أبحاث

التوحيد والفن – نظرية الفن الإسلامي

العدد 25

– الأساس الروحى:

حين ظهر الاسلام في منطقة الشرق الأوسط في القرن الأول للهجرة, كاعادة بلورة لذلك الوعى السامى, واجه كل تلك الأوضاع الفنية. ومن الواضح أن الفن الاسلامى بدا مترددا وغير حاسم في بداية أمره, اذ نرى أمثلة عديدة لما تمثله هذا الفن من الطبيعة كالأشجار والأزهار وأعناق الكروم التى لا تزال قائمة في قبة الصخرة بالقدس – تم بناؤها قبل اتنهاء القرن الأول للهجرة بقليل – وفى المسجد الأموى بدمشق, وفى عدد من القصور الأموية كالمفجر والمشتى وغيرهما. وهذه تعطى دليلا واضحا على عدم وضوح الرؤية الدينية في الفن الاسلامى المرئى في أخريات القرن الاول وبداية القرن الثانى, بلاضافة الى أنه يحتوى على بعض العناصر التشخيصية على الطريقة البيزنطية….

على هذا النتاج يعد أروع ما وصل اليه الفن في منطقة الشرق الأوسط كمنطقة سامية تسودها الحضارة الهلينية. والاسلوب الفنى الذى تبناه الفنان يؤكد هذه الحقيقة, على الرغم من أنه ينتمى الى الجيل الأول أو الثانى ممن دخلوا فى الاسلام. بل وليس من المستبعد أنه نفسه كان مسيحيا دخل فى الاسلام. وهكذا صدر فى نتاجه عن الأسلوب والنمط المالوف لدية, وهو اخراج الموضوعات الطبيعية في صورة غير طبيعية – مؤسلبة – حين أدمج هذا النتائج فى الأبنية الجديدة التى أمر المسلمون بتشييدها, ورأى من رأى من صانعيها – حسب اجتهاد – امكانية هذا التعبير خلال النباتات والأزهار, لا الأشخاص أو الحيوانات. وهذه الحقيقة التاريخية يستشهد بها دائما على أن الفن الأموى فن بيزنطى فى مجموعه – مع ما فى هذا الرأى من مبالغة ومجانبة للصواب,(62) لأن الفسيفساء التى هى مجال البحث هنا انما تعد ثانوية في نسق زخرفى متكامل, وجزاء من أشكال معمارية كاملة تطبعها التعبيرية الاسلامية بطابع بين لا يخطئ, يشير بوضوح الى حيث كان يتجه الفن الاسلامى. بل أكثر من ذلك فان هذه العمائر ذاتها, بالأضافة الى ما تقدم, تتضمن من الأعمال الفنية ما يمثل الذروة التى أدركها الاسلام فى الفنون المرئية.

ان من الخصائص الأصلية فى الوعى السامى, والتى رأى فيها الاسلام أول حقيقة جديرة يؤكدها, هى رفض ما ليس بحقيقة.

ف((لا اله الا الله)) انما تعني وجود حقيقتين فقط. لا ثالث لهما:

حقيقة منزهة هى عالم الخالق, وحقيقة طبيعية هى عالم المخلوق…

فالأولى تعنى(( الله)) لا غيره حيث أن هذا المستوى من الوجود لا يحوى الا عضوا واحدا, وواحدا فقط. وكل ما عدا ذلك الواحد انما يقع في مستوى آخر من الوجود – مختلف تماما عن المستوى الأول – وهذا هو مستوى الطبيعة. ذلك الواحد موجود بذاته, مطلق, روحى, لا نهائى, له الجلال والاكرام… هو الاول والآخر .. هو مصدر الحق كل الحق, والخير والجمال. وهو منزه بكل ما يحويه التنزية من معان(ليس كمثله شئ), (63) حيث لا يحده زمان أو مكان.وحين يصف القرآن الكريم وجود هذا. أو يعدد صفاته وأسماءه الحسنى, فان المسلم يعى ويفهم بعقله كل ما يقال. ووعيه هنا وعى مباشر, أى أنه لا يحتاج الى خيال يقدم له تصورات تستحضره هذا الوعى… فهو باختصار يرى هذا الوجود كما رآه الاشعرى: ((بلا كيف)) وهذا التوحيد, أو الاعتقاد بالوحدانية, يستبعد أى اعتقاد بالحلول أو الخلط, أو السريان, أو التجسد, أو الانبعاث أو الاستغراق, أو الاتصال الجوهرى بين ما هو قدسي وما ليس بقدسي, أو بين الخالق والمخلوق.(64) هو يستبعد تماما أن الذات الالهية يمكن أن توحى أو تمثل. لأن مثل هذا يتضمن دخولها فى اطار الزمان والمكان مما يخل بحقيقة التنزية. هذان اذن مستويان لا يمكن التقاؤهما أبدا … ومن ثم كانت اليهودية محقة كل الحق فى حكمها بأنه لا شئ ( لا شئ على الاطلاق في الطبيعة, سواء كانت طابعة أو مطبوعة, وبالتاكيد لا انسان) يمكن بأى حال أن يؤلف بين هذين المستويين من الحقيقة حتى يمكن اعتبار ايحائة ايحاء بالذات الالهية نفسها.

هل نعتبر اذن ان أى اتصال بين هذين المستويين مستحيل؟

لا. فالاتصال قائم, ولكن هذا الاتصال يجب أن يكون بطبيعته مما لا يمس قداسة الذات الالهية أو التنزية. انه يمكن أن يتم فقط في الذهن الانسانى. وحتى في مثل هذه الحالة فانه لا يكون اتصالا بالذات الالهية, ولكنه بالأحرى اتصال بمشيئة هذه الذات. فسواء في ذهن النبى أو فى ذهن أى أنسان آخر, يتم هذا الاتصال بارادة الله ككلمات, كتصورات وأفكار عبرت عنها الكلمات, يمكن أن يتعقلها ويفهمها العقل الانسانى. ولكن مثل هذه المعرفة مما لايدرك بالحواس وانما تتم خلال الوعى وبالبداهة. ان الاسلام يؤكد فى هذا الصدد أن يظل من الثابت دائما في ذهن المسلم أن الكلمات والتصورات والأفكار التى يعبر بها هذه الذات الالهية يجب أن تؤخذ دائما ((بلا كيف)), مباشرة وبدون اعتماد على ركائز تخيلية, وذلك حتى لا يساء فهم تلك للذات. وحتى في حالة القرآن, فان ما يحيط به المسلم خلال كلماته ليس الله… وانما ارادة الله للخلق. فكلمات القرآن ليست رموزا معبرة عن الذات الالهية, وانما هى (( كلماته القدسية)), ((بلا كيف)). فمن التجديف فى الله اذن الادعاء بأن شيئا ما فى الطبيعة, وخاصة فى الانسان, يمكن أن يؤخذ على أنه رمز للذات المقدسة, أو أداة لها, أو ايحاء بها أو تعبير عنها, أو تجسيد لها, أو فيض, أو اشتقاق منها. فلا شئ مما يدرك بالحس أو بالوعى المحسوس يرقى – أو يمكن أن يرقى – الى مستوى تلك الذات. ومن ثم فقد أقصى الاسلام تماما أى تعبير فنى تشخيصى وهكذا أعاد المبدأ السلمى مؤكدا من جديد أنه المبدأ الأسمى.

2- العطاءالاسلامى فى الجماليات:

يكفينا هذا من الجانب السلبي. فلو أن الشعور الاسلامى توقف عند هذا الحد لأصبح تاريخ الاسلام – مثلما كان تاريخ اليهودية – خاليا من الفنون. ولكنه ذهب الى مدى أرحب. اذ من الواضح أن عدم وجود شئ في الطبيعة يصلح أن يكون أداة معبرة عن الذات القدسية لا يمنع, فى حد ذاته, أن يكون هناك شئ ما فى الطبيعة يمكن أن يعبر عن هذا المنع المؤكد ذاته, أى ان يعبر عن أن الذات الالهية منزهة, أنها حقيقة لا نهائية لا يمكن التعبير عنها. فعدم التعبير عن الذات المقدسة لأنها لا يمكن التعبير عنها شئ, والتعبير عن الحقيقة الجملية المتضمنة لتلك الحقيقة الفكرية شئ آخر. فالأول سلبي محض, والثاني تعبير ايجابى عن مضمون هذه الحقيقة السلبية. لنا أن نعترف بأن التصدى للتعبير الحسى عن هذه الحقيقة التى تؤكد أن الله تعالى لا يمكن التعبير عنه بوسائل الحس مما يصعب على خيال أى فنان, ولكنه لا يستحيل عليه.

وهنا حقا يكمن النصر الذى أحرزته عبقرية الفنان المسلم في هذا المجال.

فقد رأينا أن النمط الفنى الذى يتناول موضوعات الطبيعة بصورة غير مألوفة في الطبيعة, نمط التأسلب المناقض للطبيعة, قد وصل الى مستوى رفيع في منطقة الشرق الأوسط القديم نتيجة قيامه كرد فعل على الطبيعة الهيلينية التى فرضها الاسكندر وخلفاؤه على هذه المنطقة. وبظهور الاسلام وتحت لوائه, مواجها هذه الهيلينية ذاتها وان تخفت فى زى مسيحى,فان الرد الفعل السامى كان قويا, في مجال الجماليات بنفس قوته في المجال اللاهوتى.فانكار الاسلام ألوهية المسيح انكارا قاطعا يتلاءم تماما مع رفضه التعبير الجمالى عن الطبيعة وتشجيعه للفن الذى يبرز هذه الطبيعه بصورة غير مألوفة, اى النمط التأسلبى.

فالشجرة أو الزهرة التى ترسم بهذه الطريقة تبدو ك(( كاريكاتير)) لموضوعها الحقيقى في الطبيعة تبدو كما لو كانت لا طبيعية أو ليست من الطبيعة.فكأنما أراد الفنان حين رسمها أن يقول للطبيعة : ((لا)).

أليست هذه  هى الوسيلة المناسبة للتعبير عن (( اللا طبيعية)) , أعنى عن رفض الطبيعة؟  فلا شك أن الزهرة أو الشجرة بمفردها حين ترسم بهذا الأسلوب سوف تعبر عن شئ ليس فى الطبيعة فتبدو فى صورة تعزلها عن باقى أفراد جنسها مما يومئ بموت الطبيعة فيها. على أن تمثل الطبيعة – وان في حالة موتها – فى موضوع طبيعى, ربما يعبر عن (( الطبيعة )) في قمتها, وهو ما يتنافى مع الهدف الاسلامى الاساسى – مثلما تتمثل الصحة عادة, خلال المرض, والحياة خلال الموت. شئ ما أذن يظل محتاجا اليه كى يحفظ الفنان الشكل الظاهر للا طبيعية.

وأسلوب التعبير الفنى يجب أن يشرح عدم امكانية التعبير عن الذات الالهية اذا كان الاسلام قد أراد النجاح فيما فشلت فيه اليهودية.

ان الاسلام قد نهض لمواجهة هذا التحدى. فلقد قدم الحل الأصيل, الخلاق الفريد فى نوعه. وذلك بتناول هذه الشجرة أو الزهرة المرسومة بطريقة مؤسلبة تخالف طبيعتها وبتكرارها بصورة لا نهائية, رافضا بذلك كل تفرد – أو أى تفرد – لها, وبالتالى فهو يقصى الطبيعية عن الوعى مرة والى الأبد. فالموضوع اللا طبيعى الذى يكرر بنفس الصورة يعبر بالتاكيد عن اللاطبيعية. اذا استطاع الفنان, بلاضافة الى ذلك, أن يعبر بأسلوب جمالى, وبواسطة تكرار الموضوع (( اللاطبيعى )) عن اللا نهائية واللا تعبيرية, فان النتيجة تكون مساوية لشهادة أن (( لا اله الا الله)) كما تعبر الكلمات. لأن اللاتعبيرية واللانهائية اللتين يشكلان مضمون العمل الفنى حينئذ تصبحان, ذاتهما, صفات للأطبيعية. وهكذا بدا للروح الاسلامى أن هناك وسيلة ما تتطابق فيها الفنون المرئية مع القاعدة الأساسية للتنزيه فى الوجدان الاسلامى. ولكن الصعوبة الرئيسية هنا هى: كيف يمكن لأى موضوع من الطبيعة, مهما كانت درجة تأسلبة, أو اخراجه بصورة مخالفة, أن يصبح الأداة المعبرة عن اللانهائية واللاتعبيرية؟

أ- الوجدان العربى: الأساس التاريخى للاسلام:

لقد كان على العقل الاسلامى ليصل الى حل موفق أن ينظر الى أساسه التاريخى, وهو العقل العربى. فالأهمية التاريخية لهذا الأساس أن الوحى الالهى قد صيغ فيه, وانه يمثل البيئة الحية التى نشأ فيها والتى كانت أداة ومنبرا للحقيقة الالهية. هذا العقل – ممثلا فى شخص النبى محمد, صلى الله وعليه وسلم – هو الذى تلقى الوحى الالهى ليبلغة للناس كافة في حدود الزمان والمكان. ولقد كانت بيئة النبوة فبه بلغ فن اللغة والأدب درجة الجدارة المعجزة قبيل ظهور الاسلام, وهذه الحقيقة وحدها تقرر أن النمط الجديد للتعبير عن الوحى الالهى لابد وأن يكون ذا طابع أدبى غاية فى السمو والرفعة, فلقد كان هذا الوجدان مستعدا لتلقى مثل هذه الرسالة, قادرا على حملها.

ان الأداة الأولى فى الوجدان العربى والتى تتمثل فيها كل خصائصه هى اللغة العربية. فهذه اللغة تتألف أساسا من مجموعة من الجذور اللغوية, يتركب كل منها من ثلاثة حروف صامته, ويصلح للتصريف الى ما يربو على ثلاثمائة صيغة وذلك اما بتغيير الحركات أو باضافة سوابق أو لواحق أو مقاطع في الوسط. على أن كل الكلمات التى تنتمى الى صيغة صفية واحدة, حين نقوم بتصريف مجموعة مختلفة من الأفعال مثلا, تتضمن معنى مشتركا خاصا بهذه الصيغة…

فها هنا يظل المعنى الخاص بالجذر باقيا, وان دلت الصيغة الجديدة على المعنى الصرفى الخاص بها. (65) فاللغة اذن, وفى هذا الاطار, لها بناء منطقى واضح كامل يمكن الاحاطة به. فمنذ اللحظة التى يتم فيها استيعاب هذا البناء اللغوى يستطيع المرء السيطرة على اللغة ككل, حيث ان معرفة المعنى الذى يفيده الجذر ثانويا بجانب المعنى الاشتقاقى. ان الفن الأدبى عبارة عن بناء متناسق مركب من تصورات ينتمى بعضها الى بعض بطريق يتم فيها استخدام المتوازيات والمنتاقضات التى تنبثق عن تصريف الجذور اللغوية المختلفة, وهو فى نفس الوقت يساعد الفهم على الحركة فى خط مستمر لا ينقطع وعلى وتيرة رياضية متناسقة. انه يبدو مثل فن الزخرفة العربى Arabesqueحيث نجد آلاف المثلثات والمربعات والدوائر والمخمسات والمسدسات والمثمنات ذات الألوان البهيجة تتداخل وتتشابك مع بعضها البعض, تكاد العين(( تزغلل )) فى متابعتها لهذه الوتيرة, ولكن العقل يظل دائما قادرا على تصورها والسيطرة عليها, فطالما أنه تعرف على الشكل, وليكن الخماسى مثلا, فانه يتحرك من مخمس الى آخر خلال اللوحة كلها ومن أقصاها التى أقصاها برغم اختلاف المخمسات فى لونها وحجمها وشكلها.

انه بذلك يمارس نوعا من المتعه فى كل وفقه يتوقفها حين يتعرف على المتوازيات التى تنشأ عن وحدة الشكل … وبعبارة أخرى فانه يتعرف على وحدة الأنساق المتماثلة ( فاعل – فاعل – فاعل ) فى جذور يختلف معناها ( دارس – لابس – نائم ) بجانب تعرفه على المعانى المختلفة التى تتضمنها تللك الجذور.

هذه الخصيصة النسقية فى اللغة العربية تبدو واضحة جلية في الشعر العربى أيضا. فهذا الشعر يتركب من أبيات مستقلة قائمة بذاتها, كل منها يتضمن نفس النسق الموسيقى الموحد فى كل الابيات. فالشاعر حر فى اختيار النسق الموسيقى أو

(( البحر )) الذى يروقة من تلك البحور التى تزيد على الثلاثين ولكنه فى اللحظة التى تم فيها اختياره هذا قد الزم نفسه باتباع ذلك النسق أو البحر في قصيدته كلها. فلكى يستمتع المرء بالشعر العربي لا بد له من ادراك هذا النسق الموسيقى والتحرك مع فيض التفعيلات المكونة لهذه الموسيقى حينما تروى القصيدة … انه يطالب بأن

(( يتوقع )) وأن (( يستقبل)) , فى نفس الوقت, ذلك النسق الذى تقدمه القصيدة, وانه لمن المؤكد أن الكلمات والتصورات والأخيلة والافكار تختلف من بيت الى آخر, وهذا ما يزود متلقى الشعر بتمايز الألوان في القصيدة. ولكن الشكل البنائي واحد دائما في القصيدة كلها.

هذا الأساس الهندسى فى اللغة العربية وفى شعرها هو الذى ساعد الشعور العربى على ادراك (( اللانهائية )) فى كلتا الناحيتين اللغوية – والشعرية. فجذور الكلمات كثيرة الى أبعد الحدود, بل فى الحقيقة (( لا نهائية )), طالما أن تركيب أى ثلاثة أحرف صامته يمكن (( بالتواضع )) أن يحدد معنى لغويا جديدا. ومن هنا فان الوجدان العربى يتبنى بعض الجذور ذات الأصل الأجنبى دون أن يؤثر ذلك فى تماسك اللغة, طالما أنه يعتمد على الموازين الصرفية التى تعرب ذلك الجذر ومشتقاته تماما. وهذه اللا نهائية فى عدد الجذور تقابلها أيضا لا نهائية فى التصريف. فهناك قوالب صرفية معروفة, مع أن عددا محدودا من الجذور هو الذى صرف وأصبحت تصريفاته شائعة ومستخدمة. ولكن انشاء معجم عربى على غرار ويبستر (Webster)أو أكسفورد (Oxford)يجمع جميع الألفاظ العربية يبدو مستحيلا, لأن هذه الجذور المعروفة لم تصرف كلها لتعطى جميع الصيغ الممكنه, لأن قائمة الجذور لم تغلق أبدا, ولأن الصيغ المشتقة لم تستخدم جميعها. ولأن قائمة هذه الصيغ لم تغلق أيضا. فالصيغ الجديدة لا تستبعد من اللغة نتيجة اتفاق تقليدى, ولكنها دائما فى انتظار العبقرى الذى يبرر وجودها ويستخدمها بطريقة مقبولة. واللغة العربية فى هذا المجال, مثل الكيان العربى ذاته, تتلألأ فى المركز وتنبهت كلما بعدنا نحو الأطراف الى تتجه الى جميع الاتجاهات في غير ما نهاية.

ولنعد الى الشعر. انه لا يبدو أمرا ذا بال أن تقرا القصيدة بنفس ترتيب الابيات الذى وضعه الشاعر أو فى أى ترتيب آخر, طالما أن الوزن العروضى للأبيات يبدو نسقيا مرتبا. فسواء قرأناها من أولها أو من آخرها, فانها تظل محتفظة بعذوبتها. ان الشاعر يسحرنا دائما خلال تتبعنا للنسق الموسيقى للأبيات, وان تكرار هذا النسق من بيت الى بيت يمتعنا ويربى حاسة الذوق فينا فتصبح قادرة على التعرف على المعانى والأفكار المختلفة التى توحى بها القصيدة, وعلى توقع ما يجب أن نتوقعه من هذا التنوع. وان القصيدة العربية بهذا الشكل, وفى جوهرها الأساسى هذا, لا يمكن اعتبارها منتهية او مغلقة, أو كاملة, باى حال من الأحوال, بمعنى أنه لا يمكننا الاضافة اليها أو مواصلتها بطريقة مؤثرة وفعالة, وحقا فانه بالامكان أن تمتد القصيدة العربية من كلا طرفيها حيث يمكن اضافة عدد من الأبيات الى أولها أو الى آخرها أو فى كليهما, اذا لم يكن من أى شاعر قادر على صوغ نفس الأسلوب, فبالتاكيد من صياغة الشاعرنفسه, دون أن يغض ذلك من قيمتها الجمالية. وأننا حين نستمع الى قصيدة, وخاصة اذا كنا ممن له ذوق بالشعر, فانه يفترض فينا أمران, يفترض أولا: أن نصحب الشاعر فى انشادة للشعر كتجربة حيه بالنسبة لنا, ويفترض فينا ثانيا: أن نواصل القصيدة من جانبنا الخاص فى اللحظة التى دفع بنا انشاد الشاعر فيها الى المدى الشعرى للانهائي, وذلك بالقوة الكامنة والدافعة في قصيدته.

ومن هنا فليس من الغريب بالنسبة للشاعر فى العالم العربى, حينما يصحبه نفر ذواقة من المستمعين أن ينشدوا هم, ارتجالا, بعضا من شعره الذى لم يسمعوه من قبل بل جاءوا لكى يسمعوه, أو أن يعلقوا على قصيدته باضافة أبيات تسير فى نفس المجرى الشعرى للقصيدة.

وخلال العصور المتتالية نجد من الامور الشائعة لدى الأطفال فى البلاد العربية أنهم فى مرحهم يتبارون بالشعر, كأن ينشد أحدهم بيتا يبدأ بنفس الحرف الذى انتهى به البيت الذى انشده الآخر, ربما من نفس الوزن أو ربما من وزن آخر. وفى مثل هذه المباريات يتطارح الأطفال ألافا من الأبيات الشعرية التى حفظوها من دراستهم للغه العربية أو الأدب العربى أو التى سمعوها فى منازلهم أو فى المناسبات العامة.

وحينما يبدأ الكبار مثل هذه المباريات ربما تتغير قواعد المسابقة فيصبح البيت المطلوب انشاده ردا على سابقة ارتجالا وتأليفا جديدا يتم على البداهة. وهذا ما يطلق عليه (( المعارضة)) فى الشعر, وذلك حينما تقتضى القواعد بأن يبرز الشاعر الثانى بوسائل أخر, نفس المعنى الأساسى الذى يتناولة الشاعر الأول. وقد يطلق عليه أيضا (( المناقضة)) فى الشعر,وذلك حينما تقضى القواعد بأن يكون غرض الشاعر الثانى هو نقض وابطال المعنى الأساسى للشاعر الأولى مع شرط اتباع نفس المقياس الشعرى عروضا ووزنا وقافية. وكلا المعارضة والمناقضة يطلق عليهما فى بعض الاحيان, ((المهاجدة)), وهو اصطلاح يطلق على قيام الليل للعبادة, ولعل اطلاقة علي المباراة بالشعر ليس من قبيل المصادفة.

وفى الواقع حيثما حل الاسلام فمزح شعور شعب من الشعوب بقوالب الشعور العربى نجد هذه المباريات الأدبية منتشرة دائما. فهى شائعة بين الشعوب المتحدثة بالفارسية والاوردية. وربما يطلق على مثل هذه المباريات عند هؤلاء(( المشاعرة)) أى تبادل الشعر. وهو ما يشير بوضوح الى أهمية الحاسة الشعرية والقدرة على تناول الشعر. ان العرب فقط, وكذا الشعوب التى تعربت بالاسلام, هم وحدهم الذين تبنوا هذه التجربة وجعلوها سمة واضحه فى تاريخهم الثقافى.

 ب- القرآن الكريم: أول عمل فنى فى الاسلام:

لقد كان العقل العربى هو الرحم الذى تكون فيه و الأساس الذى قام عليه الاسلام, فالوحى الاسلامى, أعنى القرآن الكريم, جاء كانموذج فريد وكاسمى تعرف على هذا. فالمسلم يؤمن بأن مضمون هذا القرآن, وكذلك الشكل, الهى, ليس من مستوى نتاج البشر. ولكن هذا لا يمنع الناقد الأدبى من القول بأن الصياغة القرآنية انما هى المثال الأعلى والنموذج الفذ الذى كانت تتطلع اليه العبقرية الأدبية العربية لقرون وأجيال سابقة. فالقرآن يقع فى سور تختلف طولا وقصرا, وفيما عدا الفاتحه والتى تأتى فى المقدمة رغم اشتمالها على سبع أيات فقط, تأتى السور الطوال أولا, ثم تتبعها القصار…. على انه ليس هناك أى ترتيب عروضى, أو عقلى سواء بالنسبة لترتيب السور, أو بالنسبة لترتيب الآيات داخل السور. وهو يبدو لمن ليس له به دراية كما لو كان مجموعة من النصوص الموزعة (( شذر – مذر )) بين موضوعات منوعة كالدين والاجتماع والاخلاق والثقافة, فالقارئ الغربى الذى يسمع بأن القرآن هو أروع ما يقرأ فيما كتب ويكتب بالعربية, يقرؤه وهو يتوقع أن يرى بحثا عميقا تبويبا منطقيا, ولكنه سرعان ما يشعر- بسبب توقفه هذا – بمرارة عميقة وبخيبة أمل لا حد لها.(66).

ولكن العربى يقف على العكس تماما حين يقرأ أو يسمع (( ما تيسر )) من القرآن, أى ما انقاد هو اليه بالمصادفة, أو بما  سمع من تلاوة شخص آخر, فليس هناك سبب عقلى للاختيار, ولا من أين بدأ, ولا الى أين ينتهى. وهو يعرف ويعى هذا جيدا. وشعوره يتركز دائما حول كل آية بمفردها, فيندفع الى البكاء, أو الغبطة, أو الندم, أو الدهشة, أو الخوف, أو التضحية, أو السعادة, أو الخشوع, أو الشهامة, أو الاحسان, أو الحرب, متأثرا فى ذلك كله بمعنى الآية وبفصاحتها على حد سواء, بمعناها الواقع وبفصاحتها التى تتمثل فى التصورات والأخيلة والبناء اللغوى. وتكرار هذه التجربة عينها من آية لأخرى يفتح الوجدان ويملؤه بالقوة الدافعة التى تدفع به الى الاستمرار أو التكرار الى ما لا نهاية. وهنا يبدو الشكل والمضمون, أو الصياغة والمعنى فى وحدة كاملة تقود فى النهاية الى الوعى بعظمة الحقيقة الالهية, الى الوعى بلا نهائية الذات الالهية وبعدم امكانية التعبير عنها – أى بتنزيهها.

ان الغاية من هذا الاندماج الجمالى يتم ادراكها من تساوق المعانى في حين يقوم النموذج المتكرر للآيات بتحريك هذه القوة اللا نهائية الدافعة. وبالتأثير المتبادل بين كلا التساوق المعنوى والنموذج المتكرر ينشأ فى الذهن ما يمكن أن يطلق عليه – على حد تعبير كانت – (( الفكرة الذهنية )), أى التوقع لنموذج أعلى مطلق يسعى اليه الخيال الذى يسمو على الادراك – سبحانه وتعالى – لا يمكن مطلقا أن يكون موضوعا للحدس الحسى, ومن ثم فان الخيال لا بد فاشل فى جهد هذا ان عاجلا أو آجلا.

وبسبب هذا الفشل ذاته يتم فى الوعى الاحاطة بأن الالهى لا يمكن التعبير عنه وأن للانهائي لا يمكن تمثله, وأن ما يسمو فوق الحواس لا يمكن تصويره. فهذه الصفات كلها, اى عدم القابلية للتعبير عنه, وعدم القابلية للتمثل, وعدم القابيلة للتصوير, ليست الا وجوه للتنزية. ان ادراك هذه الصفات هو نفسه ادراك ان لا اله الا الله, هو الوقوف الذهنى فى الحضرة الالهية. ولا ولن يمكن لنا أن نعرف الاله الا بما يعنيه هذا الوقوف. حقا ان لله جل وعلا صفات. ولأن ندرك الا بما يعنيه هذا الوقوف. حقا ان لله جل وعلا صفات. ولأن ندرك تلك الصفات لا بد أن على مستوى الوجود الالهى ذاته, وهو ما يعجزنا. اننا لا نأمل أبدا فى ان نعرف الله كما نعرف الاشياء, ولكن ربما استطعنا, بل نستطيع, أن نصل الى وعى بوجوده. ومثل هذا الوعى ممكن أن يتم مباشرة وبدون واسطة اذا دفعنا بكل قوى الوعى فينا الى ادراك حقيقة الوجود المنزه, مفرقين تماما بينه وبين الوجود المادى أو المحسوس. ان التنزية الكامل المطلق – أى اعتبار ذلك الوجود مغايرا تماما للوجود المخلوق, لا نهائيا, ولا يمكن التعبير عنه أو الاحاطة به أيضا انما يتم هنا بادراكنا للفشل الذى بيئت به مخيلاتنا حين عجزت عن تصويره أو ابرازه.

ان التأثير القرآنى الذى لا يضارع فى جماله, والقوة الدافعة التى يتزود بها الخيال فى رحلته اللانهائية, والتى يكاد يدرك لها مصير, أنما صدر بتأثير فنان قدسى. وان ادراك الوعى بوجود ذلك الفنان خلال الوعى بأن حقيقته فوق الاحاطة أو الادراك يعتبر فى ذاته رسالة العمل الفنى. ويحدثنا الله تعالى فى القرآن الكريم بأن خير من يسمع القرآن هم أولئك الذين اذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا.(67)… هم أولئك الذين يستشعرون ويتعرفون – طبقا لهذه الآية الكريمة – الموجود المنزه عن كل ما عداه فيهللون من أعماقهم ب (( لا اله الا الله)).

أيا ما تكن طبيعة الفن, فان القرآن الكريم بالتاكيد ((فن )) ومهما يكن نوع المؤثرات على عقلية المسلم ومشاعره, فالقرآن الكريم بالتاكيد يملك هذا التأثير, ومهما تكن طبيعة هذا التأثير من الكفاية والاحكام والعمق, فانه بالتاكيد تأثير جمالى أننا لا نكاد نجد مسلما لا يهزه القرآن الى أعماق وجوده بجماله الموسيقى وبأوجه البلاغة التى يتضمنها. فكل مسلم مع اختلاف فى الدرجة بين فرد و فرد – قد رأى فى القرآن نموذجه ومثله الأعلى فى الجمال. وهذا الجانب الجمالى فى القرآن هو ما أطلق عليه المسلمون (( أعجاز القرآن )), أو قدرته على التعجيز حيث يواجه القارئ فيضعه أمام تحد فى مقدورة مواجهته ولكن ليس فى مقدره أبدا ان ينتصر عليه. وفى الواقع, لقد تحدى القرآن العرب الذين سمعوه لأول مرة, مع براعتهم الأدبية الفائقة, أن ياتوا ( بقرآن مثله) (2: 23, 24) ثم وبخهم وقرعهم على فشلهم فى هذا المضمار (10 : 38, 11 : 13, 17 : 88).

نعم, لقد تصدى بعض المعادين للدعوة الاسلامية ممن عاصروا محمدا صلى الله عليه وسلم لمثل هذا التحدى ولكن باؤا بالفشل وحقروا فى أعين أعدائهم وأصدقائهم على حد سواء. لقد أطلقو على النبى أنه (مجنون), (22: 81) وعلى القرآن أنه (سحر مبين), (21 : 53, 25 : 4) وذلك بسبب تأثيره العميق على مشاعر ووجدان مستمعيه (69 : 38 – 52).

لقد أدركو جميعا أن الآيات القرآنية, على غير المالوف أو المعهود في الشعر العربي, لا تخضع لأى نموذج معروف لديهم, بل أنها لا تخضع لنموذج واحد. فالمعايير الموسيقية فى القرآن, مقابلة بما هو مالوف لديهم من موازين الشعر وبحواره, تبدو متحررة تماما من أى نموذج ثابت. ومع ذلك فهى تقدم نفس التأثير الذى يفعله الشعر بل – والحق يقال – بدرجة أسمى وأعمق. ومع أن الآيات ليست على درجة متساوية في الطول كما أنها لا تتبع نمطا موسيقيا مواحد, الا أن كلا منها تبدو كاملة ومتناسقة فى ذاتها. على أن الآية غالبا ما تتفق مع الآية أو الآيات التى تسبقها من حيث النهاية, كما أنها تحوى دائما معنى أو أكثر من المعاتى الدينية والأخلاقية التى تم التعبير عنها بعبارات جمالية رائعة, وأحيانا فى ثوب بلاغى رائق من مجاز أو استعارة أو كناية أو تشبيه. وهنا تمكن قدرتها الفائقة على خلق قوة دافقة في نفوس المستمعين. قوة عنيفة لا يمكن مقاومتها تدفعهم الى توقع الآية التى تليها كي يصلوا الى طمانينة عميقة حين سماعها. ولكن قوة الجذب هذه تبدأ مرة أخرى وأخرى مع الآية أو الآيات الجديدة, وهكذا الى آخر ((ما تيسر)). ان هذا التدفق الذى لا يخضع لنمط ثابت من الوزن يشبه تماما ما يطلق عليه (( التقاسيم )) فى الموسيقى العربية والتى تتحرر من القوالب الموسيقية الخاصة(( بالدور )) أو ((الموشح )). كذلك فان تأثيره فى المستمعين, مع أنه يتفق مع أى تأثير يحدثه أى نوع آخر من أنواع الفن الاسلامى, الا أنه لا يزال فى هذا المجال أعظم من أى فن آخر انتجه العرب والمسلمون.

هل كان اذن لدى العربى المسلم حينما غادر الجزيرة العربية فى القرآن الاول للهجرة, أى لون من ألوان الفن؟ هل استطاع حقا أن يقدم شيئا الى فنون الشعب المفتوحة التى تطورت خلال الحقب التاليه؟ ان ((لا)) هى الاجابة الجاهزة التى يقدمها أى مؤرخ غربى للفن الاسلامى, أحيانا عن جهل, وأحيانا عن حقد, وغالبا عن خليط مزدوج مؤسف من كليهما. فالزعيم الاول الذى سار على نهجه كل الغربين فى هذا المبدأ يؤكد أن ((الرجال الذين شكلوا تلك الجيوش (يقصد الجيوش الاسلامية الاولى ) كانوا أساسا من البدو, بل وحتى أولئك الذين جاءوا من بيئات متحضرة, كمكة والمدينة, لم يعرفوا شيئا ما عن الفن أو الفن المعمارى))(68). وكان هذا هو ما ردده الجيل التالى من الغربيين دون تبصر أو تفهم: ((فالفن الاسلامى لم يأخذ من ماضية العربى شيئا يذكر على الاطلاق)) (69).

كم يبدو مثل هذا الادعاء مجافيا للصواب!!

ان الفنون الاسلامية التى نشأت فى تلك الشعوب قد استمدت من الماضى العربى, مبلورا فى الاسلام, كل ما له أهمية وفعالية. انها استمدت منه روحها, ومبدأها, وطريقتها فى التعبير… استمدت منه غايتها ووسيلتها الى تحقيق تلك الغاية. فمن الصحيح أن الفن الاسلامى قد احتاج فى مجالات الفنون المرئية الى مواد وموضوعات يصرف فيها جهده, وأنه قد أخذ هذه وتلك حيث وجدها عند تلك الشعوب. ولكنه من الزيف والدهاء أن نشير الى هذه العملية كما لو كانت

((استعارة )) لفنون تلك الشعوب حين نتحدث عن معنى الفن أو مغزاه أو تاريخه أو نظريته … ان الفن فن بمزية أسلوبه فى التعبير, بمضمونه الجمالى بطريقته فى الايحاء بالأفكار, لا بالخامات التى يستغلها والتى تعد فى الغالب لونا من المصادفة الجغرافية. وان الفن الاسلامى انما يشكل وحدة فنية بسبب ذلك الأساس الوطيد, وهو التعبير عن الاسلام خلال الشعور العربى. وان معطيات هذا الشعور العربى هى التى طبعت النتاجات الفنية عند المسلمين جميعها بطابعها.

3- الانجازات الجمالية الاسلامية فى الفنون المرئية:

لقد وجد الأدب الغربى , على العكس من الأدب العربى, أن الشكل الدرامى, وخاصة المسرحية الجادة, هو أروع انجازاته الادبية. فالدراما تتشكل أساسا من مجموعة من الاحداث المترابطة ذات وحدة زمانية – مكانية, بجانب تكوين هذه الأحداث معا, لما يطلق عليه وحدة الفعل أو الحدث. وهى بهذا تبرز تطور موضوع ما من الخبر المجرد الى الحوار الى التحليل الى الاستنتاج, ثم تقود فى النهاية الى تعرف جديد على طبيعة النفس الانسانية. ومن وجهة النظر الجمالية, فان أهم الخصائص النقدية فى الدراما تتبلور في طبيعتها المتطورة. وهذا ليس فقط ما تتمثل فيه الدراما عالميا, ولكنه ضرورى فى تحديد طبيعتها فلا يمكن لأى عدد أو لأى نوع من الحكايات أو النوادر التاريخية المعزولة أن تشكل عملا دراميا الا اذا كان هناك ارتباط عضوى يربطها معا فى خط متطور. وهذا الخط المتطور يقود حتما الى نتيجة قاطعة أو على الأقل متطورة. وهذا الخط المتطور يقود حتما الى نتيجة قاطعة أو على الأقل الى نتيجة أمكن للمشاهد استخلاصها من بين مجموعة أخرى من النتائج توحى بها أو تقترحها حركة التطور فى العمل الفنى. ان مبدأ التطور هنا يرفض (( التكرار )) واقعيا وتصوريا على حد سواء, لأن (( التكرار )) مما يناقض التطور وينفيه. والدراما التى تنتهى رغم ما توحيه من تطور من حيث بدأت ومن حيث يستطيع المتلقى لها أن يعيد الكرة من جديد ليرى نفس التطور أو تطورا آخر مماثلا له, ليست دراما على الأطلاق. ان الشعر العربى والقرآن الكريم كابلغ نموذج للفن الأدبى العربى, يناقض هذه الخاصة الدرامية تماما. وبنفس الدرجة تتعارض الفنون المرئية فى كلتا الثقافتين.فالفن المرئى فى المغرب يقوم كاملا على الطبيعة الانسانية سواء تم التعبير عنها خلال الشخوص البشرية أو المناظر الطبيعية أو الاحياء, أو حتى خلال اللوحات التجريدية.

أما الفن المرئي الاسلامى فلم يكن مهتما بالطبيعة الانسانية وانما كان اهتمامه بالطبيعة الالهية. وطالما انه لم يكن غرضه التعبير عن الأوجه الطابعة للطبيعة الالهية. وطالما انه لم يكن غرضة التعبير عن الأوجه الطابعة للطبيعة الانسانية, فانه لم يعن بتصوير التحولات المنتاهية الدقة فى الملامح الانسانية والمعبرة عن تلك الطبيعة البشرية. ان الخصائص الانسانية, أو الانسان من حيث هو فكرة قائمة بذاتها. قابلة للتحليل الى ملايين التفصيلات التى توحى بأعماق وأبعاد جديدة عن طبيعة الشخصية الانسانية, كل هذا يبدو للفنان المسلم مجرد أمر ثانوى. فالذات الالهية هى حبه الأول وملاذة الأخيرة. وما أطلق عليه هرتزفليد (( التعصب )) ليس فى حقيقته وبالنسبة للفن الاسلامى الا هوية الوجود ومصدر كل خير أو جمال, أعنى به أن يعيش المسلم دائما في حضرة الذات الالهية.

فأولا طالما أن الطريقة المنافية للطبيعة فى الرسم, أى التأسلب, اقتضت اعادة اخراج الطبيعة فى صور جديدة, فان أوائل العرب المسلمين استطاعوا الانتفاع بهذه الوسيلة الى أبعد الحدود. أبعد من ذلك, فان هذه الطريقة ذاتها تعنى عدم توخى التباين بين أفراد النوع الواحد, ولا تساير التطور المالوف فى المملكة النباتية من الجذع الى الفروع الى الاطراف الدقيقة للأوراق. فالجذع والفرع يرسمان بنفس النسبة من حيث العرض أو السمك, نفس البناء ونفس الشكل خلال اللوحة كلها. بالاضافة الى عدم مراعاة التباين ساعد أيضا على الغاء التطور, فكل الأوراق أو الازهار فى لوحة ما واحدة ومتماثلة تماما. على أن الخطوة النهائية للقضاء على الطبيعة تماما كانت فى التكرار, فبتكرار الأعناق والأوراق والأزهار مرات مرات, ويجعلها جميعا يتلو بعضها البعض بطريقة متماثلة لا نهائية  يستحيل وجودها في الطبيعة الحية, تنتفى أى فكرة عن الطبيعة فى ذلك العمل الفنى. ان التكرار هنا يقوم بهذا التأثير بطريقة مؤكدة لا تخطئ, لدرجة أن الفنان يبدو متساهلا مع عدوه الأول (( التطور )) غير أن ما بدا على أنه تطور في جزء ما من العمل الفنى قد أعيد واعيد في العمل الفنى ككل وهكذا تنمحى الطبيعة كاملا من الشعور وتصبح اللاطبيعية ماثلة للعيان.

اذ لو قدر لأعناق الأوراق و الأوراق والأزهار أن تترك أى أثر للطبيعة فى الوجدان فان الخط الذى يسير ما بين استقامة وتكسر وتعرج مائلا للخارج حينا وللداخل حينا, سواء فى أشكال هندسية أو فيما يشبه أسنة الرماح, أو الرمى, سوف ينهى بالتاكيد تلك الوظيفة الهامة. انه بلاضافة الى اللاطبيعة التى تظهر فى الأوراق والأزهار يشير بوضوح الى ما قصد اليه الفنان من (( هندسية )) تخالف الطبيعة. وفى النهاية, حينما يكون التكرار خاضعا للتماثل الهندسى – ولهذا يكون انتشاره فى جميع الاتجاهات على درجة واحدة من التساوى المنطقى – فان العمل الفنى فى جوهره يصبح مجالا غير محدود للرؤية. وانها المصادفة فقط أو الضرورة ( لا التطور أو الاستخلاص ) هى التى تدفع الفنان الى انهاء لوحته عند نهاية معينة تبدو فى الحقيقة تعسفية حيث أصبح العائق عن استمرارها هو الحدود المادية للصحيفة أو الحائط أو اللوحة.

وحينما يستخدم الفنان أشكال الانسان أو الحيوان فى لوحاته, كما فى التصوير الفارسى, فان اقصاء الطبيعة يتم باستخدام طريقة التاسلب, واحيانا طريقة التأسطر فى تمثيل الحيوان أو الانسان, وبسلب كل الخصائص والتعبيرات التى توضح الفردية أو الشخصية أو الذاتية عن الاشكال والوجوه الانسانية. ان ما أطلق عليه أرنولد (( جهلا )) هو فى الحقيقة فضيلة الفنان المسلم وتميزه …هو انجازه لهدفه هو فى الحياة لا لهدف أرنولد, وأعنى بذلك أنه انما يحكى لنا قصة التنزيه أو الوجود الأسمى, مستخدما الانسان, كالزهرة مثلا, يمكن ان يمثل اللاطبيعية, خلال التأسلب. ولكن هذا بالتاكيد يستلزم محو كل صفات الشخصية والذاتية. ولهذا يلاحظ أن أعظم الصور الفارسية تحوى دائما عددا من الاشخاص الذين لا يمكن تمييز واحد منهم من الآخر(70).

وهذه الصور – مثل القصائد العربية – تتألف من أجراء منفصلة عن بعضها البعض, كل جزء منها يمثل محورا قائما بذاته. فكما أن المستمع للقصيدة العربية يجد نشوته فى مشاهدة الدور الفنية التى ترصع القصيدة وتأملها, كذلك يتامل المشاهد للوحة الفرائد الزخرافية العربية التى ترصع السجاد أو الباب أو الحائط أو الملابس أو الامتعة أو حتى سرج الحصان. انه فى استمتاعه هذا يركز على نقطة معينة فى اللوحة, بينما يضع فى اعتباره أن هناك نقطا أخرى مماثلة يستطيع أن يجوس خلالها الى ما لا نهاية.

ان وجود الحركة فى الفن الاسلامى, سواء فى الزخرفة أو فى النقش, مسالة لا مجال للشك فيها.. انها الحركة من الوحدة الصغيرة الى التصميم أو الشكل ومن الشكل الى أشكال أخرى تشكل فى مجموعها مجالا متصلا للرؤية, كما نرى فى البوابات الضخمة أو الوجهات والحيطان المختلفة. ولكن لا يكاد يوجد عمل فنى واحد تعد الحركة فيها حركة تطورية استنتاجية تصل الى خلاصة قاطعة نهائية. فالأساس الجوهرى لهذا الفن يكمن فى استمرار الرؤية لدى من يشاهده.. فى أن يصبح خياله قادرا على تصور الاستمرار… فى ان يتجه ذهنه فى حركة دائبة سعيا وراء ما لا نهاية له. ان المادة والحجم والفراغ والجاذبية والتماسك والتفاعل انما هى جميعا حقائق الطبيعة التى لا تعنى الفنان حينما يكون هدفه ابراز (( اللا طبيعية )). رسم واحد فقط هو الذى يعنيه وهو الذى يبهر المسلم الذى يعشق الجمال, ألا وهو (( الأرابيسك )) الذى تتجه أبعاده فى الفراغ الى ما لا نهاية. انه يدفع بكل قوانا الواعية الى تامل الوجود الالهى الاعظم. تلك القوة الدافعة ليس مصدرها فقط غلاف كتاب, أو رسم توضيحى فيه, أو سجادة تحت أقدامنا, أو سقف يظلنا, أو حائط من حولنا, انما هى تمتد الى أبعد وابعد من ذلك فنحن نراها فى الأرضية, فى الحديقة, فى صحن المسجد أو الدار, فى الدهليز, وحيث تصبح كل قاعة تدخلها مركزا قائما بذاته تولد نفس القوة الدافعة نحو الوعى باللانهائي.

لكن (( ما الأرابيسك ))؟ نحن حتى الآن نستخدم هذا المصطلح مفترضين أن القارئ يعرفه. والامر كذلك. فالأرابيسك فن قائم بذاته يتميز عن أى لون آخر من ألوان الفن, وهو مائل فى الأذهان دائما فى كل البلاد الاسلامية ويشكل الصفة الرئيسية أو العنصر الأصيل فى كل الفنون الاسلامية. وأطلاق اللفظ (( ارأبيسك )) Arabesqueهو أصح اطلاق عليه لأنه يمثل قيمة جمالية عربية, كما يمثل القرآن العربى والشعر العربى نفس الصفة. ووجوده فى أى بيئة فنية يجعل منها شيئا اسلاميا. وهو فوق هذا كله, يعتبر مظهر الوحدة فى فنون الشعوب الاسلامية التى تختلف فيما بينها أشد الاختلاف. ان التعرف عليه سهل ولا يمكن اخطاؤه, فهو أساسا عبارة عن رسم يتالف من وحدات أو أشكال ترتبط ببعضها البعض وتتشابك بطريقة تجعل المشاهد يجول ببصرة من الوحدة أو الشكل الى شكل آخر وآخر فى جميع الاتجاهات حتى يرى الرسم كله من أقصاه الى اقصاه. وان الشكل – أو الوحدة – يعتبر فى الحقيقة مستقلا وقائما بذاته, تماما مثل بيت الشعر فى القصيدة العربية التقليدية, ولكنه قد ضم الى نظرائه وان المشاهد له – مثل المستمع للقصيدة العربية – طالما تعرف على الخط العام وتصور الوحدة أو الشكل الذى يتالف منه الرسم كله, أصبح مدفوعا الى متابعة الاشكال التالية. وفى هذا تمكن ايقاعاته الفنية. فالحركة قد تصبح مملة كلما قلت كثافة التشابك بين الأشكال, أو قد تصبح غير جذابة,  كما لو بدت كموجه من خطوط مستقيمة. وعلى كل الأحوال, فانه بقدر ما تصبح الوحدات متداخلة بشكل كثيف ووثيق يجبر على الحركة والتوقف معا, وبقدر ما تتعوق الحركة بالخطوط الدائرية والمنكسر, تصبح الحاجه ماسة الى بذل مجهود أكبر لمتابعة القطعه الفنية. وهذا المجهود هو (( القوة الخلاقة )) فى الأرابيسك. فكلما كانت هذه القوة أعلى كلما كان أسهل على العقل أن ينشئ (( الفكرة الذهنية )) للخيال كي ينجزها, وأسرع للوعى أن يأخذها بعيدا عن الحدود المادية للعمل الفنى حينما يحاول أن يقدم للعقل ما يريد. ولهذا فانه من الضرورى هنا أن تتكرر هذه العملية, ومن ثم نجد فى العمل الفنى الواحد عددا مختلفا من وحدات الأرابيسك يغطى كل منها جزاء من السطح. ان الغاية هنا معروفة سلفا وهى شروع الخيال فى سبحاته الفاشلة حتما. ولربما يعود بأخرى .. وثالثة .. ورابعة, وكلها مثل الأولى.

ان فن الأرابيسك يمكن أن يكون نوعا من الزخرفة النباتية أو الهندسية, اعتمادا على الوسيلة التى يستخدمها الفنان فى التعبير الفنى, كالتوريق , أى استخدام أوراق النباتات والزهور وأعناقها لتصميم الوحدات الزخرفية أو الرسم الهندسى الذى يستخدم أشكالا منوعة: فهو يطلق عليه أحيانا (( خط )) وذلك حين يستخدم خطوطا مستقيمة ومتكسره لآنشاء الوحدة الزخرفية, وأحيانا (( رمي )) حين يستخدم الخطوط المنحنية ذات المراكز المتعددة.

وهو قد يستخدم كل هذه الأشكال معا فيطلق عليه حينئذ (( رخوى )) على أن وحدات الأرابيسك قد تكون ثنائية الاتجاه كما هو الغالب فى الزخرفة التى نراها على الحيطان والأبواب والسقوف والسجاد والأثاث, زكذلك فى صفحات الكتب وأغلفتها. وقد تكون ثلاثية الاتجاه كما نرى فى الأعمدة أو العقود وفى المقرنصات فى أعالى البوابات أو جدران القباب.

وهذا النوع الأخير هو الطابع المميز لفن العمارة فى المغرب والأندلس خاصة, وقد بلغ أوجه فى (( مسجد قرطبة )) و (( قصر الحمراء)) فى غرناطة. ففى الحمراء توجد قبلة كاملة تتألف من عدد كبير من (( البواكى )) التى تقوم على أعمدة متناهية الصغر لا يستطيع ادراكها وتتبعها الا خيال متوقد. ها هنا تصبح الطاقة التى يخلقها فينا الفن قادرة على هز أعماق أى انسان لدية الارادة أن يتحرك مع تلك الايقاعات الفنية حتى يصبح لدية وعى مباشر باللانهائي. ان واجهة المسجد العظيم أو بوابة السور الضخم, بلة الكوة الصغيرة فى السور والنقش الدقيق فى صحيفة أو ((بساط )) أو حتى فى ملابس الانسان وحزامه وسرج حصانه, كلها جميعا تعبر عند المسلم عن ((لا اله الا الله)), حيث توحى فى تصوره لا نهائية الذات المقدسة واللا قدرة على التعبير عنها .. اللانهائية واللا قدرة على التعبير عما ليس بطبيعة, عما ليس بمخلوق.

4- الخط العربى: الفن الرئيسى فى التعبير عن الشعور بالحقيقة الالهية المنزهة:

لقد كانت الصفة الجوهرية للذات الالهية وكونها غير مشابهة للحوادث, أى منزهة, هى الأساس الذى استولى على الشعور الاسلامى لدرجة أنه أراد أن يرى هذه الحقيقة معبرا عنها فى كل شئ فى الوجود.

ولقد كان مولعا بايجاد الوسائل والطرق التى تساعده على نشر هذه الحقيقة لدرجة أن تفجرت عبقريته عن أعظم فيض من الرسوم المجردة عرفة تاريخ الوجدان البشرى. نماذج الأرابيسك هذه, التى لا يمكن حصرها, لم تكن وحدها كافية لاشباع ولع العقلية التنزيهية فى مجال الفنون المرئية. ومن ثم فان أى مادة للفن أو وسيلة من وسائله, أمكن تحويلها الى مرآة فنية تعكس لب هذه الحقيقة وجوهرها أمسك بها الفنان المسلم وطوعها لهذا الغرض. ففى الخط العربى وجدت وسيلة أخرى أمكن للفن الاسلامى بها أن يحقق نجاحا باهرا.

أن القيمة الجمالية للكلمة المسموعة كانت شائعة فى تاريخ ما قبل الاسلام حيث أخذت شكل الفن الشعرى والنثرى. وقد بلغت ذروة لدى العرب لم يجارهم فيها أحد, مع انه لا ينكر أن غيرهم من الشعوب, لا سيما شعوب ما بين النهرين. والعبرانيين والهندوكيين ومثلهم الاغريق والرومان, ذهبوا بالكلمة المسموعة من حيث المجال الفنى شوطا بعيدا ولربما اقترب مما قطعه العرب.

لكننا لا نجد بين من ينتمون الى تلك الثقافات جميعا – بما فى ذلك العرب أنفسهم – من حاول اكتشاف القيمة الجمالية للكلمة المرئية.

فالكتابة كانت –  ولا تزال فى الغالب – عملية فجة ولا يتركز حولها أى اهتمام جمالى فى ثقافات العالم. ففى الهند وفى بيزنطة وفى الغرب المسيحى, ظلت الكتابة محصورة فى وظيفتها التعبيرية, أى فى كونها رموزا منطقية. وكان دورها تكميليا فقط فى الفنون المرئية (التشخيصية ) فى المسيحية أو الهندوكية, بمعنى أنها تستخدم كرمزية منطقية تعبر عن مضمون العمل الفنى. على أن الفكر المنطقى فى مضمون العمل الفنى لا يحتاج التعبير عنه بالكلمات الا اذا كان العمل الفنى نفسه غير قادر على ابراز وتمثيل مضمونه الفكرى. فأبوللو, أو أفروديت ليسا بحاجة الى مثل هذا التعبير اللغوى. اذ بالرؤية, والرؤية وحدها, يتحدثان الى المشاهد بما فيها من قدسية, تلك القدسية التى بدت للانسان الاغريق فوعاها خلال الجمال الأسمى للشكل الانسانى وخصائصه التى تدرك بالحواس. وحيث انه لم يوجد مثل هذا الجمال الملهم فى الفن الهندى أو البيزنطى – وحتى فى النماذج اللا طبيعية – فان الفنان وجد نفسه بحاجه الى اللجوء الى مثل هذا التعبير بالكلمة عن المضمون الفنى في عمله. وهذا التعبير ليس الا وسيلة منطقية أورمزية لغوية تساعد على الفهم فقط ولا تدخل فى الشكل الجمالى للفن, تماما كالارقام العربية أو الرومانية. وهذا بالتاكيد ما نجده فى الكتابة العربية  – مهما كان نوعها – قبل الاسلام. لكن ظهور الاسلام, ومحاولتة التاكيد على تنزية الذات اللالهية خلال التعبيرات الفنية المختلفة – قد فتح آفاقا جديدة أمام الكلمة كوسيلة للتعبير الفنى. حقا ان العبقرية الاسلامية هنا لا تضارع.

ان كلام الله العربى كان يكتب بالخط ((النسخى)) الذى انحدر من أصول (( نبطية )), أو بالخط الكوفى الذى انحدر عن أصول آرامية خلال السريانية. وأهمية هذه الكتابة هى بالدرجة الأولى أهمية منطقية فكرية كما فى اللغات. اذ لم يكن يعرف حتى لدى شعوب الشرق الأوسط ما يمكن أن يطلق عليه (( الخط )) أو (( علم تحسين الخط )). فالرومان قد طوروا بعض الأشكال الفنية للكتابة ولكن أهمية الحروف ظلت – بدون شك – أهمية منطقية فكرية كما كانت من قبل. والكهنة (( الكلتيين)) فى أيرلنده قد أبدعوا بعض المخطوطات المنمقة مثل كتاب الكلس Book of Kels, ولكن فكرتهم نحو فن الخط لم تعد على أى حال ما كان مألوفا لدى الرومان. فالحروف تبدو دائرية محلاة بالزخارف, ولكن الأهمية القصوى للعمل ظلت منطقية فكرية, وان بدت الحروف هنا أكثر جمالا وابداعا. وعملية الزخرفة هذه تبدو سطحية, لا تمس جوهر الكتابة وهى لم تغير الشكل الاساسى للحروف التى بقى كل منها منفصلا عن الحروف الأخرى تماما. فاذا كان على البصر أن يثب من حرف لحروف فان وظيفة الفكر هى أن يتوسط فى ربط تلك الحروف. وهكذا فان العقل والذاكرة معا يتفاعلان لترجمة الحروف المخطوطة الى المعنى الذهنى من ورائها دون أن يخلق الحرف المخطوط أو الكلمة أو الجملة أو السطر أى وعى جمالى.

أما الفنان العربى فانه استطاع بالتدريح, وخلال جيلين فقط, أن يجعل من الكلمة الكتوبة فنا مرئيا, لها من الاهمية الجمالية ما يغرس فى الوعى التصورى شيئا آخرا مستقلا تماما عن المعنى المنطقى الذى يستقه منها الفكر. وكان هذا الفن الجديد ككل الفنون الاسلامية الاخرى يسير على نفس النمط ويخضع لنفس الهدف الذى دأب ويدأب الوجدان الاسلامى على ابرازه وتصويره, حتى أصبح فى تطوره لونا آخر من الأرابيسك. فلقد كانت الحروف فى الكتابة النبطية السريانية منفصلة عن بعضها البعض, كما فى الحروف اللاتينية. ولكن الفنان العربى ربطها معا حتى أصبح المرء قادرا على أن يعى فى لمحة واحدة الكلمة ككل, ان لم يكن الجملة كلها, بدلا من تنقل الفكر والبصر من حرف الى حرف. ومن ناحية أخرى فانه طوع الحروف لتصبح قادرة على أشباع حسة الفنى, فهو يمطها, أو يركبها, أو يفصلها, أو يربطها, أو يجعلها مستقيمة, أو دائرية , أو يجعلها سميكة ثم يدبب أطرافها, أو يكبرها جميعا, أو يكبر بعضها. وهكذا أصبحت الحروف لدى الخطاط مادة فنية طيعة, يركبها ويعجنها كيف يشاء, فتحقق له أية فكرة أو منهج فنى يريد. ومن ناحية ثالثة, فانه استطاع استخدام كل ما أمكنه من وسائل فن الأرابيسك وخاصة (( التوريق )) و (( الهندسية )), ليس لمجرد جعلها زخرفة فى كتابتة, بل ليجعل الكتابة ذاتها فنا من فنون الأرابيسك فى أسلوبها الخاص. ومن ثم نجد الخطوط العربية تسير فى خطوط متموجة يمكن للفنان أن يزينها بعدد من الأشكال الزخرفية القائمة بذاتها, سواء أكانت مثبتة بطريقة منتظمة, أم مبعثرة على طول الكتابة وعرضها. على أن ما اكتسبته الأبجدية من مطاطية الشكل قد جعل الخطاط قادرا على استخدام أى وسيلة يراها مناسبة لتحقيق الفكرة الجمالية التى أراد أن يطورها ويعبر عنها. وفى النهاية نراه يعرض الحروف ليس فقط بالأسلوب الذى يسمح بابراز زخارف الأرابيسك بل بالأسلوب الذى يدمج شكل الحرف بزخرفة الأرابيسك ادماجا كاملا تصبح الكتابة معه لونا من ألوان الأرابيسكArabesqueوهذا الادماج ينشأ اما عن تطويعه وحدات الأرابيسك لتندمج بالحروف, أو العكس. على أن الخصائص الأساسية للحروف والتى تحدد شرعيتها فى التعبير عن معانيها قد أمكن الاحتفاظ بها فغدت تشكل فى النماذج الفنية الخطية ما تشكله التفعيلات العروضية فى الشعر أو الوحدات الهندسية والنباتية فى رسوم الأرابيسك. وفى نفس الوقت يقوم تطويع الحروف لنماذج الأرابيسك ببعث القوى الجمالية الدافعة فى نفس المشاهد. فالخط العربى اذن – مثل الأرابيسك – استطاع أن ينقل البيئة الأساسية للفهم المنطقى – أعنى الرموز الفكرية للأبجدية – الى مادة فنية تصويرية, الى بيئة فنية يصبح الوعى الجمالى فيها أصليا لا ثانويا, قائما بذاته لا بغيره. وهنا يكمن سر نجاح هذا الفن حيث استطاع أن يتغلب تماما على الفكرة المنطقية فى العمل الفنى لتصبح تابعة ومكملة للتصور الجمالى, فكان بحق أعظم وأثبت انتصار فنى فى الاسلام.

ان الاسلام يرى أن كلمات الله هى – من حيث الفكرة – اقرب الوسائل اليه, وهى أصدق تعبير مباشر عن ارادته. وطالما أن الله فى المسلم ووجدانه يتجلى دائما غير مشابة للحوادث, فان من المستحيل اذا أن يتصوره العقل, وان جاءت كلماته وحيا مباشرا عن ارادته. ولمن ثم كان لكلمات القرآن الكريم مكانه عظمى من حيث هى ارادة الله. فارادة الله سبحانه وتعالى, يجب أن يكون لها من الاجلال والاحترام والتقدير ما يجب له, وأن توصف بما هو أهل له من الجمال والكمال. وحينئذ تكون كتابتها فى لوحة خطية جميلة هى أروع قيمة جمالية فى الاسلام بلا منازع. وهذا فى حد ذاته هو ما دفع بالخط العربى الى ما نشاهده من تطور جعله يغرس فى وعينا وتصورنا الحسى بدرجة كاملة أن الخالق الأعظم لا يمكن التعبير عنه أو تمثله فى الحسى.

فطالما أن هذا الخط قد أصبح لونا من ألوان الأرابيسك يمكننا اذا أن نتصوره عملا فنيا مستقلا, اسلاميا خالصا, بغض النظر عن مضمونه الفكرى.ومع ذلك فقد يتحد هذا الفن بأى عمل فنى آخر فيرفع من قيمته ومن القيم الجمالية الدافعة فيه, سواء أكانت العبارة الخطية مكملة لذاك العمل أو لا. على أن التبجيل الذى يتمتع به القرآن الكريم لدى المسلمين كان عاملا فعالا فى سرعة انتشار الخط العربى وتجنيد كل الطاقات والعبقريات الاسلامية لجعله يطبع كل لحظة من حياة المسلم.

فلقد أصبح هو (( الفن الجماهيرى )) فى الاسلام, نراه على قطع من الحجارة أو الخشب أو الجلد, أو الورق, أو الثياب أو المعدن مزينا كل شئ من المنزل الى المكتب, الى الدكان, الى المسجد , تحت الأسقف أو فوق الجدران. وأصبح فى شموله وعمومه مؤثرا بالقدر الذى لا تكاد تخلو مدينة – أو حتى قرية – من عدد من الخطاطين البارعين. بل ان تأثيره لم يكن ليقاوم حتى من غير المسلمين. ففى بلاد مسيحية كاسبانيا وفرنسا وايطاليا عانى الخط العربى من الجهل والعجز معا, ولكنه مع ذلك استخدم كشكل جمالى بدرجة لا بأس بها. ان الاحساس الاجمالى الناتج عن هذا الخط قادر على التحليق بالخيال نحو الفكرة الذهنية تماما كما يفعل الأرابيسك فى نفس الرائى. بل وربما أكثر. لأن المشاهد له – بسبب الفكرة التى يقرؤها مكتوبة أمامه – قادر – بالوعى الذهنى – على استنتاج خصائص أبعد وأعمق بالنسبة للموضوع الذى يتخيله, حيث أن قوة الدفع التى تحركه تقوده هنا الى خطوات أبعد نحو هذا الموضوع. ومن ثم فلا غرابة اذا أن يصبح الخط العربى, وبخاصة حين يأخذ مادته من القرآن, هو الفن السائد فى المجتمعات الاسلامية خلال العصور, وأن يكون الأمل المشترك بين الملوك والرعايا هو:

((أن يتاح للمرء أن يكتب القرآن كله.. ثم يموت )) (71).

وطبقا لما يروية الزمخشرى فى أساس البلاغة فان الوزير محمدا, أبا على ابن مقلة, قد عقد مقارنة بين تركيب الخط وتأليف الشعر ليحدد الوظائف والقيم الجمالية فى كل منهما. وهو يحدد للكتابة العربية معايير أساسية خمسة تؤدى الى جمالها ورونقها وهذه الخمسة هى:

1- التوفية: وهى أن تأخذ الكلمة حظها الكامل فى العبارة التى هى جزء منها بحيث يصبح هناك توازن وانسجام بين الكل والجزء فلا تتلألأ كلمة على حساب أخرى.

2- الاتمام: هو أن يعطى كل حرف ما يلائمه من حيث الفراغ والقوة والوضوح.

3- الاكمال: وهو أن يخرج  كل حرف فى شكله الملائم – الذى يحدد فى الرؤية هويته وغرضه التعبيرى – من تقويم أو ضبط ,أو بسط, أو امالة, أو تميز, أو تقعير.

4- الاشباع: وهو أعطاء الحرف كل ما يتطلبه ليبدو للرائى فى أجمل صورة واتم شكل ممكنين.

5- الارسال: وهو أن ينبثق السطر حر الحركة لا يعوقه تردد أو خلخلة, ومن ثم يكون قادرا على خلق قوة دافعة ذات سرعة عالية (72).

أما أبو حيان التوحيدى فقد ذكر فى كتابه علم الكتابة أن (( الكتابة عموما روحانية تسربلت برداء مادى)) (73). وخلال العصور الاسلامية نجد المسلمين يتمثلون بأقوال مأثورة لحكماء مجهولى الأسماء لها دلالتها فى هذا المجال, مثل : ((المرء مخبوء تحت لسانه )), (( عقول الرجال تحت أسنة اقلامهم )), ((الكتابة رواء للفكرة )), (( الخط الجميل يلطف الفكر السقيم, ولكنه يمنح الفكرة السديدة قوة تعدل الحياة ))

وكثير من علماء العصر الوسيط الذين يتمتعون بسمعة باهرة فى دراساتهم للانسانيات, مثل: ابن عبد ربه, محمد أمين, ابن الاثير, ابن النديم, القلقشندى, وغيرهم, يعترفون بما أحرزه زملاؤهم من الكتاب المسلمين فى هذا المجال. وهم يفخرون بأن الكتابة العربية لهذا السبب قد تطورات أكثر من أى لغة أخرى معاصرة لها, وأنها بلغت من الجمال قدرا لا يضارع, وأنها فوق هذا كله قد ألبست بأعلى القيم – أعنى القيمة الدينية – كأداة حاملة للحكمة الالهية ومعبرة عنها. وهم يذهبون فى تاكيدهم لهذه الفكرة واقتناعهم بها الى أبعد من هذا فيؤكدون أن القرآن قد عظم من شأن الكتابة فى آية منه حيث يقسم بالقلم وما يسطرون(75).

انه بينما تقوم الفنون جميعا بممارسة نوع من التأثير الاخلاقى والانسانى على متلقى تلك الفنون, يقف الفن الاغريقى وفن عصر النهضة بصفة خاصة بتوجية الانسان الى التعظيم من شأن نفسه وبتوجية خياله وارادته الى أروع امكانيات التعرف على حقائق النفس البشرية. وهما يفعلان ذلك بتلقينة أعمق وأنبل الخصائص الانسانية, وهى خصائص تبلغ عظمتها قدرا يجعلها فى الشعور ممثلة لخصائص الذات المقدسة, الأمل والهدف الأسمى للانسان. أما فى الاسلام فان الفن قد حاول وأدرك نفس الغرض من نبل وانسانية وتعرف على الذات. ولكنه انما أدرك ذلك كله فقط بجعل الانسان دائما يشعر انه فى حضرة الذات الالهية.

وهذه الذات الالهية دائما مغايرة للانسان وليس كمتلها شئ. وتلك هى المثالية الاسلامية التى ولدها الفن الاسلامى فى نفوس المسلمين, لم تكن أبدا لتتمثل الانسان كأنه الاله برومثيوس, سارقا للنار من السماء ومتحديا جميع الآلهة, فهذا الفن بما فيه من أنسانية قد وطد نفسه خلال وعى المسلم الكامل بحقيقة ذاته التى لا قداسة لها. قد يقال ان فى هذا تقييدا للفنان. نعم, ولكنه تقييد بالقيم القدسية التى فى ذاتها, لا نهائية… انه تحديد بقيم يمكن رؤيتها وتملكها حين يقف الانسان منفصلا عنها مواجها لها, أكثر مما يقف ممتزجا بها, ومازجا نفسه فيها. فطالما ان هذين مستويان مختلفان من القيم, من اساسهما, فانه من المستحيل ضرورة بالنسبة للانسان أن يحدث مثل هذا الخلط, وبروميثيوس الاسلام يظل دائما انسانا مؤدبا.

ان عظمة الفن الاسلامى تماثل تماما عظمة هذا الدين نفسه, وأعنى بها, أننا كبشر نناضل دائما وابدا لتحقيق القيم اللا نهائية فى أنفسنا وفى غيرنا وفى عالمنا. الا أننا كبشر نعلم دائما وأبدا أن المسافة ثابته بيننا وبين ما هو أسمى, بيننا وبين تلك القيم اللانهائية فى ملأها الأعلى, بين حقيقتنا الانسانية المخلوقة وبين الحقيقة الالهية الخالقة.

وأننا لنعلم علم اليقين باننا لن نجتازها.فنحن خلقنا لنعبد الله.

الهوامش:

(62) يدعى هذا الادعاء أوليج جرابار.

(63) القرآن الكريم 11:42.

(64) ان كل مسلم يدرك معنى وحدانية الله وتنزهه المطلق. وتوجد آيات كثيرة في هذا الموضوع في كتاب(( تفصيل آيات القرآن الكريم)) لجول لا يوم, ترجمة محمد فؤاد عبد الباقى, عيسي البابى الحلبى – القاهرة سنة 1374, باب ((التوحيد)), ص128 -180. كذلك في كتاب ((الأديان الكبرى في ((آسيا)) ل و. شان وآخرين, مطبعة مكملان – نيويورك سنة 1969ص 338 – 345 موجز من آيات القرأن الكريم والادب الاسلامي وضعه المؤلف في هذا الموضوع.

(65) المثال ضرورى هنا ليساعد القارئ على فهم الميزة الفريدة للغة العربية. فاصل الحروف. ك.ت.ب و ض.ر. ب. معناها(( كتب وضرب اذ يمكن تصريف كل فعل من هذه الافعال بما لا يقل عن 16 فعلا جديدا تلتقى كلها فى أصل الفعل مثل: كاتب من الفعل يكتب ويكتب اليه وضارب من الفعل يضرب ويضرب (( وكتب يجعل الغير يكتب, وضرب يجعل الغير يضرب, واستكتب طلب الكتابة واستضرب طلب الضرب واكتب قم بالكتابة, الخ…

فكل فعل من هذه الافعال ينصرف الى حوالى عشرين كلمة تحمل كلها نفس حقيقة الفعل أى من الفعل الاول (كتب ) يأتى المصدر مكتابة بمعنى تبادل الكتابة ومن الفعل الثانى(ضرب) يأتى المصدر مضاربة بمعنى تبادل الضرب.

(66) على أن الاعجاب العظيم الذى ابداه (( توماس كرولايل )) بشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كنبى عبقرى يقتدى به لم يمنعه من القول أن القرآن كتاب ممل.

(67) القرآن الكريم سورة 19 آية 58 وأيضا قولة تعالى: (( انما يؤمن باياتنا الذين اذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون)) سورة 32آية 15.

(68) كريسويل, المصدر المذكر سابقا ص6

(69) جرابار, المصدر المذكور سابقا ص79.

(70) وجدت بعض الصور الخاصة التى ظهر عليها آثر آسيا الوسطى لزمن قليل مثل شمال شرق فارس والهند المغولية, ولكن هذه الانحرافات كانت قليلة اذا ما نظرنا الى تراث الفن الاسلامى الضخم الذى وجد حتى القرن الرابع عشر والممتد من الفلبيين الى المحيط الاطلسى.

(71) يحكى الاستاذ قاسم لاكى رئيس دائرة تاريخ الفن فى جامعة دوربان بجنوب أفريقيا قصة الزلزال المريع الذى حطم مدنية شيراز فى القرون الوسطى فيقول:(( بعد حدوث الزلزال بايام واثناء ازالة الانقاض عثر العمال على شيخ طاعن في السن تحت الانقاض ومعه قلم ومحبرة وسراج كان مشغولا في الكتابة فسألوه فيما اذا كان يعلم بالزلزال ثم أخبروه أن شيراز قد حطمت فما كان من الشيخ الا ان صاح بفرح عظيم لقد وجدتها لقد وجدتها قال العمال: ما هى التى وجدتها يا شيخ فاجاب: كيف تكتب الواو على أكمل وجه))

(72) ناجى زين الدين: أطلس الخط العربى نشر المجمع العلمى العراقى ببغداد, مطبعة الحكومة سنة 1388 – 1968, ص 355.

(73) مخطوط غير منشور في مكتبة فينا, نسخة منه فى مكتبة جامعة القاهرة رقم(24090), ذكر ذلك ناجى زين الدين فى المصدر المذكور سابقا صى342.

(74) زين الدين المصدر المذكور سابقا ص342.

(75) القرآن الكريم سورة 68 آية (( وانظر أيضا سورة 96 الآيات 1-5 وانظر كتاب القاضى أحمد(( الخطاطون والمصورون )) ترجمة و.ت مينورسكى معرض فراير للاثار الفنية, المجلد الثالث, رقم 2, واشنجطن سنة 1959ص 48- 53

((توضيح تفاصيل خصائص فن الخط ))

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر