستئناف ـــ والتى أوردها الخبر تفصيلاً ـــ ناصعة ومقنعة, فإن محرر الصحيفة فضّل أن يركز على المحتوى المثير للخبر, بصرف النظر عن صحته وأثره.

مثل ذلك أيضاً ما نشرته تلك الصحيفة ( 22/  5/  87 ) بعنوان :

حاولا ادخال مســدس ورشــاش

وخمور والجنايات برآتهـمــا

فالعنوان يثبت جريمة رفضتها محكمة الدرجة الأولى ثم الاستئناف لاطمئنانهما إلى براءة المتهمين, اللذين لم تكن لهما صلة بالمضبوطات, كما شرح نص الخبر المنشور. ومع ذلك يختار المحرر هذا العنوان المثير بصرف النظر عن تأثيره المدمر فيمن يقرآون العنوان وحده, وهم كثر, وبصرف النظر عن البلبلة التى يحدثها التناقض بين مدلول العنوان ومضمون الخبر.

2 ـــ [ لا رومانسية فى الجريمة ]

أن لا يصور المجرم فى صورة بطل رومانسى, مما قد يدفع الآخرين إلى تقليده جرياً وراء الشهرة والصورة الاعلامية البراقة. وعندما نشرت الصحف فى مصر فى أوائل الخمسينات أخبار المجرم المسمى « بالخُط » : وكيف استطاع أن يتُعب مطارديه من رجال البوليس, وكتبت عن مهارته فى الاختفاء ودقته فى الرماية وغير ذلك, ظهر فى مصر ثلاثون خطاً. حدث مثل ذلك فيما بعد مع محمود سليمان المعروف بالسفاح (1) كما لايجوز أن تستعير الصحف أساطير « اللص الشريف » من الأدب الغربى, والذى مجد أمثل أرسين لوبين, وروبين هود, وغيرهما ممن كانوا يسرقون الاغنياء ليعطوا الفقراء’ فالغاية لايجوز أن تبرر الوسيلة, واللصوص الشرفاء والظرفاء ليس لهم مكان فى مجتمع اسلامى فاضل.

3 ـــ [ وصفات جاهزة ]

الحذر من تقديم وصفات جاهزة للاجرام … مثلاً : كيف قامت عصابة ما بثقب جدار مصرف مستخدمه آلات معينة .. الخ « من ذلك أيضا مانشرته صحيفة خليجية عن اثنين من البريطانين فى دولة الامارات قاما بسرقة أموال أمين صندوق بعد أن شلا مقاومته برش وجهه بغاز ( CS), الذى تستخدمه النساء فى أوروبا للدفاع عن النفس » فات الصحيفة الخليجية فقط أن تكتب عنوان المحل الذى تم بيع فيه أنابيب الغاز المذكورة …

خطورة مثل هذه الأخبار أيضاً : أنها قد تؤدى إلى انتشار مثل هذه الجرائم بالتقليد وهو مايسمى بظاهره (COPYCAT PHENOMENON  ) من ذلك مانشرته صحيفة الأخبار القاهرية ( 21 / 12 / 86 ) بعنوان :

الفرّان يعتــرف : كنت أكسب 10 آلاف جنيه يوميـا

بواسطة سـندويتشات البيض المخـــدرة !!

وشرح الخبر كيف كان اللص ينتقى ضحاياه ثم يقوم بتخديرهم باستخدام جبوب « الأتيفان » والتى كان يحصل عليها من الصيدليات بسهولة, خصوصاً فى الليل ! فالصحيفة لاتكتفى فقط بشرح اسلوب التخدير, بل وتعين نوع المخدر وأسهل طريقة للحصول عليه .. وما أسهلها من طريقة لكسب 10 آلاف جنيه يومياً كما يقول عنوان الخبر ! يكتب عن ذلك أيضا الاستاذ حلمى سلام فى مقاله الاسبوعى بمجلة آخر ساعة القاهرية ( 13 / 4/  88) :

« قد يكون صحيحاً أن فى نشر بعض الجرائم مايفيد فى تنبيه الآخرين وفى تحذيرهم من الوقوع فرائس سهلة فى أيدى المحتالين الدجالين والنصابين. ولكن قولوا لى بربكن إين هو التحذير أو التنبيه أو التوعية التى يمكن أن نستهدفها أو نبتغى الوصول اليها من وراء نشر خبر القبض على «شبكة دعارة» من بين أعضائها طالبة فى المرحلة الثانوية, قالت انها سافرت فى رحلة آثمة إلى بلد عربى لمدة يوم واحد فقط .. وأنها عادت من هناك وفى جيبها عشرون ألف ريال !

أليس هذا تحريضا سافراً وساحقا لأخريات كثيرات فى مثل سنها وفى مثل طيشها وفى مثل تطلعاتها القاتلة إلى آخر صيحات الموضة وإلى آخر صيحات المكياج وإلى آخر صحيات الحياة العصرية بمختلف صورها أشكاله, والتى يلح بها التلفزيون على مشاهديه إلحاحاً رهيباً لايقدر على مقاومته إلا من عصم ربى. وإنى لأظنهم قد أصبحوا أقل من القليل .. ».

4 ـــ [ الانتحار مدرسة ]

من الأخبار التى يمكن أن تدفع إلى التقليد, أخبار الانتحار. وإزهاق الانسان لروحه بنفسه مشكلة عامة فى العالم 1987 الجدل بشدة حول هذه القضية. احدى الحادثتين هى محاولة روبرت ماكفرلين, المساعد السابق للرئيس ريجان, وواحد من المسئولين عن القضية التى عرفت باسم ( ايران ـــ جيت ), الانتحار. وتركز الجدل حول أسلوب الانتحار باستخدام القاليوم.

أما القضية الثانية فحدثت فى أوائل ذلك العام, حين دعا المسئول المالى بحكومة ولاية بنسلفانيا الأمريكية إلى مؤتمر صحفى, أعلن فيه أنه برىء مما نسب اليه من تهم الاختلاس ثم وضع مسدساً فى فمه, وأطلق النار, بينما كاميرات التلفزيون والصحافة المطبوعة تسجل الحادث البشع.

وبينما أذاعت بعض محطات التلفزيون الأمريكية الفيلم بكامل تفاصيله رفضته شبكات NBC, ABC. وقد دافع المتحدث باسم احدى المحطات التى عرضت الفيلم بتفصيلاته « بأنه ليس هناك على الاطلاق خلاف بين هذه المشاهد ومشهد اطلاق النار على ريجان أو السادات .. وأن التلفزيـون يحيا بالصورة .. وقد رأى رئيس التحرير أننا نحتاج إلى عرض القصة بكاملها » .. (صحيفة هيرالد تريبيون الدولية 24, 25 / 1 / 87).

وأنا أعتقد أن هذا تبرير أعرج لأذاعة مادة تستهدف فى المقام الأول الاثارة .. فإذا كان العنف جزءاً من الحياة, فمما لاشك فيه أن الانتحار يعتبر انحرافاً داخل الانحراف .. وبصرف النظر عن الجزئية الخاصة بالذوق السليم ومايجوز نشره ( بالصوره أو الكلمة ) ولايجوز نشره من بشاعات, فإن ظاهرة الانتحار بالذات تضعنا أمام مشكلة اجتماعية أخرى. فمن المعروف أن التوسع فى نشر أخبار الانتحار قد يؤدى ببعض الأحداث وغيرهم من ذوى النفوس المهتزة إلى تقليد ذلك, فيما يعرف عند العلماء النفس بظاهرة فرتر ( Syndrome Werther Syndrome ) والتى تنسب إلى بطل رواية « أحزان الشاب فرتر » للشاعر الألمانى جوته, وقد حرمت دول أوربية كثيرة الرواية عند ظهورها, قبل قرنين من الزمان, عندما صحب نشرها حدوث موجة من الانتحار بين الشبان فى ذلك الوقت, والذين كان بعضهم يلبس عند انتحاره ملابس مشايهة لملابس فرتر, أو بترك الرواية مفتوحة على الصفحات التى تصف انتحار البطل !

ويقول علماء النفس أن ذلك راجع إلى أن الشباب شديد التقليد ويتأثر بشدة بالصراعات ( الموضة ) والتقاليع بشكل عام. وقد ثبت للباحثين فى وحدة بحوث الانتحار بمعهد علم النفس العلاجى, التابع لجامعة ولاية نيويورك, بعد دراسة امتدت عقدين كاملين, أن نسبة الانتحار ترتفع بشكل حاد, بعد كل حادث انتحار تتناوله وسائل الاتصال على نطاق واسع .. وتبلغ النسبة أعلاها بين الشباب فى العشرينات من عمرهم, بصرف النظر عن عمر المنتحر الأصلى .. وترتفع النسبة عادة فى أمريكا بنسبة 2 % بشكل عام و 7 % بين الشباب بشكل خاص. كما أن انتحار شخص مشهور يؤدى إلى حدوث تأثير أكبر « فمثلا بعد انتحار الممثلة مارلين مونرو عام 62, ارتفعت النسبة بمقدار 12 % ! ويقول رئيس وحدة بحوث الانتحار : « السماع بالانتحار يجعل هؤلاء المهيئين نفسيا لذلك يشعرون وكأنهم قد حصلوا على اذن بذلك ! ». ( صحيفة هيرالد تريبيون الدولية 19 / 3/  1987 ص 3).

وإذا كان الانتحار شيئا مضاداً للطبيعة البشرية, لأن حرص الانسان على حياته أمر فطرى, فإن هناك اختلافاً كبيراً بين النظرة إلى المنتحر فى المجتمع الاسلامى عن غيره من المجتمعات. فالاسلام يشدد النكال على قاتل نفسه. ويتضح هذا مثلاً من حديث الرسول ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ : « من قتل نفسه بحديده, فحديدته فى يده يتوجأ بها فى بطنه فى نار جهنم مخلداً فيها أبداً. ومن قتل نفسه بسم, فسمه فى يده, يتحساه فى نار جهنم, خالداً مخلداً فيها أبداً. ومن تردى من جبل فقتل نفسه, فهو مترد فى نار جهنم, خالداً مخلداً فيها أبداً » ( محمود شلتوت ـــ الاسلام عقيدة ) وشريعة ـــ دار الشروق ـــ بيروت 1985 ص 328 ).

وقاتل نفسه كافر لأنه آيس من رحمة الله. وعن أبى هريرة عن جندب البجلى عن النبى ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ قال : كان من قبلكم رجل به جرح فجزع, فأخذ سكيناً فحزَّ بها يده فمارقأ الدم حتى مات. فقال الله تعالى : « بادرنى عبدى بنفسه, حرمّت عليه الجنة » ) ( شلتوت ـــ المرجع السابق ص 329 ).

علة ذلك أن الاسلام نظر إلى الحياة الانسانية باعتبارها هبة من الله, ولكنها هبه مشروطة, مثله مثل المال وغير ذلك من النعم. فملكيتها ليست مطلقة, وانما الانسان مستخلف فيها, ينفقها فيما أحل الله, بما ينفع الفرد والجماعة. وكل اهدار لهذه النعم تفريط فى الأمانة يُسأل عنه الانسان ويحاسب عليه أشد الحساب .. ومن ذلك قول الرسول ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ : « لا يزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه, وعن عمله فيم فعل وعن ماله من لين كسب وفيم انفقه, وعن جسمه فيم أبلاه » رواه الترمذى ( سنن الترمزى, حمص 1967 ج 7 ص 136).

لذلك كان على الصحفى المسلم مسئولية التعامل بحذر شديد مع أخبار جرائم الانتحار :

ـــ فلا يجوز التوسع فى نشر أخبارها حتى تصبح لدى القارىء شيئاً عادياً .. وفى كثيرة ترداد قصص المنتحرين بسبب الفشل فى الامتحان, أو الأزمات العاطفية وغيرها من عوارض الحياة ماينزع عند الناشئة الخوف والرهبة من هذه الجريمة الشنعاء, ويجعلها المخرج المنطقى الذى يمكن أن يلجأ اليه اليائسون !

ـــ لايجوز نشر طرائف الانتحار : فخبر الرجل « سىء الحظ », الذى تفشل محاولاته الواحدة تلو الأخرى فى انتحار, ومن شأنه أن يدفع بالابتسامة إلى الشفاه, والتعاطف إلى القلوب ..

ـــ الحذر من التفاصيل فى شرح أدوات الانتحار وبيان مدى فاعليتها وهو ما يمكن أن يعتبر « مرشدك إلى الانتحار الناجح ». وهذا العمل تقوم به بالفعل بعض نوادى الانتحار غى أوروبا وأمريكا, والتى تبعث ـــ بناء على طلب وإلا وقعت تحت طائلة قانون العقوبات ـــ بكتيب يشرح أنجع وسائل الانتحار. والفارق هنا هو أن وسائل الاعلام تعمم هذه الاشادات على الجميع.

مثلاً الخبر الذى نشرته القبس الكويتية ( 12 / 3/ 87 ) بعنوان ( الفاليوم وحده لا يكفى .. للإِنتحار ! ) ويشرح الكمية التى تناولها روبرت ماكفرلين من الفاليوم بقصد الانتحار ويقول : « وتشكل ( يقصد لاتشكل ) الجرعة التى أخذها روبرت مكفرلين, والتى تتراوح بين 100 و 150 مليغرام ( ويشرح الخبر فى موضع آخر بأنها تعادل 20 إلى 30 قرصاً من الفاليوم من فئة خمسة مليجرامات ) خطراً على الحياة, ومع أنها تزيد كثيراً على الجرعة التى تشكل الحد الأقصى وهى أربعون مليجراماً .. غير أنها يمكن أن تكون قاتلة إذا اقترنت بشرب المسكرات أو بأحد العقاقير الأخرى » ..

وتستكمل الشرح « ويقول رودلف هونسايك طبيب النفس, ومدير عيادة الاضرابات الناشئة عن القلق فى مركز جامعة هوبتنزا البى بمدينة بالتيمور أنه يكاد يكون من المستجيل أن ينتحر المرء بالفاليوم وحده. (( ولكن إذا أخذ المرء ملء زجاجة من المهدئات كالفاليوم, وشرب نصف زجاجة من المسكرات, فإن هذا المزيج يكون قاتبلً )) !!!

ـــ الحذر من إضفاء طابع الرومانسية والمغامرة على فعل الانتحار وتبريره .. ولعل أفضل ( أو أسوأ ) مثال على ذلك مانشرته مجلة روز اليوسف القاهرية ( مايو 87 ) بمناسبة انتحار المغنية الفرنسية المصرية داليدا :

,, وينتج من هذا « العمق » تطلع دائم لدى الفنان لعالم آخر, لبشر آخرين, لقيم وقوانين أخرى للنفس والحياة والأشياء .. تطلع دائم يهفو للجديد. وبعض الفنانين يأخذهم هذا « العمق » إلى فعل الانتحار, بحثا عن هذا العالم الآخر. حتى لو كان الثمن حياته !, حتى لو كان هذا العالم فى طى المجهول ! الفنان لايعبأ الموت أو المجهول. لأن الفن هو ميلاد جديد فى كل لحظة, وهو مخاطرة أبدية للدخول إلى الأسرار .. الذى يؤرق الفنان وقد يقتله هو رتابة الأشياء وبقاء الحال كما هو. وقد يفضل التنازل عن حياته من أجل هذه المخاطرة السارية فى دمه .. ’’ وتختم الكتابة ( منى حلمى ) مقالها بالفقرة التالية :

·اشارة إنذار نحن نفهم انتحار «دليدا» على انه الموت حياة. والموت إبداع. نفهمه على انه صفعة قوية على وجه هذا العالم ذى الأحلام الخطا والقيم الخطا والعلاقات الخطا. نفهمه على انه نموذج رائع للزهد فيما يعتبره الأحياء قمة الدنيا ( الفلوس ــ الشهرة ــ الجمال ). نفهم انتحار «دليدا» على انه شجاعة التواضع. فى عالم الجبان يريد إطالة العمر رغم اختلالاته وتناقضاته الفجة. انتحار لم تنس صاحبته انهاءه بالمغفرة. حتى فى الانتحار يكون الفنان رقيقاً.

ما أبشعة من درس !

ليس عنى ذلك أننا ندعو إلى تجاهل أخبار الانتحار كلية .. انما ننبه إلى خطورة نشر هذه الأخبار دون تفكر وتمعن .. والقضية هى بالأساس اختيار عناصر الخبر التى تستحق النشر .. مثلاً ابراز جانب الندم والعزم على عدم تكرار هذه المحاولات الجنونية, وهو غالبا ما يحدث لمن حاول الانتحار .. كما يمكن ابراز جانب المفارقة ــ اذا وجدت ــ من حدوث أو عدم حدوث الشىء الذى دفع بالمنتحر إلى محاولته الناجحة أو الفاشلة, بعكس ماكان يتوقع أو يخشى.

5 ــ  [ الإِخلال بالأولويات ]

من المحاذير التى يجب تجنبها التركيز المبالغ فيه من وسائل الاتصال على نوعية معينة من الجرائم بما يشوش على معلومات الجمهور عن هذه الجريمة ومدى خطورتها الحقيقية, وبالتالى مدى استحقاقها للأولوية فى المكافحة الحكومية والشعبية .. والمبالغة فى التركيز لاتأتى عادة بشكل مقصود, وإنما تأتى عادة بشكل مقصود, وإنما تأتى بشكل تراكمى نتيجة الاهتمام المفاجىء لعدد كبير من الصحفيين فى وقت واحد بمشكلة ما, بحيث تخرج من اطارها الحقيقى, وذلك بسبب تقليد الصحفيين لبعضهم .. وهو ماعبر عنه عضو بمجلس الشيوخ الأمريكى بقوله : « ان الصحفيين مثل طيور تقف على سلك تليفون, يكفى أن يطير واحد منها ليتبعه الباقون, فإذا حط واحد منها تعود كلها إلى السلك ». ولعل أفضل مثل على ذلك الدراسة التى قامت بها مجلة تايم الأمريكية (1986) عن الاهتمام الذى حظيت به قضية انتشار مخدر ( Crack ), وهو أحد مشتقات الكوكايين, فى الصحافة الأمريكية لشهور عديدة, حتى أن رئيس تحرير مجلة نيوزويك كتب ( 16 يونيو 89 ) يقول : « انه وباء يحتاج أمريكا وهو من الانتشار والخطورة بما يماثل الطاعون فى القرون الوسطى », وذلك فى الوقت الذى أظهرت فيه دراسات DEA ( ادارة مكافحة انتشار المخدرات الفيدرالية الأمريكية ) ان انتشار المخدرات فى أمريكا ثابت فى معدله منذ خمس سنوات تقريباً, وأن أنواع المخدرات الجديدة مثل ( كراك ) غير معروف على الاطلاق فى مناطق واسعة بأمريكا .. كما أكد باحث بصحيفة US) ( WORLD NEWS REPORT أن أرقام ادمان الكحول تمثل خطراً أكبر بكثير من جميع أنواع المخدرات الأخرى فى أمريكا .. وكتب يقول : « ان المخدرات لاتمثل التهديد الأول لأمريكا مادام لدينا الفقر, والبطالة, والأمية وسوء التغذية والاتحاد السوفيتى » ..

يؤكد هذا أيضا مانشرته مجلة نيوزويك الأمريكية ( 30/ 5/ 88 ص 29 ) نقلاً عن مصادر حكومية أن عدد مدمنى الكحول فى أمريكا يقدر ب 18 مليوناً, وأن الوفيات الناتجة عن ادمان الكحول والتدخين فى أمريكا تصل 400 ألف شخص سنوياً, بينما باغ عدد الذين ماتوا عام 1085 بسبب إدمان جميع أنواع المخدرات المحظورة 3562 شخصاً.

هذا الاهتمام المبالغ فيه من شأنه أن يشوّه الصورة الحقيقية ويخل بتوازن المعلومات .. ومن شأنه أيضا أن يعطى المخالفين نوعاً من التبرير النفسى, حيث أن ما يمارسونه لم يع شيئاً شاذا, بل تفشى فى المجتمع كله. وما تمارسه جماعات كبيرة لا يمكن أن يكون خطأ كله, كما سيبررون لأنفسهم !

6 ـــ [ التدخل فى مجرى العدالة ]

من أخطر المحاذير التى يجب أن تتنزه عنها الصحافة عموماً, والصحافة الاسلامية خصوصاً, هو التدخل فى مسارالعدالة, ومحاولة التأثير في القضاء .. وينبغى لنا أولاً أن نحدد الحدود الفارقة بين النشر المرغوب بل والمندوب وبين العدوان على حقوق المجتمع والأفراد ..

أولا : لا يجوز للصحافة أن تتدخل فى القضايا الجنائية بالتحليل أو التعليق أو حتى بالعرض المتحيز للأخبار بما يتضمن استحسانا أو استهجانا للأدولة أو الوقائع المعروضة امام القضاء … ويعرف د. عصمت سيف الدولة ( الشعب القاهرية 22/ 3 / 88 ) التدخل بأنه (( الاشتراك سلياً أو إيجاباً مع النيابة التى تحقق أو المحكمة التى تحكم فى :

1 ـــ إثبات أو نفى الوقائع.

2ـــ إدانة أو تبرئة المتهم.

3 ـــ إنكار أو استحسان الحكم. )) وهى حين تفعل ذلك فإنها تخرج عن الشرعية الدستورية.

[ الدستور المصرى مثلاً ينص فى مادة 166 على أن « القضاة مستقلون لاسلطان عليهم فى قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأية سلطة التدخل فى القضايا أو شؤون العدالة ] كما تخالف الشرع حين تدين متهما مخالفة بذلك قاعدة ( البراءة الأصلية ), وهى من القواعد التى اهتمت بها الشريعة, وأقامت عليها كثيراً من الأحكام, ولم تسمح بنفيها أو تقييدها بغير الأدلة اليقينة. فهى قاعدة متينة لاتزول بشك. ولذلك فقد ارتبطت بقاعدة « البراءة الأصلة » قاعدة « اليقين لايزول بالشك » ( د. طه جابر العلوانى ـــ حقوق المتهم فى السلام ـــ المسلم المعاصر عدد 35 ص 51 ـــ 52 ).

وكل الدساتير تنص على أن المتهم برىء حتى تثبت ادانته فى محاكمة قانونية وليست فى محاكمة صحفية أو تلفزيونية. وكل ادانه مسبقة لمتهم اعتداء على الحرية الشخصية وحرمة الحياة الخاصة وغيرها من الحقوق, وجريمة لاتسقط الدعوى الجنائية والمدنية عنها بالتقادم. كما أنها تقع شرعاً فى باب القذف والادعاء بغير بينة ..

وهناك فارق واضح بين العرض الخبرى المحايد الموضوعى وبين «التصديق» لأقوال أحد الأطراف أو التعاطف معه بأية صورة من الصور. ولايعتد فى ذلك بأن يكون هذا الطرف هو النيابة العامة مثلاٍ ..

فالنيابة هى جهاز اتهام فقط, وكم أفرج القضاء العادل عن المئات بل عن آلاف من  المتهمين طالبت النيابة بإعدامهم أو بإيداعهم السجون مدى الحياة, بتهم سياسية أو عادية. وأنا هنا أنقل عن « فكرة » للاستاذ مصطفى أمين ( الأخبار 1/ 5 / 88 ) تعليقه على حكم أصدرته محكمة جنايات القاهرة ببراءة زوجة قتلت زوجها, رغم أن النيابة طلبت الحكم عليها بالاعدام :

( الغريب أن تقول النيابة فى المحكمة أن الزوجة دست لزوجها عقار الكوتيان المخدر ثم تجىء المحكمة تقول أن هذه الواقعة لا أساس لها ولم يرد بشأنها أى دليل, مع أن النيابة استندت إلى هذه الواقعة فى طلب الاعدام. وقالت الأم أن الصحافة حكمت عليها بالإِعدام قبل أن يصدر الحكم, والصحافة مظلومة فى هذا الاتهام, فقد تلقت هذه المعلومات الكاذبة من سلطات التحقيق. وهو درس للصحافة بألا تتسرع بنشر أقوال المحققين قبل أن تتثبت منها ) ونحن نتفق مع الاستاذ مصطفى أمين فى أجزاء من تعليقة ونختلف معه فى أجزاء أخرى .. فالصحافة ليست مظلومة بأيه حال من الأحوال. إذ أن جريمتها ليست تلقى معلومات ( ثبت بعد ذلك كذبها ) ونشرها, بصرف النظر عن مصدر هذه المعلومات, سواء كان الدفاع أو الاتهام .. كما أن خطأها لا يمكن فى عدم التثبت من هذه المعلومات, فهذا ليس دورها فى قضايا معروضة أمام القضاء. جريمة الصحافة هى فى « تصديق » هذه المعلومات والأقوال وروايتها باعتبارها حقائق ثابتة .. وكل ما على الصحافة لكى تنأى بنفسها عن مسار الخاطىء هو نسبة الأقوال إلى صاحبها بحيدة كاملة ودون انحياز, وعدم اصدار الأحكام المسبقة.

7 ـــ [ الاعتراف ليس سيد الأدلة ]

ولا يجوز الاحتجاج فى تصديق جهات التحقيق ( النيابة والشرطة ) بأن الجانى قد اعترف بجرمه اتباعاً للقول الشائع أن الاعتراف هو سيد الأدلة, فالواقع أنه ليس كذلك دائما .. «فالاعتراف الذى يعوّل عليه القانون وتأخذ به المحاكم هو اعتراف المتهم أمام المحكمة. إذ لا يجوز للمحكمة قانوناً أن تقيم حكمها على أدلة لم تطرح أمامها أثناء المحاكمة وفى حضور الدفاع. وهى ملزمة قانوناً بأن تحقق القضية بنفسها ولا تتكل على تحقيق النيابة. لهذا فإن ما تنسبه النيابة فى أوراق التحقيق أو قرار الاتهام إلى المتهمين وتسميه ( إعترافاً ) ليس ( اعترافاً ) أصلاً. انه فى حكم القانون «إقرار» منسوب إلى المتهم وليس حجة عليه, إلى أن تحققه المحكمة فيصرّ عليه. وحتى لو أصرّ عليه أمام المحكمة فإن لمحكمة النقض فى مصر أحكاماً متواترة توصى فيها محاكم الجنايات بأن تتلقى الاعتراف أمامها بحذر شديد, إذهى عير ملزمة بالاعتداد به فى حكمها وذلك ـــ كما تقول محكمة النقض ـــ لأن الأعتراف بجريمة لا يتفق مع الطبيعة البشرية, فقد تكون لدى المتهم أسباب دفعته إلى الاعتراف على نفسه وهو برىء» ( د. عصمت سيف الدولة الشعب ـــ 22/ 3/ 88).

ولا يختلف موقف الشريعة فى مسألة «الاقرار» عن القانون الوضعى. فقد حرَّمت الشريعة استخدام الإِكراه ( المادى أو المعنوى ) للحصول على إقرار فى هذه الحالة باطلاً. ويمكن الرجوع فى الأدلة الشرعية فى ذلك إلى ماكتبه الدكتور طه جابر فياض العلوانى ( حقوق المتهم فى الاسلام ـــ المسلم المعاصر : 35 ص 58 ـــ 61) وما يستخلصه من أنه :  « مما تقدن يتضح أن أهل العلم لم يعتبروا ممارسة أى ضغط على المتهم من قبيل السياسة الشرعية, بحيث يترك أمرها لولى الأمر, إن شاء فعل, وإن شاء ترك, بل ان ذلك مما حرمه الله تعالى على لسان نبيه ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه». وحتى فى حالة الاقرار بدون اكراه فإن جمهور الفقهاء يجيزون رجوع المقر فى الحدود.« ويصبح الرجوع قبل الحكم وبعده, وقبل التنفيذ وبعده ».

ومع كل ذلك فإن الصحف تطالعنا كل يوم بإدانات لمتهمين, سواء أقروا أو لم يقروا, معتمدة فى ذلك على سلطات التحقيق, باعتبارها سلطات رسمية, وهى بذلك تحطم سيادة القانون, كما أنها بنشر واشاعة هذه الاتهامات على أنها حقيقية تحاكم المتهم وتعاقبه وتلحق به أضراراً لا يمكن تداركها. فماذا ينفع المتهم بعد ذلك أن تقضى المحكمة ببراءته, بعد أن تكون إدانته قد وقرت بنفس المجتمع بناءً على ما تنشره الصحف. ولا يمكن الاحتجاج فى ذلك بأن نشر خبر البراءة سيزيل أثر ذلك, لأن بعض من قرأ خبر الادانة قد لا يقرأ خبر البراءة. وحتى بالنسبة للقسم الذى قرأ خبر البراءة, فأن الادانة ستترك على الأغلب أثراً باقياً فى النفوس. هذا بفرض أن الصحيفة ستعطى خبر البراءة بنفس الإِبراز والمساحة التى خصصتها لنشر الادانة, مع أن كل السوابق تشير إلى عكس ذلك, فالادانة دائما عنوان رئيسى والبراءة عنوان فرعى. إذا نشرت !

والأمثلة على هذه المخالفات الصحفية أكثر من أت تعد أو تحصى .. ونحن هنا سنجتزىء بنشر بعض النماذج فقط لتبيان الاساليب المختلفة المتبعة فى هذا المجال ..

·فمثلاً ما نشرته صحيفة الأخبار القاهرية ( 16 / 12/ 86) فى صفحتها الأولى ( وعلى ثلاثة أعمدة ) خبراً بعنوان :

حبس عميد طب أسنان جامعة طنطا السابق

اســــــتولى على ربع مليـــون جنيه لالتزوير !

الغربية ــ عبد العزيز هلالى :

أما الخبر فيقول أن نيابة الأموال العامة بطنطا قد قررت حبس عميد كليه طب اسنان طنطا السابق 15 يوما, «على ذمة التحقيق» .. ونحن نسأل الصحيفة فيم التحقيق إذن, وقد اثبتت هى الولقعة وأصدرت فيها حكما نهائياً ؟ !! ولم تقتصر الادانة على العنوان فقط بل امتدت الى صلب الخبر ( ص 10 ) فتقول الصحيفة  «وكانت الرقابة الادارية قد كشفت منذ عام عن قيام العميد السابق بإنشاء شركة توريد واستيراد لمعدات طب الاسنان .. الخ ».

وقد وقع الضرر على المتهم رغم عدم نشر اسمه, إذ أنه صفته واضحة لا تقبل الشك. وقانون النشر المصرى ينص على أنه لحصول الضرر يكفى أن يعترف عدد من الناس على شخصية المقصود بالخبر, حتى ولو لم يذكر اسمه.

·مثال آخر ما نشرته نفس الصحيفة ( بتاريخ 19/ 8 / 86) بعنوان :

أفلس 9 تجار فى بورسعيد

فعادوا لسرقة مخازن البضائع !

فالصحيفة تأخذ تحريات « النقيبين » قضية مسلماً بها, وتصيغ الخبر وكأن الحادثة واقعة صحيحة مؤكدة, مع أن النيابة مازالت تجرى تحقيقها, الذى قد يؤكد أو لا يؤيد تحريات النقيبين.

والأسوأ من هذا أن الخبر يحكم على المتهمين بأثر رجعى, فيقول أنهم عادوا للسرقة  «أى أنهم كانوا لصوصاً فى السابق وتوقفوا عن السرقة ثم عادوا إليها .. واذا لم يكن هؤلاء المتهمين من أرباب السوابق ( أى سبق الحكم عليهم فى جرائم مماثلة ), وهو مالم يتضح من الخبر, فإن الخبر يدينهم بوقائع ليست حتى مجال تحقيق من النيابة !

وكان يكفى فى العنوان وضع علامة استفهام (؟) بدلاً من علامة التعجب (!), مع نسبة الاتهام إلى مصدره وتوضيح أنه إتهام.

وأكثر النماذج انتشاراً فى هذا المجال القضايا السياسية بالذات, والتى تتسابق كثير من الصحف إلى ادانة المتهمين فيها قبل أن يمثلوا أمام المحكمة. من ذلك الخبر الذى نشر بصحيفة الأخبار (5/ 12/ 86) بعنوان :

محاكمة 33 من بينهم 4 ضباط بالقوات المسلحة

حاولوا إسقاط الحكم بإستعمال القوة والعنف

والعنوان بهذا الشكل قد حكم على المتهمين وأدانهم «حاولوا» اسقلط الحكم ووفر على المحكمة جهد المحاكمة ..  ولما كان الخبر يتضمن أسماء المتهمين, فإنه يعرض الصحيفة للمساءلة القانونية بتهمة التشهير فى حالة ما إذا برأت المحكمة أيا منهم .. وقد حكم القضاء المصرى فى السنوات الماضية بالفعل لصالح عدد من الأشخاص نشرت عنهم الصحف أخباراً مماثلة وبرأهم القضاء ـــ ولا يحتج فى مثل هذه الحالة بأن جسم الخبر قد صيغ بشكل سليم وأنه نقل صيغة الاتهام عن النيابة بشكل موضوعى, فإن العنوان وحده كاف لايقاع الضرر. إذ أن كثيرا من القراء يتأثرون بالعنوان فتختلط عليهم الأشياء, حتى ولو قرأوا نص الخبر.

وكان يكفى أن تضيف الصحيفة الى السطر الثان من العنوان كله «بتهمة» محاولة, لكى تضع الأمور فى نصابها ..

والواقع أن اسلوب النشر بهذه الطريقة اسلوب النشر بهذه الطريقة اسلوب غير موضوعى يستهدف بجهل خدمة النظام السياسى, بينما هو فى الحقيقة يضره ويفقده مصداقيته, ويلقى بظلال الشك على عدالته. وليس أدل على هذا الاتجاه غير الموضوعى فى الصحف من الخبر الذى نشر أسفل الخبر السابق مباشرة بعنوان :

سماع أقوال الضباط

المتهمين بالتعذيب

تقوم النيابة العامة بســماع أقوال ضباط الشرطة المتهمين بالتعذيب والذين يتم محاكمتهم يوم 23 ديسمبر .. وسوف يتم احالة أقوالهم الذين أدلوا بها الى المحكمة التى تنظر القضية.

فهنا تتذكر الصحيفة فجأة أن المتهم برىء حتى تثبت ادانته بحكم من المحكمة, فلم تكتب مثلاً : « سماع أقوال الضباط الذين عذبوا المتهمين فى قضية الجهاد» مما يؤكد أن القضية ليست قضية اثارة فى هذه الحالة, وانما هى محاولة ساذجة للدعاية السياسية, تكشف أن هذه الصحف تكيل بكيلين, وأن المتهم عندها برىء حتى تثبت ادانته, إذا كان من رجال السلطة فقط .. أما إذا كان من اعدائها, أو حتى من عامة الناس, فهوا مدان عند الصحافة بتحريات وتحقيقات يعلم الله وحده مدى صدقها !

8 ـــ [ والمجنى عليهم أيضا ! ]

ولا تقتصر الأضرار التى تنشأ عن نشر أخبار مصدرها التحريات البوليسية وتحقيقات النيابة على المتهمين فقط, بل تتعداها إلى المجنى عليهم أيضاً ! من أمثلة ذلك مانشرته صحيفة الجمهورية القاهرة (1/ 4/ 86) بعنوان :

غموض في جريمة الجثة المحترقة :

احتمال قائم : الجثة للمهندس صاحب السيارة يقيم بالمنوفية ..

ويتاجر بالعملة .. وله علاقات نسائية

فمرة أخرى تستند الصحيفة إلى تحريات لتؤكد أنه من تجار العملة, وله علاقات نسائية عديدة ..  «واستمع رجال المباحث حتى الآن لأكثر من 50 سيدة وفتاة».

والسؤال الآن ماذا يفعل المهندس ـــ وقد نشرت الصحيفة اسمه بالكامل ـــ وماذا تفعل الصحيفة, لو تبين أن الجثة المحترقة لشخص آحر, ربما يكون قد سرق السيارة أو استعارها من صاحبها, الذى كان مسافراً مثلاً فى سفر بعيد ! فالصحيفة قد نسبت إلى المهندس أموراً من شأنها أن تحط من قدره وتشوه صورته لدى معارفه أو أقربائه بترويج أقوال وشائعات ( حتى ولو كان مصدرها البوليس نفسه ) من شأنها الإِضرار به. ولا يقتصر الضرر على المهندس المختفى, بل يمتد إلى أهله وورثته, والذين يستطيعون ـــ حتى فى حالة موته ـــ أن يقاضوا الصحيفة بتهمة التشهير.

9 ــــــ [ الاثارة الجنسية وإشاعة الفاحشة ]

الجنس هو واحد من الدوافع الأساسية فى السلوك الانسانى. وهو بالتالى من أسباب الجريمة, سواء أكانت هذه الجريمة دافعها الجنس أم كانت بمخالفة القوانين والأعراف التر تحكم العلاقة الجنسية بين أفراد المجتمع. وقد كانت أول جريمة فى التاريخ دافعها الجنس, حين قتل قابيل هابيل. ولا يمكن اسقاط هذا الدافع من أخبار الجريمة. لكن هناك محاذير كثيرة فى ايراد جرائم الجنس وصياغتها, بما يحقق الفائدة ويدفع الضرر. والمقصود بالضرر هنا بالأساس الضرر النفسى الذى يمكن أن يحدثه نشر الخبر, ولو عند قاة من القراء, بما يدعونا إلى استبعاد هذه النوعية من الأخبار, عملاً بالقاعدة الشرعية, أن دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة .. هذه الأخبار الضارة التى تندرج تحت باب اشاعة الفاحشة بين المسلمين يحرمها أيضاً القانون الوضعى .. فالمادة 178 / 3 من قانون العقوبات المصرى مثلاً تصف جريمة الأغراء على الفجور بأنها من الجرائم التى تهدد الآداب العامة والنظام العام فى البلاد ومن الممكن أن تقع بأى طريق من طرق العلانية المنصوص عليها فى المادة 171 عقوبات, ومنها بطبيعة الحال النشر فى الصحف والمجالات ( شريف كامل القاضى ـــ الجرائم الصحفية جـ 2 ـــ دار الاشعاع للطباعة ـــ القاهرة 1986).

وتعرّف المادة المراد بالإِغواء بأنه « إغواء الشخص فى شىء ما وترغيبه فيه.

ويتحقق الأغراء فى هذه الجريمة فى صورة الاغراء العام الموجه إلى جمهور القراء, وليس بالاغراء الفردى الخاص. ويتم هذا الأغراء بنشر أية أمور أو وقائع أو مشاعر من شأنها تزيين الفسق والفساد لدى شخص أو أكثر من جمهور القراء, ذكراً كان أم أنثى .. ولايشترط أن ينشأ عن هذا الاغراء ثمة نتيجة مادية. ولكن اعتبر المشرع أن مجرد نشر الاغراء على الفجور بعد إعتداءاً فعليا وحاليا على الآداب العامة فى البلاد. وعلى ذلك فإن هذه الجريمة تعتبر ـــ كما هو الحال فى الغالبية من جرائم الصحافة المضرة بالمصالح العامة ـــ من جرائم الخطر.

هذا الضرر النفسى قد يقع نتيجة نشر أخبار أو تفاصيل أخبار من طبيعتها إثارة نزعات مكبوته, أو تبرير انحرافات معينه أو حتى مجرد التعويد عليها. والأمثلة على ذلك كثيرة :

1 ) ما نشرته أخبار اليوم القاهرية فى 7/ 2 / 87 بعنوان :

الجريمة .. فى العالم

علاقة محرمة بين شاب انجليزى وأمه !

اغرب قضية تعرضت لها المحاكم البريطانية فى الاسبوع الماضى قضية شاب قام علاقة غير مشروعة مع امه 26 سنة, وقضت المحكمة بحبس الام 6 شهور وبمراقبة الشاب عامين.

اغرب قضية تعرضت لها المحاكم البريطانية فى الاسبوع الماضى قضية شاب قام علاقة غير مشروعة مع امه 26 سنة, وقضت المحكمة بحبس الام 6 شهور وبمراقبة الشاب عامين.

ويحكى الخبر قصة طفل انفصل عن أمه منذ ولادته لطلاقها وقلة مواردها وكيف تعرف عليها بعد 19 عاماً .. « ولم يصدق دال عندما التقى بأمه لأول مرة أن هذه الحسناء الجميلة 36 سنه هى أمه .. وأختلطت مشاعر الأمومة والبنوة والاعجاب بينهما .. حتى وقع المحظور ونشأت علاقة حب محرمة بين الابن وأمه ! ».

والغريب أن الابن الشاذ قال بعد صدور الحكم ( 6 شهور حبس للام ومراقبة سنتين للابن ) سأنتظرها حتى تخرج من السجن وسيزداد حبى لها .. وردت الأم الآثمة : « لا تقلق سأخرج من السجن بسرعة لأنى سأكون حسنه السير والسلوك ! ».

وهكذا برغم الادانة الشكلية ( الابن الشاذ والأم الآثمة ) فإن الخبر فى مضمونه يبرر هذه العلاقة التى نشأت لظروف خارجة عن ارادة الطرفين ( حال الأم .. انفصالها المبكر عن ابنها … الخ ) والصحيفة لا تكتفى بنص الخبر, بل وتورد صورة الأم, حتى يعذر الناس الابن فى عشقها ؟!!

وهكذا تنساق الصحيفة وراء الاثارة التى يفجرها الخبر’ بصرف النظر عن الإِيذاء الذى يمثله لمشاعر المسلمين الأسوياء, وما يمثله من خطر على بعض ضعاف النفوس والمنحرفين, الذين قد يحرك فيهم نشر مثل هذا الخبر مشاعر وأحاسيس مدمرة.

ولسنا نرى أية فائدة ترتجى من نشر مثل هذا الخبر .. ولو كان الخبر قد ركز على عوامل التفكك فى الاسرة فى عالم الغرب المادى, والذى أدى إلى الانحلال ( الذى يسمونه بالحرية الجنسية ), بحيث لم يعد هناك شىء لا يمكن تصور وقوعه, مثل علاقة بين أم وابنها, لكان فى ذلك شيئا من الفائدة ..

2 ) ما تنشره الصحف من قصص الاغتصاب بأسلوب درامى مثير, يسرد تفاصيل تمزيق ثياب الضحية, وغير ذلك من الأوصاف المثيرة لضعاف النفوس معروف ومتكرر .. ولو كانت هذه الصحف حريصة على مصالح قرائها لأبرزت فى أخبارها العناصر التربوية .. وهذا ما فعلته العديد من الصحف البريطانية حين أبرزت أحكام بعض القضاة الذين أكدوا على أن سلوك الفتاة قد يكون من بين الأسباب التى تثير أو تسهل للمجرم جريمته .. ( أبرزت الصحف حالة الفتاة التى خرجت وحيدة فى وقت متأخر من الليل مخترقة حديقة عامة .. وحالة فتاة كانت تمشى مشية متبرجة فى شارع مهجور ) ومن الأمثلة البناءة على ذلك أيضا ما نشرته بعض الصحف المصرية منذ سنوات لتوضيح الأخطار التى تهدد الفتيات اللائى يستوقفن سيارة ويركبن مع أغرب ويتعرضن نتيجة ذلك للأخطار.

10 ـــ [ جرائم فكهة ؟ ]

من الممارسات الخطيرة, التى ترد فى بعض الصحف العربية أحياناً نشر أخبار الجريمة فى اطار موضوعات عامة وبشكل لا يرتبط بالادانة مما يفقد القارىء حساسيته ازاء هذه الجرائم. وكذلك نشر أخبار هذه الجرائم فى اطار من الطرافة, بل والفكاهة ؟

·من ذلك مثلاً ما نشرته صحيفة القبس الكويتية فى 19 / 9/  86 فى اطار مقابلة صحفية بعنوان :

حوار في جلسة قات

في (( المقيـل )) مـع

سيخ مشـايـخ حاشـد

والقات مخدر لا يختلف عليه اثنان. والتأكيد فى العنوان على ذكره هو من قبل اشاعة الفاحشة, وليس له أى مبرر موضوعى. فليس للقات دور فى قضية الوحدة اليمنية ـــ التى هى صلب الحوار ـــ وذكر تناول القات ليس مهما لوصف جو المجلس. وكان يكفى ذكر «المقيل» لبيان جلسة الاسترخاء. أما التأكيد فى المقدمة على أن شيخ القبيلة وضيوفه كانوا يتناولون القات كعادتهم : « وقد كان كل واحد قد أحضر معه حزمة القات » فلا تخدم غرضاً موضوعياً, وإنما ينشر بغرض الاثارة ..

وأخطر ما فى الأمر أنه يرتبط القات بالصفات الواردة فى المقدمة : «استقبلنا الشيخ بالحفاوة والتكريم, حفاوة البدوى المعتز بانتمائه لحضارة عريقة » .. ولا ندرى ما هى العلاقة بين القات وهذه الحضارة العريقة, إلا أن يكون سبباً فى اندثارها .. !

·من ذلك أيضا مانشرته صحيفة الأخبار القاهرية (19/ 9 / 86) تحت عنوان :

شاهدوا فيلم (( الكيف )) وسافروا إلى

السنبلاوين …… بلد الألف غرزة

من أن أربعة من شباب امبابة شاهدوا فيلم « الكيف » وقرروا ممارسة التجربة فدلهم البعض إلى أن السنبلاوين ( بلد الألف عرزة !) حيث يمارس الناس تدخين الحشيش حتى الصباح ! .. « وكان اسم السنبلاوين قد ورد فى الفيلم ثلاث مرات » .. !

والقصة فكهة وظريفة .. واذا كان الشبان قد تعلموا من السينما أن يمارسوا التجربة, فإن هذا الخبر الصحفى لاشك سيدفع البعض أيضاً إلى « بلد الألف عرزة », والتى يستطيع أى أنسان بدون سابق معرفة أن يذهب اليها ويعثر بكل سهولة على غرزة يطلب من أصحابها « إعداد 100 حجر معسل مرصعة بالحشيش» ..!! ومن الواضح أن الخبر مفبرك إلى حد كبير لزيادة الطرافة .. فالألف عرزة والمائة حجر ليست صدفة .. كما أن استعارة مدينة الألف عرزة من القاهرة مدينة الألف مئذنة واضحة ..!!

·من ذلك أيضا إيراد أخبار المحرمات مثل الحشيش والخمر فى اطار فكاهى أو رياضى, مثل الأخبار التى أوردتها بعض الصحف العربية عن مسابفة أطوال سيجارة من الحشيش, ومسابقة شرب أكبر عدد من صناديق البيرة, والتى جرت فى دولة من الدول الأوربية ..

11 ـــ [ استيراد المفاهيم ]

من الأخطار التى تهدد الصحيفة الإِسلامية تسرب مفاهيم غربية ضمن الفيضان المستمر للأنباء, والذى تنقله وكالات ( أو شركات ) الأنباء التجارية والرسمية, والتى تحتوى على مفاهيم قد تتناقض مع مفاهيمنا وقيمنا ومعتقداتنا .. وبسبب عدم اليقظة أحياناً, أو عدم توفر الوقت أو الطاقة, أو الخبرة الصحفية اللازمة للتعامل الحذر مع هذه المصادر فإن الصحيفة الاسلامية قد تجد نفسها وقد تنبت مواقف أو مفاهيم لم تخطر لها على بال :

من ذلك مانشرته صحيفة العرب القطرية ( 3/ 6 / 85) بعنوان :

الحكم بإعدام ثانى زعيم

حركة إسلامية فى أندونيسيا

منقولاً عن «أ ف ب », التى نقله بدورها عن الوكالة الاندونيسية الرسمية « انتارا» من الحكم بالاعدام على مسلم « إثر اتهامه بالتخريب ومحاولة اقامة دولة اسلامية فى اندونسيا » ( لاحظ ربط التخريب بإقامة دولة اسلامية )!.

ويمضى الخبر ليوضح اتهام ذلك الشخص بأنه « زعيم منظمة تسمى قيادة الجهاد فى جاوة مارست أنشطة تستهدف الاطاحة بالحكومة واحلال المبادىء الاسلامية محل ايديولوجية الدولة بانتاتشيلا » .. وتختتم الصحيفة الخبر بقولها : « ومما يذكر أنه قد صدر حكم باعدام زعيم حركــة اسلاميـــة متطرفة أخرى, ونفذ فيه الحكم فى ابريل 1983» وبهذا الشكل تنبت الصحيفة وجهة النظر الاندونيسية الرسمية, بأن من يسعى إلى احلال المبادىء الاسلامية محل ايديولوجية الدولة بانتاتشيلا يعتبر مسلماً متطرفاً .. ولا ظاتصور أن يكون هذا هو موقف الصحيفة, أو أية صحيفة إسلامية أخرى !

ـــ من ذلك أيضا ما نشرته صحيفة الراية القطرية فى 20 / 11 / 85 بعنوان : [ ايطاليا تتهم أبو العباس بالاشتراك فى جريمة قتل ] نقلاً ( مرة أخرى ) عن ( أ ف ب ), من أن السلطات الايطالية اتخذت اجراءات قضائية ضد « أبو العباس » وآخرين بتهمة الاشتراك فى اختطاف الباخرة الايطالية أكيلى لاورو وقتل الراكب الأمريكى العاجز ليون كالنجوفر».

فلم يكن اختيار هذه المعلومة صدفة من لوكالة. فهى أولا معلومة قديمة, ولا تضيف شيئاً جديداً .. ولكن لها هنا وظيفة تقويمية, هى الادانة والاستبشاع. ولا أظن الصحيفة تتخذ هذا الموقف, خصوصا وأن أحدا لم يتوصل إلى الظروف التى مات ( أو أختفى ) فيها الراكب, والدافع إلى ذلك, بما يجعل من هذه الادانة هنا عملاً سياسياً بالدرجة الأولى وقعت فيه الصحيفة بسبب الغفلة !

ـــ تأكيد وحشية العربى باعتبار ذلك متفقا مع النمط الجامد, الذى تكون عند الغربيين, مثل الخبر الذى أوردته ( أف ب) ( أيضاً ) من الولايات المتحدة, ونقلته عنها صحيفة العرب القطرية ( 12 / 3 / 85) عن مغربى دخل مطعما تعمل به زوجته طالبا منها العوده اليه والكف عن طلب الطلاق. ولما رفضت أخراج سكينا وقطع رقبتها .. حدث ذلك كما يقول الخبر « أمام 150 شخصاً من زبائن المطعم أصابهم الهلع الشديد وحاولوا التدخل لمنعه إلا أنهم لم يستطيعوا الاقتراب منه لأنه هددهم بالسكين » وكأن رواية هذه الواقعة البشعة لم تكف الوكالة فختمت الخبر بالفقرة التالية : « وقد تدخل أحد رجال البوليس وأمكنه السيطرة على الموقف, فسأله الزوج مبتسما : هل ماتت ؟ »

ـــ ومن الأمثلة البشعة على ذلك مانشرته صحيفة الخليج الإِمارية ( 20/ 4/ 88) من زيمبابزى نقلاً عن مصدر لم تذكره :

فرصة .. لا تتكرر!!

الفتاة التي قاومت افــراد العصابة الاربعة عندما قاموا باحتطافها نـدمت كثيراً لانها قاومتهم !!

فبعد ان تمكنت العصابة من الفتاة, وقام اربعتهم باغتصابها فانها وعلـى الفور .. احبت واحدا منهم, وتزوجته خلال يومين.

فهل أوردت الصحيفة الخبر دعوة لبناتنا إلى عدم مقاومة المغتصبين فقد تحب أحدهم وتتزوجه, «وهى فرصة لا تتكر» !

قارن بهذا ماكتبه «سيد الجبرتى» فى تحقيق نشرته صحيفة الأخبار القاهرية (20/ 4/ 88) عن امرأة بائسة شريدة فضلت الموت على الاستسلام :

استغاثة من مدينة ميته

وبقيت بعض علامات الاستفهام خارج ملف التحقيقات الرسمية. لماذا لم تستسلم الضحية وهى محاصرة باكثر من سكين .. وقد تعودت الاستسلام طويلة لكل الوان القهر والعذاب ؟

لماذا اطلقت صرخة استغاثة متشبثة من جديد بالحياة ؟

هل حبا فى الحياة ام بقية كبرياء ظلت كامنة فى الاعماق لم تسحقه بعد الاقدام الحديدية؟

هل طلبا للشهادة او المغفرة قبل شهقة الموت ؟

هل تمنت بنتا تحضنها او اما او ابا تغسل بدموعها قدميه ؟

احتمالات كثيرة ولكن الاكيد. انها اشتعلت كرسالة من نار .. تكشف بوهجها موت المدينة والرجال (( العجــين )) والاذان (( الطـين )) والعيون الـزجـاجيـة والقلوب الحجرية.

احترقت كنذير للحريق القادم من بعيد .. لحلقات الرعب والاغتصاب بالمدينة وحتى لا يموت اخر انسان حرقاً فى صندوق قمامة.

مبرزاً بطولة المرأة الضعيفة أمام الوحوش البشرية, ومدينا جبن وتخاذل من سمعوا صحيحة استغاثتها ولم ينجدوها !

12 ـــ [ التدهور القيمى ]

ولا يقتصر خطر تسلل المفاهيم الدخيلة إلى صحافتنا على قضايا مباشرة وانما يتعداه إلى نظرة المجتمع إلى الاجرام والمجرمين بشكل عام. إذ أن التدهور القيمى فى الغرب لم يقتصر على مفهوم الجريمة فى العلاقات الشخصية ( الجنس وغيره ) وانما تعداه إلى مفهوم الجريمة ضد المجتمع ( السرقة ـــ الاختلاس ـــ .. الخ). وطبقا لتقرير أصدرته مؤسسة جمعية الثقافة الشعبية الأمريكية, والتى يدرسون أكثر الكتب انتشاراً, وأفلام السينما وبرامج التليفزيون والأعمدة الاجتماعية بالصحف لدراسة التغيرات فى المفاهيم المجتمعية ( صحيفة هيرالد تريبيون 7/ 4/ 87) فإن الفروق بين الشهرة وسوء السمعة بدأت تندثر. ويعزو الباحثون هذا التدهور فى المعايير الأخلاقية إلى مايسمونـه بثغــرة المشاهد (CELEBRITY GAP ) فطاحونــة التليفزيون قد استهلكت نجوم السينما والمشاهير العاديين, ولهذا كان عليها أن تخترع أنواعاً جديدة من المشاهير تعيش عليها. « لم يمر عصر على الأمريكيين كانوا فيه متلهفين على لقاء المشاهير من الأغنياء أو اللصوص ( سيىء السمعة ) مثل هذه الأيام, كما يقول البروفسير راى براون, رئيس قسم الثقافة الشعبية فى جامعة بولينج جرين بولاية أوهايو الأمريكية. «هؤلاء أصبحوا قوة يعمل حسابها فى التلفزيون والنجالات والكتب, وكل وسائل الاتصال. ويدخل ضمن هؤلاء المشاهير الجدد, اللصوص الذين تلاعبوا بأسهم الشركات وتهربوا من الضرائب ( مثل ايفان بوسكى ) وكبار المتاجرين فى الجنس ومنظمى شبكات الدعارة».

ويعلق على ذلك نيل بوستمان, استاذ الاتصال بجامعة نيويورك بقوله : « فى عصر خبت فيه الاهتمامات السياسية, فإن هؤلاء الناس يقومون بنشاط يستهدف مصالحهم الذاتية. وهم بهذا يمثلون طبقة جديدة من الدوافع التجارية الحرة enterpreneurial impulse, والتى يقول عنها ريجان أنها هى التى صنعت عظمة هذا البلد ( يقص أمريكا بالطبع ). ويقول مارشال فيشنويك, استاذ الانسانيات بمعهد فرجينيا الهندسى فى بلاكسبورج, أنه : « باعادة تعريف الجريمة ومعنى الجرائم فقد سمحنا لأناس بدخول بيوتنت, كنا فى الماضى نرفضهم تماماً .. بل اننا فى الواقع نكاد نحسدهم! » ( المصدر السابق ).

13 ـــ [ التفاهة ]

تنشر بعض الصحف قصصاً طويلة دون أن يكون لها مضمون له قيمة : ـــ

·مثلاً نشرت جريدة القبس 15/ 11/ 86 قصة على عمودين بارتفاع 15 سم عن عامل نظافة أسيوى ببناية قبَّل طفلة صغيرة عمرها 9 سنوات على خدها, لأن له بنتا فى نفس سنها لم يرها منذ سنوات.

وبرأته المحمة لأنه ثبت لديها أنه لم يزعج الطفلة بأية صورة من الصور, وأن نصرفه كان بعيداً عن الشبهات. واذا كانت المحكمة قد نظرت القضية بناء على طلب الأب الكندى (؟!), الذى قال للمحكمة « أن المتهم قد يكون فعل ذلك من قبل العطف الأبوى», فما هو مبرر الصحيفة لتخصيص كل هذه المساحة فى نشر قضية لا أصل لها ولافصل ؟! الواضح أن سبب ذلك هو مجرد الرغبة فى شغل مساحة الصفحة المخصصة لأخبار الجريمة, مهما كانت تفاهة الأخبار الواردة بها.

·من قبل ذلك أيضا مانشرته صحيفة أخبار اليوم فى 31 / 1/ 87 بعنوان :

مجهول يهدد الفنانين :

سوف أقتلك يوم الثلاثاء !

ومضمون الخبر أن عدداً كبيراً من الفنانين تلقوا رسائل تهديد بالقتل من مجهول. ولما لم يكن هناك مايجمع بين هؤلاء الفنانين, كما أن المسألة لم تتعدد الخطابات المجهولة المصدر, فلم يكن هناك مبرر لتخصيص ثلثى صفحة الجريدة لهذا الخبر التافه, وارفاق النص برسم ضخم لوجوه هؤلاء الفنانين ومعهم مسدس !

والواضح أن المسألة مجرد استغلال لاهتمام الجمهور بكل ما يتعلق « بنجوم » الفن, فى حياتهم الخاصة والعامة, واذكائها بقصه مبالغ فيها إلى حد الافتعال, ولاتؤدى وظيفة من الوظائف على الاطلاق.

·نموذج آخر على الأخبار التافهة, التى تحتل مساحة من الصحف بلا مبرر منطقى, مانشرته صحيفة القبس الكويتية فى 12/ 2/ 86 ـــ على عمودين ـــ عن « سعد » الذى دخل المدينة الترفيهية بعد موعد اغلاقها ورفض الانصياع لطلب مسئول الأمن بالخروج, مما أدى إلى « تدافعهما » وإحالة سعد إلى التحقيق ؟!

14 ـــ [ العنصريـة ]

درجت بعض الصحف الخليجية على عدم نشر جنسية المجرم, إلا اذا كان من غير مواطنى البلد. فيقال فعل أ.ن ( أسيوى ) كذا وكذا .. فعل س . م ( وافد ) كذا وكذا .. أما حين تعلق الأمر بمواطن فيصمت المحرر. ولا ندرى هل تريد هذه الصحف أن تقول أن الجرائم يرتكبها فقط الوافدون ؟ ونحن نرى أن هذا تقليد سىء وعنصرى لا يليق ببلاد اسلامية, وأنه إما أن تنشر جنسية على الاطلاق.

·من أوجه العنصرية المقتية أيضا ما نشرته صحيفة الوفد القاهرية (19/ 3/ 87) عن ( ثرى عربى يطارد مضيفة فى فندق ليحاول اغتصابها) والقصة تقول أن ثريا عربيا سكيرا طارد مضيفة ليحاول إغتصابها أمام الناس ! ورغم عدم معقولية القصة, فحتى لو كانت صحيحة فليست هناك علاقة موضوعية بين جنسية السكير وجريمته. ونشر الخبر بهذه الصورة من شأنه أن يثير المواطنين المصريين على ضيوفهم من السياح العرب, وجلهم من العائلات الكريمة المحترمة, مما يعتبر اذكاء للروح العنصرية وأفساداً للعلاقات العربية الشقيقة.

·من أمثلة ذلك أيضاً ما نشرته صحيفة الأخبار القاهرية يوم 21/ 11/ 86 بعنوان :

الثـــرى الســـورى .. المجنــى عـــليه يوكــل

محاميا للشغالة الحسناء التأى سرقته.

والعنوان يعطى إيحاءات كاذبة بتضمين كلمة « الحسناء », مع أن مضمون الخبر لايقول بذلك. وإضافة جنسية الثرى هى من قبيل اذكاء الروح العنصرية الممقوته, إذ لاعلاقة لجنسية الثرى بجوهر الواقعة ..

15 ـــ [ العنصريـة ]

أصبحت الصورة مكوناً هاماً وأساسياً من مكونات الصحافة العامة فضلاً عن الصحف المصورة, والتى تجعل الصورة محور المطبوع.

وللصور فوائد كثيرة, فهى وسيلة اتصالية جيدة تتمتع بمصداقية عالية. ( فى تصور الكثيرين أن الصورة لاتكذب لأن ما تراه العين صادق وحقيقى بالضرورة. وليس هذا مجال مناقشة هدا التصور, والذى لم يعد صحيحاً فى ظل التقدم التكنولوجى, والذى يسمح بتثبيت لحظة ما فى جزء على ألف من الثانية, وكذلك باستخدام عدسات ذات أبعاد بؤرية مختلفة تعطى مناظير مختلفة, فضلا عن فن التركيب « المونتاج » ).

كما أن الصورة يمكن أن تقدم تعبيراً موجزاً, والمثل الصينى يقول بأن الصورة الواحدة يمكنها أن تقول مالاتقوله ألف كلمة ..

بالاضافة إلى اثراء الصحيفة تيبوغرافيا بتعدد الأشكال وكسر رتابة أعمدة الحروف المتصلة وإمكان استخدام الألوان, كما أنها تمثل مساحة لراحة العين المجهدة من القراءة.

ولكن ماذا عن استخدام الصورة فى أخبار الجريمة ؟

هناك أسئلة هامة يجب أن يسألها المحرر لنفسه :

ـــ ماهى القيمة الخبرية ( المعلومات ) للصورة المتاحة ؟

وهل توازن الفائدة المرجوة من نشرها ؟

بطبيعة الحال هناك جوانب تكون الفائدة واضحة وجلية :

·1 ـــ مثلاً عند نشر صورة شخص مطلوب معرفة معلومات عنه وذلك لمصلحة تحقيق جار, سواء أكان هذا الشخص مطلوباً لشهادة أو لاتهام أو يكون مفقوداً لايعرف له مكان تواجد. والنشر هنا يحقق خدمة مجتمعية بمعاونة أجهزة الأمن والعدالة شريطة أن يتم ذلك فى الاطار المحايد المتحفظ, الذى لايصل إلى مرحلة التشهير واساءة السمعة. فحتى ((الفاُّر)) من وجه العدالة قد يكون بريئاً تماماً, ويكون لاختفائه أسباب وجيهة لاتعرف إلا بعد اتضاح الحقيقة ووقوع الضرر. ولذلك يراعى فى النشر إيضاح أن ذلك الشخص مطلوب لسؤاله فى الواقعة الفلانية. والصحافة البريطانية تستخدم تعبيراً مهذباً ـــ ياحبذا لو قلدناه ـــ يقول أن فلاناً مطلوب لمعاونة التحقيق :

·2 ـــ أن يكون النشر جزءاً من العقوبة مثل المحكوم عليهم فى قضايا النصب والتزوير وغير ذلك. بل قد يكتفى بالنشر عقاباً مثلما أوضحنا فى مقدمتنا.

وهناك أيضا حالات واضحة فى المنع :

1 ـــ صور المجنى عليهم فى قضايا أخلاقية. فالنشر هنا فضيحة لامبرر لها .. وهى عقاب يضاف إلى الأذى الذى لحق بالضحية .. مثلاً حرصت جريدة الجمهورية القاهرية ( 21 و 23/ 3/ 87) على نشر صورة واسم فتاة وقعت فى أحابيل ذئب بشرى, وماتت أثناء عملية جراحية أجريت لها, مع كل خبر نشرته بهذا الخصوص فى أيام متعاقبة.

فى جريمة عروس الشرابيــة :

معـــاينة جــــديدة للنيــــابة ســـرعة ضــبط الطبيب البيطرى

كتب ـــ محمد منازع :

واوصلت نيابة الحوادث بشمال القاهرة أمس التحقيق فى حادث العثور على جثة إلهام عبد الفتاح عروس الشرابية القتيلة أثر فشل عملية جراحية لها.

واصلت نيابة الحواديث بشمال القاهرة أمس التحقيق فى حادث العثور على جثة إلهام عبد الفتاح عروس الشرابية القتيلة أثر فشل عملية جراحية لها.

ونحن لانرى مبرراً ولافائدة ترتجى من نشر الصورة والاسم. كما أن مثل هذا النشر مخالف للذوق السليم وللاحترام الواجب للموتى ..

2 ـــ الصورة الجماعية التى يظهر فيها أحد المجرمين مع آخرين تصادف وجودهم فى المكان ولاعلاقة لهم بالواقعة ..

3 ـــ صور القتلى والجرحى, اذا كانت منافية للذوق العام. مثال ذلك المنتحر المريكى وهو يضع المسدس فى فمه, ثم يطلق النار فتتشوه خلقته .. مثل هذه الصور كفيلة باحداث هزات نفسية عنيفة لدى الكثيرين .. أيضا الجثث المحترقة أو الاطراف البشرية المبتورة.

الاستثناء الوحيد من ذلك هو أن تكون الجريمة سياسة, مثل جرائم اسرائيل ضد الفلسطينين من قتل وتعذيب مثلما حدث فى صابرا وشاتيلا , فيكون لنشر الصور ـــ رغم تأثيرها السلبى نفسياً ـــ فائدة سياسية ودعائية لإِذكاء الشعور ضد العنصرية الصهيونية.

خاتمـــة

هذه فى تصورنا جملة من القواعد التى يجب أن تحكم نشر أخبار الجرائم فى مجتمع اسلامى, والتى تعين المحرر المسلم على اتخاذ القرار.

هذا القرار الذى يستهدف دائماً أن يكون الخبر بناءً يسهم فى الحفاظ على بنية هذا المجتمع سليمة ويساعد فى تقدمه وازدهاره. ولكن بالرغم من أهمية القرار ـــ وهو البوابة الرئيسية التى تسمح بصدور الخبر إلى الصحيفة ـــ فإنه تظل هناك أبواب الرئيسية التى تسمح بصدور الخبر إلى الصحيفة ـــ فإنه تظل هناك أبواب أخرى وحراس أبواب آخرين (Gate Keepers) لهم أهمية كبيرة .. من هذه الأبواب « الصياغة » وتبدأ بجامع الخبر ( المخبر) الصغيروتنتهى بمجمع تحرير الاخبار ( الــدسك ), وكــــذلك « الاخراج » الذى تُسأل عنه سكرتارية التحرير ..

ونرجىء الكلام عن هذه الأبواب إلى بحث آخر, حين نتكلك عنها جملة بعد استيفاء بقية القضايا الخلافية ..

الهوامش

1) مادامت هذه الحكومات تعلن أن الشريعة هى المصدر الوحيد أو الاساس للقانون. أما الحكومات العلمانية فلا تدخل ضمن هذا التعريف.

1) يطلب أحد الباحثين ( د. محمد فريد محمد عزت ـــ بحوث فى الاعلام الاسلامى ـــ دار الشروق ـــ جدة 1983 ص 107 ـــ 112) من الصحافة الامتناع عن نشر أسماء مرتكبى الجرائم اقتداء بالآيات الكريمة فى قصة بنى آدم, وفاته إدراك الفارق بين البعد « التاريخى » للقصص القرآنى التربوى وبين الحدود والزواجر التى شرعها الله تبارك وتعالى لعلاج الأدواء «المعاصرة» للأمة.

1) استعار نجيب محفوظ شخصية السفاح بطلاً لقصة  « اللص والكلاب ».

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر