أبحاث

النظام الاقتصادي الإسلامي

العدد 20

1- الدين وعلم الاقتصاد:

يعتبر كل من الدين وعلم الاقتصاد شيئين متقاربين للغاية. ومن الناحية التاريخية، نجد أنه حتى في الغرب، كان علماء الاقتصاد الغربيون ينبعون من طبقات الكهنة والعلماء باللاهوت، وقد تم تقديم علم الاقتصاد السكولاستي في العصور الوسطى في أوروبا

بواسطة رجال الكنيسة مثل توماس أكونياس، وأوغسطين وغيرهما. ونجد أنه حتى الفيزيوقراطيين في أوائل الفترة في 1700 كانوا يضفون الكثير من الصبغة الدينية على كتاباتهم، فقد كانت مشاعرهم تجاه الأرض والناس تقوم على أساس المسيحية، ومع حدوث الثورة الصناعية والإنتاج الواسع النطاق، كان هناك بعض العلماء الاقتصاديين الذين حاولوا فصل دراستهم ودائرة نفوذهم عن الدين، وقد كان ذلك في الواقع شيئاً استثنائياً في خلال تلك الفترة في أوروبا، أي فترة الثورة ضد الكنيسة ونفوذها. وبمقتضى ذلك، بدأ الحديث عن علم الاقتصاد السياسي، بدلاً من علم الاقتصاد السكولاستي. ولكن الثورة ضد الدين هدأت مع مرور الوقت. ونحن باعتبارنا علماء اقتصاديين، أصبحنا ندرك الآن أنه يوجد دائماً لعلم الاقتصاد إطار من العلم يتسم بالصبغة الدينية، والأخلاقية والإنسانية، يجب إعادة اندماجه في تلك المادة وفي الدراسة الموضوعية، وإن إنكار العلاقة بين علم الاقتصاد والقيم الأخلاقية كان فشلاً أو خطأ من ناحية الأجيال السابقة من العلماء الاقتصاديين. لقد أدركنا الآن، مثل “ميردال” وغيره، أنه من المستحيل اقتراح إمكانية فصل علم الاقتصاد عن الأحكام القيمية الخاصة بالبشر، سواء بصفتهم كمجتمع، أو أفراد أو علماء اقتصاديين، ومن ثم فقد شهدنا في السنوات الحديثة عودة واسعة النطاق إلى اتجاه أكثر إنسانية، ويعد العالم الاقتصادي التشيكي، إيوجين لوفل، الذي أنهى دراسته في هارفارد ممثلاً لذلك الاتجاه في كتابه “الاقتصاد الإنساني”. الذي عرفه أنه “اقتصاد بواسطة البشر ومن أجل البشر”. إن العلماء الاقتصاديين المسلمين، عندما يعلنون أن الدين يعتبر الخلفية للفكر الاقتصادي، بل في الواقع لأي فكر اقتصادي، يجب ألا يواجهوا بالدهشة، نظراً لأن مثل ذلك القول ينبع في الحقيقة من ارتباطاهم الذهني بالتطور التاريخي لذلك الفن. وفي الواقع، فإن الدين يتناول معتقدات الناس وسلوكهم، ومن ثم فإنه يجب أن يكون لكل من الأديان موقفاً اقتصادياً خاصاً به، وإنه يجب أن يكون لكل من الأديان اتجاهاً اقتصادياً خاصاً لأن علم الاقتصاد طبقاً لتعريفه الغالب، يعد قبل كل شيء دراسة للسلوك الإنساني، أي سلوك البشر بالنسبة للانتاج، وتوزيع واستهلاك السلع والخدمات، وذلك السلوك الاقتصادي يعد جزءاً من السلوك الشامل للبشر، ولذلك، فإن علم الاقتصاد يجب أن يكون جزءاً من الدين. ولعل ذلك هو السبب فيما كان من إدانة للمعايير الاقتصادية السائدة في أوائل الفترة التي أوحي فيها القرآن. وفيما يلي نقدم المجموعة الرابعة من الآيات التي أوحيت للنبي محمد، والتي تقول:

“ويل للمطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون، ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين”.

لعلنا إذا استطعنا تصنيف الأنبياء الذين جاءوا قبل محمد (عليهم السلام) في طبقات وتعيين مهام لكل منهم، سوف نكتشف أن واحداً منهم، وهو شعيب، قد كان هو نبي الاقتصاديات كما يحب بعض العلماء المسلمين أن يطلقوا عليه. لقد كان شعيب واضحاً في إقامة موقفه الاقتصادي على أساس إيمانه بالله ويوم الحساب، وفي الحقيقة، فإن ربطه بين السلوك الاقتصادي وبين الصلاة والعقيدة من الممكن أن يكون قد أصاب بعض أتباعه بالدهشة. فما هي العلاقة بين السلوك الاقتصادي والصلاة والعقيدة؟ وكيف يمكن إقامة السلوك الاقتصادي على أساس تلك الأشياء؟ لقد كان شعيب واضحاً تماماً في رأيه أنه بمقتضى تلك الصلاة والإيمان كان عليه أن يختار نمطاً معيناً من السلوك الاقتصادي. ويقول الله سبحانه وتعالى في القرآن:

“وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط. ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين. بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين. وما أنا عليكم بحفيظ. قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد” [هود 84- 87]

وهكذا، فإننا من الممكن أن نصوغ استنتاجنا الأول كما يلي: إن السلوك الاقتصادي للإنسان والمجتمع يعد جزءاً من سلطان الدين. وفما يلي سوف ننظر في العلاقة بين الإسلام وعلم الاقتصاد.

لعل الإسلام يختلف عن الديانات الأخرى في معالجته للمسألة الاقتصادية، فإن الديانات المختلفة قد تختلف في مواقفها بالنسبة لمسألة معينة، وخاصة بالنسبة لعلم الاقتصاد، ونحب أن نقرر أن اتجاه الإسلام يختلف بوضوح إلى المدى الذي يضفي عليه الطابع الفريد، وذلك الطابع الفريد للاتجاه الإسلامي يكمن في نظامه الخاص بالقيم المرتبط بالسلوك الاقتصادي؛ والصفة الأساسية للمبادئ الأخلاقية الاقتصادية تتمثل في التوازن القائم بين تلك المبادئ. ويحث الإسلام البشر على الخضوع التام لله وتكريس جميع حياتهم وقواهم لعبادته، فإن الله يقول في القرآن، في السورة السادسة [الأنعام] الآية 162، 163:

“قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين”.

وفي حين أن ذلك –طبقاً للقرآن- هو الهدف النهائي للمسلمين، فإن مجرى الحياة أو أسلوب الحياة الذي يحوز على قبول الله يعتبر هدفاً يتضمن في  إطار العالم المادي؛ ويعني ذلك أن العالم المادي يعد طريقاً إلى الله وليس انحرافاً عنه طبقاً للإسلام؛ وأن أشياء مثل بناء الحياة المادية وتحسينها والتمتع بها تعد في حد ذاتها وسائل للحصول على المتع التي وهبها لنا الله، وأن الإنعزال عن الحياة والانسحاب منها يعد إثماً أدانه الله في القرآن وأدانه رسوله في السنة. وطبقاً لذلك، نجد أنه بالرغم من أن هدف الحياة هو النجاح في الآخرة، فإنه ليس من الممكن تحقيق مثل ذلك النجاح عن طريق تجاهل كل شيء في الحياة.

وبمقتضى ذلك، فإن المبادئ الأخلاقية الخاصة بعلم الاقتصاد الإسلامي ترى في الثروة وسيلة للإشباع الإنساني والزيادة من قدرات الإنسان التي تؤدي إلى تحقيق تقرب أفضل إلى الله. ولذلك فإن الإسلام لا يدين السعي للحصول على الثروة ولا يدين التمتع بها، والإسلام أيضاً لا يدين الحماس للحصول على دخل أكبر أو على أشياء مادية أكثر، بل هو وفي الحقيقة، يعتبر الحياة المادية هبة ونعمة من الله يجب الانتفاع بها، والامتناع عن فعل ذلك يعتبر إلى حد كبير إثماً. ومما يعتبر مماثلاً للإثم أن لا يستغل ما وهبه الله لنا. ولذلك، فإن الإسلام يعتبر أفعالاً مثل الانتاج، والتوزيع، والاستهلاك في إطارها العام جزءاً من العبادة.

ومن المفيد أن نذكر بعضاً من الأفكار الدينية التي ساهمت في ظهور الرأسمالية في الغرب. لقد أكد “ماكس ويبر” أن نشأة الرأسمالية قد سبقها في الواقع ظهور مبادئ أخلاقية بروتستانتية، معينة. وتشمل تلك المبادئ الأخلاقية على سبيل المثال: تقييم أداء الواجب في الشئون الدينية باختلاف ذلك عن الحياة الرهبانية الخاصة بالكاثوليكية، والتقييم الديني للعمل المضني المتواصل المنظم، وأن اتباع المنفعة الذاتية يعد فضيلة وليس إثماً، ويماثلها أيضاً السعي للحصول على الثروة. وسوف نترك للقارئ فحص مدى تأثر تلك الأفكار بواسطة الإسلام، أو على الأقل أن تلك الأفكار قد وجدت في التعاليم الإسلامية منذ وقت طويل قبل أن يتم نشرها بواسطة كل من لوثر، وكالفين، وأتباعهما.

2- النظام الاقتصادي:

نستطيع الآن أن نتقدم باستنتاجنا الثاني، وهو: أن الإسلام، مثله مثل أي ديانة أخرى، يعتنق موقفاً معيناً تجاه علم الاقتصاد، وذلك الموقف يتسم بالإيجابية. والآن، من أجل أن نقوم بدراسة النظام الاقتصادي الإسلامي، بالإيجابية. والآن، من أجل أن نقوم بدراسة النظام الاقتصادي الإسلامي، فإن من الضروري أن نقوم بتعريف “النظام الاقتصادي”. ما هو النظام الاقتصادي؟ إن النظام الاقتصادي دائماً يتم تعريفه بأنه يتمثل في مجموعة من المبادئ التي تشكل الإطار الخاص بتنظيم النشاط الاقتصادي. وتلك المجموعة من المبادئ تقوم من ناحية على أساس وجهة نظر فلسفية تجاه النشاط الاقتصادي، ومن الناحية الأخرى، فإن تفاعل تلك المبادئ يشكل إطار النشاط الاقتصادي ويوجهه إلى الطريق المرغوب فيه بواسطة النظام. وهكذا، فإن كل نظام اقتصادي يتكون من ثلاثة أجزاء، وهي: الفلسفة الاقتصادية، ومجموعة المبادئ، والأسلوب التحليلي للعمل الذي يحدد المتغيرات الاقتصادية..

وتزودنا الفلسفة الاقتصادية بالأساس للنظام: فإنها تتناول آراء ذلك النظام بالنسبة للإنتاج، والتوزيع، والاستهلاك، وتصوغ مبادئه، وقواعد عمله. في نظريات معينة؛ وهذه الفلسفة الاقتصادية تقوم بدورها على أساس موقف مذهبي تجاه الحياة، والإنسان والله؛ فنجد أن الفلسفة الاقتصادية في الماركسية تتمثل في أفكار مثل صراع الطبقات وتناقض الطبقات، وينبع من ذلك التناقض والصراع جميع المبادئ والقواعد الخاصة بالثورة البروليتارية والديكتاتورية البروليتارية، والصراع الطبقي والتناقض يعدان بدورهما تجلياً لفلسفة الصراع، التي تمثل الآلهة المتعددة لليونان في إرادتهم، ورغباتهم المتعارضة، والإله النزاع إلى الانتقام الذي ينتمي إلى الثقافة اليهودية- المسيحية. وفي الرأسمالية، نجد أن الفلسفة الاقتصادية تتمثل في “حرية العمل” واليد الخفية. ويعني ذلك أنه لا يجب أن تكون هناك أية قيود أو حد من سعي الإنسان لتحقيق مصلحته الذاتية؛ وأنه إذا تركت الحرية للناس ليفعلوا ما يشاءون، فسوف يكون ثمة انسجام بين مصالح الأفراد. وهكذا، فإن الفلسفة الاقتصادية للرأسمالية تقوم على أساس وجود إله “منعزل”. فإن الله قد قام بالخلق والتنظيم، ثم توجه إلى  عزلته وتقاعد، وهو لا يقوم بأي توجيه، ولا يتدخل في أعمال العباد. وغالباً ما تكون تلك الفلسفة واضحة في مذهب اللاأدريين.

وأما العنصر الثاني لأي نظام اقتصادي فيتمثل في مجموعة المبادئ والتنظيمات التي تكون الإطار الاجتماعي؛ والقانوني، والسلوكي للنظام. وتلك تتضمن أموراً مثل: تنظيم الملكية –وهل تمتلك وسائل الإنتاج بواسطة الأفراد أو العامة أو الدولة؟ والقيود الموضوعة بالنسبة لسلوك الفرد- وما هي الحدود للسلع والخدمات التي يمكن الحصول عليها؟ أو ما هي العلامات التجارية المتفتحة أمام الناس؟ وتتضمن تلك المجموعة من المبادئ أيضاً معايير السلوك بالنسبة للأفراد الذين يساهمون في تقرير الحالة الاقتصادية، أي المستهلك والمنتج. وفي الرأسمالية، نجد أن “حرية العمل” تتطلب أقل قدر ممكن من التدخل الحكومي، وتتطلب وجود حق الملكية الخاصة والمطلقة، وحرية التصرف، وانفتاح جميع أنواع العلاقات الاقتصادية والمعاملات التجارية. ويتم اشتقاق المعايير الخاصة بالأفراد من مذاهب الفردية والنفعية. وطالما أنه يتم بيع جميع الإنتاج لأي نوع من السلع، فإن تلك السلع تعتبر شيئاً صالحاً طبقاً لجميع المعاني التي توحي بها تلك الكلمة، سواء كانت معاني اقتصادية، أو أخلاقية. وفي الماركسية، نجد أن حق الملكية ينتمي بصفة رئيسية إلى البروليتاريا، التي يتم تمثيلها بواسطة قيادتها الديكتاتورية، ويتمثل ذلك النوع من الملكية في حيازة الدولة على الملكية الفعلية لوسائل الإنتاج، وسلطة الدولة بالنسبة لتقرير ما سوف يتم إنتاجه، وكيف، ولمن، بمقتضى المبدأ الثاني للاقتصاد الاشتراكي الذي يتمثل في التخطيط المركزي. وتعد الفائدة الجماعية بمثابة المعيار الرئيسي الذي يضعه ذلك النظام للأفراد، وتعتبر مجموعة العلاقات الاقتصادية والمعاملات التجارية مقيدة للغاية.

أما العنصر الثالث للنظام الاقتصادي، فهو أسلوب عمله ويتوقف أسلوب عمل أي نظام على بنيان ذلك النظام يتشكل بدوره بواسطة المبادئ والأعمدة الرئيسية الخاصة بالنظام، ويوجد لكل نظام مجموعة من القواعد يجب اتباعها من أجل ضمان سير عمله. وفي النظم الرأسمالية نستطيع التعرف على القواعد لو أننا طبقنا تعريفاً أكثر دقة بالنسبة للرأسمالية. وفيما يتعلق بالنظم الرأسمالية التي تتسم بالمنافسة المثلى، نجد أن القواعد الرئيسية ترتبط بحرية الدخول والخروج، وحرية المعلومات، وحجم الوحدات الاقتصادية. وفي حين أننا نجد أن قواعد الرأسمالية الاحتكارية، تتمثل في منع حرب الأسعار وفي نفس الوقت تزويد المنتجين بالمقدرة على تقدير أسعار تعلو على التكلفة الحدية، فإننا في النظام الماركسي نجد أنه يتم وضع التخطيط المركزي موضع العمل من خلال إجراء معين ومتكرر، وتتم تنظيم ملكية البروليتاريا لوسائل الإنتاج عن طريق بعض القواعد الخاصة بمبدأ الجماعية، أي سيطرة الشعب ككل على جميع النشاطات الاقتصادية. ويعد كل من ذلك التكرار والجماعية بعضاً من القواعد الخاصة بسير عمل النظام.

ويقوم النظام بالعمل من أجل تحقيق نتيجة معينة ترتبط ارتباطاً كبيراً بالقيم وتتوقف على الأولويات الاجتماعية، وعلى سبيل المثال، نجد أن مثل تلك الأولويات تقرر ما هو الأكثر أهمية، التقدم أم عدالة التوزيع، حرية الفرد أم استقلال المجتمع، التنمية الاقتصادية أم الحفاظ على المبادئ الأخلاقية، إلخ؟. ولذلك، فإنه يتم تقييم أي نظام اقتصادي على أساس كفاءته في تنفيذ أولوياته وليس على أساس الأفضليات التي قد تكون غريبة على النظام والمجتمع.

3- النظام الاقتصادي الإسلامي:

أ- الصفات الرئيسية:

بعد أن درسنا النظام الاقتصادي ومكوناته، فإننا سوف نكرس هذا القسم لفحص النظام الاقتصادي الإسلامي من وجهة نظر مكوناته الثلاثة:

ولكننا قبل أن نتقدم لفعل ذلك، ثمة نقاط جديرة بالملاحظة:

أولاً: يجب أن يتم تطبيق النظام الاقتصادي بصفة تامة من أجل تحقيق النتائج التي يضعها النظام نصب عينه؛ والتطبيق الكامل للنظام الاقتصادي الإسلامي يتطلب، انسجام جميع مجالات المجتمع مع متطلبات النظام الاقتصادي نظراً لأن النظام الاقتصادي وفقاً لتعريفه يتصل بالأوجه الاجتماعية المتعددة في الدولة. ويجب أن تكون جميع الأوجه الأخرى المتصلة بالنظام الاقتصادي، متوافقة معه. فالنظام الاقتصادي الإسلامي على سبيل المثال، يتطلب تحريم الربا؛ ومثل ذلك التحريم يجب أن يتم فرضه من خلال التشريع والقانون؛ وهو أيضاً يتطلب جمع الزكاة وتوزيعها بواسطة الدولة، وذلك يستوجب وضع الدولة للتنظيمات وفرضها للقانون. ولذلك، فإن تطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي يتطلب وجود الانسجام بين سير عمل جميع الأجزاء الداخلة في البنيان الاجتماعي السياسي من أجل تحقيق نفس الأهداف. ولكننا لا نعني بذلك أننا من أجل أن نقوم بتطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي يجب أن نقوم في نفس الوقت بتطبيق جميع المبادئ الإسلامية، فإن القوانين والتنظيمات والقواعد الاقتصادية، يمكن تطبيقها بصرف النظر عن الأسلوب الذي تم اتباعه في تنظيم بعض الأوجه الأخرى في المجتمع. فمثلاً، إذا قبل المجتمع تحريم الربا باعتبار ذلك جزءاً من الاقتصاد الإسلامي، فإنه سوف يتم تحريم الربا سواء تم تحريم شرب الخمر أم لا، وسواء كان ذلك القرار قد تم اتخاذه عن طريق الشورى أو عن طريق الدكتاتورية. فمن الممكن اعتناق النظام الاقتصادي الإسلامي إذا تم تدعيمه بواسطة المجالات الأخرى المتصلة به والتي تساهم في تكوين النظام الاجتماعي، وفي تلك الحالة سوف تكون لديه القدرة على العمل وإنتاج الثمرات، سواء تم قبول تطبيق مبادئ الإسلام بصفة كلية أم لا، ولكن ذلك أيضاً لا يعني أن المجتمع الذي يقبل النظام الاقتصادي الإسلامي، بمفرده يصبح مجتمعاً إسلامياً؛ فإنه من أجل أن يصبح المجتمع إسلامياً، ليس من الكافي تطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي بمفرده؛ بل يجب تطبيق جميع المعتقدات، والقيم، والإجراءات، والقواعد طبقاً لما جاء في القرآن والسنة.

ثانياً: النظام الاقتصادي الإسلامي يزخر بالقيم، بمعنى أنه يعد هادفاً وليس حيادياً. فإنه يهدف إلى الرقي بالقيم الأخلاقية الإسلامية مثل الأخوة، والصدق والعدالة.

ثالثاً: بالرغم من أن النظام الاقتصادي الإسلامي يتأثر بمستوى تمسك الناس بالأخلاق، وبحماسهم الديني، فإنه لا يعتمد في سير عمله على الأفعال الاختيارية؛ وذلك يعني أنه بالرغم من حقيقة أن النظام الاقتصادي الإسلامي قد يكون ذا مستوى أعلى للإنفاق الناقل الاختياري، أي الصدقة، فإن بنيانه وسير عمله لا يتوقفان على الصدقة، بل يتوقفان على الحقائق البديهية الرئيسية والقواعد التي تظهر بوضوح في تنظيم النشاط الاقتصادي كما سنرى فيما بعد. ولذلك، فإن السلوك الذي يتبعه النظام ليس سلوكاً دينياً. بل إنه دنيوي إلى حد كبير.

رابعاً: النظام الاقتصادي الإسلامي يتسم بالديناميكية. ويعني ذلك أنه ليس لديه قانون جامد يتناول جميع التفاصيل، فإنه يقرر فقط الخطوط العريضة والمبادئ الأساسية، وتترك جميع التفاصيل ليقررها المجتمع طبقاً للظروف المتغيرة بمرور الوقت. وهو يترك الكثير من المعاملات التجارية والعلاقات بين الأفراد للعقل الإنساني حتى يتدبر فيها ويقررها على أساس المبادئ الموجودة في القرآن والسنة، وبذلك فهو يترك الكثير من النواحي ليتم التوصل إلى قرار بالنسبة لها، تلك النواحي التي لم يقررها الله بالتحديد، بل تركها لتقدير الناس. ولذلك، فإن نظام الطوائف على سبيل المثال، وهو نظام يتعلق بنوع من الطوائف المهنية، عندما كان سائداً في العصور الوسطى في المجتمع الإسلامي وفي شرق وجنوب البحر الأبيض المتوسط، كان يحوز على حرية أكبر بكثير من نظام الطوائف الذي فرضه الصليبيون فيما بعد في أوروبا. لقد أدى نظام الطوائف إلى تحسين المستويات الاقتصادية ومستويات المعيشة في المجتمع الإسلامي في ذلك العصر، في حين أن نفس ذلك النظام قد أدى إلى الركود الاقتصادي عندما أخذه الصليبيون ونقلوه إلى أوروبا، لأنه قد طبق بطريقة جامدة وكلية تختلف عما كان طبقاً للإسلام. وهكذا، فإن نظام الطوائف كان يتسم بمرونة، وديناميكية أكبر في المجتمع الإسلامي عنه في أوروبا.

ب- النظام الاقتصادي الإسلامي:

لعلنا نستطيع تلخيص الخلفية الفلسفية لذلك النظام في نقاط قليلة. أولها، أن هذا الكون من ملك الله: فإن جميع الملكية، والثروة الواردة تعد ملكاً لله، وأن الله ينظم تلك الأشياء بالأسلوب الذي يرضيه. ولذلك، فإن جميع البشر يتصرفون في تلك الموارد ويكون لديهم السلطة عليها فقط بقدر ما يطبقون مشيئته وإرادته. ويعد النظام الاقتصادي الإسلامي فريداً في هذا الصدد. فإن ذلك المفهوم يختلف عن نوعي الملكية في كل من الرأسمالية والماركسية، لأن الملاك الحقيقيين والنهائيين في الرأسمالية هم الأفراد؛ وفي الماركسية هم البروليتاريا. أما في الإسلام، فإن المعنى المباشر للملكية هو أن حق الإنسان بالنسبة للأشياء يعد محدداً وغير مطلق. ويقوم مفهوم الملكية هذا في الإسلام، على أساس المذهب الأساسي القائل بأن الله هو الخالق الأوحد لكل شيء ولكل حياة وجدت في الكون. وفوق ذلك، فإننا سوف نظهر فيما بعد أن ذلك المفهوم يضع الأساس لسلسلة من المبادئ والقواعد الخاصة بالنشاط الاقتصادي في النظام الإسلامي. أما العمود الثاني للفلسفة الاقتصادية الإسلامية، فهو أن الله واحد وأن كل شيء آخر يعد من خلقه، ويخضع له، إن الله هو الخالق، وكل شيء فيما عداه، يعد من خليقته. وطبقاً لذلك، فإن جميع الناس ينحدرون من أصل واحد وجميعهم سواسية. وليس ثمة طبقات للناس، وليس ثمة أشخاص أفضل من الآخرين، وإن جميع الناس متساوون وليس هناك من يسمو على الآخرين. فإن الجميع سواسية. أما العمود الثالث، فهو الإيمان بيوم الحساب. إن الإيمان بيوم الحساب يؤثر تأثيراً هاماً على السلوك الاقتصادي. لأنه يوسع الأفق الزمني لأي مجموعة من الأعمال أو أي اختيار للسلوك، فعندما يرغب المسلم في فعل شيء، فإنه يأخذ في اعتباره ما هو تأثير ذلك الفعل بالنسبة للآخرة، وإن ذلك يعني، طبقاً للمصطلحات الاقتصادية، أن الشخص يقارن بين الفوائد والتكاليف لأي اختيار يقوم به، ويقوم باختيار القيمة الحالية التي تؤدي إلى تحقيق نتيجة في المستقبل. وتتكون تلك النتيجة، ليس فقط مما يأتي قبل الموت، ولكن مما يأتي في الآخرة أيضاً. وهكذا، فإن ذلك يتجاوز نظرية دورة الحياة، فإن الأفق الزمني يمتد ليشمل ما بعد الموت. ويعني ذلك أن أي اختيار لمسار عمل محدد في الحياة لا يؤثر فقط على المستقبل المباشر، ولكنه يؤثر أيضاً على ما يأتي بعد الموت. وتوجد الكثير من الأمثلة في السنة وأحاديث النبي التي تشرح بعض الأوجه لذلك التأثير. فعندما قدم أبو بكر جميع ما يملك مساهمة منه في الإعداد لمعركة تبوك، سأله رسول الله ماذا ترك لعائلته؟ فقال إنه ترك لهم الله ورسوله. وبالتأكيد، فإنه كان لديه من الوعي ما جعله يؤمن أنه سوف يكون أفضل حالاً بالتخلي عن جميع ما يملكه.. فطبقاً لتقديره، فإنه كان يتوقع من الله ما هو أفضل من ذلك.

ويتمثل الجزء الثاني من النظام الاقتصادي الإسلامي: في المبادئ العامة. ويعود بنا ذلك إلى متضمنات مفهوم الملكية. ما هو نوع الملكية التي يحوز عليها الناس؟ إن ملكيتنا تعد نوعاً من الانتفاع وليست نوعاً من التملك، وهي توجد طالما يتم الانتفاع بالشيء الممتلك طبقاً لأغراض وجوده، ولو لم يتم الانتفاع به من أجل تحقيق تلك الأغراض، حينئذ فإنه قد لا يوجد الحق في الملكية وهكذا، فإنه لو لم يقم الشخص في الاقتصاد الإسلامي باستنباط الفوائد من المصدر الذي يقع تحت سيطرته، فإنه لا يكون لديه الحق في الملكية، ويطبق ذلك بصفة خاصة على ملكية الأرض. والمتضمن الثاني لمفهوم الملكية الإسلامية هو اقتصارها على حياة المالك فقط، فإن المالك ليس لديه الحق في تنظيم التصرف في ملكيته بعد موته؛ إذ يجب أن يتم توزيع الإرث طبقاً لما جاء في القرآن، ولا يسمح للمالك أن يعد وصية تنتهك ذلك التوزيع الذي تحدد في القرآن وبالإضافة إلى ذلك، فإنه لن يتم اعتبار أي وصية لا تتوافق مع القرآن. ويرجع ذلك إلى أن حق الملكية يتسم بالتقيد. وأن المتضمن الثالث هو أنه توجد أشياء ذات أنواع معينة ليس من الممكن امتلاكها بواسطة الأفراد حتى في فترة الحياة، مثل الموارد الطبيعية، لأن الحق في الملكية الخاصة كما قلنا ليس بحق مطلق. فالموارد الطبيعية، طبقاً للكثير من العلماء المسلمين، ليس من الممكن أن تكون بمثابة ملكية خاصة؛ لذا يجب أن تكرس جميعها لصالح المجتمع ككل.

ويتمثل المبدأ الثاني للنظام الاقتصادي الإسلامي في التوازن: ويظهر ذلك بشكل واضح وصريح في الكثير من أوجه سلوك المسلمين مثل الاعتدال، والبعد عن الإسراف أو البخل الشديد. وإن المسرفين، حتى بالنسبة للصدقة، قد يطلق عليهم في بعض الأحيان كلمة السفهاء، بالرغم من أن إنفاقهم قد لا يكون على أشياء محرمة. وحتى بالنسبة للإنفاق على الأشياء المشروعة، فإن الإنسان يجب أن يكون معتدلاً؛ وتتضمن فكرة الاعتدال عدم اعتبار الاستهلاك كفاية في حد ذاته؛ ولذلك، فإنه يجب على الإنسان أن يستهلك فقط بالقدر الذي يكون في حاجة إليه وبالقدر الملائم، ولا يراجع الأمر مرة أخرى من أجل أن يستهلك كمية أكبر. ونجد أيضاً مبدأ التوازن ذلك يقوم بالعمل فيما بين أشياء مثل الحرية والتنظيمات، والملكية الفردية، والملكية الجماعية. وبالرغم من أنه يتم امتلاك الموارد الطبيعية بواسطة المجتمع ككل، وامتلاك الأشياء الأخرى بواسطة الأفراد، فإنه مع ذلك يوجد توازن بين مصالح المجتمع ومصالح الأفراد. وفي أي وقت يحدث إخلال التوازن، فإنه يجب تصحيحه حتى عن طريق تقديم بعض الإجراءات الإصطناعية مثل تلك التي تم اقتراحها بواسطة عمر، الخليفة الثاني، عندما قال:

لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فرددتها على الفقراء.

فلعله قد شعر أن توازن النظام كأن يسير تجاه الإختلال، ومن ثم أراد استعادة ذلك التوازن. وتعد أيضاً الإمكانية لتأميم صناعات معينة أو نشاطات إنتاجية معينة واحدة من متضمنات مبدأ التوازن، نظراً لأنها قد تكون بمثابة وسيلة لاستعادة توازن النظام.

وأما المبدأ الثالث فهو العدالة: إننا قد نصاب بالدهشة، إذا علمنا أن كلمة العدالة هي الكلمة الثالثة من حيث تكرارها الدائم في القرآن. فإن الكلمة الأولى هي اسم “الله”، والثانية هي “المعرفة”، أما الثالثة فهي “العدالة ومرادفها”، فقد تم تكرارها أكثر من ألف مرة؛ ومفهوم العدالة يعد عميقاً جداً في الإسلام وفي قلب المسلمين إلى المدى الذي جعل ابن تيمية يقول في كتابه “الحسبة”، إنه مثلما يعد من الظلم أن يمنع الناس من التصرف في ممتلكاتهم كما يشاؤون، فإنه أيضاً يعد من الظلم أن يسمح لهم بتجاوز حدودهم وتوسيع دائرة حقوقهم حتى تطغى على حقوق الآخرين. ويتم تطبيق العدالة في جميع مراحل النشاط الاقتصادي. ففي الإنتاج، تتطلب العدالة تحقيق الكفاءة ومكافحة التبديد. وفي التوزيع، تتطلب العدالة التقييم الملائم لعوامل الإنتاج والتحديد الملائم للإيراد. وقد تتطلب العدالة أيضاً تطبيق إجراءات معينة لإعادة توزيع الدخل من أجل تقديم نصيب عادل من الإيراد لهؤلاء الذين لم يستطيعوا الحصول عليه من خلال عمليات السوق. ويتم ذلك بواسطة الإنفاق الناقل الإجباري، أو الاختياري المتمثل في الزكاة وغير ذلك من الواجبات المالية والصدقات.

وقد أعلن النبي: والله لا يؤمن والله لا يؤمن من يقضي ليله شبعان وجاره جائع.

ويتكون الجزء الثالث من النظام الاقتصادي الإسلامي من قواعد العمل. فبعد دراسة المبادئ العامة للنظام الاقتصادي، يأتي دور قواعد العمل وهو وضع تلك المبادئ موضع عمل وتحقيق التكامل بين الوحدات الاقتصادية وتتمثل أولى تلك القواعد في الزكاة –فالزكاة تعد واجباً معيناً يفرض على حق الملكية من أجل مواجهة أغراض معينة طبقاً للقرآن. ولذلك، فإنها ليست ضريبة تزود الدولة بالدخل بصفة عامة. وتوزيع إيراد ذلك الواجب المالي يجب أن يوجه لواحدة أو أكثر من الثمانية طبقات التي ذكرها القرآن في السورة 9 [التوبة]، الآية 60 التي تقول:

“إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم”.

وتلعب الزكاة دوراً بارزاً في توزيع الدخل والثروة. ونظراً لأنها تفرض على حق الملكية وليس على الدخل، فإنها تكون ذات نسبة أعلى بكثير من معدلها الفعلي الذي يساوي 2.5 في المائة إذا ما قورنت بالدخل. وتبعاً لذلك، فإنها تعبئ جزءاً كبيراً من الدخل السنوي من أجل إعادة التوزيع؛ ومما يفوق ذلك في الأهمية هو أثرها بالنسبة للسلوك الخاص بالاستهلاك، فهي تؤثر على اختيار المستهلك بالنسبة لتوزيع دخله فيما بين الإدخار والاستهلاك. ونستطيع أن نوضح ذلك الدور بطريقة أفضل بعد أن نقدم قاعدتين أخريين لعمل النظام، وهما تحريم الربا، وشرعية الإقراض.

القاعدة الثانية المعدة للعمل في النظام الاقتصادي الإسلامي تتمثل في تحريم الربا، ويتمثل الربا في أي فائدة مادية تشترط على القرض؛ وذلك بالضرورة يشمل الفائدة بجميع أنواعها وأشكالها؛ وهو أيضاً يشمل المكاسب المادية الأخرى التي تنتج عن إقراض النقود أو إقراض أي أشياء أخرى ثابتة. وتعد الفائدة محرمة سواء كان سعرها مرتفعاً أو منخفضاً، وسواء كانت على القروض الاستهلاكية أو القروض الاستثمارية، وسواء كانت قصيرة أو طويلة الأمد. وتحريم الربا يعد في جوهره رفضاً لأي نوع من المعاملات التجارية التي تلقي تبعة المخاطر كلية على أحد الأطراف في حين تضمن الكسب للطرف الآخر. وهو أيضاً يعبر عن حقيقة أنه من أجل أن يحصل الإنسان على نصيب من الدخل، فإنه يجب أن يشارك في عملية الإنتاج باعتبارها عاملاً من عوامل الإنتاج، أما النقود فهي ليست بعامل من عوامل الإنتاج. وتحريم الربا، إلى جانب الزكاة وشرعية الإقراض، يشتركون سوياً في صياغة سلوك المستهلك في الاقتصاد الإسلامي.

والقاعدة الثالثة المعدة للعمل تتمثل في الإقراض: وذلك يعد صورة من التضامن بين صاحب الموارد ومتعهد الأعمال، أي رجل الأعمال. إن رجل الأعمال، الذي ليس لديه الموارد المالية اللازمة لمشروعاته، من الممكن أن يدخل في تضامن يساهم فيه صاحب الموارد المالية اللازمة لمشروعاته، من الممكن أن يدخل في تضامن يساهم فيه صاحب الموارد المالية بأمواله أو موارده على أساس المشاركة في مكسب وخسارة المشروع، وليس على أساس الحصول على دخل محدد، مثلما هو الحال في الفائدة، ولذلك، فإن صاحب الموارد المالية طبقاً لذلك الأسلوب في الإقراض يعتبر شريكاً وليس مقرضاً. فهو شريك يتحمل تبعة المخاطرة في النشاط الاقتصادي ويهتم بتحقيق نجاحه.

وتعد تلك القواعد الثلاثة سوياً من أجل صياغة القرار الخاص بالشخص الذي يكتسب إيراده من العمل وقرار المستهلك بالنسبة لتوزيع دخله فيما بين الإدخار والاستهلاك: وأي إدخار يرغب المستهلك في القيام به لن يؤدي إلى تحقيق إيراد مكتسب (نظراً لتحريم الفائدة) وبدلاً من ذلك فإنه سوف تتم إعاقته بدفع الزكاة. وتبعاً لذلك، فإن المستهلك في نهاية العام سوف يجد نفسه في حالة أسوأ. في حين أنه في نظام الفائدة سوف يكون أفضل حالاً بفضل سعر الفائدة. وفي النظام الاقتصادي الإسلامي، عندما يدخر المستهلك، فإنه يكون لديه الاختيار إما أن يتحمل الخسارة المتوقعة لو أنه قرر الاحتفاظ بأمواله في الخزانة أو في حساب مصرفي (فإنه لن يحصل على الفائدة)، أو أن يضع مدخراته في استثمار مباشر. ولذلك فإن القرار المنطقي يتمثل في توجيه مدخراته للاستثمار المباشر عن طريق الإقراض لأن ذلك قد يجلب له بعض الدخل، وإذا كانت توقعات العمل سيئة وليس هناك طلباً كافياً على مدخراته بواسطة متعهدي الأعمال، فإن المستهلك في النظام الاقتصادي الإسلامي سوف يفضل عدم الإدخار (أو سوف يحد من مدخراته) لأنه سوف يفقد 2.5 في المائة على كل مائة دولار يدخرها، في نهاية العام. ونستطيع أن نلخص استنتاجنا كما يلي:

في النظام الاقتصادي الإسلامي، نجد أن توزيع الدخل بين الإدخار والاستهلاك لا يتوقف فقط على مستوى الدخل وأسلوب معيشة الأسر ولكنه يتوقف أيضاً على توقعات الاستثمار. فإذا انخفضت تلك التوقعات، سوف يحد المستهلكون من مدخراتهم (ويزيدون من الاستهلاك). ولكن ذلك في حد ذاته سوف يؤدي إلى تحسين الأحوال نظراً لأنه يزيد من إجمالي الطلب. ولذلك، فإن تضمن توقعات الاستثمار في قرار الإدخار يؤدي إلى تكوين قوى أوتوماتيكية تعمل على تحقيق التوازن في النظام.

وبالنسبة للنظام الاقتصادي القائم على أساس الفائدة وعدم دفع الزكاة، فإن المدخرات العاطلة لا تنتقص. وفوق ذلك، فإن المستهلك يتخذ قراره فيما يتعلق بتقرير الاستهلاك- أو الادخار، بشكل منعزل تماماً عن أحوال العمل وتوقعاته، ويعني ذلك أن النظام ينقسم إلى قسمين منفصلين بمعنى أنه ليس لديه وسيلة أوتوماتيكية نابعة منه من أجل تحويل الإشارة من سوق الاستثمار إلى الاستهلاك. وفوق ذلك، نظراً لأن الفائدة تعد كسباً للمدخر وخسارة لمتعهد الأعمال، فإن مصالح هذين الطرفين تعد معارضة، في حين أنها تعد متوافقة في النظام الإسلامي. وطبقاً لكثير من العلماء الاقتصاديين، فإن الانفصال بين قرار الإدخار وقرار الاستثمار هو السبب الحقيقي لتصدع النظرية الكلاسيكية المحدثة والنظام الرأسمالي، ففي هذا النظام، يتم اتخاذ قرار الإدخار بواسطة المستهلك بشكل منفصل تماماً عن قرار الإدخار الذي يتخذه المستثمر أو متعهد الأعمال، ونظراً لأن قرار الاستثمار يسترشد فقط بإشارة من السوق، أي بشكل الطلب في السوق، فإن هؤلاء الغير موظفين وهؤلاء الذين خفض دخلهم لن يستطيعوا إبداء الإشارة لأنهم ليس لديهم دخل. في حين أن تلك الإشارة، دائماً ما توجد في المجتمع الإسلامي، نظراً لوجود مثل ذلك الارتباط.

وأما القاعدة الرابعة المعدة للعمل في النظام الاقتصادي الإسلامي فتتمثل في التأمين الاجتماعي. ويتحقق ذلك بطريقتين: أولاً: إن الزكاة تضمن حداً أدنى لمستوى المعيشة لجميع المقيمين في المجتمع الإسلامي، وذلك الحد الأدنى بالطبع يتقرر بواسطة درجة التطور الاقتصادي وأسلوب معيشة الناس. ثانياً: إذا كانت إيرادات الزكاة غير كافية، فإن الدولة الإسلامية تستطيع فرض رسوم إضافية على الأغنياء.

وأما القاعدة الخامسة المعدة للعمل فتتمثل في تأمين سداد الديون والقروض، فإن القانون الإسلامي كما وضعه النبي، يتطلب ضمان سداد الديون بواسطة الحكومة، بمعنى أنه إذا كان المدين غير قادر على الإيفاء بدينه، فإنه يكون مستحقاً للزكاة، حتى يفي بدينه. وفوق ذلك، في حالة الوفاة، فإن الحكومة تأخذ على عاتقها مسئولية سداد الديون في حالة كون الإرث المتروك غير كاف. إن ضمان سداد الديون يوفر الاستقرار والأمن في المجتمع الإسلامي.

والقاعدة السادسة المعدة للعمل هي نظام الإرث الذي يؤدي بطريقة بطيئة إلى لا مركزية الثروة. ويجب أن نلاحظ أنه ليس من الممكن نقض هذا النظام بواسطة أي وصية شخصية أو قانون بشري.

أما القاعدة السابعة والأخيرة فهي تتمثل في دور الدولة في الاقتصاد. وطبقاً للنظام الاقتصادي الإسلامي، فإن الدولة تدخل في السوق باعتبارها منتجاً ومالكاً وموزعاً للموارد الطبيعية، وأيضاً باعتبارها كمنظم من خلال الحسبة، فالحسبة تعد منشأة حكومية كانت سائدة في المجتمعات المسلمة فيما مضى منذ عهد النبي. وهي تعد هيئة تعمل على تنظيم السوق، ذلك التنظيم الذي يضمن عدم انتهاك القواعد الأخلاقية في السوق، وعدم تفشي الاحتكار في السوق، وعدم انتهاك حقوق المستهلك، أو القواعد الصحية وإجراءات الأمن. وهي دائماً تكون مستقلة عن السلطة القضائية والسلطة التنفيذية في الحكومة.

وبعد، فهذه المقالة تحاول أن تظهر لنا أن كل نظام اقتصادي تكون لديه فلسفته ومبادئه وقواعده الفعالة الخاصة به. وهي أيضاً تحاول تقديم الأفكار الرئيسية للفلسفة الاقتصادية الإسلامية، والمبادئ الرئيسية للنظام الاقتصادي الإسلامي وقواعده العملية. وقد بذل الجهد طوال تلك الدراسة لمقارنة النظام الاقتصادي الإسلامي مع الماركسية والرأسمالية، وإظهار الديناميكية، الخاصة بالنظام الإسلامي. وإذا وجد تقصير ما في تحقيق تلك الأهداف فإنه لا يرجع إلا إلى عجز الكاتب.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر