كتب الأستاذ الدكتور محمد رضا محرم في هذه المجلة (عدد شوال 1397 – أكتوبر 1977) مقالاً بالعنوان عالية انتهى فيه إلى ترجيح رأي أبداه المفكر الإسلامي الكبير الأستاذ فتحي عثمان في بعض أعداد هذه المجلة، أجاز فيه أن يكون المسلم يسارياً، وحدد بعض ملامح المسلم اليساري، وقد أيد الدكتور رضا هذا الرأي بحجة تاريخية هي أن المسلمين لم يكونوا فرقة سياسية واحدة، بل فرقاً معدودة، وحجة فقهية هي أن حق الاجتهاد وحق المشاورة مكفولان للمسلم، وأن هذا يؤدي إلى الانتماء السياسي.
وهذه القضية – فيما أرى – هي قضية شديدة الأهمية والخطورة وتتطلب أشد العناية في تناولها وفي حسمها.
الحق والحرية في الاسلام:
ومدخل هذه القضية هي تفهم معنى الحق والحرية في الإسلام، فإن حقيقة معنى «حق الانتماء السياسي» أي حرية هذا الانتماء، وهي حرية معروفة في مختلف النظم الدستورية قديمها وحديثها تقوم على حق الإنسان في الانضمام إلى حزب سياسي معين.
فإذا نظرنا إلى الانتماء السياسي على أنه حق، فإنه يرد في الإسلام تعريف معين للحق، وإنما يستعمل هذا المصطلح – عادة – بمعني الثبوت، فيقال لفلان الحق في كذا، أي ثبت لكذا، وأما الحق بمفهومه الحديث فيستعمل له لفظ «ملك» بكسر الميم وسكون اللام، فليس هذا اللفظ قاصراً على حق الملكية oprieté أي استئثار الإنسان بمال معين بحيث يكون له عليه حقوق الاستعمال والاستغلال والتصرف، بل هو يستعمل كذلك في حق الإنسان على زوجته فيقال: يملك الاستمتاع بها، وحقه في رقيقه فيقال: يملك رقبته وهى اجتماعية Fonetion sociate بمعنى أن المسلم يكون مكلفاً بإقامة في الواقع ولاية شرعية على محجور عليه هو الرقيق.
وهذا الملك – أو الحق بالمفهوم الشرعي – هو اختصاص شرعي أي ولاية تستهدف تحقيق المقاصد الشرعية، أو بالمصطلح الحديث وظيفة المصالح الشرعية المنوطة بهذا الحق.
ولذلك فإن الحق في الإسلام تكليف، وليس مصلحة شخصية كما هو الحال في الفكر القانوني الحديث.
ويؤدي بنا هذا القول: إلى أن حق الانتماء السياسي هو واجب على المسلم وتكليف ملزم له، وليس قدرة اختيارية إرادية إن شاء أتاها أو لم يأتها.
وهذه النتيجة بذاتها نصل إليها إذا نظرنا إلى الانتماء السياسي على أنه حرية.
فالحرية في الإسلام هي قدرة الإنسان على أن يفعل الصواب، أي ما يطابق الأحكام الإلهية.
ولم ترد لفظة الحرية بهذا المفهوم في كتب الفقه، بل استعملت اللفظة للدلالة على حالة عدم الرق، ولكن عرض الفقه لبعض جوانب الحرية بمفهومها الحديث في أبواب عديدة منها باب الإباحة، وباب الاختيار (ضد الإكراه) وباب التكليف … ومنها يستخلص أننا – في الإسلام – لا تعطي الحرية – بالمفهوم الحديث – إلا لمن هم أهل للتكليف إذ لا يسوغ اعطاؤها للسفهاء والبلهاء والمجانين ونحوهم، وإنهم إنما يعطون هذه الحرية لإقامة المصالح المعتبرة شرعاً، إذ لا يعقل – بطبيعة الحال – أن تعطى لأهل الفساد والإجرام يعبثون بها في الأرض، ولذلك الحرية في الإسلام مقيدة بأنها لمن هم أهل لها ليصلحوا بها، ومن هنا كانت حرية الانتماء السياسي – وغيرها من الحريات – تكليف وواجب لإدراك المصالح التي يعتبرها الشرع.
الإسلام ووحدة الفكر:
والإسلام بطبيعته يؤدى إلى وحدة الفكر.
لأنه نظام عقيدي أو مذهبي يقوم على إيمان عام.
فكلما كان الإيمان صحيحاً خالياً من الانحرافات، كلما أدى ذلك إلى تضامن الأمة وتماسكها ووحدة عقيدتها، كما كان الأمر في عهده صلى الله عليه وسلم.
أما إذا اختلفت الأمة في المسائل العقيدية، فإن هذا يؤدي إلى تشقق القاعدة الشعبية وهي الأمة، فتنقسم إلى فرق (جمع فرقه) كل فرقة تجتمع حول أمر خلافي من أمور العقيدة، وربما تفاقم الخلاف فتتحول إلى حرب أهلية على الوجه الذي حدث في فتنة على ومعاوية في أيام الإسلام الأولي.
ففي أيام الفتنة المذكورة هال الناس اختلاف كبار الصحابة ومحاربة المسلمين بعضهم لبعض، وبرزت إلى الأذهان مسألتان من مسائل العقيدة وهما: ما تأثير المعصية في الإيمان، وهل يظل المسلم مسلماً إذا ارتكب الكبائر؟ والأخرى: هل كانت هذه الفتنة امراً مقدراً من قبل أم أنه لا قدر وأن الأمور بداء (بضم الباء) تستأنف في حينها وبمعنى هل الإنسان مسير أم مخير فيما يفعل؟
وبسبب الاختلاف في هذه الأمور العقيدية – وغيرها – انقسم المسلمون إلى فرق، فذهبت فرقة إلى أن مرتكب الكبيرة كافر، أي يحل دمه وماله وعرضه (بقذفه) وكان هذا هو رأي الخوارج ولذلك استباحوا دم على بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وطلحة، وذهبت فرقة أخرى إلى أن مرتكب الكبيرة هو مؤمن عاصي ومصيره إلى الجنة، وكان هذا هو رأي السلف الصالح من الأشاعرة ومن نهجوا منهجهم، وذهبت فرقة ثالثة إلى أن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين لا هو مؤمن ولا هو كافر وكان هذا هو رأي المعتزلة.
ومن ناحية أخرى فقد انقسم المسلمون تبعاً لرأيهم في القضاء والقدر – إلى فرق عديدة منهم الجبرية أو الجهمية الذين يرون أن الانسان مسير بصورة مطلقة، ومنهم المعتزلة وهم الذين يرون أن الإنسان مخير وأن الأمور بداء مستأنفة في حينها، واتخذت الفرق المختلفة أحد هذين الاتجاهين – أو غيرها – بصورة تبعية، فكان الشيعة عموماً على رأي المعتزلة، وكان من الخوارج من على رأيهم أو على غير رأيهم، وعلى هذا المدار تعددت الفرق الإسلامية في الغالب، وأن ساهمت مسائل أخرى في تعددها كمسألة أن الإيمان هل هو بالقلب فقط أو باللسان فقط أو بالعمل فقط أو هو جامع لبعض هذه العناصر أو لها كلها، مما أنشأ فرق الكراجية (بتشديد الراء) والمرجئة (بكسر الجيم) وغيرها.
ولما كان الخلاف المذهبي يؤدي بطبيعته إلى إنشاء النظم السياسية، فقد تحولت كل فرقة من هذه الفرق إلى حزب سياسي يسعى لإقامة النظام السياسي الذي تقتضيه عقيدته ومن ثم فقد وجد حزب من الخوارج – تقسم فيما بينه إلى أحزاب كالصفرية والنجدات والاباحية وغيرهم، كما وجد حزب الشيعة تقسم إلى فرق كثيرة منها الزيدية والامامية – بأقسامها – والجارودية وما استجد بعدها من فرق أخرى.
وعلى ذلك فإن انقسام المسلمين إلى فرق كان مرضاً انتاب جسد الأمة ولم يكن ظاهرة صحية يحتج بها، وذلك لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)، ولأنه لم يكن ثمة فرق في عهده صلى الله عليه وسلم حتى قامت الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما.
وهذه ملاحظة نقدمها للأستاذ الدكتور رضا محرم – مع أشد الاحترام – على الحجة التاريخية التي ساقها، واستشهد فيها بما نقله عن المرحوم الأستاذ أحمد بك أمين.
فليس قيام الفرق الإسلامية – وما يتبعه من قيام الأحزاب – من خصائص الإسلام ولوازمه، بل كان ذلك كما أوضحنا مرضاً أنتاب الأمة في ذلك الحين، وعلينا أن نحرص على تجنيبها اياه كلما بدت أعراضه وبوادره.
ونكمل ذلك الرد، بما استدل به سيادته من أن الإسلام يقرر الاجتهاد والشورى، وأن ذلك من شأنه أن يفتح أسباب الانتماء السياسي.
وفي ذلك نبين: أن الخلاف في الاجتهاد يؤدى إلى انشاء مذاهب فقهية لا فرق دينية، فالخلاف في العقيدة يؤدي إلى انشاء الفرق، والخلاف في الاجتهاد يؤدى إلى انشاء المذاهب، وهذه الدرجة من الخلاف في الرأي يؤدي إلى استفحال الخلاف لدرجة انشاء الأحزاب تبعاً لها، لأنه ليس من الجسامة بحيث يجعل المسلم ينتمي إلى طائفة خاصة، أو يخرجه من طائفة لينتمي إلى أخرى ولذلك نجد أن فقه المذاهب المنتمية إلى الفرق المختلفة بأخذ من بعضه بعضاً في كثير من الأمور حتى عرف عن الشيعة الزيدية أنهم يذهبون مذهب أبي حنيفة في الفقه.
والاجتهاد بطبيعته يكون في الفروع والنوازل لتعرف حكم الله فيا، وقد يقع الاختلاف فيه بسبب الاختلاف في الأخذ ببعض الأحاديث فيحتج البعض بالحديث ولا يحتج البعض الآخر به لطعن بلغهم في أحد رواته مثلاً أو نحو ذلك، أو بسبب الاختلاف في الفهم اللغوي لبعض العبارات كما في حديث العزل، إذ فهم بعضهم قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن أرادوا العزل: «افعلوا أو لا تفعلوا فما من نفس كتب الله لها أن تخرج إلا خرجت» أو كما قال، ففهمه البعض على أنه اباحة وفهمه البعض الآخر على أنه نهى، أو كما في غسل الرجلين أو مسحها في الوضوء فالذين قرأوا قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) بكسر اللام رأوا مسح الرجلين، والذين قرأوها بفتح اللام عطفاً على قوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) رأوا غسل الرجلين، وليس في ذلك أو أمثاله ما يجعل الإنسان يتبرأ من أخيه ويخرجه من طائفته ويقاتله، بخلاف ما لو اختلف معه في أمر من أمور العقيدة فإنهما ينفصلان بذلك.
وهكذا فإن اختلاف المسلمين في الاجتهاد – ونشوء المذاهب تبعاً لذلك – لا يفتح باب الانتماء السياسي ولا ينشئ الأحزاب … وكثير من المسلمين يطبقون المذاهب المختلفة في عملهم ويأخذون من كل مذهب بما يرونه، ومنهم من ليس على مذهب، بينما يتعذر في المسائل العقيدية أن يجمع بين فرقتين، لأنه يستحيل أن يؤمن وينكر فكرة معينة في وقت واحد.
ولذلك فإنني لا أوافق على قول الأستاذ الدكتور رضا أن اعتراف الإسلام بالاجتهاد يتطلب الاعتراف بحق المسلم في الانتماء السياسي…
وكذلك لا أرى رأيه في أن الاعتراف بالشورى توجد مناسبة الانتماء … فمجال الشورى هو الأمور المباحة فقط والتي لا نص فيها.
ولذلك فهو لا يوجد أي مناسبة للخلاف الجدي الذي يفترق به مسلم عن آخر … فهي مسائل تقديرية بحتة قد يكون مردها للخبرة العملية فحسب، وذلك كنزول القائد بالجيش في موضع معين على ما حدث في غزوة بدر فهي مسألة مباحة لا نص فيها ومرجعها إلى الملائمة والتقدير فحسب، ومثلها مسألة حفر الخندق في غزوة الأحزاب، وكذا مسألة تأبين النخل فالمرجع فيها إلى الخبرة الزراعية ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: «أتنم أدرى» أو أعلم «بشئون دنياكم» وقد بين الإمام البخاري ذلك بوضوح في باب «وأمرهم شورى بينهم» (طبعة الشعب الجزء 9 صفحة) فقال «وكان الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستثيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره» وضرب مثلاً من ذلك أنه لما عزم أبو بكر على قتال مانعي الزكاة عارضه عمر، ولكن لما تبين أبو بكر أن ذلك تبديل للدين لأنه تفريق بين ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور الإيمان، حاربهم لأن المسألة انتقلت إلى الخلاف في العقيدة ولم تعد من المباحات التي تجوز الشورى فيها.
ولذلك فمن رأيي أيضاً أن اعتراف الإسلام بحق الشورى لا يعني اعترافه بالانتماء السياسي وليس حجة فيما أراد الاستدلال به.
رد على ما نقله عن الاستاذ فتحي عثمان:
وفي الواقع فإنني لم أطلع على ما كتبه الأستاذ المفكر الكبير فتحي عثمان في وقته.
ولكن الأستاذ الدكتور رضا نقل عنه أنه حدد بعض ملامح المسلم اليساري بما يلي:
«إذ يجاهد في سبيل الله والمستضعفين ويناصر الأيدي العاملة التي يحبها الله ورسوله، ويسعى إلى الحلول الجذرية للقضايا السياسية والاجتماعية، ويؤمن بأن الجذرية لابد منها وأن تستوعب الأصول، والأسس والجذور من واقع الكيان الروحي والمادي معاً، كما أنه يتمسك بالديموقراطية إذ هي حكم الله في المصالح والعلاقات الإنسانية حيث لا يكون النص الإلهي القاطع في وروده ودلالته الخ …».
والذي نلاحظه على هذه العبارة – مع أشد الاحترام – أن بعض ما ورد بها خطاب عام لكل المسلمين ولا يصح أن يميز بين مسلم وآخر فيجعل هذا يمينياً وذلك يسارياً، كما أن البعض الآخر منها ورد في عبارات مرسلة مجملة ليس لها مدلول خاص وأن البعض الثالث ليس صحيحاً في ذاته.
فأما الذي يعتبر خطاباً عاماً للمسلمين وهو أن «يجاهد في سبيل الله والمستضعفين ويناصر الأيدي العاملة».
وأما ما ليس له مدلول خاص في نظرنا فهو أن «يسعى إلى الحلول الجذرية للقضايا السياسية والاجتماعية، ويؤمن بأن الجذرية لابد منها وأن يستوعب الأصول والأسس والجذور من واقع الكيان الروحي والمادي معها» فإذا أخرجنا ما يجب أن يسعى إليه جميع المسلمين من أن يردوا الأمور كلها إلى الله ورسوله لوجدنا أن سائر العبارة لا مدلول لها.
وأما ما ليس صحيحاً في نظرنا فهو قوله «كما أنه يتمسك بالديموقراطية» إذ عرفها بأنها حكم الله في المصالح والعلاقات الإنسانية حيث لا يكون النص الإلهي والذي نعرفه أن الديموقراطية هي حكم الشعب فهي مشتقة من لفظين هما Demos أي شعب وCratos أي حكم، وهي تجعل الشعب مصدر السلطات وتتخذ الوسائل لمنع الحاكم من الاستبداد بالسلطة، وذلك بإقرار وسائل إقامة مجلس شعبي منتخب يعهد إليه بالسلطة التشريعية، وإقامة الفصل بين السلطات واستقلال القضاء، وإقرار سيادة القانون واحترام الحريات، وهذا النظام يقتضي أن الشعب مصدر السلطات وأنه يملك السلطة التشريعية ويسن من القوانين ما يشاء، وهذا يختلف تماماً عما أورده الاستاذ الكبير من أن الديموقراطية «هي حكم الله في المصالح»، وإنما حكم الله في المصالح هو طريق من طرق الاجتهاد الشرعي المقيد، وهذه المصالح محددة بأنها إقامة الضرورات والحاجيات والتحسينات في أمور الدين والنفس والمال والنسل والعقل والمال بترتيب وضوابط معينة، وذلك فلا علاقة بين المصالح المرسلة، والاستحسان، والتقبيح والتحسين العقليين ونحو ذلك من طرق إنزال المصالح، وبين الديموقراطية.
والواقع أن أصحاب المذاهب الديموقراطية المعاصرة أرادوا أن يتطرقوا إلى الإسلام وأن يتقربوا إليه بأن يتمحل كل فريق منهم ببعض خصائص الإسلام: فالديموقراطية الحرة أو الليبرالية (وهي التي تتخذ النظام الرأسمالي اقتصادياً) قربت نفسها إلى الإسلام بجامع اعتبار الحرية ومكانتها في النظامين، فقالوا: نحن كالإسلام لأن كلاً منا يعلن الحرية ويقوم عليها.
والديموقراطية الشعبية (التي تتخذ النظام الاشتراكي اقتصادياً) قالت نحن كالإسلام في خواصنا النظامية والتضامنية …
وهذا كله تلبيس، لأن الاسلام حقيقة واحدة تجمع في نفس الوقت بين الحرية واحترام الكيان الفردي، وبين النظامية والتضامن الاجتماعي ولا يجوز للمسلم أن يفرق بين هذه الخصائص فيعلى بعضها ليقرر أنه مسلم يميني – أخذاً باعتبارات الحرية – أو يعلى بعضها الآخر ليقرر أنه مسلم يساري أخذاً باعتبارات النظامية والتضامن. فهذا مما ينطبق عليه قوله تعالى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ) البقرة.
كل مذهب سياسي يقوم على عقيدة:
وكما قال الدكتور رضا فإن فكرة اليميني واليساري والوسط جاءت – في هذا العصر – من مدى الانحياز إلى الاشتراكية، بسبب أن النظام الاشتراكي طرأ على النظام الذي كان معروفاً قبلها وهو النظام الديموقراطي الحر (الرأسمالي) فصار الآخذ بهذا الجديد يسارياً لأنه معارض للقديم المستقر، وصار المؤيد للقديم المستقر يمينياً
لتأييده المنظم والأفكار القائمة وصار المتوسط بينهما بما يبديه من حلول وسيطة من أهل الوسط.
وفي الواقع كان كل من النظامين الديموقراطي الحر (الرأسمالي) والاشتراكي (اليساري) يرتكز على عقيدة خاصة به هي التي انشأت النظامين وجعلت حلولهما مختلفة.
فالنظام الديموقراطي الحر يقوم على فلسفة فردية، هذه الفل تقتضي أن الإنسان حر حرية مطلقة وحقه في الملكية مطلق ما لم يقيده القانون، وهذه الفلسفة تقوم على فكرة العقد الاجتماعي ومؤداها أن الانسان كان في حالته الطبيعية الأولى state of nature حراً حرية كاملة مالكاً لكل شيء فلما عنت حاجته للاجتماع عقد عقداً اجتماعياً تنازل فيه عن بعض حرياته وحقوقه للاحتفاظ بسائرها، فإذا أرادوا إضافة قيود جديدة إلى هذا العقد فإنهم يلجئون إلى مجلس شعبي منتخب لإضافة هذه التعديلات، وهذا يقتضي أن إرادة الشعب هي المسيطرة على النظام وأن الشعب مصدر السلطات ولا قيود على هذه السلطة المطلقة من أي باب.
وأما النظام الاشتراكي فيقوم على فلسفة جماعية، وهي أن الإنسان يدين بوجوده وحقوقه للمجتمع ولم يكن في يوم من الأيام في الحالة الطبيعية التي يزعمها أصحاب المذهب السابق، وأن الاقتصاد هو المسيطر على الإنسان لأنه بالتحليل المادي للتاريخ يتبين أنه كان ثمة صراع دائم بين الطبقات وأنه يجدر هدم النظام الحالي لأنه صنيعة الرأسمالية، وإقامة نظام جديد يقوم على إلغاء الملكية الخاصة الإنتاجية وإلغاء الأسرة، والأديان، وإقامة عدالة اجتماعية على أسس مادية.
أما النظام الإسلامي فيقوم على التوحيد، فعقيدة التوحيد ليست إيماناً في القلب فقط ولا قولاً باللسان فحسب بل هي بالعمل على مقتضى هذا التوحيد بتنفيذ ما أمر الله به ومنع ما نهى الله عنه وتقتضي هذه العقيدة أن الله سبحانه وتعالى هو الذي كتب القضاء والقدر وهو يسيره حسب مشيئته.
ومن المستحيل على المسلم أن يجمع بين هذه العقائد الثلاثة في وقت واحد، وبالتالي يستحيل أن يصير مسلماً
يمينياً أو يسارياً أو وسطاً.
فإنه طبقاً للمذهب الديموقراطي الحر أو الليبرالي (الرأسمالي) – وهو اليميني في المصطلح الحديث – يكون الإنسان هو صانع التاريخ وإرادته الحرة هي المسيطرة عليه وله أن يفرض من النظم ويسن من الشرائع ما يشاء.
وطبقاً للمذهب الاشتراكي – وهو اليساري في مصطلحهم – يكون الاقتصاد هو صانع التاريخ والمسيطر عليه ويجب أن تسن التشريعات بحيث تمنع الاستغلال والصراع الطبقي.
وطبقاً لعقيدتنا الإسلامية يكون الله وحده لا شريك له هو صانع التاريخ والمهيمن عليه والمسيطر على حوادثه ويجب أن تقوم النظم وفقاً للأحكام الالهية.
ومن المستحيل أن يعتقد المسلم أن لله شريكاً في أمور الكون فإن ذلك يكون اشراكاً كما هو ظاهر.
ومن هنا كانت خطورة انسياق المسلم – بحسن نية – إلى الباس عقيدته الخاصة في الله وحده لا شريك له، بغيرها من العقائد التي تجعل لله شريكاً من إرادة الإنسان أو من هيمنة الاقتصاد.
ويترتب على ذلك أنه في النظام الديموقراطي الحر يرى الناس أنه يجوز اصدار أي قانون لأي غرض، حتى لقد صدرت – في بعض البلاد – قوانين بإباحة الشذوذ الجنسي وبزواج الرجل من أخته، وأنه في النظام الاشتراكي يجوز اتخاذ أي اجراء لمنع الاستغلال والصراع الطبقي مهما كان عنيفاً ومهما كان فيه من معاني لإهدار الحريات والحقوق وكرامة الإنسان، وبذلك فإن المسلم «اليميني» لا يستنكر أي اجراء أتخذ للحماية من الاستغلال والصراع الطبقي ويغفلان تماماً عن أحكام الشرع في ذلك.
ومن المؤكد أن التطبيقات تختلف تماماً من نظام لآخر تبعاً للعقيدة الموحية بالنظام.
فإذا نظرنا إلى الزنا مثلاً، لوجدنا أن النظام الليبرالي الحر لا يرفضه إلا في الحدود التي يمنعها القانون صراحة، لأنه يرى أن الإنسان حر حرية مطلقة في كل أموره فمن حقه أن يزني كما يشاء، ولكن إذا نص القانون صراحة – كما في حالة الاكراه والزنا بقاصر والمتزوجة التي تزني بغير إذن زوجها ومن تفعله علناً – فإنه في هذه الحدود فقط تتقيد حرية الإنسان في هذا الأمر المباح في الأصل، وأما النظام الاشتراكي فهو – في الأصل – لا يحرم الزنا لأنه يرحب بالإنجاب لحاجة العمل والجيش ويرى أن الأسرة من عوامل الطبيعة لأنها تشجع على التراكم للتوريث وتؤدى إلى التباهي بالأصول، وهي إذا لم تصرح بذلك فإنما هو لاحترام غرائز الناس وخوفاً من نفورهم، وأما النظام الإسلامي فهو يمنع الزنا وما يؤدي إليه بالنص، لقوله تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا) والأخذ بعقيدة التوحيد تقتضى الرضوخ للنصوص كما هي، وهذا من شأنه أن يؤثر في كثير جداً من قضايا المرأة والشباب والأمور الاجتماعية بحيث نجدها مختلفة تماماً في كل نظام من النظم تبعاً للحتمية التي تتبعها.
وإذا نظرنا إلى الملكية الخاصة فإننا نجدها في النظام الليبرالي حقاً مطلقاً فيما لم يقيده القانون، وهي تعتبر هذا الحق أقدس الحقوق وأساسها، أما النظام الاشتراكي فهو يراها العامل الأساسي للاستغلال والطبقية وهو يجربها لأنه يرى أنها حصيلة تراكم فائض قيمة العمل ولذلك فهو يسوغ إلغاءها ووضعها في يد جماعية كالدولة وفروعها، وأما الاسلام فهو يراها وظيفة اجتماعية موجهة للمصالح الشرعية لأنه يرى أن إقامة هذه المصالح هو فرض كفاية ويرى أن الله سبحانه وتعالى عهد بها للناس وقال الله تعالي: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) ولذلك فإن نظرة هذه النظم الثلاثة إلى الملكية تختلف تمام الاختلاف، ولما كانت الملكية هي أساس النظم الاقتصادية والاجتماعية والقانونية والسياسية ولذلك فإن هذه النظم تختلف تمام الاختلاف في سياستها وأصولها ومن المستحيل أن يكون أحد المسلمين يمينياً ينظر إلى الملكية الخاصة على أنها حق مطلق والآخر يسارياً ينظر اليها على أنها جريمة، والثالث يراها وظيفة اجتماعية موجهة، ولا يمكن القول بأن هؤلاء الثلاثة – مع هذا الخلاف الجذري الأساسي يجمعهم نظام واحد، بل أن كلاً منهم ينتمي إلى نظام مختلف ومستقل عن الآخر يعالج جميع الشئون الاقتصادية والاجتماعية والقانونية والسياسية علاجاً مختلفاً تمام الاختلاف من جميع النواحي.
خطورة الأمر:
والخلاصة أن القول بالمسلم اليميني والمسلم اليساري يؤدي إلى تقسيم المسلمين إلى فرق، وإلى فتنة عارمة في العقيدة وإلى خلافات جوهرية في التطبيق تهدد أصول الإسلام.
ولو أتيح للعلماء كتابة علم العقائد من جديد لوجب عليهم أن يضمنوه دراسة فرق المسلمين اليمينيين وفرق المسلمين اليساريين والرد على مزاعمهم وشبهاتهم، بدلاً من التزام عرض فرق الشيعة والخوارج والمعتزلة وسائر الفرق التي أصبحت في ذمة التاريخ ولم يعد لها خطر.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم