أبحاث

أصول الفقه وعلاقته بالفلسفة الإسلامية

Uṣūl al-Fiqh and its Relationship to Islamic Philosophy

  1. أصول الفقه والمنهج:

أصول الفقه من العلوم التي أنشأها العقل المسلم على غير مثال غير مقلد لأي أمة سبقته في هذا المضمار، فأصول الفقه منهج للتعامل مع النص الشرعي، وقد عرفه الرازي في المحصول بأنه “مجموع طرق الفقه على سبيل الإجمال وكيفية الاستدلال بها، وكيفية حال المستدل بها”([1]).

وعرفه البيضاوي في قوله: “معرفة دلائل الفقه إجمالاً وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد”([2])، ومن هذه التعريفات يمكن استخلاص أركان ذلك المنهج، إنه يحرص على معرفة:

أ- مصادر البحث.   ب- طرق البحث.  ح- شروط الباحث.

وهي الأركان المنطقية لأي منهج في البحث العلمي الذي يبعد عن الخرافة ويبتعد عن الذاتية ويقرب من الموضوعية.

إن التفكير المنطقي لمريد الحق هو التأكد أولاً مما تقوم به الحجة، حيث ثبت لدى المسلم أن ذلك هو القرآن والسنة، فلابد من طريق للتثبت والتوثيق لهذه المصادر، فإن ثبتت فكيف نفهمها، فكان ذلك المنهج هـو المنهج الدقيق لأداء ذلك الهدف والوصول إليه.

 

  1. الاجراءات والفلسفة تكشفان عن المنهج:

وإذا ما سرنا على أن المنهج إنما هو فلسفة تنبثق عنها إجراءات (وهو تعريف المنهج عندي) تبين مدى العلاقة بين أصول الفقه وبين الفلسفة الإسلامية. فأصول الفقه يشتمل بدون شك على بيان الإجراءات اللازمة للتعامل مع النص لفهمه، والوصول إلى أوصاف الفعل البشري، وهي الأوصاف التي تدور في نطاق ما يسميه الأصوليون بالحكم، فالحكم عندهم “هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع”([3])، وله أقسام هي الوجوب والحرمة والندب والكراهة والإباحة، وهي أوصاف للفعل البشرى الذي يكون مبتدأ في جملة مفيدة والحكم خبر له، فتتكون بذلك مسائل الفقه. فموضوع علم الفقه (فعل الإنسان) وموضوع علم أصول الفقه هو (الأدلة الإجمالية من حيث استنباط الأحكام منها)، وبدون شك فإن هذه الإجراءات التي يشتمل عليها أصول الفقه تخرج وتنبثق من رؤية كلية تمثل مباحث الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام.

يقول الإمام الزركشي في كتابه الجامع (البحر المحيط في أصول الفقه) مؤكداً عنصر الإجرائية في أصول الفقه، والذي ذهب بعضهم إلى ادعاء أن ذلك العلم من العلوم البينية التي لا تستقل بنفسها ويرد عليهم:

“فإن قيل: هل أصول الفقه إلا نبذ جمعت من علوم متفرقة؟ نبذة من النحو كالكلام على معاني الحروف التي يحتاج الفقيه إليها، والكلام في الاستثناء، وعود الضمير للبعض، وعطف الخاص على العام ونحوه، ونبذة من علم الكلام، كالكلام في الحسن والقبح، وكون الحكم قديماً، والكلام على إثبات النسخ وعلى الأفعال ونحوه، ونبذة من اللغة كالكلام في موضوع الأمر والنهي، وصيغ العموم والمجمل والمبين والمطلق والمقيد، ونبذة من علم الحديث كالكلام في الأخبار. فالعارف بهذه العلوم لا يحتاج إلى أصول الفقه في شيء من ذلك، وغير العارف بها لا يغنيه أصول الفقه في الإحاطة بها، فلم يبق من أصول الفقه إلا الكلام في الإجماع والقياس والتعارض والاجتهاد، وبعض الكلام في الإجماع من أصول الدين أيضاً، وبعض الكلام في القياس والتعارض مما يستقل به الفقيه، ففائدة أصول الفقه بالذات حينئذ قليلة. فالجواب: منع ذلك، فإن الأصوليين دققوا النظر في أشياء من كلام العرب لم يصل إليها النحاة ولا اللغويون، فإن كلام العرب يتسع والنظر فيه يتشعب، فكتب اللغة تضبط الألفاظ ومعانيها الظاهرة دون المعاني الدقيقة التي تحتاج إلى نظر الأصولي باستقراء زائد على استقراء اللغوي. مثاله: دلالة صيغة “افعل” على الوجوب، و”لا تفعل” على التحريم، وكون كل وأخواتها للعموم ونحوه مما نص هذا السؤال على كونه من اللغة، لو فتشت لم تجد فيها شيئاً مـن ذلـك غالباً، وكذلك في كتب النحاة في الاستثناء من أن الإخراج قبل الحكم أو بعده، وغير ذلك من الدقائق التي تعرض لها الأصوليون وأخذوها من كلام العرب باستقرار خاص، وأدلة خاصة لا تقتضيها صناعة النحو وسيمر بـك منـه في هذا الكتاب العجب العجاب”([4]).

ويؤكد ذلك المعنى قبله السبكي في كتابه (الإبهاج في شرح المنهاج) حيث يقول: “… هذه التعريفات للأصل بحسب اللغة وإن كان أهل اللغة لــم يذكروها في كتبهم، وهو مما ينبهنا على أن الأصوليين يتعرضون لأشياء لـم يتعرض لها أهل اللغة”([5]).

فمن هذه النصوص نبين وجود الأدوات والإجراءات واتصالها وامتزاجها بالرؤية الكلية.

  1. موضوعات الفلسفة بين نقاط التلاقي:

وإذا ما سرنا أيضاً في تعريف الفلسفة من حيث موضوعها بأنها تشتمل على ثلاثة مباحث رئيسة هي الوجود (الله – الكون – الإنسان) والمعرفة (المنطق) والقيم (الأخلاق والجمال)([6]) فإننا سنرى بوضوح نقط التلاقي والعلاقة الموجودة بين أصول الفقه والفلسفة الإسلامية، حيث تعد تلك الفلسفة الخلفية الأساس لمجموعة الإجراءات المتمثلة في معرفة مصادر البحث وكيفية التعامل معها وشروط الباحث كما سبق، وهذا يتم على مستويات ثلاثة وهي:

أولاً– إدراك تلك العلاقة.

ثانياً- تشغيل تلك العلاقة والاستفادة منها.

ثالثاً- الأمل في تطوير تلك العلاقة لصالح المجالين.

أولاً- إدراك العلاقة:

إن إدراك العلاقة بين أصول الفقه والفلسفة يظهر في عدة موضوعات:

1- المسائل المشتركة:

تلك المسائل التي يطلق عليها “المسائل المشتركة” بين أصول الفقه وعلم الكلام([7])، فمجال علم الكلام يعالج القضايا الفلسفية بمعناها التقليدي، ففيه إجابة عن مباحث الوجود والعدم وعن مباحث المعرفة وعن مباحث القيم أيضاً، فهو يتكلم عن ماهية الوجود وطبائع الأشياء،

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر