أبحاث

الزكاة، كيف ننصف في إنفاقها وفي توزيعها بين الفقراء

العدد 37

 

  1. مقدمة البحث وأهدافه

لقد تناول علماء الشريعة وعلماء الاقتصاد المسلمون موضوع الزكاة بالبحث المستفيض باعتباره محوراً ومرتكزاً للمالية العامة في الإسلام. ومع ذلك، ما زالت هناك بعض القضايا الخلافية نذكر منها:

  • الزكاة على الآلات والسلع الرأسمالية.
  • تسوية معدلات الزكاة إبان أوضاع التضخم المالي.
  • إعادة تحديد النصاب، أو الحد الأدنى للإعفاء من الزكاة ليساير التغيرات التي تطرأ على تكاليف المعيشة.
  • طرق إنفاق أموال الزكاة على مستحقيها.

ودون أن نتعرض للتفصيلات، سوف نسرد في نهاية البحث بعض الملاحظات العابرة على القضايا الثلاث الأولى. أما القضية الرابعة فهي صلب اهتمامنا في هذا البحث الموجز، حيث سنقوم بفحص قضية عدالة توزيع الزكاة بين الفقراء، آملين أن نضيف جديداً إلى ما سبق أن كُتب حول الموضوع.

يبدو أن هناك خلافاً في الرأي لدى علماء الشريعة حول الطريقة التي ينبغي أن توزع بها أموال الزكاة على فئات المستحقين الذي نص عليهم القرآن الكريم. ففي حين أن البعض يؤيد دفع إعانات نقدية مباشرة للفقراء والمساكين، يجد أن البعض الآخر يرى توفير الخدمات المطلوبة لهم من خلال مؤسسات تدعمها صناديق الزكاة. وبطبيعة الحال يمكننا التوفيق بين الرأيين إذا استطعنا تصنيف المنتفعين الرئيسيين من الزكاة – الفقراء – صنفين:

  • الفقراء العاجزون عن الكسب، وهؤلاء يحتاجون إلى إعانات نقدية مباشرة.
  • الفقراء العاملون الذين يعيشون تحت مستوى الفقر، وهؤلاء يمكن توفير الخدمات المطلوبة لهم بغية رفع انتاجيتهم.

وقد يستغرق رفع انتاجية الفقراء المعدمين وقتاً طويلاً، خاصة أولئك الذين يقبعون في القاع ويشغلون من 10 – 15% من مجموع الفقراء. فهؤلاء أيضاً يمكن أن تكون الإعانات النقدية المباشرة عاملاً مساعداً على الوصول بهم إلى الحد الأدنى لمستوى المعيشة.

ولكننا إذا شرعنا في التخطيط مستهدفين المحافظة على دخل كاف من حصيلة الزكاة، وحريصين على إعادة توزيع هذا الدخل بعدالة وإنصاف، نجد أن الأمر مرتبط بعامل آخر هو تأثير حوافز العمل على الفقراء بصفة خاصة وعلى الأغنياء بصفة عامة. إن مشكلة عدالة التوزيع بين الفقراء عموماً قد تزداد خطورة من جراء سياسات توزيع الزكاة عليهم. ذلك أنه من الممكن أن نتصور وضعاً يتحصل فيه الفقير العامل ذو الأجر المنخفض على كسب يقل عما يقبضه الفقير العاجز عن العمل من إعانات مالية يمنحه إياها صندوق الزكاة.

إن عملية تحويل الدخل من القمة إلى القاع ليست عملية انسيابية مبسطة، فارتفاع مستوى الدخل الصافي في الطرف الأفقر تحكمه الطريقة التي يتصرف بها ذوو الدخول المرتفعة إزاء الأعباء الضريبية الإضافية التي تفرض عليهم.

((إذا دفعتهم المعدلات الحدية المرتفعة للضرائب إلى أن يعملوا أقل من ذي قبل فإن قيمة ما نحصل عليه منهم لتحويله إلى غيرهم سوف تنخفض. إن رفع معدل الضريبة فوق مستوى معين سوف يهبط بالحصيلة وبالتالي تنخفض قيمة الدخل المتاح تحويله إلى الطرف الأفقر. وهكذا وضعت حدود للمدى الذي تتخذه عملية إعادة التوزيع، ورغم أن هذا النوع من البحوث يبدو مفيداً وشيقاً، إلا أننا لكي نحقق من ورائه نتائج ملموسة علينا أن نضع أيدينا على كمية وافرة من المعلومات حول كيفية رد فعل مكتسبي الدخول – على درجات مختلفة من السلم – إزاء تغير معدل الأجر الصافي، ناهيك عن تأثير المدخرات والاستثمارات أيضاً إذا أخذنا فترة طويلة من الزمن في الحسبان)) (موسجريف : 1973، ص 47 – 472)

والزكاة تتميز بحافزها الإسلامي، ومن هنا لا نرجح أن تؤثر تأثيراً عكسياً على دوافع العمل لدى الأغنياء، فهي ليست ضريبة دنيوية بالمفهوم الغربي للمصطلح. إنما هي عبادة والتزام أخلاقي يزكي النفس وينقي الروح لدى الأغنياء. غير أن إنفاق حصيلة الزكاة ما لم يتم بإدارة منضبطة فمن الممكن أن يؤدي إلى توزيع غير فعال وغير كفء للدخل. وإذا كنا لا نستطيع أن نغير بأي حال من الأحوال المصارف الثمانية للزكاة التي نص عليها القرآن الكريم، فإننا نستطيع أن بجتهد في وسائل دفع حصيلتها إلى مستحقيها. ولدينا طريقان رئيسيان لذلك: أحدهما رفع إنتاجية الفقراء والآخر دفع إعانة مباشرة لهم.

 

  1. توجيه حصيلة الزكاة لرفع الإنتاجية

في عمل سابق لي أيدت استثمار حصيلة الزكاة استثماراً منتجاً في تمويل مشروعات تنموية متنوعة في التعليم والرعاية الصحية وتوفير مياه الشرب وخدمات الإنعاش الاجتماعي الأخرى، على أن يصب ذلك كله بصورة مطلقة في اتجاه مصالح الفقراء.

وعندما ترتفع إنتاجية الفقير فمن المتوقع أن يرتفع دخله، كما أن هناك فائدة غير مباشرة من المرجح أن تنتشر لتعم الاقتصاد كله، بحيث يكون تأثيرها على زيادة الاستثمار تأثيراً مضاعفاً. فالمضاعف (م) يساوي مقلوب الميل الحدي للادخار (م ح د)

أو م = م ح د أو م = 1 ÷ م ح

أو م = 1 ÷ (1 – م ح أ)

(حيث م ح أ الميل الحدي للاستهلاك).

لذلك فمن المتوقع – اقتصادياً – أن جزءاً (م ح أ) من الزيادة التي ستطرأ على دخل الفقراء كنتيجة لاستثمار الزكاة سوف يعاد إنفاقه بحيث يصبح بدوره دخلاً للآخرين، وهكذا. ذلك إذا تيقنا من قيمة م ح أ ومن قيمة الزيادة في استثمار حصيلة الزكاة، حينئذ نستطيع أن نستنتج القيمة التي سوف يزداد بها الدخل. وعلينا أن نفترض أن م ح أ أقل من الواحد الصحيح، لذلك فإن 1 ÷ (1 – م ح أ) يجب ان تكون أكبر من الواحد الصحيح. فمثلاً إذا كانت م ح أ = 0,8 فإن 1 ÷ (1 – م ح أ) = 5 وعلى ذلك فإن الزيادة في دخل الفقراء سوف تؤدي إلى مضاعفة زيادة الاستثمار.

ومن المعقول بداهة أن نتوقع أن يكون للزيادة في الدخل من جراء استثمار حصيلة الزكاة مضاعف أكبر  حجماً من أي زيادة أخرى في الدخل تنتج عن استثمار أموال أخرى غير الزكاة. إن هذا يرجع إلى حقيقة مؤداها أنه بالإضافة إلى التسرب في الادخار، فإن جزءاً من الدخل – خلال الدورات المتعاقبة للداخل والمنفق – سوف ينضب نتيجة تسربات أخرى مثل الضرائب، والاستيراد، وغيرها من التسربات التي غالباً ما تحدث في دخول الأغنياء. وعندما نأخذ في الحسبان كل هذه التسربات فإن أثرها سيقلل من حجم المضاعف. ولما كان دخل الفقراء لا يتوقع أن يخضع للضريبة أو أنه يخضع لها سلبياً، وأن ميلهم الحدي للاستهلاك (م ح أ) يكون غالباً أكبر من الأغنياء، فإن حجم المضاعف سوف يكون أكبر – في حالة زيادة دخل الفقراء. ولذلك فمن الضروري بناء نظام ضرائبي بطريقة تقلل الميل الحدي للاستهلاك (م ح أ) لدى الأغنياء وتخفض حجم المضاعف الإجمالي، وبالتالي يقل التأثير المضطرب لأي تغير في الإنفاق الاستثماري أو الاستهلاكي.

حتى الآن نحن نفترض ضمنياً أن استثمار حصيلة الزكاة سوف يرفع إنتاجية الفقراء تلقائياً، وبالتالي سوف ترتفع دخولهم. ولكن الإنتاجية المتزايدة للفقراء لا تعتبر بالضرورة كافية للتخلص من الفقر المدقع تخلصاً قائماً على أساس دائم ومتين. ففي حالات كثيرة قد تؤدي الإنتاجية المتزايدة لمزارع فقير مثلاً لا إلى ارتفاع الدخل ولكن إلى استفادة مستهلكي الأطعمة في المدن من خلال إنخفاض أسعار هذه الأطعمة. إن المهم لدينا هو أن الفقير يجب أن يحصل على زيادة في حاجاته الأساسية من السلع والخدمات العامة من خلال مقاييس تصحيحية ضرورية في السوق أو من خلال ترتيبات تقوم بها مؤسسات خارج السوق.

إن التأكيد على إنفاق حصيلة الزكاة وكل أنواع الصدقات التطوعية الأخرى يجب أن يتجه إلى اعتماد وسائل عملية لزيادة إنتاجية الفقراء خاصة المزارعين الصغار ورجال الأعمال والمنتجين والعمال الذين لا يملكون أرضاً وعمال القطاع الأهلي أكثر من التأكيد على تنفيذ برامج إنعاش مؤقتة بواسطة دفع إعانات مباشرة. فالاهتمام الإسلامي بإعادة توزيع الموارد يتطلب جذب الفقراء إلى المجرى الرئيسي لتيار الحياة الاقتصادية وبالتالي منحهم معنى جديداً للكرامة الإنسانية، حيث أن الاستجداء أمر مرذول في نظر الإسلام.

فإذا انتقلنا إلى البرامج التنفيذية نجد أن الأمر يتطلب تحديد الفئة الأكبر من قطاع الفقراء في المجتمع. ذلك أن خطة استثمار حصيلة الزكاة يجب أن تبدأ من قاعدة الاحتياجات الأساسية للقطاع الأكثر فقراً كالتغذية والمأوى والملبس والخدمات الاجتماعية والصحية، وأن ترسم أهدافاً تفصيلية وتضع سياسات لتحقيقها. ومن هنا يصبح من الممكن إدماج سياسات التوزيع في نموذج يؤدي إلى رفع الإنتاج. ومعظم الفقراء في أمس الحاجة إلى المزيد من هذه الخدمات العامة كالتعليم ومياه الشرب والرعاية الصحية لكسر الحلقة اللعينة للإنتاجية الهابطة. كما أن الحاجة إلى صندوق الزكاة لتوفير هذه الخدمات يفرضها عامل آخر هو أن مثل هذه الخدمات لا تباع في الأسواق، وإن وجدت فبتكلفة تخرج كثيراً عن نطاق مقدرة الفقراء.

إننا في حاجة إلى خطة إستثمارية لصناديق الزكاة تتصف بالحرص والحذر، فالخطة القائمة على تصور خاطيء قد تنتج لنا عكس ما نرجوه منها، فقد لا تصل إعانات الزكاة إلى الفقراء والمساكين. وكما بينا سابقاً فإن استثمار حصيلة الزكاة يجب النظر إليه كجزء من خطة متكاملة لا تستبعد دور الإعانات المباشرة للعاجزين عن العمل بوجه خاص وللذين يشغلون حيز الـ 10 – 15% من قاع القطاع الفقير بوجه عام.

بالإضافة إلى ذلك فإن الإعانات المباشرة تعتبر أفضل وسيلة لإنفاق حصيلة الزكاة في حالات معينة كالديون والجوع والشيخوخة والدعم خلال الفترة الفاصلة بين بدء الاستثمار وبين التدفق المستمر للدخل. وحتى ((الإفلاس في الأعمال والصناعة قد يتطلب من صندوق الزكاة إعانة من تأثروا به)) (فريدي: 19880، ص 129)

  1. إنفاق حصيلة الزكاة في الإعانات المالية: تطبيقاته

يصر كثير من العلماء على إنفاق حصيلة الزكاة على مستحقيها في صورة إعانات مالية، ولكننا لا نكاد نعي الحقيقة التي تقرر أن دفع الإعانات المالية المباشرة، ما لم يكن مخططاً ومنفذاً بدقة وانضباط فقد يفتقر إلى الإنصاف، وقد يؤدي إلى سوء توزيع الدخل بين الفقراء. وقد يفرض معدلاً حدياً مرتفعاً للضريبة على أصحاب الدخول المنخفضة ويقلل دوافع العمل لديهم.

لقد صور لنا موسجريف (1972، ص 661) هذه القضية بواسطة عدد من النماذج البديلة للإعلانات النقدية مع بيان المعدل الحدي لضريبة الكسب الذي يتضمنه كل نموذج.

 

 

في الجزء العلوي من كل لوحة، نرى الكسب مبيناً على المحور الأفقي بينما نجد الدخل الصافي (بعد دفع الضريبة وقبض الإعانة) مبيناً على المحور الرأسي. إن المستقيم و ج الذي يتجه بزاوية 45̊̊ يمثل الدخل في غياب الضريبة والإعانة معاً. إن الخطة رقم 1 تمثل وضعاً تعطى فيه الإعانة من الزكاة بمقدار و م إذا وصل الكسب إلى و ب التي تساوي و م. وتفقد الإعانة بمجرد أن يتعدى الكسب و ب.

وكما هو مبين في الرسم العلوي في الخطة 1 نرى أن الإعانة عند مستويات دخل مختلفة يمثلها الخط الأسود م أ ب بينما الدخل الكلي المقبوض (أو الكسب مضافاً إليه الإعانة) يمثله الخط المنقوط م د أ ج.

أما الرسم السفلي فهو يعني أن معدل الضريبة الحدي حتى الكسب و ب يساوي صفراً. ولكن عند إضافة دولار واحد بعد و ب فإن المعدل المرتفع (= 100 × و م %) يهوي مرة أخرى إلى الصفر.

فالشخص الذي يكتسب ما مقداره و ب عليه أن يرفع كسبه بمقدار ب ف لمجرد الاحتفاظ بوضعه متعادلاً. وإذا كان هذا النظام يبدو سخيفاً منافياً للعقل، إلا أنه في الحقيقة ينطبق على الأوضاع التي يفقد فيها ذوو الدخول المحدودة حقهم في الخدمات بمجرد أن تتجاوز دخولهم حداً معيناً مثل حقهم في الاستمتاع بالإسكان الشعبي أو بالتعليم المجاني أو بالرعاية الصحية ذات التكلفة المحدودة.

الخطة رقم 2 التي تمثلها اللوحة المعروضة ص 102 تعتبر أكثر معقولية. وهي تعرض وضعاً تكون الإعانة فيه مساوية للفرق بين الكسب وبين المستوى الأدنى للدخل. فإذا كان هذا المستوى عند و مˉ فإن الإعانة من الزكاة عند مستويات كسب مختلفة تتبع الخط مˉ بˉ، بينما الدخل الإجمالي (الكسب مضافاً إليه الإعانة) يتبع مˉ أˉ ج.

وكما هو موضح في الرسم السفلي، فإن المعدل الحدي للضريبة هنا يساوي 100% حتى مستوى الكسب و بˉ ثم يصبح بعد ذلك صفراً. وعند هذا الحد لا يكون لدى مستلمي إعانة الزكاة دافع للعمل إلى أن يتمكنوا من الوصول بكسبهم إلى ما بعد و بˉ.

الخطة رقم 3 التي تمثلها اللوحة المعروضة ص 103 مصممة لتقليل هذه العوائق. فهنا تقل الإعانة كلما ارتفع الكسب ولكن بسرعة أقل فبينما نجد في المعادلة رقم 2 لا تعطي إعانة للأشخاص الذين يتساوى كسبهم مع و بˉ (والتي تعادل بدورها الحد الأدنى و مˉ)، فإن الخدمات في الخطة 3 يمكن الاستمتاع بها حتى مستوى الكسب و بˉ. وخط الإعانة يساوي مˉ بˉ وخط الدخل الإجمالي يتبع مˉ أˉ ج. والمعدل الحدي للضريبة كما هو مبين في الجزء لسفلي من الشكل أقل الآن من 100%، طالما الإعانة خفضت فقط بالجزء الذي كسبه المستفيد. وكما هو مبين يساوي 50% عند مستوى الكسب و بˉ حيث و بˉ يساوي ضعف المستوى الأدنى للدخل و مˉ.

إلى هذا الحد نرى أنه بنفس الإنفاق الكلي من صندوق الزكاة يمكن أن تصمم برامج التوزيع البديلة والمتضمنة معدلات حدية مختلفة للضريبة على الكسب. وفي الحالة القصوى قد يفقد المستفيد دولاراً عن كل دولار يكسبه وهذا يعني ضريبة 100% على الكسب مما يترك آثاراً عكسية على دوافع العمل.

إن الإجراءات المتبعة في الخطة رقم 3 قريبة من الحل الإسلامي حيث إن الإعانة من صندوق الزكاة تفيد الدخول المنخفضة وبذلك تقوم بدورها في إعادة توزيع الدخول.

لذلك قد تبدو الخطة 3 مشابهة لضريبة الدخل السلبية في مضمونها الهام. فرغم أن جمع الزكاة يقوم على مبدأ الضريبة النسبية، إلا أن إنفاق حصيلة الزكاة بموجب الإجراءات المتبعة في الخطة رقم 3 يمكن أن ينظر إليه كامتداد منطقي لمبدأ التصاعدية الذي اصبح مقبولاً بصفة عامة كعنصر إيجابي في الضريبة. وبناء على ذلك فإن طرقاً مختلفة يمكن أخذها في الاعتبار لتجميع الزكاة في هيكل ضريبي إيجابي واحد لتأمين توزيع عادل للدخل لا يقتصر فيه على الإنصاف بين الفقراء والأغنياء ولكن يمتد لكي يشمل التوزيع بين الفقراء أنفسهم. وسوف تواجه هذه الخطط بعض المشكلات مثل حد السماح لحجم الأسرة وتحديد المستوى الأدنى بمضمون اقتصادي واجتماعي خاص وتحديد الأثر الخفي للضريبة الإضافية على الكسب تحت المستوى الأدنى للدخل.

  1. بعض الملاحظات: وعاء الزكاة ومعدلاتها ونصابها:

لعله من المناسب الآن أن نسرد بعض الملاحظات على القضايا الثلاث التي أفتتحنا بها هذا البحث وهي:

  • الزكاة على الآلات والسلع الرأسمالية.
  • معدلات الزكاة.
  • إعادة تحديد النصاب.

أما عن الزكاة على الآلات والسلع الرأسمالية، فهناك آراء متباينة لدى العلماء. فبعضهم ينظر إليها كعناصر معفاة من الزكاة، والبعض الآخر يرى دفع 10% زكاة على الدخل الصافي (الأرباح) للمنشآت المقام فيها هذه الآلات والسلع الرأسمالية، وقد ألقى صدّيقي (1980 : ص 22) ضوءاً على هذا الجدال في بحثه حيث قال: هناك قضايا ما زالت مثار خلاف. منها الزكاة على الآلات والسلع الرأسمالية. فقد اعتبر المودودي إنتاج المنشآت الصناعية القابل للتسويق هو وحده الخاضع للزكاة السنوية بمعدل 2,5% شأنه شأن السلع الأخرى مستثنياً بذلك السلع الرأسمالية والآلات المقامة في هذه المنشآت. أما أكرم فيرى أن هذا الرأي يتضارب مع رأي المودودي في الزكاة على أسهم الشركات الصناعية. أما أبو زهرة فيؤيد دفع 10% زكاة على الدخل الصافي (الأرباح) الناتج عن هذه المنشآت. والقرضاوي يؤيد هذا الرأي شريطة إجراء تعديلين، الأول أنه يصنف المباني المؤجرة وسيارات الأجرة ومنشآت أخرى مثل مزارع الدواجن ومعامل الألبان مع الوحدات الصناعية. والثاني أنه في كل هذه الحالات يؤيد فرض 10% على الأرباح بعد خصم نسبة الإهلاك السنوي منها. وكذلك يركز عبدالمنان على الحاجة إلى احتساب سماح للإهلاك السنوي ويضيف: ((إن موضوع معدل الزكاة مرتبط بالإنتاجية التي تختلف من صناعة لأخرى)) ويبرر مرونة المعدل بقوله ((حتى يمكن إدخال عنصر التعاقب في تحديد معدل الزكاة))

ونرى أن السلع الرأسمالية والآلات ما هي إلا ((وسائل الإنتاج المنتَجَة)) لذلك فإن الدخل الصافي ((الربح)) من المنتج القابل للتسويق هو وحده الذي يجب أن يخضع للزكاة. وعلينا ألا نحسبها على قيمة السلع الرأسمالية والآلات نفسها لأن مصدر الدخل سوف يتأثر تأثراً سلبياً. وطالما أن وعاء الزكاة في هذه القضية يستدعي النظر والاجتهاد، فليس من المرغوب فيه أن نفرض 10% على الربح الصافي دون النظر إلى المرغوبية الاجتماعية للصناعة المعنية. لأن فرض مثل هذا العبء يتضمن ثقلاً معادلاً على المشروعات الصناعية المنتجة للسلع الجماهيرية. وفي مثل هذه الحالات نرى أن المطلوب هو الربط بين معدل الزكاة وبين كل من الإنتاجية والمرغوبية الاجتماعية والتي نتوقع أن تختلف من صناعة لأخرى. ومن هنا نضيف معيار المرغوبية الاجتماعية إلى معيار الإنتاجية الذي أيدناه من قبل كما أسلفنا.

الـمــعـدلات

أما بخصوص معدل الزكاة المرن، فهناك أيضاً تباين في الآراء، فبينما نجد أن كثيراً من علماء الشريعة ينظرون إلى معدلات الزكاة على اعتبار أنها ((دائمة ومحددة بحكم الشرع، إلا أن عدداً من الكتاب المعاصرين – ومعظمهم من الاقتصاديين – ينادي بجعل هذه المعدلات قابلة للتغيير بواسطة الدولة)) (صديقي: 1980، ص 23)

أما الذين يؤيدون مرونة معدل الزكاة من الكتّاب المعاصرين فهم: أحمد : 1912، ص 5 وإزادي : 1974، ص 9 – 18 ومحمود أحمد : 1972 وغيرهم.

وعلى أية حال ما زلت محتفظاً بموقفي الأساسي (1970 : ص 293) حيث ذكرت في البحث الذي أيدت فيه المحافظة على معدل ثابت للزكاة كما هو مقرر في الشريعة أنه يجب التعبير عنه بقيم حقيقية تتضمن تسويات دورية تعكس التغيرات التي تطرأ على تكاليف المعيشة. وفضلاً عن ذلك نرى أن الدفاع عن المعدلات الثابتة لا يجد صدى حقيقياً عندما نقول بأن الدولة لها صلاحية فرض ضرائب إضافية فوق الزكاة، ذلك لأن العبء الإضافي يعتبر ضريبة وليس بزكاة، بحيث أن الفقراء قد يكونون هم المستفيدين الرئيسيين منه وقد لا يكونون كذلك فالشريعة تبيح استعمال العبء الإضافي لمقابلة الاحتياجات الحقيقية للإنعاش الاجتماعي وللتنمية الاجتماعية. بينما مصارف الزكاة غير قابلة للتغيير بنص القرآن الكريم.

ولدينا دليل لدعم فكرة المرونة في كافة وجوه إدارة أموال الزكاة نستقيه من العصور الإسلامية الأولى. فعلى سبيل المثال، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعدة سنوات ((عدّل الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه نسبة الزكاة مرة وإن كان قد قرر أن يعيدها إلى ما كانت عليه بعد ذلك)) (زمان : 1980، ص 78). كما أن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى الخيل من الزكاة، حيث كانت الخيول المقصودة هي تلك الخيول المستعملة في الركوب فلم تكن الخيول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تقتنى للإنتاج الحيواني، ولذلك فقد فرض عمر بن الخطاب رضي الله عنه الزكاة على الخيول بعد أن استشار عدداً من الصحابة بينهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وينطبق هذا أيضاً على أنواع أخرى من الحيوان تربّى للتجارة أو للإنجاب)) (شاليك : 1980، ص 23). وإلى جانب ذلك نرى في العصر الحديث أن وعاء الزكاة قد امتد إلى كافة الصور الحديثة للثروات (مثل الأسهم، والسندات المالية، والمساكن المؤجرة، وصناديق الادخار …..الخ) والتي لم تكن معروفة في صدر الإسلام.

وحتى في إنفاق حصيلة الزكاة نجد بعض المرونة ((فمبالغ كبيرة من المال كانت تنفق تحت سهم المؤلفة قلوبهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن بعد أن اكتسب الإسلام قوة ومنعة، رأى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره من الصحابة وقف الإنفاق على هذا السهم، فسقط العمل به منذ ذلك الحين. إن مذهبي الأحناف والمالكية يريان إسقاط هذا السهم، غير أن هناك فقهاء آخرون يعتقدون أن حصيلة الزكاة يمكن توجيهها إليه عندما تبرز الحاجة إلى ذلك. فليس هناك سبب يدعونا أن نفهم الإجراء الذي اتخذه اثنان من الخلفاء على أنه اسقاط أبدي لأحد المصارف التي نص عليها القرآن الكريم لصالح الدعوة الإسلامية.)) (شاليك : 1980، ص 11)

وعلينا أن نفهم بوضوح أنه إذا كانت المرونة في معدل الزكاة مقبولة فهي مشروطة بشرط هام، هو أن توجه كلية لصالح الفقراء. هذا الشرط المطلق صالح للمستقبل أيضاً. فمن مقاصد الشريعة الرئيسية حماية مصالح الفقراء وذلك بحماية معدل الزكاة، فمصلحة الفقير هي لب الموضوع، وتلك هي الفلسفة الاقتصادية للزكاة والتي تتفق مع روح الشريعة الغراء. ونحن نفترض في المجتمع الذي يحيا بالإسلام حقيقة، عدم وجود تلاعب في معدلات الزكاة بغية تقليل عبئها على ثروات الأغنياء. فإن حدث ذلك، فإن قداسة المعدلات وكل أهداف الزكاة تصبح بلا معنى لهذا المجتمع على أية حال. بل إن ذلك يدلنا على أن الأساس الإسلامي لهذا المجتمع واه ضعيف. وما يعتبر أكثر أهمية حينئذ هو جذب الناس نحو قيم إسلامية حقيقية عبر برامج تربوية نظامية واستثمارات مخصصة لتنمية الموارد البشرية.

النِّصـاب

هناك قضية تتعلق بموضوع تحديد النصاب أو حد الإعفاء من الزكاة. فقد ذكر صدّيقي (1980 : ص 23) أن عدداً من الكتّاب المعاصرين يؤيدون إعادة تحديد النصاب. وهناك في الحقيقة داعٍ لإعادة تحديد النصاب ف كل دولة على حدة، ذلك أن الواقع الاجتماعي الاقتصادي للدول الإسلامية اليوم يختلف اختلافاً شديداً من دولة لأخرى. فالبعض دول نامية ومعدمة (مثل بنجلاديش، وتشاد، والسودان) والبعض الآخر يعتبر دولاً فاحشة الثراء (مثل السعودية، والكويت، وليبيا) والبعض الثالث يعتبر دولاً ذات مستوى دخل متوسط (مثل ماليزيا، وتركيا، والجزائر، والمغرب). لذلك كان من المهم ((قبل أن نقرر ما هو نصاب الزكاة المفروضة على الدخل الإجمالي وعلى المدخرات في مجتمع معين؛ أن يكون معلوماً لدينا مستوى الدخل المطلوب للاحتفاظ بمستوى معيشة معقول للمسلم في ذلك المجتمع. هذا الحد الأدنى – والكافي في نفس الوقت – للدخل يجب أن يعدل دورياً ليعكس التغيرات في تكاليف المعيشة)) (زمان : 1980، ص 78). وليست هذه المعلومات – على حد ما نعرفه عن الإحصاءات في الوقت الحاضر – عسيرة المنال، إذا دعمتها الإرادة السياسية في تلك الدول.

ملاحظات ختامية

وفي الختام يمكن القول بأن منح إعانات مالية من حصيلة الزكاة يكون أكثر فعالية في مساعدة الفقراء العاجزين عن العمل وكذلك في مساعدة العائلات الفقيرة من ذوي الأجور المنخفضة لسد العجز في دخولها في الوقت المناسب طالما ثبت استحقاقها عملياً لذلك. وأن تكون المساعدات بأقصى ما يسمح به صندوق الزكاة لتحقيق ذلك الحد الأدنى. ولكن هذا المفهوم يفرض ضمنياً معدل ضريبة حدي مرتفع على الدخول المنخفضة مما يقلل دوافع العمل. ولتجنب هذا الأثر فإن حصيلة الزكاة يجب ألا يقتصر إنفاقها على الإعانات النقدية ولا على رفع إنتاجية الفقراء فحسب ولكن يجب أن يمتد أيضاً إلى أعلى سلم الدخل، وتعمل ترتيبات من خلال المؤسسات لتطبيق السياسة التي توجه مبلغ الزكاة بصورتيه النقدية والخدمية بحيث تنفق الحصيلة حيث تكون الحاجة إليها أشد، وهذا هو ما ترمي إليه الشريعة الغراء.

كما تضمّن التحليل السابق أيضاً فكرة أن الإنفاق العشوائي للزكاة قد يؤدي إلى تفاوت وعدم كفاءة توزيع فيما بين الفقراء العاملين وكذلك بين الفقراء العاملين من جهة والعاجزين عن العمل من جهة أخرى، مما ينتج عنه ما يعرف بسوء توزيع الموارد. وهو أمر مرفوض إسلامياً. لذلك فإن الدول الإسلامية مدعوة لأن تعتبر إدارة أموال الزكاة قوة دافعة للسياسة المالية للدولة تستحق منها كل عناية ووعي في التخطيط.

وأما عن القضايا الأخرى فقد ذكرنا أن الزكاة يمكن فرضها على الأرباح الصافية للسلع الرأسمالية والآلات وذلك مع اعتبار الإنتاجية والمرغوبية الاجتماعية للمنشآت الصناعية المعنية. كما أن مرونة معدلات الزكاة يجب شرطها بالمصلحة الكلية للفقراء. وأما النصاب أو حد الإعفاء من الزكاة فهو يحتاج إلى إعادة النظر وإعادة التحديد المستمر مع الأخذ في الاعتبار اختلاف وتباين الواقع الاجتماعي الاقتصادي للدول الإسلامية.

 

References

  • Ahmand, Afazuddin, (1952), Economic Significance of Zakat, Islamic Literature, Lahore, 4 (8) August.
  • Ahmad, S. M. (1972) Economic of Islam, Comparative study, Lahore, Sk, Mohd. Ashraf.
  • Faridi, F. R. (1976), ((Zakat and fiscal policy)), a paper presented at the first international Conference on Islamic Economics held at Makkah under the a uspices of the king Abdulaziz University, Jeddah, also printed in Studies in Islamic Economics, edited by k. Ahmad (1980).
  • Izad, M. A. (1974), ((The Role of az – Zakat (An Instituionalised Charity) in the Islamic system of economics in curing the poverty dilemma)) in Association of Muslim Social Scientists proceedings, Third National Seminar, Gary, Indiana, May, p – 9 – 18.
  • Mannan, M. A. and et all, (1973) public Economics: Theory and practice, Sk. Mohd. Ashraf. Lahore, Pakistan, pp – 284 – 306.
  • Musgrave, R. A. and et all, (1973) Public Finance in Theory and Practice, Mcgraw Hill, International Student edition.
  • Shalik, A. A. (1980) ((Concept of zakat: A Servey of Quranic texts and their explanations in shari’a and Contemporary Economics)), in Some Aspects of the Economics of zakat, edited by M. R. zaman. American Trust publication, Indiana, U. S. A.
  • Siddiqi, M. N. (1980), Muslim Economic Thinking: A survey of contemporary literature, Islamic Foundation, U. K.
  • Zaman, M. R. (ed. 1980), Some Aspects of the Economics of Zakat, American Trust Publication, Indiana, U. S. A.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر