أبحاث

النظرية الإسلامية في النقد الأدبي : الواقع والحقيقة والفعل

رغم أننا- في سعينا وراء إيجاد المصطلح الإسلامي- نحاول التحرر ما استطعنا من أسر المصطلح الغربي، الشديد التحكم بلغتنا النقدية، فإن مصطلح (( الواقعية )) أكثر هذه المصطلحات تعقيداً وتشابكاً وإحراجا للناقد الإسلامي الباحث عن الحقيقة الموضوعية العليا في الأدب ومدارسه النقدية.

إن فكرة إيجاد مصطلح يستوعب مئات الكتّاب والشعراء، ويوحّد اتجاهاتهم المتباينة، ليضعهم جميعاً في سلّة واحدة اسمها (( المذهب الأدني ))،  فكرة قسرية في الأصل، سبق أن حيّرت الأدباء والفنّانين والنقاد جميعاً في الغرب، حين وضعوا بداية مصطلح (( اللامية )) في القرن السابع عشر، من غير أن يستطيعوا (( ضبط )) كلّ الكلاسيين تحت قواعدها الرصينة القاسية.

وحين تمرّد الأباء والفنّانون على هذه القواعد في بدايات القرن التاسع عشر، وراحوا يوجهون ضرباتهم القاتلة إلى الكلاسية، كانت ردود الفعل في أنفسهم متباينة مختلفة، اختلاف الجهة التي سقطت ضرباتهم عليها في جسد الكلاسية.

ومع هذا التباين الشديد في الانعكاسات، والتباعد الواضح في المنطلقات، أطلق على ردود الفعل تلك مصطلح نقدي واحد احتوى الأشتات المتغايرة المتنافرة، تنافراً يفوق كثيراً ذلك الذي عرفته، الكلاسية من قبل، وكان مصطلح ((الرومانسية)).

ولكن اشتداد حركة البحث عن مذاهب فلسفية واجتماعية واقتصادية في أوربا على مدى القرن التاسع عشر، ونشوء تيّارات فكرية غير متوقعة، ناشئة عن تصادم (( حضارة الكتاب )) النازلة مع (( حضارة الآلة (( المساعدة ))، ثم إغراق (( الرومانسيين )) في تكريس ردود فعلهم، على تباينها، أدى ذلك كله إلى شبوب حرائق فكرية عارمة جديدة في أكثر من أفق واحد من آفاق الأدب والنقد، وما لبثت أقلام المفكرين والنقاد أن استوعبت هذه الثورات المتباينة جميعاً تحت اسم (( الواقعية )).

وكان اتساع الهوة بين تيارات (( الواقعية )) المختلفة أكبر بكثير من اتساعها بين تيارات الرومانسية، مثلما كان اتساعها في هذه الأخيرة أكبر بكثير أيضا منها بين تيارات سالفتها الكلاسية، وهكذا في متوالية حسابية متصاعدة من التوزع والتشتت اللذين يبلغان أحيانا حد التمزق والتناحر والانفصال العضوي النهائي بين الأطراف.

وكان أن كثرت أسماء الواقعية وتعريفاتها كثرة لم تشهدها أي مدرسة أخرى سابقة أو لاحقة، فوجدنا عشرات الواقعيات يدعو إليها أصحابها ويستقلون بها عن الواقعية الأم إن كان هناك أم لهذه الواقعيات- كالواقعية الرعوية عند ( شاتوبربان ) والواقعية الروحية عند ( درهاميل ) وواقعية الأنا العميقة عند ( بروست ) ثم الواقعية النقدية، والشكلية، والمثالية، والقومية، والطبيعية، والموضوعية، والذاتية، وفوق الذاتية، والمتفائلة، والمتشائمة، والتشكلية، والشعرية، واليومية، والرومانسية، والاشتراكية، والسفلى، والعليا، والرؤية، الخ.. وكان أن أحجم بعضهم عن وضع تعريف محدد للواقعية، كما فعل و.ھ. هارمي في كتابه عن ( فن جورج اليوت ) حين قال: (( أنا أريد التورط في تعريفات كلمة الواقعية)).(1)

وحين نتحدث عن (( واقعية إسلامية )) فلا بد أن نكون على حذر شديد من السقوط في التعريفات القديمة الجاهزة لكلمة (( واقعية )) وجدير بنا أن نلتفت الى كل الأطراف (( الواقعية )) منذ أن وجد هنا المصطلح في القرن التاسع عشر حتى اليوم، محاولين تلمس الخيط الحقيقي- إن وجد- بين المصطلح والواقع، أي بين كلمة      (( الواقعية )) ومدلول هذه الكلمة عند أصحاب المذهب الواقعية على اختلافها، فإذا قارنا بين مقدار واقعية ذلك الخيط الذي يربط بين طرفي المعادلة نفسها في الواقعية الإسلامية، أدركنا طبيعة هذه الأخيرة، ومدى استحقاقها لاسمها دون الواقعيات الأخرى.

***

ونبدأ بتفحص كلمة (( الواقع )) وملاحقة أبعادها القائمة والمحتلة، لننتهي بتعريف الإسلامية الواقعية أو الواقع الإسلامي، لنربط من ثمّ بين الكلمة ومدلولها ربطا سليما نستطيع أن نستند إليه ونحن نطلق مصطلحنا الجديد ( الواقعية الإسلامية )، وأن نميزه عما سواه من الواقعيات الأرضية القائمة أو المندثرة.

لقد اعتاد الدارسون أن يضموا (( الواقع )) بإزاء (( المثال )) على أن أحدهما نقيض للآخر، وعلى أن الواقع هو (( الواقع الأرضي )) المعيشي، وعلى أن المثال هو الذي لا يتحقق (( أو الذي لا يصلح للوجود، انطلاقا من حكمهم على مثالية أفلاطون.

إن تعريف الواقع الإنساني ظل قاصرا دون الحقيقة حتى فترة متأخرة من هذا العصر، وكان لدراسات الأخوين سيد ومحمد قطب أثرها الكبير في إيضاح الأبعاد الحقيقية لهذا الواقع.

وحين ظهرت الدراسات الأولى عن الواقعية الاشتراكية باتجاهاتها المختلفة، وعلى رأسها الاتجاه الماركسي، لم يكن هناك أدنى خلاف على أن (( الواقع )) هو (( الأرض )) بل المنظور أو المُدْرَك منها.

وبدأت الثغرات تتوضح في جسم الواقعية الاشتراكية حين شبّ فيها عن الطوق فلاسفة ومفكرون تجرأوا على التحرر من (( دكتاتورية الفكر )) لينطلق تفكيرهم في أبعاد موضوعية جديدة لم تعهدها الشيوعية من قبل. وكان أن ظهر تشير نيثيفسكي ودوبرو ليوبوف ولا كريتسكي، ثم لوكاتش وجارودي ودوبريه، ليفتحوا آفاقا للواقعية تكاد تنفصل بها عن الواقعية الأم (( الواقعية الشيوعية )).

ولن نخوض هنا فيما انتهى إليه كلّ هؤلاء من تعديلات جذرية على الواقعية الأولى، ولكننا سنحاول توضيح الآفاق البعيدة الأخرى التي لم يصل إليها تفكيرهم، أو لم يشاؤوا هم الوصول إليها، والتي تعطي الواقع أبعاد عديدة أكبر مما كانوا يتصورون.(2)

حين يسيطر المنطق المادي النفعي المؤقت على التفكير الانساني، الفطري في الأصل، يحرفه عن جهته الصحيحة، ويمسخ حدوده، ويحمي أمامه فلا يتبين وجهته. ولقد كان الواقع الأرضي دائما جزءا صغيرا جدا من واقع متسع الآفاق، ممتد الحدود، امتدادا لا يعرف التوقف. والشاعر خاصة والأديب والفنان عامة، أكثر المخلوقات مقدرة على الإحساس بذلك الواقع المتسع غير المنظور، لأن الإنسان يحتاج إلى قوى خفية وغير عادية لبلوغ تلك الحقيقة العليا.(3) والفنان، مثله مثل المتصوف، يملك القدرة على التفلت من إسار الواقع الأرضي والتحليق في فضاء الحقائق السديمية العليا، ولعل الشاعر أقدر الفنانين على مثل هذا التحليق، ولهذا اقترن اسمه عند كل الشعوب،ومنذ فجر التاريخ، بالكهنة والسحرة والجن، وأحيانا بالأنبياء والآلهة، ومن هنا كان الشعر في نظر بعضهم هو فن التعبير عن الحقيقة، على حين كان النثر هو فن التعبير عن الواقع.

ولكن ما هي الحدود بين الواقع والحقيقة، وهل هناك حدود فاصلة بينهما، وهل يستطيع أحدهما التخلي عن الآخر ليكون بنفسه عالما قائما بنفسه؟

إن الواقع الأرضي هو المتكأ الوحيد للفنان، يعتمد عليه وهو ينطلق في سماء الحقيقة، إنه الأرض المحدودة التي تحتاج أقدامنا إليها للقفز في هواء الحقيقة الرخو غير المحدد الملامح والأطراف. ولكن الواقع الأرضي شيء والواقع الحقيقي شيء آخر مختلف تماما. الأول هو واقع العقل المحدود والحواس الخمس التي يجندها لتغذية إدراكاته، وهو لا يعترف بواقع خارج حدود هذه الإدراكات. أما الثاني فيستوعب الأول في زاوية صغيرة منه، يتسع بعد ذلك لاستيعاب الحقيقة العليا، وهي ليست في الأصل إلا جزءا من الواقع.

ونحن حين نفرق هنا بين الواقع والحقيقة فلنبين أطراف المعادلة التي يقوم عليها الواقع الإسلامي، فالحقيقة العليا جزء من هذا الواقع، بل هي الجزء الأسمى فيه، لأنها تتجاوز البصر الى البصيرة، والمادة إلى الروح، والعقل إلى ما وراء الطبيعة.

ويمكن للواقعية الإسلامية أن تلتقي مع الواقعية الاشتراكية في جوانب ظاهرة متعددة، ولكنها تختلف عنها في الجذور، إنهما تنفصلان عند الأساس الأكثر جميعا، أقصد الأساس الروحي، فالواقعية الروحية عند من يعترف بها من الاشتراكيين تنبثق من العقل، ولا يعترف بها هؤلاء إلا من خلال الحدود التي يرسمها لهم هذا العقل، أما الإسلام فيعد العقل قاصرا على الوصول الى كثير من الآفاق الإنسانية، وإذا كانت الروح (( من أمر ربي )) في الإسلام فإننا نتوسع بمعني الروح هنا، لا ليقتصر على نسمة الحياة التي بثها الخالق جل وعلا في العقلية المتفوقة- وربما فوق العقلية- القادرة على اجتياز كل القواعد القياسية التي يمكن أن يضعها أي عقل إنساني بحدوده المعروفة، مهما اتسعت الحدود، إنها (( قوى )) بقدر تفلتها من القصور العقلي الإنساني وارتفاعها من أوحال الأرض وسلاسلها المادية الثقيلة.

لقد جسد البدائيون آلهتم في الأصنام، وآمن الملحدون الجدد بألوهية المادة- مهما اختلفت تسميات هذه الأولوهية عندهم- لأن عقولهم – المسلحة بالحواس الخمس القصيرة المدى- لم تستطيع تجاوز الواقع المحسوس، فلم تكن قادرة على تصور قوة خفية غير منظورة، أما المسلم، فبعقله المتفوق بقوة التصور للإله غير المحدود يستطيع- أو من المفترض أن يستطيع- أن يصل إلى آفاق من التصور لا يمكن أن يصل إليها ذو الإله المحسوس أو المحدود. وقد انعكس هذا في التاريخ على حضارة الغرب وحضارة الشرق، فكان (( الواقع )) الغربي أبدا واقعا ماديا وصفيا تسجيليا، ومفهومه ساذجا مسطحا لا يتعدى إدراك الحواس، وهو مفهوم أقرب إلى مفهوم الطفل وإدراكه للأشياء، لأن أرسططاليس بفلسفته الوثنية أسس للغرب تقاليد فلسفية وعقدية لا تستطيع حضارة العرب بسببها الفكاك من دائرة الوصفية، وتجاوزها الى استبطان المادة واستشفاف روحانيتها، بينما توصل الشرق، بروحانية أديانه السماوية، إلى تحقيق هذا الاستنباط للواقع باستمرار، وإن شذ عند بعض من تطوفوا عمدا في استبطانهم، فالتقوا بالوثنية الشرقية في وجهها الآخر، التقاء مقصودا من-الأساس، فكانوا الوثنيين الجدد تحت عنوان ( فرق إسلامية).

وهكذا نمت الواقعية الاشتراكية الأوروبية وترعرعت في أكثر الدول الرأسمالية آنذاك: انجلترة، وفرنسة، وألمانية، ولكنها لم تنجح عمليا ولم تستطيع ثورتها فرض نفسها على المجتمع سياسيا وعسكريا إلا في أكثر الدول الأوروبية فقرا وأشدها بعدا عن النظام الرأسمالي والاقطاعي آنذاك: روسية، وهذا هو الإحباط الأول الذي واجهته تلك الواقعية الأرضية، التي عجزت عن تلبية حاجات الإنسان الغربي الرأسمالي المتشوفة للروح، بعد أن ملأت المادة عليه حواسه، وسدت مسامه الروحانية التي كان يتنفس منها الجزء الأهم من الحياة.

وعلى الرغم من أن بعض المفكرين الاشتراكين المتأخرين لم ينس الروح تماما في الإنسان، فحاول أن يعترض على (( مكانيكية )) الجناح المادي في الشيوعية التطبيقية وإغراقه في التفسير المادي للحياة، كما فعل دوبرليوبوف حين قال (( مضحكة وبائسة الادعاءات الجاهلة التي تطلقها المادية الفظة- يقصد الميكانيكية أو الجافة- التي تحطم المعنى السامى للجانب الروحي للانسان ))، رغم وجود هذه الاعتراضات فإن أصحابها كانوا ينطلقون من العقل وحده مفسرا للنشاط الروحي الإنساني، كما يصرح لاكريتسكي في نقده لواقعية دوبروليبوف (( إن الاعتراف بتبعية العمليات السايكولوجية السببية للعمليات الفيزيولوجية، والاعتراف بالعقل كجهاز للنشاط الروحي قاد دوبروليوبوف إلى مفاهيم فلسفية معينة تعتبر جوهرية جدا للنقد الذي مارسه )).(3)

وبينما يركز الواقعيون الاشتراكيون على (( تخليص )) الواقعية من أوهام ما وراء الواقع أو الطبيعة- كما يدعون- أو ما يسمونه (( الخبث الميتافيزيكي ))(5) تصر الواقعية الإسلامية على أن الإنسان- من خلال واقعه الحقيقي- ليس عقلا فحسب، بل قل ليس مادة خالصة، إنه روح ومادة، وعقل وما وراء العقل، وواقع وحقيقة. إن كلا الواقع- الواقع الأرضي المادي- والحقيقة- الحقيقة السماوية العليا- يتعاضدان لقيام الواقعية الإسلامية في الأداب، على اختلاف في درجات اتجادهما، من الناحية الفنية، بين الشعر من جهة الفنون النثرية من جهة أخرى، فعلاقتهما في الشعر أقرب إلى (( المترجحة )) منها إلى المعادلة، إذ ترجح فيه كفة الحقيقة على كفة الواقع، ولكنهما من الناحية الفكرية متساويان أبدا- معادلة حقيقية- في كل الفنون الأدبية على السواء، شعرا ونثرا.

إن الواقعية الاشتراكية واقعية (( ممسوخة )) في حقيقتها، لأنها تأخذ في حسابها الوجه المنظور للإنسان، وترفض الاعتراف بالوجه الآخر غير المنظور- الوجه الروحي (( الميتافيزيكي ))- وهي في هذا تتساوى في الجهل مع من يرفض الاعتراف بوجود وجه آخر للقمر لأنه لا يراه بعينه. أما الواقعية الإسلامية فتتجاوز البصر الى البصيرة، فترى بعينها الثاقبة المتزودة بنور الله ما لا يمكن للعلم بأرقامه وقوانينه الأرضية أن يراه. لقد بدأ العلم حقَّا يتجاوز غباءه الخفي المزمن، ليكتشف أن كثيرا من قوانينه التي كانت إلى وقتٍ قريب من المسلمات أضحت أكاذيب كبيرةً، لقد غدت الحدود بين الفيزياء والميتافيزياء- ما وراء الطبيعة- مائعةً هشّة في نظر العلم الحديث جدّا، وانهزم قانون جاذبية نيوتن أمام نظام الالكترونيات الفريد داخل الذرة، وطأطأ العلم رأسه أمام الحقيقة الأزلية الجديدة وهي أن قانون النسببية يتحاوز الظاهر أو المحسوس الى ما وراء عالم الظواهر، إلى الغيب، وتراجعت نهائيات مقولة الحتمية التي أسند إليها ماركس وأنجلز الجدلية المادية، ليحل محلها مقولة الاحتمالية التي تلغى في الحقيقة ثلاثة أرباع البديهيات العلمية في القرن العشرين، إلى آخر هذا التراجع المرير للقوانين الفيزيائية أمام القوانين الغيبية التي ماتزال تتكشف أمام علماء هذا القرن.(6)

ولعله أصبح من السهل علينا الآن التفريق بين كل من الواقع والحقيقة والواقعية الإسلامية. فالأول ذو بعدٍ واحد أيضا يقابل البعد الأول وهو السماء، إنها الواقع          (( الميتافيزيقي ))، أما الواقعية الإسلامية فهي الرباط السليم المتوازن الذي يجمع بين الأرض والسماء، بين الطبيعة المحسوسة والطبيعة غير المحسوسة.

لقد اعتاد ملحدو الغرب أن يستبدلوا بالحقيقة الدينية الحقيقة الفنية، فهم يلجأون إلى الفن وحده من موسيقى وغناء وشعر ورسم ونحت وغير ذلك من الفنون، ليسدوا الفراغ الروحي القائم داخل كل نفس بشرية، أما المسلم، المسلم الحقيقي، فقد ملأ ذلك الفراغ بخير ما يمكن أن يُملأ به: الصلة بخالق الوجود عن طريق طاعته وعبادته والتذلل إليه والتوكل عليه، وإعمار الأرض فيما رضي الله عز وجل أن تعمر به من الحضارة الحقيقية البانية، بعيدا عن السلبية والانحراف في البهارج التكنولوجية الغربية القاتلة لإنسانية الإنسان، مهما تبرجت هذه التكنولوجية بأثواب الحضارة الوهمية هذه التكنولوجية بأثواب الحضارة الوهمية الزائفة. إن المسلم يصل عن طريق هذه الصلة الروحية بخالق الوجود إلى أن يحقق من المتعة الراحة والسكينة ما لا تقدمه أية صلة أخرى للإنسان بعناصر هذا الكون.

وهكذا يتحول الواقع الأرضي في الإسلام الى واقع مثالي، ما دام متصلا بذلك المنبع النوراني القدسي المستمر الفيضان على العالم.

***

وهذا الواقع المثالي بعيداً كل البعد عن (( المثالية )) تلك التي يضعها الفلاسفة في مقابل (( الواقعية )) فمثالية الإسلام ليست مثالية الفلاسفة، ولا بد من التمييز بين المثال الواقعي والمثال الفلسفي.

فعلى الرغم من أن كانت (1724- 1804) وهو أبو الفلسفة المثالية الحديثة، يرفض أفلاطون بمثاليته النظرية العقلية، فإنه ومن تبعه من فلاسفة تأثروا بمثاليته كهيغل (1770- 1831) وفيخته ( 1762- 1814) وشوبنهور (1788- 1860) ألحوا على روحانية الفن وأهملوا كل ما سواها، حتى غذا الفن عندهم شكلا ليس غير، بل إن ( كانت ) يرى أن الجمال المحض، ولذلك كانت ذروة الفنون عنده هي تلك الخالية من مضمون، كالزخارف والزينة والنقوش والموسيقى التي لا يصحبها غناء.(7)

ولم تكن الواقعية الحديثة أكثر من مجرد رد فعل إنساني عميق على ما رافق المثالية القديمة من مظالم وانحرافات، ولم تكن إذن في الأساس صادرة عن مبدأ إنساني راسخ سليم، منزه عن انحرافات ردود الفعل الإنسانية.

أما تصور هيغل للعقل فهو أن التاريخ (( حركة عقلية )) وهويعلن في عبارته المشهورة من مقدمة كتابه ( مبادىء فلسفة الحق ) أن (( كل ما هو عقلي هو واقعي وكل ما هو واقعي هو عقلي )) فالعقل عنده إذن هو الواقع، والواقع هو ما تستطيع الحواس- جنود العقل- أن تصل إليه. أما العلم العقلي، الرأس المتحكمة بحضارة القرن، فهو السلوك المكيف لحياة الإنسان المعاصر، وتلك شهادة واحدة من أكبر فلاسفة العصر الغربيين في هذا السلوك، وهو برتراند راسل: (( إن السلوك العلمي غير طبيعي بالنسبة إلى الإنسان إلى حد ما، فمعظم آرائنا هي من قبيل تحقيق الرغبة، شأن الأحلام في نظرية فرويد. وإن ذهن أشدنا تعقلا لأشبه ببحر عاصف من المعتقدات العاطفية التي ترتكز على الرغبة، يكاد يطفو فوقها قليل من القوراب الضئيلة المحملة بالمعتقدات التي ثبتت علميا )).(8)  ونتذكر هنا قول فلاسفة الأخلاق منذ القدم (( إن البشر يختلفون غالبا عن ذواتهم بقدر اختلافهم عن الآخرين )).

وهكذا يظهر لنا العقل شحنة ثقيلة من الأهواء المتلونة المتبدلة ممزوجة بقليل من العلم، والمبدأ الإنساني الذي يعيش فينا ليس عالبا مبدأ العقل بل مبدأ الهوى. وتتكون الايدولوجية- باعتراف هيغل- من عناصر مختلفة يجمعها هيغل تحت لفظة (( الأهواء )) ويقصد بها (( الغرائز والميول والحاجات والمصالح التي تدفع الأفراد نحو أهدافهم الخاصة، وتغذي نشاطهم، وتتعرض للأذى والانقباض والتلف. فالأهواء موجودة في كل أيديوجية، محددة لتصوارتها ومقاصدها، مؤثرة في تطوراتها وعلاقاتها )).(9) والصدام بين العقل الإنساني- القاصر بطبيعته – والأيدلوجية- التابعة لأهواء العقل الإنساني- محتمل ومستمر الحدوث (( تنجح الايدولوجية أحيانا في استمالة العقل واستخدامه، وأحيانا في تطويقه وتدجينه، وأحيانا في استبعاده والاستبداد به، وأحيانا في اضطهاده والتنكيل به )).(10)

في مثل هذا الخضم من الصراع بين العلم المخلخل القلق، والعقل الإنساني القاصر، والأهواء البشرية المتلونة، والايديولوجيات المتطاحنة المهتزة، تكون جنين الواقع الفلسفي وحنين المثال الفلسفي، فكان الواقع الفني واقعا شكليا، وهو إذن أبعد ما يكون عن الواقع- الجوهر، المتمثل بالمضمون، وكان المثال هيكلا أجوف غير قادر على إيجاد المضمون الذي يملأه من حياة البشر. وهكذا ظل (( واقعهم )) بعيدا عن (( الواقع )) الواقع الموضوعي الذي يتبناه الإسلام، بكل أبعاده، الأرضية والسماوية، وظل مثالهم بعيدا حتى عن واقعهم الأرضي المسخ، فكيف يطال مثل الواقع العملاق الذي أقامه الإسلام؟

حتى نصارى الغرب الذين أرادوا أن يحفظوا للواقعية روحانيتها، لم يستطيعوا أن يخلصوها من وهميتها، فكانت واقعيتهم أساساً في خدمة المثالية الفلسفية، فلقد أصر فلاسفتهم في العصور الوسطى على القول بأن الكليات ( كالعدالة والمروءة والوفاء ) لها وجود (( حقيقي )) مستقل عن الخصوصيات ( أي الحالات الإنسانية الفردية التي تتمثل في أحداثها تلك المعاني الكلية ). وكانوا يواجهون بهذا الادعاء كلا من نظرية ( المفهومة ) التي تقول إن الكليات توجد في العقل وحسب، ونظرية ( الاسمية ) التي تنكر وجود الكليات عموما فهي محض أسماء،(11) فخرجوا بهذا حتى عن أدنى قواعد العقل ومبادئه الأساسية ولم يحققوا المثالية التي ضحوا بالعقل من أجلها.

***

فهل ضحت مثالية الإسلام بالعقل، وهل كانت مثالية واقعية، بالمعنى الأوسع والأصح للواقع.

إن المفهوم الإسلامي للحضارة- كما هو الواقع- يختلف تماما عن المفهوم المادي لهما، فالعلم والفن والأدب والحضارة المادية قد تكون وسيلة لهدم الإنسان، الإنسان الكلي، لا بنائه. إننا نقبل قول الكاتب الفرنسي أناتول فرانس على لسان أحد أبطاله في كتاب ( الحياة مزهرة ): (( إن أشأم أيام التاريخ هو يوم معركة ( بواتييه ) في سنة 732 حين تقهقرت العلوم والفنون والحضارة العربية أمام البربرية الفرنجية )) نقبله على أنه حكم تجاه حضارة الإسلام الأولى، ولكن انحراف هذه العلوم والفنون والحضارة عن خطها الإسلامي، الأرضي- السماوي، مهما خيل للغرب أنه تطور وارتقاء، هو الذي فتك بأصحابها في الأندلس بعد تسعة قرون، وهزمهم الهزيمة الأولى قبل أن تهزمهم البربرية الفرنجية المتداعية.

فهل الواقع الإسلامي ما هو كائن الآن من انحراف وتشوه، أم ما يجب أن يكون من سلامة واستقامة؟ وهل التحدث عن العدالة المطلقة والقوة المطلقة والصدق المطلق والأمانة المطلقة والتضحية المطلقة ضرب من المثال الفلسفي أم هو واقع عرفه الإسلام؟ وهل كان بلال الحبشي وعمار بن ياسر ومصعب ابن عمير وعمر بن الخطاب وهماً وخيالا أم تاريخا حقيقيا أذعن لحقيقته البشر؟ وهل كان كذلك عمر بن عبد العزيز وابن تيمية والعز بن عبد السلام ومحمد بن عبد الوهاب وحسن البنا وابن ادريس باديس وغيرهم من جنود الإسلام وأبنائه الذين أعطوا بحيواتهم صورة عملية حقيقية عن نموذجية الواقع الإسلامي؟

وإذا كان التاريخ يؤكد وجود هذه النماذج (( الواقعية الإسلامية )) مثلما يؤكد إمكان تكرارها، إذا استقى الأواخر من المصادر النقية نفسها التي استقت منها تلك الأوائل، فإن التاريخ والعقل والواقع الإنساني الأرضي ستقف جميعا عاجزة عن فهم كثير من الوقائع الإسلامية التي تتجاوز آفاقهن جميعا إلى ما وراء التاريخ والواقع والعقل. فأنى للتاريخ أو العقل تفسير إسراء الرسول صلى الله عليه وسلم ومعراجه؟ وكيف يستطيع الواقع أو المنطق تفسير برودة النار حين رمى الكفرة بإبراهيم عليه السلام فيها، فأنجاه الله منها؟ وكيف تفسر كل معجزات الرسل والأنبياء والأولياء في التاريخ؟

إن العقل والواقع الأرضي لا يقبلان، بقصورهما، هذه الوقائع الخارجة عن منطقها، ولكن تقبلها الحقيقة الإسلامية العليا، وبتعبير آخر، يقبلها الواقع الإسلامي الذي أسلم قياده لخالق الكون يتصرف به كيف يشاء، تبعا لقوانين الأرض حينا، وتبعا لقوانين السماء حينا آخر. وهكذا نضيف، في الواقعية الإسلامية، إلى العناصر الأرضية المعروفة، وإلى عنصر الحقيقة العليا السالف، عنصرا جديدا يخرج أيضا عن كل القياسات البشرية التاريخية والواقعية والعقلية، ويمكن أن ينضوي تحت لواء الحقيقة الإسلامية العليا، وهو عنصر القدر.

ولكن القدر في الإسلام لا يتنافى مع (( الفعل )) الإنساني، ومهما كان تدخل القدر واضحا في الواقعة، ومغيرا في طبيعة القوانين الأرضية، يظل مبدأ (( إعقلها وتوكل )) هو قانون الحياة الإسلامية. لقد قدر الله جل وعلا لنبيه r أن يهاجر من مكة إلى المدينة في أقسى الظروف، وكان عليه الصلاة والسلام موقنا بأن الله متم أمره ولو كره الكافرون، وكان يرى بعيني نبوته ولسان الوحي إلى نصر الإسلام المحقق القريب، وكان وعده لسراقة بسواري كسرى، وهو المطارد في الصحراء من أقرب الناس إليه: عائلته وعشيرته وقومه، توكيدا لهذا اليقين بالنصر، ومع ذلك كان r في مسيرته الشاقة على طريق الهجرة لا يدع وسيلة للحيطة والحذر والنجاة، لقد كانت قدماه الطاهرتان تدميان وهو يصر على أن يمشي على أطرافه أصابعه ليموه على مطارديه آثاره وآثار صاحبه..

و (( الفعل )) في الإسلام ليس هو الحدث بل المعنى المنبثق عنه، و (( يفعلون )) ] يقولون مالا يفعلون [ لا تعني الفعل الجسماني فحسب بل الفعل الفكري أيضا، وهو فعل أخطر من الأول وأكثر دلالة على حقيقة صاحبه، والله سبحانه وتعالى أخذ على الشعراء تناقصهم بين أقوالهم وأفعالهم، بقدر ما أخذ عليهم تناقضهم أقوالهم وأفعالهم، بقدر ما أخذ عليهم تناقضهم بين ما يؤمنون به من جهة وما يعلنونه على الناس من جهة أخرى.

ولأن الفعل بجناحيه الجسماني والفكرى، هو المعول عليه في الإسلام، كان الأديب المسلم مطالبا بالصدق في كلا الجناحين، وبالتوجه إليهما وحدهما دون مظاهر الحياة الأخرى، لأنهما وحدهما اللذان يتحقق فيهما (( الفعل )) المطلوب.

وتتفق الواقعية الاشتراكية- من منظور لاكريتسكي- مع هذه الحقيقة الأدبية في الإسلام، فالثقافة الوحيدة التي تستطيع أن تؤمل بأن يعترف بها الآخرون هي- في رأيه- (( تلك الثقافة التي تعتمد على الفعل، إنها لا تصرف الآخرين عن الحياة، بل تربيهم من أجلها، وتقوي نظرتهم العملية إلى الأشياء، وفهم الواقع الملموس والإحساس به )).(12)

وهكذا يرى بيلسكي أن وظيفة الفن هي في (( التصوير المتعدد لجوانب الحياة على اعتبارها فعلا )).(13) وتبدو الحياة الاجتماعية في في نظر اشتراكي آخر هو دوبروليبوف، بكل تناقضاتنها ودراميتها، وبكل التوتر السامي لفكرتها وحسها وحماستها، تبدو بوصفها موضوعا للتصوير الشعري )) أكثر غنى بما لا يقاس من الطبيعة نفسها، وأن هذه العلاقات من الحياة، إذا ما قورنت بها الحياة الموجودة في الطبيعة، بدت له الأخيرة ميتة.(14)

وهذا يقودنا الى تأكيد مبدأ التركيز على الإنسان في الواقعية الإسلامية، دون الخروج إلى (( ترف )) التعامل مع (( الأشياء )) في خدمة الإنسان، على أن نبدأ بالأكثر أهمية لحاجاته، أو إن استطعنا النفاذ من هذه الأشياء إلى الإنسان نفسه، فكانت معبرا وطيئا إليه، وبتعبير أوضح تظل الأشياء هي الوسيلة والإنسان هو الغاية. وأن تكون غايتنا الإنسان يعني أن يكون واقعه- الواقع من وجهة النظر الإسلامية- هو منطلقنا إلى الغاية، فلا ازدواجية، ولا كذب، ولا أوهام، ولا مواصفات اجتماعية تفتح بابا إلى النفاق، الحقيقة وحدها هي المنطق.

وسنقف هنا عن أهم فنين أدبيين معاصرين، نعدهما الأكثر تأثيرا في حياة المسلم المعاصر: الشعر، والقصة بأنواعها، المكتوبة والمذاعة.

أما الشعر، فما يزال أصحابه منذ الأزل، مهما صدروا عن الواقع، يتعلقون بجبال الأوهام غالبا، وقد يخفق الشاعر- من الناحية الفنية- إذا حاول الاكتفاء بالحقيقة. يقول ( ولر ) شاعر البلاط الانجليزي في رده على الملك شارل الثاني حين عاتبه على أن الأناشيد التي نظمها له كانت دون الذي نظمه لكرومويل (( ياسيدي، نحن- معشر الشعراء- ننجح في الأوهام خيرا من نجاحنا في الحقائق )).(15)

ولأن الشاعر يصدر عن عاطفته كان لا بد للازدواجية من أن تتسرب إلى عمله الفني، فعقيدته- الشعرية- تتلون بتلون عاطفته، وقد ينطق أحيانا عن عقيدة آمن بها حق الإيمان، فتنطلق عواطفه بالدفاع عنها والإتيان بخوارق البيان من أجلها، ثم لا يلبث أن يرتد إليه شيطانه فينطقه عن الهوى، وقد كان من قبل ينطق عن المبدأ والعقيدة، ويعبر الشاعر اليوناني المعاصر نيكوس كزانتزاكيس عن هذه الازداجية الواضحة عند الشاعر خير تعبير في ديوانه ( تقرير إلى الإغريق ) حيث قال: بين فينة وأخرى، يرن صوت حلو في شغاف قلبي، قائلا لا تخش ولا تخف       فسأضع القوانين، وأرسي النظام. أنا الله فكن مؤمنا (( لكنه على التو ينبع عواء من صلبي، فينفطع الصوت الحلو عن الرنين. (( كف عن تبجحك، فسأفسد قوانينك وأدمر نظامك، وأزيلك من الوجود. أنا الفوضى)).(16)

وسبيل الشاعر إلى الخلاص من مأذق الازدوجية الفكرية والعاطفية هو صدق الالتزام بالإسلام. حين يعيش الشاعر الإسلام بقلبه، فيكون الناسك المتعبد الورع، وبفكره، فيكون المؤمن الراسخ العقيدة، الصامد لابتلاء الله ومحنه، والمدافع عن دينه وشريعته، المتفتح لحقائق العلم والحياة والواقع، وبيده، فيكون المجاهد الصادق الباذل ما في يده من روح وولد ومال، حينذاك سينجو من التلون العاطفي في شخصيه، ومن ازدواجية الخير والشر في داخله، وسيكون الشاعر الملتزم حقيقة بخط الإسلام.

ومن السهل علينا بعد ذلك أن نفرق بين الشاعر الملتزم والشاعر     (( المنضوي )). فالأول هو الصادق مع نفسه وراء جزاء كبير، أكبر من كل جزاء، وطمعا بحياة أخرى سرمدية لا تقارن بها حياة الأرض مهما أغرته وتبرجت له. أما الانضوائي فهو الذي ارتضي لنفسه أن ينضوي تحت فكرة دنيوية أو راية بشرية أو حزب سياسي، لمصلحة مؤقتة، رهبة أو رغبة، للخروج بالمنفعة أو السلامة السر يعتي الزوال. ومن السهل على الأنضوائي، وهذه الحالة، أن ينزلق بعد ذلك في هوة الانفصام بين حياته وإنتاجه، ولذلك كانت الازدواجية أو الانفصام بين شعر الشاعر وشحصيته سمة واضحة من سمات هذا العصر المادي، ولا سيما في الأدب الغربي، ومعه الأدب الشرقي الآخذ بأسباب الغرب ومقاييسه المادية. ويؤكد هذه الحقيقة روجيه جارودي في كتابه ( واقعية بلا ضفاف ) مستشهدا بالشاعر الفرنسي المعاصر سان جون بيرس (( كتب سان جون بيرس يقول: (( لقد واظبت دائما على ممارسة الازدواج التام في شخصيتي (( وهذا الرجل الممزق الى جزءين يمثل عصره، عصر ازدواج شخصية الإنسان )).(17)

أما حدة الحس العاطفي لدى الشاعر فهي، من جهة، أمر يتنافى مع الواقع البشري الشرقي خاصة، لأن الشرق ما يزال يحتفظ بروحانية أصيلة راسخة يمتاز بها على الغرب، وهي روحانية لا تزال تنفذ الى العاطفة وتنفذ العاطفة إليها، حتى إنهما لتتحدان في أكثر من جانب، ومن جهة أخرى تظل العاطفة هي الغذاء الرئيسي للشاعر، الذي يولد له الصور والخيالات والأفكار والتعبيرات والأوزان والموسيقا، وهذا دون الأدباء الآخرين المتعاملين مع الفنون النثرية تعاملات مباشرا يكاد لا يكون للعاطفة فيه أي دور يذكر.

واستجابة لعاطفته لن يوقعه في مزلق الازدواجية، إذا كانت هذه العاطفة سليمة المنبع، مستقيمة التوجه، متمثلة لخط الحياة الصحيح الذي رسمه لها الإسلام، وحيت تتمكن مثل هذه العاطفة النقية من نفس الشاعر أو الفنان يبدع بحرية مطلقة، ولكنه يقترب من الكمال الفني بقدر ما يستوعب في داخله حقيقة الحياة وجوهرها، ويفعم بالحظ الإنساني الإيجابي السليم لها، وحين يتمثل في داخله هذا الخط تنطلق شفتاه تلقائيا بما يفيض به قلبه السليم (( فبفيض القلب وحده يجب أن تنطلق شفتا الشاعر )) هكذا قال الأولون والآخرون.

ومن هذا المنطق نحكم على الشاعر من خلال أفكاره، من غير أن نفكر أبدا بالفصل بينه وبينها، فإن كان هناك ازدواجية أو انفصام بين قلبه ولسانه فهو دليل مرض يعاني منه في داخله، وسلامة العقيدة وحسن تمثلها كفيلان بتحقيق الانسجام بين الطرفين، القلب واللسان، ومرض الشاعر لا بد أن ينعكس على نفوسنا انعكاسا سلبيا، فتعاف شعره النفس المستقيمة، وتقبله النفس المريضة المعوجة، حتى إن لم يكن صاحبها يدرك أنه مريض حقا، إن تقبله للشعر المريض دلالة أكيدة على مرضه، وكذا السليم مع الشعر السليم، وهو أمر يؤكد حتى نقاد الغرب المتحررون من أية عقيدة تفرض عليهم اتجاها مسبقا. ويجمل بنا الوقوف عند هذا المقطع الطويل من كتاب الناقدة الأمريكية إليزابيث دور ( الشعر كيف نفهمه ونتذوقه ) لنستشف هذا الاتجاه عند الغربيين من جهة، ولنقف على النصوص الدينية الفريدة الثلاثة التي تنقلها المؤلفة عن شعراء حضارتها من جهة أخرى، مع تنبيهنا إلى أن عقيدة التثليث وطريقة مخاطبة الإله عندهم ستضطرانا إلى أسقاط بعض الكلمات حتى نستطيع الاستشهاد بهذه النصوص.    تقول المؤلفة:                                                                                                                  (( لقد نوقشت كثيرا فكرة الشعر والمعتقدة وكثير من الناس يجدون أنهم لا يستمتعون بالشعر إذا كانوا يختلفون مع الشاعر في معتقداته أو أفكاره. فاعتقاد ملتون الديني مثلا قد حطم كل استمتاع بالفردوس المفقود، وكفر( بوب ) بالأنظمة الدينية قد أفسد قصيدته (( مقال في الانسان )). وفي الجانب الآخر يقف الذين يعلنون أن أفكار الشاعر لاتلعب دورا في تذوق الشعر، وأنهم يمكن أن يكونوا قراء موضوعيين تماما بالنسبة لها. وأنا أشك كثيرا في في صحة هذا الزعم إذا كان الشاعر يناقش هذه الأفكار ويدلل عليها. ولكن المعول عليه- كما يقول إيليوت- هو التعاطف لا الموافقة العقلية. الإحساس الديني، كغيره من الأحاسيس التي يعبر عنها الشعر، مما يمكن أن نشارك فيه ونتفهمه ونضع أنفسنا فيه مكان الشاعر. ولنأخذ مثلا الفقرتين الأخيرتين من قصيدة لروبرت بييرنز تدعو إلى المحبة في أبسط صورها، نجد أننا قد لا نوافق على أن (( طبيعة الإنسان أن ينحرف عن الطريق القويم )) أو قد لا نعتبرها أساساً كافيا لذلك، وقد لا نؤمن بأن الله وحده هو الذي يستطيع أن يحكم على أفعال البشر، ولكن ذلك لا يههم كثيرا:

تأمل في عطف أخاك الرجل

وتأمل في عطف أكثر أختك المرأة

وهم يرتكبون الأخطاء البسيطة

إنها طبيعة الإنسان أن ينجرف عن الطريق القويم

ولكن اللغز الأكبر سيظل دائما:

ماهو الدافع الذي يجعلهم يفعلون ذلك؟

ولن تستطيع أن تعرف أبدا

إلى أي حد ربما يندمون.

إن الذي خلق القلوب هو وحده

الذي يملك أن يحكم علينا

فهو يعرف كل سلك ونغمته المتنوعة

وكل وتر وميوله المتعددة

دعنا عند وزن الأشياء نصمت

فنحن لن نستطيع تقويمها

إننا فقط نحصي الأعمال

ولكننا نجهل ما يسبقها من صراع داخلي.

وسيكون قاسي القلب ذلك الملحد الذي لا يتجاوب مع هذا الاحتجاج البسيط الذي كتبه شاعر مجهول في القرن السادس عشر:

ومع ذلك إذا كان صاحب الجلالة مليكنا المعظم

قد اختار بمحض إرادته

أن يدعو نفسه في مودة

وقال (( سأكون ضيفكم ليلة الغد،

فإننا كنا حينئذ قد تحركنا ونادينا ودعونا كل الأيدي لتعمل: (( لا يقف أحد خاملا ))

احضروا المناضد السبانية الفاخرة في الصالة وتأكدوا أنها جميعا قد تضذت ورصت، وأفسحوا مكانا للطعام الكثير،

وليأكلوا اللحم حتى يرفضوه بأنفسهم،

وتأكدوا أن كل شمعدان قد أضحى متألقا، يشع منه الضوء حتى قبل أن توضع فيه الشموع

هل تأكدتم أن كل شئ قد أعد: الطنافس نشرت

والمنصة رفعت، والمساند فوق المقاعد

وكل الشموع قد أضيئت فوق السلالم؟

عطروا الحجرات. وعلى أي حال

ليبق كل واحد من الحضور في مكانه

هكذا كنا سنفعل إذا حضر الملك

وليس في هذا عيب أو خطأ

فإنه عمل واجب

أن نظهر فروض الولاء والاحترام لملك دنيوي

وأن نضحي بجهودنا وأموالنا في سبيل

رضاه، وفي سبيل ذلك يهون كل شئ،

ولكن عند مجيئ رب السماوات

كل شئ ينتهي عند السادسة أو السابعة

ونحن نتمرغ في ذنوبنا….

ومرة أخرى- وبعد ثلاثمائة عام- من الذي يستطيع ألا يتأثر بقصيدة ( كوفانتري بلتمور ) (( اللعب ))؟ ذلك لأن القارئ، سواء آمن بمعتقدات الكاتب الدينية أو لم يؤمن، فإنه لا بد أن يتجاوب مع موضوعها الإنساني الشامل:

ابني الصغير، الذي كان ينظر بعين متأملة

ويتحرك ويتكلم بحكمة الرجل العاقل الرزين خالف أمري سبع مرات

فضربته وطردته

بكلمات جارحة، ورفضت تقبيله،

ذلك أن أمه- وهي أكثر صبرا مني- قد ماتت.

ثم خشيت أن يمنعه حزنه من النوم،

فتسللت الى مخدعه

فوجدته غارقا في نومه،

بجفون محمرة، وأهداب مازالت مبتلة من أثر البكاء.

وانحنبت وأنا أختلج

وقبلت دموعه،وسقطت دموعي،

ذلك أنه قد وضع في متناول يده

وعلى منضدة بجانب سريره

صندوقا من اللعب وحجرا أحمر

وقطعة من الزجاج المسموح

وستا أو سبعا من المحار

وزجاجة مملوءة بنبات الأجراس الزرق

وعملتين فرنسيتين من النحاس،

كلها مرتبة في نظام دقيق

ليسلي بها قلبه الحزين.

لهذا فعندما صليت لربي

تلك الليلة،

بكيت وقلت:

آه.. عندما نروح في غيبوبة كاملة دائمة ولا نستطيع أن نغضبك في الموت

وتذكر أنت أى لعب

كنا نصنع منها مسراتنا

وكيف أننا كنا أضعف من

أن نتفهم أوامرك وندرك الخير من ورائها

وأنت لست أقل حدبا (00) مني،

أنا الذي خلقتني من طين،

فإن غضبك سيسكت وتقول:

(( أنا آسف لصبيا نياتهم )).(18)

هذه النصوص الشعرية الثلاثة، رغم أن العظة كانت غايتها في كل مرة، لستطاع أصحابها أن يتخلصوا من الأسلوب الوعظي المعروف عند معظم شعرائنا في الشرق. لقد انطلقوا من الأرض وانتهوا في السماء ليصلوا بين الواقع والحقيقة في معادلة متوازنة ناجحة، من غير أن يجعلونا نفكر بأنهم يعتقدون غير ما نعتقد، ويدينون بغير ما ندين. لقد أقنعنا الأول حقا بأنه مهما كان الإنسان قادرا على إصدار الأحكام تجاه إخواته من بين البشر، يظل الحكم الأصدق والأقوم لله وحده، الذي يعرف السرائر والدخائل، وما أحاط بكل عمل أو خطأ من ظروف أدت إليه. واستطاع الثاني أن يشعرنا بالخجل ونحن نقارن احتفاءنا الشديد برجل الأرض- حتى إن كان ملكا- بانصرافنا عن إله السماء الأرض وخالق وجودنا ووجود كل شئ، إلى متعنا وأخطائنا، رغم علمنا بحضوره، وفهمنا الجيد لما يحبه وما يكرهه من هذه الأعمال. واستطاع الثالث أن يبرز لنا، بصورة تكاد تكون مجسمة، مغفرة الله الواسعة التي تسع أخطاء الأنسان مهما عظمت، ورحمته المتناهية التي تشهد أنه أرحم الراحمين.

وفي النصوص الثلاثة لم يحاول الشعراء الغربيون مواجهتنا بفكرتهم، بل رأيناها تتسلل إلينا في النهاية بخفاء عجيب حتى لنحس أنها انبثقت من قلب الشاعر منذ العبارة الأولى، وإن كنا ندركها إلا متأخرين.   إن (( تفاهة الحياة اليومية )) التي يعد كولن ولسن الشعر بطبيعته (( انصرفا عنها )) و (( تعاليا عليها )) (19) تنقلب هنا معينا ثرا للأفكار الكبيرة التي تقيم الجسور العظيمة بين الأرض والسماء، وانها الواقعية الحقيقية أن تنقلب الحادثة اليومية التافهة بين يدي الشاعر الى حقيقية أزلية كبيرة من حقائق الحياة والموت والحساب والخلود وعبادة الله وتحقيق وحدانيته، من غير أن يوحي لنا الشاعر بأنه يحاول إرغامنا على النظر الى الحياة بمنظاره،                    كما هو- للأسف- شأن معظم الأعمال الشعرية الأسلامية المعاصرة، رغم أننا، نحن المسلمين، نملك وحدنا الصورة السليمة المقنعة للعقيدة التوحيدية المنزهة عن الشرك الذي يخلط فيه الآخرون بين الإله والإنسان، كما لاحظنا في النصوص السالفة.

***

أما القصة بجناحيها، المكتوب والمذاع، فشأنها في حياتنا المعاصرة أخطر من الشعر، إذ وجدت لها منابر عديدة ومتنوعة لا يحلم الشعر بالوصول إليها.

ولئن كان الشعر في مطلع التاريخ منبر الإنسان الأهم للتعبير عن مشاعره المختلفة التي لا تستطيع اللغة العادية الإحاطة بها، لقد أضحت القصة في القرون الأخيرة، ولا سيما في هذا القرن، الأداة التعبيرية الفنية الأولى لتوضيح هذه المشاعر الكثيرة المتضاربة عند بني البشر. حتى القرن الماضي كان الناس بألسنة نقادهم يشعرون أن الرواية لم تعد، بطولها الشديد، ملائمة لحياة الانسان السريعة، ويعزو الناقد بيلنيسكي ( 1820- 1898 ) تراجع الرواية وتقدم القصة الى تغير الواقع: (( إننا أناس عمليون، إننا نتذمر بلا انقطاع، ونسعى باستمرار، إننا نتذمر بلا انقطاع، ونسعى باستمرار، إننا نحرص على الوقت، وليس لدينا من الوقت ما يكفي لقراءة الكتب المطولة، بكلمة، إننا بحاجة الى قصة… إن حياتنا المعاصرة بالغة التنوع والتعقيد والتجزئة، إننا بحاجة لها أن تصور في الأدب كما تنعكس صورة الشئ في قطعة الكريستال مضلع وعديد الزوايا، تتكرر ملايين المرات وفي جميع صورها الممكنة، ولهذا فإننا نطالب بالقصة.. إنها قصيرة وسريعة وخفيفة وعميقة، تنتقل في نفس الوقت من موضوع إلى آخر، وتجزئ الحياة إلى دقائق.. ))(20)

ولكن، حتى القصة قد غدت- ونحن على أبواب القرن الحادي والعشرين- فنا مطولا أكثر من أن تطبقه الأجيال الجديدة، بتزاحم أعمالها وانضغاط أوقاتها، ولا سيما حين تقدم هذه القصة في صيغتها المقروءة، أما حين تصل إلى الاذاعة والتلفزة لتغدو فنا تمثيليا مسموعا أو مرئيا فإن الوضع يتغير. لقد وجد كثير من الاذاعات ومحطات التلفزة سبيله إلى إقامة نظام للبث يتناسب ونظام حياة الفرد، فأكثر هذه المحطات الآن قادر على استقطاب المشاهدين والمستمعين إليه في أوقات فراغهم أو مستراحاتهم المحتملة بين العمل والقيلولة، وبين القيلولة والعمل، وبين العمل والطعام، وبين الطعام والنوم، وهكذا.. وهو أمر لا يحتاج من المشاهد أو المستمع إلى مشقة أو جهد ما دام مفتاح المذياع أو الرائي في متناول يده حتى وهو في فراشه. لقد قربت التكنولوجيا الشقة ما بين القصة الممثلة والإنسان، حتى غدت هذه القصة هي بحق الفن الأدابي الأول للقرن.

فأين يذهب القارئ، وعم يبحث بين الفنون الأدبية ليرضي غريزته الثقافية الظمأى إلى القراءة؟ الحق أن الوسائل الأذاعية قد وضعت فى متناول أسماعه وأنظاره كثيرا من القصص والمسرحيات الطويلة والقصيرة- في قراءته- يتطلع إلى الفن الأسراع، واللغة الأكثر اختصارا، والثقافة الأشد تركيزا. وإذا كان عليه أن يجلس إلى المذياع أو الرائي نصف ساعة أو ساعة أو أكثر ليخرج بقليل من الثقافة والمتعة، فإنه- بعيدا عنهما- يبحث عن هذه المتعة في ثقافة سريعة لا تخلو من المتعة، ولكنها أيضا لا تخلو من التركيز الذي يستطيع أن يملأه في أصغر جزء من الوقت، أكبر فراغ في كيانه الثقافي. انه الآن يرفض الرواية، وحين يمسك بالقصة القصيرة يجد فيها المتعة أكثر مما يجد من الفائدة، وليس ذلك ما ينشده، وحين يمسك بالمقالة يجد فيها الفكر والعمق والثقافة، دون أن تمنحه فرصة الترويج عن نفسه والتخفيف من أعباء عمله الجسماني وتفكيره الذهني المتلاحق، فأين يجد بغيته إذن؟.

إن الحل- في نظرنا- يتجه إلى ذلك الفن الذي لمع فيه مصطفى صادق الرافعي في مطلع هذا القرن واستطاع أن يشد به أفئدة الشباب المثقف الباحث عن الثقافة والمتعه معا، إنه فن المقالة القصصية، وفي هذا الفن يجد القارئ المعاصر ما يسعى إليه من ثقافة مركزة، وفي الوقت نفسه ما ينشده من متعة روحية تخفف عن ذهنه أثقاله اليومية المتراكمة.

والسؤال الهام الذي يطرح نفسه علينا الآن هو: من أين يستمد القاض مادته، وكيف يوفق بين الصدق والفن؟ يصيغة أوضح: كيف يوفق بين الواقع الفني الخيالي للقصة، والواقع الإسلامي الذي يرفض في الفن كل ما هو دون الحقيقة؟.

وللإجابة عن هذا السؤال نجد أنفسنا مدفوعين لطرح سؤال آخر يمكن أن توصلنا الإجابة عنه إلى أجابة عن السؤال الأول، وهو سؤال طالما طرحه الدارسون والنقاد على أنفسهم وهم يدرسون فن القصة: أيسبق الواقع الفكرة، أم تسبق الفكرة الواقع؟

لقد داخ المفكرون والنقاد وهم يبحثون عن أيهما أسبق إلى الوجود، وأيهما يؤدي إلى الآخر، فذهب ما يسمونه (( بالفلسفة الوهمية )) إلى أن الإنسان هو الذي يوجد الواقع، وأن فكرة الصفوة الممتازة من البشر- المقصود بها الشعوب الدول الاوروبية الرأسمالية المستعمرة التي استطاعت بتميزها أن تملك رقاب الشعوب الأخرى- هذا الفكر هو الذي يوجد النظم ويبدع القوانين ويفرض الواقع، وإذن فلا مجال للبحث عن الواقع خارج حدود الفكر الإنساني، لأنه في أصله مولود في هذا الفكر، بل في الصفوة المتميزة من أصحابه. ويعتمد بعضهم على هذه الفلسفة في إثبات أن الفكرة في القصة تسبق الواقع، أو هي التي توجده أصلا وليس العكس.

وبمقابل هذا المذهب يقف أصحاب (( الفلسفة الواقعية )) منادين بأسبقية الواقع على الفكرة، وينطلق النقاد من هذا المبدأ ليثبتوا ضرورة اعتماد القصة على الواقع أولا ليكون الفكر والخيال الكاتب لا يمكن أن يعمل في الأصل منفصلا عن الواقع المحيط به، مهما ألح الكاتب في الانفصال.

إن للإسلام موقفا يخالف الموقفين كليهما، فإذا كان للقصة أن تنطلق من الواقع- وهو ما يؤكده الإسلام- فليس هو الواقع البشري المفروض من قبل  (( صفوة ممتازة )) أو (( طبقة كادحة )) أو الواقع المادي المحسوس القصير النظر، وإنما هو الواقع الأرضي الذي لا ينفصل عن الواقع السماوي بحقيقته العليا وروحانيته وإعجازه وقدره، إنه الواقع الإسلامي الشامل لكل عناصر الواقع القائم واحتمالاته غير المنظورة أو المدركة، كما وجدنا.

فهل على القاص المسلم أن يستمد خياله من الواقع فيصور هذا الواقع كيف يشاء، فيغير من طبيعته، ويضيف عليها ما يشاء، أم أنه ملزم بهذا الواقع غير مسموح له بتغييره؟.

لقد قدم لنا القرآن الكريم نماذج رفيعة من القصص الديني، لا يشك مسلم في أنها قصص قد وقعت حقا فيما مضى من أمم سلفت، وكان القرآن الكريم، وكذلك الحديث الشريف، في غنى عن القصص الخيالية الوهمية التي لا تعتمد على أساس من الواقع التاريخي، ما دام الواقع أغرب من الخيال- كما استقر في ذهاننا- وجدير بالقاص المسلم إذن أن يتجنب الوهم والخيال الكاذب في بنائه لقصصه، اقتداء بواقعية القصص القرآني، إذا كان يؤمن حقا بأنه (( أحسن القصص )).

ويحسن أن نميز هنا بين الخيال القصصي (( الكلي )) والخيال البياني (( الجزئي ))، فالأول هو ماندعو القاص إلى تجنبه، أي أن يتجنب ابتداع أحداث القصة كليا من مخيلته فيبنيها على هيكل لا صلة له بالحقيقة أو بالتاريخ- إذا كان التاريخ يشمل الأحداث الإنسانية حتى اللحظة الراهنة- أما الخيال الجزئي فهو الصور المحلية والرموز التي يستخدمها الكاتب في التعبير عن أفكاره أو الإشارة إلى الأبطال أو الأحداث أو النتائج إشارات غير مباشرة، سعيا وراء الاتقان الفني، أو تجنبا لمضايقة السلطة، ويمكن أن يستخدمه أيضا في إعادة ترتيب أحداث القصة ترتيبا جديدا يحقق لها مزيدا من الفنية والتأثير، شرط أن لا يخل هذا بواقعية الأحداث أو (( تاريخيتها )) بتعبير أوضح.

ونحن لا ننكر أن القرآن الكريم والحديث الشريف لم يخلوا من أمثال قصصية قصيرة، ابتغاء توضيح فكرة أو عظة أو نموذج إنساني  ] مثلهم كمثل الذي استوقد نارا…[،] كمثل رجلين جعلنا لأحدهما جنتين..[، كمثل حبة انبتت سبع سنابل..[الخ. وهذه (( الأمثال )) إن هي إلا نوع الصور البيانية (( الطويلة )) التي لبست، أو كادت لبوسا قصصيا، وهي مما أكثر الوعاظ المسلمين استخدام نماذج منها على مر التاريخ، فكان لها تأثير كبير في شد القلوب ألى الإسلام وحقائقه الإلهية الكبيرة.

ويلتقي هذا التأكيد على (( الأمثال القصصية )) مع دعوتنا إلى التركيز والاختصار والانسجام مع العصر، وجدير بالقاص المسلم التعويل على هذا الفن (( القصصي- البياني )) السريع، والتفنن فيه، واستخدامه استخداما عصريا ذكيا متطورا، بحيث لا يكون تأثيره في جيله- على الأقل- دون تأثير أمثال الوعاظ المسلمين في قرونهم، وإذا خاض فيه الكتّاب، وتفننو بطرائقه وأساليبه، واختصروا في عبواته الصغيرة معاني الحياة الكبيرة، استطاعوا، بما تيسر لهم من (( تقنيات )) التعبيرات الحديث والفنون الأدبية المتفجرة في العالم، أن يصلوا منه إلى ما يحله بين أرقي هذه الفنون، وأكثرها صلاحية للأجيال الحديثة وتأثيرا فيها.

إن الالتزام بالإسلام لا يعني أن يعيش الأدباء المسلمون إحساسا واحد واهتمامات متشابهة وعواطف وتصورات وانفعالات نفسية واحدة، أن وحدة الفكر لا تعني أبدا وحدة الفن))، فالأديب أولا هو ابن ذته، والمعادلة المتحققة من لقاء الاقتناع الإسلامي أو العقيدة الإسلامية بالذلت الإنسانية ستتفجر حتما في شكل فني جديد وخيال جديد ومسارات فكرية جديدة، لأن النفوس الإنسانية لا يمكن أن تشابه، وما دام أحد طرفي المعادلة مختلفا في كل مرة فلا بد أن تكون نتيجة التفاعل دائما مختلفة، وإن كان الطرف الآخر للمعادلة ثابتا لا يتغير في كل الحالات.

لهذا كان من حقنا أن نحاسب كل كاتب أو شاعر إذا تكررت لديه الهياكل الفنية نفسها والصورة نفسها والأفكار نفسها استعمال الألفاظ نفسها، تلك التي تلك التي نجده عند من سبقوه أو عاصروه.

وعلى هذا لا يمكن أن نجعل من الواقعية الإسلامية (( سلة )) نجمع فيها كل (( البيض )) الذي يبدعه كتابنا وشعراؤنا، كما فعل أصحاب المذاهب الغربية بأدبائهم، إن الخط الفكري الإسلامي سينتظمهم جميعا، بقدر ما ستساعدهم روح الإسلام المتجددة، وقابليتها الفريدة للتكيف مع العصور المتغيرة، على تلوين أشكالهم، وتنويع طرائقهم، وتجديد هياكلهم الفنية.

أننا في أشد الحاجة إلى ثقافة من نمط جديد وإلى إعادة تقييم للثقافة القديمة. بل إننا بحاجة النظر إلى إعادة النظر في الفنون الأدبية، القديمة والحديثة، لا بافتراض العكس أيضا، أي أن نكتفي بتكيفه هو، أو قل مسخه، ليكون موافقا لطبيعة عقائدنا وأفكارنا، بل ننظر إليها إبداعية حرة من قيود (( الأمر الواقع ))، وبهذه النظرة الخلاقة وحدها نستطيع أن نجد لأنفسنا فنوننا الأدبية المميزة، فنونا إسلامية كاملة، نقية من التشويه والتزييف والمسخ، ولم يكن الإسلام أبدا، وهو الذي أبدع البشرية الجديدة، ونقلها من طور إلى طور، عاجزا عن إبداع بدائل أدبية لهذه النفوس تستجيب لندائها وتتفاعل مع حرارتها.

المراجع

(1) ديمن كرانت، الواقعية، ص12. ترجمة د. عبد الواحد لؤلؤة، بغداد 1980.

(2) نستثني منهم طبعا المفكر الفرنسي روجيه (رجا ) جارودي في الكتب والمقالات التي نشرها قبيل إسلامه وبعده ( أشهر إسلامه عام 1403ھ – 1982م ).

(3) راجع في هذا كتاب الفليسوف الانجليزي كولن ولسن ( الإنسان وقواه الخفية ) وفيه يثبت أن العقل الإنساني بأسلحته الحية التقليدية المعروفة ( الحواس الخمس ) لا يستعمل إلا جزءا بسيطا جدا من قواه الحقيقية الكامنة.

(4) لاكريتسكي. في سبيل الواقعية، ص 378- 379. ترجمة د.جميل ناصيف، بغداد 1974.

(5) وردت التسمية في المرجع السابق ص 6.

(6) وراجع المقالة العلمية القيمة ( أما آن لليسار العربي أن يعود من مغتربه إلى صفوف أمته ) للمفكر ديبان الشعري، وفيها طائفة كبيرة من الأمثلة على هذا التراجع. صحيفة ( المدينة ) السعودية.العدد 5815 تاريخ 10/ 5/ 1403ھ، ص 7.

(7) انعكس هذا على كل مدارس الفن الحديث في الغرب تقريبا حتى الوجودية، حين ذهب سارتر في فترة متقدمة من حياته، في كتابه ( ما الأدب )، إلى اقتصار الالتزام على النثر دون الشعر، وهذا وجه من وجوه اقتراب الشعر من الفن المحض على مبدأ ( كانت ).

(8) برتراند راسل. النظرة العلمية، ص 4 ترجمة عثمان نوبه، مكتبة الأنجلو، القاهرة 1956م.

(9) راجع مقال ( العقل والايديولوجيا ) لشفيق البقاعي. مجلة الفكر العربي المعاصر ص 48. بيروت، نوفمبر- تشرين الثاني 1981.

(10) المرجع نفسه، ص 52.

(11) وراجع ( الواقعية ) لديمين كرانت.

(12) لاكريتسكي. في سبيل الواقعية، ص 382.

(13) نفسه، ص 9.

(14) نفسه، ص 383.

(15) عن محمد غنيمي هلال. النقد الأدبي الحديث ص 365. دار نهضة مصر، القاهرة 1979.

(16) نيكوس كزانتزاكيس، تقرير إلى الأغريق. والترجمة لكلولن ولسن في كتابه ( الشعر والصوفية ).  ترجمة عمر الديراوي أبو حجلة، ص 257- 258، بيروت 1972.

(17) روجيه جارودي. واقعية بلا ضفاف، ص 108- 109. ترجمة حليم طوسون، القاهرة 1968.

(18) اليزابيث درو. الشعر كيف نفهمه ونتذوقه، ص 319- 323. ترجمة ابراهيم الشوش، بيروت 1961.

(19) الشعر والصوفية، ص 224.

(20) لاكريتسكي. في سبيل الواقعية، ص 17.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر