أبحاثملفات

فى الإضافات ” المسيرية ” النوعية للمشروع العربى الإسلامى

About the Messeirian Peculiar Accumulations to the Arabic- Islamic Project العدد 129

مدخل عام: أوجه التقصير في التعامل مع فكر المسيري:

يشاع في الأدبيات العربية والإسلامية أن المفكر الإنساني عبد الوهاب المسيري من المتخصصين في الشأن الصهيوني؛ أي الصهيونية ومتعلقاتها المختلفة. فلا يكاد يذكر اسم المسيري حتى ينصرف ذهن السامع مباشرة إلى اليهود واليهودية والصهيونية.. وإذا أردنا أن نوظف بعض المباحث اللغوية واللسانية لقلنا إن المسيري هو الدال، والصهيونية هي المدلول.. المسيري هو الحقيقة والصهيونية هي المجاز.

والمشكلة أن السامع لكلمة “المسيري” تضعه بشكل مباشر وسريع على أرض فلسطين التي تشهد صراعا وجوديا مريرا مع الكيان الصهيوني؛ بمعنى أننا تعاملنا مع “المسيري” وكأنه “شيء” بسيط نختزله في بعض الوقائع- على أهميتها- أو في بعض الاتجاهات- على خطورتها-، وهذا شأن اللغة الرياضية التي تغيب فيها المسافة بين الدال والمدلول، أو هي مسافة قصيرة، من السهل العبور فيها من الدال إلى المدلول أو من المدلول إلى الدال، على حد سواء.

وإذا كان المسيري ما فتئ يحذر القارئ من خطورة المناهج/ النماذج الاختزالية التي تختزل الإنسان في بعد أو بعض الأبعاد وذلك أثناء التعامل مع جملة من الظواهر والقضايا المركبة، أقول رغم هذا التحذير فإن “لعنة” الذهنية الاختزالية قد طاردت حتى المسيري، وليس فقط موضوعاته وقضاياه!

ولسنا هنا بصدد الاستهانة بموضوع مثل الصهيونية واليهودية.. فنحن نعتقد أن من بين أهم أسباب إخفاقنا في إدارة وتوجيه الصراع مع هذا الكيان المغتصِب هو فشلنا في بناء فهم سليم لهذا الكيان. وسنفصل الحديث عن هذه النقطة في مبحث خاص.

وقد تبدت هذه النظرة الاختزالية- في رأينا- في النسبة الكبيرة من الحوارات والمقابلات التي أجريت مع المسيري، والتي كان موضوعها الأساسي هو الصهيونية واليهودية واليهود..

نعم تلك النظرة راجعة إلى سبب موضوعي، وهو كون المسيري ألف موسوعة ضخمة لم يسبقه إليها أحد في عالمنا العربي والإسلامي، لا في الأولين ولا في الآخرين؛ فهو إنجاز معرفي علمي ضخم وثقيل. لكن الجهد الأكبر الذي يبذله رواد تلك النظرة متصل بالأساس بما جاء في الموسوعة من معلومات.. ولا ينصرف هذا الجهد إلى الإطار الذي ينتظم وتدور حوله تلكم المعلومات.

وإن عملا وجهدا من هذا القبيل يجعل الباحث أو القارئ يتيه في بحر المعلومات، دون أن يرى ما يربط هذه المعلومات بعضها ببعض..

والمسيري في الموسوعة درس الصهيونية كحالة، وطبق عليها منهجه الفكري والمعرفي.. وهذا المنهج “صالح” أيضا للتطبيق على موضوعات وظواهر أخرى..

يقول المسيري: “ولي تعليق على تصنيفي كمتخصص في الدراسات الصهيونية، فعملية التصنيف في العالم العربي لا تتم حسب المنهج والاتجاه الفكري، وإنما حسب الموضوع الذي تكتب فيه..” ثم يضيف المسيري موضحا: “أنا أزعم أن موسوعتي عن الصهيونية في المجلد الأول لا تتعامل مع اليهود، وإنما تتعامل مع المنهج والتحليل مع استخدام اليهودية كدراسة حالة، باعتبارها نموذجا لتفسير الظواهر التالية: الحلولية، العلمانية، الجماعات الوظيفية”. [حوار بعنوان: الإسلام يمتلك رؤية حداثية معاصرة تقدم حلولا لمشكلات العالم! مجلة العالِم، العدد: 10، ص: 53]

وإن كان لا بد من أن نحدد تخصصا معينا للمسيري، فنجد أن أقرب تخصص إليه هو دراسة النماذج المعرفية، ودراسة الفكر الغربي؛ والحضارة الغربية على وجه العموم؛ فهو في رأينا من النقاد البارزين (النقد بوجهه السلبي كما الإيجابي) للحضارة الغربية الحديثة والمعاصرة.

ومرة قلت لبعض الذين يدافعون عن فكرة أن المسيري ليس مرجعا أساسيا في نقد الحضارة الغربية، إنما هو مرجع في الصهيونية، قلت لهم كيف يعقل أن يكون المسيري الذي يعتبر الصهيونية ودولة “إسرائيل” امتدادا للحضارة الغربية أو بالتدقيق امتدادا للتشكيل الاستعماري الغربي، كيف يمكن لرجل هذا مذهبه في التفكير والمقاربة، أن يكون ملما بالصهيونية وإسرائيل دون أن يكون على درجة كبيرة من الفقه والفهم فيما يتعلق بالحضارة الغربية!

ونزعم أن العقل/ الخطاب الإسلامي والعربي المعاصر يعتريه مركب من التقصير بخصوص العلاقة الفكرية التي يربطها بفكر عبد الوهاب المسيري… وربما قد بدأ العقل الإسلامي المعاصر يعي هذه الأوجه من التقصير خاصة بعد سيادة الحداثة الغربية وهيمنتها على العالم. ونعتقد- أيضا وهذا هو المهم والأساس- أن كل تجاوز لتقصير معين سيمنح هذا الخطاب/ العقل/ المشروع إضافات نوعية. ولهذا المركب من التقصير تجليات عديدة سنقف عند بعضها فقط، من بين هذه التجليات نذكر ما يلي:

أولا: التقصير في تحويل الأعمال التي قام بها المسيري بخصوص الفكر الصهيوني وقضايا الصراع مع الكيان الصهيوني؛ خاصة في عمله الأكاديمي الضخم؛ عنيت موسوعة “اليهود واليهودية والصهيونية”؛ تحويل هذه الأعمال إلى استراتيجيات وسياسات وخطط عمل. وفي هذا الصدد، أستبق التحليل والنقاش، لأتساءل: كم من زعيم عربي وإسلامي قرأ بتأن موسوعة المسيري، ورتب نظرته لإسرائيل بناء على نظرة المسيري الأكاديمية؟!!

وغني عن البيان أن نشير إلى أن فهمًا جيدًا لهذا الفكر/ الكيان، وإدارة ناجحة لهذا الصراع يتطلب التسلح برؤية دقيقة وعميقة. والبحوث الأكاديمية، التي على ضوئها تتشكل الرؤى والتصورات، ليست إضافات زخرفية ومتحفية، بل إن المطلوب النظر في المقتضيات العملية المترتبة عن تلك الرؤى والتصورات.

إن الرهانات والخيارات تكون سليمة وسديدة، كلما كان فهمنا للواقع المركب والظواهر المركبة فهما سليما وسديدا. وإن كل قراءة تبسيطية أو اختزالية لمفردات ومعطيات الواقع والظواهر، قد تضع هذه الخيارات والرهانات في موضع يستحيل معه الوصول إلى تحقيق الأهداف الكبرى والصغرى المنشودة؛ مما يعني – حتمًا – عدم القدرة -بل العجز- على إحداث التغيير والتحول المأمول.

ومن يدري، ربما كان “الفشل” في إدارة الصراع مع هذا الكيان نابع من افتقاد الكثير من السياسيين في عالمنا العربي لتصور واضح عن هذا الكيان وفكره. نعم قد تكون للسياسي رؤيته الخاصة وتصوره الخاص، وقد يزعم أنه كما أن للمفكرين (كما هو شأن المسيري) تصورًا ورؤية معينة، فإن له هو أيضا- أي السياسي- رؤيته الخاصة وتصوره الخاص!

قد يبدو هذا الكلام صحيحًا، لكن ينبغي أن نلاحظ أن السياسي الذي تستغرقه الأحداث اليومية، تكون هذه الأحداث حائلا بينه وبين امتلاك رؤية توجه تحركه وممارسته العملية؛ إذ لا بد من وضع مسافة معقولة بين السياسي والحدث حتى تتضح الرؤية في شموليتها؛ فغالبًا ما يكون الهم اليومي للسياسي- الذي يدير أي معركة سياسية كيفما كانت طبيعتها- الإجابة والتفاعل مع الأسئلة الجديدة التي تفرضها المعركة. وبالتالي، وبهذا السلوك، يتيه في التفاصيل وينسى الرؤية ويغيب التصور.

لهذا السبب، ولأسباب أخرى، قد يكون رؤية المفكر أدق من رؤية السياسي؛ فالكثير من التفاصيل الجزئية لا يمكن أن تفهم على حقيقتها إلا إذا ما تمت إحالتها على ذلك الخيط الناظم الذي تنتظم حوله تلك التفاصيل والجزئيات. لكن مطلوب من المفكر أن يعدل رؤيته باستمرار بناء على مسار تلك التفاصيل.

إذن نعتقد أن هناك تقصيرًا من السياسي العربي والمسلم في تحويل رؤى المسيري إلى خطة عمل في مواجهة إسرائيل.

وهناك مجموعة من “القواعد النظرية” التي وضعها المسيري سواء لفهم “إسرائيل” (الفهم النظري المعرفي) أو من أجل بناء تصور لكيفية خوض المواجهة مع هذا الكيان (التصور العملي الكلي). فالمسيري، في هذا الشق الثاني، وضع خطوطًا عملية عريضة للمواجهة (أو الحوار الشامل، وضمّنه الحوار المسلح..كما هو مصطلح المسيري).

لكن الناظر في الكيفية التي يشتغل بها العقل السياسي العربي والمسلم لمواجهة إسرائيل، سيكتشف دون عناء جهد أن تلك “القواعد النظرية” ليست لها مصاديق على أرض الواقع.

وبما أننا لسنا هنا في معرض تفصيل مثل هذه القضايا، سنورد بشكل سريع ثلاثة قواعد نظرية؛ نعتقد أنها بمثابة قواعد هادية للانخراط في حوار (بمفهومه الشامل) ناجح مع إسرائيل، ويعيد الحقوق لأصحابها، وينتصر للقيمة التي هي قطب الرحى في فكر المسيري؛ أقصد “قيمة العدل”.

القاعدة الأولى: “إسرائيل هي امتداد للتشكيل الاستعماري الغربي”. بمعنى أن فهم هذا الكيان وثوابته الفلسفية ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار ثوابت ومطلقات الحضارة الغربية الحديثة والمعاصرة.

القاعدة الثانية: “إسرائيل ليست دولة دينية”. فكلما كان تشخيصنا دقيقا لطبيعة إسرائيل، من حيث هويتها الثقافية والفكرية، كان بناءنا لخيارات وعناصر المواجهة يتسم بقدر كبير من الاتساق والمتانة.

القاعدة الثالثة: “انهيار إسرائيل لن يكون من الداخل إنما من الخارج”.

لكن الذي نلاحظه في صفوف الكثير من قطاعاتنا العربية والإسلامية هو سيادة فكرة “الدولة الإسرائيلية الدينية”. دون أن تستند تلك الفكرة وهذا التوجه إلى دراسات تتسم بقدر كبير من المصداقية والمشروعية النظرية.

والسبب، في نظري، الذي يمكن أن يفسر هذا النوع من التفكير هو التعامل مع إسرائيل على أساس أننا نعرفها. ونعرفها لأن الله تعالى قد قص علينا أحوال اليهود، وبأن الصراع معهم هو صراع أزلي تصدقه النصوص وتدعمه الوقائع!! وبالتالي نجد الخطاب الإسلامي، على وجه الخصوص، يشكو فقرا مهولا في الجانب المتعلق ببناء فهم سليم بخصوص إسرائيل؛ لأن المسألة بالنسبة لهذا الخطاب- أو بالنسبة لجزء منه على الأقل، حتى لا نسقط في آفة التعميم- قد حسمها النص المقدس، ولا داعي للاجتهاد بخصوصها.

لكن المسيري كما فعل في موسوعته رجح “منهج الفهم” على “منهج التغيير”. فلم ينظر إلى واقع الصراع مع الكيان الصهيوني من أجل تغييره (وإن كان التغيير هو الهدف البعيد) إنما من أجل فهمه أولا؛ لأن المستوى الأول من “التعامل” يقتضي توفير ظروف خاصة لتسهيل عملية الفهم (كإيجاد مراكز البحوث، وإعداد المتخصصين..) أما المستوى الثاني من التعامل، أي التعامل مع الواقع من أجل تغييره (وهو المستوى السائد في عالمنا العربي)، قد يختزل مهمة التغيير في تنزيل الأفكار والمبادئ والقبليات على الواقع دون أخذ بعين الاعتبار المسافة التي تفصل الأفكار عن الواقع.

ولا نكون مجانبين للصواب إذا قررنا –في هذا الصدد- بأن التعامل مع الواقع بذهنية التغيير – والتغيير السريع- لا بذهنية الفهم، هو الذي جعل الخطاب العربي والإسلامي المعاصر – أو على الأقل بعض مدارسه- تعتمد على “الداعية”  –غير المتخصص الأكاديمي- في فهم الواقع وإشكالاته المختلفة.

من ناحية ثانية، إن تناول أي موضوع بشكل جيد، يقول المسيري، يتطلب بداية الفصل- وبحدة- على مستوى التحليل بين الوصف والتقييم؛ فالوصف يتطلب نوعا من التجرد من القيم ورفضا لمحاكمة الأشياء والظواهر من أي منظور أخلاقي أو فلسفي، كما يتطلب الرؤية الدقيقة التي تحاول أن تصل إلى القوانين الخاصة التي تتحكم في الشيء، والتي يسميها علماء الاجتماع بـ”منطق الظاهرة”. ثم بعد هذا المستوى من التناول يأتي دور التحليل والتقييم وذلك بتجاوز المضمون الواضح والمباشر لتلك الظواهر وهذا الواقع. [الإنسان والحضارة، ص: 24- 25، مع شيء من التصرف اليسير]

أما بخصوص القاعدة الثالثة، فإن مفهومها هو أنه لا يمكن الفصل بين مواجهة “إسرائيل” ومواجهة “المصدر” (الغرب، أمريكا… لكن دون أن نسقط في التعميم) الذي يمد “إسرائيل بعناصر ومقومات البقاء. لكن ما نلاحظه هو فصل تعسفي لـ”المواجهتين”.. في حالة يستحيل معها الفصل والبتر.

سقنا هذه الأمثلة فقط لتبيان كيف أن رجل السياسة (Le politique) لم يستفد بما فيه الكفاية من رجل العلم (Le savant).

ثانيا: يتمثل التقصير الثاني في “عزوف” العقل الإسلامي المعاصر- دون أن نعمم- عن “واجب” الاسترشاد بما قدمه المسيري من اجتهادات نظرية ومعرفية، غير تلك التي دونها في موسوعته المتميزة وما استتبعها من هوامش بخصوصها. وأنا هنا لا أتحدث عن الاستفادة والاسترشاد على المستوى الفردي؛ فهذا حاصل وبامتياز! إنما الذي أقصده بالضبط هو الاستفادة والاسترشاد المؤسسي، والذي يتعلق بالعمل على صوغ نظريات للتغيير والإصلاح والتجديد بناء على تلك الاجتهادات النظرية والمعرفية.

ولهذا “العزوف” أسباب وحيثيات، منها:

السبب الأول: يتعلق بتلك الصورة النمطية التي استقرت في أذهان الكثيرين من كون المسيري مرجع في الصهيونية والفكر الصهيوني وإسرائيل… وأنه بعيد عن مثل هذه الأمور. وأعتقد أن الإعلام العربي والإسلامي ساهم- بغير قصد- بقسط كبير في تكريس هذه الصورة. لأننا إذا ما قمنا بدراسة النسبة التي يستدعى فيها المسيري للمقابلة أو الحوار باعتباره متخصصا في الصهيونية واليهود وإسرائيل… سنجد أن تلك النسبة كبيرة للغاية قد تكون أكثر من 90%!!!

وأنا هنا لست في معرض التنقيص من قيمة تلك الموضوعات، إنما فقط نرصد ونصف ” الأثر الجمعي” الذي تتركه تلك “الصورة النمطية” على أذهان الكثيرين؛ حيث أن تلك الصورة لها من القوة ما يمكنها من صرف النظر عن الجوانب الأخرى من فكر المسيري.

إلا أن الصواب، كما سبق من قبل، يحتم علينا القول بأن المسيري تشكل لديه “منهج معرفي” محدد المعالم والسمات، وعن طريقه يقارب مجموعة من الظواهر ويقدم قراءته الخاصة انطلاقًا من ذلك المنهج.

ويمكن للعقل الإسلامي أن يعتمد- ويختبر (كما يقول المسيري)- هذا المنهج في مقاربته لجملة الوقائع والظواهر التي يحبل بها واقعنا المعاصر؛ الفكري والمعرفي والسياسي.

السبب الثاني: يتمثل في تلك التحولات العميقة التي عرفها المسار الفكري للمسيري، والتي توجت باعتماد الإسلام كأرضية للاجتهاد والانطلاق الحضاري… ومن منطلق هذه التحولات الجذرية، استقر في البنية الذهنية لـ”العقل الإسلامي” (خاصة التقليدي، وحتى غيره في بعض الأحيان) أن كل ما له علاقة بالتجديد الإسلامي إنما هو حكر على طائفة من الناس دون غيرهم؛ وهي طائفة الفقهاء (بالتعريف الضيق لهذه الكلمة). بهذا أصبح الاجتهاد في النص الإسلامي (ليس من أجل استنباط الأحكام؛ لأن هذا له أهله) من أجل توليد النماذج والرؤى و”النظريات”… حكرا على تلك الطائفة (ويمكن تسميتها أيضا بطائفة الدعاة)!!

ونشير، في هذا الصدد، إلى أن الذي جعل “المشروع الإسلامي” يراوح مكانه ولا يحقق نقلات نوعية إلى الأمام، هو تعطيل فاعلية النص الإسلامي (المقدس والتراثي) من توليد النماذج والرؤى و”النظريات” التي بها نعيش عالمنا وننخرط فيه، مع حفاظنا على أصالة نصنا الإسلامي.

وتلك الطائفة المذكورة؛ أقصد طائفتي الفقهاء والدعاة، لا تستطيع أن تولد من النص الإسلامي (الذي هو عنصر أساسي من العناصر المشكلة للمشروع الإسلامي) ما سبق ذكره؛ لأن “النص الإسلامي”؛ وخاصة في شقه المقدس، يكون نص معطاء في “عملية التوليد” كلما كانت الأسئلة دقيقة والتراكمات عميقة. بعبارة أوضح، إن النص الإسلامي/ المقدس كفيل بتوليد مجموعة من الرؤى والنظريات بخصوص “مجال الاقتصاد” أو “مجال الأدب” أو “مجال الفن”… أو في غيرها من المجالات والحقول المعرفية.. إذا ما استوعبنا جيدًا وبعمق الإشكالات والقضايا الجوهرية التي يقتضيها ويفرضها كل حقل من هذه الحقول أو كل مجال من هذه المجالات. فالتراكمات والأسئلة التي يحملها المسيري عندما يتأمل في “النص الإسلامي” تختلف جذريًّا عن التراكمات والأسئلة التي يحملها معه الفقيه/ الداعية لممارسة نفس المهمة؛ أي مهمة “مساءلة النص” في ذلك الجانب/ الحقل!

ولهذا السبب نفهم لماذا المشروع الإسلامي يعرف فقرا على مستوى بنائه المعرفي والفني والأدبي والعمراني… وهو بناء لا يصمد كثيرا أمام إغراءات وإغواءات الحداثة الغربية!

وقد استطعنا، في هذه المساهمة، ومن خلال الملاحظة والاستقراء، أن نكتشف تأملات رائعة للمسيري في النص الإسلامي على وجه العموم.

ثالثا: هناك تقصير- خاصة من لدن العمل الإسلامي المعاصر كتعبير حركي على حركية واشتغال العقل الإسلامي- من الاستفادة من نقد المسيري للحداثة الغربية.

وفي هذا الإطار نقول إن الحضارة والحداثة الغربية، بطبعتها المعاصرة، لها بريق خاص. وبتعبير المسيري إنها حضارة ذات جاذبية عالية. وقد ازدادت وتزايدت وتيرة هذه “الجاذبية” خاصة بعد أن أفل النموذج الماركسي. ونلاحظ أن العقل الإسلامي في “مواجهته” و”معركته” مع النموذج والتوجه الماركسي قد نجح إلى حد ما في تقوية مناعته الفكرية والعقدية حتى لا يكتسحه هذا النموذج ويكتسح معه مجتمعاتنا العربية والإسلامية.

لكن مع أفول هذه المنظومة، كان يعني ذلك “انتصار” النموذج الغربي في الحياة. والذي عبر عنه البعض بـ”نهاية التاريخ”! والحداثة الغربية استطاعت أن تخترق مجتمعاتنا العربية والإسلامية- والإنسانية بوجه عام- لأنها اشتغلت على خطين، على الأقل، وهما:

الخط الأول: هو الخط الفلسفي الفكري؛ بمعنى نشر مجموعة من الأفكار بربطها بأسسها الفلسفية وجذورها المعرفية. وهذا الخط يستهدف النخب المثقفة.

الخط الثاني: هو الخط القيمي- الثقافي؛ بمعنى أن الحداثة الغربية قامت بتسويق أفكارها الفلسفية ورؤاها المعرفية من خلال مجموعة من التعبيرات الثقافية؛ كالمنتوجات، والمسرح، والرسوم المتحركة.. وهي تعبيرات ومنتوجات ثقافية في متناول “عموم الناس”. فمثل هذه المنتوجات لا يمكن مواجهتها بالأفكار، إنما لا بد من إبداع “أسلحة المواجهة” تكون من جنس تلك المنتوجات! وهذه مهمة صعبة لكن ليست مستحيلة. ثم من ناحية أخرى، إن الناس لا تلاحظ شيئًا مخالفًا (ظاهرًا) لمنظومته وقيمه الخاصة، رغم أن تلك المنتوجات الحضارية/ الثقافية تنشئ في المجتمع علاقات وقيم جديدة تتناقض وعلاقات وقيم هذا المجتمع. ومن هنا خطورة الحداثة الغربية؛ لأنها لا تفترض أن يَدَع الإنسان جانبا أفكاره ورؤاه الخاصة، بل مع حفاظه عليها ينخرط في قيم وعلاقات جديدة تتناقض- إذا تأملنا في عمقها وليس سطحها- وتلك الأفكار والرؤى.

ومن هنا تتجلى، كما قلنا سابقا، خطورة الحداثة الغربية؛ إنها تعتمد- في رأينا- على ثلاثية الإغراق والإغراء والإغواء. فبإغراق السوق بالمنتوجات الثقافية، التي تبدو في ظاهرها بريئة، يحدث الإغراء الذي هو “شعور نفسي” أكثر منه “سلوك عملي” (أو يمكن تسميته بـ”حديث النفس”)، وبعد الإغراء يحصل الإغواء الذي هو “سلوك عملي”.

ولما كانت هذه الحداثة تحقق (في الظاهر) يوما بعد يوم انتصارات واكتساحات واسعة؛ خاصة مع التقدم التكنولوجي المطرد والمتزايد، فإن أي نقد بسيط لهذه الحداثة لا يزيدها إلا قوة ومصداقية. خاصة وأن البناء المعرفي والثقافي للعقل الإسلامي المعاصر لا يسعفه في مباشرة هذا النقد ومن ثم تلك المواجهة والحوار.

هنا يتبين مدى حاجة العقل الإسلامي للنقد الذي يوجهه المسيري للحداثة الغربية. وهو الذي درس هذه الحداثة من الداخل و”حاكمها” إلى نصوصها المرجعية، وليس إلى نصوص أخرى مفارقة لتلك النصوص، وكشف عن الفجوات المعرفية التي تعتري بناء “الحداثة الغربية”، ناهيك عن معايشته المباشرة لتجليات تلك الحداثة.

فعلى سبيل المثال، وأمام ما سبق، وأمام جاذبية “الحداثة الغربية”، يلجأ الخطاب الإسلامي المعاصر إلى “سياسة الدفاع”. فعندما يقال له إن الحداثة الغربية قد حققت الحرية للإنسان الغربي، أو عندما يروى له أن النظم السياسية الغربية- النظام السياسي الأمريكي على وجه الخصوص- هي نظم، فعلا، ديمقراطية… إلى غير ذلك من القضايا التي تتكئ عليها الحداثة الغربية من أجل اكتساب المشروعية والمصداقية، يسلك هذا الخطاب مسلكين على الأقل، وهما:

المسلك الأول: ويمكن تسميته بـ”المسلك المستبطن”؛ بمعنى أن العقل الإسلامي، عندما يواجه بتجليات الحداثة الغربية، يصوغ خطابا يستبطن فيه التسليم بكون المجتمع الغربي بالفعل مجتمعًا حرًّا.. وبكون النظم السياسية الغربية حقيقة نظمًا ديمقراطية!! فمثل هذه الأمور، وفق هذا المسلك، بمثابة مسلمات لا تقبل النقاش. ألا يحق لنا أن نتحدث هنا عن حصول “إغواء في المقاربة” بعد أن حصل “إغراء على مستوى المقولات” نتيجة “إغراق السوق” بتلك المقولات سواء كان إغراقا رمزيا أم إغراقًا أدبيًّا أم إغراقًا ماديًّا!!

المسلك الثاني: بعد التسليم بكون تلك المقولات بمثابة “مسلمات”، لم يبق أمام العقل الإسلامي إلا أن ينتج خطابا يبين فيه أن منظومتنا لا تعدم أفكارا أقرب إلى الديمقراطية، وهناك من يؤصل لها على المستوى الديني، وأن منظومتنا تملك نصوصًا حية وتراثًا ثريًّا بخصوص حقوق الإنسان. وهذا مسلك يعزز الحداثة ولا ينفذ إلى عمقها من أجل نقدها، ولم لا نقضها!

أما المسيري فلم يسلك هذين المسلكين! لم يسلك المسلك الأول الذي يسلم فيه بصدق تلك المقولات (الحرية وديمقراطية النظم في مثالنا)، بل تجرأ على نقدهما، في الوقت التي تعتبر فيه هذه المقولات طابوهات لا يمكن الاقتراب من مناقشتها أو الحوار بخصوصها، وبالأحرى نقضها! (انظروا على سبيل المثال مقال المسيري: الديمقراطية والقيم، www.aljazeera..net، 30/ 08/ 2004). ولم يسلك المسلك الثاني الدفاعي، بل بعد نقده للأسس الفلسفية التي تستند إليه تلك المقولات (والمنتوجات الثقافية في مناسبات أخرى) قام ببناء تصور لما يمكن أن يكون عليه النموذج الذي بإمكانه أن يعيد للإنسان إنسانيته وكرامته وللحياة معناها ووجهتها؛ أي أن المسيري قام بتأسيس حداثة بديلة عن تلك الحداثة السراب.

بعبارة أخرى، إن العقل الإسلامي يعتريه تقصير بخصوص الاستفادة من نقد المسيري للحداثة الغربية الجذابة.. وإن مقاربة المسيري لمثل هذه الأمور تشكل- في رأينا- إضافات نوعية للمشروع العربي الإسلامي. وآثرنا أن نثير هذه الإشارات المختصرة والمركزة من أجل تبيان “المشاكل الكبرى” التي سببتها- وتسببها- الحداثة الغربية للعقل والخطاب الإسلامي المعاصر.

رابعا: هناك تقصير فيما يخص اكتشاف المقتضيات العملية لجملة من أفكار المسيري النظرية؛ إذ لكل فكرة مقتضاها العملي. فمثلا توصيف المسيري لـ”ماهية وطبيعة الحضارة الغربية” لها مقتضيات عملية إجرائية. ونورد فيما يلي فقرة- هناك فقرات أخرى عديدة في كتابات ومدونات المسيري المختلفة- يشرح فيها المسيري تصوره وتوصيفه لـ”الحضارة الغربية”. يقول المسيري: “هذه الحضارة ليست حضارة غربية كما تدعي، فهي دون شك إحدى ثمرات التطور الحضاري الغربي، ولكنها حضارة معادية للإنسان (بما في ذلك الإنسان الغربي نفسه)، وهي حضارة لا تهاجم رؤية معينة ولا دينا معينا ولا منظومة قيمية معينة، وإنما تهاجم فكرة الرؤية والدين والقيمة. فهي تذهب إلى أن العالم تعددي بشكل مفرط، لأنه لا مركز له ولا مطلقات فيه، كل الأمور فيه متساوية، ومن ثم كل الأمور نسبية، وهي حضارة تهاجم المقولات القبلية Apriori، التي كانت تضمن وجود الإنسان كائنا مستقلا عن الطبيعة (المادة)، لأن المقولات القبلية، حتى لو وجدت في عقل الإنسان، تفترض انفصاله عن عالم الطبيعة (المادة)، هذه الحضارة الجديدة تدعي أنها تجاوزت الفلسفة والميتافيزيقا، فهي حضارة إما مؤسسة على الحقائق العلمية والتجارب العلمية، وإما لا تحتاج لأساس أصلاً؛ لأن الأساس يفترض المركز. وقد سميت ما بعد الحداثة (الفلسفة السائدة في الغرب) Anti-foundationalism، أي ضد التأسيس”. [في أهمية الدرس المعرفي، ص: 127]

هذه الفقرة، ذات طابع تجريدي نظري. وقد يظن أن مقتضياتها العملية والإجرائية لا قيمة لها! وهي بالمناسبة فقرة تقدم توصيفًا مغايرًا لتوصيف جزء كبير ومهم من الخطاب الإسلامي المعاصر، الذي يعتقد أن الغرب غرب مسيحي. وبالتالي يجعل المعركة بين الإسلام والمسيحية، مما يفقد الخطاب الإسلامي القدرة على التأثير في الغرب نفسه. لكن بـ”التوصيف المسيري” قادرون على كسب الآخرين- في الغرب وفي غيره- ليس إلى صف المشروع العربي الإسلامي، إنما إلى صف الرؤية التي يعتقد المسيري أنها هي المستهدفة من جراء سيادة هذه “الطبعة والنسخة السيئة” من الحضارة الغربية. وهي رؤية تلامس تلك النفخة من روح الله تعالى، واللصيقة بالإنسان- مطلق الإنسان- في الغرب كما في الشرق، وفي الشمال كما في الجنوب.. إن المسيري بهذا التوصيف يدعونا- ضمنا- إلى كسب المجتمعات الغربية إلى صف تلك الرؤية؛ أو لنَقْل كسبها من أجل الوعي بأهمية تلك “النفخة” وبخطورة المساس بها.

وإن هذا المنحى في التفكير سيغير تلك النظرة التي استقرت في مخيال المجتمعات العربية الإسلامية كما في مخيال المجتمعات الغربية، والمتمثلة في اعتبار الصراع الراهن صراعا بين الإسلام والمسيحية، وبأن هذا الصراع تاريخي وأزلي وحتمي. وبدت المشكلة- في نظر المسلمين- مع الغرب لأنه غرب، ومع الإسلام- في نظر الغربيين- لأنه إسلام!!

ويأتي خطاب المسيري ليخترق “الدائرة الغربية” ويضمها- نظريًّا- إلى صف الرؤية التي تعبر عن “نفخة الروح”، وليشكل سندًا للخطاب الإسلامي الذي بَدَل أن يواجه تلك الرؤية المعادية للإنسان، يدخل الواجهة ومعه كل أحرار العالم. إنها إضافة نوعية للمشروع العربي الإسلامي الذي يجب أن يكون في جوهره مشروعًا إنسانيًّا.

بل إن هذا الخطاب لن يخترق “الدائرة الغربية” فقط، إنما قادر أيضا على اختراق الدوائر البشرية الأخرى، كـ”الدائرة الآسيوية”… وكـ” الدائرة الإسرائيلية”… لأن هذه الرؤية المنتصرة للإنسان لا يخلو منها وطن ولا أرض ولا شعب.

لكن المشكلة تحصل عندما يتم التعامل مع الدوائر البشرية المختلفة على أساس أنها كتل صماء ومتجانسة، وتعبر عن رؤية واحدة! فمثلاً، قلما يُثار في الخطاب الإسلامي والعربي مسألة إمكانية اختراق المجتمع الإسرائيلي (الاختراق ليس معناه في مصطلحنا فرض ما نؤمن به من رؤى تفصيلية على الآخر والغير، إنما معناه إيقاظ الوعي، في صفوف تلك الدائرة البشرية، بخصوص طبيعة الرؤية المعادية للإنسان والرؤية المنتصرة للإنسان) لاعتبارات عديدة؛ من بينها “الإيمان بأبدية الصراع مع اليهود” وبـ”ملازمة الأوصاف الشريرة لليهود”؛ بمعنى أن اليهودي شرير من حيث هو يهودي. رغم أن تلك النفخة من روح الله تعالى مركوزة في الإنسان- من حيث هو إنسان- لا من حيث دينه أو شاكلته الثقافية!!

وبالتالي لم يدر- أبدًا- في خلد العقل الإسلامي حصول هذه الإمكانية؛ أقصد “إمكانية الاختراق” بالمفهوم الذي وضعته لـ”الاختراق”. لكن المسيري من خلال توصيفاته المختلفة للغرب أو لـ”إسرائيل” يطرح إمكانية تحقيق هذه الإمكانية.

ولعل أبرز مقتضى عملي بالنسبة لهذا النوع من التفكير هو خلق جبهة تضم كل الرافضين للرؤية المعادية للإنسان. فأين هذا كله من المشروع العربي الإسلامي؟! طبعًا، ودائمًا، ينبغي ألا نسقط في آفة التعميم.

ومن بين المقولات المسيرية النوعية، والتي نعتقد أن العقل الإسلامي لم ينتبه إليها جيدًا، وكانت قمينة بالتقدم بالخطاب الإسلامي خطوات إلى الأمام.. المقولة المتمثلة في اعتبار “الجماعات اليهودية” (كما هو مصطلح المسيري) في فلسطين ضحايا الرؤية الغربية الاستعمارية الإحلالية الاستيطانية. وأن الغرب إنما تعامل معها على أساس أنها “جماعات وظيفية” يستعملها في تحقيق ثوابته، التي لا تتجاوز ما تقع عليه حواسه الخمس.

و”إمكانية الاختراق”- كما هو مفهوم مقاربات المسيري- تمر عبر تغيير “الخريطة الإدراكية” لـ”الآخر” الذي نعتقد أنه قد اقترب أو تماهى- لظرف من الظروف- مع الرؤية المعادية للإنسان. ونورد هنا بعض آراء المسيري النوعية بخصوص إمكانية “تغيير الخريطة الإدراكية للمجتمع الإسرائيلي”، ليتضح جيدًا ما نحن بصدد الحديث حوله، وكيف أن “الانتفاضة” استطاعت أن تغير من عناصر تلك الخريطة. طبعًا “عمل الانتفاضة” ينبغي أن توازيه أعمال أخرى فكرية وثقافية وفنية للالتفاف حول هذه الخريطة من أجل تغييرها؛ لأن كل تغيير يمس هذه “الخريطة الإدراكية” هو بمثابة ابتعاد عن الرؤية المعادية للإنسان واقتراب من “نفخة الروح” التي تشير إلى رؤية متسامية.

يشير المسيري إلى أن الصهاينة أدركوا أهمية “الخريطة الإدراكية” في تشكيل الرأي العام وفي تحريك الجماهير، إذ قامت الدولة الصهيونية باعتبارها دولة استعمارية استيطانية إحلالية تؤدي وظيفتين، وهما، تخليص أوروبا من اليهود ونقلهم إلى فلسطين ليشكلوا قاعدة للاستعمار الغربي، أي أن المشروع الصهيوني حوّل يهود أوروبا إلى مجرد أداة لتحقيق هدف إستراتيجي.

ولكن، كما يقول المسيري، من الصعب إقناع أي إنسان بأن يتحول إلى مجرد أداة، ولهذا يتعين تغيير خريطته الإدراكية حتى يمكنه أن يتحرك بحماس ويحمل السلاح دفاعًا عما يتصوره وعما استبطنه.

ولتحقيق ذلك- يقول المسيري- تحركت القيادة الصهيونية على مستويين، وهما:

المستوى الأول: تأكيدها على أن اليهود كتلة بشرية قومية متماسكة لها تاريخها الخاص وخصائصها الفريدة، ولها حق مطلق في فلسطين بوصفها الوطن القومي، ومن ثم يصور توجههم لغزو فلسطين باعتباره “عودة” إلى أرض الأجداد وليس احتلالاً أو استعمارًا، وهذه “العودة”- والكلام للمسيري- تتم بناء على الوعد الإلهي وليس بناء على وعد بلفور، بل إن فلسطين طبقًا لهذا التصور هي “إرتس يسرائيل”.

المستوى الثاني: يتعلق بحديث الصهاينة- ومعظمهم ملاحدة كما يقول المسيري- يتحدثون عن التوراة والتلمود، واتخذت الدولة الصهيونية بعض الرموز الدينية، حتى تصور الكثيرون أنها بالفعل دولة يهودية، وراحوا يدركونها على هذا النحو، وينظرون إلى ما ترتكبه من بطش ومذابح على أساس هذا الإدراك.

غير أن الخريطة الإدراكية- في تصور المسيري- قد تتغير عندما يتحدى الواقع هذه الخريطة ويبين قصورها، إذ يهتز أساس الرؤية وأسلوب الإدراك ذاته فتميد الأرض من تحت قدمي صاحبها.

ويشرح ذلك المسيري بقوله: “هذا ما حدث للمستوطنين الصهاينة، حيث كان محور خريطتهم الإدراكية أن فلسطين أرض بلا شعب، أو على الأقل شعب يشبه الهنود الحمر يمكن القضاء عليه عن طريق الإبادة أو النقل أو الحصار أو التجاهل”.

ويشير المسيري إلى الدور الذي لعبته الانتفاضة في زلزلة تلك “الخريطة الإدراكية”؛ وحيث يذكر أنه قبل اندلاع الانتفاضة الأخيرة أصدر المجلس الإقليمي لمستوطنات غور الأردن الاستعمارية خريطة سياحية لا تظهر عليها أي قرى أو مدن عربية، كأنها قد أزيلت، أو كأنها لم توجد أصلاً أي أنها أرض بلا شعب.

ولكن، يقول المسيري، ما حدث هو العكس؛ إذ ظهر أن فلسطين أرض عليها شعب، وهو شعب عريق ينتمي إلى تشكيل حضاري قديم ومركب، وهو يتزايد كمًّا وكيفًا بطريقة مزعجة، فاهتزت الخريطة الإدراكية وبدأت العصبية تظهر فيما يسميه المسيري بـ”المرحلة الشارونية”، وهو تصور- يشرح المسيري- أنه يمكن تغيير الواقع بالقوة حتى يتسق مع خريطتهم الإدراكية، ولكن الواقع يتحدى بشكل مستمر الخريطة الإدراكية الأسطورية الصهيونية، فالانتفاضة مستمرة ومقاومة أصحاب الأرض تتصاعد رغم البطش الصهيوني.

وما يهمنا في هذا الإطار هو أن نعرف بأن الخريطة الإدراكية ليست أمرًا حتميًّا، إذ- كما يقول المسيري- يمكن تغييرها، وبالفعل يشير المسيري إلى كون قطاعات لا بأس بها من الجماهير الإسرائيلية بدأت تدرك عبث محاولة فرض الأسطورة الصهيونية على الواقع الفلسطيني.

ثم يختم المسيري تصوره لكيفية التعامل مع “الخريطة الإدراكية” بقوله: “أعتقد أنه قد حان الوقت لأن يتوجه الإعلام العربي إلى هذه القضية، ساعيًا إلى التأثير في الخريطة الإدراكية للشعوب الغربية”، من خلال ما يسميه المسيري “الحوار المسلح”، أي المقاومة المسلحة المستمرة التي يصاحبها إعلام قوي يحاول أن يبين حقيقة الدولة الصهيونية في المنطقة بوصفها جيبًا استعماريًّا استيطانيًّا إحلاليًّا يمثل الاستعمار الغربي ويخدم مصالحه. [الخريطة الإدراكية، www. Aljazeera.net، 03/ 10/ 2005]

كان ذلك بشكل مجمل أوجه التقصير في العلاقة بين العقل الإسلامي والعربي وفكر المسيري، وهي أوجه متداخلة فيما بينها. وكما قلنا فإن أي تجاوز لأي وجه من أوجه التقصير المشار إليه أعلاه، يتضمن إضافة نوعية للعقل والخطاب العربي الإسلامي.

وفي هذه الدراسة سنحاول- بشيء من التفصيل المركز- أن نسلط الضوء على تجليات تلك الإضافات النوعية وتبدياتها المختلفة في مقاربة المسيري لمجموعة من القضايا التي نعتقد أنها مداخل ومقدمات معرفية ومنهجية لتجديد المشروع العربي الإسلامي. ولا نزعم أن ما سنتطرق إليه من قضايا هي وحدها المداخل والمقدمات التي يعتمدها المسيري لتحقيق ذلك، إنما- وبصفة يقينية- هناك مداخل ومقدمات أخرى قد تكون أكثر أهمية من تلك التي سندرسها في هذه الدراسة. وقد وزعنا تلك المداخل والمقدمات على شكل مباحث.

المبحث الأول: مركزية التوحيد

أو الدفاع عن الإنسان من خلال الانتصار لـ”فلسفة التجاوز”

تظهر آراء المسيري المتصلة بالمسألة الدينية، والنص الديني عمومًا، من خلال تناوله لمجموعة من القضايا.. فالمسيري بالطبع ليس متخصصًا في العلوم الإسلامية أو الدينية، وهو لا يدعي ذلك أبدًا، لكن استقراءنا الدؤوب والمتأني لمجموعة من الإشكالات التي هي من اختصاص “أهل الذكر” في المسألة الدينية، تنم على امتلاك الرجل لأدوات معرفية وجهاز مفاهيمي أوصله إلى إنتاج آراء تميزت بالدقة والعمق.

ومن خلال إنجازنا لهذا الاستقراء- الأولي- استطعنا أن نقسم تلكم الآراء إلى ثلاث مجموعات أساسية، قسمناها للداعي المنهجي وهي في حقيقتها قد تكون متداخلة فيما بينها:

المجموعة الأولى: تلك الآراء التي يبديها المسيري في مجموعة من القضايا التي هي من صميم الاشتغال الديني، من مثل مسألة “التوحيد”..

المجموعة الثانية: آراء للمسيري في قضايا فكرية وفلسفية استطعنا أن نجد لها أصولاً- أو تأويلاً- في بنية النص الديني/ الإسلامي.. من مثل تحليله للنسق الديني اليهودي وملاحظته مدى التشابه بين هذا النسق والنسق المادي (الشركي في المصطلح الإسلامي).. وأيضًا ربطه بين الفلسفة المادية والنـزعة الإبادية.. إلى غير ذلك من المسائل التي استطاع المسيري أن ينسجم فيها مع روح النص الديني.

ونحن في هذا الإطار لا نحاول أن نوجد لآراء المسيري الفكرية أو الفلسفية مخارج دينية ومسوغات إسلامية، من خلال إسقاطات تعسفية أو تأويلات فاسدة، بل إننا نقول إن أي باحث يلزم نفسه بشيء من التجرد والانطلاق من دراسة متأنية للقضايا المتعلقة بالإنسان فإنه ولا شك لن يتصادم مع روح النص الإلهي؛ خاصة وأن أي إنسان- كيفما كان توجهه العقدي والفلسفي- يحوي في داخله نفخة من روح الله تعالى (أو ما يسميه المسيري بالقبس الإلهي).. ولعل أبلغ عبارة تلخص لنا هذا التوجه هو قول المسيري: “بدل الوصول إلى الإنسان من خلال الله، وصلت إلى الله من خلال الإنسان”. فهذا القبس – أو تلك النفخة- المركوز في النفس البشرية هو الذي قاد المسيري إلى الله.

المجموعة الثالثة: هي مجموعة من الآراء والفهوم التي أبداها المسيري من خلال دراسته لمجموعة من النصوص المقدسة؛ وهي النص القرآني والنص النبوي. ويمكن تقسيم هذه المجموعة إلى قسمين، يتضمن القسم الأول تلك الآراء والفهوم التي يستنبطها المسيري من تلكم النصوص.. ويتضمن القسم الثاني نموذجًا من كيفية التعامل مع بعض النصوص المقدسة، خاصة من خلال استخدام المنهج المعرفي.

وقد ارتأينا ألا نخص كل مجموعة بالحديث حولها، بل سنتناول ما تضمنته هذه المجموعات وفق موضوعات… في حتمية “الميتافيزيقا” أو “النظرية الكبرى الحاكمة”:

ينطلق المسيري في مقاربته وفهمه لمجمل الأفكار والتصورات والظواهر انطلاقًا من الرؤى الكبيرة/الكلية التي تفرزها. حيث لا يستقيم فهمنا لبنية الأفكار ومسار الظواهر وكشف العلاقة التي تربط مختلف الظواهر بعضها ببعض إلا إذا كنا على درجة كبيرة من الوعي بالناظم الفكري الذي ينظم هذه الأفكار والظواهر.

بداية يقول المسيري باستحالة التخلي عن محاولة الوصول إلى نظرية حاكمة كبرى، تمنح للإنسان رؤية للكون وللأمور المعرفية الكلية والنهائية.

فرغم اعتراف المسيري بوجود مجموعة من “القصص الصغرى” في الواقع (كما هو مذهب الاتجاه المابعد- حداثي)، إلا أنه يقرر بأن هناك داخل كل قصة – مهما بلغت من صغر- قصة كبرى. [اليد الخفية 303].

فليس هناك مفر من تبني نظرية كبرى أو رؤية كلية.. فمهما ادعى الإنسان أنه بمنأى عن مثل هذه القضايا الفلسفية الكلية لا يمكن أن يظل وفيا لزعمه وادعائه هذا. بل يذهب المسيري بعيدًا إلى القول بأن الإنسان إن لم يطور نظرية كبرى فسيقع فريسة النظرية الكبرى للآخر وضحية لما يسمى “إمبريالية المقولات”، ولعل العبارة الدقيقة التي يمكن أن تختزل فكره في هذا الصدد تتمثل في المقولة التالية: “إن الإنسان لا يتحرك في فراغ ولا يدرك الواقع بشكل حسي مباشر. وهذا الإدراك مرتبط برؤية الإنسان لنفسه وللكون وللآخر، وأن ثمة نموذجًا كامنًا وراء كل الظواهر”. [الانتفاضة الفلسطينية والأزمة الصهيونية دراسة في الإدراك والكرامة 20، اليد الخفية 303].

وفي رأي المسيري فإن الإنسان يتأرجح بين رؤيتين أساسيتين للإنسان: رؤية تنظر للإنسان باعتباره كيانا مركبًا يختلف عن كل الكيانات الأخرى لا في نوعه وإنما في درجة تركيبيته، التي يمكن تفسيرها في “نهاية الأمر” بما هو مادي وطبيعي، أي أنه يمكن تفسير الإنسان، كل الإنسان، من خلال قوانين الطبيعة (…). وهناك رؤية ترى الإنسان باعتباره كيانًا فريدًا مركبًا مختلفًا عن كل الكائنات الأخرى اختلافًا عميقًا في النوع والدرجة (…)؛ إذ وفق هذه الرؤية يظل الإنسان شامخًا يستعصي في كليته عن التفسير المادي الكمي (…).

وتنطلق كتابات المسيري الفكرية والفلسفية من مسلمة الإيمان بوجود فروق جوهرية كيفية بين عالم الإنسان وعالم الطبيعة/ المادة.

فالرؤية الأولى تعتبر الطبيعة نظامًا يتحرك بلا هدف أو غاية، نظامًا واحديًا مغلقًا مكتفيًا بذاته، توجد مقومات حياته وحركته داخله، يحوي داخله ما يلزم لفهمه، لا يشير على أي هدف أو غرض خارجه.

هذه الرؤية ملتزمة بنوع من التفكير الذي يرى أسبقية الطبيعة على الإنسان، يستوعبه فيها ويختزله إلى قوانينها ويخضعها إلى حتمياتها بحيث يصبح جزءا لا يتجزأ منها ويختفي ككيان مركب متجاوز للطبيعة والمادة، منفصل نسبيًّا عما حوله وله قوانينه الإنسانية الخاصة، أي- يقول المسيري- أن الحيز الإنساني يختفي ويبتلعه الحيز المادي، وبدلاً من ثنائية الإنساني والطبيعي تظهر الواحدية الطبيعية. [الإنسان والحضارة والنماذج المركبة دراسات نظرية وتطبيقية 382- 383].

فلسفة التجاوز وظهور المسافات: بنيوية المسافات في فلسفة التجاوز:

هاتان الرؤيتان بدورهما نتيجة لنوعين من المرجعيات: مرجعية التجاوز والتعالي ومرجعية الحلول والكمون.

والتجاوز كما يفهمه المسيري هو أن يرقى الإنسان ويتعالى على حدوده الطبيعية والمادية وإن ظل داخلها. ويمكن أن يطبق هذا المفهوم على الإله فتكون المقولة على الشكل التالي: إن الإله يتجاوز كل حدود الزمان والمكان، فهو منـزه عنهما وعن عالم الطبيعة/المادة وعن الإنسان. [الإنسان والحضارة 384].

والإيمان بموجود متعال يتجاوز كلاً من الطبيعة والإنسان هو سمة المنظومات التوحيدية، وهو مركز الكون، مركز غير مادي، يتجاوز المادة ولا يحل فيها أو يتوحد معها. [الإنسان والحضارة 384].

والتوحيد كما يعرفه المسيري هو: “الإيمان بأن المبدأ الواحد، مصدر تماسك العالم ووحدته وحركته وغايته، ومرجعيته النهائية، وركيزته الأساسية، ومطلقه الذي لا يرد إلى شيء خارجه- هو الإله، خالق الطبيعة والتاريخ، وهو خالق البشر، الذي يحركهم ويمنحهم المعنى ويزودهم بالغاية، ولكنه مع هذا مفارق لهم لا يحل فيهم أو في مخلوقاته ولا يتوحد معهم”. [اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود 224].

ونرى أنه من الضروري أن نشير إلى أن المسيري بعد أن يؤكد أن مصدر الوحدة في الوجود ومركز الكون غير المنظور ليس كامنًا أو حالاً في العالم، وهذا هو شأن الإله الواحد المفارق المنزه في النظم التوحيدية.. بعد هذا التأكيد، يضيف المسيري أن النظم الهيومانية الإنسانية أيضا تميل إلى الاعتقاد بوجود مسافة بين الإنسان والطبيعة.. أو بعبارة المسيري: الإنسان المتميز عن الطبيعة. [اليد الخفية 299]

ونعتقد أن الفلسفة الهيومانية لا يمكن أن تكون رؤية مستقلة بذاتها، بل هي تتأرجح بين الاقتراب من المرجعية المتجاوزة التي تنطلق من منطلق أن الإنسان يحوي داخله القبس الإلهي، وبين الرؤية الأخرى التي لا تقول بالتجاوز. ونضيف أن كل ابتعاد من الرؤية الأولى هو اقتراب من الرؤية الثانية، والعكس صحيح. فالرؤية الهيومانية تبتعد شيئًا ما عن الرؤية المادية وتقترب من الرؤية المتجاوزة. ويميل المسيري إلى القول بأن الفلسفة الإنسانية كامنة في الفلسفة المادية.

إن فلسفة التجاوز في فكر المسيري تستحضر في تحليلها مسألة مركزية وهي أنه مع الإقرار بكون الإنسان جزءًا لا يتجزأ من الطبيعة، إلا أنه في الآن نفسه متجاوز لها.

إن تجاوز الإنسان للطبيعة هو الذي جعل الإنسان يشكل ثغرة في النظام الطبيعي المادي، فهو كائن قادر على إنجاز فعلين أساسيين متسمين معا بـ”التجاوز”:

أولهما: قدرة الإنسان على تجاوز الجوانب الطبيعية في ذاته، وثانيهما: قدرته على تجاوز الطبيعة/المادة ذاتها. [اليد الخفية 300]

وإن الإقرار بوجود مسافة أو ثغرات أو ثنائيات هو الذي يقود إلى الإقرار بإمكانية التجاوز.. وإنكارها يؤدي إلى إنكار إمكانية التجاوز. وبالمناسبة، فإن هذه المسافة (بين الإنسان والطبيعة) لا يمكن أن تسد تمامًا (مثل المسافة التي تفصل الخالق عن المخلوق). فمصدر وجود واستمرار هذه المسافة وبالتالي هذا التجاوز هو ذلك الجانب الرباني في الإنسان اللصيق تماما بإنسانية الإنسان. [اليد الخفية 300].

ويزيد المسيري هذه النقطة توضيحا مشيرا إلى أن المنظومات المعرفية التي تدور في إطار المرجعية المتجاوزة لعالم المادة (مثل العقائد التوحيدية) تحتفظ بالحدود الفاصلة بين الخالق العلي المتجاوز وبين مخلوقاته، فهو مركز النموذج المفارق والمتجاوز له. [اللغة والمجاز 226].

ومن اللفتات الجميلة التي يوردها المسيري، في هذا الصدد، هو قوله: “إن المسافة بين الخالق والمخلوق تظل قائمة، لا يمكن اختزالها مهما كانت درجة اقتراب المؤمن من الإله”. ويضيف: “لا يمكن في الإطار التوحيدي أن “يصل” المتصوف إلى الالتصاق بالإله أو الاتحاد به أو الفناء فيه، فثمة مسافة جوهرية ثابتة”. ومن بين الاستنباطات الذكية والعميقة التي يوظفها المسيري أثناء تعزيزه لفلسفة المسافة ومرجعية التجاوز قوله أنه “حتى رسول الله r لم “يصل”، بل ظل في أقصى حالات الاقتراب قاب قوسين أو أدنى”. [اللغة والمجاز 226].

ففي الإسلام- يقول المسيري- الله عز وجل مفارق عن الإنسان، وهذه مسألة لا يمكن الحوار بشأنها، كما بقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى:11)؛ نقترب منه ونبتعد عنه لكن المسافة بيننا وبين الله موجودة. [العقل الإسلامي بين الأنا والآخر، ص: 42]

ويذكر المسيري أن الثنائية سمة أساسية في النظم التوحيدية حيث يمثل التجاوز عمقها الفلسفي. وأما الثنائيات- أو الثنائية الأساسية كما يسميها المسيري- في النظم التوحيدية هي ثنائية الخالق (المنـزه عن الإنسان والطبيعة والتاريخ). [رحلتي الفكرية 137].

ومن خصائص هذه الثنائية أنها فضفاضة تكاملية: فالإله مفارق للعالم إلا أنه لم يهجره ولم يتركه وشأنه. فهناك تفاعل بين عنصري الثنائية، فالإله خلق العالم ونفخ فيه من روحه ولم يهجره بل دخل في علاقة معه فهو يرعاه. [اليد الخفية 299]

ويميز المسيري بين الثنائية والاثنينية أو الازدواجية؛ إذ في الأولى نكون أمام عنصرين قد يكونان متكافئين أو غير متكافئين، ولكنهما مع هذا يتفاعلان ويتدافعان. أما في الاثنينية فهما إما:

1- عنصرين مختلفين تمام الاختلاف يكادان يكونان متعادلين (مثل إله الخير والنور وإله الشر والظلام في بعض العبادات الوثنية)، ولذا يدخلان في صراع أزلي أو شبه أزلي.

2- وإما عنصرين متعادلين تمام التعادل، متكاملي تمام التكامل، فنعود للواحدية مرة أخرى. [رحلتي الفكرية 138].

مفهوم المسافة وجدلية “الانفصال والاتصال” بين “الخالق والمخلوق”:

يحدد المسيري جوهر النسق التوحيدي الإسلامي في مفهوم المسافة، الذي يؤكد علاقة الانفصال والاتصال بين الخالق والمخلوق. ويزيد المسيري هذه النقطة بيانًا مشيرًا إلى أن الله- سبحانه- ليس كمثله شيء، فهو غياب إمبريقي كامل، ولا يمكن أن يدرك بالحواس، ولكنه، في الوقت نفسه، أقرب إلينا من حبل الوريد، دون أن يتحكم بنا ويجري في دمائنا، ويصبح بذلك جزءًا من عالم الصيرورة.

بكلمة، إن الحضور الإلهي لا يأخذ شكل تجسد مادي. وإيمان الإنسان به هو عنصر ذاتي، فهو في القلب، ولكنه ليس ذاتيا تماما، فهو يستند إلى العلامات والقرائن مثل سنن الطبيعة. [اللغة والمجاز 134]

المجاز اللغوي كأداة لتقريب المسافة بين الدال/ الخالق والمدلول/ المخلوق:

يعتبر المسيري المجاز اللغوي أداة الإنسان للتعبير عن أفكار ورؤى مركبة لا يمكن التعبير عنها إلا بهذه الطريقة [اللغة والمجاز 17].. وإذا أرادت اللغة التعبير عن فكرة “الله” و”الغيب”، فإن المسافة تتسع وتتسع. [اللغة والمجاز 14].

والمسافة- في تصور المسيري- لا يمكن عبورها، ولكن يمكن تقريبها وتحويلها إلى مجال للتفاعل عن طريق المجاز.

هذه الوظيفة التي يقوم بها المجاز تتم من خلال ما يقوم به من توسيع من نطاق اللغة الإنسانية، وجعلها أكثر مقدرة على التعبير عن الإنساني المركب واللا محدود.

هذه الأدوار الموكلة إلى المجاز تتم عادة- كما يقول المسيري- عن طريق ربط المجهول بالمعلوم، والإنساني بالطبيعي، والمعنوي بالمادي، واللا محدود بالمحدود، وهو ربط لا ينجم عنه مزج عضوي بينهما وإنما تحويل الواحد منهما إلى طريقة لاستكشاف الآخر، إذ تظل المسافة بينهما قائمة رغم عملية الربط بينهما. [اللغة والمجاز 14]

ويلاحظ المسيري أن مفهوم المسافة يتبدى من خلال علاقة الدال بالمدلول في الإطار التوحيدي، فهي علاقة اتصال وانفصال بحيث لا يلتحم الدال بالمدلول، فالمدلولات- كما يقول- متشابكة فضفاضة، واللغة تصبح متشابكة فضفاضة تصلح للتواصل بين البشر رغم عدم كمالها. [اللغة والمجاز 134/ 135]

ولا يفوت المسيري أن يشير إلى أن مفهوم المسافة- في التصور التوحيدي- يقف على النقيض من الموقف “ما بعد الحداثي” الذي يطرح لحظة حضور كامل و غياب كامل، وكلاهما مستحيل. ومن استحالة الوصول تطرح الصيرورة كحل، باعتبارها الشيء الوحيد الممكن. [اللغة والمجاز 135].

وما يتعلق بالاتجاه “ما بعد الحداثي” ينطبق على كل الاتجاهات الأخرى التي هي نتاج الرؤية المناقضة للرؤية التوحيدية.. طبعا إذا ما تعلقنا بالتفاصيل فسنجد أن هناك فروقا- قد تبدو جوهرية- بين “الحداثة” و”ما بعد الحداثة” على سبيل المثال، لكن عندما ننظر إليها من منطلق الأسس الفلسفية لكل منهما فإننا سنلاحظ أن الفروق التفصيلية تبدو هامشية مقارنة باشتراك الاتجاهين في نفس الأسس الفلسفية الميتافيزيقية.

ويذهب المسيري بعيدا عندما يقرر أن إشكالية الدال والمدلول كامنة في الحضارة الغربية حتى قبل ظهور الفلسفة المادية والنسبية المعرفية. ودليله إلى هذا التقرير العميق ما لاحظه من اختلاف جوهري بين نقطة البدء الإسلامية ونقطة البدء المسيحية؛ ففي المسيحية واليهودية- يقول المسيري- نجد أن لحظة البدء هي الكلمة نفسها( تجسد اللوجوس)، فالكلمة هي الأساس الأنطولوجي لهذا العالم. أما في الإسلام، فإن لحظة البدء هي اللحظة التي يعلِّم فيها الإله الأسماء كلها، فلحظة بدء العالم لحظة إبستمولوجية معرفية، وتفترض وجود إله يسبق خلق المادة، إله عالم عليم، ومن خلال المعرفة التي يتلقاها آدم منه يصبح إنسانا، أي انه يتم التواصل بين الإله والإنسان بدون تجسد، أي أن ثمة اتصالا وانفصالاً في آية. [اللغة والمجاز 135] والمسيري في هذا الاستنتاج انطلق من الآية الكريمة التي تقول: ]وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا[ [البقرة- 21]

ومرة أخرى نقول بأن العلاقة التي تربط الدال بالمدلول مرتبطة بشكل أساسي بطبيعة الرؤية التي في إطارها يتحرك الباحث.. وبالتالي عندما نعلم بأن الرؤى الكلية لا يمكن أن تخرج عن رؤيتين كليتين أساسيتين، وهما: الرؤية التوحيدية والرؤية المادية الشركية، فإننا لا بد من أن نلاحظ مدى الفرق البنيوي بين طبيعة العلاقة بين الدال والمدلول في سياق الرؤيتين.. معنى ذلك أن إشكالية العلاقة بين الدال والمدلول في الحضارة الغربية ليست خاصة بهذه الحضارة، إنما هي لصيقة برؤية كلية تقود إلى تحديد نوع ما من العلاقة بين الدال والمدلول. ووفق هذا التحليل من الممكن جدا أن يطال هذا النمط من العلاقة أي حضارة تتماهى أو تقترب من الرؤية المادية/ الشركية.

يذكر المسيري في بعض كتبه أنه لما تحول الإيمان عنده إلى رؤية شاملة للكون، وإطار للإجابة عن كل التساؤلات، لم يكن لإيمانه بالإسلام أي أساس فكري وفلسفي واضح.. وبدأ يطرح على نفسه جملة من التساؤلات، من قبيل: لم الإسلام وليس أي دين آخر؟ ولم يكن في حوزة المسيري- في البداية- ما يسعفه في الإجابة على مثل هذه التساؤلات، بمعنى لم يكن وراء إيمانه بالإسلام أي سبب واضح! ولم يتخلص المسيري من هذا الفراغ الناتج عن غياب الإجابة، إلا بعد أن طور وتبلورت في ذهنه قضية الحلولية، وضرورة وجود مسافة بين الخالق والمخلوق. ثم يضيف المسيري أنه وجد أن الإسلام هو أكثر العقائد ابتعادًا عن الحلولية وعن توحد الخالق بمخلوقاته (وحدة الوجود)، أي أن التوحيد في إطار الإسلام- في تصور المسيري- هو أكثر أشكال التوحيد رقيًّا وتساميًّا.

وكي لا يفهم من هذا الكلام نوعًا من النظرة الاستعلائية والاحتكارية للغير العقدي والفكري، يسارع المسيري إلى القول بأن تقييمه للتوحيد الإسلامي لا يعني رفضًا للآخر، إذ يظل مفهوم التدافع مفهومًا أساسيًّا، وهو مفهوم إسلامي يعني الاختلاف بل والصراع، ولكنهما اختلاف وصراع رقيقان، مثل تدافع السيل، حيث تلاطم بعض مياهه بعضًا، ولكن هذا التلاطم لا يوقف التدفق بل هو جزء منه. [رحلتي الفكرية 237/ 238]

إن التوحيد- ومفهوم المسافة وفلسفة التجاوز- يُعتبر المعيار الأساسي الذي تحكّم في مسار الحضارة الإسلامية، وبدون استحضار هذا البعد التوحيدي لا يمكن فهم جملة من القضايا وطائفة من الإشكالات التي ميزت مسار هذه الحضارة عن غيرها من المسارات الحضارية الأخرى.

لقد كان المعيار التوحيدي الأساس لمقاربة أعقد المسائل الفكرية والأسئلة الفلسفية التي فرضت نفسها بقوة على حضاراتنا ومجتمعاتنا.. وفي هذا السياق يذكرنا المسيري بأن مشكلة “المسافة والتجاوز وعلاقة الدال بالمدلول” تبدت في التراث الإسلامي في مسألة كلام الله.. أهو محدث ومخلوق أم قديم؟

ويذكر المسيري أن المعتزلة عندما قالوا إن القرآن (كلام الله) محدث ومخلوق كان دافعهم إلى ذلك رفضهم لأي شبهة توحي بتعدد القدماء، وتمسكهم بالتوحيد وفكرة الإله المتجاوز للطبيعة والمفارق للعالم.

والسبب المركزي – في رأي المسيري- الذي قاد المعتزلة على الاجتهاد والجد في هذه المسألة كان راجعًا بالأساس إلى كَون هذه القضية بمثابة الباب الذي دخل منه “التثليث” فأفسد توحيد المسيحية الأولى.

ولتوضيح هذا “الدافع المعتزلي” قام المسيري بتوليد معاني فلسفية تصورية ذات دلالة عميقة، انطلاقًا من قوله تعالى: ]إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ[ [آل عمران- 45]، يقول المسيري في هذا الصدد: “إن القرآن يقر أن عيسى – عليه السلام- هو كلمة الله”.. ثم يضيف: “فلو أن “كلمة الله”، وبالتالي “كلامه”- ومنه القرآن- وصف بالقدم لتعدد القدماء ولصحت عقيدة التثليث المسيحية!” [اللغة والمجاز 133/ 134]

ولنا أن نلاحظ مدى الفرق الكبير بين منزع المعتزلة في مذهبهم القائل بـ”خلق القرآن” وبين منزع بعض الاتجاهات الفكرية في عالمنا العربي التي تحاول ما أمكن أن تتبنى وتوظف نفس المسألة لأجل مآرب أخرى تقف على طرف النقيض من المآرب المعتزلية! وتفصيل ذلك أن بعض المفكرين العرب- خاصة بعض الماركسيين منهم- أرادوا أن يجدوا حلا لمعادلة الجمع بين المشروعية التاريخية( أي مشروعية الانتماء لتراث وتاريخ أمتنا العربية والإسلامية) وبين القناعة الإيديولوجية، وكان المخرج- عند هؤلاء- هو تبني مذهب المعتزلة (والمعتزلة تيار فكري يعتز به تاريخنا الإسلامي وتضرب جذوره في عمق تربتنا الحضارية والثقافية) القائل بـ”خلق القرآن”، لأنها الدليل، في تصورهم، إلى القول بتاريخية وزمنية النص القرآني، أو بعبارات أخرى أكثر دقة، هي الدليل إلى إيجاد مرجع ديني كلامي للقاعدة الماركسية التي تقول: إن البناء التحتي ( الواقع) يفرز البناء الفوقي (الفكر)!! أما المعتزلة فكان مذهبهم على هذا انتصارًا قويًا لفكرة التوحيد ومنـزع التنـزيه ومفهوم المسافة وفلسفة التجاوز.

ولتعميق هذه الأمور أكثر، وتبيان مدى حرص كل الفرق الكلامية العقدية في تراثنا الإسلامي على إعطاء مركزية خاصة لقضايا التوحيد، يتناول المسيري مذهب بعض الفرق بخصوص هذه المسألة.. فيذكر، مثلاً، أن الأشاعرة ميزوا بين الكلام النفسي- أو الأزلي- والذي هو معنى قائم بالنفس، والدلالات التي تدل على هذا الكلام النفسي الأزلي القائم بذات الله سبحانه من جهة، وبين الألفاظ المنـزلة على لسان الملائكة إلى الأنبياء، وما يرتبط بها من حروف وأصوات، من جهة أخرى.. فقالوا بقدم الكلام النفسي [المدلول]، وبحدوث الألفاظ والحروف والأصوات [الدلالات] وخلقها، وقالوا إن المنزل على محمد r، هو الألفاظ التي هي دلالات على الكلام الأزلي القائم بالذات. فالمنزل محدث ومخلوق، ولم يحدث من جبريل “نقل لذات الكلام”.

ثم يستنتج المسيري المقولة التالية: “يعني هذا أن الدال والمدلول لا ينفصلان في كلام الله، وأن الانفصال يحدث فقط في حالة تنزيل القرآن”. [اللغة والمجاز 134]

إدراك الإله من خلال المجاز القرآني: إشارات ونظرات:

ما هو بسيط تستطيع أن تعبر عنه (أو أن تدركه) من خلال اللغة الرياضية البسيطة والصارمة، أما عندما يتعلق الأمر بقضايا مركبة فإن تلك اللغة تقف عاجزة عن فعلي التعبير والإدراك.. ولما كان الوجود الإنساني يتسم بالتركيب، بحكم تلك النفخة من الروح/ القبس الإلهي التي أودعها الله سبحانه في الإنسان، فإن المجاز يعتبر أفضل وأنجع وسيلة لممارسة فعلي التعبير والإدراك..

وفي نظر المسيري يعتبر المجاز- كذلك- وسيلة بني البشر لإدراك الإله؛ إذ إن المجاز يربط بين بعض صفات الإله المتجاوزة للأسماع والأبصار من جهة، وبعض الشواهد المادية التي تدركها الأسماع والأبصار من جهة أخرى، فهو ربط بين المحدود الإنساني واللا محدود الإلهي، كما يقول المسيري.

لكن، ومن منطلق الآية الكريمة: ]لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[ (الشورى:11)، فإنه في الإطار التوحيدي لن يُدرَك الإله في كل جوانبه.. هذا رغم محاولة الإنسان إدراك الإله من خلال المجاز!

ويحاول المسيري أن يوضح أكثر مرد هذا العجز الإنساني عن الإدراك الكامل للإله، مشيرا إلى الأمور التالية:

أولا: إن الإله ليس كامنًا أو حالاً في الإنسان أو الطبيعة أو التاريخ، أما الإنسان، فرغم مقدرته على التجاوز، إلا أنه يعرف تمام المعرفة أنه يعيش في عالم الطبيعة/ المادة.

ثانيا: مهما بلغ المجاز من تركيب وعمق وجمال، فإن المسافة تظل واسعة، إذ إنه لا يمكنه تشبيهه عز وجل بشيء. وهو لا يتجسد في الأشياء أو يكمن أو يحل فيها، وهو لا يتواصل مع البشر من خلال التجسد والكمون والحلول واختزال المسافات والمساحات والثغرات.

بكلمات أخر، إن الإله هو المركز، أو المدلول المتجاوز، الموجود خارج المادة، ولكنه- والكلام للمسيري- مع هذا يرسل للإنسان رسالة مكتوبة مركبة للغاية، ولأن الإله المطلق هو صاحبها، فإن مضمونها أكثر تركيبا مما يمكن للإنسان أن يحيط به. [اللغة والمجاز 158/ 159].

وفي هذا السياق قد يقول قائل: أنَّى لإله يتميز بالصفات السابقة، المفارقة للإنسان والطبيعة، أن يتواصل مع الإنسان! يجيبنا المسيري قائلا: مع كل ما سبق ذكره، ولأن الإله يريد التواصل مع الإنسان، فقد أرسل، أي الله سبحانه، رسالته بلغة بشرية مفهومة ]لِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ[ [النحل- 103].

ومن الالتفاتات القرآنية، الجميلة والعميقة في آن، التي يتحفنا بها المسيري أثناء تأصيله وتأسيسه لفلسفة التجاوز ولمفهوم المسافة في الإطار التوحيدي الإسلامي، استخراجه لمجموعة من المعاني والإشارات من الآية القرآنية الكريمة: ]قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً[ [الكهف- 109]، يقول المسيري: فلو أننا استخدمنا البحر- هذا السائل المادي النسبي، الذي ستكتب به كلمات إنسانية نسبية- للإشارة إلى المدلول الرباني، لعجزت كل الدوال، لأن المدلول الرباني متجاوز لكل ما هو مادي. وقد استخدمت الآية المجاز(لو كان “البحر”) لحل معضلة التواصل. [اللغة والمجاز 159]

ويمضي المسيري قدما في الوقوف عند طائفة من الآيات الكريمة التي توظف المجاز من أجل التعبير عن العلاقة المركبة: الاتصال والانفصال والتواصل والتجاوز.

من بين هذه الآيات قوله تعالى: ]اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ[ [النور- 35]

يقول المسيري: إن البنية العامة للمجاز هنا هي تقريب الله من الإنسان، من خلال استخدام عناصر من عالم الإنسان المحسوس يتم الربط بينها وبين الله (الله مثل النور)، وتتم عملية الفصل (وتأكيد التجاوز وعدم الكمون) على نطاق مركب للغاية، تظهر في تكثيف المجاز حتى لا نرى مركزا واضحا، ولا نرى علاقة محددة بين الله والنور، إلى أن نصل إلى الصورة المجازية “نور على نور”، وهي صورة بلا مركز خالية تماما من أي كمون أو حلول أو تجسد، تعبر عن المركز المتجاوز.

ويضيف المسيري: وحين نفقد الإحساس بالمركز، فإننا ندرك الإله من خلال المجاز، ولكننا لا نسقط في الإحساس بأنه تمت الإحاطة به تماما من خلال تشبيهه بعناصر أرضية، إذ يظل إحساسنا بتجاوز الله عز وجل للطبيعة والتاريخ إحساسا عميقًا، فهو مثل النور، ولكنه ليس بنور.. فليس كمثله شيء. [اللغة والمجاز 159]

وبعد تطوافه حول الآية السابقة، يقدم المسيري فهمه الرائد والمتقدم للدور الذي يلعبه المجاز في تعميقه لقضية التوحيد.. وذلك من خلال إشارته إلى الوظائف المتداخلة/ المختلفة للمجاز اللغوي عمومًا والمجاز القرآني/ الديني خصوصًا، من بينها:

– المجاز يصدر عن إدراك الإنسان لحدوده الأرضية، ولكنه هو أيضا وسيلتنا لتجاوز المسافة التي تفصل بين الدال والمدلول بشكل جزئي (سواء أكان الإله: المدلول المتجاوز، أم الإنسان: المدلول المركب الذي يحوي داخله قبسا إلهيا، والذي يتجاوز واحدية الطبيعة/ المادة)، فالمجاز والتجاوز- والكلام للمسيري- صنوان.

– المجاز يؤكد الصلة بين الأشياء، ولكنه في تأكيده الصلة يؤكد المسافة بينها، ويؤكد وجود عنصرين (لا عنصر واحد) مستقلين متشابهين غير ملتحمين عضويًّا، لا يفقد الواحد نفسه في الآخر ليظهر كلٌ عضوي جديد.

– المجاز يصدر عن الإيمان بثنائية العالم، فهو- كما يوضح المسيري- صدى للثنائية التكاملية الأولى: ثنائية الخالق والمخلوق. فالمخلوق متميز عن الخالق، ولكن، لأنه يؤمن بالإله الواحد المتجاوز، فإنه لا يفقد الأمل في التواصل معه عز وجل، وهو- أي المجاز- أيضا تعبير عن إمكانية التواصل بين البشر، بكل ما يحملون من أعباء وأفراح وأحزان. [اللغة والمجاز 159/ 160]

التوحيد في الإطار الإسلامي ومفهوم “النسبية الإسلامية”:

يعلق المسيري على قول النحوي القديم: “أموت وفي نفسي شيء من حتى”، قائلاً: إن هذا النحوي قضى حياته يبحث عن المعنى الدقيق لهذه الكلمة، وجمع الكثير من المعرفة، ولكنه يعرف أن فوق كل ذي علم عليم.. ولذا فهو يموت وهو يعرف أنه لم يصل إلى الحقيقة المطلقة، ولكنه لم يغص في العدمية، فالاجتهاد مستمر، والنسق مفتوح، يموت الرجل، وهو مطمئن البال، أنه قد اجتهد وأصاب قدرا من المعرفة، وأن الآخرين يستمرون فيجتهدون ويصيبون فيكون لهم أجران، وسواء أصابوا أم أخطئوا، فإن المعرفة تظل بلا نهاية، فالله- كما يعرف الجميع بإنسانيتهم المشتركة- أعلم [اللغة والمجاز 150]

وانطلاقا من هذه الحقائق، طوّر المسيري مفهوم “النسبية الإسلامية” التي تعني في رأيه الإيمان بأن الله وحده الثابت الذي لا يتحول وما عدا ذلك فمتغير وهو الذي يحيط بكل شيء.

ومرة أخرى يستشهد المسيري بآيات قرآنية تؤسس لمفهوم “النسبية الإسلامية”، كقوله تعالى: ]وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً[ [الإسراء- 85]، وقوله عز وجل: ]وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ[ [يوسف- 76].. ثم يقول المسيري: أما نحن البشر فلا نعرف إلا جزءا من الحقيقة.

وبالمناسبة فإن “النسبية الإسلامية” التي يدعو إليها المسيري لا تؤدي إلى العدمية، فهي- كما يقول- نسبية داخل إطار ولا تمتد إلى المرجعية النهائية ولا تؤدي إلى تعددية مفرطة في المعاني والمراكز، بحيث يصبح العالم بلا معنى وبلا مركز. [رحلتي الفكرية 238]

ولعل من أبرز تجليات رسوخ مفهوم “النسبية الإسلامية” في تفكير وفكر المسيري، ختمه لجل أعماله الفكرية والفلسفية بقوله: والله أعلم.

عود على بدء:

من خلال المكانة التي يحتلها التوحيد في تفكير وفكر المسيري، كما تبين جليا مما سبق، لا عجب أن يتحول مفهوم الله الرحيم العادل، إلى أبرز المفاهيم المركزية في تصوره.. يقول المسيري في كلمات بليغة تنم عن فهم متقدم لروح الإسلام وطبيعته التوحيدية: إن الله ليس إله العرب أو المسلمين أو قوم أو عرق دون الأقوام والأعراق الأخرى، بل هو رب العالمين أجمعين يشملهم بعدله ورحمته.

ومثل هذا الإيمان ليس مجرد تصور نظري جاف لا تترتب عنه مقتضيات عملية وممارسات سلوكية، بل – كما يقول المسيري- إن كل هذه العناصر توسع من آفاق إيماننا وتجعل للآخر مكانًا في عالمنا برغم إيماننا بالإسلام أو ربما بسببه. إذ إن الإسلام من أكثر العقائد تسامحًا وقبولاً للآخر، برغم أنه يحدد الحدود ويضع الفواصل. [رحلتي الفكرية 238].

ونقول – أيضًا- إن ما يقدمه المسيري من آراء وتصورات بخصوص مسألة التوحيد يعتبر توجها رائدا في عرض العقيدة في عالمنا المعاصر.. فما يطرحه المسيري من فهم لجوهر الإسلام- المتمثل في التوحيد- يصلح ليكون بمثابة مقدمات هادية لإعادة المعنى للحياة، هذا المعنى الذي يقدمه التوحيد، في عالم فقد المعنى.

إن الدرس الذي يقدمه لنا المسيري – هنا- يتلخص في أن نظرتنا للتوحيد (كرؤية وفلسفة للحياة) يجب أن تأخذ بعين الاعتبار ما يعرفه العالم من تحديات يفرضها النموذج الآخر المقابل للنموذج التوحيدي. بمعنى أن نحتفظ على أصول العقيدة، أما عرض هذه الأصول فيجب أن تأخذ بعين الاعتبار ما يعرفه النموذج الآخر من تجليات جديدة.

بعبارة أخرى، ومن خلال ما ذكره المسيري بخصوص المركزية التي ينبغي أن يحتلها التوحيد (أو الرؤية التوحيدية) في حياة الإنسان، نفهم جيدا الدوافع القرآنية للتركيز على التوحيد الذي يمثل جوهر العقيدة والذي تعتبره النصوص الدينية/ الإسلامية المحدد الرئيس والقاسم المشترك الذي يجب أن يكون بين كل المختلفين في العقيدة والفكر والنظر.. فالتوحيد هو الذي بمكنه أن يقلص من الآثار السلبية التي قد يسببها هذا الاختلاف، لذلك دعا القرآن العزيز أهل الكتاب كافة إلى الكلمة السواء ممثلة في عبادة الله وحده (التوحيد).

ونستطيع أن نقرر-دون تردد- أن الرؤية التوحيدية قادرة على استيعاب كل الدوائر البشرية المختلفة، وذلك بربط الناس-كل الناس- بإله واحد، وتوجيههم الوجهة الصحيحة؛ وما الأزمة التي يعيشها العالم المعاصر، والفوضى الكبرى التي تطال كل مناحي الحياة المعاصرة، إلا وجه بارز من أوجه غياب -وتغييب- التوحيد والرؤية التوحيدية في حياة الأمم والشعوب. وما ذلك إلا لأن هذه الرؤية التوحيدية هي التي تسأل وتجيب على الغايات والنهايات Les finalites، وهي بدورها التي تحدد معنى لحياة الإنسان.

المبحث الثاني:

التصور الإسلامي في بناء العلاقة بالآخر

ينطلق عبد الوهاب المسيري في مقاربته للعلاقة بالآخر ولمحددات هذه العلاقة، من رؤية لا تعتبر الآخر شرًّا مطلقًا.. أو بعبارات المسيري ليس شرًّا مطلقًا بالوراثة.

ويرى المسيري أن النص الإسلامي يدعو إلى النظر إلى الآخر كـ” معطى موضوعي”، وليس من مطالب الإسلام مطالبة الآخر بالتحول إلى “الأنا”؛ لأن الإلغاء الكامل للفروق بين البشر- يقول المسيري- أمر لن يتحقق إلا في الفردوس بإذن الله خارج التاريخ، وعلى من ينشد الخلاص داخل التاريخ أن يتقبل جدلية الواقع الإنساني كحقيقة قائمة وكإمكانية كامنة، وأن يتخلى عن أحلامه الرومانتيكية بالفردوس الأرضي الذي لا تحده حدود ولا سدود. [الفردوس الأرضي، ص: 140]

ولعل مسألة “الموقف” من اليهود (وبالتحديد إسرائيل)، وكذلك الموقف من الغرب/ أمريكا- ولو بدرجة أقل- في الكثير من الأدبيات الإسلامية تتسم بقدر كبير من التعميم، الذي يجعل كل هؤلاء القوم في سلة واحدة، ويتم التعامل معهم ككتلة واحدة، لا ترى تناقضات في صفوفها، وجيوبا تعاكس الاتجاه” الشرير”، أي أن الآخر شر مطلق ولا يمكن أن يتحول هذا الشر إلى خير، ولو إلى خير نسبي!

ربما كان للنـزوع العدواني الإسرائيلي والأمريكي (والغربي عمومًا) حصة الأسد في تفسير ذلك الموقف الإسلامي الذي يجعل هؤلاء أعداء بالوراثة، أي أن جيناتهم هي جينات مسؤولة عن “خلق” الشر ولا يمكن تغييرها، فهي باقية إلى الأبد!

هذا النوع من الخطاب يسميه المسيري الخطاب “الشبه الإسلامي”؛ ذلك أن هذا الخطاب- في رأيه- يستخدم ديباجات إسلامية دون الالتزام بالقيم الإسلامية. وينظر المسيري إلى هذا النوع من الخطاب كجزء من نموذج “المؤامرة”، ويلاحظ شيوع هذا النموذج خاصة في الديباجات الإسلامية المناهضة لإسرائيل.

بداية يوضح المسيري أن الإسلام يؤكد أن الإنسان يولد على الفطرة الإنسانية، بكل ما فيها من خير وشر، وأن أبويه يهودانه أو ينصرانه. ويستنتج- المسيري- أن مفهوم الهوية كنتاج للاستمرارية الوراثية (الجنينية، نسبة إلى الجينات الوراثية)، أمر غير معروف في الإسلام. بل إن المبدأ الحاكم- في تصوره- هو قوله تعالى: ]وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى[ [الإسراء- 15]. [البروتوكولات 206]

وفي كل هذا، يعتمد المسيري على بعض كتب التفسير لتقرير مثل هذه الملاحظات ذات الصبغة التأسيسية.

الاستمرارية الوراثية والسقوط في الرؤية العلمانية

قد يبدو أن التوجه التآمري ذي الخلفية “الإسلامية” توجه أصيل قادر على الحفاظ على انتمائه الأصيل لروح الإسلام ومقاصده الحقيقية! لكن في نظر المسيري تترتب عن هذا التوجه جملة من النتائج التي قد تقف على طرف النقيض من طبيعة المنظومة الإسلامية.

وفي هذا الصدد يذكر المسيري أن التآمريين حينما يتبنون مفهوم الهوية كنتاج للاستمرارية الوراثية، فإنهم يتبعون مفهوما علمانيا ماديا غير إسلامي، يرى أن العقيدة مسألة بيولوجية وليست مسألة إيمانية.

ويعمق المسيري هذه المسألة تفصيلا مشيرا إلى أن الرؤية العلمانية المادية ترى اليهودي يهوديا بالوراثة، ولذا فيهود هذه الأيام- والكلام للمسيري- هم ورثة يهود الماضي، وكلهم يتوارثون نفس الهوية الشريرة ونفس الجينات. [البروتوكولات 206]

ولا يكفي المسيري- في هذا الصدد- بإصدار الأحكام على عواهنها دون أن يقدم معالم المنظور الإسلامي الأصيل التي ينبغي أن نحتكم إليها في تعاملنا مع اليهود.. ويمكن تطبيق هذه المعالم حتى مع الفئات الأخرى التي تشكل ” آخرًا” بالنسبة لنا، من هذه المعالم:

المعلم الأول: لا يمكن أن يؤخذ يهود هذه الأيام بجريرة يهود الماضي، فهذا لا يجوز، لأن الخطيئة- يقول المسيري- مثل الاستقامة لا تورث.

المعلم الثاني: لا يمكن للمسلم الملتزم بتعاليم دينه أن يوجه الاتهام إلى أي إنسان جزافًا، كما لا يمكن لرؤية دينية حقة أن تحكم على الفرد باعتباره تجسدا لفكرة، إذ يظل كل إنسان مسؤولاً عن أفعاله.

المعلم الثالث: الانطلاق من تعريف الإسلام لحقوق الأقليات، خصوصًا أهل الكتاب، فحدد أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وهي حقوق مطلقة لا يمكن التهاون فيها.

وقد تجسد هذا الفكر التآمري فيما يعرف بالبروتوكولات. وقد كرس المسيري جهدًا علميًّا متميزًا في نقد هذه البروتوكولات، وبيان مدى زيفها، في ثنايا جل كتبه، بل لم يكتفِ بهذه النتف المنثورة في كتبه، إنما أصدر مؤلفًا كاملاً، خصصه للحديث بشكل مركز عن مسألة البروتوكولات، وعنوان الكتاب: “البروتوكولات واليهودية والصهيونية”.

ولقد تحولت فكرة البروتوكولات، من كثرة تداولها دون نقد وتمحيص، إلى مسلمة لا يجوز المساس بها.. بل مجرد أن يتبادر إلى الذهن التشكيك في نصوصها المختلفة، فهو من قبيل المستحيلات.. بل وأثناء تحليله لمسألة البروتوكولات، رأى المسيري أن استخدامها لاتهام اليهود فيه سقوط في العنصرية والعرقية التي تصنف الناس لا على أساس أفعالهم وإنما على أساس مادي لاديني (علماني) مسبق وحتمي. ولذا- يضيف المسيري- فهي لا تميز بين ما هو خير وما هو شرير، وهذا ما يحرص عليه الخطاب القرآني الذي لا يتحدث عن أهل الكتاب (بما في ذلك اليهود) في عموميتهم، وإنما دائما يخصص، وقد سرد المسيري مجموعة من الآيات القرآنية للتأكيد على مذهبه في المسألة. ( الآيات: البقرة 62، آل عمران 113/ 114/ 199/ 75، العنكبوت 46). [البروتوكولات 207/ 208]

الاستمرارية الوراثية والسقوط في المقولات الصهيونية:

في بعض الأحيان يعتقد المرء أن الخطاب الذي ينتجه أصيل ولم تلوثه أفكارًا ومقولات تقف على نقيض منطلقات ومرجعية ذلك الخطاب. إذ كيف يمكن أن يتخيل المرء أن جزءا من الخطاب الإسلامي المتعلق بإسرائيل وكيفية إدارة الصراع معها، قد اخترقته جملة من المقولات الصهيونية، وهو- أي هذا الخطاب- الذي نذر نفسه من أجل مواجهة إسرائيل والصهيونية؟ وأنَّى لخطاب من هذا النوع، الملوث بمقولات صهيونية من حيث لا يدري، أن يكسب المعركة ضد إسرائيل ومن ورائها الصهيونية!!

ومن عادة المسيري أنه يركز دائما على ما يمكن تسميته بـ”الاختراق الخفي”، حيث يتبنى المرء نموذجا ومقولات دون أن يدري انتماءهما لحقل فلسفي وحضاري معين. وربما وجدنا الكثير من الناس يلعنون ليل نهار إسرائيل وأمريكا، لكن تجدهم من ناحية أخرى يتبنون أنماطهم في التفكير، ويعتمدون مناهجهم في المقاربات المختلفة، وينتصرون لمعاييرهم في التصنيف والرصد والتحليل.

ومن خلال كتابات المسيري نصل إلى تقرير فكرة مفادها أن من يتبنى في تفكيره “نظرية الاستمرارية الوراثية” يتبنى روح ومقاصد المقولات الصهيونية. وتفصيل ذلك أن إسرائيل نفسها تستخدم بعض التفسيرات الحرفية لتأتي بسند قرآني للدعاوى الصهيوينة الخاصة بالاستمرارية الوراثية، هذا السند هو قوله تعالى: ]يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ[ [البقرة- 122]، وقوله تعالى: ]وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ[ [الجاثية 16].

ثم يقول المسيري: وما يفعله المفسرون الصهاينة أنهم ينـزعون هذه الآيات من سياقها القرآني المركب المتكامل، ثم يفرضون عليها معنى صهيونيا، بحيث يصبح الشعب المختار، شعبا مختارا من خلال الوراثة الجنينية المادية، مع أن النص في كليته، يضيف المسيري، يقول عكس ذلك تماما. فقد جاء في سورة البقرة: ]يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ[ [البقرة 40].

ويعلق المسيري قائلا: فالاختيار مشروط بالإيمان والوفاء بالعهد، وليس مسألة وراثية كامنة في الجينات.

ويمضي المسيري في دعمه لهذه الأقوال، مستعينا بآيات قرآنية من قبيل قوله تعالى: ]لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ[ [المائدة – 70]، وقوله تعالى: ]وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ[ [الأعراف- 138].

يقول المسيري تعليقا على هذه الآية: فالمسألة ليست غير مشروطة ولا مطلقة، بل هي مشروطة ومقيدة، تماما كما هو الأمر مع المسلمين، فنحن- والكلام للمسيري- ]خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ[ [آل عمران 110] طالما نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونؤمن بالله، وإن لم نوف هذه الشروط فلا خير فينا ولا نفع، وما نحن بخير أمة [البروتوكولات 211]

آليات التعامل مع النص الديني/ القرآني:

من خلال مجموعة من النصوص التي كتبها المسيري، وجدنا أن مقاربة المسيري لقضية العلاقة بالآخر، ومعرفته، وتقدير موقف سليم منه.. وجدنا أن هذه المقاربة تحكمها مجموعة من الآليات.. كما أن ما يقال عن التعامل مع اليهود (أو الجماعات اليهودية في مصطلح المسيري) ينطبق أيضا على الجماعات البشرية الأخرى؛ فالمسيري يستعمل “اليهود” كحالة للدراسة، وليس كحالة نهائية مكتفية بذاتها.

وسنحاول أن نتناول هذه النقطة من خلال التأشير على الآليات التالية، وهي:

الآلية الأولى: وضع الآيات في سياقها وضم بعضها إلى بعض:

من أبرز الآيات التي يستند إليها هؤلاء الذين يريدون تأسيس الجهاد على أساس الكره، الآية 82 من سورة المائدة: ]لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا[. وبخصوص التعامل غير السليم مع هذه الآية الكريمة يقدم المسيري الملاحظات المنهجية التالية:

الملاحظة المنهجية الأولى: يشير المسيري إلى أن هؤلاء الذين يعتمدون على هذا النص الكريم من أجل الانتصار لـ” فكرة الكره” والتأصيل لـ” نظرية الاستمرارية الوراثية”، هؤلاء يتركون عشرات الآيات والسور التي ذكرت من قبل؛ أي لا يعمدون إلى ضم الآيات بعضها إلى بعض في سبيل الحصول على رؤية شاملة بخصوص هذا الموضوع أو أي موضوع آخر.

الملاحظة المنهجية الثانية: يقوم هؤلاء باقتباس هذه الآية ونزعها من سياقها واجتزائها، فهم- يقول المسيري- يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض. فهي عملية انتقائية تطوع النص المقدس بدلا من طاعة ما جاء فيه، ومحاولة تنفيذه.

الملاحظة المنهجية الثالثة: يدعو المسيري بناء على وضع الآيات في سياقها وضم بعضها إلى بعض، إلى اعتبار تلك الآيات مجرد وصف لحالة، وهي حالة لا يتقبلها الإسلام ولا يحبذها. وتفصيل ذلك عنده أن تلك السورة لا تدعو إلى بغض اليهود وإنما تنبه على أن بعض اليهود يبغضوننا، فهي- كما يقول المسيري- ليست دعوة وإنما وصف لحالة.

الملاحظة المنهجية الرابعة: مما يساعد على وضع الآية في سياقها الإلمام بـ” أسباب النـزول”، وبخصوص الآية الكريمة السابقة يذكر المسيري أنها نزلت في النجاشي وأصحابه، ومن ثم فالسياق مقيد ومن العسف إطلاقه.

الآلية الثانية: الاستعانة بشواهد التاريخ لتفهم النصوص الدينية

أصحاب “نظرية الاستمرارية الوراثية” تقودهم نظريتهم إلى اعتبار أن مسألة التعايش مع اليهود (والآخر عمومًا) مستحيلة، وأن الأصل هو الصدام والعداوة معهم.. وينطلقون من زعمهم هذا من مجموعة من النصوص الدينية، القرآنية في الغالب، التي بينت بعض أساليب وممارسات اليهود الشريرة.

لكن المسيري يحاول ما أمكن أن يعيد قراءة تلك النصوص- وفيها نصوص ظنية في دلالتها- انطلاقا من التاريخ الإسلامي الذي كانت تؤطره المرجعية الإسلامية في كل مناحي وأوجه الحياة.

فيلاحظ المسيري أن التاريخ الإسلامي قد شهد الحقائق التالية:

الحقيقة الأولى: التاريخ الإسلامي عامل أعضاء الجماعات اليهودية من خلال مفهوم أهل الذمة (أي الذين هم في ذمة المسلمين)، وهو مفهوم قانوني لا علاقة له بالحب أو الكره.

الحقيقة الثانية: إن هذا التاريخ لم يشهد عمليات هجوم أو إبادة أو طرد لليهود، وأن هناك أعدادا كبيرة من اليهود دخلت الإسلام وحسن إسلامها وانصهرت في صفوف المسلمين. وفي هذا السياق يبدي المسيري ملاحظة في غاية الدقة، قد تساهم في إعادة قراءة النصوص الواردة في المسألة بشكل أكثر دقة، هذه الملاحظة عبارة عن تساؤل: وإلا فبم نفسر أن اليهودية كانت بالأساس ظاهرة شرقية إسلامية، توجد داخل العالم الإسلامي، ثم تحولت بالتدريج إلى ظاهرة غربية مسيحية؟

الحقيقة الثالثة: تأسيسا على الحقيقة السابقة، وإنصافا لحقائق التاريخ، يؤكد المسيري أن عمليات الطرد التي تمت في بداية الحكم الإسلامي يمكن تفسيرها من منطلق أمرين اثنين، وهما:

الأمر الأول: تلك العمليات كانت نتيجة لخرق المواثيق مع المسلمين، وبالتالي فهي تهدف إلى تأمين قلب الأمة الإسلامية.

الأمر الثاني: كان عقاب الطرد لجماعة بدوية عقابا مقبولا لدى الجميع، وكان يعني إعادة التوطين في منطقة أخرى. [البروتوكولات 208]

بل الأكثر من ذلك، لم يكن اليهود في بعض الفترات من تاريخ المسلمين كتلة محايدة، ولكن وقفت إلى جانب المسلمين ضد جماعات أخرى.. الأمر الذي يعني أن هذا النص التاريخي، النابع من النص الإسلامي/القرآني المنفتح، يحمل في داخله إمكانية للتحقق مرة أخرى، أي هي إمكانية منفتحة على الزمان.

وفي السياق نفسه يذكر المسيري حدثين اثنين كمؤشرين على هذه الإمكانية، وهما:

الحدث الأول: حينما نشبت الحروب مع بيزنطة ثم مع ممالك الفرنجة لم يظل اليهود أشد الناس عداوة للمسلمين؛ فكثير من اليهود حاربوا في صفوف المسلمين ضد بيزنطة وممالك الفرنجة.

الحدث الثاني: حدث نفس الشيء في شبه جزيرة ليبريا، حتى أن كثيرا من أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب- يؤكد المسيري- اتهموا إبان تلك الفترة بالتجسس لحساب المسلمين. ولم يكن هذا الاتهام بلا أساس، إذ قام بعض اليهود بالفعل بإرسال معلومات عن حملات الفرنجة قبل وصولها إلى بلادنا. وأكثر من ذلك فإن اليهود كانوا يعتبرون حلفاء للمسلمين حتى أن بعض الرسوم المسيحية في العصور الوسطى تصور الرسول ﷺ وهو يجلد المسيح مع اليهود. [البروتوكولات 214]

ويقول المسيري بأنه ورد الكثير عن اليهود في القرآن والسنة، لكن في التاريخ الإسلامي لم نجد أي مواجهة بين المسلمين واليهود بعد قيام الدولة الإسلامية. ولذلك- يضيف المسيري- كان اليهود يفرون من أوروبا إلى العالم الإسلامي ولا توجد مذابح ضد اليهود عبر التاريخ الإسلامي.

إن التاريخ يقول: إن اليهود السامريين ساعدوا المسلمين في فتح القدس، وفي فتح الأندلس، وهذا دليل على عظمة الإسلام؛ لأنه الديانة الوحيدة التي تسمح للآخر بحقوقه وتجعله جزءا من الأمة من خلال مفاهيم مستقرة في الإسلام لا يمكن الرجوع عنها.

ويضيف المسيري قائلا: إن الخديوي عباس كان يكره الأقباط، وأراد أن ينفيهم إلى السودان.. لكن شيخ الأزهر تدخل وقال له: إذا كان الإسلام قد تغير فيمكن أن تنفيهم.. لكن حسب معلوماتي فهو لم يتغير.. وبالتالي فنفيهم لا يمكن ولا يجوز.

بكلمة، إن ما سبق يقف دليلا على أن التفكير البروتوكولي الذي يضع اليهود، كل اليهود في سلة واحدة، ويفترض استمراريتهم الوراثية عبر الزمان والمكان، مناقض للقيم والممارسات الإسلامية. [البروتوكولات 208]

الآلية الثالثة: الالتفاف حول قيمة العدل في مقاربة النصوص:

عندما نكون أمام نصوص إسلامية/ مرجعية متعددة- تبدو في ظاهرها متعارضة-؛ كأن تكون بعض النصوص تحرض على القتال، وأخرى تدعو إلى السلم.. فينبغي معرفة أن أساس مثل هذه المواقف هو إقامة العدل في الأرض، وليس معناه تصفية حسابات مع هذا الطرف أو ذاك؛ إذ الأصل في الإسلام أنه يمنح المعنى لحياة الناس، وليس من حق المسلمين أن يمارسوا نوعا من الكره من أجل الكره، فهذا منطق بعيد كل البعد عن فلسفة الإسلام في الوجود.

ويكثف المسيري الاستشهاد بمجموعة من النصوص القرآنية التي ترسخ في ذهنية الإنسان المسلم أن الإسلام ليس هوية عرقية تنادي بأن “المسلمين فوق الجميع”، وإنما هو منظومة قيمية نؤمن بها ونحتكم إليها، كما يمكن للآخرين الاحتكام إليها.. من هذه النصوص قوله تعالى: ]قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ[ [آل عمران 64].

يعلق المسيري على هذه الآية قائلا: هذه هي رسالة المسلمين والعرب، وهذا هو الخطاب الجهادي الإسلامي الذي يعبئ جماهيرنا تعبئة صحيحة، ويحدد لها الأولويات.

ويقف المسيري مليا عند الآية الكريمة: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[ [المائدة- 8]، ويولد من هذه الآية القاعدة التالية: إن البغض ليس هو الأساس وإنما العدل. ويزيد هذه القاعدة وضوحا في قوله: إن العدل هو القيمة الإسلامية الأساسية وليس كره اليهود. [البروتوكولات 213]

إن هذه القاعدة هي الأساس التي من خلالها يجب أن نحدد علاقاتنا بالآخر، فالإسلام ليس له أدنى مشكلة مع الإنسان، وهو حر في اختياراته العقدية والفكرية والجمالية، لكن المشكلة تبرز عندما يهيمن الظلم ويغيب العدل.

لقد كانت تلك القاعدة المعيار الذي من خلاله يتم تحديد درجة الابتعاد أو الاقتراب من روح الإسلام.. بل لقد كانت مؤشرا معتمدا في قياس درجة وعي المسلمين بطبيعة دينهم ومنظومتهم الحضارية. وهذه القاعدة كانت- أيضا- المحرك الأساسي لخوض المعارك في تاريخ أمتنا.. وفي هذا الصدد يذكر المسيري أنه حينما هاجم الفرنجة (الذين استخدموا ديباجات مسيحية لشن الغارات على المسلمين) أرض فلسطين واغتصبوها وأسسوا ممالكهم فيها، حاربناهم- والكلام للمسيري- وصددناهم عن ديارنا، لا لأننا نكرههم وإنما لأننا ضد الظلم.

بل إن من مقتضيات تلك القاعدة الذهبية، أنه حتى لو غزا فلسطين فريق من المسلمين، فسنقف ضدهم لنصدهم عن الظلم الذي ارتكبوه.

ويربط المسيري بشكل رائع بين ثلاث مشاهد من الآيات ليقوي به مذهبه الذي اختاره في هذه المسألة، هذه الآيات هي: ]وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[ [الحجرات: 9].. وجعل نهاية القتال هو الانتهاء عن الظلم ]فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [البقرة: 192] (فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ[ [البقرة: 193]. [البروتوكولات 213]

من جهة أخرى، يريد المسيري بعض مسوغات دعاة ” الاستمرارية” في تبنيهم لفكرة ” كره اليهود”؛ ففي رأي هؤلاء أنه إن نظرنا إلى إسرائيل باعتبارها دولة استعمارية استيطانية إحلالية، وابتعدنا عن كره اليهود، نكون- كما يقول هؤلاء- قد استبعدنا البعد الديني من الصراع، والبعد الديني هو الذي يحرك الجماهير.

بداية يعترف المسيري بجوهرية البعد الديني في الإنسان، وتتمثل هذه الجوهرية فيما يلي:

أولا: هو من صميم إنسانية الإنسان، وهو ما يفصله عن الحيوان الأعجم وعالم المادة.

ثانيا: لذا فالبعد الديني له أبعاده المعرفية والعلمية الإجرائية والأخلاقية الدينية.

ثالثا: الدين هو الذي يدفع الإنسان لتجاوز واقعه المادي المتردي ويجاهده.

لكن مع كل هذه المزايا المعرفية والأخلاقية التي يتميز بها الدين، يدعونا المسيري إلى أن نذكر أنفسنا- كمسلمين وكعرب- أننا لا نحارب إسرائيل لأننا نكره اليهود، بل نحارب الصهيونية وإسرائيل لأننا نكره الظلم ونود إقامة العدل في الأرض، وهذا ما تعلمناه من الإسلام ومن حضارتنا العربية [البروتوكولات 212]

بكلمة جامعة، إن رؤية المسيري لعلاقة “الأنا” بـ”الآخر” نابعة من إيمانه العميق بكون “التنوع” هو سمة الوجود الإنساني التاريخي، وأي محاولة لإلغاء التنوع أو تجاهله هي محاولة فردوسية تدور في إطار الأساطير أو البدائل المستحيلة! [الفردوس الأرضي، ص: 139]

وقد يعتقد البعض أن المشروع العلمي الضخم الذي أنجزه المسيري(بمشاركة ثلة من المفكرين والباحثين والعلماء)؛ أقصد مشروع ” فقه التحيز”، قد يعتقد هذا البعض الأفكار التي ضمها هذا المشروع تكرس الانكفاء على الذات وتقديسها، والاعتقاد بأن تحيزات الآخر لا تهمنا لأنها غير صالحة لنا!! في حين نرى أن الدافع إلى مثل هذا المشروع هو الانتصار لقيمة التنوع وبالتالي الانتصار للإنسان. وبكلمات المسيري نقول: إن الحديث عن التحيز هو هدم لرؤية النظام العالمي الجديد، لأن التحيز يعني أيضا أن كل إنسان له رؤيته، أي كل إنسان له خصوصيته، وإذا كانت المنفعة الاقتصادية الشيء الأهم بالنسبة للإنسان الغربي، فهو حر في اختياراته، قد تكون لي اختيارات أخرى، وإنجازات أخرى. [تحيزات المعرفة، ص: 23]

وكما رأينا فإن المسيري منسجم أيما انسجام مع الرؤية القرآنية لـ”الغير” أو “الآخر” أو “المخالف”؛ إذ أن هذه الرؤية الإسلامية بطبيعتها المنفتحة والواقعية لا تطالب الآخرين – غير المسلمين- بالتخلي عن أفكارهم وتصوراتهم الخاصة، ولا تفرض عليهم منهجه الخاص في الحياة؛ فالإسلام يعترف بكل الاتجاهات العقدية المختلفة، والقرآن الكريم يتحدث عن أهل الكتاب كمعطَى (واقع) لا ينبغي تجاهله وإنكاره، والمنطق القرآني والحكمة النبوية يعارضان بشدة تلك الدعوات التي تسعى-نظريا وعمليا- إلى إلغاء الآخر وصهره في الذات وجعله يتماهى بشكل كلي مع “الأنا”، ويرفضان –أيضا- تلك النداءات التي تروم تنميط العالم.

المبحث الثالث:

سؤال “الأسرة” و”المرأة” ومتعلقاتهما

يمكن اعتبار ما تعيشه المجتمعات الإنسانية من عنف وتفكك أسري وغياب لمعنى الحياة نتيجة منطقية لسيادة وهيمنة الرؤية الغربية ونظرتها إلى الكون والحياة والإنسان. ومن هنا نعتقد أنه يستحيل- في نظرنا- أن نفهم جملة من الظواهر الاجتماعية-كالتفكك الأسري مثلا وغيرها..- فهمًا صحيحًا دون إحالتها على النموذج الغربي، الذي اخترق بأفكاره وسلوكه دوائر بشرية (منها الدائرة الإسلامية) كانت إلى حد قريب تستند إلى مجموعة من الضوابط الدينية (سلطة الدين) والاجتماعية (سلطة الأعراف والعادات)، هذه الضوابط التي تمنع وتحول دون حدوث هذا النوع من الانحراف والتفكك الأسري وبالتالي المجتمعي؛ الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى تدمير الإنسان والقضاء على فرادته وتميزه.

فكلما اقتربنا من فهم دقيق للنموذج الغربي، كلما كان استيعابنا للظواهر الاجتماعية المختلفة دقيقا.. فينبغي ألا يقتصر منهج الدراسة وآليات الفهم على العوامل الداخلية لكل مجتمع من المجتمعات، بل ينبغي أن نلاحظ ما يتميز به عصرنا من اختصار للمسافات الجغرافية؛ هذا الاختصار الذي سهل انتقال الأشياء والمنتوجات، كما يسر- وهذا هو المهم- انتقال الأفكار والقيم والسلوكيات بسرعة قياسية لم يعرفها أي عصر من العصور.

من هذا المنطلق سنحاول أن نقترب من فهم هذا النموذج الغربي- الذي نحسب أنه السبب الرئيس الذي يقف وراء ما يعرفه عالمنا المعاصر من ظواهر اجتماعية مرضية- وذلك عن طريق الإشارة إلى بعض المداخل الأساسية التي يقارب بها د.عبد الوهاب المسيري بعض القضايا الاجتماعية المتعلقة بالمرأة والأسرة.

ونشير إلى أنه إذا أردنا فهم الكثير من الظواهر الاجتماعية التي يحبل بها واقعنا المعيش ينبغي أن نبتعد قدر الإمكان عن المقاربات السطحية التي لا تنفذ إلى أعماق الإشكالات، وأن نأتي البيوت من أبوابها.. ونحسب أن كتابات د.المسيري خير باب يوصلنا إلى ولوج بيت الإشكالات الفكرية والاجتماعية المعاصرة.

المدخل الأول: تحويل الكيف إلى كم من خلال دراسة “ثمن التقدم”:

يقترح د. “المسيري” على المشتغلين بقضايا الفكر والنظر علما جديدا يسميه”علم الأزمة”، ومن بين مباحث هذا العلم الكشف عن “ثمن التقدم”، وبعبارة أدق: تحويل الكيف إلى كم.

ويمكن نهج هذا الطريق أثناء التعامل مع كل الظواهر الاجتماعية المختلفة التي تعيشها المجتمعات الغربية – على وجه الخصوص-، والتي تتم “عولمتها” لتشمل كل المجتمعات الإنسانية (من أبرز هذه الظواهر: المخدرات، الإباحية، تآكل الأسرة، الشذوذ الجنسي..)، ويمكن اعتبار هذه الظواهر ذات طابع بنيوي في المجتمعات الغربية التي يقال لها متقدمة، فلا بد من حساب تكلفتها المادية الظاهرة، وتحويل تكلفتها المعنوية الخفية والكامنة إلى أرقام.

نموذج تطبيقي:

* الطلاق: ومن ضمن تكاليفه:

– تشتت الأطفال- زيادة في التخريب في المدارس- حالات الانهيار العصبي.

مع ملاحظة مهمة وهي أن شركات التأمين في الولايات المتحدة تزيد تكاليف التأمين على المطلقين.

*عمل المرأة: من ضمن تكاليفه الفعلية:

الخدم – هبوط المستوى التعليمي بين الأطفال – تآكل الأسرة – زيادة معدلات الطلاق- ازدحام الشوارع. [الفكر الغربي…، مجلة إسلامية المعرفة، العدد 5، السنة 2، ص: 133.]

إن هذه المقاربة للقضايا الاجتماعية (عمل المرأة، الطلاق..) التي لها علاقة بسؤال المرأة، ستسمح للخطاب الإسلامي المعاصر من الانتقال من مرحلة الدفاع والاحتماء بالتراث، إلى مرحلة الهجوم وإعلان إفلاس النموذج الغربي…

المدخل الثاني: توظيف المباحث اللسانية في مقاربة القضايا الاجتماعية المتعلقة بسؤال المرأة:

من بين أشكال التحيز التي يرصدها د.”المسيري”، هو التحيز الناجم عن ارتباط الدال بسياقه الحضاري الذي نشأ فيه ومحدودية حقله الدلالي، ومن ثم قصوره عن الإخبار عن مدلوله إن نقل إلى سياق حضاري جديد، فإذا تم هذا النقل نكون أمام حالتين – على الأقل-:

الأولى: يصبح الدال في هذه الحالة مصدرا لدلالات لا توجد في الواقع.

الثانية: يصبح الدال ستارا يخبئ جوانب من المدلول.

ولتوضيح العلاقة التي تربط الدال بالمدلول، يعرج المسيري في أبحاثه على بعض القضايا والإشكالات الأساسية ذات الطابع الاجتماعي، والتي لا يمكن مقاربة وتناول سؤال الأسرة والمرأة- في واقعنا المعاصر- دون ذكرها.. وهذه بعض من هذه القضايا:

المدخل الثالث: استخدام كلمة “أسرة” في سياق غربي علماني حديث، يختلف مدلولها عنه في سياق عربي إسلامي تقليدي:

بداية، يشير “المسيري” إلى أن الأسرة في السياق الأول (الغربي) تنتمي إلى المجتمع التعاقدي التناحري، بينما الأسرة في السياق الثاني (العربي الإسلامي) تنتمي إلى المجتمع التراحمي.

بعد هذه الإشارة يذكر المسيري، أوجه الاختلاف بين السياقين، و التي تتمثل فيما يلي:

– درجة التماسك بين أعضاء الأسرة.

– تضامن أعضاء الأسرة.

– مسؤولية الأبوين في المجتمعين المشار إليهما (امتداد المسؤولية/ تقلص المسؤولية).

يقول د. المسيري: “ففي المجتمع الأول– التعاقدي التناحري- تنتهي تماما المسؤولية العاطفية والأخلاقية عند بلوغ الطفل السادسة عشرة، وتنتهي المسؤولية الاقتصادية بعد ذلك ببضع سنين. وحتى بعد ظهور الأسرة النووية في المجتمعات الإسلامية نجد أن علاقتها لا تزال قوية بالأسرة الممتدة، وتظل مسؤولية الأبوين قائمة رغم بلوغ أطفالهما سن الأربعين أو ما يزيد وهكذا”. [هاتان تفاحتان حمراوان، منبر الشرق، العدد2، يونيو 1992، ص 97-98.]

إيضاحات في هذا الصدد:

إن الدولة بمنطقها الغربي، تفضل – دائما- التعامل مع الوحدات الضخمة بدلا من الوحدات الصغرى (الأسرة والجماعات العضوية المترابطة) وفي نظر المسيري، فإن هذا التفضيل يعبر عن التحيز الغربي ضد الأسرة والجماعة، ويفسر قيام المؤسسات العامة البيروقراطية بالاضطلاع بوظائفها. فالدولة – والكلام دائما للمسيري- تتعامل مع الإنسان فيما يسمى رقعة الحياة العامة، ولذا فهي تتحيز لـ:

الخارج و البراني على حساب الداخل و الحيواني.

التعاقد على حساب التآلف.

الحياة العامة على حساب الحياة الخاصة.

بكلمة، إن الدولة على مستوى من المستويات، تحاول أن تحل محل الضمير.

إن الوحدة التحليلية التي تتعامل معها الدولة هي الفرد (المواطن- الإنسان الطبيعي) وهو فرد- في اعتقاد المسيري- يوجد خارج أي مؤسسات وسيطة (الأسرة- الجماعة- الكنيسة) ولذا فهو لا يكتسب هويته إلا من السوق أو مؤسسات الدولة العامة (المدرسة- التلفزيون- الإعلانات).

بكلمة أخرى، إن عزل الفرد عن المؤسسات الوسيطة تجعله في قبضة الدولة ومؤسساتها. [فقه التحيز، في: إشكالية التحيز، ج1/ ص46. المعهد العالمي للفكر الإسلامي ونقابة المهندسين، الطبعة الأولى: 1415هـ/1995م.]

إن الحضارة الصناعية الغربية –يقول المسيري- ليست عالمية كما يقولون، بل العكس إنها تمثل الانحراف الأساسي عن مسار الإنسانية لأنها خربت العديد من المؤسسات التي ترتبط بها الظاهرة الإنسانية نفسها (…) فالأسرة كمؤسسة، مسألة أساسية للظاهرة الإنسانية. [مجلة الإنسان (حوار): ص32. العدد السابع، السنة الثانية، مارس 1992م. ( حاوره غسان بن جدو)]

*الأسرة في المجتمعات التقليدية(1):

إن كل المجتمعات التقليدية في العالم، كانت مبنية على الأسرة (..) ومن ثم فإن كل الحركة الاجتماعية تدور حول الأسرة التي في داخلها يتم تقسيم الأدوار بشكل اجتماعي واضح، فالأنثى أم، والذكر أب، وكلٌ يعمل بمقدار ما هو عليه. والإسلام يقبل هذه الحقائق الأساسية، ويتحدث عن حقوق المرأة، ولكن ليس كأمر فلسفي مطلق، وإنما داخل التركيبة الاجتماعية، داخل المؤسسة الوسيطة، الأسرة.

وأنا أزعم – والزعم للمسيري- أننا لحد الآن لم نكتشف أي مؤسسة كبرى للتنشئة غير الأسرة، والمضحك أن المؤسسات الحديثة تؤدي إلى فقدان الفردية وليس إلى تدعيمها كما يقولون. [نفسه، ص:32-33]

الأسرة وتأمين المرأة… منطلقات أساسية للنهضة الإسلامية:

إن النهضة الإسلامية – في تصور المسيري- يجب أن تنطلق من الأسرة، ومن ثم تأمين المرأة، والتأمين الذي يقصده هو إيجاد ضوابط للرجل بعدم الطلاق لأتفه الأسباب، أو الزواج بثانية لمجرد المتعة..

الأسرة مؤسسة وسيطة لتنشئة الأطفال:

إذا نجحنا – والقول للمسيري- في عملية تأمين المرأة، فقد أفلحنا في إيجاد أهم خلية في المجتمع لعملية البعث الحضاري، لكننا لو نتخلى عن المرأة فهذا يعني تخلينا عن الأسرة و بالتالي عن المؤسسة الوسيطة لتنشئة الأطفال. و يزيد المسيري هذه الفكرة وضوحا معتبرا، أن فكرة “الله” تنشأ عند الطفل من خلال علاقته بالأب الرحيم، الذي يضربه، يقبله و يعاقبه. هذه هي عملية تجاوز المادة معرفيا؛ إن الدخول في علاقة مركبة من خلال العلاقة مع الأب يظهر الفكر التجريدي المركب الديني، وتصبح فكرة “الله” ممكنة.

في مديح الأسرة “الممتدة” ونقد “الأسرة النووية”:

يؤسس المسيري نظرته لهذين النوعين من الأسر على ملاحظة مجموعة من الإشارات الأساسية والمتداخلة فيما بينها، وهي:

الإشارة الأولى: يرى المسيري أنه في إطار الأسرة النووية يجابه الإنسان أعباءه اليومية كلها بمفرده دون توجيه أو مساعدة، كما أن الأطفال يمثلون عبئا ثقيلا عليه، لأن في العائلة الممتدة يكون للأطفال مجتمعا هرميا خاصا بهم، يسيرون أمورهم بنفسهم، ويتبادلون الخبرات والمعلومات فيما بينهم دون اللجوء إلى الكبار في كل صغيرة وكبيرة، مما يخفف العبء النفسي إلى حد كبير.

الإشارة الثانية: إن بناء الأسرة النووية، يقول المسيري، بناء ضيق خانق، فالزوج لا يخرج إلا مع زوجته، وبالتالي لا تخرج هي إلا معه.

الإشارة الثالثة: في داخل إطار الأسرة النووية لا يمكن للرجل المتزوج إلا أن يصادق رجالا متزوجين، ولا يمكن للمرأة المتزوجة إلا أن تصادق نساء متزوجات، وقد تبدو هذه المسألة- يقول المسيري- طبيعية للغاية، ولكن نتائجها الحضارية عميقة للغاية؛ فهي تعني أن الزوج يحصر اهتماماته في اهتمامات زوجته (وهذا قد يكون مقبولا بالنسبة له لأنه يقضي معظم حياته خارج المنزل يعبر عن إنسانيته وإمكانياته)، ولكن- يستدرك المسيري- الأدهى أن الزوجة تحصر اهتماماتها في اهتمامات زوجها، وحيث إنها تقضي كل وقتها في المنـزل فإنها تصبح عبئا على نفسها وعلى زوجها.

الإشارة الرابعة: إنه في إطار الأسرة النووية تحدث مصادرة جزئية لحرية الرجل ومصادرة كاملة لحرية المرأة، هذا على عكس- يقول المسيري- الأسرة الممتدة حيث يمكن للزوجة أن تنشئ علاقات مع أختها أو أمها، وحتى حماتها، ويمكن للرجل أن ينشئ علاقات مع معارفه من الرجال، وكما أن مجتمع الأطفال يفيد في تبادل الخبرات وفي الإنضاج الإنساني، كذلك نجد أن مجتمعات الرجال ومجتمعات النساء المنفصلة تقوم بنفس الوظيفة. لكل هذا- والكلام للمسيري- نجد أن أزمة المرأة الأمريكية [على سبيل المثال] كانت آخذة في التفاقم لأنها أصبحت غير قادرة على العثور على ذاتها الحقيقية.

الإشارة الخامسة: الأسرة النووية، في تصور المسيري، لم تنشأ مصادفة، وإنما هي ترجمة اجتماعية لمحاولة تنشئة الإنسان الرأسمالي الفرد المنفصل عن الآخرين، ولذلك- يضيف المسيري- فلتهدم الأسرة الممتدة حتى تخلق التربة التي تسمح بسهولة بيع العمل الإنساني وانتقال رأس المال في ديناميكية عمياء لا تقف في طريقها أي تنظيمات اجتماعية متخلفة إنسانيا. [الفردوس الأرضي، ص: من 131 إلى 134]

إن المسيري يرى أن اهتمامنا بالأسرة نابع من إيماننا بأن الوجود الإنساني وجود جماعي، وأن الأسرة هي المكان الذي تتوارث فيه القيم الجماعية التي كدّ الإنسان عبر تاريخه للوصول إليها، وهو المكان الذي نكتسب فيه هويتنا الاجتماعية والتاريخية والإنسانية ونعدل ونشكل هويتنا الطبيعية الفجة بالتدريج وبأقل قدر ممكن من الألم. [الفردوس الأرضي، ص: 134]

فكرة أساسية:

إن الإصلاح الديني في الغرب الذي قضى على المسيحية توجه أساسا إلى ضرب الأسرة، إذ أن الفكرة الأساسية لهذا الإصلاح هو أن علاقة الإنسان مع الرب تتم مباشرة. و إنه إذا وقفت له أسرته عائقا، يجب أن يتنكر لها فيقع تشتيت للأسرة، و بالتالي تفتيت للنسيج الاجتماعي الذي يتحول فيه الإنسان إلى دوافع وغرائز يمكن لـ “فرويد” أن يتعامل معها بكفاءة شديدة. [نفسه، ص:33]

عود على بدء:

إن الحديث عن المرأة في السياق العربي الإسلامي، لا يستقيم إلا إذا وضعنا – الحديث- في إطار تصور هذا السياق بمفهوم الأسرة، و إن تناول القضايا المتعلقة بالمرأة بمعزل عن الأسرة هو في حد ذاته سقوط في الخطاب العلماني. وبالتالي “فاستخدام نفس المصطلح (الأسرة) للإشارة لظاهرتين مختلفتين هو نوع من أنواع التحيز لإحدى الظاهرتين على حساب الأخرى، ولعله كان من الأفضل [للخطاب العربي الإسلامي] استخدام دالين بدلا من واحد، أو استخدام دال واحد مع توضيح الاختلافات في المدلول”. [هاتان تفاحتان حمروان، مرجع سابق، ص: 97- 98.]

 المدخل الرابع: مفهوم “عمل المرأة” في سياق النموذج المعرفي العلماني الغربي يختلف عن مفهومه في سياق عربي إسلامي:

إن كلمة “يعمل – يقول المسيري- قد عبئت تماما بمضمون إيديولوجي، وفقدت الكلمة براءتها، و أصبحت مصطلحا محددا لا يمكن فهمه تماما إلا في إطار النموذج المعرفي العلماني الغربي. فأصبح العمل الذي تتقاضى عنه [المرأة] أجرا خارج منزل [ها] هو عمل يقوم به الإنسان الاقتصادي، والإنسان الاقتصادي هو إنسان منتج ومستهلك، جزء من عالم السوق/ المصنع، إنسان ممكن أن تقاس حركاته وسكناته. أما رقعة الحياة الخاصة [فيترك فيها الإنسان]، وهو إنسان يقوم بنشاطات إنسانية كثيرة، بعضها لا يمكن قياسه ومن ثم فهو ليس موضوعا للعلم. [فقه التحيز، مرجع سابق، ص: 31-32]

إن دلالة الكثير من المفاهيم التي “يمطرنا” بها الغرب المعاصر (من قبيل مفهوم “عمل المرأة”) هي انعكاس لنظرته للإنسان وتعبير عن نموذجه في الحياة، ويلاحظ أن بعض دعاة الفكر العربي المعاصر يتلقفون هذه الدلالات مدافعين عنها وزاعمين في الوقت نفسه أنهم ينطلقون من نموذج معرفي مستقل عن النموذج المعرفي العلماني الحديث. وهذا وهم كبير..

وللأسف فإن بعض الكتابات الإسلامية سقطت أيضا في هذا الوهم.. فعندما يتناول الفقهاء والعلماء المسلمون مفهوم عمل المرأة، فإن ذهنهم ينصرف مباشرة إلى العمل الذي تتقاضى المرأة عليه الأجر، وهذا سقوط في المفهوم الغربي؛ ولم يعمل هؤلاء الفقهاء و العلماء على فرض وترسيخ مفهوم جديد للعمل يكون منسجما مع النظرة الإسلامية للإنسان. ويمكن اعتبار السقوط في مثل هذا التناول، من أبرز اختراقات النموذج الغربي ” للعقل” الإسلامي المعاصر.

ولتوضيح مفهوم عمل المرأة في الدول الغربية وفي دول أخرى ( منها بعض الدول العربية) ينطلق المسيري من هذا الحوار النظري الذي يدور كثيرا في بعض دول العالم ( خاصة العالم الغربي).

نص الحوار:

ماذا تعملين يا سيدتي؟ – أنا مجرد ربة بيت. ماذا فعلت اليوم؟ لم أفعل شيئا على الإطلاق.

تفكيك شفرة هذا الحوار

[ماذا تعملين يا سيدتي؟]. العمل هنا يا سيدتي هو العمل الذي:

– تقومين به خارج منزلك في الحياة العامة.

– يمكن حسابه وقياسه.

– يمكن أن تتقاضى عنه أجرا نقديا وثمنا محددا.

– وأي عمل إنساني آخر في حياتك الخاصة مهما كانت قيمته (بما في ذلك تربية الأطفال و الاعتناء بأسرتك) ليس عملا على الإطلاق، والسبب:

– لأن هذا العمل يتم داخل المنزل.

– لا تتقاضى عنه أجرا.

– فهو لا يقاس وليس بكم.

– وينتمي لرقعة الحياة الخاصة لا العامة.

ولا تقولي:

– إن عملك في منـزلك كأم يحقق ذاتك الإنسانية، فهذا إهابة بقيم إنسانية وبفكرة الطبيعة البشرية. وهذه أمور غير علمية، أي غير مادية كمية.

– إن مجتمعك قد يستفيد من وجودك في مكتب حكومي، فمسار التاريخ العام يدل على أن كل النساء لابد وأن يعملن. لا بد وأن يلهث الجميع في حلبة السوق والمصنع والحياة العامة.

إن القبول والتسليم بمثل هذا النوع من التعريف لمفهوم العمل (أو عمل المرأة) يؤدي حتما وبالضرورة إلى الجواب التالي:

أنا مجرد ربة بيت [فما أقوم به من عمل ليس بعمل]. -ماذا فعلت اليوم، على الرغم من أنني: – كنست المنزل – طبخت الطعام – ودعت ابني الكبير وهو في طريقه إلى المدرسة – أطعمت ابنتي الصغيرة – استقبلت زوجي عند عودته- أدخلت الطمأنينة على قلوب الجميع..الخ. على الرغم من كل هذا، إلا أنها أشياء كيفية تتم في منزلي و لا أتقاضى عنها أجرا، والحصيلة، أنا لم أفعل شيئا على الإطلاق. [المرجع السابق، ص:31-32]

ولعل فكرة إعادة تجديد تعريفنا للعمل، يقول المسيري، قد يهدئ من بال كثير من السيدات اللائي يجدن أنفسهن مضطرات للخروج من المنزل للعمل في وظيفة ما كي يكسبن احترام أزواجهن، على الرغم من أن هذه الوظيفة قد لا تكون خلاقة أو ممتعة (…) أو أي عمل روتيني آخر لا يعادل بأي حال عملها كأم وربة منزل وزوجة، ولكنها تجد نفسها مضطرة لذلك لأن عملها في المنزل لا يحسب كعمل. [الفردوس الأرضي، ص: 137]

ويطالب المسيري في نفس السياق، إعادة تقويم موقفنا من تصورنا للعمل؛ فيجب على الرجل والدولة والمجتمع أن يعترفوا بأن العمل في المنزل هو عمل منتج، وأنه إذا لم تقم به الزوجة سيقوم به شخص آخر في ساعات عمل محددة ونظير أجر محدود. [الفردوس الأرضي، ص: 137]

*المرأة الغربية واستبطان الخطاب المعرفي المادي:

يقول د. المسيري إن هذه الزوجة المسكينة التي لم تفعل شيئا من منظور مادي، فعلت الكثير من منظور أكثر تركيبا، ولكنها استبطنت الخطاب المعرفي المادي، ولذا فعليها أن تخرج من المنـزل فورا حتى “تعمل”، أي حتى تتقاضى أجرا فتستعيد احترامها لنفسها. قد يفسد الأطفال وقد تنهار الأسرة وتضيع خصوصية الحضارة (فالأم هي التي تعلم الأطفال الحضارة والقيم) ولكن هذه أمور ثانوية. فكما يقول الجميع: “كل الأمور اقتصادية.

المدخل الخامس: استحضار الفروق الجوهرية بين “حركة تحرير المرأة والدفاع عن حقوقها” women liberation movement و”حركة التمركز حول الأنثى”feminisme“:

يشير الخطاب العربي المعاصر – وحتى الإسلامي- إلى كل من حركات تحرير المرأة وحركة التمركز حول الأنثى على أنها “حركة تحرير المرأة”. ويرى المسيري أن في هذا خللا كبيرا، يتمثل أساسا في تغييب لمجموعة من الفروق الجوهرية بين الحركتين، فهما في رأيه – المسيري- حركتان مختلفتان بل متناقضتان. فالحركة الأولى هي حركة اجتماعية تتميز بما يلي:

– تدرك المرأة باعتبارها جزء من المجتمع.

– تدافع عن حقوقها داخل المجتمع.

– حركة علمانية في رؤيتها، تستند إلى فكرة العقد الاجتماعي ( والإنسان الطبيعي والإنسان الاقتصادي).

– مثلها الأعلى يحوي داخله أبعادا إنسانية اجتماعية (بقايا رؤى المجتمع التقليدي والديني الغربي).

ومع تصاعد معدلات العلمنة:

– بدأت هذه البقايا الإنسانية الاجتماعية في التبخر.

– تراجع البعد الاجتماعي.

– تم إدراك الأنثى خارج أي سياق اجتماعي ( كائن قائم بذاته).

– ظهور نظريات تتحدث عن ذكورة أو أنوثة اللغة، والفهم الأنثوي للتاريخ، الجانب الذكوري أو الأنثوي في رؤية الإنسان للإله.

 

*الفروق بين الحركتين بعبارات دقيقة:

في “حركة التمركز حول الأنثى” لسنا أمام قضية حقوق المرأة الاجتماعية أو الاقتصادية أو حتى الثقافية، وإنما نحن أمام رؤية معرفية متكاملة نابعة من:

الإيمان بأن الأنثى كيان منفصل عن الذكر متمركزة حول ذاتها، بل هي في حالة صراع تاريخي كوني معه.

ومن هنا نقول بأن سيادة هذا النوع من التصور سيشكل تهديدا حقيقيا للأسرة (العنف الأسري كنتيجة)، وبالتالي لاستقرار المجتمع.

 * الخطورة تكمن في البرنامج الإصلاحي لحركة التمركز حول الأنثى:

إن البرنامج الذي تطرحه حركة التمركز حول الأنثى لا يهدف إلى تغيير القوانين أو السياق الاجتماعي للحفاظ على إنسانية المرأة، باعتبارها أما وزوجة و عضوا في المجتمع، وإنما يهدف إلى تغيير اللغة الإنسانية، مسار التاريخ و الطبيعة البشرية ذاتها حتى يتم اختلاط الأدوار تماما، وحتى يتحسن أداء المرأة في إدارة الصراع مع الرجل. [هاتان تفاحتان حمراوان، مرجع سابق، ص:102-103]

إن عدم ملاحظة هذه الفروق الجوهرية بين الحركتين، يجعل مقارباتنا لسؤال المرأة تتسم بالاضطراب وعدم الثقة.

وفي هذا الصدد يقول د. المسيري: قد بدؤوا في الغرب يستخلصون أن مسار “تحرير المرأة” كان على حساب الأطفال، بل يقال إن الجيل من النساء في الأربعينات من أعمارهن هن في حالة ألم شديد لأن معظمهن لم ينجب أطفالا، لأن المرأة أصبحت رجلا متجاهلة خصوصياتها. وفي الغرب أيضا توجد ظاهرة “تأنيث الفقر” (la feminisation de la pauvrete ) وهي حالة نتجت عن معاشرة الرجل للمرأة من دون رابط تزاوجي، و بعد إنجاب الأطفال يذهب الرجل تاركا المرأة وأولادها، و تعددت مثل هذه الأسر التي على رأسها امرأة مما نتج عن ذلك انخفاض في مستوى معيشة مثل هذه الأسر. [مجلة الإنسان ( حوار)، مرجع سبق ذكره ص 32، وفي الحوار فقرات أخرى عن الانعكاسات السلبية لما يسمى بـ “حركة تحرير المرأة”]

المدخل السادس: النظرة الغربية للمرأة جزء من النظرة الغربية للإنسان:

إن انتشار نزعة التحرر الجنسي في الغرب (وفي بعض المناطق من العالم) ليس – في نظر المسيري- مجرد مشكل أخلاقي ولكنه بالأحرى ابستمولوجي، وهذا التحرر جزء من العدوان على الطبيعة البشرية والكرامة الإنسانية.

بكلمة، إن الرؤية الإمبريالية الغربية عملت على “تطبيع” الفرد.

والسبب: لأنها – هذه الرؤية- اعتبرته مجرد مادة وكائن طبيعي. فالتحرر يعد تعبيرا في هذا الاتجاه.

إننا ونحن نسعى إلى تفسير بعض النتائج المتولدة عن ظاهرة “التحرر الجنسي” ينبغي ألا نعتبرها مجرد مشكل أخلاقي، بل هو مشكل معرفي متصل بنظر الغرب للإنسان. فتعرية الجسد البشري كجزء من ظاهرة التحرر الجنسي، تعني في رأي المسيري:

أولا: تفكيك لشرفه – الجسد- و احترامه.

ثانيا: اختزال الإنسان – الذي هو خليفة الله في الأرض في رأي الدين، ومركز الكون في نظر الإنسانية- في مجرد جسد يستعمل بوصفه مصدرا للمتعة الحسية.

ومن خلال هذا المنظور- والكلام للمسيري- فإن الإبادة النازية التي حولت الكائنات البشرية إلى مخازن احتياطية للحم بغرض استخدامه واستعماله تعتبر مجرد شكل من أشكال الخلاعة. [الرؤية الإبستمولوجية للإمبريالية، مجلة المنعطف، العدد 9، ترجمه عن الإنجليزية سعيد منتاق، ص: 57]

إن نظرة الغرب للمرأة – و التي يراد لنا قبولها- يتعين اعتبارها جزء من النظرة الغربية للإنسان، التي –النظرة- تعتبر الإنسان مجرد مادة استعمالية. وقد تجلى هذا الأمر بشكل جلي في مقولة الكاتب الروماني “بلوتارخ” – والتي سبق ذكرها- حين قال: “حينما تطفأ الشموع فكل النساء جميلات”.

تفكيك هذه المقولة:

إن من يقول كل النساء جميلات حينما تطفأ الشموع – يقول المسيري- هو إنسان مادي تماما (إباحي بالمعنى المعرفي)، يرى أن الإنسان براني بسيط وحسب، وأن اللحظات السابقة واللاحقة التي تبتدئ فيها إنسانية الإنسان المركبة والتي يبحث فيها المرء عن الطمأنينة والسكينة مسألة غير هامة، فكل النساء في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير ( كما يقول الماديون) بعد إطفاء الشموع مادة استعمالية برانية (هذا هو أحد دروس الاستنارة).

يقول المسيري: “فالنموذج هنا نموذج عدمي مادي تشاؤمي تغطي الضحكات فيه صرخات الألم، تماما كما كان عمر الخيام يلعن الزمن ويعاقر الخمر كي يغطي عدميته الفلسفية وافتقاده للمعنى في الكون”. [فقه التحيز، مرجع سابق، ص:31]

كلمة أخيرة:

إن الموضوع الذي تناولناه يستهدف التأشير على بعض المداخل الأساسية التي ينبغي استصحابها ومراعاتها أثناء تناول ومقاربة بعض الإشكالات والظواهر الاجتماعية وانعكاساتها المختلفة..وقلنا منذ البداية أننا لن يتيسر لنا الوصول إلى فهم جيد للظواهر التي أفرزها واقعنا المعاصر دون الإلمام بالمرجعية والثقافة التي تؤطر الواقع المعاصر..وقلنا بأن المنطق الذي يحكم العصر حاليا هو المنطق الغربي..وبالتالي لا مناص من فهم الأمراض الاجتماعية المعاصرة انطلاقا من فهم المرجعية الغربية..ما دامت تلكم الأمراض نتيجة منطقية لعولمة هذه المرجعية والعمل على فرضها-بسبل مختلفة- على شعوب العالم.

وهذا ما حاولنا في هذه المساهمة أن نسلكه، راجين أن تكون هذه المحاولة سبيلا إلى فهم عميق لواقعنا ولظواهره الاجتماعية، وأن تكون هذه المحاولة دليلا للعمل الجاد الذي يستهدف إصلاح هذا الواقع.

المبحث الرابع

الحداثة الإنسانية في مقابل الحداثة الداروينية

أو من أجل حداثة غير متحررة من القيم

لم تقتصر جهود المسيري المعرفية على نقد ونقض الحداثة الغربية (كفلسفة وممارسة) انطلاقا من نقد أسسها الفلسفية وجذورها المعرفية، وملاحقة تمثلاتها المختلفة على مستوى الاجتماع البشري، بل سعى- أيضا- وعمل على بناء حداثة جديدة تكون بديلا عن الحداثة الغربية التي ينعتها المسيري بـ” الحداثة الداروينية”.

ولما كان المسيري ينظر إلى الحداثة الغربية باعتبارها تعبيرا عن الرؤية الغربية للكون والحياة والإنسان، فإن أي نقد لهذه الحداثة لا ينفذ إلى نقد تلك الرؤية يظل نقدا قاصرا، خاصة إذا تم النظر إلى الحداثة كمجموعة من الأفكار والممارسات التي لا يربطها أي رابط. وهذا هو مسلك المسيري في مقاربته للكثير من الإشكالات التي تواجه الفكر العربي والإسلامي بل حتى الإنساني عموما، وهو مسلك يفرق بين الأفكار والفكر. يقول المسيري توضيحا لهذا المَعْلَم المنهجي: “الفكر هو أن يقوم المرء بالربط بين الأفكار المختلفة ثم يقوم بإعادة تركيبها داخل منظومة محددة تتسم بقدر من التجريد والاتساق الداخلي. أما الأفكار، فهي أن يرصد الإنسان الفكرة تلو الأخرى دون أن يحاول أن يرى الوحدة الكلية الكامنة وراء النقد”. [رحلتي، ص: 244]

وما يعيبه المسيري على العقل العربي أنه يقدم حركة الحداثة الغربية على أنها مجموعة من الأفكار الجيدة التي سيؤدي تبنيها إلى إصلاح حال البلاد والعباد (…) وأنه- أي هذا العقل- ينقل أفكارا لا فكرا أو منظومات فكرية (…) وحينما يتم نقل الأفكار دون إدراك للنموذج الكامن وراءها، فإنه يتم تجاهل أبعادها المعرفية( الكلية النهائية)، ومن ثم يختفي المنظور النقدي، وتتعايش الأفكار المتناقضة جنبا إلى جنب، ولا يمكن التمييز بين الجوهري منها والهامشي. [العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، 288]

وفي هذا المسعى يختلف المسيري عن غيره من المفكرين، في العالم العربي كما في العالم الغربي، الذين أسسوا لنقد معين للحداثة الغربية.

فهو يختلف، أولا، مع تلك الطائفة من المفكرين الذين أعلنوها رفضا جذريا للحداثة؛ مصطلحا ومضمونا بما إنها كيان غريب عن تربتنا الحضارية والثقافية. وهذا ما نلمسه في كتابات بعض المفكرين الإسلاميين الذين اعتبروا الحداثة مصطلحا ومفهوما غربيين لا يمكن فصلهما عن سياقهما الثقافي والفلسفي، وأن كل محاولة لاستنباتها داخل سياق ثقافي وفلسفي آخر هي جهد بلا طائل، ولا يقود إلى نتائج إيجابية؛ ومثل من يسلك هذا المسلك، في رأي هؤلاء، كمثل من يحرث البحر! وهذه الطائفة ترفض القول بأن الحداثة حداثات وبأن الحداثة الغربية واحدة من تلك الحداثات وليست الحداثة بألف ولام التعريف. فعند هؤلاء عندما تطلق الحداثة فإن المقصود الذي لا يقبل أي نقاش هو الحداثة الغربية إنما اختصارا فقط نقول الحداثة لقوة الدلالة على أن المراد من هذا المصطلح/ المفهوم هو الحداثة الغربية! أما المسيري فقد وضع قاعدة ذهبية بخصوص العلاقة بالغرب: إن موقف الرفض الكامل للغرب، شأنه شأن القبول الكامل له، يفترض الغرب كمرجعية صامتة. [معالم الخطاب الإسلامي الجديد: ورقة أولية، مجلة المسلم المعاصر، العدد: 86، 57] ويقترح المسيري دراسة [والنظر إلى الغرب وإلى الحداثة الغربية] كمتتالية حضارية تتسم بما تتسم به من سلبيات وإيجابيات. [انظر تفصيل ذلك في: الفكر الغربي: مشروع رؤية نقدية، مجلة “إسلامية المعرفة”، السنة الثانية، العدد الخامس، ص: 126]

وهو يختلف، ثانيا، مع “المفكر الاحتجاجي” (الذي ينتمي لما يسميه المسيري بـ”الفكر الاحتجاجي”) الناقد للحداثة الغربية ولتصوراتها في التنمية ونموذجها في الحياة… فرغم انتماء هذا المفكر للاتجاه النقدي إلا أن نقده هذا لا يمس الأسس الفلسفية التي أنتجت الحداثة التي يسعى هذا المفكر إلى نقدها بعد أن يعتبرها سببا مركزيا يقف خلف الأزمة التي تهدد وجود الإنسان في عالمنا المعاصر. بكلمة، إن هذا المفكر ظل أسير الأسس الفلسفية التي أنتجت تلك الحداثة الداروينية. وللتذكير فقط أشير إلى أن هذا النوع من النقد في تصور بعض منظري الحضارة الغربية يقوي النموذج الغربي ولا يضعفه؛ لأن هذا النقد الذي يطال التعبيرات لا الأسس ضروري كي يجدد هذا النموذج نفسه؛ ولهذا الاعتبار يقال أن الماركسية في نقدها للرأسمالية ساهمت بشكل كبير في تقوية النموذج الغربي؛ لأن الماركسية لا تختلف في أصولها عن أصول النموذج الغربي.

فالمسيري لم يعتبر الحداثة حكرا على الحضارة الغربية، الحديثة والمعاصرة، بل رأى أن كل رؤية لها حداثتها الخاصة بها، وأنه لا يمكن فصل الحداثة عن الرؤية. والاعتقاد بارتباط أي حداثة بالرؤية ليس دافعا إلى رفض مصطلح الحداثة، أما في هذه الحالة ينبغي العمل على توليد حداثة منسجمة مع الرؤية. ومن هنا مطالبة المسيري، في مدوناته المختلفة، تأسيس حداثة إنسانية نابعة من رؤية هي نقيض الرؤية الغربية التي من رحمها ولدت الحداثة الغربية.

ومن خلال هذا التوجه نجح المسيري في إنجاز مهمتين على الأقل، وهما:

الأولى: أنه كشف عن سطحية الخطاب الحداثي في العالم العربي الذي يعتبر النموذج الغربي صالحا لاستنباته في واقعنا العربي والإسلامي. وهذا الخطاب يعتبره المسيري خطابا تبشيريا بالحداثة وغير مدرك لجوانبها المظلمة. [حوار مع جريدة “الشرق الأوسط”، 5 مارس 2004].. وقد يكون هذا الاتجاه معذورا في الفترة التي لم تبرز فيها أي أصوات تعارض الحداثة أو تنتقدها، بل على العكس من ذلك تماما كان الجميع يُسبِّح بحمدها، وقد كانوا – يقول المسيري- محقين إلى حد كبير في هذا؛ فشكل الحداثة الذي أدركوه آنذاك أمر يثلج القلوب… ولكن- يستدرك المسيري- تدريجيا تكشف الوجه الدارويني [للحداثة الغربية]حين أرسلت الحداثة الغربية لنا جيوشها الاستعمارية لتهلك الأخضر واليابس، وتحول بلادنا إلى مادة استعمالية كمصدر للمواد الخام والعمالة الرخيصة، وسوق مفتوحة بشكل دائم للسلع الغربية، ويبدو- والكلام للمسيري- أن المفكرين الإصلاحيين الأوائل لم يربطوا بين الحداثة الغربية والإمبريالية الغربية، فقد ذهبوا إلى العواصم الغربية ولم يروا سوى النور والاستنارة، في الوقت الذي كانت المدافع الغربية تدك بلادنا دكا، ولذا فهؤلاء الذين بقوا في بلادهم رأوا ألسنة النيران المندلعة، وسمعوا قعقعة القنابل، وشموا رائحة البارود. [الحداثة ورائحة البارود، من موقع: www.balagh.com، صفحة: قضايا معاصرة- وأيضا: معالم الخطاب الإسلامي الجديد: ورقة أولية، مجلة المسلم المعاصر، العدد: 86]

ويلاحظ المسيري أنه رغم دعوة هذا الاتجاه لفتح باب الاجتهاد بخصوص المنظومة الدينية إلا أن طائفة من هذا الاتجاه أغلقت باب الاجتهاد بخصوص الحداثة الغربية ومتعلقاتها المختلفة، وظهر ما يسميه المسيري بـ”السلفية الغربية أو العلمانية”؛ فهي الأخرى تَقْنَع بالتلقي السلبي عن السلف الغربي دون أن تحاول أن تستوعب المعرفة التي تأتيها من هناك لتولد منها ما يتلاءم مع زماننا ومكاننا. [عن الناصرية والإسلام والاستقلال الحضاري، 481]

أما المسيري فيطالب في كتاباته بفتح باب الاجتهاد بالنسبة للمنظومتين معا؛ الدينية والعلمانية الغربية [تحيزات المعرفة، مجلة “قضايا إسلامية معاصرة”] وأنه لابد من إعمال العقل والاجتهاد وأخذ أوضاعنا في الاعتبار، والمهم – في رأيه- هو فتح باب الاجتهاد والتفكر، بدلا من التلقي السلبي والخنوع المخجل. [العالم من منظور غربي، 287]ومعتبرا المفكر العلماني/ الحداثي ناقلا دون أن يحوِّر أو يعدل أو ينتقد أو يراجع. [فكر حركة الاستنارة، بتصرف، 8]

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان الحداثيون العرب بنقدهم لتراثنا العربي الإسلامي ومدحهم للحداثة الغربية والنموذج الغربي وتبشيرهم بقيم الغرب الثقافية والمفهومية كالديمقراطية والحداثة والحرية والتعددية… كانوا بمسلكهم هذا يقابَلون بخطاب إسلامي أو عربي يحاول أن يثبت لهم بأننا لا نعدم في ثقافتنا العربية والإسلامية قيما شبيهة بالقيم الحداثية، فإن اختلفت التسميات فالمضمون واحد! وهذا النوع من الخطاب يستبطن في بنيته الدلالية اعترافا بكون هذه الاتجاهات الحداثية وفية لتلك القيم، وثانيا اعترافا بكون تلك القيم قد وجدت طريقها إلى التحقق في التجربة التاريخية الغربية! والمسيري بدل أن يقتصر على تبيان ما في منظومتنا الحضارية ونسقنا الثقافي من قيم، عمل على تفكيك الخطاب الغربي بخصوص تمثله لقيم الحداثة.

الثانية: أنه استطاع أن ينتبه لخطورة بعض الاتجاهات “الحداثية” في عالمنا العربي التي استغلت رفض بعض الاتجاهات الإسلامية لمصطلح ومضمون الحداثة، فاعتبرت نفسها- أي الاتجاهات الحداثية- الناطق الرسمي باسم قيم الحداثة ونظرت إلى الآخرين على أساس أنهم رجعيون، بل وأعداء للحداثة! فهذه الاتجاهات احتكرت الحداثة- قولا لا فعلا- ليس إيمانا منها بقدرة المفاهيم والمقولات المرتبطة بالحداثة على تنوير المجتمع والانتقال به من حالة الجمود والتقليد والكسل الذهني إلى حالة من الحركية والاجتهاد والإبداع، إنما وظفتها فقط من أجل ضرب بعض الاتجاهات ذات التوجه الإسلامي التي على ما يبدو أكثر التصاقا بالجماهير. وكأن المسيري يقول لهؤلاء: نعم نحن مع الحداثة لكن أي حداثة؟ وهذا ما سنتناوله في الفقرات التالية.

يشير المسيري بداية إلى أن الرؤية الإسلامية (ومنها الرؤية الإسلامية المتعلقة بالحداثة البديل) لا زالت غير متشكلة ولم يتضح كثير من معالمها (…) وهذا في رأي المسيري طبيعي ومنطقي. فهناك اعتباران ضروريان لفهم وتفسير عدم تشكل الرؤية، وهما: الأول: اعتبار التراكم؛ فهذا التأسيس يتطلب وقتا طويلا وتراكما للجهود والإنتاجات.. ولا ننسى- يقول المسيري- أن مشروع الحداثة الغربية قد أخذ أربعة قرون حتى تشكل في صورته الحالية. الاعتبار الثاني: اعتبار الجدة؛ فالتفكير في التأسيس لحداثة إسلامية بديلة للحداثة الغربية هو تفكير جديد على الخطاب الإسلامي. وفي هذا السياق يقول المسيري: ولم يلتفت إلى مشروع الحداثة الإسلامية الإنسانية إلا في منتصف الستينات من القرن العشرين، وقبل ذلك كان حتى المفكرون والدارسون الإسلاميون- فضلا عن الليبراليين- يعتقدون أن الحلال بين والحرام بين، لكونهم لم يستوعبوا الأسس الفلسفية التي نشأت عليها الحضارة الأوروبية؛ خاصة وأن هذه الحضارة- كما يبين المسيري- في بداية القرن العشرين كانت تبعث على الإعجاب بشقها الرأسمالي والاشتراكي لكونها لم تتغول كما هي عليه الآن ولم يتبد وجهها الصارخ في السلبية إلا في مرحلة ما بعد سنة 1965. [حوار مع الشرق الأوسط 5 مارس 2004]

ومن خلال متابعة متأنية لما دونه المسيري من أفكار ونصوص بخصوص “الحداثة الإنسانية” التي يدعو إليها؛ سواء كانت هذه النصوص نصوصا مباشرة في الموضوع أو كامنة في نصوص أخرى غير مباشرة، أو من خلال ما يقوله المسيري (المنطوق) أو من خلال ما يريد قوله (المفهوم)؛ من خلال هذه المتابعة اكتشفنا أن المسيري يشتغل في تفكيره التأسيسي وفق محور أساسي وهو محور الهدف من التأسيس؛ ففي محاولة الاجتهاد لبناء الحداثة الإسلامية يرى المسيري ضرورة استرجاع القيمة القطب في الإسلام: العدل. أي أن كل الجهود ينبغي أن تصب في تحقيق هذا الهدف.

ويلاحظ المسيري في هذا الصدد أن بعض الجماعات الإسلامية تنسى هذه “القيمة القطب” وتركز على تطبيق الحدود وإقامة المناسك دون ربطها بهذه القيمة الكبرى، ذات القيمة التعبوية الهائلة لكل الأمة بما في ذلك أعضاء الأقليات وأعضاء الطبقات المتوسطة شبه العلمانية.

ولا يقتصر المسيري في حديثه عن “شمائل” هذه القيمة على ربطها بمنظومتنا الحضارية ومقاصدها الكبرى، إنما يجعلها نقطة الانطلاق في نقد الحضارة الغربية المبنية على اقتصاديات السوق والتي تنادي بحداثة منفصلة عن القيمة، وهي- كما يقول المسيري- حداثة داروينية لا تميز بين العدل والظلم؛ فهي لا يمكنها أن تميز إلا بين القوي والضعيف، ولذا قد ترجمت نفسها إلى إمبريالية.

وهذا النزوع الإمبريالي ينبغي أن يقابل بمقاومة إسلامية لا على أساس كره الآخر، وإنما على أساس الالتزام بالعدل كقيمة أساسية. [أمريكا تعسكر…] فكما أن الإمبريالية جزء من الحداثة الغربية بطبعتها الداروينية فكذلك المقاومة الإسلامية هي جزء من الحداثة الإسلامية بنسختها الإنسانية.. فالأولى مبنية على الظلم أما الثانية فتسعى إلى إقامة العدل.

ولا عجب أن نجد أن ما كتبه المسيري من دراسات بخصوص الصهيونية- وقضايا أخرى- ليست جزءا من ثقافة السلم أو ثقافة الحرب- كما هو تقسيم بعض الاتجاهات من العقل العربي في العالم العربي-، وإنما جزء من ثقافة العدل. [انظر تفصيل ذلك في: اليد الخفية، ص: 08] وقد كانت لمركزية قيمة العدل تجليات في مقاربة المسيري للحداثة الجديدة. وسنتناولها بالتفصيل في هذه النقاط.

– استدعاء البعد العالمي للخطاب الإسلامي والالتفاف حول “المشترك الإنساني”، عندما تكون قيمة العدل هي الموجه والمنطلق لبناء الحداثة فإن من مقتضيات ذلك ألا يكون الهدف هو الانتصار لفئة على فئة أو تفريغ مكبوتات وترسبات الماضي.. بل سيكون المبتغى الأساس هو العمل على جعل العدل القيمة المهيمنة على مسار البشرية.

ولن يتحقق هذا الأمر إلا إذا وسَّعنا من طبيعة الفئة التي نخاطبها، لأن طبيعة المخاطَب (بفتح الطاء) يحدد طبيعة الخطاب.. فإذا كانت الفئة المخاطبة ممن ينتمون لعالم الإسلام فإنه سيبحث في النصوص المرجعية المؤسسة للخطاب الإسلامي عن تلك المفردات والقيم التي تخص هذه الفئة.. أما إن كانت الفئة المخاطَبة هي الإنسانية والعالم فإن هذا سيؤثر في طبيعة نظرتنا إلى نصوصنا المرجعية حيث سنكتشف قيما إنسانية بمقدورها مخاطبة الإنسان من حيث هو إنسان.

ومادام المسيري يسعى إلى بناء حداثة إنسانية فإنه يسلك في هذا الأمر المسلك الثاني. ويجعل من العالم والإنسانية الدائرة الأساسية التي يتوجه إليها بالخطاب.

وهذا طبيعي، فإذا كان الفكر الإسلامي- كما يقول المسيري- يقول عن الإسلام إنه دين عالمي، فمن مقتضيات هذه المقولة الفلسفية والإجرائية تتمثل في مقدرة الإسلام على تقديم إجابات عالمية لكل ما من شأنه أن يهدد وجود الإنسان. [حركة الفكر الإسلامي المعاصر خلال القرن العشرين، المسلم المعاصر، 185] وفي عصرنا الحاضر كان لزاما على الخطاب الإسلامي في سعيه إلى تأسيس حداثة بديلة أن يأخذ بعين الاعتبار الأزمة التي تمر بها الحضارة الغربية، وتتمثل أزمتها البنيوية في قضائها على الإنسان. فخطورة النموذج المادي المهيمن على الولايات المتحدة [والغرب عموما] لا على الأمريكيين [والغربيين بشكل عام]، وإنما على الجنس البشري بأسره. [رحلتي الفكرية، بتصرف، 318]، والرؤية المادية المصمتة لا تدمر الإنسان في الغرب وحسب، وإنما تدمره على مستوى العالم بأسره. [الناصرية والإسلام والاستقلال الحضاري، 482]

إن مشروع الحداثة الإنسانية ينبغي أن يكون مشروعا تحريريا لكل العالم، بما فيه الإنسان الغربي؛ لأن الإنسان الغربي قد طحن تماما وتم تسليعه؛ فالنظام الذي يكفل له الحياة المادية الهانئة من الناحية الاقتصادية- يقول المسيري- هو أيضا النظام الآلي الذي يتحكم فيه وفي حياته والذي أخرج الأشياء من عالم الإنسان إلى عالم الأشياء، ثم أخرج الإنسان نفسه من عالم الإنسان ووضعه في عالم الأشياء. [الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، ص: 108]

إن الحداثة الداروينية تمارس حصارا على الإنسان الغربي، والذي فتحوله إلى مادة استعمالية (…)، وتم استغلاله بطريقة شرسة (…) فقد تم ترشيده هو الآخر من الداخل والخارج في بنيته الاجتماعية والإنسانية حتى تم التحكم فيه تماما، وأصبح محاصرا تماما بأجهزة إعلام تدمر البنية الاجتماعية، وبصناعات تدمر البيئة الطبيعية، وبصناعات سلاح يُنْفَق عليها بالملايين وتهدد بتدمير العالم، وبمشروعات فضاء لا يعرف أحد جدواها، وبإيقاع حياة آلي سريع رتيب يقضي على كل ما هو نبيل في حياة الإنسان، وبمؤسسات عامة تضبط حياته وحياة أسرته، أو ما تبقى من الأسرة، وبصناعات اللذة التي تصوغ أحلامه وتصعد توقعاته. [الفلسفة المادية، ص: 107]

هذا هو حال الإنسان المعاصر، كما يصوره المسيري، الأمر الذي يجعل البديل- في نظر المسيري- يأتي مع نجاح المنظومة الإسلامية في أن تجرد القيم الأخلاقية العالمية الموجودة في القرآن، ويجب ملاحظة- يقول المسيري- أن خطبة الوداع كانت موجهة لكل الناس وليس للمسلمين فقط.

ويضيف المسيري قائلاً: على هذا الخطاب أن يثبت أنه موجه للجميع، وأن الله إله العالمين؛ وهذه المسألة حاول البعض في الغرب أن ينكرها، من خلال التعامل مع “الله” بصفته اسم علم، والقول بأن “الرب عند المسلمين هو الله”!! ومع ذلك يشير المسيري إلى أن هناك نوعا من التراجع عن هذه الأطروحات، وبخاصة من قبل بعض المستشرقين…

إن المهم هو ضرورة أن نتوجه إلى الغرب بخطاب إسلامي عالمي. [حوار مع جريدة “العصر”، 19] فهذه الأزمة التي ترتبت عن هيمنة النموذج الغربي- الأمريكي بوجه خاص- وبالتحديد هذا البطش الإمبريالي الدارويني أصبح يهددنا جميعا.

ومن هنا ضرورة التركيز على المشترك الإنساني، الذي هو جوهر الإنسان؛ إذ أصبح هذا التركيز حقيقة تاريخية وضرورة مصيرية. وعدم إدراكنا لهذه الحقائق، سينتهي بنا إلى أن نثقب الأوزون، ونستهلك الطاقة ونلوث الأرض… وبنص بليغ للمسيري: ندمر أنفسنا بأيدينا. [نحو حداثة إسلامية (حوار)، رؤى، ص: 46]

ولعل مما يسهل مهمة استعادة البعد العالمي والإنساني للخطاب الإسلامي- كما هو مفهوم من نصوص المسيري- بروز تلك الأصوات التي تطالب- هي أيضا- بحداثة تكون لصالح البشر ككل.. ويذكر المسيري من ضمن هؤلاء جماعة الخضر، وكل المعارضين لمنظمة التجارة العالمية… وهؤلاء موجودون في الغرب الآن، ومن ضمنهم أيضا نحن العرب والمسلمين، ومن ضمنهم كذلك شعوب العالم الثالث.. فالكرة الأرضية- يقول المسيري- لنا جميعا وهناك إنسانية مشتركة. [أمريكا تعسكر العولمة]

وهذا الإحساس المتصاعد الذي تعبر عنه تلك الأصوات نابع من اعتقادها بأن هذه الحداثة/ الغربية الداروينية ستضرنا جميعا… والمسلمون هم جزء أساسي من حركة التصدي لهذا النوع من الحداثة. فباعتبارنا مسلمين- يقول المسيري- نرى أن الله لم يعطنا العالم وإنما استخلفنا فيه، ووضعنا في المركز لا لنسخره لحسابنا الآن وهنا، وإنما لنعمره، وهذه مسألة أساسية.

لذلك نلاحظ في نصوص المسيري- المنطوق منها والمفهوم على حد سواء- الداعية إلى تأسيس حداثة إسلامية إصرارًا “مسيريًّا” على الاستفادة من النقد الإنساني Humanist داخل الغرب تجاه الحداثة الداروينية. [نحو حداثة إسلامية، 50] ولا غرابة أيضا، وفق هذه المقاربة، أن يركز في كتاباته (النصوص المؤسسة للحداثة الإسلامية/ الإنسانية) على ما يسميه “دعاة الفكر الاحتجاجي”.. حيث يرى أن هذا الفكر يدور في إطار القيم… وهذا ما نلمسه في وقوفهم ضد الإمبريالية الغربية، وضد التوسع، وضد ضرب الآخرين للحصول على بترول رخيص مثلا.. أي أن هدفهم المركزي هو أن تسود العالم نوع من العدالة. ومن هذا المنطلق فالفكر الاحتجاجي- في رؤية المسيري- لا يبتعد عن السياسة، لأن السياسة تتضمن فكرا يعتبر من صميم السياسة.. ويزيد المسيري هذه الفكرة وضوحا بقوله: إن هذا الفكر (الاحتجاجي) يرى أن القيم هامة، وأنه لا يمكن للإنسان الأمريكي (الغربي عموما) أن يستهلك بلا نهاية ويحطم الأخضر واليابس. [جريدة “الشاهد الدولي”، 30 نوفمبر 1998، بتصرف]

لكن وكما قلنا سابقا أنه رغم هذا النقد الذي يوجهه هذا الفكر للمنظومة الغربية الداروينية، ورغم تركيزه الشديد على مجموعة من القيم.. رغم كل هذا لا بد من النظر إلى الأسس الفلسفية التي يستند إليها هذا الاتجاه، وهي كما قلنا أسس لا تختلف كثيرا عن الأسس التي أنتجت لنا الحداثة بشكلها الراهن. ربما لأن الاتساق الفلسفي أمر صعب تحقيقه. وربما هذا ما قصده المسيري بقوله: إن النقد الإسلامي للحداثة [الغربية الداروينية] يختلف عن أشكال نقد الحداثة في بقية العالم. ويذكر المسيري سمتين اثنتين تؤكدان هذا الاختلاف، وهما:

– السمة الأولى: تتصل بإدراك النقد الإسلامي للحداثة الغربية/ الداروينية مدى ارتباط منظومة الحداثة الغربية بالإمبريالية الغربية، ويدرك صعوبة فصل الواحد عن الآخر.

– السمة الثانية: تتعلق بكون النقد الإسلامي لهذه الحداثة يتسم بأنه متفائل؛ لأنه يطرح حلولا، على عكس النقد الغربي للحداثة فهو متشائم عدمي. [معالم الخطاب الإسلامي الجديد: ورقة أولية، مجلة المسلم المعاصر، العدد: 86، 57] ذلك النقد الصادر مما يسميهم المسيري بـ”نقاد الحداثة بشكل رجعي عدمي”… من مفكري التفكيكية وما بعد الحداثة مما أدى إلى تنامي “اللاعقلانية”. [العلمانية تحت المجهر، 243]

وعن مصدر هذا التفاؤل المصاحب والملازم للنقد الإسلامي للحداثة الغربية يقول المسيري: “إن لدينا مشروعا؛ فنحن نؤمن بالله، ونعتقد أن بإمكاننا تغيير العالم”. “نعم- يضيف المسيري- مازلنا نحلم بإقامة حكومات تحافظ على العدالة، وإنسان غير ملتزم بالضرورة باللذة ومصلحته الشخصية، ونؤمن بأن بإمكاننا تحقيق قسط من التقدم مع الحفاظ على البيئة، ويمكننا تضمين الإجراءات الديمقراطية في نظام يسلم بالقيم الإنسانية العامة التي تتجاوز ديمقراطية عد الأصابع”. [نحو حداثة إنسانية جديدة، www.aljazeera.net، صفحة: وجهات نظر، التاريخ: 16/ 12/ 2004]

لكن رغم كل هذه الملاحظات فإن المسيري يرى أن هذا الفكر [الاحتجاجي أو المضاد] بدأ يكتسب مزيدا من المركزية والمصداقية (…) ولا بد من الاستفادة من هذا الفكر وأدبياته في محاولة استرداد المنظور النقدي تجاه الحضارة الغربية. [الفكر الغربي: مشروع رؤية نقدية، مجلة “إسلامية المعرفة”، السنة الثانية، العدد الخامس، (ص: 127)]

فالحداثة الإسلامية التي يدعو إليها المسيري تسعى إلى توسيع آفاق الخطاب الإسلامي، وهو خطاب مفروض فيه أنه موجه لكل الناس وليس للمسلمين وحسب.

وعندما لا يكون الخطاب موجها لكل الناس فإن العالم لا يكون معنيا بمفردات هذا الخطاب، بل يعتبره خطابا غرضه تصفية حسابات، حضارية أو ثقافية أو سياسية، مع هذه الجهة أو تلك، وفي أحسن الأحوال سيعتبرونه خطابا فئويا خاصة بفئة من الناس. ومن الواجبات الفكرية التي ينبغي للخطاب الإسلامي أن يقوم بها أن يبين للغرب- بوجه خاص- أن الإسلام ليست لديه مشكلة مع الغرب- من حيث هو غرب- وأن الصراع الراهن ليس صراعا بين الإسلام والغرب وإنما هو صراع بين (الحداثة الداروينية) و( الحداثة الإنسانية) المتسلحة بالقيم؛ فالصراع ليس بين حضارات، لكل منها قيمتها وقيمها، وإنما هو صراع بين منظومة قيمية غربية علمانية تدور في إطار المرجعية المادية وتستند إلى فكرة القانون الطبيعي( المادي) بكل ما يتضمنه ذلك من إنهاء للتاريخ والإنسان والهوية من جهة، ومن جهة أخرى كل من يقاوم ذلك ولا يوافق عليه ويرى أن الإنسان ليس مجرد مادة، وهذه هي- يقول المسيري- الصلة الحقيقية بين الإسلام والكنفوشيوسية.

والحداثة الداروينية كما يرى المسيري متحررة تماما من القيم؛ القيمة الوحيدة التي تؤمن بها هي القوة، والآلية الوحيدة هي الصراع الذي هو صراع الحضارات، وصراع الحضارات يؤدي إلى نهاية التاريخ على طريقة فوكوياما. ومن خلال هذا التحليل لا يرى المسيري أي فارق بين هنتغتون وفوكوياما.

لكن هنتغتون موقن تماما أن ذلك الصراع- بين الإسلام والغرب- مؤقت، فثمة نقطة أساسية واحدة يتجه نحوها العالم فيتحقق فيها القانون الطبيعي، والعقل الكلي الغربي، الطبيعي المادي/ المادي الحديث؛ نقطة انتصار الحضارة الغربية الحديثة الطبيعية/ المادية العلمانية..

فنحن المسلمون ممثلون بشكل واضح في الحداثة الإنسانية، نحن الذين ندافع عن الأرض، وندافع عن العرض، وعن القيم، وندافع عن التراث، وعن الهوية الثقافية، ونشكل عمودا فقريا قويا في هذا المضمار. قد تبدو الحرب- والكلام دائما للمسيري- حربا بين شكلين من أشكال الحداثة؛ شكلين من أشكال الإنسانية، إنسانية إمبريالية وإنسانية المظلومين الذي يحاولون الحصول على حقوقهم. [الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، 167- أمريكا تعسكر…]

“نظام القيم” أساس القاعدة الأخلاقية للمشترك الإنساني:

لعل “الموقف” من القيم يعتبر المعيار الأساس الذي من خلاله نميز بين الرؤيتين التي يركز عليهما المسيري، أقصد الرؤية التوحيدية/ المتجاوزة والرؤية المادية/ الكمونية؛ وبالتالي التمييز بين الحداثتين؛ الحداثة الإنسانية والحداثة الداروينية. من هذا المنطلق يختلف المسيري مع أولئك المفكرين والباحثين الذين يعتبرون أن الحداثة (الغربية – الداروينية) هي استخدام العقل، واستيراد العلم والتكنولوجيا فقط!! فهي- أي الحداثة الغربية- استخدام العقل وتطبيق العلم بشكل منفصل عن القيمة والقيم، لأن القيمة- كما يقول المسيري- خارج العملية العلمية والعقلية تحتاج إلى نسق آخر إلى جانب المادة والعلم، فالقيمة سابقة على العلم والمادة.

ولتبيان أن القيمة لصيقة بالرؤية التوحيدية/ المتجاوزة التي تقول بأسبقية المادة على الإنسان، لتوضيح ذلك يقول المسيري: والواضح أنه لا بد من وجود قيمة، والقيمة تسبق دائما، فلا يمكن استقاء القيم الأخلاقية من العلم، فهي تسبق العلم، ومصدرها غير مادي، وتشير إلى الله عز وجل. [الإسلام يمتلك… مجلة “العالِم” (بكسر اللام)، 54]

بعد هذا “التحليل المسيري” نصل إلى نتيجة غاية في الأهمية، وهي أن مشروع الحداثة الغربي هو أساسًا مشروع مادي لكنه النموذج. [نحو حداثة إسلامية، رؤى، 41]

بكلمات أخر، إن أي فهم للحداثة الغربية لا يستقيم إلا بمعرفة موقع القيم من البنية الفلسفية لهذه الحداثة، وأن أي حداثة تقترب من القيم إنما تقترب من الرؤية المتجاوزة/ التوحيدية، وأن أي حداثة تبتعد من القيم إنما تقترب من الرؤية الكامنة/ المادية. وفي رأينا قد تكون الحداثة حداثات من حيث درجة اقترابها أو ابتعادها من القيم، أي درجة اقترابها أو ابتعادها من الرؤيتين؛ التوحيدية أو المادية.

لهذا السبب لم تبرز الحداثة [الغربية] أو العلمانية الشاملة في الغرب إلا بعد أن تمت علمنة منظومة القيم الموروثة من المسيحية، وأخذت في التآكل بل تآكلت فعلا. [حركة الفكر الإسلامي المعاصر، مجلة “المسلم المعاصر”، 179، بتصرف] ويشير المسيري إلى أنه في الستينات كان الاحتفال بالكريسماس، في الولايات المتحدة الأمريكية، لا يزال يحمل مضمونا دينيا، ولكن الآن في الولايات المتحدة أصبح الكريسماس هو مناسبة لمزيد من الاستهلاك، ولا علاقة له بالعقيدة المسيحية أو بأي عقيدة كانت. [هوس الاحتفال بالألفية: محاولة للفهم، من موقع: www.islamonline.net، 19 يناير 2000، سلسلة حوارات حية].

ومن بين الأمثلة التي يذكرها المسيري بخصوص علمنة القيم المسيحية ما كتبه في كتابه الفردوس الأرضي (1979)، يقول المسيري في هذا الصدد: … فهناك الإعلانات المسيحية الملونة التي تعلقها على جدران حجرتك، والقمصان والأزرار المسيحية التي تعلن بها عن هويتك الجديدة، والأغاني والمسرحيات المسيحية التي تسري عنك، بل وهناك ساعة يد مرسومة عليها وجه المسيح ويقوم هو بنفسه بالإعلان عنها في التليفزيون (…) [الفردوس الأرضي، 81]

فالرؤية المادية، إذن، لها موقف مبدئي من القيم. فالقيم الإنسانية العالمية الشاملة- وفق دعاة هذه الرؤية- التي تتسم بشيء من الثبات هي في الواقع قيم اتفقنا نحن وضعيا على أنها عالمية وشاملة، بينما هي في حقيقة الأمر ليست كذلك، فكل شيء نسبي متغير والشيء الحقيقي ليس هو الشيء العقلاني (المطلق) كما يقول هيجل، وليس هو ما يتفق مع القيم الأخلاقية والدينية كما تقول معظم الأديان السماوية، وليس هو ما تعبر عنه القوى الكامنة الوليدة داخل المجتمع الإنساني كما ينادي ماركس وإنما الحقيقي هو ما ينجح.

ويضيف المسيري: إن أي شيء ينجح في أن يحرز مكانة خاصة به وفي أن يفرض نفسه على تيار التغير تصبح مكانته قائمة وثابتة. فالطبيعة تلد كل شيء ولا تتحيز لأي شيء، ولا يوجد أي شيء أحق من أي شيء آخر أو فضيلة أهم من فضيلة أو رذيلة أخرى. كل شيء لا يزال في دور التكوين، والتغير والنمو هما سمة كل شيء سواء في حياة الإنسان أو في الشيء العابر الذي لا يعيش إلا لعدة ثوان. وليست الطبيعة الخارجية وحدها هي المتغيرة والمتقلبة، فالطبيعة الإنسانية هي الأخرى ليست أقل تغيرا.. الخير والحقيقة والجمال والعقلانية ليست أمورا أساسية، فهي ليست أمورا معطاة وإنما هي مرتبطة بالنتائج، بل إنها أمور تظهر في النهاية بعد أن نكون مارسنا ما أردنا ممارسته. [الفردوس الأرضي، 40]

آثرنا أن نورد الفقرة السابقة لتوضيح مدى الفرق الكبير بين النظر إلى القيم من موقع الرؤية المادية/ الكامنة والنظر إليها من موقع الرؤية التوحيدية/ المتجاوزة.

ومن هنا أصبحت الأخلاق- على سبيل التمثيل- مسألة اجتماعية نسبية (فالأخلاق هي تجارب بعض الناس)، ومن ثم فهي لا تتمتع بأي مطلقية أو ثبات، ويجب أن تخضع دائما للتقويم والتفاوض المستمر، الأمر الذي يجعل التمسك بها أمرا صعبا بعض الشيء، وخصوصا إن تم تغيير القيم بمعدلات متسارعة (والحداثة- يقول المسيري- كما عرفها أحدهم هي القدرة على تغيير القيم بعد إشعار قصير!) [العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، 316] أي أن الإنسان كائن حركي يمكنه أن ينجز الترانسفير من منظومة قيمية إلى أخرى بسرعة، ولا يمارس أي ولاء عميق لأي شيء، ولا يشعر بأي ألم أو وخز ضمير إن غير ولاءاته وهويته وشخصيته وأهواءه (ومن المعروف أن المغنية مادونا، قمة ما بعد الحداثة، تقوم بتغيير شخصيتها مرة كل ثلاث سنوات!) [المرجع السابق، 254] وقد عرف أحدهم الحداثة بأنها مقدرة المرء أن يغير قيمه بعد إشعار قصير The ability to change one’s values at a short notice، ولذا نجد الإنسان الأمريكي، وهو قمة التعاقد والحداثة، يغير منزله كل خمسة أعوام، بل ويحوله إلى سلعة تباع وتشترى. [رحلتي الفكرية، ص: 64]

إن القيم تتسم بقدر كبير من “الثبات”؛ فالقيم التي تتغير باستمرار ليست بقيم، لأن القيم الإنسانية والأخلاقية تتسم بقدر عال بالثبات، وإن تغيرت لم تصبح قيما بقدر ما تصبح آليات للتعامل مع ما ينشأ في الواقع. ويشير المسيري إلى أن هذه هي إشكالية الحداثة في الإطار المادي، لكونها سقطت في النسبية، لذا لم يعد لها مرجعية، وأصيبت بحالة من السيولة الفلسفية، نزعت عن الإنسان إنسانيته، وسيطرت بدلا منه وسائل الإعلام والاحتكارات الرأسمالية. [حوار مع الشرق الأوسط]

وبناء على رصد المسيري لتطور الفلسفة الغربية (أو الفكر الغربي عموما) انطلاقا من موقفها الفلسفي/ الفكري والعملي/ الإجرائي من موضوعة القيم، بناء على هذا الرصد يعتبر أن الحضارة الغربية بنسختها الحديثة والمعاصرة حضارة “وثنية” [أي مادية] وليست حضارة مسيحية على الإطلاق، فهي – يؤكد المسيري- حضارة تؤمن بالحواس الخمس وفيلسوفها ونبيها الأكبر هو “داروين” وليس المسيح عليه السلام. [الحضارة الغربية حضارة وثنية…]

وفق هذه الرؤية يختلف المسيري مع جزء كبير من الخطاب الإسلامي الذي يعتبر الغرب مسيحيا والحضارة الغربية مسيحية. وكلام المسيري لا يفيد بحال من الأحوال أن كل الغربيين أصبحوا وثنيين!! إنما مراده أن الفضاء الثقافي والمعرفي المحيط بالحضارة الغربية/ الأمريكية هو فضاء مادي، فقد يكون الكثير من الغربيين/ الأمريكيين غير مستوعبين للفلسفة الغربية لكن تفكيرهم وسلوكهم وإنتاجهم لا يخرج عن ذلك الفضاء/ النسق المادي. طبعا قد تكون هناك حالات استثنائية أرادت أن تتمرد على ذلكم الفضاء/ النسق. بل يذهب المسيري بعيدا عندما يعتبر أن الأمريكيين كبشر أعظم من القيم السائدة في المجتمع الأمريكي، وهو تأكيد يبين أن العنصر الرباني في الإنسان لا يمكن محوه. [العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، 193].. إضافة إلى أنه يمكن أن يكون هناك مجتمع يتبنى بشكل واضح ظاهرة أيديولوجية دينية، أو رؤية علمانية جزئية، ولكن عملية العلمنة الشاملة [أي تعميم الرؤية المادية] البنيوية الكامنة من القوة بحيث إنها توجه المجتمع وجهة مغايرة تماما لا يشعر بها أعضاء المجتمع أنفسهم. [العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، الجزء الأول، ص: 24]

ويختلف المسيري من جهة ثانية مع الذين يعتقدون أن عداء الغرب للإسلام نابع من منطلق ديني، وأن الغرب لديه مشكلة مع الإسلام- والإسلام فقط- (كما أشرنا سابقا)؛ فهذا العداء- يقول المسيري- يرجع إلى رفض الغرب لمنظومة ثقافية حضارية يرى أنها تتحداه وتعرقل مصالحه وتقاوم رؤيته المادية. [ملامح المشروع الحضاري العربي تتشكل الآن (حوار)، جريدة “الأهرام العربي”، 19 يناير 2002]

يقول المسيري بهذا الصدد: إن [الغرب] يعلم تمام العلم أن ثمة رؤية إسلامية إنسانية شاملة، أساسها الإيمان بالعدل، وأن هناك خطابا إسلاميًّا جديدًا، مركبًا إلى أقصى حد، يؤكد ضرورة المساواة بين الرجل والمرأة، وبين أعضاء الأغلبية والأقلية، ويطرح رؤية مركبة للعدل الاجتماعي وللعلاقات الدولية، ويجند [الجماهير] ضد الاستهلاكية اللعينة. [الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، 178]

إن مشكلة الغرب ليست مع الإسلام إنما مع الرؤية التي يقدمها الإسلام، وأي دين أو توجه فكري/ فلسفي يقف على أرضية غير الأرضية التي تؤطرها الرؤية الغربية/ الداروينية ويقترب من الرؤية التوحيدية/ المتجاوزة فإن الغرب سيناصب له العداء. وهذا النوع من التفكير قادر على جعل البشرية وكل أحرار العالم يلتفون حول الحداثة الإنسانية النابعة من الرؤية المتجاوزة ويقفون صفا واحدا ضد الحداثة الغربية النابعة من الرؤية الكامنة. لكن عندما نقدم للعالم خطابا مفاده أن المستهدف هو الإسلام فقط وليس الإنسان من حيث هو إنسان، فإن قطاعات كثيرة في عالمنا ستجد نفسها غير معنية بذلك الخطاب، بل وستصنفه ضمن خانات الخطابات الفئوية والطائفية!!

إن المركزية التي يحتلها “نظام القيم” في الحداثة الجديدة التي يطالب المسيري بتأسيسها، هي التي جعلته يدعو إلى تأسيس عقد اجتماعي دولي انطلاقا من القيم؛ لأن هناك- في رأيه- قاعدة أخلاقية مشتركة بين الإسلام والمسيحية وأشكال من اليهودية، ومعها القيم البوذية وغيرها.

وفي موضع آخر يركز المسيري بشكل أساسي على الدينين الإسلامي والمسيحي؛ إذ يرى أنه رغم أنهما دينان مختلفان لهما رؤيتان مختلفتان للإنسان والكون، ومع هذا فإن ثمة رقعة مشتركة واسعة بينهما سواء في رؤية الخلق (قصة آدم) أو رؤية الإله باعتباره منزها عن التاريخ وباعتباره إله العالمين. والأهم من كل هذا، في تصور المسيري، هو أن الرؤية الأخلاقية أو النسق القيمي مشترك بين الدينين، فهما لا يعترفان بازدواج القيم (معيار للمؤمنين وآخر لغير المؤمنين) ويدعوان إلى مجموعة من القيم المطلقة المشتركة، وباب الخلاص مفتوح أمام الجميع.

وفي التفاتة تحليلية تفسيرية رائعة يقول المسيري: ولعل هذه السمة البنيوية في كل من الإسلام والمسيحية كانت مسألة حاسمة في الحيلولة دون ظهور الأخلاقيات المزدوجة والنسبية الأخلاقية التي تَسِم أعضاء الجماعة الوظيفية، وهذا على عكس اليهودية التي تطرح رؤية أخلاقية مزدوجة في بعض صياغاتها. [دفاع عن الإنسان، مسودة، 63- 64]

ومن جهة أخرى، فبعد أن ركز المسيري على القاعدة الأخلاقية المشتركة بين الأديان وعلى رأسها الإسلام، أشار إلى القاعدة المشتركة بين هذه الأديان والفلسفة الإنسانية في الغرب.

ومن هنا دعوة المسيري إلى اكتشاف وتعزيز هذه القاعدة الأخلاقية المشتركة التي هي في حقيقتها أساس للتعامل بين البشر. وأن يكون العقد الاجتماعي- المشار إليه سابقا- مبنيا على هذه القاعدة، وهو الأمر المهم. ويجب أن يكون هناك إيمان بأن الرقعة المشتركة بين الأديان في المجال الأخلاقي واسعة. أما الخلافات العقائدية (وهي خلافات حقيقية عادة لا يفهمها البشر العاديون برغم معاركهم الدائمة بشأنها) يجب أن تناقش في أقسام العقائد ومدارس اللاهوت. والنقاش هنا – يقول المسيري- سيكون نقاشا علميا هادئا، ولن يتحول إلى مذابح لاعقلانية، لا تفيد أحدا سوى أعداء الله والإنسان والأخلاق [حوار مع جريدة “الشرق الأوسط”، وأيضا: رحلتي الفكرية، ص: 237]

وقد تكون مهمة تأسيس هذا العقد الاجتماعي “مستوعَبة” نظريا، لكن يعترف المسيري بصعوبة إنجازها- وليس استحالتها-، وذلك بسبب رفض المنظومة الداروينية لهذه الأرضية. ونفس الشيء مع المنظومة الاستعمارية، التي ترى أننا مجرد مادة استعمالية لا بد أن توظف لصالح الأقوى، تماما كما هي العلاقة بين “إسرائيل” وفلسطين، فهي علاقة “مايكروكزوم”. [حوار مع العصر، 19]

والمنطق المسيري السابق يجعلنا نفترض أن هناك إنسانية مشتركة وكوكبا واحدا يضم بني البشر جميعا، بينما كلنا داخل مضمون الحداثة الداروينية نتعرض للهلاك والدمار ولا نملك- يضيف المسيري- سوى أن نأتي بمنظومة جديدة.

ويذكرنا المسيري، في هذا الصدد، أن مذهبه هذا في التفكير والتأسيس ليس استغرابا وإنما هو نقد للحداثة الغربية والسعي إلى الإتيان ببديل… وهذا وحده في تصور المسيري الذي يجعلنا نضع جهدنا المعرفي داخل سياق عالمي. [نحو حداثة إسلامية، 50، بتصرف]

بكلمة جامعة، إن المسيري ينادي بضرورة بناء “حداثة جديدة” بديلة للحداثة الداروينية؛ تتبنى العلم والتكنولوجيا، ولا تضرب بالقيم أو بالغائية الإنسانية عرض الحائط، حداثة تحيي العقل ولا تميت القلب، تنمي وجودنا المادي ولا تنكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود، تعيش الحاضر دون أن تنكر التراث. [رحلتي الفكرية، ص: 172]

فصل الحداثة عن الاستهلاكية أو “التوازن” بدل “التقدم”:

يقول المسيري: إن الحداثة الغربية تشكل الإطار الذي يدور داخله الإنسان الغربي، وهي تقدم رؤية مادية ترى العالم باعتباره مادة. وقد عرَّفت هذه الرؤية الهدف من وجود الإنسان في الكون بأنه تعظيم المنفعة واللذة، وعرَّفت التقدم بأنه تصاعد معدلات الإنتاج والاستهلاك، مما ولد شراهة استهلاكية عند الإنسان الغربي ليس لها نظير في التاريخ.. [الإسلام والغرب، www.aljazeera.net، صفحة: وجهات نظر، 13 نوفمبر 2004] ولما كان مفهوم التقدم المفهوم القطب بالنسبة للحداثة (والعلمانية) [العلمانية تحت المجهر، 243] كان من بين أهم الخطوات على طريق بناء “الحداثة الجديدة”، في تصور المسيري، ضرورة فصل الحداثة عن الاستهلاكية وعن مفهوم التقدم المادي، وربطها بمفهوم الطبيعة الإنسانية والإنسانية المشتركة.

ويعتبر المسيري النموذج الرأسمالي رغم مثاليته، عملية مفرطة لأنها ترتكز على السوق الذي يحدد كل القيم حسب دوراته اللامتناهية، وحسبما تمليه قوانين العرض والطلب الذي لا يمكن لإنسان التحكم فيها.أي أن الإنسان صانع كل شيء ولا يملك في الوقت ذاته من أمره شيئًا، ولكن الرأسمالية (النموذج الدارويني) في مثاليتها وعمليتها، أي في حديها الأقصى والأدنى تظل منفصلة عن فكرة القيمة ومرتبطة بفكرة الثمن والعرض والطلب والشراء بأرخص الأسعار والبيع بأغلاه وهكذا.

ولعل هذا يفسر، في تصور المسيري، إيمان المجتمعات الرأسمالية المجنون بفكرة التقدم- التقدم دائما ونحو أي اتجاه وبغض النظر عن مقدار السعادة أو البؤس الذي يحيق بالبشر- لكن التقدم والحركية والسلام، إلى أن يصبحا هدفا في حد ذاتهما تماما مثل دائرية الطبيعة العبثية التي تتحرك دون توقف. [الفردوس الأرضي، 44- 45]

ويرى المسيري أن فكر عصر النهضة فكر يؤمن بشكل يكاد يكون مطلقا بالحداثة الغربية ونموذجها المادي الذي ينطلق من فكرة القانون الطبيعي المادي العام، والذي يترتب عليه الإيمان بقانون التقدم الذي يصلح لكل البشر في كل زمان ومكان، مما يعني إلغاء كل من الأبعاد الروحية للإنسان والأبعاد الخصوصية للحضارات، أي أنه فكر يحوي داخله الواحدية الحضارية (التي تسمى الآن ” العولمة”) [الناصرية والإسلام، 489]. فإذا كان البعد الروحي مرتبطا أساسا بالرؤية التوحيدية/ المتجاوزة، فإن الخصوصية مرتبطة تمام الارتباط بالبعد الروحي (…) وأنها لصيقة بالوجود الإنساني وليست مجرد زخارف وإضافات. [المرجع السابق، 482- 483]

وعندما ترد كلمة “التقدم” في الخطاب الغربي والعربي فإن المقصود به هو التقدم المادي. أي أن هذا المصطلح قد استوي على سوقه الدلالي. ويتضح- والكلام للمسيري- تحيز مفهوم التقدم للتقدم المادي، وإن طالبنا استخدام مفهوم مثل الطمأنينة والسعادة كمعيار للتقدم، فالرد على ذلك معروف، وهو أن الطمأنينة والسعادة أمور نسبية ومتغيرة لا تقاس، أما التقدم المادي فيمكن قياسه علميا، وهو- يضيف المسيري- ما يعني أن التقدم شيء، والطمأنينة والسعادة شيء آخر، وأن التقدم هو- في واقع الأمر- تمدد مادي، وليس تحققا إنسانيا؛ ولذا فإنه بدلا من مؤشرات من علم الإنسان (السعادة والطمأنينة) يسقط الإنسان في عالم السلع والمؤشرات المأخوذة من عالم الأشياء (السرعة- الإنتاجية…إلخ)، دون أي اكتراث بمدى تحقيقها السعادة أو البؤس للإنسان. [قراءة في مفهوم التقدم، مجلة ” المنار الجديد”، العدد: 09]

و”مذهب” الاستهلاكية ينطلق من الإيمان بأن الهدف من الإنتاج هو الاستهلاك، وأن الهدف من تزايد الإنتاج هو تزايد الاستهلاك، وأن حياة المرء تكتسب معنى إن هو استهلك، ومزيدا من المعنى إن هو صعَّد من استهلاكه (…) وأن الإنسان أساسا حيوان اقتصادي جسماني لا يبحث إلا عن منفعته (الاقتصادية) ولذته (الجسدية)، وأن سلوكه لا بد أن يصبح نمطيا حتى يمكن أن يستهلك السلع التي تنتجها خطوط التجميع. [رحلتي، 193]

وتقتضي هذه الخطوة- في تأسيس حداثة جديدة- تحديد معايير وأهدافا للحداثة غير الإنتاج والاستهلاك، وإعادة تحديد معدلات الاستهلاك في إطار تحقيق الإنسانية وفي إطار احتياجات البشر المادية والمعنوية وليس مجرد زيادة الاستهلاكية.

ومن ناحية أخرى، لابد من توسيع مفهوم التقدم بحيث يضم المادي والمعنوي والملموس والروحي.. وبهذه الطريقة قد يمكننا أن نحقق مشروع الحداثة البديل وأن نحقق التقدم دون أن نفقد اتزاننا ودون أن ندمر الكون. [رحلتي 172]

ولا غرو أن نجد المسيري، أثناء تأسيسه للحداثة البديل، يطالب بإحلال مصطلح “التوازن” بدل مصطلح “التقدم”، لكون فكرة التقدم اللانهائي تعني تزايد معدلات الاستهلاك، وهو ما سينتج في نهاية الأمر حالة من الفوضى، أبرز تجلياتها اليوم الاحتلال الأمريكي للعراق الذي لاشك أن من أهم أهدافه الحصول على “الطاقة”، لكون الإنسان الأمريكي يستهلك ما يعادل استهلاك ألف إنسان هندي مثلا.. لذا لابد من تجاوز مفهوم التقدم الذي يعني حالة لانهائية في الاستهلاك، وهو مفهوم- يقول المسيري- مدمر للإنسانية وفق محدودية الموارد، والاستعاضة عنه بمفهوم “التوازن” الذي يحقق جوهر الإنسان ويجعله في حالة توازن مع نفسه ومع الطبيعة. [حوار مع الشرق الأوسط]

والأساس الذي يني عليه المسيري آراءه تلك- أي أن فكرة التقدم المستمر واللانهائي (أساس الحضارة الغربية) فكرة مدمرة- هو اعتبار هذه الفكرة مبنية على أساس أن المصادر الطبيعية لا تنفذ، وهو- كما يقول المسيري- مخالف لما هو سائد علميا من أن هذه المواد قابلة للنفاذ. [حوار مع الشرق الأوسط]

وتعميقا لمطلب “إسقاط مفهوم التقدم المستمر واللانهائي” يبين المسيري أن حداثة داروين مبنية على الاستهلاك وتصاعد الإنتاج، الاستهلاك ومزيد من الاستهلاك من أجل تصاعد الإنتاج، والإنتاج من أجل الاستهلاك، وهذا نموذج لا يمكن أن يتكرر لأن 20 % من البشر يستهلكون 80 % من المصادر الطبيعية!!

وكعادته في العمل على إقناع القارئ بدقة وجهة نظره، يذكرنا المسيري إلى أننا إذا أردنا أن نكرر النموذج (الغربي) فمعنى ذلك أن بلدا مثل الصين وحدها تحتاج مثلا إلى 500 مليون سيارة، ثم يضيف: “عندما نتحدث عن أن حداثة الغرب، المبنية على الداروينية، قدمت للعالم التكنولوجيا، أقول أنها أفادت أعضاء الطبقة البرجوازية في العالم وأهلكت الجماهير، وبحساب بسيط يمكن أن نعرف كم مليون من أعضاء هذه الطبقة البرجوازية يركبون السيارات مثلا، وكم مليون من الجماهير في العالم كله أهلكتها الداروينية بالتلوث الناتج عن استهلاك البرجوازية لهذه السيارات”. [أمريكا تعسكر العولمة، بتصرف]

فالحداثة البديل للحداثة الداروينية تتميز بكونها حداثة منفصلة عن الاستهلاك. لكن هل هذا التوجه الذي يدعو إليه المسيري هو رديف التقشف ونقيض الرفاهية؟ يجيبنا المسيري أن المطلوب هو تحقيق الحد الأدنى من الرفاهية للناس. وذلك من خلال إعادة تعريف الرفاهية بربطها بمفهوم العدل أي أن الموارد الطبيعية يتم تقسيمها في الماضي والحاضر والمستقبل، وبالتالي يمكن طرح السؤال التالي: كيف يمكن مواجهته بالمعطى القائل بأن ما استهلكه الإنسان الأمريكي في القرن الماضي يعادل كل ما استهلكه الجنس البشري عبر تاريخه؟! فالمسألة تحسب إذن بالمدخلات والمخرجات. ويتساءل المسيري في هذا الصدد: فهل أمريكا أخرجت وأنتجت في 100 سنة ما أنتج الجنس البشري عبر تاريخه؟! ولذلك- يستأنف المسيري تحليله- لو طبقنا منظور الرأسمال الثابت الطبيعي لافترضنا أن أكثر الدول اكتظاظًا بالسكان هي الولايات المتحدة الأمريكية؛ لأن الإنسان الأمريكي يستهلك ما يعادل ألف هندي، ومعنى ذلك أن تكون الولايات المتحدة أكثر كثافة من الهند!! [نحو حداثة إسلامية..، بتصرف47]

يقودنا السياق السابق إلى أن “الحداثة الجديدة”،كما ينشدها المسيري، تؤسس لنموذج انتفاضي قائم على معادلة أن ما هو معطى محدود، وأن داخل الإنسان مخزون روحي ضخم جدًا.

وبدل فكرة تصعيد الرغبات يطرح المسيري فكرة تصعيد التطلعات النبيلة والتكافل والتراحم والزهد ومختلف القيم الكائنة في ذاتنا الحضارية. [حوار مع مجلة “الإنسان”، ع7، س2، مارس 1992]

ويسوق المسيري مفهومًا جديدًا لحداثة بديلة جديدة، لا يكون جوهرها التقدم اللانهائي وإنما التوازن مع الذات ومع الطبيعة، وألا يكون المؤشر الأساسي على التقدم والحداثة الاستهلاك؛ فالمؤشر الأساسي يجب أن يكون هو مدى التوازن.

وبصدد تقديمه لأمثلة على نوعية المؤشرات والمعايير التي ينبغي أن تضبط مسار “الحداثة الجديدة”، يقول المسيري أنه حينما يقال أن أكبر معدلات الانتحار موجودة في أكبر البلدان تقدما يجب أن يؤخذ على أنه مؤشر على التخلف؛ فلا يمكن أن نقول إن التقدم يؤدي إلى الانتحار لأنه في هذه الحالة ليس تقدمًا.

ومثلا يوجد الآن، يقول المسيري، في علم الاقتصاد ما يسمى Fixed Natural Capital أي الرأسمال الطبيعي الثابت الذي هو الأوكسجين والأرض لأي مشروع صناعي، فلا بد وأن تحسب ضمن التكاليف مدى استهلاك الرأسمال الطبيعي الثابت. [نحو حداثة إسلامية، 46].

بعبارات أخر، لابد من أن نتخلى عن مفهوم التقدم المادي الذي يجعل الهدف من الحياة هو الاستهلاك، والذي يجعل من أفق الإنسان لذته وسعادته وفرديته المطلقة، فهذا التوجه الاستهلاكي- يقول المسيري- هو الذي يدمر الإنسان والعالم، ويجعل الشيء (السلعة) محور اهتمام الإنسان، بدلا من أن تكون إنسانيتنا المشتركة محط اهتمامنا.

ولا تقتصر خطورة ارتباط الحداثة بالاستهلاكية والفردية المطلقة فيما ترسخه من سلوكات وتقاليد جديدة، بل إن هذا الارتباط هو الذي يساعد على إشاعة النموذج المعرفي الغربي، وهو الذي أدخل العالم في هذا السباق المريع نحو الاستهلاك، وهو الذي يؤدي إلى هدم الخصوصيات. [العالم من منظور غربي، 305]

ولابد أن نشير إلى أنه رغم اختلاف المسيري مع التنظيمات الإسلامية في أشياء كثيرة إلا أنه يرى أن برامجها أكثر واقعية من الدعوات التي تملأ التلفزيونات العربية، والتي تسبب الإحباط الشديد للجميع. ويتمثل هذا البرنامج في التركيز على خطاب إسلامي يَعِدْ بالعدل لا بالاستهلاك، يعد بمجتمع فيه قيم أخلاقية ثابتة، ولا يعد مثلا بفتاة جميلة في سيارة.. فيقدم له صورة مختلفة. [تحيزات المعرفة، 28] وذلك لأن الإسلام- كما يقول المسيري- كرؤية للكون يرفض هذه الرؤية المادية البروميثية الفاوستية؛ فهو يدعو للتوازن بين الإنسان والكون، وينمي في الإنسان إحساسه بذاته الإنسانية وبمنظوماته الأخلاقية التي تخلق مسافة بينه وبين الطبيعة والمادة وتزوده برؤية تمكنه من رفض هذه الاستهلاكية التافهة الشرسة. وعن المقاومة التي تبديها قطاعات واسعة من المسلمين للرؤية المادية وتبدياتها المختلفة يضيف المسيري قائلا: ولا تزال الشعوب الفقيرة في عالم الإسلام تجاهد هذا النظام العالمي الجديد والقديم. [الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، 177]

ويزيد المسيري هذه الفكرة وضوحا مشيرا إلى أنه لابد من التصدي لهذه النزعات المعادية للإنسان وللتاريخ. وفي رأيه فإن هذا التصدي لا يمكن أن يتم إلا عن طريق الجهاد ضد عمليات الترشيد والمكدلة والكوكلة Macdonaldization and Cocacolization.

ويمضي المسيري في الكشف عن مفهومه للجهاد (في وقت أصبح فيه استعمال هذا المصطلح تهمة حسب المنظور الأمريكي الدارويني، ويخجل الكثير من المثقفين العرب من ذكره) مبينا أن المقصود منه في هذا السياق هو الجهاد الأعظم أي مجاهدة النفس.

إن مجاهدة النفس في المنظور المسيري هي تلك المجاهدة التي تجعل الإنسان يكتشف ما بداخله من أسرار فيدرك أنه ليس بمادة ميتة صماء، وأنه ليس مجرد مجموعة من المصالح الاقتصادية والدوافع الغريزية، وأنه بوسعه، لو شاء، أن يُعرِّف مصالحه بطريقة لا تتعارض بالضرورة مع خصوصيته القومية ومنظوماته القيمية. [الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، 176]

ولا يريد المسيري أن يجعل من (مجاهدة النفس) مسلكا خاصا بالإسلاميين، بل يرى أنه داخل هذا المسلك يمكن أن يعقد تحالف بين العلمانيين [يقصد العلمانيين الجزئيين] والإيمانيين [ليس المقصود المسلمين فقط إنما الإيمانيين من كل دين والمرتبطين بالرؤية المتجاوزة] للتصدي لهذه الآلهة المهلكة التي تمسك بتلابيب العالم، وتصعد من أحلام البشر الاستهلاكية، وتبشر بمستوى معيشي يتنافى مع حدود الطبيعة ذاتها وتوازنها، بل ومع حدود الإنسان وتوازنه مع نفسه. [الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، بتصرف، 176- 177]

ومما يساعد على إمكانية عقد هذا التحالف، في إطار “مجاهدة النفس”، هو ما نلحظه من أوجه الالتقاء بين الفكرين الإسلامي والقومي؛ فكلاهما- يقول المسيري- يصدر عن نقد عميق للحداثة الغربية ورفض أعمق لنموذجها المعرفي المادي، ومن ثم ثمة إيمان بروحانية الإنسان وخصوصية الحضارات وإمكانية التقدم حسب شروط الهوية الخاصة والقيم الإنسانية التي لا تنبع من القانون المادي العام ولا تهتدي بهديه. [الناصرية والإسلام والاستقلال الحضاري، 489] وقد أدرك القوميون أن القومية التي لا تكملها منظومة قيمية- يقول المسيري- تنكفئ على ذاتها وتصبح مرجعية ذاتها ولا تقبل بأي معايير إنسانية أو أخلاقية خارجية، أي إنها تتحول إلى فاشية، كما [أيضا] أدرك الإسلاميون بدورهم أن الأمم الإسلامية لا تَجُب [بضم الجيم] بالضرورة الانتماءات القومية المختلفة. [العلمانية تحت المجهر، ص: 234]

ويمكن أن نقول دون تردد أن الجهود المعرفية التي قام- ويقوم- بها المسيري كفيلة بأن تكون أرضية أساسية ومنطلقا أساسيا للتصدي للحداثة الغربية/ الداروينية. فعلى سبيل التمثيل نجد أن مقاربات المسيري للعلمانية تسمح بفصل العلمانيين العرب (من المتمسكين بالقيم والثوابت الأخلاقية والعلمانية الجزئية) عن العلمانيين الغربيين من دعاة العلمانية المادية (الشاملة) التي تؤدي إلى العولمة ومحو الخصوصيات واستعمار الآخر غير الغربي؛ إذ هناك رقعة مشتركة كبيرة بين العلمانيين والدينيين، ويصبح المشترك هو المرجعية النهائية وبهذا يمكن تأسيس عقد اجتماعي جديد؛ بمعنى آخر، لابد من طرح المسألة العلمانية في إطار المرجعية؛ لأن الإنسان العربي العلماني- كما يقول المسيري- لا يدرك الفلسفة العلمانية – ولذلك سماها المسيري “علمانية جزئية”- وذلك لأنه يؤمن بالقيم. [نحو حداثة إسلامية، 48]، ومما يشجع على الانفتاح على العلمانيين العرب هو أن معظمهم من العلمانيين المسيحيين الذين يؤمنون بمجموعة من القيم. [المرجع السابق، 49]

ولعلنا بذلك- يضيف المسيري- يمكننا توحيد الصفوف وصرف الجهد النظري في إدراك واقعنا وفي الاجتهاد بخصوص كثير من القضايا المعاصرة. [الناصرية والإسلام والاستقلال الحضاري، 493- الصهيونية والعلمانية والإسلام (حوار)، من موقع: www.qudsway.com نقلا عن موقع: www.elmessiri.com]، بل لا يقتصر الأمر على العلمانيين والدينيين إنما إذا كان هناك من دعاة الإنسانية Humanism– يقول المسيري- مَن يؤمن بالقيم المطلقة فلا بد من الدخول معه في تحالف [أي في عقد اجتماعي] حتى لو كان ملحدا! [حوار مع جريدة “العصر”، 19] بل يذهب المسيري بعيدًا في هذه المسألة عندما يرى أن الثقافة الإسلامية القائمة على فكرة الإله الواحد، وبالتالي مقدرة الإنسان على تجاوز السطح المادي، هي في هذا تلتقي مع الحركة الإنسانية الغربية ذاتها. إذن- يضيف المسيري- ليست قضية الإسلام ضد الغرب، بل هي قضية حضارة قائمة على نفي التجاوز وملتزمة بالعقلانية التكنولوجية، مقابل أي حضارة تدعو إلى التجاوز والإنسانية.

وأنا أعتقد- يقول المسيري- أن هذا ما يعنيه هنتنغتون عندما يشير إلى الإسلام والكونفوشية في حديثه عن “صدام الحضارات”؛ فكلا العقيدتين تؤمنان بالتجاوز وبرفض الحتميات المادية. [نحو حداثة إنسانية جديدة، www.aljazeera.net، صفحة: وجهات نظر، التاريخ: 16/ 12/ 2004]

إن المهم هو أن تتحد الجهود من أجل مواجهة تلك الحداثة التي تهدد الإنسان في وجوده، وأن يكون هناك إيمان بأن الحداثة الداروينية ليست حتمية؛ لأن “المجاهد” داخل الإنسان- كما يقول المسيري- سينتصر بمشيئة الله، وأن القيم الإسلامية من الممكن أن تحشد هذه الأمة لكي تقف ضد هذا الاتجاه المميت الذي يذيب الخصوصيات القومية والخصوصيات الدينية أيضا. أي أنه اتجاه يعادي أي نوع من القيم سواء كانت قيما قومية إثنية أو قيما إنسانية دينية. [العولمة والشرق أوسطية، في كتاب: الإسلام والعولمة (ندوة)، الطبعة الثانية: 1999، 90]

بكلمة جامعة، إن الموقف الإنساني من الحداثة الداروينية المنفصلة عن القيمة هو جزء من هذه الثروة العالمية ومن المحاولة الرامية إلى مراجعة المفاهيم المعادية للإنسان التي سيطرت على الحضارة الحديثة.

ولذا- يقول المسيري- فقد يكون من الأجدى أن يوحد الجميع قواهم وأن يتعاونوا على توليد المشروع الحداثي العربي والإسلامي كجزء من المحاولة الإنسانية العامة التي تحاول تجاوز الحداثة الداروينية، المنفصلة عن القيمة، المبنية على الصراع، والتنافس والتقاتل والاستهلاك المتصاعد حتى نتوصل إلى حداثة إنسانية، تنطلق من إنسانيتنا المشتركة؛ حداثة تدير المجتمع بطريقة مختلفة، فهي لا ترى الإنسان مادة محضة، ولا تنفصل عن القيمة.. وإنما تدور في إطار منظومة قيمية ترى أن تحقيق السعادة لا يكون بالضرورة عن طريق زيادة الثروة ونهب الطبيعة، واستغلال الإنسان، وإنما عن طريق تبني قيمة إنسانية، تبني مثل العدل والتكافل والتراحم، والتوازن( مع الذات ومع الطبيعة).. وفي ذلك خيرنا.. وخير الإنسانية كلها. [الحداثة ورائحة البارود، من موقع: www.balagh.com، صفحة: قضايا معاصرة]

 

المبحث الخامس:

المستوى المعرفي في قراءة النص الديني

سنحاول في هذه الفقرة أن نكتشف بعض المداخل والمقدمات المعرفية والمنهجية التي يعتمدها- أو يدعو إليها- عبد الوهاب المسيري من أجل قراءة النص الديني. لكن قبل ذلك، وباختصار شديد، نشير إلى ملاحظتين أساسيتين:

الأولى: هذه المداخل أو المقدمات متداخلة فيما بينها ولا يصعب الفصل بينها؛ بل إن التداخل والتشابك بينها هو الغالب. وفصلنا إنما هو فصل منهجي فقط.

الثانية: بما أن النص الديني (القرآني فالحديثي) يمثل النص المرجعي الذي تستند عليه- وإليه- عملية الاجتهاد الإسلامي، فإننا قد أفردنا في هذه المحاولة، مساحة متميزة لمقاربة المسيري للنص الديني.

 

 

المدخل الأول: الوعي بالعلاقة الضرورية بين “النسبية الإسلامية” والاجتهاد الإسلامي:

يعتقد المسيري أن إضفاء “قيمة” النسبية على آلية الاجتهاد يعتبر مقدمة أساسية للوصول بالحوار إلى النتائج المنشودة. وينطلق المسيري من تقريره لتلك القاعدة من كون الاختلاف بين البشر حقيقة إسلامية. يقول المسيري: … فالمسلم، بصفته مسلما، يؤمن بأن الإسلام هو الدين الحق؛ لكن يعرف- أي المسلم- أيضا أن الآخرين قد لا يؤمنون بما يؤمن به، ولحسم الصراع- يضيف المسيري- يتم اللجوء إلى الحوار. [من كتاب العلمانية والممانعة الإسلامية، ص: 225]

وفي إطار ما سبق نفهم حرص المسيري على إضفاء طابع الاجتهاد والنسبية على آرائه.. وقد تجلى هذا الأمر بشكل جلي عندما استبدل عبارتي “أقل تفسيرية” و”أكثر تفسيرية” بـ”ذاتي” و”موضوعي”؛ لأنهما تؤكدان دور العقل الإنساني، وتستعيدان البعد الاجتهادي غير النهائي في عملية رصد الواقع، على عكس “موضوعي” و”ذاتي” اللتين تدوران في إطار الموضوعية السلبية المتلقية. [اللغة والمجاز، ص: 218]

وقد نحت المسيري مصطلح/ مفهوم “النسبية الإسلامية” لإبراز البعد البشري على أي اجتهاد يطال النص الديني.. وهذا المصطلح/المفهوم يقتضي الإيمان بأن الله هو وحده الثابت الذي لا يتحول وما عدا ذلك فمتغير، وهو وحده الذي يحيط بكل شيء. ويستشهد المسيري بقوله تعالى: ]وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً[ [الإسراء: 85]، وقوله سبحانه: ]وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ[ [يوسف: 76] [رحلتي الفكرية، ص: 238]

المدخل الثاني: ضرورة فصل الإسلام كمثال عن الإسلام كتاريخ:

يدعو المسيري إلى فصل الإسلام كمثال (كمعيارية نهائية) عن الإسلام كتاريخ؛ فتاريخ المسلمين، شأنه شأن أي تاريخ، لا قداسة له، فهو ممارسة ضمن ممارسات أخرى، اهتدت بهدي الإسلام، اقتربت من المثال تارة، وابتعدت عنه أخرى.

فالتاريخ- يقول المسيري- اجتهاد قد يصيب “اللاعبون” فيه وقد يخطئون، ومن أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد، وحسابه عند الله. [الناصرية والإسلام والاستقلال الحضاري، ص: 484- 485]

المدخل الثالث: النظر إلى النص القرآني باعتباره نصا متساميا:

يذهب المسيري إلى أن القرآن هو نص “متسام” للأسباب التالية:

أ- القرآن هو النص المقدس المليء بالمعاني الذي يتعامل مع الكليات تاركا لنا جزئيات الواقع. ووجود هذه المسافة بين الكليات والجزئيات- يقول المسيري- هي التي تشكل مجال تفاعل الإنسان المخلوق مع خالقه، وهكذا فهي مجال حريته ومسؤوليته.

ب- العقل الإنساني عاجز عن الإحاطة بكل معاني القرآن دفعة واحدة أو حتى على دفعات، ولذا فثمة مسافات نتيجة هذا العجز. ويدعونا المسيري، في هذا الصدد، كي نتذكر دائما أن القرآن مطلق، هو كلام الله، وأن العقل محدود ونسبي، ولا بد أن يعجز العقل النسبي المتناهي عن الإحاطة بالمطلق اللامتناهي.

وهذه الخاصية تجعل القرآن، يقول المسيري، ذا مقدرة توليدية لا متناهية، تولد معارف صالحة لكل زمان ومكان، دون أن تسقط في النسبية؛ إذ تظل المطلقات الكلية هي التي تشكل إطار المعرفة المتجددة المولدة من النص. [في أهمية الدرس المعرفي، مجلة “إسلامية المعرفة”، السنة الخامسة، العدد: 20، ص: 121].

ونعتقد أن النظر إلى النص القرآني بتلك النظرة “المسيرية” كفيل بتجاوز مجموعة من العوائق التي تحول دون الوصول إلى قراءة للنص تعيد له حيويته وفعاليته؛ كعائق عدم الربط بين “فهوم النص” وبين السياق الذي تحكَّم في ولادة هذه الفهوم، وكعائق “الثبات المنهجي” أي الجمود على منهج واحد وأدوات واحدة في قراءة النص القرآني.

ولا يخفى مدى مساهمة هذين العاملين في إفقاد النص القرآني القدرة على استيعاب الحياة وتأطيرها بالشكل السليم.

إن “وجود المسافة بين الكليات والجزئيات”واعتبار” المطلقات الكلية هي التي تشكل إطار المعرفة المتجددة المولدة من النص”، تعني- فيما تعنيه- أولوية ومركزية الالتفاف حول النص بدل الالتفاف حول “فهوم النص”.

والمسيري من خلال نظرته تلك إلى القرآن يرفض- كما هو مفهوم نصه- أن يزاحم النص القرآني نص آخر (المفهوم/ النص التراثي).

إن هذه المركزية التي يمنحها المسيري للنص القرآني نابعة، في رأينا، من المركزية التي يمنحها للتوحيد، ولفلسفة التجاوز. إذ أنه سيكون من المنافي للتوحيد أن نضع القرآني المؤسس والمرجعي في منزلة النص التراثي المولَّد!! وهذا نوع من “الشرك المستبطن” الذي قد يستبطنه الإنسان، بدون وعي، وقد يكون- هذا الإنسان- من أكبر المدافعين عن التوحيد!!

لقد كان لذلك المسعى الذي لا يميز بين “النصين” انعكاسات معرفية خطيرة على عملية الاجتهاد (كآلية لجعل الإسلام يواكب العصر ويجيب على أسئلته). من بين هذه الانعكاسات: حصول نوع من الارتباك والاضطراب في توليد الأحكام والرؤى من داخل النص القرآني ذاته!؛ إذ إن التعلق بالنص الثاني/ المولَّد مهما كانت قوة ارتباطه بالنص الأول/ المولِِّد، يظل قاصرا، بل عاجزا، عن الإجابة على الأسئلة المستمرة التي يفرضها تطور المجتمعات وتغير الثقافات؛ لأن النص الثاني تحكَّم في ولادته عاملان أساسيان على الأقل، وهما: “عامل الأسيقة” (أي جملة الأسئلة التي يستصحبها الإنسان/ القارئ أثناء قراءته للنص القرآني) و”عامل الأدوات” (أي جملة المعارف المتوفرة في عصر ولادة النص الثاني).

وكما تماهى “النص” مع “الفهوم والمعاني”، تماهت – أيضا- “القيم” (أو الأخلاقيات القرآنية كما يسميها بعض الباحثين) مع “التعبيرات” (أي الترجمة العملية لتلك القيم إلى أشكال وآليات حضارية وثقافية). وفي التنبيه إلى “آفة” المزج بين “القيم” و”التعبيرات” في المجال السياسي (أو ما يسمى في مجالنا التدوالي الإسلامي بـ”السياسة الشرعية”) يقول المسيري: القرآن الكريم لا يتضمن آليات سياسية مفصلة أو مفروضة يجب على المسلم الالتزام بها. فالقرآن يمنحنا قيما لنظام سياسي: العدل، والكرامة، والمساواة، والحرية، لكنه لا يفرض آليات سياسية معينة على البشر، لأن النظم السياسية قابلة للتغيير بمرور الوقت.

وعندما كتب الماوردي “الأحكام السلطانية”، يضيف المسيري، في القرن الحادي عشر، والذي أصبح من المصادر الرئيسة للفكر الإسلامي منذ ذلك الحين، استمد الآليات السياسية للحكم التي أشار إليها من التقاليد الرومانية والبيزنطية والفارسية.

وهناك آليات أخرى كانت تعتبر سمات أصيلة للسياسة الإسلامية منذ البدايات الأولى. فمثلا، والكلام دائما للمسيري، كان موضوع المسؤولية القانونية والسياسية للحاكم دائما جزء من التقاليد الإسلامية. وممارسة عمر بن الخطاب لها تعتبر مثالا جيدا على ذلك. وسواء التزم الحكام المسلمون بهذا المبدأ أم لا فهو موضوع آخر، لكنه كان موجودا كجزء من تقاليد الجيل الأول الذين خلفوا الرسول r. [انسجام القيم الثابتة والآليات المتغيرة على الدوام، www. aljazeera.net، الصفحة الرئيسية: وجهات نظر، التاريخ: 27 يناير 2005].

إن عدم ملاحظة الفروق الجوهرية والنوعية بين المجالين؛ “مجال القيم” و”مجال الآليات” (التعبيرات في مصطلحنا) يجعل هذه التعبيرات/ الآليات قيما جديدة كما غدت تلك الفهوم البشرية نصوصا جديدة! فما أنتجه “الماوردي” أو “ابن تيمية”، على سبيل المثال، من نصوص في “الفكر السياسي الإسلامي” لا يمكن اعتبارها الآلية الوحيدة والممكنة أو التعبير الوحيد والممكن عن “القيم القرآنية” بخصوص قضايا الاجتماع البشري والسياسي.

ويمكن اعتماد مقولة المسيري: انسجام القيم الثابتة والآليات المتغيرة على الدوام، كقاعدة أساسية في مقاربة النص القرآني. وكأن المسيري يريد أن يقول لنا: إن ما أبدعه المسلمون في تاريخهم من آليات وتعبيرات، في مجالات الحياة برمتها، ليست هي التعبيرات والآليات الوحيدة والممكنة بخصوص تلك المجالات. فمن نفس القيم (القيم الثابتة) يمكن توليد تعبيرات وآليات جديدة.

المدخل الرابع: ضرورة التفريق بين ” الحرفية” و” الأصولية” في مقاربة النص الديني:

يعتبر المسيري من المفكرين الذين يحتل الاجتهاد والتأمل في النصوص الدينية لديهم مركزية كبيرة. فالاجتهاد هي الآلية القادرة على توليد معاني ودلالات من النصوص تكون قادرة على الإجابة عن كل التساؤلات التي يفرضها تطور المجتمعات وتغير الثقافات. وعندما تختلف الاجتهادات يكون الحوار هو الآلية ليس لحسم الاختلافات (أو ما يسميه البعض بـ”تحرير الخلاف”) إنما من أجل جعل كل صاحب اجتهاد يتفهم الدواعي والمقدمات التي قادت المجتهد الآخر للوصول إلى رأيه، ومن ثم البحث في كيفية تجريد من المختلف مشتركا يكون قاعدة للتعاون.

ومن أخطر ما يمكن أن يحول دون بروز اجتهاد حقيقي وإيجابي هو الانشداد إلى ما يسميه المسيري بـ”الحرفية” أثناء التعامل مع النصوص الدينية، وأيضا أثناء محاولة بناء فهم سليم للتراث الإسلامي. فرغم الاعتراف الصريح بكون الاجتهاد مطلوب إلا أنه لا بد أن تكون هناك مجموعة من الضوابط والقواعد تجعل الاجتهاد مبنيا على أسس متينة.

ويدعو المسيري إلى ضرورة التفريق بين الحرفية والأصولية أثناء أي محاولة للاقتراب من النص المقدس (الديني). فالأصولية- يقول المسيري- هي رفض لكثير من الممارسات الدينية وبعض تفسيرات [النص الديني]، التي تراكمت عبر العصور، ودعوة للعودة إلى أصول الدين الأولى وممارسات واجتهادات الأولين والصالحين والحكماء، ومحاولة تفسيرها تفسيرا جديدا، وتوليد معان جديدة منها تتلاءم والزمان والمكان اللذين يوجد فيهما المفسر الأصولي.

وهذه الأصول- في نظر المسيري- لأنها “الكل” و”الجذر” و”القيمة الحاكمة”، تشكل الإطار العام لعملية اجتهاد مستمرة في كل عصر، يقوم بها عقل المؤمن المفسر المجتهد بالعودة إلى النص المقدس [الديني].

والمفسر الأصولي، رغم رفضه لبعض التفاسير الموروثة، لا يلجأ إلى التفسير الحرفي، إلا إن تطلب النص المقدس ذلك. وهو لا يجتزئ من النص المقدس مقطعا ينتزعه من سياقه ثم يفرض عليه أي معنى حرفي قد يروق له (ويتفق ومصلحته) بل يفسَّر في إطار ما يتصوره المنظومة الدينية الكلية، وفي إطار النص المقدس في شموله وكليته وتركيبيته.

بكلمة أخرى أكثر دقة ووضوحا، إن الاجتهادات التي يصل إليها الإنسان ليست هي ذاتها النص المقدس [الديني]، وإنما تتراوح في قربها وبعدها عنه. [اللغة والمجاز، ص: 176- 177].

أما الحرفية في التفسير [والتعامل مع النص الديني] فهي أن يلجأ المؤمن بكتاب مقدس ما إلى التمسك بحرفية النص، دون اجتهاد أو إعمال عقل، وكأن النص- يقول المسيري- يحمل رسالة واضحة مباشرة صريحة مثل القاعدة العلمية، أو اللغة الجبرية، أو الصيغة السحرية، أو الأيقونة التي تفضي بمعناها لمن يتعبد أمامها.. بل كأن النص هو تجسد للإله في العالم، وكأن العالم هو كل عضوي مصمت، لا ثنائيات فيه ولا أسرار.

ثم يمضي المسيري في تبيان وتعميق الحديث حول طبيعة “التفسيرات الحرفية”؛ حيث يرى أن ما يحدث في ظل هذه التفسيرات هو إلغاء المسافة التي تفصل بين الدال والمدلول، وإلغاء فكرة الزمان تماما وإلغاء ثنائية الدنيا والآخرة. فالتاريخ المقدس- يضيف المسيري- يصبح سيناريو ماديًّا مباشرًا (صورة طبق الأصل من الواقع) آخذا في التحقق الآن وهنا (ولذا لا يمكن الاجتهاد في التفسير)، وكل ما ورد في النص المقدس يتحقق حرفيا في ذلك التاريخ. وبالتالي، فإن التاريخ المقدس (المطلق) يصبح هو التاريخ الإنساني (النسبي)، ويصبح النص المقدس أيضا متطابقا تماما مع الطبيعة (وقوانين العلم). ولذا فإن كلام الإله المتجاوز يصبح قوانين الحركة. [اللغة والمجاز، بتصرف، ص: 177].

وقد يكون الكلام الذي سقناه بخصوص المسار الذي ينبغي أن تسلكه عملية الاجتهاد الحقيقي، قد يكون هذا الكلام معروفا لدى الأصوليين (علماء أصول الفقه) وإن جاء نص المسيري بلغة فلسفية مختلفة عن لغة الأصوليين القدامى كما المحدثين.. لكن الجديد في كلام المسيري هو ربطه الحرفية (كآلية لمقاربة النص المقدس/ الديني) بالبعد العقدي أو ما عبرنا عنه في مبحث آخر بـ”فلسفة التجاوز”.

فإذا كانت الرؤى رؤيتين؛ رؤية متجاوزة/ توحيدية وأخرى رؤية كامنة/ حلولية فإن اختيار “آلية الحرفية” لمقاربة النص المقدس/ الديني هو سقوط في “التبني” الواعي أو غير الواعي للرؤية الثانية.

وهذا أخطر ما يمكن أن يصاب به العقل الإسلامي؛ أن يتبنى في خطابه الظاهر رؤية توحيدية متجاوزة لكن على مستوى الآليات التي يشتغل بها “عقله” هي آليات تنسجم مع رؤية أخرى. وإن الخطورة تكون أعمق عندما يكون اعتماد آلية الحرفية لمقاربة النص الديني/ المقدس يتسق فلسفيا مع سيطرة الحلولية الكمونية على العالم، والتمرد على الثنائيات.

ومن بين أهم المؤشرات التي تقود إلى السقوط في “آلية/ آفة الحرفية” وبالتالي السقوط في دائرة الرؤية الحلولية/ الكامنة، من أهم هذه المؤشرات الهجوم على لغة المجاز والاستعارة. فالمسيري يعتبر هذا الهجوم هجوما على سمات لصيقة بالرؤية التوحيدية المتجاوزة، من بينها:

السمة الأولى: تجاوز الإله للعالم.

السمة الثانية: تجلي الإله في التاريخ والطبيعة دون أن يتطابق معهما أو يكمن فيهما (فثمة علاقة انفصال واتصال).

السمة الثالثة: إنسانية الإنسان باعتباره كائنا مركبا ربانيا يحوي داخله عناصر طبيعية، كما يحوي ما لا يمكن رده إلى المادة، فعلاقته بالطبيعة هي أيضا علاقة اتصال وانفصال.

بكلمات أخر، إن اعتماد آلية الحرفية في مقاربة النص المقدس هو هجوم على لغة المجاز، وهو بدوره هجوم على سمات أساسية تتميز بها الرؤية التوحيدية: سمة التجاوز، وسمة التجلي، وسمة الإنسانية.

ويلاحظ المسيري أن هذا الهجوم الحرفي على لغة المجاز يصاحبه البحث عن لغة علمية جبرية، دقيقة واضحة محايدة تصلح للتعبير عن كل من الظواهر الإنسانية والطبيعية. [اللغة والمجاز، ص: 177- 178].

يقول المسيري في هذا السياق: إن المجاز تعبير عن التجاوز، أي هناك شيء وراء المادة وأعظم منها (…) فاللغة المجازية فيها تجاوز للسطح المادي. ونجد- يضيف المسيري- أن هناك مجازا كثيرا في النص المقدس، ولا يمكن أن يُفهم حرفيا، فلا بد من استدعاء المجاز؛ لأن النص المقدس هو كلام الله لنا، أي أن المطلق يتحدث إلى النسبي، فلا بد من تطويع اللغة، والله- يضيف المسيري- يطوع اللغة الإنسانية التي هي موجودة في عالم المادة حتى يمكن أن تعبر عنها. [نحو حداثة إسلامية، ص: 43]

ويرى المسيري أن التفسيرات الحرفية تفسيرات شعبوية، لأنها سهلة للغاية. ويمضي المسيري شارحا لهذه الفكرة مشيرا إلى أن “المفسر الحرفي” يفتح النص المقدس ويأخذ منه سطرا أو سطرين ويفسرهما بطريقة مباشرة. فالشخص العادي (خاصة في العصر الحديث بعد عزله عن تراثه وتاريخه) يريد أن يشعر ويدرك بحواسه الخمس، وهو يفضل الدقة والتحدد على التركيب والإبهام، ويفضل المباشرة على المجاز والتجاوز (أي أنه يفضل المعادلات الرياضية على الشعر)، ولذا- يقول المسيري- فإنه يريد حين يفتح الكتاب المقدس أن يعرف المقابل المادي لما جاء فيه. [اللغة والمجاز، ص: 178].

وينبهنا المسيري إلى مسألة أساسية وهي أنه حين نستخدم كلمة “أصولية” فلا بد أن نردفها بكلمة “حرفية” حتى نفرق بين هذه الحرفية والأصولية الحقة التي تصدر عن الإيمان بأن الإله متجاوز، وأن العالم المادي ليس هو البداية والنهاية، وأن مركزه ليس كامنا فيه.

ولذا- يضيف المسيري- فإن ثمة ثنائية لا يمكن محوها تجعل التفسيرات الحرفية أو ( الباطنية) الواحدية تعجز عن تفسير عالم مركب، فهي تعبير عن الرغبة الجنينية الكمونية في الهروب من التركيب والثنائيات الفضفاضة. [اللغة والمجاز، ص: 179].

إن الحرفية- في تصور المسيري- تهدد الدين، فإذا كانت الحرفية تبقى على السطح، فالاجتهاد الحقيقي يحاول الوصول إلى البنية الكامنة التي يمكن أن تنـزل الأحكام منها على واقعنا المعاصر. [أمريكا تعسكر العولمة].

ولما كان الفهم الخاطئ للمقولة الأصولية/ الفقهية “لا اجتهاد مع النص” قد يؤدي إلى إفقاد النص تلك القدرة على ضخ المعاني الجديدة التي ستسعف “المجتهد” في الوصول إلى اجتهاد حقيقي، لم يفت المسيري أن يشير إلى أن مقولة ” لا اجتهاد مع النص”( أي النموذج) يعني النص بالمفهوم التكاملي وليس النص الواحد؛ أي [معناه] جميع النصوص في تداخلها وفي علاقتها. وفي هذه الحالة ستكتسب هذه القاعدة، لا اجتهاد مع النص، مضمونا جديدا، ويمكن اللجوء إلى التوليد لا لأنه ما نحتاجه اليوم- في نظر المسيري- أن نولد من المنظومة الفقهية معرفة جديدة للمسلم الحديث الذي يواجه مشاكل لم يواجهها المسلم في العصور الماضية. [العقل الإسلامي بين الأنا والآخر، ص: 37].

المدخل الخامس: الوعي بالمسافة الفاصلة بين “النص” و”التفسير”:

في بعض الأحيان قد يكون استعمال شعار/ مقولة العودة إلى النص (القرآن والسنة) يتضمن في داخله ابتعادا عنهما. طبعا لا شك في أن من مقاصد رفع هذا الشعار هو الاقتراب من النص؛ أي من مراد الله تعالى.. لكن تدخل مجموعة من الاعتبارات تجعل كل اقتراب من النص- على مستوى النية والقصد- ابتعادا منه- فعلا واشتغالا-!! وذلك عندما لا يلاحظ الناظر في النص الدين/ القرآني المسافة التي تفصل هذا النص عن التأويل والتفسير.

ويعتقد المسيري أن ثمة مسافة بين النص والتفسير؛ فالنص وحده هو المقدس، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو ليس صورة حرفية للواقع، فهو مجاوز له، ولكنه في ذات الوقت ليس منفصلا تماما عن الواقع (وهذا ما سنراه في المدخل السادس).

أما التفسير- يقول المسيري- فهو اجتهاد، يأخذ شكل محاولة الوصول إلى المعنى الكلي والنموذج الكامن خلف كل من السطح والتفاصيل والمجاز واللغة المركبة.

ويرى المسيري أن المفسر يظل مجتهدا يقترب من النص ويحاول فهم معناه، وهو يعلم تماما أنه لن يصل إلى المعنى كله. والسبب، في تحليل المسيري، راجع إلى المسافة التي تفصل الخالق والمخلوق (وبالتالي بين إدراك الإنسان والمعنى الكامن في النص المقدس) والتي لا يمكن تجاوزها، وقد يمكن تضييقها بعض الشيء وتحويلها إلى مجال للتفاعل، ولكن لا يمكن إلغاؤها، وبالتالي فإن ما يصل إليه الإنسان ليس هو المعنى النهائي والمطلق، وإنما هو تفسير بشري له.. والمفسر- والكلام دائما للمسيري- هو المجتهد، وباب الاجتهاد مفتوح. وقد يصيب صاحبه، فهو بشر، فيكون له أجران، وقد يخطئ فيكون له أجر واحد.

كل ما سبق قوله يجعل المسيري يقرر بأن ما يصل إليه المجتهد/ المفسر من توليد وتجريد لـ”النموذج التفسيري الكامن” ليس هو النص المقدس. وإنما هذا النموذج هو نسق عقلي قام المفسر بتجريده من خلال إعمال عقله.

إن هذا المنحى في التفكير، في رأينا، نابع من المركزية التي يحتلها التوحيد في فكر المسيري. لذلك نجد المسيري يعتبر أن ملاحظة واحترام المسافة الفاصلة بين “النص” و”التفسير” نتيجة منطقية وطبيعية لتبني الرؤية التوحيدية؛ إذ في الرؤية التوحيدية، كما يقول المسيري، نكون أمام ثنائية فضفاضة، وهي ثنائية النص والتفسير (التي تقابل ثنائية النص والواقع، والدال والمدلول، والإنسان والطبيعة، وأخيرا.. الإله والإنسان).

المدخل السادس: الوعي بالمسافة الفاصلة بين “النص” و”الواقع”:

إن المسافة التي تفصل القرآن عن الواقع- يقول المسيري- هي مجال الجهد المعرفي، وهي الدعوة الإلهية للاجتهاد.

وينتقد المسيري القائلين بتطابق القرآن والواقع، الذين يتصورون أن المعرفة هي التنقيب في الكتاب والسنة عن المعلومات والمفاهيم الجاهزة، دون إعمال فكر. ويرى- المسيري- أن ثمة نزعة رجعية كامنة في هذا الموقف؛ إذ إنه يجعل الواقع إحدى النقط المرجعية، فهو مرادف للقرآن، بدلا من أن يكون العقل المسلم عقلا مجتهدا، يحاكم الواقع والمعطى الجزئي من المنظور الكلي القرآني. [في أهمية الدرس المعرفي، ص: 120].

ومن خلال هذا التحليل يفسر المسيري “طغيان” و”هيمنة” تلك المدارس الفقهية التي تتعامل مع النص القرآني باعتباره فقط مرجعا لاستنباط الأحكام العملية؛ وليس مرجعا لتوليد الرؤى والنماذج. وفي هذا الإطار، وبشيء من التفصيل، وجب أن نشير إلى عائقين اثنين نعتقد أنهما ساهما بشكل كبير في إعاقة القيام بمهمة صياغة “التعبيرات الحياتية الجديدة”، على أحسن وجه ممكن، وهما:

الأمر الأول: يتمثل في عائق حصر النص القرآني، الذي تستهدفه عملية الاجتهاد الشامل، في النص (أو الآيات) المتعلق بالأحكام، مع إغفال كبير للمساحات الأخرى من النص القرآني، كالنص القصصي، والنص المتعلق بقضايا الاجتماع البشري.. على سبيل التمثيل. وقد تكون تلك “المساحة المغيبة” تحمل في بنيتها الداخلية معاني ودلالات أقدر على استخراج النماذج المعرفية، وعلى تنظيم شؤون الحياة أكثر مما قد تمنحه “المساحة المغلبة”؛ أعني “مساحة الأحكام”!

الأمر الثاني: يتمثل في عائق حصر الفئة التي يحق لها مباشرة عملية النظر في النص القرآني في فئة الفقهاء (أو علماء الشرع)؛ أي تلك الفئة التي تتعامل مع النص القرآني بغية استنباط الأحكام الشرعية.

ولعل غلبة الذهنية الفقهية (بالمفهوم الضيق لكلمة “فقه”) في مقاربة النص القرآني قد يكون من أبرز النتائج المترتبة عن هذا التضييق من دائرة المعنيين بالنظر في النص القرآني.

وفي نفس السياق يقول المسيري: وهذا الموقف الحرفي، الذي يؤدي إلى رفض الاجتهاد، ورفض إعمال العقل، ورفض التجريد من أجل الوصول إلى الكليات الكامنة، قد شجع بعض المواقف الفقهية التي اكتفت في كثير من الأحيان بإصدار الأحكام التي تناسب المواقف المختلفة، ولم يتأمل أصحابها في القرآن والسنة ثم في التراث الفقهي ككل؛ لترتيب هذه الأحكام ترتيبًا هرميًّا ليستخلصوا منها نموذجًا، يمكن توليد الأحكام منه وتحديد معنى المفردات المختلفة من خلاله. ويعتقد المسيري أن هذه سمة عامة في الحضارة العربية الإسلامية. وهذا يفسر، في نظر المسيري، إلى أن هذه الحضارة التي أنتجت تراثًا حضاريًّا ثريًّا أجهضت عن طريق الضربة التترية ثم الصليبية فتشرنقت دفاعًا عن الذات، ولم تتأمل في تراثها ولم تستخرج منه النماذج المعرفية الخاصة بها. ويحدد المسيري الانعكاسات المعرفية لهذا المسار الذي سارت عليه الحضارة العربية الإسلامية، بوجه عام، فيما يلي:

أولا: ظلت الأحكام أحكاما جزئية؛ رغم وجود الإطار الكامل كامنًا فيها.

ثانيا: ظلت المصطلحات مصطلحات متفرقة لم يتم الربط بينها.

ثالثا: ظلت المقولات التحليلية غير واضحة، ولا تتمتع بقدر من التجريد يزيد من مقدرتها التفسيرية، ويجعلها قابلة للتشغيل.

وكما كان للضربات الصليبية والتترية- تاريخيا- دور في تكريس تلك النظرة للنص القرآني، كان لعمليات التغريب والعلمنة- في عصرنا الحاضر-، أيضا، دور في إدامة تلك النظرة؛ فتزايد واطراد تلك العمليات جعلت- كما يقول المسيري- الكثيرين يفزعون ويطالبون بالتمسك بكتاب الله وعدم الابتعاد عنه، وهم يتصورون أن التمسك يعني الارتباط بحرفية النص والاقتراب الشديد منه، وأن عملية التجريد هي في جوهرها عملية ابتعاد وتأويل. والنتيجة، في رأي المسيري، تتمثل في تعطيل وتعطل الانطلاقة المعرفية الاجتهادية المطلوبة في كل عصر. [في أهمية الدرس المعرفي، ص: 120- 121].

ونعتقد أن عدم التأمل في النص القرآني مباشرة من أجل توليد جملة من النماذج المعرفية، والاكتفاء فقط على دلالات النص التي اكتشفها “السابقون” أثناء تفاعلهم مع إشكالاتهم المعيشة، هو الذي يفسر ظاهرة عجز (أو ارتباك) الفقه/ الاجتهاد الإسلامي الحديث والمعاصر في الإجابة على الإشكالات (النوازل) الجديدة التي يفاجئنا بها العصر الحاضر، مثل مسألة “الجنسية”، والانضمام إلى جيش دولة غير مسلمة، والمشاركة مع هذا الجيش في حرب ضد “دولة إسلامية”، و”الاستنساخ الجيني” و…. قضايا أخرى جديدة. والسبب هو أن بعض المجتهدين يحاولون الإجابة عن هذه الأسئلة/ النوازل انطلاقا من استنطاق النص الثاني (النص التراثي) وهو نص كما قلنا تحكمت في ولادته الأسيقة والأدوات. وكان من الأجدى استنطاق النص الأول (أي النص القرآني) أو تثويره (ثوروا القرآن كما قال ابن مسعود [رضي الله عنه])؛ لأنه نص خالد، لاكتشاف معاني جديدة قادرة على الإجابة عن تلك الإشكالات/ النوازل، وتنظيم كل مرافق الحياة على ضوء هذه الإجابات وتلك المعاني.

ويحيلنا هذا التحليل إلى رؤية جانب كبير من التراث الفقهي الإسلامي التقليدي كنتاج طبيعي لتطور المجتمع الإسلامي وما كان يفرضه هذا التطور من أسئلة تكون لصيقة بذلك المجتمع. ومن ثم لما كانت معظم الأسئلة/ النوازل الجديدة التي يحبل بها واقعنا المعاصر- وضمنه واقع المسلمين- قد أفرزها التطور الطبيعي لمجتمعات وثقافات أخرى غير المجتمع الإسلامي والثقافة الإسلامية، لما كان الحال هكذا يمكننا القول بأن التراث الفقهي الإسلامي التقليدي قد لا يسعفنا في استيعاب الإشكالات الجديدة والإجابة عن الأسئلة/ النوازل المحدثة. وأنه لا مخرج من هذا “المأزق المعرفي” إلا بالعمل على الاتصال المباشر بالنص القرآني مع استصحاب الأسئلة والإشكالات الجديدة أثناء عملية قراءة النص القرآني. وفي هذا الصدد يقول المسيري: كان النموذج الفقهي (الإسلامي التقليدي) يعيش داخل الحضارة الإسلامية، يعيش مفرداتها الإسلامية، ونحوها الإسلامي، ولذا كان الفقيه القديم يواجه تحديات ويحاول الإجابة على أسئلة تطرح عليه من داخل الحضارة الإسلامية، لا من خارجها. ولكن- والكلام دائما للمسيري- اختلفت الآية الآن، فنحن نتحرك داخل حيز غير إسلامي، وداخل تشكيلات حضارية غير إسلامية (بما في ذلك البلدان التي تدعي أنها إسلامية)، وواقعنا ليس من صنعنا، ومن ثم تطرح علينا قضايا وأسئلة جديدة غير إسلامية. [في أهمية الدرس المعرفي، ص: 125].

المستوى المعرفي والتحليل النماذجي في مقاربة النص الديني:

كانت تلكم بعض المداخل/ المقدمات التي على ضوئها يقترح المسيري التعامل مع النص القرآني والنبوي؛ أو قل مقاربة النص الديني بوجه عام. وهي مداخل صالحة- في عمومها- لكل أنواع المقاربات والقراءات التي يمكن أن يستخدمها “القارئ” و”المقارب” للنص الديني؛ فهي زاد “المقاربة العلمية”، وزاد “المقاربة البيانية”… وهكذا.

والمسيري في منهجه الفكري يختار، أو على الأقل يقترح، “المقاربة المعرفية” أو “المستوى المعرفي” في مقاربة النص الديني. ويُفهم من كل ما كتبه المسيري في هذا الصدد، سواء تصريحا أو تلميحا، أن الاجتهاد الإسلامي الحقيقي لا يمكن له أن يرى النور ما لم يحتل هذا النوع من المقاربة مركز ومحور اشتغالاتنا وانشغالاتنا الفكرية والمعرفية.

وسنحاول في هذه الفقرة أن نقترب من تصور المسيري لهذا المستوى من المقاربة؛ ومما يساعد على إنجاز هذه المهمة كون المسيري لم يقتصر في توضيحه لتأسيسها هذا النوع من المقاربة على الجانب النظري التجريدي، إنما عمل على تقريب هذا التصور باستعمال مجموعة من الأمثلة التوضيحية؛ أي أنه في سبيل التأسيس لهذا التصور/ المستوى ينتقل من الخاص/ الأمثلة إلى العام/ التصور.

بداية نرى أنه من الأهمية أن نشير إلى بعض الأمور هي بمثابة الأساسيات قبل الولوج إلى عالم القراءة التي يقترحها المسيري للنص الديني، وهي أساسيات ثلاث:

الأساسية الأولى: نقصد بالنص الديني النص المنبثق من القرآن فالسنة. ولفهم- أو تفهم- هذا النص لا بد من الاستعانة بمنهج ما؛ إذ التعامل مع النص- أي نص- يخضع لمنهج ينطلق منه الباحث، ويشعر بنوع من الارتياح تجاه مكونات هذا المنهج..

الأساسية الثانية: النص الديني يجيبنا بناء على جملة الأسئلة التي نستصحبها معنا ونطرحها على هذا النص، وننتظر منه الإجابة.. وأثناء هذه العملية ينبغي ألا نميز في النص الديني بين ما هو من آيات الأحكام أو من آيات العقائد والتصورات أو من آيات القصص.. إلى غير ذلك من أنواع الآي. ونعتقد أن من بين الانعكاسات السلبية على حصر آيات الأحكام في مجموعة من الآيات (الأحاديث)، واعتبارها محل الاجتهاد الفقهي، من بين هذه الانعكاسات، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، تهميش المساحات الأخرى من الآيات (الأحاديث).

الأساسية الثالثة: نشير في هذا الصدد إلى أن التعامل مع النص الديني ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار أمرين اثنين: الأمر الأول، استنباط الأحكام التي تخص المسلمين في تعبدهم، وفي علاقاتهم البينية والغيرية.. ومن بين الأمثلة على هذا الأمر في وقتنا الحاضر نذكر حكم التعامل مع إسرائيل وأمريكا.. والأمر الثاني، توليد مجموعة من المقولات والمعاني لتأطير الحياة اليومية في شتى المجالات.. مثلا: استخراج مجموعة من النظريات والمقولات من أجل صياغة نموذج للعمارة الإسلامية..

وبما أن المسيري يولي اهتماما كبيرا في انشغالاته المختلفة لكل ما هو معرفي، فلا غرابة أن نجد أن المنهج/ المستوى الذي يختاره في مقاربة النص الديني هو المنهج/ المستوى المعرفي.

وقبل أن ينفذ المسيري إلى قاع أي موضوع من المواضيع يقوم أولا بعملية تفكيكية للتعاريف المختلفة، وذلك في سبيل الوصول إلى تعريف يتجاوز إلى حد ما الاختلاط الدلالي.

فالمسيري لا يكتفي بتبني إحدى التعريفات التي أعطيت لمصطلح أو مفهوم ما، بل يخضع تلك التعريفات للمسألة والتأمل.. فبدون الإبداع في تحديد المعاني والدلالات لا يمكن أن نتحدث عن إبداع في توليد الأفكار والمقولات.

وهذا ما قام به المسيري أثناء تناوله لمفاهيم ومصطلحات كالعلمانية.. والمعرفي…، والتحليل النماذجي هو الذي يتجاوز المضمون (أو الدلالة عند الأصوليين) الواضح والمباشر ليصل إلى بنية الفكر ونموذجه المعرفي الكامن.

والنموذج المعرفي كما، يتصوره المسيري، يتجاوز المضمون بل والشكل بالمعنى السطحي ليصل إلى العلاقات الأساسية التي تربط بين العناصر المختلفة المكونة للظاهرة (أو النص). [الإنسان والحضارة، ص: 25].

ولكي لا ينصرف ذهن القارئ إلى أن المسيري يدعو إلى التعامل مع الظاهرة أو النص انطلاقا من المنهج البنيوي، يسارع إلى القول بأن ما يطرحه مختلف تماما عن تصور دعاة البنيوية لفكرة النموذج. هذا الاختلاف يبدو، على الأقل، في جانبين اثنين يتسمان بالتداخل، وهما:

الجانب الأول: يتعلق بتبني دعاة البنيوية- أساسا- نماذج لغوية أو أنثروبولوجية أو رياضية عامة ومجردة يرصدون وجودها في كل الظواهر في كل زمان ومكان بغض النظر عن خصوصيتها وتفردها.

الجانب الثاني: وهو مترتب عن الجانب الأول ونتيجة له، متعلق بكون البنيوية تنكر التاريخ والزمان لأن تجريديتها تجعلها تصل إلى بنايا ثابتة جامدة شبه مطلقة. [الإنسان والحضارة، ص: 25].

أما تصور المسيري للنموذج ورؤيته له فأكثر تركيبية وإنسانية.يقول المسيري: فالنموذج ليس له وجود إمبريقي، ومع ذلك فإن الباحث يقوم بتجريده من خلال قراءته المتعمقة لنصوص وظواهر متماثلة مختلفة محاولا الوصول إلى ما هو عام فيها وكيف يتقاطعان. ولذلك فهو يتجاوز النصوص والظواهر إلى حد ما، ولكنه لا يصل إلى مستوى عال من التجريد بحيث يفقد الصلة بخصوصية النصوص والظواهر موضع الدراسة أو باللحظة التاريخية التي توجد فيها. بل- يضيف المسيري- إن التاريخ أو البعد الزمني يشكل أحد عناصر النموذج الأساسية الذي يمنحه كثيرا من خصوصيته وتفرده. [الإنسان والحضارة، ص: 25- 26].

والأساس في كل ما سبق أن النموذج المعرفي في نهاية الأمر يمكن اختبار مقدرته التفسيرية بالعودة للظواهر التي تم تجريده منها. [الإنسان والحضارة، ص: 26].

ومن مزايا استخدام النماذج التحليلية في مقاربة النص الديني- في تصور المسيري- إسهامه في تجديد الفقه الإسلامي؛ فبدلا من النظر لكل المفاهيم الإسلامية وكل النصوص الدينية بحسبانها متساوية الدرجة، يمكن من خلال النماذج أن نصل إلى هرم المفاهيم والنصوص بحيث نحدد ما هو الأساسي وما هو الفرعي. [رحلتي الفكرية، ص: 291].

ولا يفوت المسيري أن يشير، في السياق نفسه، إلى أن الفكر العربي [والفكر الإسلامي أيضا] لا يزال فكرا مضمونيا، أي يتعامل مع المضامين المباشرة ولا يصل إلى العلاقات المجردة الكامنة، أو إلى النماذج المعرفية. [الإنسان والحضارة، ص: 27].

النص الديني والتحليل النماذجي: أمثلة تطبيقية توضيحية:

في هذا السياق، طبق المسيري “التحليل النماذجي” على بعض الآيات القرآنية؛ من بينها الآية القرآنية الكريمة الخاصة بنور الله: ]اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ[، وبقلب الإنسان: ]ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ[.. ويشير المسيري إلى أن الشارح يمكن أن يركز على جمال الصورتين أو على مضمونها الأخلاقي، وهنا يكون التناول أخلاقيًّا أو جماليًّا وليس معرفيًّا. وفي المقابل يرى المسيري أنه يمكن رؤية هاتين الآيتين الكريمتين تعبيرا عن بنية الرؤية الإسلامية للإله كمركز غير منظور، ومن ثم سنجد عناصر الصورة المجازية، رغم أنها- يقول المسيري- ليست صورًا مجازية تجسيدية.

وفي التفاتة معرفية رائعة يرد المسيري على تلك الجماعة من الأصوليين الذين قالوا باستحالة وجود المجاز في القرآن الكريم على اعتبار أنه- أي المجاز القرآني- كذب وزيف، فيعتبر تفكير هؤلاء ربما ينم على عدم فهم حقيقي للمجاز، ويلاحظ أن فكرة المركز غير المنظور الذي يمنح العالم التماسك دون أن يحل فيه، تقف على طرف النقيض من المفهوم المادي للمركز، الذي إما أن يوجد في المادة ذاتها، في عالم التحديث والحداثة (واحدية صلبة)، وإما ألا يوجد على الإطلاق في عالم ما بعد الحداثة سيولة كونية. [في أهمية الدرس المعرفي، ص: 123- 124].

ويقف المسيري عند حديثين شريفين محاولا تطبيق التحليل النماذجي (أو المستوى المعرفي) في مقاربتهما. لكن قبل “عملية التطبيق” يعرج المسيري أولا على نوعية وقصور كلا من المنظار أو التحليل البنيوي والمنظور أو التحليل المضموني عن اكتشاف الأبعاد المعرفية التي يتضمنها النص الذي تستهدفه عملية القراءة والمقاربة.

الحديث الأول هو: قال رسول الله r: {عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، فلا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض}.

الحديث الثاني: قال رسول الله r: {بينما رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج، فإذا بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ مني، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، فشكر الله له، فغفر له. قالوا: يا رسول الله r: وإن لنا في البهائم أجرا؟ فقال: في كل ذات كبد رطبة أجر} ( أي كل حي من الحيوان والطير ونحوهما).

ويقول المسيري بأن “المنظور المضموني” يقودنا إلى القول بأن هذين الحديثين يقفان على طرفي النقيض؛ على اعتبار أن الأول يتحدث عن القطط والنساء وجهنم، فيما الثاني يتحدث عن الرجال والكلاب والجنة!! وقد يقال، على مستوى تجريدي بسيط مباشر، إن الحديثين يوصيان بالرفق بالحيوان. وهذا، في تصور المسيري، تفسير وعظي أخلاقي.

أما “المنظار البنيوي” (بالمعنى الغربي الشائع الآن) فيقود إلى تجريد الحديثين إلى بنية لغوية، ثم الاستنتاج بأن ثمة ثنائيات متعارضة؛ المرأة ضد الرجل، القط ضد الكلب، الجوع ضد العطش، وزيادة الجوع ضد السقيا، والجنة ضد جهنم.

وبعد “عملية التجريد” يتم الوصول إلى القول بأن العلاقة بين العناصر المختلفة في الحديثين الشريفين شبيهة بعلاقة الفاعل بالمفعول.

ويعتقد المسيري أنه لا التحليل المضموني الأول، الذي يكتفي بالمضمون المباشر الواضح، ولا التحليل البنيوي الثاني، الذي يجرد الحديث من أي مضمون ويحوله إلى بنية لغوية مجردة أو بنية هندسية طريقة خالية من المضمون.. لا هذا ولا ذاك – في رأي المسيري – يفي بالغرض.

ثم يشير المسيري إلى كون “التحليل النماذجي”، بالمعنى الذي يطرحه المسيري، لن يقوم بتحليل الحديثين للوصول إلى نماذج لغوية أو أنثروبولوجية عامة، وإنما سيجرد منهما نماذج معرفية تؤكد العام والخاص، وتتحرك من المضمون الخاص إلى البنية العامة المجردة، دون أن تنسى خصوصية الحديثين.

وبناء على رؤية المسيري وتصوره ل” التحليل النماذجي” فإن هذين الحديثين سيتم النظر إليهما على أساس أنهما يحاولان تحديد علاقة الرجل والمرأة بالقطة والكلب، أي علاقة الإنسان بالحيوان، بل الإنسان بالطبيعة. ويضيف المسيري بأنه يمكن القول بأن هذه العلاقة في جوهرها علاقة توازن مع الطبيعة (عذبت المرأة في هرة) (بلغ هذا مثل الذي بلغ مني) (في كل ذات كبد رطبة أجر)، ولكنه – والاستدراك للمسيري- توازن لا ينطوي على مساواة بين الإنسان والطبيعة، ويستشهد المسيري هنا بقوله تعالى: ]إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً[ [الأحزاب: 72 ]، وإنما تفترض تميز الإنسان وتفرده ومسؤوليته.

ويشرح المسيري رأيه هذا بقوله: ففي الحديثين الشريفين الفاعل هو الإنسان (رجل أو امرأة)، والمتلقي هو الحيوان (قطة أو كلب)، والثواب والعقاب من نصيب الفاعل المسؤول.

فمن خلال عملية تجريد متعمقة لهذين الحديثين، كما يقول المسيري، يصبح الرجل والمرأة فاعلين، ورمز الإنسان الفاعل هو مركز الكون (فالفاعل أعلى من المفعول به) ويصبح الإنسان هو الكائن المستخلف الذي يجب أن يعمر الأرض؛ وهذه- يقول المسيري- هي الإجابة الإسلامية عن السؤال الكلي النهائي الخاص بعلاقة الإنسان بالطبيعة.

ويضيف المسيري بأنه يمكن في هذه الحالة ربط هذين الحديثين بالذبح الشرعي على سبيل المثال. ويلاحظ المسيري أن العملية التجريدية رغم عمقها، لم تصل إلى ما لا نهاية لتصل إلى الثنائيات الرياضية المتعارضة، التي تتسم بها كتابات البنيويين. بل إن عملية التجريد قد تمت في إطار إسلامي.

وبكلمات أكثر عمقا وجلاء ووفاء بطبيعة “المستوى المعرفي”، يقول المسيري: وإن تعمقنا لوجدنا أن بنية الحديثين تتسق مع النهج الإسلامي في التفكير ومع البنية الكامنة في القرآن الكريم والحديث الشريف، ومع النموذج المعرفي الإسلامي وبنية الإسلام الفلسفية ككل. [الإنسان والحضارة: ص: 28- 29- 30، في أهمية الدرس المعرفي، ص: 124].

ومن خلال التطبيقات السالفة قام المسيري بالخطوات التالية، وهي:

الخطوة الأولى: عملية تجريد للنموذج في إطار القيم الحاكمة الإسلامية (الإجابة التي يقدمها النموذج على الأسئلة الكلية والفائية).

الخطوة الثانية: استشفاف الإجابة على الأسئلة الكلية (حركة من الخاص إلى العام ومن الجزئي إلى الكلي).

الخطوة الثالثة: بعد الخطوتين الأولى والثانية يتم تطبيق هذا النموذج على حالة بعينها. ويرى المسيري أن هذه الخطوة عبارة عن حركة من الكلي إلى الجزئي، الذي يشبه إحدى المفردات الموجودة في المعجم خارج أي سياق، معنى إسلاميا محددا من خلال تحوله من مجرد جزء مستقل إلى جزء من الإجابة الإسلامية على الأسئلة الكلية. [في أهمية الدرس المعرفي، 124].

إن ثراء المعنى، الذي أشرنا إليه أعلاه، هو الذي منح النص الديني- لأنه نص إلهي- تلك المقدرة الكبيرة على توليد مجموعة من الدلالات والمعاني انطلاقا من عملية التجريد. لكن هذا المنحى في المقاربة والقراءة؛ أقصد “منحى التجريد” الذي يسلكه المسيري، كما يقول هو نفسه، مختلف عن المنحى الذي انتهجته مجموعة من المدارس اللسنية كالبنيوية والتفكيكية. بحيث تؤدي عملية التجريد إلى تناسل المعاني والدلالات، وربما النماذج، إلى ما لا نهاية.. الأمر الذي يفقد النص أي مركز/ ثابت يستند إليه، وتحال عليه كل المعاني والدلالات الأخرى!! وبدل أن تكون المعاني والدلالات والنماذج المولدة من النص إحياء لهذا النص تكون بمثابة قتل لهذا النص، عندما يفقد هويته الخاصة التي يمنحها له المركز أو الثابت.

إن فهمنا للقراءة التي يقدمها، أو يقترحها، المسيري لقراءة النص الديني- بشكل عام- يجعلنا نقول بأن هذه القراءة حتى تكون مختلفة عن تلك القراءات النقدية الحديثة للنص الديني، يجب أن يتوفر فيها شرطان أساسيان، وربما متداخلان، وهما:

الشرط الأول: إننا مع تسليمنا بكون النص الديني نصا معطاء، قادرا على توليد عدة معاني ودلالات ونماذج، وبأن هذا العطاء والتوليد لا يتوقف عند لحظة زمنية معينة، وذلك حتى يكون النص، بالفعل، نصا خالدا.. نقول إنه مع تسليمنا بهذه المعطيات، نشترط في تلك المعاني والدلالات والنماذج ألا تكون متعارضة ومتناقضة فيما بينها وألا “يضرب” بعضها بعضا، إنما يجب أن تشكل في مجموعها ما يمكن تسميته بـ” النسق الإسلامي الكلي”.

الشرط الثاني: ألا تعارض هذه المعاني والدلالات والنماذج أصلا من أصول الدين الكبرى. فمثلا، عندما جردت المعتزلة نموذج “خلق القرآن” من مجموعة من النصوص الدينية المرجعية كان هدفهم الأساسي هو الانتصار لفكرة التوحيد، وبأن هناك مسافة بين النص الإلهي والنص البشري؛ لأن في رأيهم عندما نقول إن القرآن قديم والله قديم فإننا قد جعلنا مع الله شريكا..وهذا مناقض للتوحيد في رأيهم. وهذا عكس ما يذهب إليه بعض الباحثين المعاصرين في تبنيهم لنموذج “خلق القرآن” كما هو عند المعتزلة، ولكن ليس من أجل الحفاظ على مركزية التوحيد، بل من أجل الانقضاض عليه، ورد النص الإلهي إلى نص بشري، والقول بأن النص القرآني- والديني عموما- هو منتج بشري وأن البنية التحتية/ الواقع تنتج البنية الفوقية/ الفكر!!

ففي هذا المثال نحن أمام نموذج- ربما معرفي- لكنه مناقض بالكلية لأصل من أصول الدين؛ ألا وهو التوحيد. أما في حالة المسيري فإن التوحيد هو الموجه الأساس لمنهجه في مقاربة وقراءة النص الديني؛ أو بعبارة أكثر دقة، إن التوحيد عنصر أساسي في عملية التجريد.

التفاتات المسيري المنسجمة مع الخط القرآني:

الالتفاتة الأولى: من بين المقولات الأساسية التي انفرد بها المسيري مقولة “المتتالية النماذجية”؛ أي أن أي نموذج معين إنما يتحقق عبر حلقات.

وقد ذكرنا أن هناك نموذجين أساسيين، وهما النموذج الذي تؤطره الرؤية التوحيدية، والنموذج الذي تؤطره الرؤية الشركية (أو الحلولية في معجم المسيري).. وأي حضارة أو جماعة بشرية تتبنى في تصورها هذا النموذج أو ذاك إنما تسعى إلى مطابقته مع الواقع، وأثناء عملية المطابقة يتم إنتاج أشكال… تقترب أو تبتعد من تلك الرؤية  (أو بالتحديد من جوهر تلك الرؤية).

والمسيري منسجم مع الخط القرآني في كثير من النقاط:

أولا: تقسيمه للرؤى إلى رؤيتين أو مرجعيتين نهائيتين، وما بينهما من رؤى أو مرجعيات جزئية ترد في نهاية الأمر إلى الرؤية أو المرجعية الكلية والنهائية. وهي نفسها الرؤى التي أشار إليها النص القرآني؛ أقصد الرؤية التوحيدية والرؤية الشركية. طبعا المسيري لا يسمي الرؤية الثانية بنفس المصطلح الوارد في القرآن ولكن بمجرد أن يضع هذه الرؤية في مقابل الرؤية التوحيدية إنما يعني ضمنا أن المقصود هو الرؤية الشركية. وهنا ينبغي أن نشير إلى أن الشرك الذي نقصده ليس مجموعة من السلوكيات العملية التي قد يلجأ إليها هذا الإنسان أو ذاك أو هذه الجماعة أو تلك، إنما الشرك كرؤية وتصور للكون والإنسان والحياة.

وتتواتر عبارات مثل “الفلسفة المادية” و”الحلولية”… في كتابات المسيري مشيرة إلى الرؤية التي تقف على طرف النقيض من الرؤية التوحيدية؛ ومرة أخرى التوحيد كرؤية وتصور للكون والإنسان والحياة.

ثانيا: أي رؤية تستند إلى مركز أو ثابت معين.. ويعبر النص القرآني عن الرؤية التوحيدية بـ” الكلمة الطيبة”، والرؤية الشركية ب” الكلمة الخبيثة”.. ثم يشير النص القرآني إلى أن أصل ” الكلمة الطيبة” ثابت، أما ” الكلمة الخبيثة” فلم ينص النص القرآني على ثبات أصلها، إنما أشار إلى أن هذه الكلمة ليس لها قرار، وهذا ما يعبر عنه المسيري بـ” تعدد المراكز”.

ثالثا: جاء في النص القرآني ما يلي: ]أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ… [ [إبراهيم: 24-26].

وعبارة “تؤتي أكلها كل حين” معناها أن “المتتالية التوحيدية” ليس لها تحقق واحد. ومن هنا نجد أن هذه المتتالية في تاريخنا الإسلامي قد أخذت أشكالا متعددة، ويمكن دراستها ونقدها انطلاقا من معيار الاقتراب أو الابتعاد من ” الأصل الثابت”.

وهناك آيات أخرى تشير إلى أن تحقق “المتتالية الشركية” ليس واحدا. ونشير هنا إلى أن حديث النص القرآني- خاصة النص القرآني المتعلق بالمشهد القصصي- عن بعض الأسماء كعناوين بارزة للرؤية الشركية (أو المادية) ليس هو حديث عن أشخاص من حيث هم أشخاص، وليس الغرض منه- فقط- تقريب تاريخ بعض الأشخاص من حاضر الناس.. والنص القرآني أشرف من أن يدنس من ذكر أشخاص كانوا علامات على الانحراف بمفهومه العام.. إن النص القرآني يذكر هؤلاء الأشخاص كنماذج لها سماتها المعينة والمحددة، والتي تعبر برمتها عن الرؤية الشركية، وعن تحقق المتتالية الشركية.

فلا ينبغي أن نتعامل معها كأشخاص عرفهم التاريخ، بل كنماذج تعبر عن رؤية معينة.. وهذه النماذج متعددة لكنها واحدة من حيث رؤيتها ومرجعيتها الكلية والنهائية، وأن هذه النماذج ستتكرر كلما استند المرء إلى تلك الرؤية.

الالتفاتة الثانية: عندما يحاول المسيري أن ينفذ إلى دراسة الفكر الغربي، فإنه يسلك إلى ذلك مسلكين أساسين، وهما

المسلك الأول: البحث في الأسس الفلسفية التي تستند إليها الحضارة الغربية، وهذا يبدو جليا من خلال حديثه عن الفلسفة المادية (بشكل عام دون ربطها بهذه الحضارة أو حضارة أخرى)، والتي على هديها يشتغل العقل الغربي، ويؤسس لأنساقه المختلفة.. ويبني أشكاله الثقافية والحضارية.

المسلك الثاني: دراسة هذه الحضارة في طبعتها الحديثة والمعاصرة.. والنظر في مستقر المتتالية الغربية (المادية أو الشركية) ومآلاتها المختلفة.

ومن خلال دراسة المسيري للحضارة الغربية وفهمه لها، وجدنا أن ما وصل إليه من نتائج بخصوص ماهية هذه الحضارة وثوابتها وسماتها العامة، وجدنا أن كل ما سبق ليس شيئا ينطبق فقط على هذه الحضارة إنما هو بالأساس ثوابت وسمات لصيقة بالنموذج الشركي.

وعندما حاولنا أن نتتبع كيفية اشتغال النموذج الشركي من خلال النص القرآني، وجدنا أن الكثير من النتائج التي وصلنا إليها مطابقة- تقريبا- لما وصل إليه المسيري أثناء دراسته للحضارة الغربية.

يعتبر المسيري أن سمة “الإبادة” كامنة في “الحداثة”.. بمعنى آخر إن هناك سببية معتبرة بين الفكر الذي تبشر به الحداثة وبين الإبادة بمختلف صورها وأشكالها، المباشرة وغير المباشرة.

وفي رأينا فإن سمة الإبادة لصيقة بالرؤية الشركية، وهي عينها الرؤية التي تؤطر فكر الحداثة الغربي. وقد نهج النص القرآني من أجل تبيان الأسس “الفلسفية” والثوابت “المعرفية” التي يستند إليها الشرك( رؤية وممارسة)، نهج أسلوب سرد بعض النماذج المعبرة عن تلك الرؤية.

وقد لاحظنا أن فعلي “الإماتة” و”الإحياء” لهما من أبرز الأسس والثوابت التي يشتغل على ضوئهما النموذج الشركي. وينبغي أن ننظر إلى النماذج التي وردت في القرآن، باعتبارها نماذج دالة على رؤية معينة، وليس كأشخاص عرفهم تاريخ معين، ويتحركون وفق ما تقودهم إليه نزواتهم وأفكارهم.

فمثلا يرد اسم “فرعون” في القرآن كثيرا.. وهي شخصية تشكل نموذجا معبرا عن الرؤية الشركية، تلك الرؤية التي تقف على طرف النقيض من الرؤية التوحيدية. وإن متابعة لكيفية اشتغال هذه الشخصية توصلنا إلى إدراك أن الإبادة (القتل والعنف) والظهور بمظهر القادر على “الإحياء” ثوابت أساسية في البناء الفكري لهذه الشخصية. ]يقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ[، وكذلك “النمرود” الذي قال ” أنا أحيي وأميت”؛ طبعا هذه الثوابت لها تجليات مختلفة في كل عصر من العصور.. فـ”أحيي” التي قالها “النمرود” ليست هي “أحيي” التي قالها “فرعون”… ولا تلك التي تقولها الحضارة المعاصر، التي هي امتداد لتلك رؤية “النمرود” و”هامان” و”فرعون”… ففعل الإحياء واحد لكن أدواته مختلفة.

ويرمي “فعل الإحياء” إلى تقمص صفات الإله بعدما تعلن هذه الرؤية ” موت الإله” وانسحابه من الحياة. وكذلك “فعل الإماتة”، هو فعل واحد على مر العصور لصيق بالرؤية الشركية (ولا نقول بـ”الغرب” لأن الغرب تجربة في التاريخ، أما الرؤية فهي تصاحب الإنسان وتتمظهر على شكل تمظهرات متنوعة).

وهذا بالفعل “مذهب” المسيري في رؤية الحداثة الغربية (والحضارة الغربية) عندما يتحدث في كتاباته المختلفة عن بنيوية “الإبادة” في فكر هذه الحضارة لأنها اختارت الرؤية المعادية للإنسان.

الالتفاتة الثالثة: قلنا فيما سبق إن دقة الأسئلة وعمق التراكمات سبيل جيد من أجل “مساءلة النص” واستخراج مقولات ونماذج تحمل مقدرة عالية في توصيف والتعاطي مع مفردات وكليات الواقع المختلفة. وقد لاحظنا أن الآية الكريمة: ]نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ[ [الحشر: 19] تتواتر كثيرا في كتابات المسيري وأسفاره. وقادته إلى جملة من التأملات، ربما نعدمها في كثير من التفاسير التي وقعت على أيدينا. وهذا طبيعي لأن النص القرآني يتدفق دائما بمعاني ودلالات جديدة بحسب ما نستصحبه معنا من أسئلة وتراكمات أثناء التأمل في هذا النص.

* يقول المسيري: الفكر الغربي يقوم بتأليه الإنسان، لكن الذي يحدث بعد ذلك أن الله تعالى يصبح الطبيعة، والإنسان نفسه كذلك ينضوي تحت الطبيعة فيختفي. ويبدو أن ظاهرة الإنسان مرتبطة بالله، وأظن- يقول المسيري- أن الآية القرآنية اعترفت بهذه الحقيقة في قوله تعالى: ]نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ[ [الحشر: 19] [العقل الإسلامي بين الأنا والآخر، ص: 39]

* يقول المسيري: من الممكن القول بأن هذا العنصر الرباني اللصيق بإنسانية الإنسان وفطرته، وهو عنصر يأخذ شكل الإله الخفي، هو ما يمنع النموذج العلماني من التحقق الكامل، ومن الوصول إلى اللحظة النماذجية ونقطة الصفر العلمانية.. إلا في لحظات نادرة. وإذا كانت- يضيف المسيري- اللحظة النماذجية العلمانية هي لحظة حلول الإله في المادة حلولا كاملا وكمون المركز فيها وتغليب النزعة الجنينية على الإنسان، فإن الإله الخفي هو تعبير عن أن إله حي لا يموت، وأن ما حدث ليس موتا للإله وإنما هو تعبير عن أن نسيان الإنسان للإله أدى إلى نسيان الإنسان لذاته المركبة الربانية ]نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ[ [الحشر: 19]، بل هو تناس لمقدرة الإنسان على تجاوز العالم المادي وعلى اكتشافه لجوهره الرباني الإنساني.

ولكن، يقول المسيري، على أي حال، ليس نسيانا كاملا، إذ تظل ذاكرة النور الذي يبثه الإله في الصدور قائمة في أعماق وجدان الإنسان. [الغلمانية (جزءان)، الجزء الأول، 194]

وهذا منسجم مع الرؤية الإسلامية التي ترى أن “كل مولود يولد على الفطرة”.. وهو ما اصطلحنا عليه بـ”نفخة الروح” الملازمة والمصاحبة للإنسان.

ومن هذا المنطلق يعتقد المسيري أن فكرة “العقل التوليدي”(…) فكرة أساسية في المنظومة الإسلامية، فالإنسان يولد على الفطرة، أي عنده مقدرات داخلية على الخير، كما أن هناك ما يدل على أن عنده مقدرات داخلية على الشر. [رحلتي الفكرية، ص: 263- 264]

* يقول المسيري: الفكر الغربي تناسى وتجاهل الأمر الجوهري وهو “الله”.. وهكذا يقف الفكر الغربي بلا ركيزة أساسية (مرجعية) تجعل الإنسان إنسانا.. فمن خلالها يتعلم، ويصبح له تاريخ، ويعرف الحق والباطل، ويؤسس ويختار بين الخير والشر، ولعل هذا كله- يضيف المسيري- جزء من الآية الكريمة: ]نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ[ [الحشر: 19] [الحضارة الغربية حضارة وثنية، موقع ” الإسلام اليوم”، 02/ 02/ 2002]

الالتفاتة الرابعة: هناك آية كريمة اعتمدها المسيري في سياق معين( وهو اعتماد صحيح وصائب في رأينا)، عندما كنا بصدد الحديث عن التصور الإسلامي للعلاقة بالآخر.. وهي: ]لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا[ [المائدة: 82]

لكن عندما كنت أقرأ المسيري فيما كتبه عن الأسباب التي جعلت أغلب رواد بعد الحداثة يهودا، ولما تساءل المسيري هل هذا يعني أن ما بعد الحداثة ظاهرة يهودية؟ وفسر المسيري ذلك بكون أن هناك عناصر كثيرة في النسق اليهودي تشبه وتلتقي إلى حد كبير بالعناصر المشكلة للنسق الغربي/ الشركي. أو ما يسميه المسيري بـ” التبادل الاختياري” بين اليهود واليهودية وما بعد الحداثة.

وربما الآية الكريمة، بوضعها “اليهود” على جانب “الذين أشركوا”، تريد أن تلفت انتباهنا إلى الشبه الشديد والكبير بين الطرفين.

يقول المسيري: يرى بعض دعاة ما بعد الحداثة (من أعضاء الجماعات اليهودية ومن غير اليهود) أن ثمة عناصر في اليهودية وفي وضع أعضاء الجماعات اليهودية تجعلهم يتجهون نحو ما بعد الحداثة فيتأثرون بها ويسهمون في فكرها بشكل ملحوظ… فالكثيرون من دعاة ما بعد الحداثة إما يهود، أو من أصل يهودي (أمثال: جاك دريدا، وإدمون جابيس، وهارولد بلوم…). ويشير المسيري إلى أن أفكار ما بعد الحداثة قد أثرت في العقيدة اليهودية، وفي كثير من المفكرين من أعضاء الجماعات اليهودية. وقد تناول المسيري في بحث متميز جذور ما بعد الحداثة في العقيدة اليهودية وفكر بعض دعاة ما بعد الحداثة. [اليهودية وما بعد الحداثة: رؤية معرفية.]

الهوامش

(1) المجتمع التقليدي في نظر المسيري هو ما قبل ظهور الصناعة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر