السؤال الأول: متى بدأت المرحلة الحالية في الفكر الإسلامي المعاصر، وما العوامل التي أدت إليها؟
الدكتورة نادية مصطفي : في الواقع أنا سأتعامل مع قضية الفكر الإسلامي انطلاقًا من تخصصي كأستاذة علاقات دولية ، فأنا لست مفكرة إسلامية ، ولكن تعاملت مع هذا المجال الهام بمقتضى اهتمامي بالعلاقات الدولية في الإسلام ، وربما نظرتي إلى كل هذه الأسئلة ، واقترابي منها سيتأثر بذلك .
فكلمة المعاصر تعنى في العلاقات الدولية : ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن أريد أن أنظر إلى الفكر الإسلامي المعاصر في تكامله واندماجه كحلقة من حلقات سابقة، ولا أريد أن أنظر إلى التحقيب أو التقسيم الزمنى إلى مراحل على أنها مراحل منفصلة ، ولكن سأنظر إلى الفكر الإسلامي المعاصر باعتباره حلقة فرعية مرتبطة ، وتمثل استمرارية ما، وإن كانت تحمل بعض جوانب التغيير عن الحلقات السابقة في هذا الفكر، فالفكر الإسلامي المعاصر هو حلقة فرعية من مرحلة كبير.
وبعبارة أخرى : إذا أردت أن أقسم الفكر الإسلامي فأستطيع أن أقول : إنه يمكن أن نميز في تاريخ الفكر الإسلامي بين مرحلتين كبيرتين : المرحلة الأولى تتمثل في القرون السبع الأولى ، وهي مرحلة البناء والتطوير في الفكر الإسلامي في جوانبه المختلفة وفي ظل ذاتية وقوة إسلامية حضارية وسياسية واجتماعية انعكست على شكل العلاقة مع الآخر ؛ فكان هناك دائما ذاتية في الفكر الإسلامي في هذه القرون السبعة ، دون إنكار أنه تأثر بتيارات أخرى فكرية ، ولكنه كان تأثرًا إيجابيًّا بالاستيعاب والهضم وإفراز الجديد.
المرحلة الثانية : تشمل القرون السبع التالية، وهي تحمل خصائص مختلفة من حيث القوة الذاتية الإسلامية والحضارية، ومن حيث طبيعة وَحْدة الأمة ، فقد ظهرت تعددية سياسية تدريجية ، وهكذا بدأت تدريجيا تظهر في الأمة علامات مختلفة ، تبين لدارس التاريخ الإسلامي أن عامل التأثير الخارجي أصبح أكثر وضوحًا ، وأضحى وزنه في تزايد مستمر ، حتى أضحى هو الغالب على كل شيء سواء في مجال السياسة ، أو في مجال الفكر، بحيث باتت إشكالية العلاقة بين الداخلي والخارجي مختلفة ، واختلفت تدريجيًّا خلال القرون السبعة حتى وصلنا إلى المرحلة الحديثة ، وهي مرحلة القرنين الأخيرين من نهاية القرن الثامن عشر ، ومرورًا بالقرن التاسع عشر ، فإذا أطل القرن العشرون وجدنا مرحلة اكتمال وبزوغ قمة التأثير الخارجي على الأمة الإسلامية فكرًا ، ونظمًا ، وحركة.
ولهذا فإذا نظرت إلى المرحلة الحالية أو المعاصرة من الفكر الإسلامي ، وفي شقه الذى يهمني وفق تخصصي ، ففي بعده السياسي الدولي لا أستطيع على الإطلاق أن أنظر إليه متجزئا أو منفصلاً عن مرحلة تطور كبيرة سابقة خلال القرنين الماضيين التاسع عشر والعشرين ، حيث تردد فيهما زخم التأثير الخارجي على الداخلي ، وانعكس هذا على القضايا التي تدرس في الفكر الإسلامي، وطريقة دراسة هذه القضايا ومنهاجيتها، ومن ثم إمكانية تصنيفها.
كل هذا يمكن أن ألخصه في عدة عبارات: أن الفكر الإسلامي كأنه جسد حرّ ممتد متواصل متكامل ، يشهد منحنيات ، ومنخفضات ، ومرتفعات ، ترتبط بطبيعة الجسد الإسلامي الحضاري، والسياسي ، الاجتماعي ، والاقتصادي ، قوة أو ضعفًا ، ذاتية أو في علاقة مع الآخر وهكذا .
ولهذا فإني أقول : إن المرحلة المعاصرة من الفكر الإسلامي هي المرحلة التي تشهد قمة تحديات الخارجي للداخلي ، والتي هي محصلة تراكمية متتالية لعملية ممتدة منذ قرنين ، وبدأت جذورها قبل هذا بقرنين آخرين.
فمن الممكن اعتبار أن التيار المعاصر يبدأ مع الحرب العالمية الثانية ، وربما أيضا مع الحرب العالمية الأولى لما لها من دلالات بالنسبة للتحديات والمشاكل التي واجهت المسلمين كجزء من العالم، سواء في نطاق دولهم التي قسموا إليها، أو فيما يتصل بعلاقتها بينها وبين بعض، أو في علاقتهم بالعالم.
السؤال الثاني: ما أهم تيارات الفكر الإسلامي المعاصر خلال القرن العشرين ؟ وما أهم عناصر كل تيار من تلك التيارات؟
الدكتورة نادية مصطفي : استكمالاً لما قلناه من الواضح أن المعاصر سيمتد إلى القرن العشرين بأكمله وليس فقط إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، فإذا أردت أن أجيب عن هذا السؤال ، فلا بد من تحديد معنى كلمة تيارات ، ومعنى كلمة الفكر الإسلامي، ففي مراحل سابقة من تاريخ أمتنا ، ومن تاريخ فكرها كان علماء الأمة شاملين، بمعنى أن البناء الفكري لعلماء الأمة حتى ما قبل قرنين كان شاملا ، فترى العالم منهم يكتب في الفقه ، ويكتب في الأصول ، ويكتب في التاريخ … ، وله موقف ورأى في كثير من القضايا ، وهذه هي طبيعة الظاهرة الاجتماعية في الرؤية الإسلامية أنها شاملة ومتكاملة ليس هناك فصلا بين السياسي والاقتصادي الاجتماعي ، وليس هناك فصلا بين الداخلي والخارجي ، وليس هناك فصلا بين الفكري والحدثي المتصل بالواقع ، وليس هناك فصلا بين المادي وغير المادي .
ومن ثَمَّ كانت منظومات أفكار العلماء متكاملة ، وهو أمر أخذ يضعف، وينتهي تدريجيًّا ، مع شدة تقسيمات التخصص.
ولذا حين أتكلم عن الفكر الإسلامي المعاصر ، سواء في امتداده بالقرن العشرين ، أو فيما يتصل بالنصف الثاني من القرن التاسع عشر ، فهناك رموز من الممكن تتبع أعمالها ، وتتبع إنجازاتها ، ويستقى منها ما هي تيارات الفكر المعاصر وما هي قضاياه؟
وهنا أجدني أمام خريطة واسعة من الأسماء ، والعلماء ، والمفكرين الذين يدلون بدلوهم دائمًا فيما يتصل بقضايا الأمة ، ويمثلون الفكر الإسلامي المعاصر.
وأمام هذه الخريطة لاحظت عدة ملاحظات :
1- أن معنى العلم الذى كان موجودًا من قبل في تاريخ الفكر الإسلامي لم يعد موجودًا خلال القرن العشرين ، خصوصًا خلال النصف الثاني من القرن العشرين ، إذ هناك بعض الأسماء قد ظهرت في بدايات القرن الأول ، هؤلاء العلماء والمفكرون ينتمون إلى تخصصات مختلفة فسنجد هذا له خلفية قانونية ، وآخر له خلفية أصولية مؤرخة ، وآخر له خلفية اجتماعية سياسية اقتصادية ، وآخر له خلفية فلسفية .
جميع هؤلاء مشاركون فيما نسميه الفكر الإسلامي ، فهناك مثلاً حسن البنا، سيد قطب، المودودي، الندوي، البشري، خاتمي، شريعتي ، الخميني، نور شفيق، محمد الغزالي، الشعراوي، العوا، عمارة، هويدي، أبو المجد، السردار، كريم صديق، أبو سليمان، العلواني ، الشيخ ياسين زعيم حركة حماس، رضوان السيد، مأمون أبو الفضل، حامد ربيع، عبد الهادي التازي، عزت بيجوفيتش، مهدى شمس الدين، القرضاوي، جمال عطية، محمد البهي، حسن الحنفي، المسيري، الدجاني، الترابي، إقبال أحمد، الفاروقي، عبد الحليم محمود، هؤلاء جميعًا رموز وعلماء، وربما أغفلت كثير غيرهم ، ومعظم هؤلاء من العرب، والدائرة غير العربية أوسع من هذا بكثير .
هؤلاء جميعًا يقدمون ما يمكن أن نسميه الفكر الإسلامي المعاصر، وهذا يقودنى مباشرة إلى سؤالك كيف يمكن من خلال متابعة هؤلاء جميعًا أن نميز بين تيارات ، وبين قضايا موضع اهتمام، وهذا يحتاج لمتابعة منظمة لهذه الأعمال حتى نستطيع أن نميز ما فيها من تيارات، وهناك الدراسات من مثل هذا النوع أجريت حول فكر القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، وكثير من الكتابات تحت اسم الإصلاح والتجديد والاجتهاد قامت بعملية التصنيف إلى تيارات فكرية ، ولكن هذه الدراسات ذات معايير مختلفة ، ومن ثم لا بد من تحديد المعيار الذى سأستند إليه في تحديد التيارات : هل التيار حول قضية معينة ، أم تصنيف كامل لمجموعة من القضايا ؟
هنا أستطيع أن أقول : إن أكثر التصنيفات شيوعًا يمكن تلخيصها في الآتي : فهناك الإصلاحيون ، والتيار الفكري الإصلاحي قد يكون في المجال الديني ، وقد يكون في المجال المجتمعي السياسي ، وقد يكون في المجال المتصل بمكونات الأمة ، أو قد يكون متصل بالأمة وعلاقتها بالآخر.
فماذا أقصد بالتيار : التيار يعنى تقييمًا لموقف من قضايا متنوعة ومتعددة يثور حولها الفكر الإسلامي ؛ ولهذا لا أستطيع أن أقول : إن هناك فصل بين التيارات والقضايا والمجالات ، ولكن هناك مدارس تختلف مسمياتها وتصنيفاتها ، فمثلا التصنيفات الغربية تقسم التيارات الإسلامية إلى فكر إسلامي تقليدي محافظ، وفكر إسلامي تحديثي، وفكر إسلامي راديكالى ، والمعيار هنا في تصنيف هذه التيارات هو: الموقف من الغرب ، ودرجة التأثر بالغرب ، ومحاكمة الإسلام على ضوء إنجاز الغرب ، فكرًا ، وعملاً ، وواقعًا .
هناك تقسيم آخر يقتصر على الفكر المسلم بصفة عامة ، سواء أكان فكرًا تقليديًّا ، أو فكر تحديثيًّا ، ويجعل هذا التيار مكافئًا للعلماني ، ثم يصنف التقليدي إلى معتدل أو راديكالي.
أيضا المعايير هنا هي الاحتكام إلى الغرب.
هناك تقسيمات أتت من الداخل صدرت من المسلمين المهتمين بقراءة الفكر الإسلامي المعاصر أو الحديث ، وأنا أتكلم عن القرنين التاسع عشر ، والعشرين ، فسنجد الفكر السلفي ، وفكر الإصلاح الديني ، وفكر الإصلاح المجتمعي السياسي ، وتأتى هنا بداية التمييز بين ما هو إصلاح ديني ، وتجديد ديني ، وبين ما هو إصلاح مجتمعي وسياسي ، كما لو أن الأمرين مختلفين ، وهذا لا ينبغي أن يكون.
هناك تقسيم آخر وفق معيار الاقتراب أو البعد عن الإسلام ، وهو قائم على فكرة الإصلاح ، على أساس أن الفكر الإسلامي المعاصر هدفه إصلاح حال الأمة من الداخل ، سواء على المستوى الديني ، أو الاجتماعي ، أو السياسي ، وإصلاح علاقتها مع الآخرين ، فصفة الإصلاحي التجديدي النهضوي مشتركة ين الفكر الإسلامي الأصيل ، وبين الفكر المنحرف أو الزائف.
فهذا تقسيم يقدمه مفكرون مسلمون، معياره مدى مواءمة ما يدخل في فكره من تجديد للثوابت الإسلامية التي يجب الحفاظ عليها ، ولا ينبغي أن تهتز في غمار عملية التجديد .
هذه أنواع من التصنيفات ، وهناك تصنيفات أخرى تراعى المحتوى ، فتقسم إلى مدارس ، وإلى مجالات .
فكأننا عند التصنيف نطرح بعض أسئلة ، في ضوئها تتم عملية التصنيف ، وأول سؤال ما هو مدى قرب أو بعد هذا النمط من الأفكار من الإسلام ، السؤال الثاني : ما هو المجال الذى تهتم به هذه الأفكار … ، وهكذا .
فعندما نقول : (الفكر الإسلامي# فهناك فكر إسلامي فيما يتصل بمجال السلوك الديني للأفراد ، كما نجد فكرًا إسلاميًّا مهتمًا بالأمور المتصلة بتنظيم المجتمع ، وآخر مهتم بالأمور المتصلة بتنظيم السلطة ، وآخر مهتم بالأمور المتصلة بالأخذ عن الغرب فكرًا وعملاً ، أو بالعلاقات بين الشعوب الإسلامية ، والعلاقات بين الدول الإسلامية.
فعند عملية التصنيف لا بد من مراعاة كل هذا ، فيجب أن يكون هناك تحديد لمجالات الفكر الإسلامي المعاصر ، والذى يمتد إلى مجالات مختلفة ، كما أن رموز هذا الفكر منهم من يتناول بعضها، أو كلها ، أو بعموميات ، أو بالتركيز على بعض الأجزاء.
إذا اقتربنا مثلاً من مجال الفكر المجتمعي السياسي الداخلي ، فسنجد هناك ما يتصل بالعلاقة بين مكونات الأمة على مستوى الشعب الواحد ، وهناك ما يتصل بالعلاقة بين الشعوب الإسلامية المختلفة ، وهناك ما يتصل بالعلاقة بين الأمة والآخر ، فلدينا ثلاث مستويات تمثل موضع الاهتمام ، وتتنوع الموضوعات تحتها كالكلام عن التجديد فيما يتصل بالداخل، أو عن الوحدة ، أو الجهاد ، أو الاستقلال ، ومن خلال هذه التفريعات تبرز لنا القضايا الثابتة أو شبه الثابتة من خلال القرن الماضي ، واتصالا مع ما قبله .
هناك مجال جَدَّ على ساحة الفكر الإسلامي له أهميته ، وموضعه في الفكر الإسلامي وهو مجال التحدي الخارجي ، وقد وصل من أهميته أن قام بتغليف المجالات الثلاثة السابق الإشارة إليها ، ففي القرون السابقة عندما كان الاهتمام بالداخل ، كان الاهتمام بالعلاقة بين مكونات الأمة ، والعلاقة مع الخارجي ولكن من ذاتية قوية من الداخل ، ومن إبداع ذاتي من الداخل نحو الخارج ، ولكن في العقود الأخيرة هذه المجالات الثلاثة غلفها دائمًا التحدي الخارجي الذى تزايد بالتدريج خلال القرنين الأخيرين ، حتى وصل إلى أقصاه مع ضعف الداخل ، فعندما نتكلم عن المجال الداخلي فإنه لا ينفصل إطلاقا عن الخارجي، نجد ذلك مثلا عند تناول نظم التعليم ، ونظم القوانين ، والنظام السياسي ، وحقوق الإنسان ، وحقوق المرأة، والعدالة الاجتماعية ، فمثل هذه القضايا لم تعد تدار ، ولا يفكر فيها بعيدًا عن تأثير الخارجي واختراقه .
من قبل كان هناك تأثيرًا وتأثرًا بين المسلمين وغيرهم ، ثم أضحى هناك تأثيرا من الخارج على المسلمين ، وانقطاع تأثير المسلمين على الآخرين ، ثم أضحى هناك تدخل في شئون المسلمين من الخارج ، ثم أضحى هناك تهديد من هذا الخارجي من خلال هذا التدخل ، ثم أضحى هناك اختراق من الخارجي للداخلي لهذه المجالات ، ونحن الآن نعايش مرحلة خطر الاكتساح ، وخطر الذوبان ، فهذا الإطار الكلى المتمثل في طبيعة التحديات التي نعيشها في الواقع ينعكس على مجالات الفكر الإسلامي ، ومن ثم تختلف مدارسه من حيث التعامل مع هذه المجالات ، فالتقليدي السلفي مثلا – لو سايرنا التقسيم الغربي – ينظر إلى الأمور في الداخل كما لو أن ليس هناك خارجا ، أما الإسلامي التحديثي فيأخذ في اعتباره هذا الخارج، فتختلف المواقف اتجاه الآخر، سواء أكان قبولاً ورغبة في التقليد مع الحفاظ على الهوية ، أو رفضا عنيفًا لهذا كما جاء في مرحلة أوائل النصف الثاني من القرن العشرين ، أو محاولة لإعادة اكتشاف علاقات جديدة كما يجرى الآن في ظل ما يسمى بحوار الحضارات، وحوار الثقافات ، وثقافة السلام ، وثقافة التسامح … ، فما سبق هو تعبير عن تيارات بالمعنى الذى طرحه السؤال.
فهناك -من وجهة نظري على الأقل كمتخصصة علاقات دولية – مدارس تتعامل مع مجالات أساسية ، يتبلور حولها الفكر الإسلامي ، ويتفرع عنها مجموعة من القضايا التي تختلف في كل مرحلة عن المرحلة الأخرى نظرا لطبيعتها، فإذا كنا سابقًا في مرحلة مقاومة الاستعمار ، أو في مرحلة مقاومة الاحتلال العسكري ، فأضحت الآن مقاومة العولمة. إذا كانت هناك مرحلة سابقة تمثل محاولة تحقيق تنمية مستقلة ، والحفاظ على الموارد البشرية والمادية التي لدى المسلمين بعد الاستقلال ، وإجراء تجارب تنموية ذاتية، أضحى الآن المطروح الاندماج في النظام الاقتصادي العالمي فهل هذا ممكن، وهل هو مطلوب أم مرذول؟ .
هنا الفكر الإسلامي يجب أن يتعامل مع حقوق ، ومن قبل كان الحديث عن الحقوق السياسية للمسلمين ، والاستقلال عن المستعمر ، الآن أضحى الحديث عن حقوق الإنسان .
من قبل كان الحديث عن تجزئة المسلمين ، بمعنى معين أنه لم يعد هناك خلافة واحدة ، فهناك عدة دول إسلامية كبرى: الدولة العثمانية ، الدولة المغولية ، الدولة المملوكية ، وأضحى الحديث عن التجزئة بمعنى آخر ، حيث التجزئة إلى دول قومية .
فمن الواضح الآن تزايد تأثير صدمة الاحتكاك مع الغرب من منطلق الضعف، على عكس ما كان موجودًا من قبل من منطلق القوة ، وما تفرع عن هذا قضايا تختلف أسمائها من مرحلة إلى أخرى ، لكن هي في جوهرها تعكس المجالات الثلاثة السابقة .
ولا أستطيع -وفق هذا- أن أتكلم عن تيار في الفكر الإسلامي على ضوء هذا التقسيم ، وإنما ينبغي أن يكون الكلام عن أحد المجالات الثلاثة .
وبناء عليه فللإجابة عن : ما هي التيارات الأساسية التي أفرزها القرن العشرين ينبغي أن أحدد المجال أولاً ، ثم أرصد اختلاف المدارس والتصنيفات ، فمثلاً في مجال العلاقة مع الآخر ، وخاصة قضية الأخذ عن الغرب والنقل عنه ، سنجد ما يسمى بالتيار التوفيقي ، ورمزه الذى يمثله هو الشيخ محمد عبده، وهناك بعض الاختلاف عليه ، فيراه بعضهم مصلحًا ومجددًا في الداخل ، ودعوته متصلة بالتربية ، وبتفسير القرآن، ويراه بعضهم مناديًا بأولوية الإصلاح الداخلي قبل محاربة الاستعمار، فهو في نظرهم مناوئ للاستعمار ، بينما يعتبره آخرون منبهرا بالغرب ، ومن هنا تأتى المشكلة : كيف أضع الشيخ محمد عبده في تيار ، أو في تصنيف معين، حيث إن هناك عدة تصنيفات تتناوله حسب التقسيمات أو المدارس ومعاييرها ، أو حسب المجالات. فهذا مثال لمجال العلاقة مع الآخر .
إذا تكلمنا في قضية العلاقة بين المسلمين ، فتأتى قضية وحدة الأمة ، ولا شك أننا سنستدعى في الحال جمال الدين الأفغاني على أساس جهوده الكبيرة في سبيل إحياء فكرة وحدة الأمة.
نخلص مما سبق إلى أنني لا أستطيع أن أقول : تيارات الفكر الإسلامي هكذا على وجه العموم ، بل الصواب أن أقول: تيارات الفكر الإسلامي حول قضية الوحدة، تيارات الفكر الإسلامي حول قضية العلاقة مع الآخر، تيارات الفكر الإسلامي حول قضية التجديد الديني، تيارات الفكر الإسلامي حول قضايا الإصلاح الداخلي ، حول علاقة السلطة، علاقة الحاكم بالمحكوم ، فهنا أستطيع أن أميز بين تيارات للفكر الإسلامي وفق المجالات الأساسية ، وفي داخل كل من هذه التيارات أستطيع أن أصنف ما بين اتجاهات السلفية – اتجاهات تحديثية – اتجاهات راديكالية.
وهنا نصل إلى العلاقة بين الفكر والحركة على أساس أن الحركيين هم الأكثر راديكالية وهكذا…
السؤال الثالث: ما هي القضايا الأساسية التي طرحتها التيارات الفكرية المعاصرة؟
الدكتورة نادية مصطفي : إذا استرجعت ما بدأت به بالنسبة لمجال الداخلي ، سنجد العديد من القضايا التي طرحت بالنسبة للداخلي ، ككيفية تنظيم الدول الإسلامية بعد الاستقلال ، وبعد سقوط الخلافة . وكقضية الحفاظ على الثوابت الإسلامية، والحفاظ على الهوية، والحفاظ على العقيدة ، وكيفية تنظيم المجتمع سلوكياته وعاداته وتقاليده في ظل صدمة الاحتكاك بالغرب .
نستطيع أن نقول : إن هذه القضايا ما زالت مستمرة حتى الآن ، ولكن كما قلت من قبل تأخذ – وبالتدريج – أبعادًا متغيرة مع تغير الواقع ، فنجد مثلاً أن قضية المرأة وحقوقها ووضعها في المجتمع تكتسب أبعادًا كبيرة جدًا. ونجد أيضا قضايا الأقليات القومية والدينية في الدول الإسلامية ، ولا أقول الدينية فقط وهو غير المسلم ، ولكن أيضًا غير العربي المسلم ، وغير التركي المسلم ، وغير الإيراني أو الفارسي المسلم، فقضايا الأقليات القومية والدينية في الدول الإسلامية كانت موجودة دائمًا ، ولكن اكتسبت بالتدريج أبعادًا أخرى .
ومثلاً قضية طبيعة التنظيم السياسي قريبا أو بعيدًا عن الديمقراطية ، أو عن الشورى ، فمعظم النظم في الدول الإسلامية بعيدة عن حقيقة الشورى ، وأيضا عن حقيقة النظم الديمقراطية الغربية ، والآن هذه القضية تتفجر بعمق كبير جدًا في داخل الدول الإسلامية ، وعلى مستوى العالم نظرًا لأن الغرب يحمل لواء قضية التحول الديمقراطي.
أيضا قضية المجتمع المدني ، ودور القوى الإسلامية الفكرية والحركية على صعيده إلى جانب القوى الأخرى غير الإسلامية ، هذه قضية مطروحة .
وقضية حقوق الإنسان بين الخصوصية والعالمية ، وكيف تحفظ حقوق الإنسان في الدول الإسلامية ، وفي نفس الوقت كيف نمنعها أن تكون مادة ومجال للتداخلات الخارجية.
قضية الثقافة الإسلامية الواعية بحقيقة ذاتها ، وبدواعي الانفتاح على الآخر ، وانعكاس هذا على أنماط التفكير والسلوك ، والحاجة إلى مراجعة هذه الأمور في الداخل الإسلامي .
وهذه القضايا وإن عبرت عنها روح الواقع الراهن فإنه في الحقيقة كانت موجودة دائمًا طوال القرنين الماضيين ، ولكنها كانت تكتسب أسماء مختلفة ، على حسب طبيعة كل مرحلة ، وأعتقد أنها وصلت إلى مرحلة خطيرة جدًا بالنسبة لقضايا المجال الخارجي ، فقد كان الحديث في بداية القرن عن الاستعمار ، وعن كيفية الاستقلال ، ثم تلت مرحلة الحديث عن كيف يمكن للمسلمين أن يأخذوا موقفًا بين نموذجين كبيرين في العالم الشيوعي والرأسمالي ، والآن تطرح قضايا جديدة، ونجد تدخلات خارجية باسم الاعتبارات الإنسانية ، كشكل جديد من أشكال السيطرة .
كما نجد أن قضايا الأقليات المسلمة في العالم تتفجر الآن بقوة شديدة ، فمثلاً ما موقف الفكر الإسلامي من استقلال تيمور الشرقية عن إندونيسيا ، هل نرفضه بحجة أن هذا تفكيك لدولة إسلامية ، ونطالب مثلاً باستقلال كوسوفو عن الصرب، ثم نتشكك من مطالب الأكراد بالانفصال عن تركيا أو العراق وهم مسلمون، على أساس أن المبدأ الإسلامي هو أنه لا فارق بين القوميات ، والتاريخ الإسلامي يشهد دولاً إسلامية كبرى ضمت قوميات مختلفة ، لكن في نفس الوقت لدينا واقع مرير هو الاضطهاد الذى يلقاه الأكراد في تركيا بصفة خاصة ، بسبب قوميتهم دون اعتبار للدين .
ومن ذلك أيضًا قضية الشيشان هل نوافق على انفصالها ، أو عدم انفصالها .
هذه إشكاليات متصلة بقضايا القوميات المسلمة والقومية في العالم ، فما هو موقف الأقليات المسلمة في العالم بين الاندماج والانفصال ؟
ومن جهة أخرى هل نطالب الأقلية المسلمة في الولايات المتحدة الأمريكية بأن يندمجوا في هذا المجتمع فيصبحوا مواطنين حقيقيين قادرين على التأثير على سياسة هذه الدولة ، وكيف يمكن الجمع بين هذا وبين قضية الحفاظ على هويتهم. فهذه قضية متصلة بالمسلمين والآخر.
من القضايا : قضية الحوار الثقافي الحضاري التي تشيع الآن ، والتي تحاول أن تعطى شكلاً مختلفًا في العلاقة مع الآخر.
أيضًا هناك قضية المعاصرة ، وقضية التسامح ، وثقافة السلام مع الآخر .
هذه مسميات وأطر لقضايا كانت موجودة من قبل ، ولكن تكتسب واقعًا مختلفًا ؛ ولهذا فقد أشرت إلى أن هناك استمرارية ، وهناك تكامل وتراكم وتواصل ، لا بد أن أعى ذلك حين أحاول أن أدرس الفكر الإسلامي في مرحلة معينة.
ومن القضايا المهمة أيضًا : قضية وحدة الأمة ، وهي قضية أزلية في الفكر الإسلامي تم التعامل معها باجتهادات فقهية مختلفة ، هل لا بد من دولة خلافة ، أم يمكن قبول التعددية السياسية، أم نقبل الواقع التجزيئي في ظل روابط أخرى للأمة كالرابطة العقيدية ، والرابطة الثقافية ، والرابطة التاريخية …
الآن الأمر يأخذ أبعادًا مختلفة ؛ لأن هناك تهاوى للدولة القومية مرة أخري، واختراق لحدودها حتى في الدول الغربية ، وبدأ الكلام عن مجتمع مدنى عالمي ، فهل نستطيع أن نتكلم عن مجتمع مدنى إسلامي عالمي؟
هل في استطاعتنا تدعيم الروابط بين التجمعات ، والهياكل ، والتنظيمات الإسلامية عبر الحدود مما يساعد على إيجاد واقع إسلامي آخر يعيد إلى الذهن فكرة الأمة ، التي لم يكن لها حدود تعوق انتقال الناس أو الأفكار ؟
هذه جميعها قضايا تطرح الآن على الفكر الإسلامي فيما يتصل بالمجال الخارجي ، وفيما يتصل بالداخلي ، وفيما يتصل بالعلاقات بين مكونات الأمة ، فكل رموز الفكر الإسلامي المعاصر تتعرض لذلك كله بطريقة أو بأخرى .
السؤال الرابع: ما مفهوم الحركة لديكم؟
الدكتورة نادية مصطفي : الحركة هي نقل أفكار ومبادئ لحيز التنفيذ .
وتأخذ الحركة أشكالاً مختلفة فهناك مستوى الخدمة الطوعية للمجتمع ، ومستوى النشاط الاقتصادي في المجتمع، ومستوى النشاط السياسي ، ومستوى العمل النقابي العام ، ومستوى تكوين الأحزاب ، وما يتبعها من نشاط حزبي، بل إن تكوين جماعة سياسية سرية ليس معترف بها وممارسة نشاط سياسي، أو تكوين حركة مسلحة ، كل هذا داخل في مفهوم الحركة ، بل حين أبادر بإلقاء مجموعة من المحاضرات المنظمة في موضوع ما للتوعية أو للتثقيف فهذا داخل أيضًا في مفهوم الحركة .
ولا يشترط في الحركة أن تأخذ الشكل التنظيمي ، وأن يكون لها قائد أو زعيم .
فأي تصرف يأخذ شكلاً تنفيذيًّا لنقل أفكار ومبادئ إلى واقع بغرض تغييره وبغرض إدارته والمشاركة فيه أيًّا كانت أدوات هذه الحركة وقنواتها ، واختلاف أطرها فجميعها يقع في إطار مفهوم (حركة) ، ولهذا فقد كان أستاذنا الدكتور حامد ربيع رحمه الله تعالى يقول : الخبرة الإسلامية في مجال: الفكر، والنظم ، والحركة .
فيميز بين هذه المستويات الثلاثة ، ولكن لا يفصل بينها ، فهي حلقات لا بد لحسن الفهم ولحسن الوعى أن نميز بينها.
وما يعانى منه الواقع الإسلامي والمجتمعات الإسلامية الآن : أن دوائر الفكر الإسلامية التي تحاول أن تصنع مشروعا حضاريًّا إسلاميًّا معاصرًا هي بعيدة عن التأثير الفاعل في مجال الحركة لاعتبارات عديدة، فهناك الفجوة بين الفكر وبين الحركة ، ولهذا يقال إن بعض الحركات ليس لها فكر.
السؤال الخامس: هل للحركات الإسلامية المعاصرة جذور فكرية انطلقت منها ، أم نشأت بصورة حركية صرفة وهل ولدت الحركة فكرًا ؟
الدكتورة نادية مصطفي : في الحقيقة لا أعرف ما المقصود بالحركات الإسلامية المعاصرة ، هل المقصود بها الجماعات الإسلامية ؟
الحركات الإسلامية المعاصرة – في مفهومي- متنوعة ، فهناك حركة على الصعيد الاجتماعي ، وهناك حركة على الصعيد الاقتصادي ، وهناك حركة على الصعيد التربوي ، وهناك حركة على الصعيد السياسي ، فليس هناك حركة في تصوري دون فكر ، سواء أقومنا هذا الفكر على أنه فكر أصيل ومنضبط، أو على أنه فكر مزيف وسطحي ، أو منحرف .
لكن ما من حركة تبدأ هكذا دون فكرة تنبني عليها ، ولكن هناك مستوى آخر، فإنه إذا كان لحركة ما أن تثبت فاعليتها وتنمو وتؤثر وتقوى فلابد أن تكون مستندة إلى فكر متماسك قوى يعطى لها ، وتعطى له .
لهذا فإن أحد الانتقادات الكبيرة التي كانت توجه من داخل الإسلاميين لما يسمى الحركة الإسلامية المعاصرة بمعناها السياسي أنها تفتقد إلى رؤية فكرية واضحة ، أو مشروع حضاري إسلامي واضح المعالم تبنى عليه حركتها من أجل تنفيذه.
أما الشق الثاني من السؤال : هل ولدت الحركة فكرًا ؟
فالحركات كلها طورت فكرها ، فما من حركة ولدت من غير فكر ، وما من فكر ينمو ويتطور دون تجارب وخبرات للحركة.
السؤال السادس : إلى أي مدى تفاعل الفكر والفقه الإسلامي بالحالة الراهنة للعالم ، أو ما يكتنفها من تغيرات ؟
الدكتور نادية مصطفي : هذا السؤال ينطلق من التميز بين الفكر والفقه على أساس أن الفقه يقدم اجتهادات لأحكام حول الواقع المتغير. ولكن الفكر قد لا يكون فقها هدفه أن يخرج أحكاما ، لكن لا بد أن يكون منضبطا بقواعد وأطر الإسلام .
وأعتقد أن أحد آفات القرنين الماضيين تتجلى أقصى صورها في الفجوة الحاصلة بين العلوم الاجتماعية والعلوم الإسلامية والتي يقع الفقه الإسلامي في قلبها ، بحيث من هو متفقه في الواقع وقضاياه ومجالاته وحقيقته الراهنة ربما يكون منقطع الجذور عن الفقه والشريعة ، والعكس صحيح ، وتبقى قلة قليلة من علماء الأمة بالمعنى الحقيقي هم الذين أثروا حياة الأمة الإسلامية خلال القرن العشرين نظرًا لارتباطهم بالواقع وقضاياه ، ومحاولة تغييره في إطار منضبط شرعي ، وفي ظل اجتهاد معاصر .
وأرى أن الفكر الإسلامي يرصد ويشخص مشاكل الواقع المسلم ويفسره أحيانا ، ولكنه لا يستطيع أن يطرح بدائل فاعلة للتغيير ، فمثلاً نتحدث جميعًا عن وحدة الأمة ، وأنها هي الأساس، ولكن كيف تتبلور هذه الوحدة لصالح الأمة ككل؟ ، هل يتم التركيز أكثر على الجانب الثقافي ، أم العقدي ، أم القانوني؟ ، فالمستشار طارق البشرى مثلاً يقول : إن مفتاح التقريب بين المجتمعات الإسلامية أن يكون لها قوانين مشتركة موحدة.
وللأسف فما يتم طرحه من أفكار في ظل الأطر النظامية القائمة ليس هناك استعداد للأخذ به، في ظل الضغوط الدولية ، فهناك سقف خارجي ، وسقف داخلي يحدد إمكانيات التغيير ، فلم تعط فرصة حقيقية لنموذج أو مشروع إسلامي كي يطبق أو حتى يختبر ، وهذا من مظاهر شدة احتكام الأزمة وليس هذا قصورًا من مفكرينا ، بقدر ما هو بسبب احتكام الأزمة ، فمثلاً الحديث عن الربا والاقتصاد الإسلامي ، ومحاولة إيجاد مؤسسات للاقتصاد الإسلامي ومهما قلنا عن ذاتيتها وعن استقلاليتها فهي جزء من النظام الاقتصادي العالمي بكل تفريعاته ، فكيف السبيل إلى الاقتصاد الإسلامي الكامل .
نفس الشيء بالنسبة لتطبيق التشريعات ، أو القوانين المأخوذة من التشريع الإسلامي ، هناك سقف لا نستطيع اختراقه ، بل لا نستطيع أن نقترح أفكارًا لكيفية اختراقه.
السؤال السابع: إلى أى مدى تأثر الفكر الإسلامي المعاصر بالتيارات الفكرية العالمية؟
الدكتورة نادية مصطفي : ليس هناك فكرًا يعيش في انعزال سواء الفكر الإسلامي ، أو غيره. وتاريخ الفكر الإسلامي وعصور الازدهار كان قائمًا على التأثير والتأثر.
و لكن كيف يحدث التأثر، لا بد أن أكون في موضع قوة ووعى وذاتية فأنظر إلى الآخر ، وأختار مما لديه ، وهكذا تكون عملية التأثر عملية صحية، ففارق بين أن أكون في وضع أقل وأدنى ، فيكون التأثر مجرد نقل وتقليد.
إذا تكلمنا عن فكر المسلمين ، وليس الفكر الإسلامي ، فسنجد أن فكر المسلمين تأثر بالتيارات الفكرية العالمية ، كفكرة القومية ، وفكرة العلمانية ، وفكرة الحداثة .
أما بالنسبة للفكر الإسلامي فسنجده يتخذ موقف الاستجابة وردود الفعل ؛ لأن التيارات الفكرية العالمية والنظريات والعلوم في الغرب أقوى بحكم أنهم في مركز القوة العالمية الآن .
السؤال الثامن : هل بدأت بعض الأفكار الإسلامية تطرح على الصعيد العالمي؟ وما أهم مجالات الحوار التي دخلت فيها مع الفكر الآخر؟
الدكتورة نادية مصطفي : هناك مجالات كثيرة يدور فيها حوار الآن مع الفكر الآخر ، كقضية الديمقراطية ، ومقابلها الحوار عن الشورى ، وشكل التعددية في الداخل ومشاكلها ، وحقوق الإنسان ، وقضية المرأة ، وقضية الأقليات القومية .
والقضية الأهم : قضية القيم ، فالقيم هي التي تحكم التفكير والحركة في مجالات كثيرة. وهذا المجال أعتقد أن فيه إسهامًا حقيقيًّا قدمه الفكر الإسلامي. فالراصد لحركة تطور العلوم الاجتماعية والحديثة من الوضعية الإمبريقية ، والعلمانية المادية في بدايتها في عصر الاستنارة يلاحظ وجود ابتعاد وانعزال عن جانب القيم ، ولكن مع تطور هذه العلوم الاجتماعية نشهد الآن مرحلة هامة جدًا لإحياء الاهتمام بالقيم ، سواء على المستوى التنظيري المنهجي أو مستوى الواقع ، فالبعد القيمي في الدراسات الاجتماعية عاد يظهر من جديد .
والأفكار الإسلامية التي تطرح على الصعيد العالمي ليس بمبادرة إسلامية ، بل هو تطور في نطاق فكرهم ، مما أفسح لهم الاهتمام بفكر الآخر وإنتاجه ، وأفسح من داخلهم الاهتمام بالنظر في حضارات الآخرين ، وماذا تُقدم ، وانتقاد فكرة المركزية الأوربية ، والمركزية الغربية ، وهذا يدل على إننا ما زلنا في مجال رد الفعل .
فهناك مجال ومساحة هامة جدًا للمساهم في هذا المجال بطرح الرؤية الإسلامية ، والفكر الإسلامي ، ومعنى الحرية ، ومعنى العدالة ، ومعنى المساواة، ومعنى حقوق الإنسان ، ومعنى الشورى ، ومعنى حماية البيئة .
فإسهام الفكر الإسلامي والمنظور الإسلامي لبعض المفاهيم قائم وجارى ودائر ، وعلى صعيد العلوم الاجتماعية خلال العقود الثلاثة الأخيرة نجد اهتمام علماء الاجتماع بالظاهرة الإسلامية ، والإسلام ، واستمرار المسلمين ، وإحيائهم ، وصحوتهم ، وتحدياتهم مما يعنى أن لهم على الصعيد العالمي استمرارًا ووجودًا ، وفي ظل هذا المناخ يكون هناك دائمًا اهتمام الآخر بالأفكار الإسلامية وبالقيم الإسلامية ، وهنا تأتى ضرورة أن يكون هناك مبادرة بطرح واضح وعميق للفكر الإسلامي حول هذه القضايا، وهذا حاصل بالفعل في كثير من الملتقيات الرسمية وغير الرسمية ، الأكاديمية وغير الأكاديمية ، فنجد من محاورها : الإسلام والمسلمين – الإسلام وحقوق الإنسان – الإسلام والديمقراطية – الإسلام والتنمية – الإسلام والمرأة – الإسلام والبيئة … ، ويشارك العديد من المفكرين المسلمين بطرحهم لرؤية الإسلامية حول هذه الموضوعات ، ولكن الأمر يحتاج إلى تركيز أكبر ، وجهود أكبر من جانبنا ، وتوسيع الدائرة لمساحة أكبر من المشاركين في هذا ، حتى لا تظل قاصرة على بعض الرموز القادرين على الحوار مع الآخر.
السؤال التاسع : نلاحظ تشابهًا شديدًا في المشكلات ، والأطروحات المعروضة على الفكر الإسلامي في بداية القرن مع تلك المعروضة في نهايته ، ما مدى صدق هذه الملاحظة وما أسبابها؟
الدكتورة نادية مصطفي : الإجابة عن هذا السؤال تتضمنها إجابتي عن السؤالين الأوليين ، فمثلاً هناك دائمًا مجالات أساسية يتعامل معها الفكر الإسلامي ، ولكن تختلف طبيعة القضايا في كل مرحلة عن الأخرى ، لكن هناك تشابهًا شديدًا في المجالات .
فمن القضايا التي ما زالت قائمة : قضية الإصلاح الداخلي في المجتمعات الإسلامية، وقضية العلاقة بين مكونات الأمة ، وافتقاد الوحدة، وقضية العلاقة مع الآخر وكيف تدار.
ورغم تشابه القضايا فإن الوضع يختلف ، فبالنسبة لقضية الإصلاح الداخلي كان الاهتمام في بداية القرن بكيفية تحديث تنظيماتنا نقلا عن الغرب حتى نتقدم مثله ، وكثير من الإسلاميين كانوا يوافقون على هذا بشرط أن لا يمس الهوية . والآن نتكلم عن أن النقل عن الغرب تنظيمًا وخبرة لم يؤد إلى التحديث المأمول على النمط الغربي ، وأنه يجب أن نبحث عن شكل آخر ، وأيضا العلاقة مع الآخر تحولت إلى اختراق واكتساح ، وليس مجرد تأثير، أو تدخل للخارج .
فالمجالات الأساسية ما زالت قائمة ، ولكن التعبير عنها هو الذى يختلف ؛ ولهذا لا أستطيع أن أوافق على هذه المقولة على إطلاقها.
السؤال العاشر : ما أهم التحديات التي تواجه الفكر الإسلامي في مطلع القرن الحادي والعشرين؟
الدكتورة نادية مصطفي : أهم التحديات التي تواجه الفكر الإسلامي في مطلع القرن الحادي والعشرين هي تكييف وتنظير شكل العلاقة مع الآخر؛ لأن هذه كما قلت هي المجال الثالث الذى تفاقم تأثيره على المجالين الآخرين ، وليس هذا إنكارًا لأهمية الداخل، بل الداخل هو الأساس ، فإنه لولا ضعف هذا الداخل ، وبعده عن الاجتهاد والتجديد ، لما تمكن منه الخارج ، ولكن مع تزايد قدرات الآخر الخارجي تزداد تأثيراته على الداخل؛ فأهم التحديات التي تواجه الفكر الإسلامي هي تكييف وتنظير لكيفية إحداث التغيير في الداخل في ظل هذه التأثيرات الخارجية الطاحنة، كيف يمكن تحجيم هذا الاكتساح الخارجي الذى يعرقل كل محاولة لتغيير داخلي على أسس إسلامية ، كيف يمكن أن أحفظ الذاتية ، وأنميها دون انطلاق من الخارج ، فليس بمقدوري أن أنغلق ، وليس بمقدوري أن أنعزل فهذا أمر لم يعد قائما بمقتضى التطور في المجتمع العالمي ، من طرق الاتصال والمعلومات والمواصلات بما تحمله من تأثيرات على الفكر والأفكار والأشخاص … .
وهناك مستويان من التحديات : المستوى الأول : ما الذى يجب أن يتفاعل معه المفكرون المسلمون ، فهذه قضية كبرى نتج عنها قضايا فرعية .
المستوى الثاني : كيف ننظم دراسة الفكر الإسلامي المعاصر من خلال علماء الأمة في كل التخصصات، فجميع هؤلاء يقدمون فكرًا إسلاميًّا حول المجالات المختلفة وفي القضايا المختلفة ولكن بروح مختلفة فهناك التقليدي ، والسلفي ، والتحديثي ، والمعتدل ، كما أننا في حاجة لأن تنظم الدوائر البحثية والعلمية والأكاديمية الإسلامية المهتمة بالهم الإسلامي مشروعا علميا ممتدا متكاملاً لرسم خريطة فكر علماء الأمة بتياراتها ، وبقضاياها خلال النصف الثاني من القرن العشرين فقط حتى يحصل تفاعل وتراكم ، على غرار ما يقوم به الغرب تجاه فكرهم ، فلديهم دراسات عن التيارات ودراسات عن المجالات ، فنحن في حاجة إلى مثل هذا الأمر لتنظيم وعرض إنتاج الفكر ، وشكرًا … .(*) – أستاذة العلاقات الدولية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة .
– لها أبحاث عديدة في مجال : العلاقات العربية الدولية / وضع العالم الثالث في النظام الدولي / تطوير منظور إسلامي لدراسة العلاقات الدولية، وقضايا العلاقات الإسلامية المعاصرة.
– ومن أهم المشروعات التي أشرفت عليها وشاركت فيها :
* مشروع العلاقات الدولية في الإسلام (المعهد العالمي للفكر الإسلامي).
* إصدار جولية أمتي فب العالم .
* مشروع التحديات السياسية التي تواجه العالم في القرن الحالي (رابطة الجامعات الإسلامية) .