أبحاث

الإجماع الفقهي كصورة من صور التشريع في النظام القانوني الإسلامي

العدد 175

مقدمة:

التعريف بالبحث:

فى عصور الإسلام الأولى، كانت الوظائف التشريعية والقضائية متداخلة بعضها فى بعض، بمعنى أن القاضي كان فقيهًا ومجتهدًا فى ذات الوقت الذى يمارس فيه القضاء، فكانت تعرض عليه القضايا، فيستنبط الحكم بشأنها، وهو فى هذا الإطار يمارس وظيفة تشريعية باستخراج الأحكام من مصادر الشريعة، ثم يقضى بما توصل إليه من حكم فقهي على النزاع المعروض عليه، ليتحول الحكم من فقهي إلى قضائي، فيمارس بذلك وظيفته القضائية.

ولقد كانت أحكام الفقه تمثل عند المسلمين الأوائل القواعد القانونية، كالتشريعات والقوانين فى العصر الحديث. لكن الحق الممنوح للمجتهد فى أن يتوصل برأيه إلى الحكم باستنباطه من الدليل- رغم أنه أدى إلى إخراج ثروة فقهية هائلة وعظيمة – إلا أن ذلك مثّل مشكلة كبيرة فى مجالي القضاء والإفتاء، لأن هذا الاتساع فى الاجتهاد وحق كل فقيه فى إبداء رأيه حسب أصول مذهبه، نتج عنه قضاء وإفتاء مختلف من حالة لأخرى رغم تشابه الوقائع.

وقد كان الإجماع هو الحل الأمثل لدى المسلمين الأوائل للتغلب على هذه المشكلة، لأن الإجماع – بشكل من الأشكال – يمثل اختيارًا واحدًا من بين البدائل الفقهية المختلفة، أو هو قرار مبتدأ فى قضية لم يصدر بشأنها رأي بعد، وبالتالي كان له دور هام فى العمل على توحيد الرأي، قضاءً وإفتاءً، فى المسائل التى تضاربت فيها الأقوال، وكانت مصلحة المجتمع تقتضى الالتزام فيها برأي واحد.

كان هذا هو الإجماع وكانت تلك هى وظيفته فى أول أمره، وبالتحديد فى عهد الصحابة رضوان الله عليهم، كان بمثابة التشريع الذى يوحد الكلمة فى قضية من القضايا. إلا أن الفقه مع اتساعه، ومع تعصب بعض الفقهاء لمذاهبهم المختلفة، أدى إلى اتساع نطاق الإجماع، فدخل فيه ما ليس منه، وأصبح عائقًا أمام مستجدات العصر، بعدما كان أحد وسائل تطوير التشريع فى النظام القانوني الإسلامي.

وهذا البحث يحاول أن يستظهر حقيقة الإجماع، ليعيد وضعه فى مكانه الصحيح من بين الأدلة التشريعية فى النظام القانوني الإسلامي.

إشكالية البحث:

إن وضع الإجماع كمصدر من مصادر التشريع المتفق عليها عند جمهور الفقهاء والأصوليين، واعتباره أحد أصول الدين، جعل له مكانة كبرى فى هيكل النظام القانوني الإسلامي. ولكن مع جمود الإجماع وتطور الأحداث بشكل دائم ومتسارع، وعدم قدرة الإجماع بمضمونه التراثي على ملاحقة هذا التطور، جعله عقبة فى وجه تجديد الفقه الإسلامي بعدما كان أحد أهم وسائل التطوير.

وتأتى الإشكالية الكبرى للإجماع من جهة أنه موضوع فى مكان غير مكانه الصحيح فى النظام القانوني الإسلامي، ومما لا شك فيه أن إعادته إلى مكانه الصحيح سيؤدى إلى التغلب على كافة المشكلات التى تسبب فيها الإجماع باصطدامه مع التطورات القانونية والسياسية المعاصرة. وهذا ما سيحاول هذا البحث الوصول إليه.

منهج البحث:

سوف أتبع فى هذا البحث المنهج الاستقرائي الوصفي، مع المنهج التحليلي، بحيث سأتتبع وقائع الإجماع فى عصر الصحابة، باعتبارهم هم الذين ابتكروه. ثم أقوم بتحليل هذه الوقائع الإجماعية بهدف استخراج عناصر الإجماع الأساسية الدالة على ماهيته وحقيقته، وبالتالي معرفة وضعه ومكانه الصحيح فى هيكل النظام القانوني الإسلامي.

خطة البحث:

سنتناول هذا البحث فى مبحث تمهيدى وأربع مباحث، على النحو التالي:

مبحث تمهيدى: المفاهيم الأولية ومحاولات التجديد.

المبحث الأول: الإجماع كأحد مصادر التشريع فى التراث الإسلامي.

المبحث الثانى: إشكالية الإجماع فى النظم القانونية المعاصرة.

المبحث الثالث: الإجراءات العملية لوقوع الإجماع فى عصر الصحابة.

المبحث الرابع: حقيقة الإجماع كصورة من صور التشريع.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر