أبحاث

التقسيم الثلاثي للجرائم في الفقه الشرعي: رؤية مقاصدية

العدد 130

(1) مصطلح الجريمة في الفقه الشرعي:

مصطلح الجريمة غير متداول على لسان فقهاء الشريعة. ومنهم من يستخدم لفظ الجناية ويقصد به عموم الجريمة، سواء كان معاقبًا عليها حدًا أو قصاصًا أو تعزيرًا؛ فقد جاء في تبيين الحقائق للزيلعي أن

الجنايات في اللغة اسم لما يجنيه المرء من شر اكتسبه، وأنه عام إلا أنه خص بما يحرم من الفعل، وأن الجناية في الشرع اسم لفعل محرم، سواء أكان في مال أم في نفس(1). ويعرف ابن قدامة الجناية تعريفًا يقترب كثيرًا من مفهوم الجريمة في القانون الوضعي، إذ يقول: “الجنايات كل فعل عدوان على نفس أو مال”. ويشير إلى أن عرف الفقهاء خصصها بما يحصل فيه التعدي على الأبدان، أما الجنايات على الأموال فلم يجعل لها الفقهاء اسمًا جامعًا يشمل أفرادها، بل اشتقوا لكل منها اسمًا من فعلها، كالغصب والنهب والسرقة والخيانة والإتلاف.

والملاحظ أن كتب الفقه الشرعي بوجه عام لا تستخدم لفظًا واحدًا يشمل كل الأفعال التي تستوجب العقوبة شرعًا، بل تجري على تناول هذه الأفعال في كتب أو في أبواب ثلاثة: أولها خاص بالحدود، والثاني بالجنايات – ويراد بها العدوان على النفوس والأبدان – والثالث خاص بالتعزير.

وكون فقهاء الشريعة لم يستخدموا لفظ الجريمة ليس من شأنه منع استخدامه للدلالة على جنس الأفعال المعاقب عليها شرعًا، لأنه لا مشاحة في الاصطلاح كما يقول الفقهاء. وقد درج الباحثون الإسلاميون المعاصرون على استخدام لفظ الجريمة، ولا نرى بأسًا من استخدامه لصحته لغة واصطلاحًا من جهة، ولاستقراره في لغة التشريع والفقه الوضعيين من جهة أخرى.

(2) تعريف الجريمة في فقه القانون الوضعي:

لم يتفق فقهاء القانون الوضعي على تعريف واحد للجريمة. وأكثر التعريفات ذيوعًا لديهم أن الجريمة فعل أو ترك يحظره القانون ويرصد لمرتكبه جزاء جنائيًا. وقد انتقد هذا التعريف بأنه غير دقيق، لأنه يعتد بالأثر القانوني للفعل أو الترك – وهو الجزاء – ويغفل خصائصه التي دعت إلى العقاب عليه. وأخذ عليه من أجل ذلك أن فيه قلبًا للمنطق؛ فليس الجزاء هو الذي يجعل الفعل أو الترك جريمة، وإنما الجزاء أثر لكون الفعل أو الترك جريمة. أما لماذا اعتبر جريمة فهذا هو ما عيب على التعريف المنتقد إغفاله. ورغم هذا النقد فما زال هذا التعريف أفضل من غيره. ولعل أكبر مزاياه أنه يعبر عن حقيقة الواقع؛ فالجريمة رغم كل ما يقال هي في الأساس تقدير تشريعي، بمعنى أن المشرع هو وحده الذي يضفي على الفعل أو الترك وصف الجريمة. والتقدير أمر نسبي يختلف باختلاف الزمان والمكان. ويؤكد بعض علماء الإجرام أنه ليس هناك فعل واحد لازمه وصف التجريم بلا انقطاع في كل المجتمعات وعلى مدى الأزمان، وهم لا يستثنون من ذلك فعلاً، حتى القتل والسرقة. والمعنى أن تقدير المشرع – وليس طبيعة الفعل – هو العامل الحاسم في مقام التجريم. ولا يخلو هذا القول من قدر كبير من الصحة؛ ذلك أنه، وإن كان صحيحًا أن المشرع الوضعي حين يمارس سلطة التجريم فإنه لا يفعل ذلك تحكمًا لإشباع شهوة أو إرضاء نزوة، وإنما هو يفعل ذلك من أجل مصلحة المجتمع نفسه ولعلة في ذات الفعل اقتضت تجريمه، إلا أن التقدير التشريعي يظل مع ذلك حقيقة لا تجحد وواقعًا لا سبيل إلى إنكاره، لأن المشرع هو الذي يقدر وجه المصلحة ومدى إخلال الفعل بها، ومدى جدارته بالتجريم والعقاب، وكذلك نوع ومدى هذا العقاب.

وقد جرت محاولات عدة لتعريف الجريمة تعريفًا يهوّن من دور التقدير التشريعي ويسلط الضوء على السلوك ذاته ليكشف عما فيه من خصائص تجعله قمينا بالتجريم والعقاب. غير أن هذه المحاولات لم يحالفها التوفيق؛ فقد جاءت التعاريف كلها إما غير جامعة أو غير مانعة، وظل التعريف التقليدي – رغم عيبه – أقل التعاريف استهدافًا للنقد.

وليس بين فقهاء القانون الوضعي من يجحد دور المشرع في مجال التجريم، وإنما الخلاف بينهم في مدى أهمية هذا الدور، وهل يحتل مكان الصدارة أو لا يحتلها. والسائد لديهم أن المشرع وحده هو الذي يملك سلطة التجريم والعقاب؛ فله أن يجرم المباح وأن يبيح المجَرم، وهو إذا جرَم فله أن يختار العقوبة المناسبة، وله كذلك أن يعدلها من حيث نوعها ومداها. ولا قيد عليه في ذلك سوى التزامه بمصالح مجتمعه لحظة التشريع، وكذلك بمفاهيم عصره وقيمه التي تعبر عنها الوثائق الدستورية والمواثيق الدولية. وحتى الوثائق والمفاهيم والمصالح لا تتسم بالثبات المطلق، بل هي عرضة للتغير والتحول. وبوجه عام فإن سلطة المشرع الوضعي لا تقف عند حد، حتى لقد قيل في انجلترا إن البرلمان يستطيع أن يقرر ما يشاء إلا أن يحيل الذكر أنثى والأنثى ذكرًا(2).

(3) تعريف الجريمة في الفقه الشرعي:

اعتد فقهاء الشريعة – كدأب فقهاء القانون الوضعي – بعنصر العقوبة، فجعلوا هذا العنصر ضابطًا للجريمة. فالجرائم في اصطلاحهم محظورات شرعية يعاقب عليها حدًا أو قصاصًا أو تعزيرًا، ويعرفون الجرائم التعزيرية بأنها المعاصي التي لا حدّ فيها ولا كفارة. وهذا يدل على أن العقوبة هي السمة المميزة أو الأمارة الدالة على أن الفعل جريمة. ويصح من أجل هذا أن يستدرك على التعريف الشرعي للجريمة بما استدرك به على تعريف أهل القانون لها. وربما رد الشرعيون على هذا الاستدراك بأن جوهر الجريمة هو حظر الشارع لها ابتداء لكونها معصية، أما العناية بنوع العقوبة فلتحديد نوع الجريمة فقط لا لبيان طبيعتها، وربما أضافوا أن الجريمة هي في الأصل محظور شرعي، ثم صارت جريمة بالعقوبة. غير أن هذا يردنا إلى نقطة البدء، وهي لماذا كان العقاب على محظورات شرعية بعينها دون غيرها رغم كثرة المحظورات وليست كلها محل عقاب؟

وعلى الرغم من أن التقدير الشرعي يعني الحكم على فعل المكلف، وهو مما استأثر به الله، إلا أن النظر في علة الحكم غير ممتنع، بل هو مشروع ومطلوب أيضًا. وجمهور الفقهاء على أن الأحكام التكليفية كلها لم تشرع إلا لمصلحة الناس في العاجلة والآجلة. وربما خفيت علينا علل الأحكام التعبدية(3)، أما أحكام المعاملات والجنايات فمعللة، ولا حظر على إعمال العقل فيها لاستنباط عللها واستثمارها وإجراء القياس عليها حين تدعو إلى القياس ضرورة أو حاجة. ومن ثم فلا حرج في الشرع على من يتجاوز التعريف الشكلي للجريمة إلى تعريف لها يعتد بطبيعة الفعل الذي استدعى العقاب.

وقد عنى فقهاء الشريعة عناية خاصة بالربط بين أحكامها ومقاصدها. وتنحصر هذه المقاصد إجمالاً في درء المفاسد وجلب المصالح؛ فلا يخلو حكم شرعي من درء مفسدة أو جلب مصلحة. ولا نزعم أن الشريعة الإسلامية تنفرد بذلك؛ فالشرائع كلها – سماوية وغير سماوية – تلتقي في هذا المعنى، لأنها جميعًا ما وضعت إلا لخير الإنسان. ولهذا يصح القول بأن ما بين الشرائع من التوافق هو أكثر مما بينها من التباين. وهذا ما يصرح به كثير من الفقهاء. يقول العز بن عبد السلام: “إن معظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل، وذلك في معظم الشرائع، إذ لا يخفى على كل عاقل قبل ورود الشرع أن تقديم المصالح المحضة ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وغيره محمود حسن، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، واتفق العقلاء وكذلك الشرائع على تحريم الدماء والأبضاع والأموال والأعراض، وعلى تحصيل الأفضل فالأفضل من الأقوال والأعمال”(4). وإنما تختلف الشرائع فيما بينها في صفة من يتجه إلى الناس بالطلب، وفي درجة هذا الطلب، كما تختلف في تقدير بعض المصالح والمفاسد، وفي تحديد أمثل الطرق لدرء ما هو مفسدة وجلب ما هو مصلحة.

وفي ضوء ما تقدم يمكن تعريف الجريمة في الفقه الإسلامي بأنها كل فعل أو ترك يخل بمقصد من مقاصد الشريعة إخلالاً يقتضي العقاب عليه شرعًا. وهذا التعريف يكشف عن طبيعة الفعل الذي تقوم به الجريمة من وجه، وعن عنصر التقدير في تجريمه والعقاب عليه من وجه آخر. ولا يختلف هذا التعريف في الجملة عن التعريف القانوني للجريمة، لأن جوهر الجريمة واحد في كل الشرائع، وإنما ينحصر الخلاف بينهما في أمور فرعية. وقد عنى فقهاء الشريعة ببيان مقاصدها، فعلم من ذلك ما يخل بهذه المقاصد من الأفعال. ولا يقتضي المقام هنا أن نعرض لتلك المقاصد، وإنما تنصرف عنايتنا إلى العنصر الثاني من عناصر التعريف، وهو التقدير الشرعي، لأنه يثير من المسائل والمشاكل ما لا يثيره التقدير القانوني. وسوف نعرض لهذا العنصر بشيء من التفصيل في موضعه المناسب من هذه الدراسة.

تقسيم الجرائم في الفقه الوضعي وفي النظر الشرعي:

(4) يقسم فقهاء القانون الجرائم أقسامًا تتعدد بتعدد الضابط المختار. ويضم كل قسم مجموعة من الجرائم تشترك في بعض العناصر وتخضع تبعًا لذلك لأحكام قانونية خاصة. ويقسم فقهاء القانون الجرائم من حيث شكل السلوك المحظور إلى جرائم إيجابية وجرائم سلبية، ومن حيث مداه الزمني إلى وقتية ومستمرة، ومن حيث مكوناته أو عناصره إلى بسيطة ومتعددة الأفعال ومركبة، ومن حيث مدى لزوم تكراره إلى جرائم عادية وجرائم اعتياد. كما يقسمون الجرائم من حيث ركنها المعنوي إلى عمدية وخطئية، ومن حيث طبيعة الجريمة أو غايتها إلى جرائم عادية وسياسية، ومن حيث الحق الذي يصيبه العدوان مباشرة إلى جرائم مضرة بالمصلحة العامة وأخرى مضرة بمصالح الأفراد. ويقسم الفقهاء الجرائم من حيث جسامتها إلى جنايات وجنح ومخالفات.

وليس هناك ما يحول دون تقسيم الجرائم أو المحظورات الشرعية على النحو المتقدم بوجه عام، لأن هذه التقسيمات تصح في النظر الشرعي في الجملة. وقد نحا بعض المعاصرين هذا المنحى بالفعل، ومن هؤلاء الأستاذ عبد القادر عودة في مؤلفه “التشريع الجنائي الإسلامي مقارنًا بالقانون الوضعي”، والشيخ محمد أبو زهرة في مؤلفه “الجريمة”.

(5) وتقسيم الجرائم في فقه القانون الوضعي إلى جرائم ماسة بالمصلحة العامة وأخرى ماسة بمصالح الأفراد يقابله في الاصطلاح الشرعي تقسيمها إلى جرائم واقعة على حق الله وأخرى واقعة على حق العبد. ولا فرق بين التقسيمين من حيث الأساس والمضمون؛ فحق الله في اصطلاح الفقه الشرعي يتفق بوجه عام مع حق المجتمع أو المصلحة العامة في الفقه الوضعي. وإنما أضاف فقهاء الشريعة الحق إلى الله تعالى – وهو الغني، بل هو مالك الملك ومانح كل الحقوق وبارئ محالها – للدلالة على عدم اختصاص شخص بعينه بالحق من جهة، وإعلاء لشأن الحق وحملاً للناس على احترامه من جهة أخرى، وتنبيهًا إلى إثابة من يصونه ويرعاه من جهة ثالثة. ولا يعني هذا أن حق الله يقتصر على هذه الدائرة ولا يعدوها إلى ما ينسب إلى الأفراد باعتباره حقًا لهم. ذلك أن لله حقًا في كل حق(5)، فلا تخلو جريمة من عدوان على حق لله. كل ما هنالك أن الحق قد يكون لله – أو للمجتمع – على وجه الخلوص، وقد يكون مشتركًا بين الله – أو المجتمع – والعبد على تفاوت في درجة المشاركة. ويرى الشرعيون أن حق الله في بعض الحقوق يكون غالبًا، وفي بعض الحقوق يكون حق العبد هو الغالب. ويلاحظ أن مشاركة العبد لله في بعض الحقوق وغلبة حظه في بعضها ليس تعبيرًا عن حقيقة واقع، لأن الله منـزه عن ذلك. وإنما المصطلح مجرد وسيلة فنية توسل بها الفقه الشرعي لتعليل أحكام قائمة وترتيب أحكام أخرى على هدي العلة المستنبطة. ومن القواعد التي استنبطها الفقهاء أن حق الله مبني على المسامحة، وأنه يسقط بما لا يسقط به حق العبد. فالرجوع عن الإقرار بالزنا جائز ولا يقام الحد به، أما الرجوع عن الإقرار بالدين فلا يسقط حق الدائن.

(6) أما تقسيم الجرائم في القانون الوضعي إلى جنايات وجنح ومخالفات فلا نظير له في الشريعة الإسلامية. والضابط في التقسيم الوضعي هو جسامة العقوبة التي يقررها القانون للجريمة. وتأخذ أغلب التشريعات المعاصرة بهذا التقسيم، وهناك تشريعات تكتفي بالتقسيم الثنائي فتجعل الجرائم من حيث جسامتها نوعين اثنين. وينتمي التشريع الجنائي المصري الراهن إلى طائفة التشريعات التي تأخذ بالتقسيم الثلاثي.

وجسامة العقوبة – في واقع الأمر – فرع من جسامة الجريمة وليس العكس. فالمشرع الوضعي حين يعاقب على فعل بعقوبة ما، فإنه لا يقرر هذه العقوبة تحكمًا، بل يستهدي عند تحديدها بجملة ضوابط ينبئ كل منها بمفرده أو بالإضافة إلى غيره عن خطورة الفعل أو عن خطورة فاعله، وكلاهما يؤثر على جسامة الجريمة. وتقدير هذه الضوابط والاعتداد بها في كل جريمة على حدة هو مما يدخل في باب السياسة الجنائية. والضوابط في هذا الشأن عديدة: منها أهمية الحق المعتدى عليه، ومدى العدوان عليه، والموقف النفسي للجاني وقت العدوان، أي عمده أو خطؤه. وهناك ضوابط أخرى لا تقل أهمية ولكنها لا تتسم بالعموم، بل تخص بعض الجرائم، كصفة الجاني والمجني عليه، وكذلك عامل الزمان والمكان، ووسيلة العدوان، وعدد الجناة، وتفاقم النتيجة، ومسلك الجاني عقب الجريمة. ولأن تحديد العقوبة من الأمور التي يقدرها المشرع الوضعي، فإن سلطته في هذا المقام واسعة. ومن مظاهر التقدير أنه قد يجعل للجريمة عقوبة وحيدة ذات حد ثابت، كالإعدام أو السجن المؤبد، وقد يجعل لها عقوبة تتراوح بين حد أدنى وحد أقصى، كالسجن أو الحبس أو الغرامة. وقد يجعل للجريمة عقوبتين يجمع القاضي بينهما أو يختار إحداهما، كالحبس والغرامة. وقد يمنح القاضي سلطة تشديد العقوبة أو تخفيفها أو وقف تنفيذها أو الإعفاء منها لأسباب يقدرها(6). وللمشرع إذا دعت الحال أن يعدل العقوبة المقررة سواء بالتشديد أو بالتخفيف، وقد يؤدي ذلك إلى أن تصبح المخالفة جنحة أو الجنحة جناية أو العكس، بل إنه ليس هناك ما يحول بينه وبين الارتقاء بالمخالفة إلى مرتبة الجناية. ولا غرابة في ذلك، لأنه يملك فوق سلطة العقاب سلطة التجريم، بمعنى أن من حقه تجريم أفعال كانت من قبل مباحة وإباحة أفعال كانت من قبل مجرمة، وربما كان من بينها ما يعد جناية.

وقد ظن بعض الباحثين المعاصرين أن تقسيم الجرائم في القانون الوضعي إلى جنايات وجنح ومخالفات يتلاقى في الجملة مع تقسيم الجرائم في الفقه الشرعي إلى جرائم حدود وجرائم قصاص وجرائم تعزير، وأن الجامع بين التقسيمين هو قوة العدوان ومدى جسامة العقاب. وهذا الظن بعيد عن الصواب، والصحيح أن لكل تقسيم أساسه، وأن أساس كل تقسيم يختلف عن أساس الآخر اختلافًا يجعل التقريب بينهما ضربًا من التكلف أو عجلة لا تحمد في موطن الدراسة المقارنة.

تقسيم الجرائم إلى جرائم حدود وقصاص وتعزير:

أولاً: الحدود:

(7) للحد في الفقه الشرعي معان تختلف ضيقًا وسعة. وأضيق تعريف له أنه عقوبة مقدرة تجب حقًا لله تعالى. وهذا التعريف هو ما يجري على ألسنة الفقهاء عند المقابلة بين الحد من جهة، وكل من القصاص والتعزير من جهة أخرى. غير أن الفقهاء مع ذلك يطلقون الحد أحيانًا على العقوبة المقدرة شرعًا بغير تخصيص، سواء كان حق الله فيها غالبًا أو كان حق العبد هو الغالب. والحد بهذا المعنى يتسع للقصاص والدية، لأن كليهما عقوبة مقدرة. والحد بهذا المفهوم يعد مقابلاً للتعزير حيث العقوبة فيه غير مقدرة شرعًا. ويطلق الحد في أحيان أخرى على مطلق العقوبة، مقدرة أو غير مقدرة. ومن هذا الباب ما روى أو ما آثر عن درء الحدود بالشبهات، فالمراد جنس العقوبة.

ويطلق الحد كذلك على ذات الجريمة الموجبة للعقوبة، أي على مطلق المعصية. يقول ابن القيم في إعلام الموقعين: “الحد في لسان الشارع أعم منه في اصطلاح الفقهاء؛ فإنهم يريدون بالحدود عقوبات الجنايات المقدرة بالشرع خاصة. والحد في لسان الشارع أعم من ذلك، فإنه يراد به العقوبة تارة، ويراد به نفس الجناية تارة أخرى، كقوله تعالى:] تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا[(7)، ]تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا[(8)، فالأول حدود الحرام، والثاني حدود الحلال”. ويقول أيضًا: “ويراد بالحد تارة جنس العقوبة وإن لم تكن مقدرة؛ فقوله r: “لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله”، يريد به الجناية التي هي حق الله. فإن قيل: “فأين تكون العشرة فما دونها إذا كان المراد بالحد الجناية، قيل في ضرب امرأته وعبده وولده وأجيره للتأديب ونحوه، فإنه لا يجوز أن يزيد على عشرة أسواط، فهذا أحسن ما خرج عليه الحديث”(9).

والذي يعنينا في هذا المقام هو مفهوم الحد في لسان الفقهاء وجمهورهم على أنه العقوبة المقدرة شرعًا والتي تجب حقًا لله. وسوف ننهج نهج الجمهور في فهم معنى الحد لاستقراره وشيوعه، ومن ثم فنحن عندما نورد هذا المصطلح فإنما نقصد به بوجه عام أضيق معانيه، وهو العقوبة المعينة التي تقابل كلاً من القصاص والتعزير.

(8) ضابط التفرقة بين جرائم الحدود وجرائم القصاص والتعزير:

للحد عند الجمهور ضابطان يتميز بأحدهما عن التعزير وبالآخر عن القصاص. فهو يفارق التعزير في أنه عقوبة مقدرة شرعًا لمعصية محددة شرعًا، أما التعزير – كعقوبة – فلا تقدير للشرع فيه، وإنما التقدير لولي الأمر. وهو يفارق القصاص في أنه حق خالص لله أو أن حق الله فيه غالب، أما القصاص فحق العبد فيه غالب. ومعنى ذلك أن ضابط الحد مزدوج؛ فهو من جهة مقدر شرعًا، ومن جهة أخرى هو مقرر لحق الله.

(9) 1- تقدير الحد شرعًا:

يراد بالتقدير الشرعي ورود نص في القرآن أو السنة يحدد المعصية الموجبة للحد ويبين العقوبة التي استوجبتها ويعين مقدارها إن كانت مما يقبل التفاوت في المقدار. ولما كان الله قد أكمل لنا ديننا وأتم علينا نعمته وقبض إليه نبيه وانقطع الوحي بوفاته، فإنه يمتنع شرعًا أن تكون هناك معصية أخرى معاقب عليها حدًا غير ما قرره الكتاب والسنة. فليس لولي الأمر ولا لمجتهدي الأمة أن يضيفوا إلى الجرائم الحدية جريمة أخرى بداعي المصلحة أو عن طريق القياس ولو انعقد الإجماع – نظريًا – على ذلك. وليس في هذا حجر على المسلمين ولا تعطيل لمصالحهم ولا تفريط فيها، لأنه إذا طرأ ما يستدعي العقاب على معصية ففي التعزير مندوحة. وإذن فالحظر لا ينصب على مبدأ العقاب، بل ينصب على تكييف العقوبة. والجمهور على أن للحدود أحكامًا خاصة ثبتت بالتوقيف. ومن خواصها أنها إما أن تجب بتمامها أو لا تجب أصلاً؛ فهي لا تقبل التبعيض كما لا تقبل الزيادة ولا الإبدال. ومن الفقهاء من يقصر حكم الشبهة الدارئة على الحد دون التعزير، ويرى أن هذا الحكم هو مما تتميز به الحدود. والمتفق عليه – وهو أمر بالغ الأهمية – أنه لا عبرة في الحدود لحال الجاني ولا للظروف التي أحاطت بجريمته، فإذا تحقق موجب الحد وجب إيقاعه بتمامه في كل حال. ومن خواص الحد أيضًا أنه لا يقبل الصلح ولا العفو بخلاف القصـاص والتعزير. وتتميز الحدود _ في رأي جمهور الفقهاء _ بطرق إثبات تختلف من بعض الوجوه عن الطرق التي تثبت بها جرائم التعزير. من أجل هذا كان التوقيف هو السبيل الوحيد لتقرير مشروعية الحد. فما لم يرد به نص في الكتاب ولا سنة عن رسول الله فليس بحد وإن اقتضى العقاب. وهذا يعني أن جرائم الحدود واردة على سبيل الحصر.

وعلى الرغم من ذلك فقد اختلف الفقهاء في بعض هذه الجرائم. أما ما اتفقوا عليه منها فهو السرقة والحرابة والزنا والقذف، وأما ما اختلفوا فيه فهي الردة وشرب الخمر والبغي. ولن نعرض لهذا الخلاف في هذه الدراسة.

(10) 2- وجوب الحد لحق الله تعالى:

يراد بحق الله هنا ما كان خالصًا له وحده، وكذلك ما كان مشتركًا بينه وبين العبد لكن حق الله فيه غالب. ويقرر الفقهاء أن هذا هو ما يميز الحد عن القصاص والدية باعتبارها كلها مقدرة شرعًا. ومن الفقهاء من يستغنى عن هذا القيد، ويكتفي في تعريف الحد بكونه عقوبة مقدرة شرعًا. وهؤلاء يجعلون الحد قسمين: قسم يصح فيه العفو، وقسم لا يصح العفو فيه. وربما كان الأصح إغفال هذا القيد عند تعريف الحد والاكتفاء بكونه عقوبة مقدرة شرعًا، وذلك لسببين: أحدهما أن هذا القيد ليس وقفًا على الحد، والآخر أنه لا يطَّرد في كل حد.

أ- أما أنه ليس وقفًا على الحد فمسلم؛ فالفقهاء يعرفون التعزير بأنه عقوبة لمعصية ليس فيها حد مقرر، سواء تمثلت المعصية في عدوان على حق لله، كترك الصلاة والصوم والجهاد وكانتهاك حرمة المساجد والتجسس لمصلحة الأعداء، أو وقعت عدوانًا على حق العبد، وذلك بإيذاء إنسان بغير حق بفعل أو بقول يحتمل الصدق والكذب. وهذا يعني أن من التعزير ما يكون لحق الله، ومنه ما يكون لحق العبد، وهو ما يعني أيضًا أن الحد لا ينفرد بكونه مقررًا لحق الله، إذ يشترك التعزير معه في ذلك في إحدى حالتيه. وإذا كان القيد لا يقتصر على الحد وحْدُه فإنه لا يكون من خصائصه ولا يضير إغفاله، ومن ثم فإن إقحامه في التعريف يكون تزيدًا، بل قد يكون مدعاة للخلط واللبس.

ب- وأما أن القيد لا يطَّرد في كل حد فلأن بعض الحدود يجب لحق العبد. وهذا ظاهر من اختلاف الفقهاء في حد القذف؛ فقد ذهب الأحناف والظاهرية إلى أنه يجب حقًا لله تعالى، وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه يجب حقًا للعبد، وتوسط المالكية فجعلوا حد القذف حقًا للعبد قبل رفع الأمر إلى الحاكم وحقًا لله بعد رفعه إليه. ويبدو عدم الاطراد – بل التكلف – من وجه آخر؛ فالفقهاء يعتبرون حد السرقة واجبًا لحق الله، ويرون – في نفس الوقت – أن عقوبة الإتلاف والغصب والنهب والاختلاس وجحد العارية واجبة لحق العبد رغم اتفاقها مع السرقة في الوقوع على جنس المحل، وهو المال المملوك للغير. ولسنا نرى في الحقيقة وجهًا يبرر اعتبار بعض ما تقدم واجبًا لحق الله والبعض الآخر واجبًا لحق العبد إلا أن يكون ذلك نتيجة لتسمية الأول حدًا، والثاني تعزيرًا، وهذا الاعتبار وحده لا يكفي.

ولعل ما حمل الفقهاء على إطلاق القول بأن الحدود جميعًا تجب لحق الله هو ما لاحظوه من أنها لا يدخلها العفو ولا الصلح ولا الإبراء؛ فقد بدا لهم أنها لو كانت واجبة لحق العبد لدخلها كل ذلك. وهذا الظن غير صحيح، لأنه لا تلازم بالضرورة بين صفة من أصاب العدوان مباشرة أحد حقوقه وبين مدى قابلية العقوبة المقررة لهذا العدوان للإسقاط. دليل ذلك أن التعزير الذي يجب لحق الله يصح لولي الأمر أن يعفو عنه(10)، وأن حد السرقة والقذف يتوقف في بعض المذاهب على دعوى المسروق والمقذوف، فإذا لم يفعل امتنع إيقاع الحد. ولو صح أن تعلق العقاب بحق الله مانع من سقوطه ما جاز العفو في الحالة الأولى، ولا توقف الأمر في الثانية على مسلك المجني عليه. وأصح من ذلك في رأينا أن الحد – بمعناه الضيق – لا يقبل العفو ولا الصلح ولا الإبراء لكونه حدًا، وهو كذلك في كل صوره وأحواله، سواء كان حقًا خالصًا لله، أو كان حقًا مشتركًا بين الله والعبد.

ومما يعزز هذا الرأي تلك التفرقة التي اتفق علها الجمهور في معاملة مرتكب الحد قبل علم الإمام بما ارتكبه وبعد علمه. فالجمهور على أنه يستحب الستر ويصح الإغضاء قبل أن يرفع الأمر إلى الإمام. فأما إن بلغه الأمر لم يكن له إلا إيقاع موجبه. ولا ندري مبررًا لهذه التفرقة لو صح القيد، لأن حق الله إن كان لا يقبل العفو فينبغي أن يكون كذلك دائمًا، عَلِم الإمام بما يوجبه أو لم يعلم. ويبدو ذلك بوجه خاص في القذف والسرقة. فلو صح أن الحد فيهما يجب لحق الله فكيف يصح للمجني عليه أن يعفو قبل الرفع إلى الإمام وأن يترك المخاصمة فلا يجب الحد! ولماذا يمتنع عليه العفو بعد الرفع إلى الإمام! كذلك فإن الفقهاء يستحبون للشاهد تغليب جانب الستر على من أتى فعلاً يوجب حدًا لخالص حق الله كالزنا، ويستحبون له ألا يصرح في شهادته بما يوجب حدًا يتعلق به حق للعبد، بل يقول في الشهادة على السرقة: رأيته يغصب مال المجني عليه. وهم يستحبون كذلك لمن سرق ماله ألا يخاصم كيلا يقضي على الفاعل بالحد. فإذا كان الحد حقًا لله فلماذا يندب الشاهد والمجني عليه إلا الإمساك عما يؤدى إلى إيقاعه، ولماذا يمتنع على الإمام أن يعفو عنه إذا ثبت لديه موجبه؟

وإذا أريد الإبقاء على الضابط الثاني – وهو وجوب الحد حقًا لله – فإنه يلزم تحرير هذا الضابط، وذلك بالتفرقة بين محل العدوان والجزاء المترتب عليه؛ فقد رأينا أن العدوان قد يقع على بعض حقوق الله الخالصة ولا يعاقب عليه مع ذلك حدًا، بل يعاقب عليه تعزيرًا، وقد يقع العدوان على حق مشترك بين الله والعبد وحق العبد غالب – كالقذف والسرقة – ويعاقب عليه مع ذلك حدًا. وهذا يقتضي القول بأن الحد – بمعنى العقوبة – إنما يجب حقًا لله تعالى بغض النظر عن كون الحق المعتدى عليه خالصًا له وحده أو مشتركًا وحق العبد غالب. وبتعبير آخر فإن النسبة إلى الله في الحد يجب أن يكون مناطها العقوبة وليس الحق المعتدى عليه. أما القصاص فعلى الرغم من أن العدوان يقع فيه على حق مشترك مع غلبة حق الله – وهو الحياة فهي لا تستباح بالبذل – إلا أنه مع ذلك يجب حقًا للعبد. ومن هذا يبين أن التفرقة بين الحد والقصاص – وكلاهما عقوبة مقدرة شرعًا – لا تجد أساسها في الحق محل العدوان، بل تجده فيمن يجب له الجزاء؛ فإن كان الجزاء حقًا لله فذلك هو الحد، وإن كان حقًا للعبد فهذا هو القصاص.

ولعل هذا الضابط يعين على رفع بعض إشكالات الحد؛ فقد رأينا أنه يصح العفو عنه قبل أن يرفع إلى الإمام، والجمهور على أنه يستحب للشهود أن يؤثروا الستر فلا يشهدوا عليه، وإن شهدوا فلا يصرحوا عند وصف الفعل بما يوجب الحد، وإن عرض الجاني للحاكم بالإقرار طرده، وإن سأله فيستحب له أن يلقنه الإنكار، أما إذا بلغ الحد الإمام وثبت لديه فإن العفو عنه يمتنع. وهذا الحكم يستقيم وفق مذهبنا، لأن الحد إذا لم يكن قد بلغ الإمام، أو بلغه ولكنه لم يثبت بعد بدليله، فإن المتهم لا يستحق شرعًا أن توقع عليه عقوبة حدية مما يتعلق بها حق الله. أما إذا استقام دليل الحد لدى الإمام وانتفت موانعه، فإن حق الله يتعلق به في الحال فلا يجوز لأحد أن يعفو عنه. ومن اليسير في ضوء هذا الضابط تعليل حكم القصاص، وهو تفويض ولي الدم في اقتضائه أو العفو عنه. أما تعليل حكم الحد، وهو امتناع العفو عنه إذا كان العدوان واقعًا على حق يغلب فيه حق العبد فعسير، لأن هذا الحكم ثابت بالنص والإجماع، وهو على خلاف مقتضى القياس.

والخلاصة أن عدم قابلية الحد للعفو عنه ليس نتيجة لكونه واقعًا على حق لله، وإنما هو من لوازم الحد لكونه عقوبة مقررة لحق الله. وفضلاً عن ذلك فليس ما نحن بصدده هو السمة الوحيدة للحد، بل إن له سمات أخرى لا نرى مناسبة لتعليلها بوقوع العدوان في الحد على حق الله.

ثانيًا: القصاص:

(1) القصاص عقوبة مقررة شرعًا للعدوان على النفس. وتحل الدية محل القصاص في أحوال، وذلك عند تعذر القصاص، وعند الصلح على مال، وعند انتفاء العمد. والعدوان على حق الحياة له – من حيث الركن المعنوي – ثلاث صور: هي العمد وشبه العمد والخطأ.

ويتفق القصاص مع الحد – بمفهومه الضيق – في أنه عقوبة مقررة شرعًا، ولكنه يختلف عنه في أنه – ومثله الدية – يدخله الصلح والعفو والإبراء. وقد علل الفقهاء ذلك باختلاف من وجبت له العقوبة؛ فالحد يجب حقًا لله، أما القصاص والدية فيجبان حقًا للعبد. وهذا القول صحيح. غير أن من الفقهاء المحدثين من يتجاوز هذا الضابط، ويلتمس علة التفرقة في ذات الحق المعتدى عليه لا في صفة من وجبت له العقوبة، وهو مالا نراه ولا نقره.

يقول الأستاذ عبد القادر عودة توضيحًا للرأي المنتقد: علة التفرقة أن جرائم الحدود يصيب ضررها المباشر الجماعة أكثر مما يصيب الأفراد، وأن جرائم القصاص والدية مع مساسها بكيان المجتمع يصيب ضررها الأفراد أكثر مما يصيب الجماعة. فالسرقة والحرابة والقذف والشرب والردة والبغي والزنا هي في ذاتها تهديد للجماعة واعتداء على أمنها ونظامها أكثر مما هي تهديد واعتداء على الأفراد الذين تقع عليهم. فالفرد قد يسرق منه بعض ماله فلا يحزنه ما سرق منه بقدر ما يهدده هذا العمل ويخيفه على بقية ماله، وبقدر ما يخيف جيرانه ومعارفه وأهل بلده ويهدد أموالهم بخطر السرقة. ومثل ذلك يقال عن بقية الحدود، فضررها على الجماعة أشد من خطرها على الفرد. أما جرائم القتل والجرح فهي تصيب الأفراد بأكثر مما تصيب الجماعة، وتعتبر إلى حد ما جرائم شخصية بمعنى أن مرتكبها لا يقصد الاعتداء على كل شخص يلقاه، وإنما يقصد الاعتداء على شخص بعينه، فإذا لم يستطع الوصول إليه لم يعتد على غيره. ولهذا لا يهز الاعتداء الجماعة إذا وقع ولا يؤثر على أمنها تهديدًا شديدًا. أما السارق – مثلاً – فإنه يطلب المال أنَى وجده، فإن لم يستطع سرقة شخص بذاته سرق أي شخص آخر، لأنه يقصد المال، وهو في يد كل الأفراد. وكذلك الزاني فإنه لا يطلب امرأة بعينها، إنما يطلب المرأة أيًا كانت، فإذا تعسرت عليه امرأة بحث عن غيرها. ثم يقول: ولأن جرائم الدية والقصاص تمس الفرد أكثر مما تمس الجماعة ترك للمجني عليه وأوليائه أن يختاروا بين القصاص والدية في حالة العمد، وجعلت الدية من حق المجني عليه كتعويض له عما أصابه من الجريمة، وترك له أن يعفو عن القصاص وعن الدية معًا(11).

وقد أشرنا من قبل إلى أن أحكام المعاملات والجنايات في الشريعة الإسلامية ليست أحكامًا تعبدية خالصة، وإنما هي أحكام معللة، لأن المقصود بها مصلحة العباد وتنظيم علاقاتهم على نحو يستقيم به ميزان العدل. على أنه إذا كان تحرى علة الحكم مشروعًا فإن التكلف في التماس العلة غير مقبول. وواجب المسلم في كل حال أن يتلقى أحكام الشرع كلها بالقبول والإذعان، أدرك علتها أو لم يدركها.

ولعل أخطر ما يقع فيه الإسلاميون هو اللجوء إلى المنهج التبريري عند تعليل الأحكام، لأن هذا المنهج يقودهم إلى مخالفة الأصول الشرعية في بعض الأحيان، فضلاً عن تزويد خصوم الإسلام بحجج منطقية للنيل منه بغير حق. وما نقلناه آنفًا يدخل في هذا الباب. وعلى الرغم من إقرارنا بما للأستاذ عبد القادر عودة من فضل الريادة في مؤلفه القيم، فإن ذلك لا يمنعنا من مخالفته فيما ادعاه من أن خطر السرقة الحدية على المجتمع أشد وطأة من خطر القتل الذي يستوجب القصاص. فهذه دعوى يعجز هو كما يعجز غيره عن إقناع الآخرين بها مهما أوتي من فصاحة اللسان وقوة الحجة والبيان. ويكفي لاطراح هذه الدعوى قوله: “إن القتل لا يهز الجماعة إذا وقع ولا يؤثر على أمنها تأثيرًا شديدًا بعكس السرقة، فإن وقعها وتأثيرها على المجتمع أشد، وكذلك الزنا”. ذلك أن أي منصف لا يسعه أن يشاطره هذا الرأي. ويكفي لذلك تدبر قوله تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً(12)؛ فقد دلت هذه الآية على أن القتل لا ينحصر ضرره وأثره فيمن قتل وحده، بل يتجاوزه إلى الناس جميعًا، فكان قتل أحدهم كقتلهم كلهم.

وإذا انتقلنا مع ذلك إلى مناقشة الحجج التي استند إليها صاحب هذا الرأي فإننا نلاحظ أنها قائمة كلها على فروض خاصة انتقاها تحكمًا ثم انتهى منها إلى التعميم والإطلاق. فهو يرى أن القاتل إنما يقصد شخصًا بعينه، فإذا لم يتمكن منه لم يقتل غيره، بخلاف السارق فغايته المال دون اعتداد بصاحبه، فكان الثاني أشد خطرًا، وكالسارق الزاني. وما ذكره عن القتل لا يستقيم إلا حيث يقع في صورة العمد أو شبه العمد، وإن كان مع ذلك لا يطرد فيهما بإطلاق، وعلى الأخص في حالات القتل للإرهاب. وهو لا يستقيم قطعًا في القتل الخطأ، لأن الفرض أن الجاني لم يقصد القتل أصلاً، بله قتل شخص بعينه. ثم ما القول في القذف وهو كالقتل العمد – في منطق الرأي المخالف – من حيث اتجاه قصد القاذف إلى شخص معين، فإن لم يتجه إليه بقوله لم يتجه إلى غيره، ومع ذلك فهو – على خلاف القتل العمد – من جرائم الحد لا من جرائم القصاص! وأخيرًا فالزعم بأن الزاني لا يقصد امرأة بعينها، بل يقصد أي امرأة، وكذلك الزانية لا تقصد رجلاً بعينه بل بغيتها أي رجل – هذا الزعم لا يطرد، بل الغالب ألا يطرد، وهذا وجه التحكم والتكلف.

وعندنا أنه يجدر بالفقيه إذا انبرى لتعليل بعض الأحكام أن يلتزم الأصول المتعارف عليها وألا يتجاهل الواقع، فإن عز عليه ذلك فإن “لا أدري” فيها مندوحة، وقديمًا قيل: من أخطأ لا أدري كثرت مقاتله.

(12) والصحيح عندنا أن حق العبد في حياته وفي سلامة بدنه هو دون حقه في ماله، وأن حق الله في الأول أغلب من حقه في الثاني، وهذا أمر لا سبيل إلى المراء فيه. آية ذلك أن المال يباح بالبذل، وأن النفس والطرف لا يباحان به. وجمهور الفقهاء على أن إباحة النفس والطرف ساقطة شرعًا، وأن القتل والقطع بناء على هذه الإباحة محرمان شرعًا. وإذا كان في الفقه خلاف في الحكم عند الإباحة فإنه ينحصر في مدى وجوب القصاص أو سقوطه بالشبهة. ولا تلازم بين اندراء القصاص للشبهة وحلِّية الفعل ذاته. أما إباحة المال ممن يملك إباحته فإنها تمنع ثبوت الحد أصلاً لا أنها تسقطه. وهذا يقتضي القول بأن الجرائم المعاقب عليها بالقصاص أو التي تجب فيها الدية إنما تقع عدوانًا على حقين: حق الله في صيانة النفس والبدن، وحق العبد فيهما، وحق الله فيهما غالب. وإنما كان للمجني عليه أو لأوليائه العفو والصلح والإبراء لأن القصاص والدية حق لهم.

(13) وكان الأصل أن يكون القصاص – كالحد – واجبًا لحق الله، فلا يعتد فيه بعفو المجني عليه أو أوليائه، لأن موجب القصاص كموجب الحد هو العدوان على محل حق الله فيه غالب. غير أن الشارع الحكيم عدل في القصاص عن هذا الأصل فجعل للمجني عليه ولأوليائه حق العفو والصلح والإبراء. وقد غم الأمر لهذا السبب على بعض الباحثين – ومنهم مستشرقون – فتوهموا أن الشريعة الإسلامية لا تعتبر جرائم القتل والجرح من الجرائم العامة، أي التي تضر بمصلحة المجتمع، بل تعدها من الجرائم الخاصة، أي التي يقتصر الضرر فيها على شخص المجني عليه وحده وعلى ورثته. وكان سندهم في ذلك أنها تقرر حق العفو – وما في حكمه – للمجني عليه ولوليه عن حق القصاص، فدلت بذلك على أنها تعتبر الحق في الحياة وفي سلامة البدن حقًا خالصًا للمجني عليه وحده، أو تجعل حقه فيهما أغلب من حق الله. ولم يكن هذا صحيحًا.

أما خلوص الحق فيهما للمجني عليه فينفيه أن سقوط القصاص بالعفو وما في حكمه لا يمنع من تعزير الجاني. ولو كان الحق المعتدي عليه خالصًا للمجني عليه وحده، لكان القصاص هو كل الواجب، وكان التعزير بعد سقوطه ظلمًا يتنزه عنه الشارع. ولما كان التعزير رغم السقوط جائزًا فهذا دليل على أنه يجب حقًا لله – أو للمجتمع لا فرق – وهو ما يثبت أن الحق المعتدي عليه لم يكن خالصًا للمجني عليه وحده.

وأما عن غلبة حق العبد في حياته وفي سلامة بدنه فقد يشهد له تخويل المجني عليه – أو وليه – حق العفو عن الجاني بإرادته المنفردة رغم أن الحق المعتدي عليه شركة بينه وبين الله، إذ لو كان الأمر على خلاف ذلك ما جاز للعبد وهو الأضعف حظًا أن يسقط القصاص الواجب شرعًا. وقد يضاف إلى ذلك أن الفقهاء الذين يجيزون لولي الأمر تعزير الجاني بعد العفو عنه يقيدون التعزير بألا يبلغ ولي الأمر به مبلغ القصاص(13). وقد يقال: “إن هذا دليل على أن الحق الذي أوجب التعزير – وهو حق الله – هو دون الحق الذي استوجب القصاص، وهو حق العبد”.

وقد أشرنا من قبل إلى أن الأصل كان يقتضي أن يكون العقاب مقررًا لصاحب الحق المعتدي عليه أو لمن كان حظه في هذا الحق عند المشاركة فيه أغلب. غير أن هذا الأصل – شأنه شأن أصول أخرى – لا يطرد بإطلاق، بل يصح تقييده أو العدول عنه في أحوال خاصة لعلة يحسن معها التقييد أو العدول، بحيث ينفك التلازم بين صاحب الحق المعتدى عليه – أو صاحب الحظ الأكبر فيه – وبين من جعل زمام العقاب في يده. ولهذا نظائر في القوانين الوضعية؛ فعلى الرغم مما هو مستقر في الفقه الوضعي في الوقت الراهن من أن الجريمة – كل جريمة – تقع في المقام الأول عدوانًا على حق المجتمع، فإن المشرع الوضعي لا يرى بأسًا من أن يضع في بعض الأحيان قيودًا على سلطة الجهات المختصة بالاتهام والتحقيق والمحاكمة فيمنعها من مباشرة الإجراءات الجنائية ضد المتهم إلا بناء على شكوى من المجني عليه، ويلزمها بالكف عن هذه الإجراءات بعد السير فيها إذا تنازل المجني عليه عن شكواه. بل إنه يخول المجني عليه في بعض الأحيان الحق في إسقاط العقوبات المحكوم بها قبل أو في أثناء تنفيذها. ولا يرى الفقه الوضعي في ذلك خروجًا حقيقيًا على الأصل المتقدم ذكره، بل يرى – على العكس – أنه تطبيق واع لهذا الأصل. ويعلل ذلك بأنه إذا كانت مصلحة المجتمع قد اقتضت عقاب من ينتهك حقًا من حقوقه الأساسية، فهذه المصلحة ذاتها تقتضي تخويل المجني عليه في أحوال معينة الحق في تقييد سلطة القضاء في التحقيق مع الجاني أو في محاكمته، بل تقتضي كذلك تخويله الحق في العفو عن العقوبة المحكوم بها(14). وليس في منح المجني عليه هذا الحق ما يدل بالضرورة على أن الجريمة أصابت حقه وحده، أو أن حق المجتمع الذي أصابته الجريمة أدنى من حقه، بل الرأي متفق على أن الجريمة في كل الأحوال تقع على المجتمع بأسره، وإن كان محلها المباشر في بعض صورها حقًا لفرد بعينه. والأمر في القصاص قريب من ذلك. ومما يجب التنبيه إليه أن تحديد العقوبة نوعًا ومقدارًا وبيان شروط استيفائها وأسباب انقضائها هو مما تستقل به السلطة المشرعة، واضعة نصب عينها هدفًا محددًا، هو أن تكون العقوبة محققة للغرض منها، وهو الزجر والإصلاح دون إخلال بميزان العدل. وهذا يفرض عليها المغايرة في أحكام العقوبة المقررة لكل جريمة – نوعًا ومقدارًا وإيقاعًا واستيفاء وإعفاء – بما يحقق هذا الغرض. وقد رأى الشارع الحكيم، رغم غلبة حق الله فيما تقع عليه جرائم القصاص والدية، أن يجعل أمر كل من الجزاءين للمجني عليه أو وليه لحكمة تليق برب، وهي الامتنان على المجني عليه وذويه بتمكينهم ممن وقع منه عدوان على نفس أحدهم، وهو عدوان يثير في النفس النزوع عادة إلى الثأر والمعاملة بالمثل، فجعل أمر المعتدي إليهم حتى يذهب غيظهم وتستل سخيمتهم وتهدأ نفوسهم، فإن شاءوا اقتصوا منه، وإن شاءوا عفوا عنه تفضلاً وتكرمًا. ووجه المناسبة في تقرير هذا الحكم في القصاص ظاهر.

(14) ونخلص مما تقدم إلى أن القصاص والحد يلتقيان في أن كليهما عقوبة مقدرة شرعًا، وأن الفارق بينهما لا يتمثل في مدى غلبة حق العبد أو حق الله في محل العدوان، بل في مدى غلبة هذا الحق أو ذاك في جزاء العدوان. فالحد – مفهومًا بمعنى العقوبة – مقرر لحق الله، والأحاديث صريحة في امتناع العفو عنه، أما القصاص – مفهومًا بنفس المعنى – فمقرر لحق العبد، واستيفاؤه بيده، وهذا يجعل العفو عنه مناسبًا، لأن طبيعته تستجيب له وتقتضيه. ويصح القول أخيرًا بأن الإسلام لم يقرر مبدأ العفو عنه ابتداء، ولكنه أقره وندب إليه. أقره لأنه، وكذلك الدية، كانا معروفين للعرب في الجاهلية، وقد أبقى الإسلام عليهما – بعد تهذيب أحكامهما – كما أبقى على غيرهما من النظم الاجتماعية التي لا تصادم أصوله. وحث القرآن على العفو لأن فيه إبقاء على نفس أو طرف، وهو بالمسلم أليق. ومن يطالع آيات القرآن والأحاديث المتصلة بالموضوع يدرك بمنتهى اليسر ما أشرنا إليه.

وبهذا يندفع الظن بأن الشريعة الإسلامية لا تعتبر أفعال القتل والجرح جرائم واقعة على المجتمع ينشأ له بمجرد ارتكابها حق مباشر في عقاب الفاعل، بل تعتبرها محض أفعال ضارة تخول المجني عليه وأولياءه الحق إما في القصاص ممن ارتكبها أو العفو عنه مقابل تعويض أو بدون تعويض(15).

ثالثًا: التعزير:

(15) التعزير عقوبة يقررها ولي الأمر لأفعال لم يقدر لها الشرع حدًا ولا أوجب فيها قصاصًا ولا دية. وقد تكون الجرائم الموجبة للتعزير من جنس جرائم الحدود أو القصاص أو الدية، وقد تكون من جنس مختلف. وبتعبير آخر فهذه الجرائم يمكن أن تقع عدوانًا على أي حق، سواء كان خالصًا لله – أي للمجتمع – أو كان مشتركًا بين الله والعبد.

وتجدر الإشارة إلى أن الأصل في النظام الجنائي الإسلامي هو التعزير – وهو ما يختص به ولي الأمر – والاستثناء هو الحد والقصاص. وإنما استحوذ هذان الجزاءان على الاهتمام لسببين: الأول هو انطوائهما على عقوبات لها طابع خاص، سواء من حيث نوعها وكيفية تنفيذها وطرق إثبات الجرائم الموجبة لها، والثاني عناية كتب الفقه بتفصيل أحكامها وبيان مسائلها. غير أن هذه العقوبات – على أهميتها – ليست عامة، بل هي مقررة لطائفة من الجرائم محدودة العدد إذا قورنت بمجموع الجرائم التي ترتكب في أي مجتمع.

ويقسم الفقهاء الجرائم التعزيرية من حيث موجب العقاب عليها إلى ثلاثة أقسام: أحدها جرائم التعزير الأصلية، وهي التي لا حد فيها ولا قصاص ولا دية، والثاني جرائم الحدود التي يمتنع العقاب عليها بعقوبة الحد المقدرة، إما لعدم تمامها أو لاندراء الحد فيها بالشبهة، والثالث جرائم القصاص والدية التي يعتريها ما يحول دون إيقاع القصاص أو إيجاب الدية.

وتختلف سلطة ولي الأمر سعة وضيقًا في مجال التجريم والعقاب في كل قسم من هذه الأقسام، لأن الأصل أن الشرع يستأثر مباشرة بتنظيم أحكام الحدود والقصاص، ولا يدع لولي الأمر إلا سلطة محدودة تتمثل في تفصيل ما أجمل، أما التعزير فإن سلطة ولي الأمر فيه تبدو متسعة إلى حد كبير، وعلى الأخص في مجال العقاب. وهذا إيجاز يقتضي التفصيل.

سلطة التجريم والعقاب في الشريعة الإسلامية:

(16) الأصل في الإسلام أن المشرع – أي الجهة التي تملك سلطة التحليل والتحريم – هو الله وحده. ومن القواعد المقررة في الإسلام أن الأصل في الأشياء والأفعال الإباحة، والاستثناء هو التحريم. والله وحده هو الذي يملك هذا الحق، وقد فصل لنا ما حرم علينا. قال تعالى: ]وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ[(17). وقال تعالى: ]وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْه[ِ(18). ولهذا فليس لأحد من الخلق أن يحرم على الناس تحريمًا مؤبدًا ما لم يحرمه الله. وينبني على ذلك أن التأثيم والعقاب – وكلاهما حكم شرعي – لا يثبت لغير الله. ولما كان الرسول مبلغًا عن ربه، فإن دليل الحكم يستمد أصلاً من الكتاب أو السنة. وأضاف الفقهاء إلى هذين المصدرين مصادر أخرى، بعضها أصلي وبعضها احتياطي أو فرعي، والجامع بينها هو الاجتهاد. غير أن هذه المصادر ليست قائمة بذاتها، بل هي محمولة على الكتاب والسنة؛ فهي لا تنشئ الحكم ابتداء، وإنما تستنبطه، ولهذا فلا يمكن لها أن تأتي بحكم يخالف الكتاب والسنة. بل إن الرجوع إليها مشروط بعدم وجود نص في الكتاب أو السنة. ويتأدى من ذلك أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على نص في الكتاب أو السنة، وهذا هو مبدأ “الشرعية” المعروف عند فقهاء القانون الوضعي.

(17) وقد وردت في الكتاب والسنة نصوص تجرم أفعالاً محددة وتقرر عقوبة خاصة لكل منها، وهذه هي جرائم الحدود والقصاص. والقاعدة أنه ليس لولي الأمر في هذه الطائفة من الجرائم سلطة في مجال التجريم والعقاب؛ فهو لا يملك أن يضيف إليها غيرها، ولا يملك أن يبيح أفعالها، ولا أن يعدل في عقوباتها، ولا أن يعفو عن فاعليها. غير أن ذلك لا يعني أنه مغلول اليد فيها من كل الوجوه. ذلك أن النصوص الشرعية لم تبين كل عناصر هذه الجرائم بالتفصيل، ولم تتناول كل ما يتعلق بعقوباتها من أمور، بل تركت معظم هذه المسائل لاجتهاد الفقهاء واختيار ولاة الأمور. ويكفي – للتدليل على ذلك – الإشارة إلى حد السرقة على سبيل المثال؛ فكل ما ورد بشأن هذا الحد آية واحدة في سورة المائدة(19) وعدد محدود من الأحاديث النبوية. والنص القرآني مجمل والأحاديث النبوية فيها خلاف. والمطلع على كتب الفقه يدرك مدى ما بذله الفقهاء من جهد وما وقع بينهم من خلاف؛ فقد اجتهدوا واختلفوا في تعريف السرقة الموجبة للحد وفي بيان عناصرها. وقد عرفها الجمهور بأنها “أخذ المال خفية بنية تملكه إذا كان منقولاً محترمًا مملوكًا للغير في حرز مثله متى بلغت قيمته نصابًا”. وعلى الرغم من اتفاق الجمهور على هذا التعريف إلا أنهم اختلفوا في تحديد كل عنصر من عناصره، وعلى الأخص في شأن الحرز وكيفية هتكه، وفي طبيعة المال الذي يقطع بسرقته حتى وإن توافرت سائر العناصر. وكان الخلاف أشد في النصاب الذي يجب أن يبلغه المال المسروق؛ فقد تعددت أقوال الفقهاء فيه، وذكر الشوكاني منها عشرة أقوال، وختم حديثه عنها بقوله: “هذه جملة المذاهب المذكورة في المسألة، وقد جعلها في الفتح عشرين مذهبًا”(20). ولا يقتصر الأمر على حد السرقة وحده، وإنما الخلاف ملحوظ بنفس الدرجة في سائر الحدود وفي القصاص أيضًا، وهو خلاف لا يتعلق بشروط التجريم فحسب، بل يتعلق كذلك بشروط العقاب. ولما كان ولي الأمر ملزمًا بتطبيق الأحكام الشرعية، فإنه يتعين عليه إزاء اختلاف الفقهاء فيما لم يرد بشأنه نص في مسائل الحدود والقصاص أن يوازن بين آرائهم وأن يرجح ما يراه منها أشبه بالحق وأدنى إلى تحقيق المصلحة وأن يحمل القضاة والقائمين على تنفيذ أحكامهم على العمل بها. وفي حدود هذه الدائرة يتمثل دور ولي الأمر في مجال التجريم والعقاب في الحدود والقصاص.

(18) أما الجرائم التعزيرية فقد وردت نصوص خاصة أو عامة بعدم مشروعية أفعالها، لكنها خلت من تقرير عقوبة محددة لكل فعل منها. وقد اتفق الفقهاء على أن لولي الأمر أن يقدر لها من العقوبات ما تقتضي به المصلحة العامة. يقول ابن القيم: “لما كانت مفاسد الجرائم متفاوتة غير منضبطة في الشدة والضعف والقلة والكثرة، جعلت عقوباتها راجعة إلى اجتهاد الأئمة وولاة الأمور بحسب المصلحة في كل زمان ومكان، وبحسب أرباب الجرائم في أنفسهم، فمن سوى بين الناس في ذلك، وبين الأزمنة والأمكنة والأحوال لم يفقه حكم الشرع”(21).

غير أن سلطة التقدير الممنوحة لولي الأمر في مجال التعزير إن كانت تشبه إلى حد كبير سلطة المشرع في القانون الوضعي، إلا أن بينهما وجوه اختلاف تتمثل في محل التقدير ومداه. وليس صحيحًا ما يقوله البعض من أن سلطة ولي الأمر في التعزير مطلقة، وأن له أن يعزر من يشاء على ما يشاء بما يشاء؛ فهذا القول فيه إطلاق لا تقره النصوص الشرعية ولا المذاهب الفقهية.

(19) مدى سلطة ولي الأمر في التجريم:

أهم قيد يرد على سلطة ولي الأمر في التجريم أنه لا يجوز له أن يعزر فيما لا يعد معصية(22).

والمعصية هي كل فعل أو ترك يخل بمقصد من مقاصد الشرع. غير أن قول ولي الأمر ليس هو القول الفصل في بيان ما يعد وما لا يعد معصية، وإنما المحكَم في ذلك هو الشرع وحده. وهذا وجه خلاف جوهري بين ولي الأمر في الإسلام والمشرع الوضعي. فمن المسلَّم شرعًا أنه ليس لولي الأمر أن يحظر ما هو واجب ولا أن يوجب ما هو محرم مادامت شروط هذا وذاك قائمة، فإن خالف عن ذلك فلا سمع له ولا طاعة. وليس لهذا القيد وجود في التشريع الوضعي، لأن المشرع هو الذي يستأثر فيه بتعيين الواجب والمحظور، وله تبعًا لذلك أن يحيل الحظر وجوبًا والوجوب حظرًا، وأن يعاقب في الحالتين على مخالفة أمره ونهيه.

(20) على أن سلطة ولي الأمر في مجال التجريم – شرعًا – تقتضي بعض التفصيل. ذلك أن أفعال المكلفين تتردد بين الوجوب والتحريم والندب والكراهة والإباحة. ومن الفقهاء من يقصر العقاب الدنيوي على فعل المحرم وعلى ترك الواجب، لأن الطلب في كل منهما حاتم، أما المكروه والمندوب فلا يرى العقاب فيهما لا على فعل الأول ولا على ترك الثاني، لأن كليهما جائز شرعًا بغير ذم وإن كان الأولى خلافه. وكذلك المباح لا عقاب على فعله ولا على تركه، لأن الفاعل مخير فيه شرعًا بغير ذم أو مدح. ومقتضى هذا الرأي أن دائرة المكروه والمندوب والمباح تخرج عن مجال سلطة ولي الأمر في التجريم، وأن سلطته تنحصر فقط في العقاب على فعل المحرم وعلى ترك الواجب.

وهذا الرأي صحيح من وجه دون وجه؛ فلا نزاع في أنه ليس لولي الأمر أن يعزر إلا إذا كان الحظر قائمًا وقت الفعل أو كان الوجوب قائمًا وقت الترك. أما ما كان مباحًا أو مكروهًا أو مندوبًا وقت فعله أو تركه فالقاعدة أنه لا عقاب عليه شرعًا. لكن ذلك لا يقتضي قصر الحظر والوجوب على ما كان محرمًا أو واجبًا بنص شرعي، لأن ولي الأمر له أن ينتقل بالمباح والمندوب والمكروه إلى الحظر أو الوجوب إذا ثبت لديه في لحظة معينة أن في النهي عنه أو في الأمر به درء مفسدة أو جلب مصلحة، وعندئذ يصح لولي الأمر أن يعزر من يخالف نهيه أو أمره. والمعلوم أن فعل المكلف ليس له حكم واحد في كل أحواله، بل يمكن أن يعتريه أكثر من حكم تبعًا لما يلابسه من ظروف وقت إتيانه. بل إن من الأفعال – كالزواج – ما تتداوله الأحكام الشرعية الخمسة تبعًات لظروف الحال على نحو ما هو معروف عند الفقهاء.

ولعل منطقة المباح هي أخصب المناطق وأكثرها دلالة على حيوية الشريعة الإسلامية وقدرتها على التكيف مع الواقع المتغير، وعلى الوفاء بحاجة المجتمعات الإسلامية كلها مهما اختلف مكانها وزمانها. فالمباح في الشريعة – كما يعرفه الشاطبي – هو ما خير فيه بين الفعل والترك بحيث لا يقصد فيه من جهة الشرع إقدام ولا إحجام، لأنه لا أثر له على مصالح المجموع سلبًا ولا إيجابًا(23). وهذا يعني أنه لكي يظل المباح على حكمه – من الإباحة – يجب أن يكون فعله وتركه سواء بالنسبة إلى المصلحة العامة، أما إذا ثبت في ظروف معينة أن فعله أو تركه يلحق بهذه المصلحة ضررًا أو يحقق لها نفعًا، فللإمام – بل عليه – أن ينهي عنه أو يأمر به، وعندئذ لا يعود المباح مباحًا، بل ينقلب محظورًا أو واجبًا، ويصح تعزير المخالف شرعًا.

واستثمار هذه القاعدة مفيد في مجالات شتى؛ فالأصل في التعاقد الإباحة، ومقتضاها أن يكون لكل من العاقدين أن يدخل في العقد ابتداء أو لا يدخل. وإذا كان العقد بيعًا فلكل منهما الحرية في تحديد الثمن وفي رفضه أو قبوله، وإذا كان إيجارًا فلكل منهما تحديد مدة العقد ومقدار الأجرة. ولا ينعقد العقد في هذه الأحوال إلا إذا طابق قبول أحد العاقدين إيجاب الآخر. ومع ذلك فلولي الأمر في ظروف معينة أن يحمل الناس شرعًا على بيع ما لديهم من سلع معينة إذا اقتضت ذلك ضرورة أو مصلحة عامة، وله أن يلزمهم بالبيع بسعر معين، ويجوز له أن يعزرهم على احتكار السلع والامتناع عن بيعها، وكذلك على بيعها بأكثر مما حدده ثمنًا لها. وله إذا شحت المساكن وطغى أصحابها واستغلوا حاجة الناس إليها فأرهقوهم بما يعجز أوساطهم عن الحصول عليها أن يلزم المالك بالتأجير وأن يفرض الأجرة العادلة وأن يجعل العقد غير مؤقت بمدة معينة، وله أن يعزر كل مالك يخالف عن أمره. فإذا زالت العلة وجب أن يعود الحكم إلى أصله.

(21) وفي الفقه الشرعي خلاف في مدى حق الإمام في الأمر بالمباح وفي النهي عنه. وقد أورد الشيخ المراغي – في دراسة قيمة له – أقوال الفقهاء في هذا الموضوع واختار أرجحها، ورد شبهة قد يعترض بها على الرأي الذي رجحه. ولا بأس من أن ننقل هنا عبارته لتأكيد ما صوبناه. قال رحمه الله: “إن الطاعة لهم (يعني لأولي الأمر) ماداموا على الحق، فلا تجب طاعتهم فيما خالف الشرع، إنما الطاعة في المعروف. وهل يشمل المباح أو لا؟ فيه خلاف: فقيل إنه لا تجب طاعتهم فيه، لأنه لا يجوز لأحد أن يحرم ما حلله الله تعالى، ولا أن يحلل ما حرمه الله تعالى. وقيل تجب طاعتهم أيضًا كما نص عليه الحصكفي وغيره. وقال بعض محققي الشافعية: تجب طاعة الإمام في أمره ونهيه ما لم يأمر بمحرم. وقال بعضهم: الذي يظهر أن ما أمر به مما ليس فيه مصلحة عامة لا يجب امتثاله إلا ظاهرًا فقط، بخلاف ما فيه ذلك، فإنه يجب باطنًا أيضًا، وكذا يقال في المباح الذي فيه ضرر للمأمور به”.

ويعقب الشيخ المراغي بقوله: “فعلم من هذه النصوص أنه لا تجب الطاعة إذا أمر ولي الأمر بمحرم أو نهي عن واجب، أما إذا أمر بمباح فيه مصلحة عامة أو نهي عن مباح فيه ضرر، فإنه يجب امتثال أمره ونهيه ظاهرًا وباطنًا على رأي الحصكفي وغيره من الحنفية، وعلى رأي محققي الشافعية. والمباح الذي لا مصلحة فيه إذا أمر به الإمام يجب امتثال أمره ظاهرًا فقط. وغير خاف أن الامتثال ظاهرًا وباطنًا يحدث حكمًا شرعيًا أخرويًا وحكمًا دنيويًا. فأمر الإمام يحدث وجوبًا شرعيًا، ونهيه يحدث حرمة شرعية. وقد يقال إن الحاكم هو الله تعالى وليس لأحد غيره أن يحلل ويحرم، وهذا صحيح، غير أن الحكم الذي يحدث عند أمر الإمام ونهيه لم يحدث بأمره ونهيه، بل حدث بأمر الله تعالى. وخطاب التكليف: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ يتوجه على الناس عند أمر الإمام ونهيه. فالأمر من قبل الإمام سبب في توجيه الخطاب، كما أن الزوال سبب في توجه الخطاب بإقامة الصلاة، فالذي أحل وحرم هو الله تعالى”(24).

وهذا صحيح في الجملة؛ فولي الأمر واجب الطاعة لا لمجرد أنه ولي الأمر، بل لأن الأصل أنه لا يكلف إلا يما يوافق الشرع. والشرع إنما جعل المباح مباحًا لاستواء طرفيه بالنظر إلى المصلحة العامة، إذ هو في عامة أحواله لا يؤثر فيها سلبًا ولا إيجابًا. فأما إن حفت به في أوقات عارضة ملابسات جعلت إتيانه أو تركه محققًا لمصلحة عامة أو لمفسدة عامة، فما ينبغي بقاء الحكم على حاله، بل يتعين على ولي الأمر أن يوجب المباح أو يحظره. ولا يقال عندئذ إنه بدَّل حكم الله، بل الصحيح أنه أمضى حكمه، لأن الإباحة مقيدة بألا تفوت بسببها مصلحة عامة أو يترتب عليها مفسدة عامة. فإذا تيقن ولي الأمر من انتفاء القيد وقيام نقيضه وجب عليه أن يجري من الأحكام ما يحقق مقصود الشرع، وعندئذ يكون المباح محظورًا أو واجبًا، لا في نفسه بل لما يؤدي إليه.

وفي هذا المعني يقول أستاذنا الشيخ عبد الوهاب خلاف: “قد يؤدي تطبيق القواعد التشريعية العامة على بعض الوقائع إلى تفويت مصلحة أو يؤدي إلى ضرر أو حرج، فيستقر في نفس المجتهد بناء على ما قام عنده من الأدلة أن يستثنى هذه الواقعة وألا يطبق عليها القاعدة العامة ويحكم عليها بحكم آخر يتفق والمصلحة، ويرى أن هذا الحكم – عندئذ – يكون سنده الاستحسان، ويقول: ومن هذا يتبين أن الاستحسان هو عدول عن قياس ظاهر إلى قياس غير ظاهر، أو استثناء جزئية من تطبيق قاعدة كلية اقتضت هذا العدول أو الاستثناء، ودليل هذا العدول أو الاستثناء هو وجه الاستحسان”(25).

ومن الشواهد على أن لولي الأمر أن يحظر المباح أو يقيده أن الله أباح لعباده الطيبات من الرزق وأحل لهم بهيمة الأنعام، ولم يقيد ذلك بيوم دون يوم، ودرج الناس في عهد النبوة وفي خلافة أبي بكر على أن يأكلوا اللحم حين يشاءون. ولما ولى عمر رأي أن يمنع الناس من أكل اللحم يومين متتاليين، فكان يأتي مجزرة الزبير بن العوام بالبقيع، ولم يكن بالمدينة مجزرة غيرها، فإذا رأى رجلاً اشترى لحمًا يومين متتابعين ضربه بالدرة، وقال: “ألا طويت بطنك يومين!” وقد فعل ذلك حتى يكون هناك مجال لتداول اللحم بين الناس(26). كذلك فقد منع عمر كبار الصحابة من تزوج الكتابيات، وقال: “أنا لا أحرمه، ولكني أخشى الإعراض عن الزواج بالمسلمات”(27). والمعلوم أن الزواج بالكتابيات مباح، وإنما النهي عن نكاح المشركات، ومع ذلك فقد رأى عمر المصلحة في منعه فمنعه وإن كان غير محرم في ذاته. ومن شواهد ذلك أيضًا أن عمر بن الخطاب حجر على أعلام قريش من المهاجرين أن يخرجوا من المدينة إلا بإذن وإلى أجل، والأصل أن الظعن والإقامة من المباحات، لكن عمر قيده للمصلحة العامة بالنسبة لطائفة من المسلمين، فجعل المباح في أصله محظورًا عليهم.

(22) وإذا جاز لولي الأمر أن يأمر بالمباح وأن ينهي عنه، فذلك جائز بالأولى في المندوب والمكروه، لأن فعل الأول وترك الثاني مستحب شرعًا، فلا بأس من جعل مستحب الفعل واجبًا ومستحب الترك محظورًا. غير أن سلطة ولي الأمر في تغيير حكم المكروه والمندوب ليست مطلقة، وإلا كان ذلك تشريعًا بالهوى. وإنما الأصل أن يبقى الحكم على حاله ما لم يطرأ ما يقتضي تغييره. فلا يجوز لولي الأمر أن يحظر المكروه لمجرد كونه مكروهًا، ولا أن يوجب المندوب لمجرد كونه مندوبًا، لأن ثبوت هذا الوصف أو ذاك لم يقتض من الشارع إلا استحباب ترك الأول وفعل الثاني، وليس لأحد أن يستدرك على الشارع. وإنما جاز تغيير الحكم إذا أدى فعل المكروه أو ترك المندوب في ظروف طارئة إلى مفسدة عامة. ولا يكون تغيير الحكم في هذه الظروف استدراكًا على الشارع، بل سدًا للذرائع وامتثالاً لأصل عام حاصله أنه لا ضرر ولا ضرار(28). فإذا استقرت الأمور ولم يعد في المكروه غير المعنى العام الذي استوجب كراهته، ولا في المندوب غير المعنى العام الذي استوجب الندب عاد الحكم إلى أصله وامتنع التعزير على فعل الأول وعلى ترك الثاني.

ونخلص مما سبق إلى أن التعزير لا يجوز في الشرع إلا على فعل محرم أو ترك واجب، سواء كانت الحرمة أو الوجوب ثابتًا بحسب الأصل، أو كان قد ثبت بأمر الإمام في حدود ما يجيزه له الشرع. وينبني على ذلك أنه ليس للإمام أن يعزر على فعل المباح أو على تركه، ولا على فعل المكروه أو المندوب أو تركه مادام الحكم باقيًا على أصله وقت الفعل أو الترك. وإنما يصح التعزير فحسب بعد أن يتحقق الإمام على سبيل القطع بأن ظروف الواقع التي طرأت جعلت المصلحة العامة موجبة للانتقال بالحكم الشرعي إلى الوجوب أو الحظر، وبشرط أن يتوجه للناس بالأمر أو النهي، لأنه اعتبارًا من هذا الوقت فقط يثبت الإيجاب والحظر في حقهم. ومن هذا الوجه يتفق التعزير مع العقوبة في القانون الوضعي، فهي لا تجب إلا جزاء على مخالفة ما أمر به المشرع أو ما نهى عنه واعتبارًا من اللحظة التي يتم فيها إعلام المخاطبين بالأمر أو النهي.

التعزير لا يكون إلا في معصية:

(23) هذه قاعدة لا ينبغي أن تكون محل خلاف، لأن التعزير نوع أذى، ولا يحل إيذاء إنسان إلا إذا وقع منه ما يقتضي إيذاءه، ولا يكون ذلك إلا لارتكابه معصية. ومن هنا يتضح الإرسال في قول من قال إن للإمام أن يعزر على ما يشاء بما يشاء، كما يتضح خطأ من تسامح فأجاز العقاب – تعزيرًا – للمصلحة العامة ولو لم تقع ممن يراد تعزيره معصية أصلاً. وقد استدل القائل بمشروعية التعزير لمجرد المصلحة العامة بأن رسول الله r حبس رجلاً اتهم بسرقة بعير، ثم لما ظهر أنه لم يسرقه أخلى سبيله، واعتبر هذا الحبس عقوبة تعزيرية، وقرر أنه إذا كان الرسول قد حبس الرجل لمجرد الاتهام فمعنى ذلك أنه عاقبه على التهمة، وأنه أباح بذلك عقاب كل من يوجد نفسه أو توجده الظروف في حالة اتهام ولو لم يأت فعلاً محرمًا، وذلك حماية للمصلحة العامة. واستدل كذلك بما صنعه عمر بن الخطاب بنصر بن حجاج، فقد روى أن عمر كان يعس في المدينة ذات ليلة فسمع امرأة تردد: هل من سبيل إلى خمر فأشربها أو من سبيل إلى نصر بن حجاج، فأصبح فدعا بنصر هذا فألفاه شابًا حسن الصورة، فأمر به فحلقت رأسه فازداد ملاحة، فنفاه إلى البصرة خشية أن تفتن النساء بجماله، مع أنه لم ينسب إليه أنه ارتكب معصية. ووجه الاستدلال بهذه الواقعة – في تقدير صاحب ذلك الرأي – أن النفي عقوبة تعزيرية وقعها عمر على نصر بن حجاج لأنه رأى أن وجوده في المدينة ضار بصالح الجماعة مع أن جماله هو الذي أوجده في هذه الحالة، ومع أنه لم يقصد الإضرار بالمصلحة العامة أو بالنظام العام. واستدل على مشروعية التعزير للمصلحة العامة أيضًا بجواز عزل المجنون ومنعه من الاتصال بالناس إذا كان في اتصاله بهم ضرر عليهم، وكذلك حبس من اشتهر بإيذاء الناس ولو لم يقم عليه دليل أنه أتى فعلاً معينًا(29).

(24) وهذا الرأي محل نظر في أساسه وفي أسانيده؛ ذلك أن التعزير بوصفه عقابًا لا يجوز شرعًا أن ينزل بمن لم تقع منه معصية توجب عقابه؛ فعدل الله يأبى ذلك. وليس من المقبول شرعًا ولا وضعًا عقاب من لم يأت منكرًا بدعوى أن المصلحة العامة توجب عقابه. وإذا كانت المصلحة العامة جديرة بالرعاية والحماية فحرمات الناس لا تقل عنها جدارة.

أما ما استدل به الرأي المخالف فلا حجة فيه، إما لأنه غير مسلَّم شرعًا أو لأنه ليس تعزيرًا بالمعنى الصحيح. فحبس من اشتهر بإيذاء الناس – دون أن يكون قد صدر منه فعل معين غير ما اشتهر به – أمر غير مسلم، بل هو مصادرة على المطلوب، إذ لا عقاب إلا على سلوك.

وأما وجوه الاستدلال الأخرى فليست من التعزير في شيء. فالحبس في التهمة خشية هرب المتهم أو لمنعه – لو ترك طليقًا – من إفساد عمل المحقق لا يعدو أن يكون إجراء احتياطيًا يتجرد من معنى العقوبة، لأن العقوبة جوهرها الإيلام، والإيلام غير مقصود هنا، فانتفى أن يكون هذا الحبس تعزيرًا. وإذا كانت بعض كتب الفقه تعتبر الحبس في التهمة تعزيرًا فمن باب المسامحة. والفارق بين الحبس كإجراء احتياطي توجبه مصلحة التحقيق والحبس كعقوبة واضح في التشريعات الوضعية المعاصرة بما يحول دون الخلط بين الإجراءين. ولو كان الحبس في التهمة عقوبة لاختل ميزان العدل شرعًا، إذ يفضى ذلك إلى عقاب المتهم قبل أن ينتهض الدليل على جرمه.

وأما عزل المجنون دفعًا لأذاه فليس فيه معنى عقابه، لأنه غير أهل لتحمل العقاب أصلاً، على أساس أن الجنون يسقط التكليف لزوال العقل، فلا يجوز عقاب المجنون حدًا ولا قصاصًا ولا تعزيرًا. وإنما العزل هنا تدبير اقتضاه التزام ولي الأمر بدفع الضرر أيًا كان مصدره، كالتزامه بإزالة عقار يوشك أن ينهار، والتزامه بقتل الكلب العقور، والتزامه بعزل المصابين بأمراض معدية. وأما قصة نصر بن حجاج فإنها رغم ذيوعها لا تخلو من غرابة تسمح بقدر من الشك فيها. ذلك أن ملاحة نصر لم تكن ذنبًا يؤاخذ عليه، بل كان نعمة منَّ الله بها عليه، فكيف يعاقب عليها بالتغريب عن وطنه وأهله إلى أمد غير منظور! وإذا كان هناك من يستحق التعزير فما ينبغي أن يكون نصر بن حجاج، بل الجدير به تلك المرأة التي تاقت إلى الخمر علنًا وتمنت شربها، وشببت بنصر جهرًا واشتهت الفسق ضمنًا، وتجاوزت بمناجاتها الجدران فبلغت مسامع عابري المكان. ثم القصة بفرض صحتها لا تصلح دليلاً للرأي المخالف، إذ لا يصح أن يوصف ما فعله عمر بأنه تعزير بمعنى العقاب. ولمن شاء أن يصف هذا الإجراء بما يروقه من أوصاف إلا أن يسميه تعزيرًا، إذ لا تعزير بغير موجب، وموجبه ارتكاب معصية، أي إتيان محظور أو ترك واجب، ولا يمكن نسبة شيء من ذلك إلى نصر بن حجاج.

مدى سلطة ولي الأمر في العقاب:

(25) السائد عند جمهور الفقهاء أن سلطة ولي الأمر في العقاب تنحصر في دائرة التعزير. أما الحدود والقصاص فلكونها عقوبات مقدرة شرعًا لجرائم محدودة حصرًا، فليس لولي الأمر فيها أي تقدير. وهذا القول صحيح في الجملة. ووجه تحفظنا أن في الفقه أقوالاً تجعل لولي الأمر قسطًا من التقدير في بعض الحدود، ونعني الحرابة على وجه التحديد. فالظاهرية والمالكية لا يوجبون ترتيبًا معينًا لعقوبات الحرابة، ولا يخصون كل فعل من أفعالها بعقوبة معينة من عقوباتها، بل يتركون للقاضي – ولولي الأمر من باب أولى – حرية اختيار أكثر العقوبات ملاءمة في كل حالة والحكم بها. أما الأحناف والشافعية والحنابلة فيجعلون لكل صورة من صور الحرابة عقوبة محددة ليس للقاضي أن يعدوها إلى غيرها. وعلى الرأي الأول يكون لولي الأمر قدر من التقدير في اختيار نوع العقوبة الواجبة التطبيق.

(26) وفيما خلا ذلك فلا خلاف في أنه إذا استوفى الحد – وكذلك القصاص – شروطه وانتفت موانعه، وجب على ولي الأمر إيقاعه دون أن يكون له أي تقدير؛ فليس له أن يزيد فيه (30) ولا أن ينقص منه ولا أن يبدل به غيره ولا أن يعفو عنه، لأن حال الجاني وظروف الجريمة ليس لهما في هذا المجال أدنى اعتبار. غير أنه يجوز لولي الأمر في بعض الأحوال التي يمتنع فيها الحد والقصاص أن يستعمل حقه في التعزير. وليس في ذلك مساس بالأصل المتقدم، لأن ولي الأمر في تلك الأحوال لا يستبعد الحد أو القصاص بعد وجوبه ثم يحل التعزير محله، وإنما الشرع نفسه هو الذي منع ذلك لعلة معتبرة لا دخل فيها لولي الأمر. وأظهر هذه الأحوال حالة الشبهة؛ فهي إذا درأت الحد أو القصاص فإنها لا تدرأ التعزير بالضرورة. كذلك فإن في الفقه الإسلامي أقوالاً تمنع إيقاع حد السرقة عند فوات محل القطع، وهو اليد، ولا يرى القائلون بذلك غير التعزير. وفي القصاص يجوز لولي الأمر إذا سقط القصاص بالعفو ونحوه أن يعزر الجاني بما يراه مناسبًا.

على أن المجال الحقيقي لسلطة ولي الأمر في تقدير العقاب هو التعزير. وسلطته فيه تكاد تماثل سلطة المشرع الوضعي في مجال العقاب. فله بوجه عام أن يقرر للفعل عقوبة أو يكتفي بما هو دون العقوبة من جزاءات. وإذا عاقب فله أن يعين لكل جريمة عقوباتها المناسبة من حيث النوع والمقدار، وله أن يجعل العقوبة ذات حد واحد أو يجعل لها حدين، أدنى وأقصى. وله أن يجعل للجريمة عقوبة واحدة أو أكثر من عقوبة يقضى بها على سبيل الجمع أو على وجه البدل. وله أن يشدد العقوبة أو يخففها إذا احتفت بالجريمة ظروف تقتضي التشديد أو التخفيف، سواء كانت هذه الظروف عينية أو شخصية، وقد يجعل التشديد أو التخفيف في هذه الأحوال وجوبيًا. وله أن يمنح القاضي سلطة وقف تنفيذ العقوبة أو الإعفاء منها إذا قدر أن في ظروفها ما يقتضي وقف التنفيذ أو الإعفاء. ولولي الأمر أن يعيد النظر في العقوبة التعزيرية فيشددها أو يخففها أو يستبدل بها عقوبة أخرى أشد أو أخف، وذلك كله عملاً بأصل شرعي حاصله أن تصرف الإمام في الرعية منوط بالمصلحة.

(27) هل وردت العقوبات التعزيرية على سبيل الحصر؟

ذهب رأي في الفقه المعاصر إلى أن الشريعة الإسلامية – القرآن والسنة والإجماع – حددت العقوبات التعزيرية تحديدًا دقيقًا بحيث لا يستطيع القاضي أن يعاقب بغيرها ولا أن يخرج على حدودها(31). وأورد صاحب هذا الرأي قائمة تبدو حاصرة لهذه العقوبات، وهي: الجلد والحبس المؤقت والمؤبد والتغريب والصلب والوعظ والهجر والتهديد والتوبيخ والتشهير، أما القتل تعزيرًا ففيه خلاف. وأضاف صاحب هذا الرأي إلى هذه العقوبات العامة عقوبات خاصة يمكن تقريرها بالنسبة لبعض الجرائم، وهي العزل من الوظيفة والحرمان من بعض الحقوق والمصادرة والإزالة والغرامة(32).

وذهب كذلك إلى أن الشريعة الإسلامية وإن حصرت العقوبات التعزيرية إلا أنها لم ترصد لكل جريمة عقوبة محددة بنوعها ومقدارها، بل تركت للقاضي حرية اختيار العقوبة التي يراها – من بين مجموعة العقوبات الجائزة – لكل جريمة على انفرادها، مراعيًا في ذلك ظروفها وأحوال مرتكبها. وهذا في رأيه وجه خلاف بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي.

وهذا الرأي في اعتقادنا محل نظر. صحيح أن قائمة العقوبات التي أوردها تكاد تستغرق كل العقوبات التي يمكن تقريرها، إلا إنه ليس من الدقة القول بأن العقوبات التعزيرية وردت في الشريعة الإسلامية على سبيل الحصر؛ فليس هناك دليل على ذلك. وإذا كان النص والإجماع قد أثبتا أنواعًا منها، فهذا يدل فحسب على مشروعيتها، ولكنه لا ينهض دليلاً على حظر ما عداها. والمقام هنا لا يتسع لمفهوم المخالفة، لأن ما ورد النص به وما انعقد الإجماع عليه لم يقصد لعينه، بل لما يحققه من غرض. والقول بوجوب انحصار العقوبات التعزيرية في تلك الدائرة ينطوي على تضييق لا مبرر له، فقد تقضي ظروف الحياة ومصالح الجماعة بترشيح عقوبات أخرى يراها الإمام أجدى وأفعل، فيكون حظرها غير مفهوم العلة، بل يكون على خلاف العلة. والفرق بين الرأي المنتقد وما نراه يمكن إيجازه في أن الرأي المنتقد يعتبر أن الشرع الإسلامي نص على التعازير الجائزة وما عداها محظور، أما عندنا فإن أصول الشريعة تقضي بتحديد التعازير المحظورة وسائر ما عداها مما يحقق الغرض منها جائز شرعًا.

بل إنه ليس في الشريعة ما يوجب ترك اختيار العقوبة التعزيرية لمطلق تقدير القاضي من بين مجموعة العقوبات المحددة حصرًا أو الجائزة شرعًا. ولا يقدح في ذلك أن العمل جرى فيما سلف على منحه هذه السلطة باعتباره من أولي الأمر؛ فإن ما جرى عليه العمل ليس حكمًا ملزمًا، بل كان مجرد سياسة شرعية. وليس في الشرع ما يحول دون أن يقوم الإمام نفسه بحصر الجرائم التعزيرية وتحديد عقوبة لكل منها وإلزام القاضي عند ثبوت التهمة بتوقيع العقوبة المقررة لها دون سواها. وعلى ذلك فإن مسلك القانون الوضعي بتحديد عقوبة لكل جريمة وإلزام القاضي بالحكم بها دون غيرها لا يعد مخالفًا لأصول الشريعة في الجرائم التعزيرية، بل إن أصول الشريعة لا تأبى – بل تقبل – هذا الأسلوب في التعزير على تلك الجرائم(33).

وعلى الرغم من وضوح عبارة صاحب الرأي المنتقد، فيبدو لنا أنه عدل عنه؛ فقد صرح في نفس مؤلفه بأن مبادئ الشريعة لا تمنع من الأخذ بأية عقوبة أخرى تحقق أغراض الشريعة من العقاب(34)، كما نقل عن الماوردي وابن فرحون أن كل وسيلة تؤدي إلى إصلاح الجاني وتأديبه وحماية الجماعة من شره تعتبر عقوبة مشروعة(35). بل لقد كان أكثر صراحة حين قال: “وإذا كانت الشريعة قد عرفت عقوبات تعزيرية معينة فليس معنى ذلك أنها لا تقبل غيرها، بل إن الشريعة تتسع لكل عقوبة تصلح الجاني وتؤدبه وتحمي الجماعة من الإجرام”(36).

وعلى أي حال فإن اتساع دائرة العقوبات التعزيرية التي ذكرها صاحب هذا الرأي لسائر العقوبات المتصورة اليوم عقلاً لا يبرر الحجر على ولي الأمر وغل يده عن تقرير عقوبات أخرى قد يراها ملائمة مادامت غير محظورة شرعًا، ومن ثم فلا وجه لحصر العقوبات التعزيرية في قائمة محددة، لأن صورة العقوبة لا تعني الشارع لذاتها، وإنما الذي يعنيه غايتها، أي ما يمكن أن تحققه؛ فهي لا تعدو أن تكون وسيلة، ومن المقرر أن العبرة بالمقاصد لا بالوسائل ما لم تتعين شرعًا. وعلى ذلك فكل عقوبة تحقق المقصود من التعزير فهي مقبولة شرعًا بشرط ألا تخالف أصلاً من أصول الشريعة.

(28) وهذا يعني أن سلطة ولي الأمر في تحديد العقوبات التعزيرية ليست مطلقة، بل هي مقيدة بقيود تمليها نصوص الشريعة الخاصة من وجه، ومبادئها الكلية من وجه آخر. وترد هذه القيود في الجملة إلى أصلين مقررين، هما المشروعية والملاءمة، وكلاهما يحكم نوع التعزير ومداه. فالتعزير إنما شرع لغاية، هي منع الفساد بالزجر عنه وإصلاح مرتكبه. وما ينبغي له أن يخرج عن هذه الغاية ولا أن يقصر عنها، وإلا عاد على أصله بالنقض.

(29) أ- ومقتضى المشروعية ألا يسن ولي الأمر عقوبة يحظرها الشرع؛ ففيما عدا القتل تعزيرًا – وفيه الخلاف(37) – لا يجوز أن تكون العقوبة مهلكة أو متلفة. وإذا تعين القتل تعزيرًا وجب تنفيذه بأيسر الطرق وأخفها مئونة على المحكوم عليه، فلا يصح تعذيبه ولا التمثيل به، لأن الإسلام نهى عن المثلة، وأمر بالإحسان في كل شيء حتى في القتل والذبح ولو كانت الذبيحة حيوانًا. ولا يصح التعزير بجدع الأنف ولا بقطع الأذن أو الشفة أو الأنامل ونحو ذلك، لأن فيه إتلافًا لطرف محترم، ولأن فيه مثلة يحظرها الشرع. وإذا سقط القصاص في النفس أو في الطرف سواء بالعفو أو بالصلح على دية ورأى الإمام أن يعزر الجاني لم يجز له التعزير بعقوبة من جنس القصاص.

كذلك فإنه لا يصح أن تكون العقوبة شائنة ولو كان موجبها شائنًا، لأن حفظ كرامة الإنسان من مقاصد الشرع؛ فقد كرم الله الإنسان فلا يجوز لمخلوق أن يهدر كرامته ولو كان قد وقع منه هو ما حط من كرامة غيره. ولهذا لا يجوز تعزير من هتك عرض غيره بهتك عرضه، ولا من سب غيره بسبه، كما لا يصح التعزير بحلق الشارب أو اللحية ولا بتسخيم الوجه لما في ذلك من إهدار للكرامة.

ولا ينبغي كذلك أن يكون التعزير بإتلاف مال محترم كتخريب الدور وقلع الزروع وإتلاف الثمار والشجر، لما في ذلك من تبديد لنعمة حظ الجماعة منها كحظ مالكها، فلا خير لأحد في تبديدها، بل المصلحة في الحفاظ عليها والانتفاع بها، ما لم يكن في الإبقاء عليها ضرر يصيب الجماعة أكبر من الضرر الذي ينشأ عن إتلافها.

ومقتضى المشروعية أيضًا ألا يعاقب ولي الأمر على معصية من جنس الحد بعقوبة الحد ذاته؛ فلا يجوز التعزير على الشروع في السرقة ولا على السرقة ما دون النصاب بقطع اليد ولا بقطع أحد الأنامل. ولا يجوز العقاب على مقدمات الزنا التي ارتكبها محصن بالرجم، كما لا يصح العقاب على الشروع في القتل بالقتل. ذلك أن القطع والرجم والقتل – حدًا أو قصاصًا – عقوبات مرهونة بتوافر شروطها، فلا يجوز إيقاعها عند تخلف بعضها للتلازم بين المشروط وشروطه. يقول ابن القيم: من المعلوم أن النظرة المحرمة لا يصلح إلحاقها في العقوبة بعقوبة مرتكب الفاحشة، ولا الخدشة بالعود بالضربة بالسيف، ولا الشتم الخفيف بالقذف بالزنا والقدح في الأنساب، ولا سرقة اللقمة والفلس بسرقة المال الخطير العظيم(38).

ومقتضى المشروعية أيضًا أن تكون العقوبة واحدة بالنسبة لمرتكبي المعصية الواحدة، فلا ينبغي أن تختلف في نوعها ولا في مقدارها باختلاف دين الجاني مسلمًا أو غير مسلم، أو باختلاف جنسه ذكرًا كان أو أنثى، أو باختلاف مركزه الاجتماعي غنيًا كان أو فقيرًا، من العامة أو من علية القوم وطبقة الحكام. ذلك أن العدل وهو من مقاصد الشرع يوجب المساواة في المعاملة بين المتماثلين. على أن هذا لا يعني توقيع ذات العقوبة بتمامها على كل من ارتكب ذات المعصية دون اعتبار لحال الفاعل – كسنه – أو للظروف التي كانت محيطة به وقت ارتكاب المعصية مما يوجب تفريد العقاب. ولا تناقض بين هذا التحفظ والأصل الذي قدمناه؛ ذلك أن المساواة المطلقة قد يفوت بسببها الغرض من العقاب فيكون في العقوبة إفراط أو تفريط. وإنما تكون المساواة حيث يتساوى الجناة في العناصر الفاعلة، وهي الدوافع والأوضاع التي حملت الجاني على ارتكاب المعصية والتي تتجه العقوبة إليها لاستئصال جذورها حتى تكون العقوبة محققة للغرض منها، وهي الصد عن الوقوع في حمأة الإجرام.

(30) ب- أما الملاءمة فمقتضاها أن يكون هناك تناسب بين العقوبة التي تصيب الجاني ووطأة المعصية على الجماعة. وهذا أيضًا هو ما يوجبه العدل، إذ ينبغي أن يكون هناك تكافؤ بين السيئة وجزائها، امتثالاً لقوله تعالى: ]وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا[ [الشورى: 40]، فإذا اختل التناسب اختل ميزان العدل، فتكون العقوبة إما مسرفة في الشدة أو مفرطة في اللين، وكلاهما يحول دون تحقيقها للمقصود منها.

غير أن التناسب – أو التماثل بين السيئات – لا يقتضي بالضرورة أن تكون صورة العقوبة مماثلة لصورة العدوان. وحسْب العقوبة أن تكون زاجرة ومقومة، أي مانعة للجاني من العود ومطهرة لنفسه من الشر، ومانعة لغيره من التأسي به حذرًا من أن ينـزل به ما نزل بالجاني. وهذا الغرض بشقيه يتحقق عندما تصيب العقوبة الجاني في حق من حقوقه فتذيقه قدرًا من الألم يكفي لزجره وتقويمه. وإذا كان شرط المشروعية هو الذي يحدد ما يصلح من الحقوق – وما لا يصلح – أن يكون محلاً للعقاب، فإن شرط الملاءمة هو الذي يحدد نوع العقوبة ومداها بما يكفل تحقيق الغرض منها بغير تفريط ولا إفراط.

الضابط الشرعي في التقسيم الثلاثي للجرائم:

(31) يذهب بعض الفقهاء المعاصرين إلى أن تقسيم الجرائم في القانون الوضعي إلى جنايات وجنح ومخالفات يتلاقى في الجملة مع تقسيم الجرائم في الفقه الشرعي إلى جرائم حدود وجرائم قصاص وجرائم تعزير، وأن الجامع بين التقسيمين هو طبيعة وأهمية الحق المعتدي عليه ودرجة العدوان الواقع عليه ومدى جسامة العقوبة المقررة له. ويرى أصحاب هذا الرأي أن الشريعة تشددت في جرائم الحدود والقصاص لمساسها بكيان المجتمع، واتجهت في اختيار العقوبة وتقديرها إلى حمايته وأهملت شخصية الجاني تمامًا إلا إذا عفا عنه المجني عليه أو وليه في جرائم القصاص والدية، أما جرائم التعزير فإنها وإن مست مصالح المجتمع إلا أنها لا تمس بها مساسًا خطيرًا، ولهذا كانت الشريعة منطقية حين ميزت بين هذه الجرائم والجرائم الأخرى من حيث العقوبة نظرًا لما بينها من تفاوت في الخطورة(39).

وهذا الرأي غير مقبول في أساسه، وهو يحمل في ثناياه أسباب أطراحه. ولو صح لوجب أن تكون العقوبات التعزيرية هي أهون العقوبات الشرعية مادامت الجرائم التعزيرية هي أقل المحظورات الشرعية جسامة. ولما كان التناسب بين جسامة العقوبة وجسامة الجريمة من المسلمات في كل الشرائع، دينية كانت أو وضعية، فالأمر لا يقتضي عناء كبيرًا للتحقق من أن تقسيم العقوبات الشرعية إلى حدود وقصاص وتعزير لا يقوم على أساس التدرج في الجسامة. فالجلد عقوبة حدية في حين أن التعزير قد يبلغ في بعض الجرائم مبلغ القتل، فكيف يسوغ إطلاق القول بأن الحد المعاقب عليه جلدًا أشد خطورة من الجريمة المعاقب عليها بالقتل تعزيرًا! ولهذا فإن ضابط التقسيم لا يمكن أن يكون كامنًا في جسامة الجريمة، بل يجب أن يكون كامنًا في أمر آخر.

(32) والصحيح عندنا أن الضابط الشرعي للتقسيم الثلاثي للجرائم إن كان يتفق مع الضابط القانوني في أساسه، وهو العقوبة، إلا أنه يختلف عنه من حيث زاوية النظر إليها. فالنظر القانوني للعقوبة ينصرف إليها من حيث مدى جسامتها. ولهذا كانت المخالفات هي الجرائم التي تقررت لها أهون العقوبات، أما الجنايات فهي الجرائم التي تقررت لها أقسى العقوبات، وأما الجنح فهي الجرائم التي تقررت لها أوسط العقوبات. أما النظر الشرعي للعقوبة – كضابط التقسيم – فيتجه إليها من حيث من يتولى تقريرها وتقديرها. فإن كان الأمر موكولاً إلى صاحب الشرع مباشرة، فهذا هو الحد بمعناه الواسع، وإن كان موكولاً إلى ولي الأمر فهذا هو التعزير، وذلك بغض النظر عن جسامة العقوبة وعن طبيعة الحق المعتدى عليه. وهذا الضابط هو ما تتميز به الشريعة الإسلامية بوصفها تشريعًا سماويًا. ولا يمكن أن يكون لهذا الضابط نظير في التشريع الوضعي حيث ينفرد ولي الأمر فيه بسلطة التجريم والعقاب.

ثم الحدود – كما ذكرنا – قسمان: قسم لا يدخله العفو، ويشمل الحدود بمعناها الضيق، وقسم يدخله العفو، ويشمل القصاص والدية. وتتميز الحدود بقسميها بأنها واجبة على التمام، فلا يجوز إبدالها ولا تخفيفها ولا الزيادة فيها، لأن هذا مؤدى كونها مقدرة شرعًا. ولذلك فهي ثابتة على الدوام مهما تختلف أحوال الجناة أو تتباين ظروف الجريمة. ومن هنا كانت عناية فقهاء الشريعة بجرائم الحدود بمعناها الواسع؛ فالناظر في آثارهم يلحظ مدى الجهد الذي بذلوه في شرح أحكامها بتفصيل يثير الإعجاب، وذلك على خلاف تناولهم للتعزير؛ فبحوثهم فيه تتسم بالإيجاز والتعميم، واهتمامهم به لا يشمل التطبيقات أو مفردات الجرائم، بل يقتصر على الأحكام العامة، وبوجه خاص على وجوه الخلاف بينه وبين الحدود. وللسبب عينه حرص فقهاء الشريعة على بيان أركان الحد وشروطه، وذهب جمهورهم بحس فقهي دقيق إلى استنباط شروط لم تصرح بها النصوص، توقيًا لإيقاع الحد في غير أحواله، أو حيث لا يكون إيقاعه ملائمًا أو حيث يكون صادمًا. وعللوا ذلك بأن الحد عقوبة محضة فيستدعي جناية محضة. وأدركوا أن عامة الحدود لا يمكن تداركها إذا أخطأ القاضي في إيقاعها، فعنوا بدرئها بالشبهة. وعلى الرغم من عموم نظرية الشبهة – لدى الكثيرين – واتساعها لمطلق العقوبة – حدًا كانت أو تعزيرًا – فإن عناية الفقهاء بها تتجلى في باب الحدود بمعناها الواسع أكثر مما تتجلى في باب التعزير.

(33) وربما أثارت جرائم الحدود تساؤلات في ذهن المسلم وغير المسلم على السواء: لماذا حصر الشارع هذه الجرائم في طائفة معينة بذاتها؟ ولماذا خص كلاً منها بعقوبة تختلف عن عقوبة غيرها؟ ولماذا جعل عقوبة الحد ثابتة باطراد لا تتأثر بجسامة العدوان ولا بظروف الفاعل؟ ولماذا خالف بين مقدار العقوبة – عند اتحادها في الجنس – تبعًا لاختلاف الحد؟ ولماذا حظر فيها العفو؟

وقد خلت كتب الفقه بوجه عام من تقديم إجابة عن جملة هذه التساؤلات. والملاحظ أن الفقهاء صرفوا اهتمامهم إلى بيان أحكام الحدود أكثر من اهتمامهم بتعليل هذه الأحكام. غير أن ابن القيم حاول في “إعلام الموقعين” أن يجيب عن بعض هذه التساؤلات. وكان مما قاله: إن الله شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض في النفوس والأبدان والأعراض والأموال، كالقتل والجراح والقذف والسرقة، فأحكم سبحانه وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع(40). وقال: “ومن المعلوم ببدائة العقول أن التسوية في العقوبات مع تفاوت الجرائم غير مستحسن، بل مناف للحكمة والمصلحة، فإنه إن ساوى بينها في أدنى العقوبات لم تحصل مصلحة الزجر، وإن ساوى بينها في أعظمها كان خلاف الرحمة والحكمة، إذ لا يليق أن يقتل بالنظرة والقبلة، ويقطع بسرقة الحبة والدينار، وكذلك التفاوت في العقوبات مع استواء الجرائم قبيح في الفطر والعقول، وكلاهما تأباه حكمة الرب تعالى وعدله وإحسانه إلى خلقه، فأوقع العقوبة تارة بإتلاف النفس إذا انتهت الجناية في عظمها إلى غاية القبح، كالجناية على النفس أو الدين أو الجناية التي ضررها عام؛ فالمفسدة التي في هذه العقوبة خاصة، والمصلحة الحاصلة بها أضعاف أضعاف تلك المفسدة”(41). وقال: “وتأمل كيف جاء إتلاف النفوس في مقابلة أكبر الكبائر وأعظمها ضررًا وأشدها فسادًا للعالم، وهي الكفر الأصلي والطارئ، والقتل، وزنا المحصن. وإذا تأمل العاقل فساد الوجود رآه من هذه الجهات الثلاث. ثم روى ابن القيم حديث ابن مسعود وفيه: قال يا رسول الله: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًا وهو خلقك، قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك. وأضاف ابن القيم: ثم لما كان سرقة الأموال تلي ذلك في الضرر – وهو دونه – جعل عقوبته قطع الطرف، ثم لما كان القذف دون سرقة المال في المفسدة جعل عقوبته دون ذلك، وهو الجلد، ثم لما كان شرب المسكر أقل مفسدة من ذلك جعل حده دون هذه الجنايات كلها، ثم لما كانت مفاسد الجرائم بعد متفاوتة غير منضبطة في الشدة والضعف والقلة والكثرة – وهي ما بين النظرة والخلوة والمعانقة – جعلت عقوباتها راجعة إلى اجتهاد الأئمة وولاة الأمور بحسب المصلحة في كل زمان ومكان، وبحسب أرباب الجرائم في أنفسهم؛ فمن سوى بين الناس في ذلك، وسوى بين الأزمنة والأمكنة والأحوال لم يفقه حكمة الشرع، واختلفت عليه أقوال الصحابة وسيرة الخلفاء الراشدين وكثير من النصوص(42).

ورد ابن القيم على شبهة من اعترض على المغايرة بين عقوبة السارق وعقوبة كل من الزاني والقاذف، حيث قضت الشريعة بقطع يد السارق التي ارتكب بها السرقة، ولم تقض بقطع فرج الزاني ولا بقطع لسان القاذف، وقد بوشر الزنا بأولهما وبوشر القذف بالثاني. ودفع ابن القيم هذه الشبهة بقوله: أما معاقبة السارق بقطع يده وترك معاقبة الزاني بقطع فرجه، ففي  غاية الحكمة والمصلحة، وليس من حكمة الله ومصلحة خلقه وعنايته ورحمته بهم أن يتلف على كل جان كل عضو عصاه به، فشرع قلع عين من نظر إلى المحرم، وقطع أذن من استمع إليه، ولسان من تكلم به، ويد من لطم غيره عدوانا، ولا خفاء فيما في هذا من الإسراف والتجاوز في العقوبة وقلب مراتبها … وإنما المقصود الزجر والنكال والعقوبة على الجريمة، وأن يكون إلى كف عدوانه أقرب، وأن يعتبر به غيره، وأن يحدث له ما يذوقه من الألم توبة نصوحًا. ثم بين ابن القيم عليه قطع اليد في السرقة فقال: إن السرقة إنما تقع من فاعلها سرًا، والعازم على السرقة متخفً كاتم خائف أن يشعر بمكانه فيؤخذ به، ثم هو مستعد للهرب والخلاص بنفسه إذا أخذ الشيء، واليدان للإنسان كالجناحين للطائر، فعوقب السارق بقطع يده قصًا لجناحه. وقال عن الزنا: إن الزاني يزني بجميع بدنه، والتلذذ بقضاء شهوته يعم البدن، فعوقب بما يعم بدنه من الجلد مرة والقتل بالحجارة مرة. ثم إن قطع فرج الزاني فيه من تعطيل النسل، وقطعه عكس مقصود الرب تعالى من تكثير الذرية، وفيه من المفاسد أضعاف ما يتوهم فيه من مصلحة الزجر، وفيه إخلاء جميع البدن من العقوبة، وقد وصلت جريمة الزنا بجميع أجزائه، فكان من العدل أن تعمه العقوبة، ثم إنه غير متصور في حق المرأة، وكلاهما زان، فلابد أن يستويا في العقوبة، فكان شرع الله سبحانه أكمل من اقتراح المقترحين(43).

وذكر القرافي بيانًا لوجوه الخلاف بين الحدود والتعازير أن التعزير يجري على وفق الأصل من جهة اختلافه باختلاف الجنايات، وأن هذا الأصل خولف في الحدود، فسوى الشرع بين سرقة دينار وسرقة ألف دينار وشارب قطرة من الخمر وشارب جرة في الحد مع اختلاف مفاسدها(44). وحاول العز بن عبد السلام تعليل الخروج على هذا الأصل في الحدود، فذكر أن العقوبات العاجلة قد تتساوى مع تفاوت الزلات مع أن الأغلب تفاوت العقوبات بتفاوت المخالفات، فإن من شرب قطرة من الخمر مقتصرًا عليها يحد كما يحد من شرب ما أسكره وخبل عقله مع تفاوت المفسدتين. وأضاف: فإن قيل هل يكون وزر من سرق ربع دينار كوزر من سرق ألف دينار لاستوائهما في القطع؟ قلنا: لا، بل يتفاوت وزرهما في الدار الآخرة بتفاوت مفسدة سرقتيهما. والقطع الواجب في الألف متعلق بربع دينار من الألف، ولا يلزم من الاستواء في العقوبة العاجلة الاستواء في العقوبة الآجلة، ويجوز أن يجاب بمثل هذا في حدي القطرة والسكرة. ثم أردف قائلاً: لكن الحدود كفارة لأهلها، فقد استويا في الحدين وتكفير الذنبين، وفي السرقتين استويا في المفسدتين، وهما أخذ ربع دينار، فيكفر الحدان ما يتعلق بربع الدينار من السرقتين، ويبقى الزائد إلى تمام الألف لا مقابل له ولا تكفير(45).

(34) دور نظرية المقاصد في ضبط أحكام الحدود:

لما كانت الحدود – بمعناها الواسع – ثابتة بالتوقيف تجريمًا وعقابًا، فقد عنى فقهاء الشريعة عناية شديدة بضبط أحكامها حتى تكون – مع التزام النص – سائغة في العقل ومحققة لمقصود الشرع. وقد تعددت وسائل الفقهاء في هذا الشأن، ويمكن بالاستقراء حصر وسائلهم في خمس: اثنتان منها تتعلقان بالسند الشرعي للحد، واثنتان تتعلقان بشروط ثبوته وأسباب امتناعه، والخامسة بكيفية إثباته.

(35) أولاً: السند الشرعي للحد هو النص:

المصادر الأصلية للأحكام الشرعية عند علماء الأصول – كما هو معلوم – أربعة، وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس. ونصوص الكتاب كلها قطعية الثبوت، أما نصوص السنة فمنها ما هو قطعي الثبوت، وهي المتواترة، ومنها ما هو ظني الثبوت وهي غير المتواترة. والحدود بمعناها الواسع لا تثبت إلا بالنص، وبشرط أن يكون قطعي الثبوت. وذلك لأنها عقوبات مقدرة، والتقدير لا يكون إلا بنص قطعي يحدد الجريمة ويعين العقوبة المقررة لها. وقد ثبت حدا الحرابة والسرقة في سورة المائدة بالآيات رقم 33، و34، و38، وثبت حد الزنا – بالنسبة لغير المحصن – وكذلك حد القذف في سورة النور بالآيات رقم 2، و4، و5، أما رجم الزاني المحصن فثبت بالسنة النبوية، وأما القصاص فثبت في سورة البقرة بالآية رقم 178 .

وثم حدود فيها الخلاف، وهي الردة والبغي وشرب الخمر. وهذه الأفعال كبائر، بل منها ما هو أكبر الكبائر، وقد وردت بتحريم هذه الأفعال نصوص قطعية في الكتاب والسنة، إلا أنها خلت من تقرير عقوبة محددة لكل فعل منها، ولهذا فالراجح أن هذه الأفعال لا تندرج ضمن الحدود لتجرد النصوص التي تحرمها من أبرز خصائص الحد، وهي العقوبة المقدرة.

(36) ثانيًا: امتناع القياس كمصدر شرعي للحد:

اختلف الفقهاء في مدى جريان القياس في الحدود، فمنعه الأحناف وجوزه غيرهم. واحتج المانعون بأن الحدود مشتملة على تقديرات لا تعقل كعدد المائة في الزنا والثمانين في القذف؛ فإن العقل لا يدرك الحكمة في اعتبار خصوص هذا العدد، والقياس فرع تعقل المعنى في حكم الأصل، فما لم يدرك علته لا يقاس عليه. وأضاف المانعون إلى هذه الحجة حججًا أخرى. ورد المجيزون بأن الأدلة النصية التي دلت على حجية القياس لم تختص بما عدا الحدود والكفارات والتقديرات، بل هي متناولة لجميع الأحكام، وأنه من الممكن عقلاً أن يشرع الشارع الحد لأمر مناسب ثم يوجد ذلك المناسب في شيء آخر فتكون معقولية التقادير فيه غير ممتنعة.

ولا نرى محلاً لبسط القول في أدلة الفريقين لأن اختلافهما فيما نحن بصدده نظري إلى حد كبير؛ فلم يحدث أن وقع النزاع بينهما في حد بعينه – خارج قائمة الحدود المتعارف عليها – لم يرد نص بشأنه وأراد المجيزون تقريره بطريق القياس. وإنما الحدود مقصورة منذ قرون طويلة وقبل أن تنشأ المذاهب الفقهية على طائفة محدودة من الجرائم، منها ما هو محل اتفاق، ومنها ما وقع فيه الخلاف، ولم يثبت أن مجيزي القياس أضافوا إليها حدًا آخر كان محل إنكار من قبل نفاة القياس. وإذا كان الخلاف بين الفقهاء لم يثر بشأن استحداث حد جديد بطريق القياس على حد آخر، فقد ثار الخلاف بينهم بشأن إلحاق أمر بأمر آخر معاقب عليه بعقوبة الحد لاتحاده معه في العلة واعتبار الأول كالثاني داخلاً تحت مظلة نفس الحد، من ذلك اختلافهم في سرقة الحر الصغير، فقد اعتبره البعض سرقة موجبة للحد، واختلافهم في اللواط ووطء الموتى وإتيان البهيمة، فقد اعتبره البعض زنا، إلا أن جمهور الفقهاء على عدم القطع في سرقة الصغير، وعلى عدم إقامة حد الزنا على وطء غير الأنثى الحية. وليس في هذا الخلاف قياس حد على حد، ولكنه خلاف في مضمون بعض شروط الحد.

ولا يقدح فيما ذكرناه من نفي القياس ما قيل في حد شارب الخمر؛ فقد نسب المجيزون إلى علي بن أبي طالب أو إلى عبد الرحمن بن عوف قوله: إنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فيحده حد القذف، وهذا دليل عندهم على جواز القياس في الحدود. وهذا الاستدلال في غير محله، لأن حد الشرب عند القائلين به لا يجد سنده الشرعي في قياس علي رضي الله عنه، بل السائد أن سنده السنة وإجماع الصحابة، ومن المسلم أنه لا يصار إلى القياس إذا كان نص أو إجماع.

والخلاصة أن السند الشرعي الوحيد للحدود هو النص، ولا يغني عنه القياس.

(37) ثالثًا: شروط الحدود في الجملة هي من اجتهاد الفقهاء:

ذكرنا أن السند الشرعي للحد هو النص، وأشرنا إلى النص القرآني الوارد في شأن كل حد. غير أن من يطالع هذه النصوص يدرك أنها شديدة الإجمال عسيرة الإعمال بحالتها لإيقاع العقوبات المقررة فيها. وقد تكفلت السنة النبوية وكذلك عمل الصحابة من بعده r غير قليل من شروط الحدود. ثم توافر فقهاء المذاهب من بعد على تفصيل أحكام كل حد، فبينوا الشروط الواجب توافرها في الجاني، وفي الفعل الموجب للحد، وفي المحل الذي يرد عليه الفعل وفي العقوبة المقررة لكل حد، وفيمن له استيفاؤها، وكيفية هذا الاستيفاء، وشروطه. ولم تتفق أراء المذاهب في كل ذلك، بل كان الخلاف بينها واضحًا في كثير من المسائل، إلا أنه مع ذلك كان اختلافًا في الفروع والتفاصيل لا في الأصول. ويرجع اهتمامهم الشديد بجرائم الحدود إلى أنها تمس كيان المجتمع، لما فيها من عدوان على عديد من ركائزه المتمثلة في أمنه وحياة أفراده وأموالهم وأعراضهم، وأن العقوبات المقررة لها صارمة، فهي ذات حد ثابت لا تقبل التدرج أو التفاوت لأي سبب، ولا تقبل الإبدال، ولا يملك ولي الأمر العفو عنها. وعلل الفقهاء عنايتهم الشديدة بالحدود بقولهم إنها عقوبات محضة فتستدعي جنايات محضة.

ولا نرى بأسًا من الإشارة مرة أخرى إلى السرقة كمثال على الجهد الذي بذله الفقهاء لضبط أحكامها – بوصفها حدًا – وعلى الخلاف بينهم فيها:

فقد اشترطوا في السارق أن يكون بالغًا عاقلاً مختارًا غير مضطر. ولن نعرض هنا لاختلاف المذاهب في مناط البلوغ والعقل والاختيار، فقد تكفلت ببيان ذلك مدونات الفقه فضلاً عن كتب الأصول. أما محل السرقة فقد اشترط جمهور الفقهاء فيه أن يكون مالاً منقولاً محترمًا مملوكًا للغير في حرز مثله وألا تقل قيمته وقت السرقة عن نصاب. واختلفوا اختلافًا كبيرًا في كل شرط من هذه الشروط. أما شرط المالية فقد اختلفوا في هل يكفي ثبوت أصل المالية أو يجب أن تكون المالية مطلقة. والمال المطلق عندهم هو ما جرت عادة الناس بتموله وادخاره لوقت الحاجة، وغير المطلق ما ليس كذلك وإن تموله الناس أحيانًا وتعاملوا فيه بالبيع والشراء. ومن الأموال غير المطلقة الأموال التافهة جنسًا. كالتراب والفخار والتبن والحطب، ومنها ما يوجد جنسه مباحًا في الأصل بصورته، كالماء والسمك والملح والرمل والحجارة، ومنها ما يتسارع إليها الفساد، كاللحم واللبن والفاكهة. واختلفوا كذلك في سرقة المصحف وكتب العلم. واشترطوا في المال كذلك أن يكون محترمًا أي متقومًا، وهو ما يحل تملكه وبيعه، أي ما يباح الانتفاع به شرعًا. واختلف الفقهاء فيما إذا كان يشترط أن يكون المال محترمًا بإطلاق أو يكفي أن يكون كذلك بالنسبة لقوم دون قوم أو في حال دون حال، كما هو الشأن في خمر الذمي وخنـزيره. واختلفوا كذلك في سرقة ما يجوز اتخاذ أصله وبيعه إذا صنع منه ما لا يجوز استعماله، كآلات اللهو، كما اختلفوا في سرقة ما يستخدم في العادة لأغراض مشروعة إذا انحرف به صاحبه فصرفه إلى غرض محرم كأوعية الخمر، فارغة كانت أو مملوءة. ولو شئنا تعقب بقية شروط المحل في السرقة الحدية لطال بنا الحديث، وحسبنا ما ذكرنا لإثبات دور الفقه في بناء نظرية متكاملة لكل حد من حيث هو جريمة تختص بعقوبة محددة. ومن الإنصاف أن نقرر أن الفقه لم يصطنع ذلك اصطناعًا ولا أتى بآرائه من فراغ، بل فعل كل مذهب ذلك انطلاقًا من المبادئ الشرعية العامة والتزامًا بأصوله الخاصة واستنباطًا من أحاديث صحت لدى فقهائه.

رابعًا: أسباب امتناع الحد:

نقصد بموانع الحد الأسباب التي تحول دون إيقاعه شرعًا رغم وقوع موجبه أو إمكان وقوعه ظاهرًا. ولعل أشهر هذه الأسباب ما اصطلح الفقهاء على تسميته بالشبهة(46). ويعرفها بعضهم بأنها ما يشبه الثابت وليس بثابت، ويعرفها آخرون بأنها وجود المبيح صورة مع انعدام حكمه أو حقيقته، ويعرفها بعض المحدثين بأنها الحال التي يكون مرتكب الحد فيها معذورًا عذرًا يسقط الحد عنه أو يستبدل به عقاب دونه على حسب ما يرى الحاكم. والشبهة عندنا حال تخل بكمال أحد الأركان أو الشروط التي يتوقف عليها العقاب. ذلك أنه لما كان الحد عند وجوبه متعين الإقامة بتمامه، فكذلك سببه يتعين ثبوته على وجه الكمال. فإن اعترى ركنه أو شرطًا من شروطه ما يخل بكماله كان ذلك نقصانًا في السبب موجبًا لدرء الحد. وعلى الرغم من أن نظرية الشبهة لا تقتصر على الحد – بمفهومه الواسع – بل تتسع كذلك للتعزير بوصفه عقوبة أيضًا، إلا أن الحاجة إلى حكم الشبهة في مجال الحد أشد لأن الحد – بوصفه عقوبة مقدرة شرعًا – لا يقبل العفو ولا النقص ولا الإبدال حتى وإن قارنته ظروف أو أحوال قد يرى أنه يحسن معها العفو أو التخفيف أو الإبدال، وذلك بخلاف التعزير حيث يملك ولي الأمر أن يعزر بقدر ما يقتضيه الحال: حال الجاني وحال الجريمة المرتكبة. وهذه المكنة تغنيه عن تلمس الإعفاء أو التخفيف في نظرية الشبهة. ولهذا كان لجوء الفقهاء إلى نظرية الشبهة في مجال التعزير محدودًا، أما شبهات الحدود فكانت كثيرة(47).

ونعرض في هذا المقام لبعض شبهات القصاص كمثال – وهي كثيرة – منها شبهة الصيغة، وشبهة المحل، وشبهة الفعل، وشبهة الحق، وشبهة عدم القصد. وسوف نجتزئ برأي الأحناف في هذه الشبهات.

أما شبهة الصيغة فمثالها أن يقول رجل لآخر اقتلني فيقتله. وفي الفقه خلاف حول ثبوت القصاص في هذه الحال. يقول الكاساني إن الأمر بالقتل إن كان لا يقدح في عصمة المقتول، لأن عصمة النفس لا تحتمل الإباحة، إلا أن العصمة في هذه الحالة تمكنت منها شبهة العدم. فالأمر – أو الإذن – بالقتل إن لم يصح حقيقة فصيغته تورث شبهة، والشبهة في هذا الباب لها حكم الحقيقة(48).

وأما شبهة المحل فمن قبيلها قتل الوالد ولده، لأن الولد جزء منه. وحجة القائلين بذلك قوله r: “لا يقتل والد بولده”، وقوله: “أنت ومالك لأبيك”. وقالوا: قضية هذه الإضافة تمليكه إياه، فإذا لم تثبت حقيقة الملكية بقيت الإضافة شبهة في درء القصاص. وكالأب الأم والجد لأي من الأبوين(49). ومن قبيل هذه الشبهة أيضًا أن يقتل مسلم أو ذمي كافرًا حربيًا، لأنه غير معصوم الدم مطلقًا. واختلفوا كذلك في قتل الباغي بالعادل، لأن الباغي يستحيل دم العادل بتأويل، وهو إن كان تأويلاً فاسدًا إلا أنه يورث شبهة(50).

وأما شبهة الفعل فمنها أن يكون القتل تسببًا، لأنه لا يساوي القتل مباشرة، إذ هو قتل معنى لا صورة، بخلاف القتل مباشرة فهو قتل صورة ومعنى. ولهذا فلا قصاص على من حفر بئرًا على قارعة الطريق فوقع فيها إنسان ومات، لأن الحفر قتل سببًا لا مباشرة(51).

وأما شبهة الحق فمنها أن يتعدد الجناة ثم يعفو ولي الدم عن أحدهم. وفي الفقه الحنفي خلاف حول سقوط القصاص عن الآخرين. ويرى أبو يوسف أن هذا العفو يورث شبهة في حق الآخرين فلا يقتص منهم، لأن إيجاب القصاص عليهم يقتضي جعل كل منهم قاتلاً على الانفراد وكأن ليس معه غيره، إذ القتل تفويت الحياة، ولا يتصور تفويت حياة واحدة من كل واحد منهم على الكمال، فيجعل كل واحد منهم قاتلاً على الانفراد، ويجعل قتل الآخرين عدمًا في حقه، فإذا عفا عن أحدهم، والعفو عن القاتل جعل فعل الآخرين عدمًا تقديرًا، فيورث شبهة، والقصاص لا يستوفي مع الشبهة(52).

ومن قبيل شبهة عدم القصد عند الأحناف أن يخرج القتل بضربة أو ضربتين على قصد القتل، لأنه يشترط لوجوب القصاص أن يكون القتل عمدًا محضًا ليس فيه شبهة العدم. والعمد المطلق هو العمد من كل وجه، ولا كمال مع شبهة العدم، لأن الشبهة في هذا الباب ملحقة بالحقيقة، ولأن الضربة أو الضربتين مما لا يقصد به القتل عادة فتمكنت في القصد شبهة العدم. ولهذا السبب يرى الأحناف أن الموالاة في الضربات لا توجب القصاص، خلافًا لغيرهم(53).

على أنه إذا كان من شأن الشبهة أن تدرأ الحد، فإنها لا تمنع التعزير بالضرورة، لأن الفعل وإن إندرأ الحد فإنه يظل معصية. ولهذا يصح لولي الأمر أن يعاقب الجاني على فعلته بما يراه مناسبًا.

خامسًا: الاحتياط في إثبات الحد:

(38) أحاط الفقهاء إثبات الحدود بما لم يحيطوا به إثبات الجرائم التعزيرية من ضمانات؛ فالجمهور يخص الحدود بطرق إثبات خاصة ويقيد كلاً منها بقيود صارمة إن تخلف أحدها امتنع ثبوت الحد. وعلى هذا الاحتياط ظاهرة؛ فقد ذكرنا أن الحد إذا ثبت وجبت إقامته بتمامه دون اعتبار لحال الفاعل أو لظروف الجريمة. أما التعزير فأمره مفوض إلى ولي الأمر يقدر له من العقوبة ما يرى مراعيًا في ذلك جسامة الجرم وحال الفاعل وظروف الجريمة. ولهذا ترخص الفقهاء في إثبات الجرائم التعزيرية، فأجازوا إثباتها بما تثبت به سائر حقوق العباد، سواء وقعت الجريمة عدوانًا على حق العبد أو على حق الله. يقول الكاساني بيانًا لما يظهر به التعزير إنه يظهر بما يظهر به سائر حقوق العباد من الإقرار والبينة والنكول وعلم القاضي، ويقبل فيه شهادة النساء مع الرجال، والشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي كما في سائر حقوق العباد(54). أما الحدود فلا تثبت عند الجمهور إلا بالإقرار أو البينة(55). واشترطوا في كل منهما شروطًا حالت دون ثبوت الحد في العهود التي طبقت فيها الشريعة على هدى مما يقتضيه عدلها وحزمها والوعي الصحيح بأحكامها – ونعني بذلك عهد النبوة والخلافة الراشدة – إلا في حالات جد محدودة ترددها مدونات الفقه ولا نكاد نعثر فيها على غيرها. وأغلب هذه الحالات لم تثبت بشهادة الشهود، بل ثبتت بالإقرار وحده.

وتدليلاً على صحة ما ذكرنا من شدة احتياط الفقه في إثبات الحدود، فإننا نورد بإيجاز – ومن باب التمثيل للاستشهاد – الشروط التي شرطها الفقهاء للاعتداد بالإقرار كطريق لإثبات الحد؛ فقد اشترطوا في المقر البلوغ والعقل والاختيار. واشترطوا في الإقرار أن يكون متناهيًا في البيان؛ فإن كان إقرارًا بالزنا سئل عن الزنا ما هو، وكيف هو، وأين زنى، وبمن زنى ومتى زنى ليزول الاحتمال. وإن كان إقرارًا بالسرقة وجب أن يحدد الفعل الذي أتاه، والمال الذي أخذه، ومقداره، والحرز الذي أخرجه منه. ويشترط الأحناف أن يكون الإقرار بالخطاب والعبارة دون الكتابة والإشارة، حتى إن الأخرس لو كتب الإقرار في كتاب أو أشار إليه إشارة معلومة لا حد عليه، لأن الشرع علق وجوب الحد بالبيان المتناهي. ولنفس السبب فلو أقر بالوطء الحرام لا يقام عليه الحد ما لم يصرح بالزنا. واشترطوا في الإقرار كذلك ألا يكون هناك معارض يكذبه أو يثير شبهة في صدقه؛ فإن كان الإقرار بالزنا وجب أن يكون المقر ممن يتصور وقوع الزنا منه، فلا يعتد بإقرار المجبوب لانعدام آلته. ولو أقر أنه زنى بفلانة فكذبته أو أقرت أنها زنت بفلان فكذبها فلا حد على أحدهما عند بعض الفقهاء. وإذا أقر بالسرقة فقال المالك لم تسرق مني ولكن غصبت مالي أو جحدت وديعتي لم يقطع في بعض المذاهب، لأن إقراره لم يوافق دعوى المجني عليه. وإذا أقر شخص بلا سبق دعوى عليه أنه سرق مال زيد الغائب لم يقطع في الحال ولو توافرت في إقراره شروط الحد، بل ينتظر حضور صاحب المال ومطالبته – عند بعض المذاهب – لأنه ربما حضر وأقر أنه كان أباح له المال أو يقر له بالملك. بل إن من الفقهاء من يرى أنه لو سرق مال صبي أو مجنون أو سفيه وجب التربص حتى يبلغ الصغير أو يبرأ المجنون من آفته أو تزول حالة السفه. ويشترط بعض الفقهاء في الإقرار بالزنا أن يكون المزني به ممن يقدر على دعوى الشبهة؛ فلو أقر رجل أنه زنى بامرأة خرساء أو أقرت امرأة أنها زنت بأخرس لم يصح الإقرار، لأنه من الجائز أن الشخص الآخر لو كان يقدر على النطق لادعى النكاح أو أنكر الزنا فيندرئ الحد. بل إنه لا يكفي في بعض المذاهب أن يقر السارق بالسرقة لكي يقطع، بل إن ذلك لا يجب حتى يحضر المال الذي أقر بسرقته. ومن شروط الإقرار كذلك أن يكون أمام القاضي، فإن أقر أمام غيره لم يجز إقراره عند أبي حنيفة، وإذا شهد الشهود على هذا الإقرار لم تقبل شهادتهم. ولا يصح للقاضي أن يحتال للحصول على الإقرار – ولا أن يكره عليه بالأولى – ولا بأس من أن يظهر الكراهة له، بل إنه يستحب له أن يلقن المقر ما يسقط الحد، فقد روى أن النبي r أتى بسارق فقال: “أسرقت؟ ما إخاله سرق”. وروي عن ابن مسعود أنه أتى بسوداء يقال لها سلامة، فقال: أسرقت؟ قولي لا، قالوا: أتلقنها؟ قال: جئتموني بأعجمية لا تدري ما يراد بها حين تقر فأقطعها! ويشترط كثير من الفقهاء تكرار الإقرار، فلا يقام الحد عندهم بالإقرار مرة واحدة. فإن كان الإقرار بالزنا وجب أن يقر الزاني – عند أبي حنيفة وأحمد – أربع مرات، وإن كان الإقرار بالحرابة أو السرقة وجب أن يكون مرتين. ويعللون ذلك بأن الحد خالص حق الله فيلزم مراعاة الاحتياط باشتراط العدد، وذلك على خلاف حق الآدمي، فحقه مبني على الشح والتضييق، ومن ثم لا يلزم في الإقرار به العدد، بل يكفي أن يكون لمرة واحدة. ويقول الفقهاء إن الإقرار أحد حجتي الحد، فيعتبر فيه العدد كالشهادة عليه. ومن الفقهاء من يشترط تعدد المجالس عند تعدد الإقرار، فلا يكفي لثبوت الحد أن يتكرر الإقرار أمام القاضي في مجلس واحد، بل يجب أن يختص كل إقرار بمجلسه. وإذا استوفى الإقرار بالحد شروطه جاز للمقر أن يرجع عنه فيسقط إقراره فلا يقام عليه الحد، لأنه حق الله، وهذا الحق يحتاط لإسقاطه. وهذا بخلاف حق الآدمي، فإنه يتعلق بإقرار المقر ولا يسقط برجوعه عنه، بل يؤخذ بإقراره ويلزمه الضمان. ويصح الرجوع عن الإقرار بالحد سواء كان الرجوع قبل القضاء أو بعده، ويصح قبل التنفيذ وفي أثنائه. وقد يكون الرجوع صريحًا بأن يكذب المقر نفسه، وقد يكون دلالة بالهرب أثناء رجمه أو عند الشروع في قطعه، ويستدلون على ذلك بحادثة ماعز.

هذا بإيجاز بعض ما قرره الفقهاء في شأن الإقرار كأحد حجتي الحد. ولا تختلف أحكام الشهادة على الحد عندهم عن ذلك كثيرًا، بل لعل تشددهم فيها أكثر وضوحًا، وهو ما ينم عن حرصهم الشديد على الحد من حالات إيقاع الحد للعلة التي ذكرناها. ولا يعتبر هذا من جانبهم تفريطًا في جنب الشرع، بل كان بعد نظر وعمق فهم لمقاصده. على أن احتياطهم هذا لا يقتضي بالضرورة تبرئة ساحة المتهم وإعفاءه من كل عقاب، إذ كانوا على وعي بأن أحكام التعزير فيها ما يحقق الزجر عند الحاجة؛ فإذا كان استبعاد الحد في حالة بعينها لا ينفي عن المتهم ارتكاب معصية، فإن لولي الأمر – بل من واجبه – أن يعزره بما تقتضيه معصيته من عقوبة تأديبًا له وزجرًا لغيره، وهو ما يحقق – دون تفريط في مقاصد الشرع – ذات الغاية التي من أجلها شرع الحد.

(39) وعلى الرغم من اتفاق الجمهور على التفرقة بين الجرائم الموجبة للحد والجرائم الموجبة للتعزير، وعلى إفراد الأولى – بخلاف الثانية – بأدلة خاصة، فإن ابن القيم – وهو فقيه فحل – نظر إلى نظام الإثبات برمته نظرة أخرى؛ فهو يرى أن هذا النظام أدخل في باب السياسة الشرعية. وهي عنده نوعان: سياسة ظالمة، فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر، فهي من الشريعة(56). وذكر أن القاضي – لكي يصح حكمه – يلزمه نوعان من الفقه، فقه في أحكام الشرع، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس يميز به بين الصادق والكاذب، والمحق والمبطل، ثم يطابق بين هذا وهذا فيعطي الواقع حكمه من الواجب ولا يجعل الواجب مخالفًا للواقع(57). ولهذا فهو يعترض على حصر طرق الإثبات – وهي من فقه الواقع – في طرق بعينها، ويجعل عمدته في ذلك العقل والنقل. وعنده أنه كلما ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق فثم شرع الله ودينه، لأن الله أحكم من أن يخص طرق العدل وأمارته بشيء ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة فلا يجعلها منها، بل لقد بين ما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، فأي طريق استخرج بها العدل فهي من الدين وليست مخالفة له(58). وبهذا دعا ابن القيم إلى حرية الإثبات، ونعى على من حصروا طرقه في طائفة بعينها أنهم عطلوا الحدود وضيقوا الحقوق وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، وسدوا على أنفسهم طرقًا صحيحة من طرق معرفة الحق وإمضائه ظنًا منهم بأنها تنافي قواعد الشرع، وهي لا تنافيه(59).

وطبق ابن القيم نظريته هذه على جرائم الحدود فلم يقصر إثباتها على الشهادة والإقرار، بل أجاز إثباتها بالقرينة والنكول والشاهد الواحد وبكل ما يؤدي عقلاً إلى ذلك. واستنكر أن يحلف المتهم ثم يطلق ويخلى سبيله – مع العلم باشتهاره بالفساد في الأرض وكثرة سرقاته – بزعم أنه لا يؤخذ إلا بشاهدي عدل، ووصف هذا الزعم بأنه مخالف للسياسة الشرعية(60). وساق ابن القيم على صحة مذهبه كثيرًا من الشواهد، فذكر أن الأئمة والخلفاء كانوا يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسروق مع المتهم، ووصف هذه القرينة بأنها أقوى من البينة والإقرار، فإنهما خبران يتطرق إليهما الصدق والكذب، ووجود المال معه نص صريح لا تتطرق إليه شبهة، وأضاف: هل يشك أحد رأي قتيلاً يتشحط في دمه، وآخر قائمًا على رأسه بالسكين أنه قتله! وكذلك إذا رأينا رجلاً مكشوف الرأس – وليس ذلك من عادته – وآخر هاربًا قدامه بيده عمامة وعلى رأسه عمامة، حكمنا له بالعمامة التي بيد الهارب قطعًا، ولا نحكم بها لصاحب اليد التي جزمنا بأنها يد ظالمة غاصبة بالقرينة الظاهرة التي هي أقوى بكثير من البينة والاعتراف(61). واحتج ابن القيم كذلك بما روى “أن امرأة وقع عليها رجل في سواد الصبح – وهي تعمد إلى المسجد – بمكروه على نفسها، فاستغاثت برجل مرَ عليها وفرَ صاحبها، ثم مر عليها ذوو عدد فاستغاثت بهم فأدركوا الرجل الذي كانت استغاثت به فأخذوه، وسبقهم الآخر فجاءوا به يقودونه إليها، فقال: أنا الذي أغثتك وقد ذهب الآخر، فأتوا به النبي r، فأخبرته أنه وقع عليها، وأخبر القوم أنهم أدركوه يشتد، فقال: إنما كنت أغيثها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني، فقالت: كذب، هو الذي وقع علي، فقال رسول الله r: انطلقوا به فارجموه، فقام رجل فقال: لا ترجموه وارجموني، فأنا الذي فعلت بها الفعل، واعترف … (62). وعقب ابن القيم على هذه الواقعة بأن ما حدث فيها هو إقامة للحد باللوث الظاهر القوي. وذكر أن الصحابة أقاموا حد الزنا والخمر باللوث الذي هو نظير هذا أو قريب منه، وهو ظهور الحمل على المرأة التي لا زوج لها ولا سيد، وفوح رائحة الخمر من فم المتهم أو قيؤه خمرًا(63). وذكر كذلك أن نكول الملاعنة موجب لحدها، لأن نكولها من أقوى الأمارات على صدق الزوج، فقام لعانه ونكولها مقام الشهود(64).

(40) ونحن نتفق مع ابن القيم تمامًا في أن طرق الإثبات هي من السياسة لا من الشرع، بشرط ألا تخرم أصلاً من أصوله أو قاعدة من قواعده. ذلك بأن الغاية من هذه الطرق هي إدراك حقيقة ما وقع توطئة لإنزال حكم الشرع عليه. وإدراك الواقع معتمده العقل لا أحكام الشرع، والضابط فيه ما تعارف عليه جمهور العقلاء. فكل طريق يسيغها منطلق العقل وتفضي إلى إدراك حقيقة الواقع فهي مقبولة شرعًا، إذ لاحظ للشرع في حصر طرق الإثبات في طرق بعينها إذا كان غيرها يتكافأ معها أو يفوقها في دلالتها، ولاحظ للشرع كذلك في إلزام القضاة دائمًا بالحكم بناء على طرق إثبات يشهد الواقع في حالات معينة بعدم صدقها. ومن هنا كان من حق ولي الأمر أن ينظم طرق الإثبات بما يسمح للقضاء ببلوغ أقصى درجات اليقين البشري بحقيقة الواقعة التي يراد إنزال حكم الشرع عليها حتى يكون ما قضى به مطابقًا للواقع ومحققًا للعدل الذي هو غاية القضاء.

لكننا مع ذلك نختلف مع ابن القيم في جريان مبدأ حرية الإثبات في خصوص جرائم الحدود؛ ذلك بأن هذه الجرائم تتميز بأحكام خاصة يتعذر تعليلها تعليلاً حاسمًا يطمئن له العقل وتسكن إليه النفس؛ فليس لولي الأمر، إذا ما ثبت الحد، أي سلطة في العفو عن العقوبة أو تخفيفها أو تشديدها أو إبدال غيرها بها مهما تكن حال الجاني أو ظروف جريمته داعية إلى العفو أو إلى التخفيف أو التشديد. وهذا الحكم ثابت بالنص والإجماع فلا سبيل إلى المماراة فيه. وما نظن أن الاعتبارات التي لحظها ابن القيم عندما دعا إلى حرية الإثبات كانت غائبة تمامًا عن جمهور الفقهاء الذين تشددوا في إثبات الحدود فحصروا أدلة ثبوتها في الإقرار وشهادة الشهود، بل الغالب أن كثيرًا منهم كان على بينة منها، لكنهم مع ذلك ضيقوا في طرق الإثبات للسبب الذي ذكرناه والذي ألمح إليه بعضهم حين وصف الحد بأنه عقوبة محضة فتستدعي جناية محضة، والمعنى أن الحدود لها طبيعة خاصة تقتضي إفرادها بطرق إثبات خاصة، إذا اختلت بعض شروطها امتنع إيقاع عقوبتها. ولا وجه مع ذلك لما حذر منه ابن القيم، وهو اتهام الشريعة بالقصور عن القيام بمصالح العباد والتفريط في حقوقهم، مما اتخذه ولاة الأمور ذريعة لإقحام أنفسهم فأحدثوا من أوضاع سياستهم شرًا طويلاً وفسادًا عريضًا. فهذا التخوف لا أساس له، لأن الحد إذا امتنع إيقاعه لتخلف دليل ثبوته بتمامه، فهذا لا ينفي عقاب مرتكبه تعزيرًا إذا كان ما ثبت في حقه يمثل معصية، ويقضي العدل في هذه الحالة بأن يكون عقابه مناسبًا لجسامة معصيته. وإذن فلا قصور في رعاية مصالح العباد خلافًا لما ظنه ابن القيم. أما تغول ولاة الأمور وإحداثهم الشر والفساد فلا ارتباط بينه وبين التضييق في طرق إثبات الحدود، لأن صاحب السلطان إذا نازعته نفسه إلى ارتكاب الشر والفساد فلن يصده عن ذلك كون طرق الإثبات حرة أو مقيدة، لأنه لا يعبأ بأحكام الشرع ذاته في العادة.

الهوامش

(1) ولعل واضعي التقنينات المصرية الأولى في أواخر القرن التاسع عشر قد تأثروا بهذا المصطلح حين أطلقوا مصطلح قانون تحقيق الجنايات على مجموعة النصوص التي تنظم إجراءات التحقيق والمحاكمة التي صدرت سنة 1883، ولعله كذلك وراء إطلاق الفقه الوضعي مصطلح القانون الجنائي على جملة القواعد الموضوعية الشكلية المتعلقة بالجرائم جميعًا.

(2) ولعل أظهر الأمثلة على ذلك تطور تشريع المخدرات في مصر؛ فقد كانت المواد المخدرة مباحة ولم يتقرر مبدأ التجريم إلا في سنة 1879، وكان التجريم مقتصرًا على استيراد الحشيش وحيازته، وكانت العقوبة المقررة لمخالفة الحظر هي الغرامة. أما الأفيون فلم يحظره المشرع إلا في سنة 1918، وكان الحظر مقتصرًا على زراعته، وذلك بصفة مؤقتة. وكانت علة الحظر هي حاجة الدولة إلى تخصيص الأراضي لزراعة الحبوب أثناء الحرب. ولهذا فلم يلبث الحظر أن ارتفع وأبيحت زراعة الأفيون في سنة 1920. وفي سنة 1925 صدر مرسوم حظر جلب المواد المخدرة وتصديرها وحيازتها وإحرازها وعاقب على هذه الأفعال بالحبس. ولم تتقرر عقوبة الجناية لهذه الأفعال إلا في سنة 1952 غداة قيام الثورة حيث شددت العقوبة فصارت الأشغال الشاقة. ثم توالت بعد ذلك التعديلات وصارت بعض الأفعال معاقبًا عليها بالإعدام. وهكذا كانت المواد المخدرة مباحة أصلاً، ثم جرمت بعض الأفعال الواقعة على بعض هذه المواد وعوقب عليها بالغرامة، وهي عقوبة المخالفة، ثم اتسع نطاق التجريم – فعلاً ومحلاً – وشددت العقوبة فصارت الجريمة جنحة، وآل الأمر أخيرًا إلى اعتبارها جناية وصلت عقوبتها في حالات معينة إلى الإعدام.

(3) بل من الفقهاء من يرى أن هذه الأحكام – بدورها – معللة.

(4) قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام – ج1 – ص5 – طبعة دار الجيل.

(5) يقول القرافي: “ما من حق للعبد إلا وفيه حق لله تعالى، وهو أمره بإيصال ذلك الحق إلى مستحقه، فيوجد حق الله تعالى دون حق العبد، ولا يوجد حق للعبد إلا وفيه حق لله تعالى”. الفروق – طبعة دار السلام – ج1 – الفرق الثاني والعشرون ص269.

ويقول الشاطبي: “كل حكم شرعي ليس بخال عن حق الله تعالى، وهو جهة التعبد … فإن جاء ما ظاهره أنه حق للعبد مجردًا فليس كذلك بإطلاق، بل جاء على تغليب حق العبد في الأحكام الدنيوية ويقول: كل حق للعبد لابد فيه من تعلق حق الله به، فلا شيء من حقوق العباد إلا وفيه لله حق”. الموافقات – دار الكتب العلمية – ج2 – ص241 و286.

(6) وتنص معظم الدساتير الوضعية على تخويل رئيس الدولة – ملكًا كان أو رئيس جمهورية – سلطة العفو عن العقوبة المقتضى بها بحكم بات أو تخفيفها.

(7) البقرة: 187.

(8) البقرة 229.

(9) إعلام الموقعين – ج1 – ص335.

(10) يقول العز بن عبد السلام: “التعزيرات المفوضات إلى الأئمة والحكام إن كانت للجنايات على حقوق الناس لم يجز للأئمة والحكام إسقاطها إذا طلبها مستحقها، وإن كانت لله فاستيفاؤها مبني على الأصلح، فإن كان الأصلح استيفاؤها وجب استيفاؤها، وإن كان الأصلح درؤها وجب درؤها”. قواعد الأحكام – ج1 – ص187.

(11) عبد القادر عودة – التشريع الجنائي الإسلامي مقارنًا بالقانون الوضعي – ج1 – ص621.

(12) المائدة 32.

(13) اختلف الفقهاء في القاتل عمدًا يعفى عنه: هل يبقى لولي الأمر سلطان عليه أو لا؟ قال الأوزاعي والليث ومالك يجلد مائة ويسجن سنة، وبه قال أهل المدينة، وروى ذلك عن عمر بن الخطاب. وقال أبو ثور: “لا شيء عليه إلا أن يكون يعرف بالشر، فيؤدبه الإمام على قدر ما يرى”. وقال آخرون: “لا شيء عليه مطلقًا”، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي سليمان وإسحاق بن راهويه وسائر أصحاب الحديث والظاهرية. (انظر بداية المجتهد لابن رشد – دار المعرفة – ج2 – ص404، والمحلى لابن حزم – ج10 – ص559 – 564). قول الأستاذ عبد القادر عودة: “إن الأئمة الثلاثة لا يوجبون عقوبة معينة على القاتل إذا سقط القصاص أو عفي عنه، ولكن ليس عندهم ما يمنع من عقاب القاتل عقوبة تعزيرية بالقدر الذي تراه الهيئة التشريعية صالحًا لتأديبه وزجر غيره”. ويبدو أنه لا يرى مانعًا من أن تكون عقوبة التعزير في جريمة القتل الإعدام أو الحبس مدى الحياة. (المرجع السابق – ج2 – 2184). وانظر في جواز التعزير عند العفو عن القصاص الدكتور محمد سليم العوا في أصول النظام الجنائي الإسلامي – ط2007 – ص162.

(14) فالمادة 273 من قانون العقوبات المصري – على سبيل المثال – تنص على أنه لا تجوز محاكمة الزوجة الزانية إلا بناء على دعوى (المقصود شكوى) زوجها، والمادة 274 تنص على أن لزوجها أن يقف تنفيذ الحكم الصادر بعقابها برضائه معاشرتها له كما كانت، والمادة 27 تنص على عدم محاكمة الزوج الذي زنى في منـزل الزوجية إلا بناء على دعوى (أي شكوى) زوجته. والمادة 312 من هذا القانون تنص على أنه لا تجوز محاكمة من يرتكب سرقة إضرارًا بزوجة أو زوجته أو أصوله أو فروعه إلا بناء على طلب (أي شكوى) المجني عليه، وللمجني عليه أن يتنازل عن دعواه (أي شكواه) بذلك في أية حالة كانت عليها، كما له أن يقف تنفيذ الحكم النهائي على الجاني في أي وقت شاء.

(15) وقد حاول الدكتور محمد سليم العوا التوفيق بين الرأيين فذهب إلى أنه يمكن القول بأن أحكام القصاص والدية في الفقه الجنائي الإسلامي أحكام ذات طبيعة مزدوجة، تبدو في بعض أجزائها فكرة المسئولية الجنائية البحتة، ويظهر القصاص كعقوبة واجبة جزاء لجريمة مرتكبة، وتبدو في البعض الآخر فكرة المسئولية المدنية بما تستوجب من تعويض المضرور عن الضرر الذي ألحقه به خطأ الغير أو فعله الضار. في أصول النظام الجنائي الإسلامي – المرجع السابق – ص359.

(16) سورة يونس: 59.

(17) سورة النحل: 116.

(18) سورة الأنعام: 119.

(19) هي قوله تعالى: ]وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[ (المائدة: 38).

(20) نيل الأوطار للشوكاني – ج7 – ص134. وانظر في تفصيل الآراء في محل السرقة الموجبة للقطع وفي فعل السرقة الموجبة لذلك: عوض محمد – دراسات في الفقه الإسلامي – الكويت – ص129 – 208.

(21) إعلام الموقعين ط دار الحديث – القاهرة – ج2 – ص394.

(22) بدا لنا لوهلة أن نستعيض عن لفظ المعصية بالمنكر، لأن المنكر هو إتيان ما يستنكر ويستقبح، سواء وقع عمدًا أو عن خطأ، أما المعصية فتثير في الذهن تعمد المخالفة، وهو ما يجرَ إلى استبعاد الخطأ من مجال التعزيز، وهو غير مسلم، إذ لا يسوغ إعفاء من تسبب بخطئه في إشعال حريق أو في انهيار عقار من التعزير. غير أننا وجدنا بعد التأمل أن العمد ليس من لوازم المعصية في كل حال، بدليل قوله تعالى: ]وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً[ (طه: 115)، ثم قوله تعالى: ]وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى[ (طه: 121)، فسمى ما وقع منه معصية رغم أنه أتى ما أتاه في لحظة نسى فيها أمر ربه. وإذن فالمعصية هي إتيان ما يخالف النهي أو الأمر مطلقًا، كان ذلك عن عمد أو عن خطأ. ولهذا عدلنا عن لفظ المنكر واعتمدنا لفظ المعصية.

(23) الموافقات للشاطبي المرجع السابق – ج1 – ص104 – 105. ويقول أيضًا: “إن الكلام في أصل المسألة إنما هو في المباح من حيث هو متساوي الطرفين ولم يتكلم فيما إذا كان ذريعة إلى أمر أخر، فإنه إذا كان ذريعة إلى ممنوع صار ممنوعًا من باب سد الذرائع لا من جهة كونه مباحًا”. ص79 – 80. ويقول أيضًا: “قد يتعلق بالمباح في سوابقه أو لواحقه أو قرائنه ما يصير به غير مباح” – ص80. ويؤصل المسألة بقوله: “إن المباح عند الشارع هو المتساوي الطرفين، فكل ما ترجح أحد طرفيه فهو خارج عن كونه مباحًا، إما لأنه ليس بمباح حقيقة وإن أطلق عليه لفظ المباح، وإما لأنه مباح في أصله ثم صار غير مباح لأمر خارج” – ص90.

(24) بحوث في التشريع الإسلامي للشيخ محمد مصطفى المراغي 1945 – ص42 – 43.

والذي نرجحه أن القول بنسبة التحليل والتحريم إلى الله في هذه الحالة محل نظر، بل لعله لا يخلو من خطر، لأنه يضفي القداسة، لا على أمر الإمام فقط، بل وكذلك على منصبه وربما على شخصه. وعلى أي حال فهذا القول غير مجمع عليه من الفقهاء. يقول الشاطبي: “إذا تعارضت الأدلة وترجحت إحدى الجهتين فيمكن أن يقال إنهما معًا عند المجتهد معتبرتان، إذ كل واحدة منهما يحتمل أن تكون هي المقصودة للشارع، ونحن إنما كلفنا بما ينقدح عندنا أنه مقصود للشارع، لا بما هو مقصوده في نفس الأمر؛ فالراجحة – وإن ترجحت – لا تقطع إمكان كون الجهة الأخرى هي المقصودة للشارع”. الموافقات – ج2 – ص24.

ويقول الشيخ عبد الله دراز تعقيبًا على ذلك إن الحكم الشرعي بالنسبة للمجتهد ومن يقلده هو ما انقدح في نفس المجتهد، وحينئذ يمكن تعدد الحكم الشرعي في الواقعة الواحدة، وهذا هو رأي المصوبة، حيث قالوا: “إن كل صورة لا نص فيها ليس لها حكم معين عند الله، بل ذلك تابع لظن المجتهد”. المرجع والموضع السابقان. ولاشك أن حكم الشرع في الواقعة إنما هو حكمها في الأحوال العادية. فإذا احتفت بها ملابسات طارئة رئى معها وجوب أو ملائمة تغيير حكمها كانت – في هذه الحالة – كالتي لا نص فيها. وإذا اختلفت الأنظار فيما إذا كان من شأن هذه الملابسات الطارئة الانتقال بحكم الواقعة إلى غيره أو بقاؤه على حاله، كان الحكم في محل الاجتهاد، وكان من الجائز القول بتعدده. وإذا كان من حق الإمام في هذه الحالة أن يحمل الناس على ما يراه أصوب باعتباره مقصود الشارع فهذا لا يعني أن ما عداه في شرع الله باطل.

(25) مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، للشيخ عبد الوهاب خلاف – دار القلم – الكويت 1970 – ص172. وانظر كذلك: العقوبة للشيخ محمد أبي زهرة حيث يقرر أن لولي الأمر أن يمنع المباحات إذا ترتب عليها ضرر مؤكد للجماعة – ص86.

(26) الإباحة عند الأصوليين – الدكتور محمد سلام مدكور – ص802.

(27) المرجع السابق – ص804.

(28) انظر عبد القادر عودة – المرجع السابق – ج2 – ص155 – 156، فقد عرض للخلاف في مدى جواز التعزير في إتيان المكروه وترك المندوب، وخلص إلى أنه وقع الإتيان أو الترك ماسًا بمصلحة عامة أو بالنظام العام عوقب الفاعل، ولا يكون أساس العقاب في هذه الحالة اعتبار الفعل مكروهًا أو الترك مندوبًا إليه، بل يكون أساسه أن الفعل أو الترك يمس بالمصلحة العامة.

(29) انظر عبد القادر عودة – المرجع السابق – ج1 – ص150 – 152.

(30) وفي الفقه مع ذلك أقوال تجيز الجمع في بعض الحدود بين عقوبة الحد وإحدى العقوبات التعزيرية إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك، كتعزير الجاني – لحق الجماعة – رغم القصاص منه في الجناية عمدًا على ما دون النفس، وكالزيادة – تعزيرًا – على الأربعين جلدة في حد الشرب، وتغريب الزاني غير المحصن بعد جلده.

(31) عبد القادر عودة – المرجع السابق – ج1 – ص148.

(32) المرجع السابق – ص687 – 708.

(33) ومن الفقهاء المعاصرين من يدعو إلى ذلك، فقد كتب الشيخ أبو زهرة أنه يجب أن يسنَ ولي الأمر بعد أن تقاصرت الهمم في الاجتهاد قانونًا تعزيريًا لحماية الأموال والأخلاق والنظام ويرتب فيه العقوبات على حسب مقدار الاعتداء على المصالح المعتبرة في الإسلام. العقوبة – ص84 – 85. بل إن هذا هو ما يراه الأستاذ عبد القادر عودة نفسه، فهو يقول: “ليس في الشريعة ما يمنع أولي الأمر من جمع المعاصي (التي توجب التعزير) في كتاب خاص تبين فيه واحدة واحدة، مرتبة بحسب نوعها أو عقوبتها أو محلها أو غير ذلك من أوجه الترتيب والتنظيم مادام المقصود من التجميع تسهيل الاطلاع على المعاصي وتيسير العلم بها. – المرجع السابق – ص133.

(34) عبد القادر عودة – المرجع السابق – ص687.

(35) المرجع السابق – ص701.

(36) المرجع السابق – ص686.

(37) انظر في ذكر هذا الخلاف وآراء المذاهب فيه عبد القادر عودة – المرجع السابق – ص687 – 689، والمراجع المذكورة فيه.

(38) إعلام الموقعين – المرجع السابق – المجلد الأول – ص384.

(39) من هذا الرأي: الأستاذ عبد القادر عودة – المرجع السابق – ص614 – 620، وكذلك أستاذنا الشيخ أبو زهرة – الجريمة – . ويبدو أن واضعي تشريعات الحدود في ليبيا قد تأثروا جزئيًا بهذا الرأي، فقد اعتبروا جريمة الزنا المعاقب عليها حدًا بالجلد مائة جلدة جناية (المادتان 2 و4 من القانون رقم 70/1973 في شأن إقامة حد الزنا).

(40) إعلام الموقعين – المجلد الأول – ص383.

(41) إعلام الموقعين – المرجع السابق – ص389. ويلاحظ أن العبارة التي نقلناها هنا تسوى في امتناع القطع بين سرقة الحبة وسرقة الدينار، مع أن ابن القيم يجعل نصاب السرقة الموجبة للقطع ثلاثة دراهم وهي دون الدينار، إذ تعادل ربع دينار، (انظر نفس المرجع – ص359 و360). ولعل في الأمر سبق قلم أو خطأ في الطباعة.

(42) إعلام الموقعين – المرجع السابق – ص393 – 394.

(43) إعلام الموقعين – المرجع السابق ص 392 – 393 .

(44) الفروق – المرجع السابق ج4 ص 1315 الفرق السادس والأربعون والمائتان.

(45) قواعد الأحكام – المرجع السابق – ج1 ص 40 – 41 . وقد خلف هذا التعليل لنا بعض الحيرة، وذلك لسببين: الأول أن الأصل في العقوبة أن تكون مكافئة للمعصية، سواء كانت عقوبة عاجلة أو آجلة. ولا ندري علة للتفاوت بين العقوبتين إذا تعلق الأمر بالحد دون سواه. والثاني أن الجمهور على أن الحدود كفارات، فمن أقيم عليه الحد فهو كفارة له. وإنما وقع الخلاف في مدى لزوم التوبة، فمن الفقهاء من يرى أنه إذا حد ولم يتب يبقى عليه إثم المعصية، غير أن الأكثرين على أن الحد مطهر تاب أو لم يتب. انظر الأم للإمام الشافعي – ج6 ص 124 وحاشية ابن عابدين – ج3 ص193 والمحلي لابن حزم – ج11 – ص 124 .

(46) وانظر في أثر التوبة كمانع من العقاب الدكتور محمد سليم العوا – في أصول النظام الجنائي الإسلامي – المرجع السابق – ص154 – 160 .

(47) انظر في ذلك بحثًا لنا بعنوان: “نظرية الشبهة في الفقه الشرعي” ضمن مجموعة أبحاث في “دراسات في الفقه الجنائي الإسلامي” – دار البحوث العلمية للنشر والتوزيع – الكويت – 1983 – ص 51 – 95 .

(48) بدائع الصنائع – ج10 – ص4623 .

(49) المرجع السابق – ص 4620 .

(50) المرجع السابق – ص 4622 .

(51) المرجع السابق – ص 4630 .

(52) المرجع السابق – ص 4648 .

(53) المرجع السابق – ص 4618 .

(54) المرجع السابق – ص 4222 وانظر كذلك ص 4218 .

(55) وأضافت بعض المذاهب إلى أدلة إثبات الزنا دليلين آخرين، هما ظهور الحمل على من لا زوج لها، ونكول الزوجة عن الملاعنة، غير أن الجمهور على خلاف دلك.

(56) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن قيم الجوزيه – المؤسسة العربية للطباعة والنشر – القاهرة – 1961 – ص 5 .

(57) المرجع والموضع السابق.

(58) المرجع السابق ص 16 – 17 .

(59) المرجع السابق ص 16 .

(60) المرجع السابق ص 17 .

(61) المرجع السابق ص 8 .

(62) المرجع السابق ص 68 .

(63) المرجع السابق ص 71 .

(64) المرجع السابق ص 13 – 14 .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر