كلمة التحرير

المنطلق في التجديد

العدد 37

نود أن نتحدث هنا عن موضوع يتعلق بعلم أصول الفقه ويدور حول فلسفة الحقوق الإسلامية التي اشتغل بها الكثير من الأئمة والعلماء قديماً وحديثاً ولا تزال تحتاج إلى المزيد من الكلام فيها ولكن قبل ذلك نحب أن نقدم تعاريف للشريعة والفقه معتمدين في ذلك على مفهوم الإسلام لهما ليتضح للقاريء بشكل جليّ ما نريد أن نبينه من عمق العلاقات بينهما. والذي لابد من قوله هنا ونحن بصدد الحديث عن موضوع مهم كهذا هو أن من تشبعت عقولهم بالأفكار والثقافة الغربية يتجنبون دوماً استخدام بعض المصطلحات الإسلامية مثل الشريعة والفقه عند حديثهم عن الثقافة الإسلامية وهذا بلا شك خطأ فادح جداً لأنه من الواجب على كل من يكتب في قضايا الدين الإسلامي أن يستعمل المصطلحات والمفاهيم المتعلقة به فنحن لا نستطيع مطلقاً أن نهمل أمثال هذه المفاهيم والمدارك التي هي من الأركان الأساسية للدين الإسلامي والشريعة الإسلامية التي بنيت عليها الحضارة والعلوم الإسلامية.

الشريعة – لقد استعمل القرآن الكريم كلمة الشريعة ومشتقاتها في أساليب مختلفة ومتنوعة. فالكلمة قد وضعت في اللغة للدلالة على الوضوح والاستقامة والتوجيه المستقيم والامتداد نحو جهة واستقامة واحدة والشرع نهج الطريق الواضح1 ومن ذلك الشريعة وهي مورد الشاربة واشتق من ذلك الشرعة في الدين والشريعة2 لأن الأصل في الكلمة المدّ في استقامة واحدة، ويحمل عليه كل شيء يمتد في رفعة وغير رفعة، ومن ذلك شراع السفينة فهو ممدود في علو وقوله تعالى: (إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا)3 يعني أنها الرافعة رؤوسها4 والشرعة والشريعة في كلام العرب مشرعة الماء عدّاً لا انقطاع فيه ويكون ظاهراً معيناً وفي المثل: أهون السقي التشريع لأن مورد الإبل إذا ورد بها الشريعة لم يتعب في اسقاء الماء لها ومعنى مشرع بيّن وواضح مأخوذ من شرع الاهاب إذا شق ولم يمزق. والشريعة تأتي بمعنى العادة أيضاً. والشارع الطريق الأعظم الذي شرع فيه الناس عامة وهو على هذا المعنى ذو شرع من الخلق يشرعون فيه ودور شارعة إذا كانت أبوابها شارعة في الطريق وفي الحديث كانت الأبواب شارعة إلى المسجد أي مفتوحة إليه وكل دانٍ من شيء فهو شارع. وكذلك الدار الشارعة هي التي قد دنت من الطريق وقربت من الناس وهذا كله راجع إلى شيء واحد، إلى القرب من الشيء والإشراف عليه5.

وشراع السفينة ما يرفع فوقها من ثوب لتدخل فيه الريح فيجريها وشرّع السفينة جعل لها شراعاً واشرع الشيء رفعه جداً وأنتم فيه شرع سواء أي متساوون لا فضل لأحدكم فيه على الآخر6.

على ضوء ما تقدم نجد أن كلمة الشرع ومشتقاتها تتضمن المعاني التالية:

  • الطريق المستقيم الذي لا انحناء فيه ولا اعوجاج.
  • الامتداد نحو جهة واحدة مستقيمة.
  • القرب للشيء والتقرب منه.
  • الطريق الواسع وعدم التحرج من السير فيه بدون مشقة حيث يتسع لكل من يريد السير والمشي فيه.
  • العلو والرفعة.
  • الوضوح والظهور والبيان.
  • مورد الماء أو منبعها حيث لا يستطيع أي ذي روح أو نفس أن يعيش ويحيا من دونه..

هذه المعاني كلها تتضمنها كلمة الشرع ومشتقاتها وعلى هذا فالشريعة والشرع هما الطريق الواضح البيّن الواسع المستقيم الموصل إلى الحياة والرفعة والعلو دون انحياز أو اعوجاج حيث يسير فيه الناس بيسر وسهولة. هذا هو المعنى الذي يستخلص من اللغة وقد استعمله العرب قبل مجيء الإسلام. وعندما نزل القرآن الكريم وذكرت فيه هذه الكلمة لاشك أنه قد استهدف تلك المعاني الموجودة عند العرب لأن القرآن خاطبهم بلغتهم فالعرب كانوا يستعملون هذه الكلمة لهذه المعاني في حياتهم اليومية. وبعد هذا فمن الضروري أن نتتبع القرآن الكريم في استعماله كلمة الشريعة وماذا أراد أن يقدم للناس من معان ومقاصد بواسطة تلك الكلمة التي اذهلت العالم بوضع نظام خاص بين النظم البشرية يمتاز عن القوانين الوضعية بخصائص متميزة.

والآن نود أن نلقي نظرة عابرة على الآيات التي ذكرت فيها الشريعة في القرآن الكريم:

  • يقول الله عز وجل في الآية الثامنة عشر في سورة الجاثية: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِّعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمٌون)).

ويجمع معظم المفسرين على أن كلمة الشريعة الواردة هنا إنما هي بمعنى الطريق المستقيم. كما يقولون إن الشريعة طريق وسنة ومنهاج وهدى وبيّنة من أمر الدين7.

لقد أمر الله سبحانه وتعالى رسوله باتباع الطريق الواضح البيّن أمام كل الناس لأن منفعتهم في حياتهم ومعاشهم تتمثل فيه.

فالمعاني المذكورة في كلمة الشريعة يمكن حملها على هذه الآية حيث أن الدين الإسلامي والقرآن الكريم يهديان الناس إلى الحق بمنهاج واضح يفهمه الجميع. وعلى هذا الأساس يبدو للفاهم الفطن أن الإسلام يقبل كل ما هو واضح وبيّن بحيث يهدي الناس إلى الحق والعدالة والخير حتى وإن لم يكن مذكوراً في النصوص الدينية الإسلامية فالمراد في الآية الكريمة هو أن الله عز وجل قد سنّ للإنسان طريقاً سويّاً في أمور دينه ودنياه فأمره باتباع الشريعة الثابتة بالدلائل الظاهرة الجلية ونهاه في الوقت نفسه عن اتباع ما لا حجة عليه من أهواء الجهلة وعقائدهم وتقاليدهم التي يكتنفها الغموض والتي بنيت أصلاً على الأهواء والانحراف.

  • الآية الثانية هي الآية الثالثة عشر من سورة الشورى: ((شَرَعَ لَكُمْ فِي الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحَاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيه. كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْه. اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيب)) أي أن الذي له مقاليد السموات والأرض شرع لكم من الدين ما شرع لقوم إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ثم بين ذلك بقوله ((أن أقيموا الدين)) وهو توحيد الله وطاعته والإيمان برسله وكتبه واليوم الآخر وبسائر ما يكون الرجل باقامته مسلماً، لم يرد الشرائع التي تبنى عليها مصالح الأمم والتي تختلف من أمة لأخرى. وقد فهم معظم الناس من هذه الآية بأن لله قد وضع أسس الدين وقواعده الاعتقادية وأصول الشريعة فلا ناسخ فيها ولا منسوخ لأن هذه الآية الكريمة تفيد الشريعة الثابتة العامة لكل أمة ولكل البشر. وتذكر صراحة بعض المباديء التي أوصى الله بها للرسل العظام ومنهم رسولنا صلى الله عليه وسلم أن الديانات السماوية العظيمة تلتقي في الأسس الاعتقادية والأخلاقية والمباديء الأخرى العامة. فمن الطبيعي أن نجد اختلافاً كثيراً أو قليلاً في فروع الديانات السماوية ولا نجد فيها اتفاقاً إلا في المقاصد والأهداف والمباديء والمنبع الأصلي لأن الفروع تختلف وتتغير باختلاف الأزمان والأماكن وبتطور الأمة وتقدمها والذي لا يتغير ولا يتبدل كما قلنا هو الإيمان بالله واليوم الآخر والرسل والملائكة والصدق في الحديث والوفاء بالعهد وصلة الرحم وتحريم الظلم للناس ولكل ذي روح وعدم الإشراك بالله وتوحيده في العبادة وفي كل أمور الحياة وحده لا شريك له في الألوهية والربوبية8.
  • والآية الثالثة هي الآية الثامنة والأربعون في سورة المائدة ((وَأَنْزَلْنَا اِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْكَ مِنَ الْكِتَاب وَمُهَيْمِناً عَلَيْه فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَة وَلَكِن لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات إِلَى الله مَرْجِعكُم جَمِيعا فَيُنَبِئكُمْ بِمَا كُنْتُم فِيهِ تَخْتَلِفُون)).
    تدل هذه الآية على معنيين اثنين:
    الأول: بما أن الشرعة أو الشريعة هما الطريق البين الواضح الذي يتم التوصل من خلاله إلى النجاة والسعادة في الدارين كما سبق في إيضاح كلمة الشريعة فإنه يفهم من الشرعة في هذه الآية الكريمة أن الله تعالى جعل لكم من الأنبياء شريعة وأن الأصول الأساسية لهذه الشريعة متفق عليها بين الأنبياء.

الثاني: أن المقصود بالمنهاج هو طريقة تطبيق الشريعة حسب الظروف والشروط التي تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة وهذه هي نقطة الخلاف الرئيسية بين الرسالات السماوية.

وهذا على ما نعتقد هو مضمون الآية الكريمة إلا أنه من الممكن أن نتوسع في المعنى حتى يقال أن الشرعة والشريعة هما القرآن الكريم والسنة النبوية والمنهاج هو تطبيق القرآن والسنة من قبل الأمة الإسلامية كما يفهمهمها الأئمة والعلماء والفقهاء في كل عصر من العصور. والشرعة أو الشريعة هي ما ينبغي أن يتفقوا فيها، وأما المنهج فلهم حق التصرف والفهم والاختلاف فيه حسب مقدرتهم العلمية ومداركهم العقلية.

فالمنهاج إذاً هو الطريق المستمر الواسع الذي يوصل إلى الهدف المنشود. وقد قال أبو العباس محمد بن يزيد في هذا الصدد: الشريعة ابتداء الطريق والمنهاج الطريق المستمر.

نفهم من هذا القول أن الشريعة أصل ومصدر الانطلاق والمنهاج هو مواظبة السير الدؤوب تُسْتَمَدُّ القوة فيه من نقطة الانطلاق على الدوام ودون انقطاع، وروى أيضاً عن ابن عباس والحسن وغيرهما أن الشرعة والمنهاج سنة وسبل.

وهكذا فإن كلمة الشريعة في الآية الأولى استعملت بمعناها اللغوي ولكن معنى الشريعة والشرعة في الآية الثانية والثالثة تعطي لن المعنى الاصطلاحي. لقد عرّف العالم التهانوي الشريعة بأنها ((الأحكام التي جاء بها رسول من الرسل من الله لعباده فإن كانت الأحكام عملية تسمى الأحكام الفرعية والعملية وكَتَبَ علم الفقه لتوضيح هذه الأحكام فروعاً وتفصيلاً. وإن كانت الأحكام تتعلق بمسائل الاعتقاد تسمى الأحكام الاعتقادية والأصولية وكتب علم الكلام لإيضاح هذه الأحكام الأصولية9.

كما يقول محمد علي السايس في كتابه ((تاريخ التشريع الإسلامي)): الشريعة بالنسبة للفقهاء هل الأحكام التي وضعها الله تعالى لعباده لسعادتهم في الدارين إن آمنوا وعملوا بها. وسُميت هذه الأحكام بالشريعة لأنها كالشارع المستقيم وهي مبنية على أسس متينة محكمة الوضع لا انحراف فيها ولا عوج))10

ويقول الدكتور محمد يوسف موسى ((تستعمل كلمة الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي لمعنى واحد كمترادف وكثيراً ما تستعمل كلمة الفقه بدل الشريعة لأن الشريعة أعم وأشمل من الفقه ولأنها تتعلق بمسائل الاعتقاد وتطلق الشريعة على الفقه مجازاً فقط))11

بما أن التشريع سنّ القوانين ووضعها وتبيين القوانين والأحكام، وبما أن الشريعة قد استكملت أحكامها في حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ولأن الله تعالى لم يعط لأحد حق التشريع إلا لرسوله، وبما أن الأحكام الثابتة باجتهادات الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين وآرائهم ليست شريعة، ولهذا كله نقول: ان مصدر الشريعة هو القرآن والسنة وحول هذا الموضوع يقول محمد السايس: ومن ذلك يتضح لك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفارق هذه الحياة إلا بعد تكامل بناء الشريعة فما كان بعد وفاته مما ثبت باجتهاد الصحابة والتابعين فليس تشريعاً على الحقيقة وإنما هو توسع في تبسيط القواعد الكلية وتطبيقها على الحوادث الجزئية المتجددة فليس للتشريع اذن مصدر سوى الكتاب والسنة مهما طال الزمن12.

فهمنا مما سبق أن الشريعة هي الطريق الواضح المستقيم والشارع المفتوح الذي لا التواء فيه ولا اعوجاج وعلاوة على ذلك فإن الشريعة تطلق أيضاً على ما يلي:

أولاً: على الأسس الدينية والاعتقادية والأخلاقية.

ثانياً: على الأحكام الدينية الفرعية العملية التي تثبت بالقرآن والسنة.

ثالثاً: تطلق الشريعة من الناحية المجازية على آراء وأفكار واجتهادات المجتهدين بما فيهم الصحابة الكرام. ولكن الأستاذ محمد علي السايس ورفيقيه كما ذكرنا لا يرون هذا الرأي الثالث ولا يقبلون الفكرة القائلة بأن اجتهادات المجتهدين وآراء الصحابة من ضمن أحكام الشريعة. ونحن من جانبنا نرى نفس الرأي ونقول: ان الشريعة هي الأحكام الموجودة صراحة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. أما الأحكام المبنية عليهما والمستنبطة منهما فهي فقه لهما وفهم لمعانيهما ليس إلا.

الفقه لغة واصطلاحاً: ذكرت كلمة الفقه وما اشتق منها عشرين مرة في القرآن الكريم وقد استعملت لثلاثة معان:

أولاً: جاء الفقه بمعنى العلم والمعرفة يقول الله تعالى في سورة هود: 91 ((قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفاً))13.

ثانياً: ويطلق الفقه بمعنى الفهم مطلقاً كما قال الله عز وجل في سورة الكهف : 93 ((حتى إذا بلغ بين السدّين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولا))14.

ثالثاً: يطلق الفقه على الفهم والإدراك والإحاطة بالشيء والتعقل والفطنة ويمكن الاستشهاد على هذه المعاني بالآية 78 من سورة النساء ((فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا))15

إذا كنا قد شرحنا معنى كلمة الفقه في هذه الآيات الثلاث معتمدين على كتب التفسير فإن الأساس لإيضاح معاني هذه الكلمة يكمن في الرجوع إلى كتب اللغة16

فالفقه في اللغة: هو العلم بالشيء وفهمه يقال أوتى فلان فقهاً في الدين أي فهما فيه قال الله عز وجل: ((ليتفقهوا في الدين)) أي ليكونوا علماء به. كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس فقال: ((اللهم علمه وفقهه في التأويل أي فهمه تأويله))17

إن كلمة الفقه لم تكن تستعمل في عهد الرسول والصحابة إلا بمعناها اللغوي فقط. والذي كان شائع الاستعمال آنذاك كلمات أخرى مثل القضاء والرأي والاجتهاد حيث وردت على ألسنة الصحابة وأهل العلم والمعرفة في ذلك العهد وكان أبو بكر وعمر وسائر الصحابة رضوان الله عليهم يقولون: ما هو رأيك؟ إذا أرادوا أن يسألوا عن فكر شخص من الصحابة أو ماذا ترى؟ أو ماذا ترتأى؟ وإلى جانب هذا لا ترى أن الفقه قد استعمل في الأسئلة مثل: ماذا تفقه؟ أو كيف تفقه؟ أو ما هو فقهك؟ أي فهمك الأمر الفلاني. وكذلك كلمة الفهم لم تذكر في الأمور التي تتعلق بالشريعة في عهد الصحابة والتابعين. وهكذا فإن استعمال كلمة الفقه بدأ بانتهاء عهد الرسول والصحابة حيث أخذت المذاهب الفقهية تتكون وتتشكل وتنتشر في أرجاء البلاد الإسلامية. ونحب هنا أن نشير إلى شيء آخر يتعلق بالحالة النفسية والاجتماعية للصحابة والمسلمين آنذاك وهو أن كلمة الرأي كانت تستعمل كثيراً في ذلك العهد ولم يكن لأحد أن ينكر استعمالها لأن معناها يدل أصلاً على إبداء الرأي والفكر وإعمال العقل والذهن لغرض التدبير وإدراك الأمر فكرياً وعقلياً ومع كثرة استعمال الرأي والرؤية في القرآن الكريم وواقع الحياة اليومية أصبحت الكلمة مرادفة للعلم والمعرفة فغلب عليها المعنى العلمي وبهذه الصورة اكتسب الرأي أهمية خاصة وأصبح استعماله في استنباط الأحكام شائعاً.

لقد كان المجتمع الإسلامي في بداية عهده صغيراً إذ لم تكن الحوادث معقدة ومتداخلة فالنصوص القرآنية والأحاديث النبوية كانت تكفي لحل المشكلات الطارئة لهذا لم يرَ الصحابة أي مانع من استعمال كلمة الرأي بمعنى العلم وإبداء الفكر طالما أنه مذكور في القرآن الكريم. ولكن مع مرور الزمن وتطور الأحداث ظهرت حاجة ملحة وماسة لحل المشاكل المستجدة عن طريق إعمال الفكر والرأي على أسس علمية راسخة. لقد اضطر العلماء والأئمة المجتهدون وخاصة من كان يقطن منهم في المدن الإسلامية الكبيرة التي تتطور بسرعة إلى استعمال منهج ثابت يعتمد على العقل والرأي ليتمكنوا من حل المشكلات التي كانت تعترض المسلمين ولجعل الأحكام الدينية مسايرة لتطورات المجتمع الإسلامي. فالأحداث التي برزت في تلك الفترة خارج المدن الكبرى كانت قليلة وكان من الممكن إيجاد حل لها من خلال نصوص القرآن والسنة بدون مشقة، ولكن كان من الصعب جداً تسيير الأمور السياسية والاجتماعية والإدارية في المدن الكبرى التي تم فتحها حديثاً إذ لم يكن بمقدور المسؤولين العثور على الأجوبة الكافية في الآيات والأحاديث مباشرة وبصورة صريحة ولهذا السبب كانوا مضطرين إلى الاجتهاد المستند على الفكر والرأي والعقل ليضبطوا أمور الناس ويضعوها في إطارها الإسلامي حتى لا يخرج الناس عن دائرة الإسلام حتى لا يخرج الناس عن دائرة الإسلام وخاصة من كان منهم حديث العهد وهكذا فكلما ضاقت الدائرة وسّعها العلماء الذين كانوا يشعرون بمسؤولية كبيرة تجاه المجتمع الإسلامي الذي كان يسير بخطى حثيثة في طريق التبدل والتطور.

أما العلماء في المدينة المنورة ومكة المكرمة وأمثالهما فإنهم لم يتعرضوا لصعوبات ومشاكل كتلك التي كان يواجهها العلماء مثلاً في البصرة ودمشق والفسطاط وغيرها من المدن الإسلامية الداخلة في رقعة البلاد الإسلامية حديثاً والتي ينعدم فيها تجانس السكان من النواحي القومية والفكرية والثقافية. فبالنسبة لسكان مكة والمدينة كان يكفيهم أن يتبعوا القرآن والسنة في الأحكام والتقاليد الموروثة من الرسول والخلفاء الراشدين لحل مشاكلهم اليومية فلا حاجة لهم كثيراً للاجتهاد وإعمال الفكر ولذلك أخذوا يقاومون ويستنكرون اجتهادات أصحاب الرأي. لهذه الأسباب ولأسباب أخرى كثيرة تتعلق بالفتوح واتساع الرقعة الإسلامية دعت الضرورات الملحة للمسلمين الفاتحين إلى أن يكونوا أكثر دقة ويقظة تجاه الذين يدخلون في الإسلام أفواجا وينضوون تحت رايته. فالتطور كان سريعاً بعد امتزاج هؤلاء الأقوام الجدد في المجتمع الإسلامي ذلك التطور الذي أدى إلى ظهور مشاكل جديدة لم تكن مألوفة من قبل في الأصقاع البعيدة عن أرض الوحي.

لقد حدث ذلك والمسلمون في مكة والمدينة بعيدين كل البعد عما يجري حولهم من مستجدات ولهذا لم يقبلوا مطلقاً أن يجتهد العلماء في الأمور والحوادث الطارئة وأن يعملوا فكرهم فيها مستندين على الرأي بشكل خاص بل كان عليهم أن يتمسكوا حرفياً بالنصوص والأحكام الموروثة عن الرسول والصحابة وبذلك أخذ أهل مكة والمدينة يمارسون الضغط على أصحاب الرأي والاجتهاد إلى أن خيل للعلماء أن استعمال الرأي وإعماله يعطي حرية واسعة واستقلالاً عن النصوص الشرعية ونتيجة لهذا الإحساس المتكون من جراء الضغط المعنوي تركوا استعمال كلمة الرأي وبدأوا يستعملون كلمة الفقه أي الفهم والإدراك بحيث يستند على النصوص ليس فيه استقلال فكري حاد أو إبداء رأي بلا سند وإنما يعتمد على مقدرة الشخص في الفهم والإدراك لأنه يمكن نقاشه اعتماداً على النص بصورة مباشرة على خلاف الرأي الذي كان يصعب نقاشه بسبب بعده عن النص وعدم اتصاله المباشر فعلى سبيل المثاال إذا قال المرء لمخاطبه ((هذا رأيي)) فماذا يكون جوابه إذا قال له ((أنت على خطأ)) على أي أساس يقول له هذا وهو أيضاً بلا سند وهكذا نرى أنه لا يوجد بينهما في الأصل أساس يستندان عليه أو نقطة تكون قاعدة للنقاش أما إذا قال الرجل لصاحبه ((هذا ما فهمته من النص)) أو هذا هو مدى فهمي فيمكن لمخاطبه عندئذ أن يرد عليه بقوله ((فهمك هذا غير صحيح)) ويستطيع أن يجره إلى المناقشة والمناظرة اعتماداً على النص لأن سند كل واحد منهما موجود بين أيديهما وأعتقد أن هذا من الأسباب التي لأجلها ترك الرأي مكانه للفقه وهكذا انضوت كلمة الرأي في التشريع الإسلامي في زاوية التاريخ. وأحب أن أعلق هنا على ظاهرة أخرى في التفكير الإسلامي حيث يظهر من سرد حكاية الرأي في زمن الصحابة والتابعين أن استعمال الرأي والعقل كان مصدراً مستقلاً للتشريع زائداً على القرآن والسنة وكان العقل مصدراً مستقلاً للتشريع ثم تحول هذا المصدر بعد عصر التابعين إلى معنى ضيق وهو القياس أما بعد تجنب استعمال الرأي وأخذ الفقه مكانه أصبح العقل آلة للفهم لا حاكماً مستقلاً وهكذا نصل إلى معرفة التطورات التي حدثت في حالة بعض الكلمات التي كانت تدور على ألسنة العلماء وذلك نتيجة لتفاعل الأفكار وتأثير بعضها على البعض الآخر إضافة إلى ضغط الجمهور من العلماء والعامة ومن ورائهم على المحققين والمفكرين منهم وهي ظاهرة اجتماعية بارزة في المجتمعات الإسلامية في التاريخ الماضي وحتى يومنا هذا.

لقد استعمل القرآن الكريم الفقه بمعناه اللغوي والاصطلاحي في سورة التوبة (122) ((فَلَوْلاَ نَفَر مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَة لِيَتَفَقّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون)).

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من أراد الله به خيراً يفقهه في الدين))18 ومعنى الفقه هنا يحمل على المعنى اللغوي إلا أن الفقه قد خُصّ هنا بفهم الأمور الدينية ونحن لا نرى المسلمين في عهد الصحابة والتابعين يستعملون الفقه بالمعنى الذي خصه القرآن الكريم به أي للفهم بالأمور الدينية وهو المعنى الاصطلاحي اليوم. وقد بدأ المسلمون باستعمال هذه الكلمة بالمعنى الاصطلاحي السائد في الكتب الفقهية اعتباراً من القرن الثاني الهجري فنحن نرى الحسن البصري يستعملها لأول مرة (110 هـ – 728 م) في الإجابة على الفرقد السبخي (131 هـ – 748 م) يقول الحسن البصري: ((إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بدينه المداوم على عبادة ربه الورع الكاف نفسه عن أعراض المسلمين العفيف عن أموالهم الناصح لجماعتهم))19.

إن الحسن البصري قد خص كلمة الفقه بالجانب الأخلاقي الشخصي من الدين الإسلامي وأما معنى الفقه في الآية المذكورة في سورة التوبة فهو واسع بحيث يشمل كل المعارف الدينية في الاعتقادات والأحكام العملية والأخلاقية.

والإمام الغزالي يعرف الفقه مفنداً معناه كما كان سائداً في زمانه ويقول: ((إن الفقه ليس حفظ الأحكام المكتوبة في كتب الفقه والفتاوي))20 وتعريف الغزالي واضح وشامل للناحية الأخلاقية ويفهم في هذا أن للفقه معنى يؤثر على الحالة الروحية للإنسان ولذلك كان اطلاقه على علم الآخرة أكثر علماً بأن هذا لا يمنع من تناوله للأحكام الظاهرة في كتب الفقه والفتاوى21.

وأفضل من عرَّف الفقه هو الإمام الأعظم أبو حنيفة (150 – 767 م)

يقول في ذلك ((الفقه معرفة النفس ما لها وما عليها))22

إن تعريف الإمام الأعظم للفقه يحتوي على جميع الأحكام الاعتقادية والأخلاقية والعملية والأوامر والنواهي وعلى هذا فالتعريف يشمل الإسلام كله لأن الإسلام يبين للإنسان ما يجب عليه أن يفعله وما لا يفعله. أما الفقه من الناحية الاصطلاحية فلبيان ذلك نذكر هنا بعض التعاريف له لكي يتبين لنا الفرق بينها، ثم نتعرف على النتفق عليه منها:

  1. فالفقه عند إمام الحرمين (478 هـ – 1085 م): هو معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد23.
  2. والفقه عند الغزالي (505 هـ – 1111 م) هو معرفة الأحكام الشرعية التي تتعلق بأفعال العباد24.
  3. وفخر الدين الرازي يقول في تعريفه (606 هـ – 1209 م):25 الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المستدل على أعيانها بحيث لا يعلم كونها في الدين ضرورة)).
  4. أما سيف الدين الآمدي (631 هـ – 1232 م) فيقول في ذلك: الفقه مخصوص بالعلم الحاصل بجملة من الأحكام الشرعية الفرعية بالنظر والاستدلال والفقه اسم لمعرفة الأحكام الفرعية26.
  5. والفقه عند ابن الحاجب (646 هـ / 1284) وأبي البركات النسفي (710 هـ / 1310 م) والشوكاني (1200 هـ / 1839 م): هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية بالاستدلال27.
  6. وعند علي بن محمد البزدوي (482 هـ / 1089 م) وأبي السهل السرخسي (490 هـ / 1096م): العلم نوعان: علم التوحيد والصفات وعلم الشرائع والأحكام والأصل في النوع الأول هو القرآن والسنة والنوع الثاني هو علم الفروع وهو الفقه.

وهو على ثلاثة أقسام:

  • علم المشروع بنفسه أي علم الأحكام نفسها.
  • اتقان المعرفة به وهو معرفة النصوص بمعانيها أي عللها وضبط الأصول بفروعها.
  • هو العمل به حتى لا يصير العلم مقصوداً28.
  1. وعبدالعزيز البخاري (730 هـ / 1329 م) يرجحان تعريف الإمام الأعظم أبي حنيفة الذي أشرنا إليه آنفاً وهو معرفة النفس ما لها وما عليها ويزداد عملا، لتخرج الاعتقاديات والوجدانيات فيخرج الكلام والتصوف ومن لم يزد أراد شمول هذا التعريف المنقول عن أبي حنيفة29.
  2. والبيضاوي (685 هـ / 1286 م) يعرف الفقه بأنه: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية30.
  3. وكمال بن همام يذكر تعريفاً خاصاً به فيقول: الفقه: التصديق لأعمال المكلفين التي لا تقصد لاعتقاد (كذا في المطبوع) بالأحكام الشرعية القطعية مع ملكة الاستنباط31.

ان كلا من قوله ((لأعمال المكلفين)) وقوله ((بالأحكام)) في محل النصب على أنه مفعول به للتصديق وعدّاه إلى أحدهما باللام وإلى الآخر بالهاء لأن ما يعبر به الحكم وهو من شأنه أن يعدي إلى أحد مفعوليه بالهاء وإلى الآخر بعلى في مثل هذا التركيب وجعل المعدي إليه باللام هو الاعمال والمعدى إليه بالهاء هو الاحكام لأن الاعمال هي الموضوع والاحكام هي المجهول32.

إن ابن همام قد ناقش قطعية الأحكام الشرعية الفرعية يعني الفقهية ونحن لا نريد الخوض في هذا النقاش هنا وإن كان من الممكن أن يكون الموضوع شيقاً ونافعاً من جهة قطعية الأحكام الفقهية وظنيتها بحيث يفرد له بحث خاص. ان التعاريف التي ذكرناها ليست كل ما قيل في تعريف الفقه بل هناك تعاريف أخرى كثيرة غيرها ولم تكن غايتنا في عرضها إلا محاولة نبين من خلالها متى وكيف اكتسب الفقه مفهومه الاصطلاحي، كما ذكرنا تاريخ وفاة الأصوليين ليكون واضحاً لنا من الذي تأخر عن الآخر وكيفية التدريج والتطور في فهم الفقه. ومع هذا فالثابت في الكتب الموجودة لدينا أن أول من عرّف الفقه هو الإمام الأعظم وتبعه الأصولي الحنفي الإمام البزدوي لأنه كان يشرح تعريف الإمام للفقه وذكر معاني مختلفة له وبين الإمامين ثلاثة قرون ونصف قرن تقريباً.

أما الإمام الجويني الذي عاصر البزدوي فإنه يعطي للفقه تعريفاً أكثر دقة وأمتن مفهوماً ومن المؤسف أن كتب أصول الفقه المكتوبة قديماً لم تصل إلينا كلها وهي إما موجودة في زوايا المكتبات العالمية أو هي ضاعت وفقدت. كما نرى من عرضنا للتعاريف أن أصحابها ينتمون إلى مذاهب مختلفة وهذا الحكم بالطبع ليس حكماً لا يقبل الاستثناء والمثال على ذلك هو التعريف الذي ذكرناه لصدر الشريعة فهذا التعريف الذي درسه صاحبه دراسة دقيقة وعميقة إنما يعود أصلاً للإمام الأعظم كما أن تعريف التفتازاني للفقه بأنه العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية هو تعريف الشوافع33.

ونهدف أيضاً من سرد هذه التعاريف واختلاف الأصوليين واللفقهاء حولها إلى توجيه الأنظار للفرق بين الفقه والشريعة وقد تطرقنا إلى هذا الفرق عندما كنا نشرح معنى الشريعة. وهكذا نرى المناقشة تجري على قدم وساق لشرح التعاريف في إطار هاتين النقطتين:

النقطة الأولى: كون الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية التي يتم التوصل اليها عن طريق الاستدلال والاستنباط والاجتهاد وعندما عرض علماء أصول الفقه هذه المفاهيم واستثنوا كون الشيء من أصل بالضرورة وقصدوا بذلك الشريعة يعني القرآن والسنة استهدفوا من وراء ذلك تفريق الشريعة عن الفقه لأن الفقه يتوصل إليه عن طريق الاستدلال والاستنباط والاجتهاد.

وهذا يعني الأحكام التي يستنبطها الإنسان بقدر ما لديه من قدرة عقلية وملكة علمية وبما لديه أيضاً من مقدرة على الاستدلال والاجتهاد ولذلك يمكن القول أن الخلافات في مسائل الفقه تعود لاختلاف عقول الناس وفهمهم ومقدرتهم على الاستنباط وعلى ضوء هذا نخرج بنتيجة تقول: ان عقلية وقابلية الإنسان تتطور بتطور العلوم وتقدم الفنون حسب الحاجات والشروط بمقتضى الزمن وقانون الرقي.

والفقه لابد وأن يساير مقتضيات الحياة المتغيرة والمتطورة وأن يتماشى مع الحاجة البشرية الملحة التي لا تخرج عن إطار الدين. فالأصوليون الكبار استعملوا التعاريف التي ذكرناها وهي إشارة إلى هذه الحقيقة. ولاحظوا أنه من الأنسب للواقعة العلمية أن يفرّق بين الفقه وبين الشريعة التي هي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فهما كما قلنا مراراً المصدر الأساسي للشريعة مادام الدين باقياً.

وانطلاقاً من هذا الأساس هناك من يقول أن الفقه يمكن أن ينقد وأن يوجه اليه النقد كما فعل الأولون لأنه عبارة عن آراء المجتهدين وتفسيراتهم ويعزى اليه أيضاً الخطأ والصواب. ولكن لا يجوز نقد الشريعة ((أي القرآن والسنة)) طالما أنها ثابتة كما لا يجوز الاختلاف في تفسيرها وتأويلها بغية نقدها. أما الذي يجوز نقده فهو طرق رواية السنة لأن الإنسان يلعب دوراً أساسياً وعاملاً مهماً في روايتها ونقلها لهذا فالنقد، والحال هذا، ينصب على الناقل والعامل.

النقطة الثانية: وهي تتعلق بكلمة العلم واستعمالها. فالعلم هو معرفة الشيء قطعاً مع الأخذ بعين الاعتبار أن الفقه يحصل بالاجتهاد وهو حكم ظني لا يفيد حكمأ قطعياً. ولو أنه أفاد القطعية لما اختلف فيه الفقهاء ولهذا السبب أجاب الفقهاء على الذين يدّعون بأنه لا يجوز استعمال كلمة العلم في تعريف الفقه بل من الضروري استعمال كلمة الظن فقالوا:

أولاً: إن استعمال كلمة العلم في تعريف الفقه يشمل الشريعة أي القرآن والسنة بما فيها أحكام العبادات جملة وتفصيلا. وليس الفقه كله عبارة عن الاجتهاد والاستدلال.

ثانياً: ان الاجتهاد إنما يحصل بالاستدلال وأنه لا يفيد الحكم الظني دائماً بل يفيد الحكم القطعي أحياناً وأن الاجتهاد يفيد الحكم القطعي والظني وذلك حسب مصادر المعرفة والشروط للحكم.

ثالثاً: أن الاجتهاد يفيد الحكم القطعي دون شك والظن إنما يحصل من خلال استعمال المجتهد للنص والدليل. ولكن المتفق عليه هو اقتناع المجتهد بالحكم الذي استنبطه من النص بحيث يكون قطعياً بالنسبة له وهذه القطعية التي توصل إليها هي خلاصة ونتيجة لاجتهاده والقطعية في قناعة المجتهد يقال لها الأحكام الفقهية أي الأحكام التي تتكون من اجتهادات المجتهدين والتي يقال لها العلم. إن الذين أيدوا قطعية الأحكام يجب أن يروها حكماً خاصاً بالعالم المجتهد لا حكماً عاماً مقطوعاً بصحته إجماعاً.

والمهم في الأمر هو أن الأصوليين يقولون: الاجتهاد يفيد الظن، ولذلك وضعوا القاعدة القائلة: ((ان الاجتهاد لا ينقض بمثله)). أي المماثل له، فمثلاً لو أن للمجتهد اجتهادين في مسألة واحدة فإن الأول لا ينقض الثاني أو بالعكس. لأن الاجتهادين ظنيان فلا ينقض الحكم الظني بالظن والأمر واضح بالنسبة للمجتهدين الآخرين فاجتهاد أحدهم لا ينقض اجتهاد الآخر. وطالما أن الأمر كذلك فإن قطعية حكم المجتهد تكون قطعية بالنسبة له فقط.

سلطة التشريع في الإسلام: سلطة التشريع في الإسلام لله وحده ولرسوله تبعاً ولأولي الأمر بشروط، وقد بين الله سبحانه وتعالى ذلك في القرآن الكريم مصدر التشريع: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطُيعوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا)) النساء : 59.

  • إن بيان الأحكام وإنشاء ووضع القوانين في التشريع الإسلامي بهذا المعنى لم يكن إلا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فقط.
    إذ لم يعط الله لأحد غير نبيه سلطة التشريع وكان الرسول يعتمد فيه على الوحي بقسميه.
  • المتلو وهو القرآن وغير المتلو وهو السنة.
  • على حد تعبير الأصوليين، ففي حياة الرسول وضعت القواعد الكلية وأنشئت الأحكام كما تم تبيان مجملها وتقييد مطلقها وتخصيص عامها ونسخ ما شاء الله أن ينسخ ونصّ كذلك على علة ما شرع جزئياً ليأخذ الحكم الكلي وليمكن تطبيق ذلك الحكم على ما يحدث من أمثال الجزئي في كل زمان ((اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)) المائدة : 4. وهكذا فإن الآيات تبين أن الطاعة واجبة لله ولرسوله ولأولي الأمر من المؤمنين فالدين الإسلامي الذي أنعم الله به على البشر لخلاص أنفسهم قد اكتمل بما يحتاج اليه من الوحي.

لقد كان المسلمون الأوائل يناقشون الأشخاص الذين يشتركون في عملية انتخابات رئيس الدولة أو الخليفة أو أهل الحل والعقد على حد تعبيرهم التاريخي كما كانوا يشاورون العلماء وذوي الخبرة والتجربة حول ذلك. وإذا ما تولى السلطة أحد المرشحين للرئاسة كان له على المسلمين طاعة واجبة والمسلمون ينفذون الأحكام التي يصدرها ويوقع عليها. وهذه النقطة تؤكد أنه كان في الإسلام سلطة عليا، وان قوة الإجراء والتنفيذ لرئيس الدولة هي تماماً كما ورد في سورة النساء ولكن هذه السلطة العليا المهيمنة على الدولة قد تزعزعت في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه حتى استشهد وهو خليفة المسلمين وجاء علي بن ابي طالب رضي الله عنه إلى مقام الخلافة ولكنه لم يتمكن من بسط سيطرة الدولة على المتمردين وسط ما كان سائداً فيها من إرهاب وفوضى.

أما معاوية رضي الله عنه فإنه تحكم بزمام أمور الدولة معتمداً على القوة العسكرية فرسخ دعائم الأمن والنظام في الظاهر وكان يهدف بالدرجة الأولى إلى ((كسر شوكة المتمردين على نظامه)) ونجح في ذلك فعلاً حتى قطع فيه أشواطاً بعيدة ولم يكن معاوية يرمي من خلال ما يقوم به إلى بسط قداسة الدولة والخلافة كما فهم الذين جاءوا بعده.

والدليل على هذا أنه بدّل طريقة انتخاب رئيس الدولة التي كانت متبعة في عهد الخلفاء الراشدين ليجعلها وراثية.

أما المسلمون فقد كانوا يحتكمون إلى العلماء والفقهاء والمحدثين والمفسرين لحل مشاكلهم اليومية في ظل حكم لم يكن نظام الدولة والقضاء فيه مؤسساً على الوجه المطلوب، ولم تكن قواعده ومبادئه مبنية على أصول مشتركة متينة كأصول القوانين اليوم إذا جاز التعبير. لذا ترك أمر القضاء والعدل لاجتهادات القضاة أنفسهم الذين اتفقوا في القليل واختلفوا في الكثير، فساد الشغب وعدم النظام والفوضى في كل مكان وخاصة بعد ازدياد عدد سكان البلاد وقلة الفتوح.

لقد كان كل فقيه أو عالم يفتي بالآية أو بالحديث أو بكل نص عثر عليه حسب فهمه وفقهه، وباجتهاده الشخصي إذا لم يجد نصاً مناسباً للحادثة. وأصبح المسلمون يجدون في المدينة الواحدة علماء ومجتهدين يناقض بعضهم البعض بآرائهم واجتهاداتهم، فالعلماء كانوا مستقلين في عملهم لا علاقة لأحدهم بالآخر، إضافة إلى أنهم كانوا يملكون حرية واسعة جداً في الاجتهاد. لقد أدرك السياسيون والإداريون هذا الوضع الخطير الذي تواجهه الأمة الإسلامية، فأرادوا استدراك الأمر، ولذلك عرضوا فكرة جمع الناس والمة على كتاب جامع توضع فيه المباديء والأصول الشرعية.

يعرض أحمد أمين فكرة تقول بأن الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز هو أول من حاول معالجة الفوضى في القضاء. ويتضح من هذا أن أحداً غيره من الأمويين لم يهتم بوضع نظام عام في أمور القضاء34 ونرى أيضاً عبدالله بن المقفع (143 هـ 760 م) يبعث برسالة شاملة إلى أبي جعفر المنصور يطلب منه فيها تنظيم شؤون العدل والقضاء ومؤسسات الدولة الأخرى كالشؤون المالية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية وإزالة الفوضى والقضاء على القلاقل.

ويقول الدكتور صلاح الدين الناهي في الموضوع ((وحين اشتد الخلاف بين أقوال المذاهب وظهرت أقوال متناقضة في الحالة الواحدة من النقيض إلى النقيض رسم ابن المقفع للخليفة العباسي سياسة تشريعية أو وضع تشريع يتخير فيه الخليفة أرجح الأقوال، وأدناها في رأيه لتحقيق المسألة العامة ورفع التناقض والفوضى الاجتهادية والقضائية))35.

الا أن أبا جعفر المنصور فشل في تنفيذ خطة ابن المقفع36 وقد أثرت هذه الرسالة على الخلفاء العباسيين إذ طلب هارون الرشيد من الإمام مالك معالجة الموضوع بجعل كتابه ((الموطأ)) كقانون أساسي يرجع إليه في أنحاء الدولة الإسلامية ولكن الإمام لم يقبل هذا الاقتراح لأسباب ذكر بعضها. كما نرى الإمام الشافعي (205 هـ / 830 م) يقترح تنظيم اجتهاد المختلفين في الفقهاء فيما يجدّ في الحوادث المشكلة والنوازل الملتبسة فقال: ((ويجمع المختلفين لأنه أشد لتقصية العلم ويكشف بعضهم عن بعض وهذا إنما يخص الحوادث المشكلة والنوازل الملتبسة دون ما استقرت أحكامه بالنصوص أو بالإجماع أو بالقياس الذي لا يحتمل غيره فيجمع له المختلفين من أهل الاجتهاد ليسأل كل واحد منهم عن حكم الحادثة))37.

وهنا نحب أن نلفت أنظار القراء إلى أن الإمام الشافعي لم يتكلم عن المذاهب وإنما خص المجتهدين بحديثه لأن المذاهب لم تكن قد تشكلت وأخذت وضعها الشكلي والعضوي بعد وسنبين هذا فيما يلي:

ان مسألة وضع قانون أساسي للدولة يتحقق ولم تحل القضية من أساسها. فالخليفة هارون الرشيد قد أخطأ في الأساس لأنه لم يضع المسألة على أسس منهجية ولو كان قد وجه الأمر إلى طائفة من رجال العلم وجمعهم من أرجاء الإمبراطورية الإسلامية وطلب منهم أن يؤلفوا كتاباً لمعالجة الفوضى في شؤون القضاء والإدارة لكان قد نجح على ما نعتقد أو على الأقل كان قد اتخذ منهجاً صالحاً يتطور في المستقبل ولكان نظام القضاء وإدارة الدولة قد أسسا على دعائم وأصول متينة منذ ذلك الوقت.

بحيث يتطوران شيئاً فشيئاً ليأخذا وضعهما النهائي المتكمل في عصور متتالية. لقد فهم الدكتور الناهي من قول الشافعي السابق بأنه كان ينبغي أن يكوّن اقتراحاً يستند على تطبيق مبدأ الشورى في صدر الإسلام ثم يتطور ليؤدي إلى ظهور ضرب من الديمقراطية في الإسلام38.

ولكن مع الأسف الشديد فالمسألة قد أثيرت قبل أكثر من اثني عشر قرناً ولم تحل حتى يومنا هذا في أي بلد من البلدان الإسلامية. وقد كان الأولى باصحاب الأمر ورجال الدولة أن يستلهموا نظرية التوحيد ((توحيد الله عز وجل)) في إرجاع الأمور إلى وحدة قضائية كما جعلوها في كثير من الأمور. ولاستدراك الوضع وحل مشكلة الفوضى بدأ رجال العلم والفقهاء يعالجون الموضوع بعد أن يئسوا من قيام أركان الدولة بهذا الواجب فتشكلت المذاهب وتكونت لسد الفراغ الذي تركه الخلفاء والدولة كما أخذت الأمة تتحزب حول حلقات العلماء والفقهاء وانتظمت تحت لواء المذاهب المختلفة وقد وصل الأمر بكثير من الناس إلى تعريف أنفسهم بانتمائهم إلى هذا المذهب أو ذاك حتى أضحى المذهب جنسية الشخص.

وبذلك خفت وطأة الفوضى في القضاء والأمور الاجتماعية إلى حد ما، ولكن كان يجب أن يحل الموضوع بشكل آخر كأن يتم تشكيل سلطة مركزية أو فدرالية لكبح جماح الفوضى والشغب وتنظيم أمور الدولة والمجتمع في هذا الوقت بالذات وجد الفقهاء المخلصون طريق النجاة من ذلك المأزق الحرج وهو أن كل فقيه أو عالم لا يفتي إلا إذا وجد حكماً مطابقاً لمذهبه فإذا لم يجد حكماً مطابقاً للمسألة المستفسر عنها استدل على حكم من ضمن مبادئ مذهبه أو اجتهد اعتماداً عليها.

لقد كان لتأسيس المذاهب نتيجة للضرورات الاجتماعية أن ضاقت زاوية فهم العلماء بسبب التعصب لمذاهبهم فتركوا الأصول والمصادر الشرعية الأساسية ولم يرجعوا اليها مباشرة بل شرعوا يفرعون أو يستفرعون على الأحكام الفرعية الجزئية ضمن دائرة مذهبهم التي ضيقت أفقهم في الفهم والإدراك. لقد أصّلوا الفروع ليفرعوا عليها من جديد ثم جعلوا تلك الأحكام الفرعية من سلفهم احكاماً أصولية ومباديء شرعية لأنفسهم مكتفين بهذا المنهج في الاستجابة لحاجات الناس ومتطلبات الحياة.

إن هذا الوضع الجديد الذي واجهته الأمة الإسلامية قد وسع الهوة بين أصحاب المذاهب مما أدى إلى جعل الاختلاف في الرأي والفكر نقمة وفتنة بعد أن كان اختلاف الأمة نعمة ورحمة. وهكذا أغلق باب الاجتهاد بذريعة السيطرة على الفوضى التي استفحلت فيه.

ان المذاهب لم تستطع بأي حال من الأحوال مسايرة ما يجري في المجتمعات الإنسانية من تغيرات حضارية مهمة وبسبب جمودها وتمسك أصحابها بآراء معينة وضعت أصلاً في ظروف غير التي يعيشونها لم تتمكن من اللحاق بركب التطور للأمة الإسلامية.

لقد أدى الضغط المعنوي وخمود حركة الاجتهاد والاستدلال والاستنباط إلى تمسك الناس بمذهب معين من المذاهب والوصول إلى قناعة مفادها أن من لا مذهب له لا دين له وأن أحداً لا يمكن له أن يفكر في الانتساب إلى مذهب غير مذهبه لقد اعتبر تبديل المذهب أو تغييره أمراً خطيراً يشبه إلى حد كبير العزوف عن الدين حتى ان بعض الغلاة اعتبروه أمراً يفوق ذلك.

والجدير قوله هنا: ان كل مذهب تساهل في مسائل فقهية محددة أكثر من غيره وشدد في أخرى أكثر من اللازم وبطبيعة الحال كان من الصعب على الأفراد متابعة تلك التطورات في حينها.

فالمذاهب كما رأينا قد قسمت الأمة وضيقت الشريعة الإسلامية الرحبة لتحصرها في دائرة محدودة كما أنها حالت دون التصرف الحر في كل مجالات الحياة وبأسف شديد نقول إن هذه المشكلة مازالت قائمة حتى يومنا هذا.

وهكذا أصبح للمذاهب سلطة حلت من خلالها محل سلطة التشريع لمجلس الأمة في الدول الإسلامية على مر العصور فالذين لا يرون حق التشريع لمجلس الأمة بماذا يجيبون إذا قيل لهم ان المذاهب قد مارست حق التشريع عصوراً طويلة، من الذي أعطى هذا الحق لعلماء المذاهب وسلبه من العلماء اليوم؟.

ان ما يفهم من كلام الأصوليين الذي استعرضناه فيما سبق أن الفقه ليس الشريعة وإنه غيرها. فالفقهاء وأصحاب المذاهب قد جعلوا الفقه عين الشريعة في نظر الناس وكان هدفهم في الأصل تأسيس سلطة تشريعية تقمع الفوضى استناداً على الاجتهاد المذهبي ولكن بالرغم من ذلك ما برح أصحاب تلك المذاهب يسمون الفقه شريعة وهذه مغالطة بدون شك لأنه إذا كانت الشريعة هي الكتاب والسنة فإن الفقه هو الأحكام التي استنبطت منهما بالنظر والتفكير في العلل والأسباب.

فالعلاقة بين الشريعة والفقه إذن علاقة العلة والمعلول. وعلاقة السبب والمسبب وعلاقة الأصل بالفرع. كلاهما يتبعان نفس الحكم الشرعي. وبهذا الشكل وجدت الأمة نفسها ترزح تحت قيود ثقيلة كانت حصيلة تفكير بشري أسفر عن وجود الأحكام الفقهية والآراء المذهبية التي توصل إليها العلماء والفقهاء عن طريق الاجتهاد والاستدلال الشخصي.

النتيجة: إذا أردنا تلخيص الموضوع يمكننا أن نذكر النقاط التالية:

  1. لقد حاول العثمانيون والمصريون في القرون الأخيرة الاقتباس من القوانين الأوروبية لعدم تمكن الفقه الذي كان يعيش في قوالب جامدة منذ قرون عديدة من الاستجابة لحاجات المسلمين والدولة الإسلامية المعاصرة وقد كان رد فعل أولئك الذين يفهمون أن الشريعة هي الفقه عنيفاً جداً إذا أقاموا الدنيا وأقعدوها ضد هذه الاتجاهات الجديدة مدعين أن في ذلك ابتعاداً عن جوهر الدين ومبادئه. والذي يجب أن يقال هنا هو أن كثيراً من المسائل المستحدثة لم تكن موجودة في الفقه وربما كان بعضها يخالفه.
    وخلال تلك الفترة التي اشتد فيها الخلاف حول هذه المسألة المهمة شرع اصحاب التيار الجديد بنقد الدين والشريعة معاً عندما كانوا يتصدون للفقه. والحقيقة أن كلا الطرفين المتنازعين لم يدركا الفرق بين الشريعة والفقه لعدم احاطتهما الواسعة بالموضوع. ونتيجة لذلك خسر الدين والشريعة معاً في الوقت الذي كان يجب أن يكون الخاسر فيه هو الفقه فقط.
    ولهذا كان لابد من ضرورة بذل الجهود المخلصة للتفريق بين الشريعة والفقه لحفظ عصمة الدين.
  2. لقد أوضحنا الفرق بين الفقه والشريعة للذين يأملون أن يطبقوا لأحكام الفقهية في عصرنا الحاضر وللذين يجدون في أنفسهم حرجا في عدم تطبيق تلك الأحكام ناقلاً ذلك الفرق من كلام الأصوليين الأوائل، لأنه لا يمكن لأحدهم أن يحيد عن الدين كما نريد أن نطمئنهم على أنه بتغيير الأحكام الفقهية لن يتغير الدين والشريعة أبداً.
  3. أردنا من خلال هذا البحث أن نزيل الغشاوة عن أعين أولئك الذين ينقدون الأحكام الدينية عند نقدهم للفقه إن عليهم ان يفرقوا بين الشريعة والفقه عندما يهاجمون الآراء الفقهية لكي يبقوا معتنقين للشريعة أي القرآن والسنة.
  4. لقد ابتعدت البلدان الإسلامية اليوم عن كثير من أحكام الفقه كما ذكرنا من قبل. ونقول الآن بوضوح أنه لا يجوز تكفير الذين لا يطبقون تلك الأحكام المذهبية الفقهية التي وضعت أصلاً في ظروف تختلف كل الاختلاف عن ظروفنا الحاضرة بشرط اعتقادهم وتمسكهم بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
  5. على الذين يوجهون النقد للفقه الإسلامي من غير المسلمين أو حتى من المسلمين أنفسهم أن يعوا الفرق بين الشريعة والفقه. وهذه نقطة مهمة يجب على الباحث النزيه الذي يسعى للوصول إلى الحقيقة العلمية التمسك بها. إن تمسكه بهذا المبدأ لا يشكل أية عقبة أمام بحوثه مادام لا يهدف إلا إلى معرفة الحقيقة الموضوعية. ومن ناحية أخرى عليه مراعاة شعور معتنقي الشريعة الإسلامية وأقل ما يطللب منه في هذه الحالة هو أن لا يخلط في نقده بين الشريعة والفقه عند تناوله لهما. إن عليه أن ينقد كل واحدة منهما إذا كان مصمماً على حدة بحيث لا تنقد الواحدة على حساب الأخرى إذ لا يجوز في المنهج العلمي السليم أن ينقد الشيء على حساب الآخر.
  6. ان المنهج الذي ينبغي أن يتبعه المسلمون حسب رأينا لحل مشاكلهم الراهنة سواء أكانت تلك المشاكل اعتقادية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو غيرها من المشاكل الأخرى هو المنهج التالي:
    أولاً: على المسلمين أن يفرقوا بين الشريعة (القرآن والسنة) وبن الفقه لأن الدين (الشريعة) وضع إلهي لا يتغير والفقه اجتهادات الأشخاص وهو بشري يختلف ويتغير من وقت لآخر حسب مقدرة المجتهد وحسب الظروف المحيطة به.
    ثانياً: ينبغي أن يُقرأ الدين ويدرس وأن يهتم المسلمون بالقرآن والسنة لاتباعهما والعمل بهديهما. وبالمقابل يقرأ الفقه ويدرس للاستفادة منه والانتفاع بكيفية فهم المتقدمين للنصوص وكيفية استدلالهم وتطبيقهم لها لا للاتباع والتدين والا دخل المرء ضمن قوله تعالى: ((اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله)) (التوبة : 31).
    ثالثاً: أن يكون القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة المصدرين الرئيسيين مهما يكن الحكم الفقهي وبغضّ النظر عن صاحبه حتى وإن كان واحداً من الخلفاء الراشدين أو من كبار الصحابة وذلك انسجاماً مع قوله تعالى: ((فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول)) وهذه الآية مصداق على التمسك بالقرآن والسنة والنية الصادقة كفيلة بذلك.

 

الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

د. حسين آتاي.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الهـوامــــش

 

  • مفردات الراغب الاصفهاني 259 القاهرة 1324.
  • ابن فارس، معجم مقاييس اللغة 264 / 3.
  • سورة الأعراف 163.
  • ابن فارس، معجم 263 / 3.
  • لسان العرب لابن منظور 299 / 2 تحقيق يوسف خياط.
  • لسان العرب 300 / 2.
  • تفسير الطبري 146 – 147 / 25، فخر الدين الرازي، التفسير 481 / 7.
  • تفسير الطبري 1 – 15 / 25، تفسير فخر الدين الرازي 397 / 7.
  • محمد يوسف موسى، الأحوال ونظرية العقد 10.
  • محمد علي السايس، تاريخ التشريع الإسلامي.
  • محمد يوسف موسى، الأحوال 10 – 11.
  • محمد السايس، تاريخ 6.
  • تفسير الطبري 105 / 13.
  • تفسير الطبري 16 / 16.
  • تفسير المراغي 96 / 5.
  • كليات ابي البقاء 276 لسان العرب 113 / 2
    L, Arabic Lexicon 6 – 2529.
  • محمد مصطفى الشلبي / المدخل لدراسة الفقه الإسلامي.
  • البخاري 25 / 1، 49 / 4، 149 / 8، مسلم مع النووي 126 / 7، 67 / 12، ترتيب مسند أحمد ابن حنبل 147 / 1.
  • الغزالي، إحياء علوم الدين، 49 / 1.
  • نفس المرجع.
  • نفس المرجع.
  • عبدالعزيز البخاري، شرح أصول البزدوي، 5 / 1.
  • الورقات 12 (هامش إرشاد الفحول).
  • المستصفى 4 / 1.
  • المحصول ا ب 292 رئيس الكتاب سليمانية 1 / 192 المطبوع في الرياض، القرافي شرح تنقيح الفصول 9، كليات ابي البقاء 276.
  • مختصر المنتهى 4، ارشاد الفحول 3، المنار مع شرحه كشف الأسرار 1 / 6.
  • الإحكام في أصول الأحكام 4 / 1.
  • أصول البزدوي 1 / 12، أصول السرخسي 1 / 10.
  • كشف الأسرار على البزدوي 1 / 5، عبيد الله بن صدر الشريعة: التوضيح 1 / 19.
  • منهاج الوصول إلى علم الأصول 1 / 12 (هامش التحرير).
  • التحرير 1 / 17.
  • شرح ابن أمير الحاج للتحرير 1 / 18.
  • التفتازاني، التلويح 22 / 1 طبع استانبول 1304.
  • رسالة الصحابة (وهم الوزراء على حد التعبير اليوم) أحمد أمين: ضحى الإسلام 1 / 205 – 211.
  • نصوص قانونية وشرعية 20 بغداد 1971 نشير إلى أن الأستاذ الناهي قد ذهل عن شيء وهو عدم تأسس وتعضو المذاهب في زمن ابن المقفع وحتى في زمن الشافعي.
  • نفس المصدر 27.
  • نفس المصدر 27.
  • نفس المرجع.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر