تمهيد:
لا يجد الباحث في كتب الفقه وفي كتب التفسير صورة شاملة كاملة للنظرية الإسلامية لتقويم في المحاسبة، ولكنه يجب أحكاما كثيرة متفرقة متشعبة منبثة بين طيات الكتب في أبواب وفصول ومسائل مختلفة، وفي متون وشروح وحواش وتعليقات، وكلها يمس من قريب أو من بعيد مشكلة التقويم التي نحن بصددها. فمثلا نجد أحكاما فقهية كثيرة منبثة في فقه الزكاة تعالج مسألة التقويم،
فقد كان تعلق زكاة المال – وخصوصا زكاة التجارة وزكاة النقود – بالأموال المختلفة من عروض تجارة وديون حالية ومؤجلة ونقود، وتعليقها بنماء تلك الأموال بالاتجار أي تعلقها بالريح مدعاة لكي يناقش الفقهاء كيفية تقويم الأصول،وكيفية تحديد الريح لإعداد وتصوير المركز الضرائبي للممول في نهاية كل حول لاحتساب ضريبة الزكاة المستحقة عليه. وكذلك ناقش الفقهاء عند البحث في زكاة النقود مسالة كيفية ضم الدنانير إلى الدراهم عند التقويم، وهي تضم بالأجزاء أم بالقيمة.
ومن ناحية أخرى نجد أحكاما في فقه المعاملات تعالج مشكلة التقويم في شركات المضاربة الشرعية في حالتي التصفية والتنازل أو الترك، ونجد أحكاما تعالج مشكلة التقويم في حالة الشفعة وفي حالة القسمة. وقد عثرنا ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين على رسالة نفسية اسماها “تنبيه الرقود على مسائل النقود” تعالج موضوع التقويم في حالة كساد النقود وانقطاعها، وفي حالة غلاء النقود ورخصها – أي الانكماش النقدي والتضخم النقدي – وأثر ذلك في عقود البيوع والقروض.
كما تناولت كتب التفسير موضوع التجارة، وسلامة رأس المال، والربح في مناسبات شتى، وذلك مثلا عند قوله تعالى (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) (سورة البقرة).
وقد رأيت عند إعداد رسالتي للماجستير في “نظام المحاسبة لضريبة الزكاة والدفاتر المستعملة في بيت المال” أن أقوم بتوسيع دائرة المراجع التي أرجع إليها – بناء على مشورة ما – حتى تشمل كتب الأدب بالإضافة إلى كتب الفقه وكتب التفسير فوجدت أن الجزء الثامن من كتاب “نهاية الأدب في فنون الأدب” للنويري يعالج حسابات الحومة – حسابات بيت المال – ولكنه للأسف الشديد لم يعالج حسابات الأفراد أو الشركات.. وبان لي أن العرب يقسمون الكتابة إلى أصلين رئيسيين: كتابة الإنشاء وكتابة الأموال. فأما كتابة الإنشاء فالمراد بها كل ما رجع من صناعة الكتابة إلى تأليف الكلام وترتيب المعاني، وأما كتابة الأموال فيعرفها النويري بقوله: روى البخاري عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأسد على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتية، فلما جاء حاسبه فقد صبح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاسب. وبكتاب الحساب تحفظ أموال، وتضبط وتحد قوانين البلاد، وتميز الطوارف من التلاد. ويقول النويري أن ما ذكره في الجزء الثامن من صناعة الكتابة ما هو بالنسبة إلى مجموعها إلا قطرة من بحرها وشذرة من عقود درها مما لا بد لممهتدي من الإحاطة بعمله والوقوف عند رسمه. ويعرف القلقشندي كتابة الأموال بأن المراد بها كل ما رجع من صناعة الكتابة إلى تحصيل المال وصرفه، وما يجرى مجرى ذلك ككتابة بيت المال والخزائن السلطانية، وما يجبى إليها من أموال الخراج وما في معناه وصرف ما يصرف منها من الجاري والنفقات وغير ذلكن وما في معنى ذلك ككتابة الجيوش ونحوها مما يتجر القول فيه إلى صنعة الحساب. وأورد القلقشندي بعض نسخ التوقيعات، ومراسيم للنظر، وتولى الأمور للدواوين وبيوت المال، وجاء في نسخة منها موجهة للقاضي شرف الدين محمد بن علاء الجوجري في مستهل شهر رجب سنة 739 – في عهد الدولة الطولونية – : “وليحقق ببيان حكمة ضبط الأصل والخصم والواصل والحاصل والمحضر والمخرج”. وجاء في إحدى هذه التوقيعات كذلك “فليضبط أصولها وفروعها ومفردها ومجموعها، وليكفلها بأمانة تضم أطرافها، ونزاهة تحلي أعطافها، وكتابة تحضر جليها ودقيقها وليحرر واردها ومصروفها وليلاحظ جرائد حسابها.” وجاء في إحدى هذه النسخ أيضا: “فإن للدولة الشريفة من الإقلام ضابطا، ولها من الحساب نظاما أصبح عليها سياجا وحافظا، يصون الأموال ويحرز المطلقات – النفقات – بعدا وقربا. فليباشر هذه الوظيفة وإذا أمسك دفاتره أظهر مآثره، وإذا نسيت الجمل أبدى تذاكره، وإذا نسيت الجمل أبدى تذاكره والعمدة على شطبه في الحسبانات الحاضرة فلا يخرج من عنده شيء بغير ثبوت”. وللأسف الشديد لم نعثر بعد على هذه الدفاتر والمستندات وقد أوردنا هذه الفقرات لبيان علو كعب العرب في حسابات الحكومة وحسبهم أن قدامة بن جعفر المتوفى سنة 337 هـ – 918 م – أي منذ أكثر من ألف عام – قد ألف كتابا في “الخراج وصنعه الكتابة” وللأسف الشديد فقد نصفه الأول ولم يعثر إلا على نصفه الأخير فقط.
وبعد، فسأبدأ – بعد أن استعرضت نظريات التقويم السائدة – في معالجة مختلف المناهج الإسلامية في المال والتجارة التي تمت بصلة إلى موضوع التقويم الذي نحسن بصدده من قريب أو من بعيد، مع القيام بدراستها دراسة تحليلية، وإبراز ملامحها، ثم أقوم بمعالجة الأحكام الفقهية المختلفة المتشعبة المنبثة في فقه الزكاة وفي فقه المعاملات، والمتعلقة بموضوع التقويم، مع دراستها أيضا دراسة تحليلية لمعرفة العلة فيها ولاستخلاص المبادئ الإسلامية الأساسية في نظرية رأس المال وفي نظرية الربح في المحاسبة، وأقارن ذلك بأقوال المفسرين التي تناولت التجارة ورأس المال، وسلامة رأس المال والربح، وعلى ضوء ما تفصح عنه تلك الدراسات التحليلية من نتائج عامة، وتتكشف عنه من مبادئ أساسية في المحاسبة سنحاول أن نربط ذلك كله بعضه ببعض، ونرسم الصورة العلمية السليمة الشاملة لنظرية التقويم في الفقه الإسلامية المحاسبي.
فكرة التقويم
القيمة تعبير مالي عن خدمات ومنافع يستفاد منها في أغراض معينة وترتبط هذه القيم في المحاسبة بوحدة الزمن، فإن تكلمنا عن الماضي فالقيم تاريخية تمثل وحدات نقدية، وإن تكلمنا عن المستقبل فإنما نقصد قيما اقتصادية متوقعة، وإن تكلمنا عن الحاضر فإنما نقصد قيما اقتصادية حقيقية. ولم كانت هذه القيم في حالة ثبات واستقرار، بحيث لا يطرأ عليها تغير بين تاريخ وآخر لما أثار هذا الموضوع جدلا علميا ولكن هنا الفاصل الزمني الذي ينقضي بين تاريخ وآخر، وفي مجتمع اقتصادي أساسه الحركة والنشاط، هو الذي يدعو إلى الوقوف على طبيعة هذه القيم وتتبع آثارها مع دورة النشاط وبخاصة دورة رأس المال. وإن كانت هذه القيم التي نعالجها ينتهي أمرها بانتهاء مقوماتها – الخدمات والمنافع – لأمكن الوقوف عند هذا الحد، ولكن هذه الخدمات والمنافع مستمرة متجددة طالما كنا نتكلم عن وحدات اقتصادية – مشروعات – في حالة حركة ونشاط.
التقويم وأغراضه
ويستفاد من القيمة والتقويم في قياس نتائج الأعمال (الأرباح والخسائر عن مدة معينة) من ناحية، وتحديد المركز المالي من ناحية أخرى (رأس المال في تاريخ معين) وبهذا الشكل تعتبر القيمة من حيث المصدر رأس مال، ومن حيث الاستخدام استعمالا لرأس المال وهكذا يكون للقيمة دورة ولكنها تتخذ أحد شكلين:
1 – دورة على أساس أنها وحدات نقدية (أرقام ؟؟؟) يقصد من تتبعها المحافظ عليها في شكلها هذا، ويعبر عنها بالقيم الدفترية.
2 – دورة على أساس أنها وحدات نقدية (قيم اقتصادية) تمثل قدرة إنتاجية وكسبية معينة، يجب المحافظة عليها في شكلها الاقتصادي، ومن هنا ظهرت فكرة القوى الشرائية.
ولما كان رأس المال يتأثر زيادة ونقصا برقم الأرباح أو الخسائر، وهذا الرقم بدوره يتأثر بموازنة النفقات والإيرادات، لذلك يجب أن تتم الموازنة بوحدات متشابهة على أساس مبدأ رئيسي واحد (تاريخي أو اقتصادي).
ولما كان علم المحاسبة في بدايته قائما على أساس إيجابي لذلك فضل المحاسبون إتباع مبدأ “الدورة التاريخية” والخروج عنها في حالات معينة اعتمادا على قاعدة التحفظ والاحتياط لما يتوقع من خسائر. والبعد عن احتساب الأرباح ما لم تتحقق.
ونتج عن ذلك قاعدة التقويم المعروفة “التكلفة أو القيمة السوقية أيهما أقل” بالنسبة للمخزون السلعي، إلا أن تغير الظروف الاقتصادية والقوانين الضريبية، وتطور الفلسفة الإدارية من ناحية رسم السياسات ومراقبة تنفيذها قد أدت إلى تغيير فلسفة المحاسبة في تتبع “دورة القيمة” وتحوله من الطريقة التقليدية “النظرة التاريخية” إلى الفلسفة الاقتصادية الحقيقة “الحاضرة، وعدم إهمال المستقبل”. وقد أدى ذلك إلى اختلاف وجهات النظر في موضوع التقييم، وأصبح لكل من الطريقتين مؤيدون ومعارضون ولم يستقر بعد الجدال في التقويم. ومرد ذلك إلى عدم الاتفاق على فلسفة “رأس المال” من حيث هو مال له دوره، ويقصد من متابعة دورته عن طريق القياس المحاسبي تنميته أو على الأقل المحافظة عليه، ولهذا يتوقف تحديد قيمة المخزون على المعنى الذي نتفق عليه فيما يتعلق برأس المال والهدف الذي يرمي لتحقيقه من دورة رأس المال.
وفي حالة اتخاذ مبدأ قياس رأس المال الاقتصادي تعتبر التغيرات بالزيادة والنقص تسويات محاسبية ضرورية للمحافظة على رأس المال، وهي في شكلها هذا يمكن اعتبارها ضمن مجموعة حقوق أصحاب الأموال، على ألا يصبح التصرف فيها بالتوزيع إلا إذا تحققت.
المفاهيم الإسلامية في المال والتجارة والنماء
سأحاول أن أنفذ إلى أعماق المفاهيم الإسلامية في المال والتجارة وعلى الأخص ما يتصل بمشكلة التقويم.
1 – المال:
يعرف ابن عابدين المال بقوله:
“المراد بالمال ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة، والمالية تثبت بتمويل كافة الناس أو بعضهم، والتقويم يثبت بها وبإباحة الانتفاع به شرعا، فما يباح بلا تمول بلا إباحة انتفاع لا يكون متقوما كالخمر. وحاصله أن المال أعم من المتقوم، لأن المال ما يمكن ادخاره ولو غير مباح كالخمر المتقوم ما يمكن ادخاره مع الإباحة. فالخمر مال لا متقوم فلذا فسد البيع بجعلها ثمنا وإنما لم ينعقد أصلا بجعلها مبيعا لان الثمن غير مقصود، بل وسيلة إلى المقصود إذ الانتفاع بالأعيان لا بالأثمان”.
ويقول ابن عابدين أيضا: المال اسم لما يتمول فيتناول السوائم أيضا.
ويقول ابن نجيم المصري: المال كل ما يتملكه الناس من نقد وعروض وحيوان وغير ذلك إلا أننا في عرفنا يتبادر من اسم المال النقد والعروض.
مفهوم المال المتقوم
وفيما يلي خلاصة هذا المفهوم الإسلامي للمال المتقوم:
1 – ترغب فيه النفس ويميل إليه الطبع ويقوم كافة الناس أو بعضهم بتموله أي وجود طلب فعلى إجمالي أو جزئي عليه.
2 – إمكان ادخاره للانتفاع به وقت الحاجة أي قدرته على الاشباع بتحقيق الرغبات والحاجات.
3 – إباحة الانتفاع به شرعا.
والأموال ثلاثة:
الأول: ثمن بكل حال وهو النقدان (الذهب والفضة).
الثاني: مبيع بكل حال كالثياب الدواب.
الثالث: ثمن من وجه، مبيع من وجه كالمثليات أي غير النقدين وهي المكيل والموزون والعدد والمتقارب.
2 – النقود:
وصنوف النقود خمسة أنواع:
( أ ) النقدان – الذهب والفضة
الذهب والفضة لغة.. يقول الإمام الألوسي: الذهب اشتقاقه من الذهاب وقيل إنه جمع في المعنى لذهبه، والفضة اشتقاقه من انفض الشيء إذا تفرق.
ويقول الإمام النسفي: سمي الذهب ذهبا لسرعة ذهابه بالإنفاق وسميت الفضة فضة لأنها تتفرق بالإنفاق والفض التفريق.
الذهب والفضة شرعا
يقول السرخسي: الذهب والفضة خلقا جوهرين للأثمان لمنفعة التقلب والتصرف فكانت معدة للنماء على أي صفة كانت.
ويقول الموصلي: الذهب والفضة أعدهما الله تعالى للنماء حيث خلقهما ثمن الأشياء في الأصل، ولا يحتاج في التصرف فيهما والمعاملة بهما إلى التقويم والاستبدال، وتعتبر في الذهب والفضة الغلبة فإن كانت للغش فهي عروض وإن كانت للفضة فهي فضة وكذلك الذهب.
ويقول ابن رشد: التبر والفضة المقصود منهما المعاملة أولا في جميع الأشياء لا الانتفاع، والعروض المقصود منها الانتفاع أولا لا المعاملة وأعني بالمعاملة كونها ثمنا.
ويقول ابن قدامة: الأثمان هي الذهب والفضة، والأثمان قيم الأموال ورأس المال للتجارات، وبهذا تحصل المضاربة والشراكة وهي مخلوقة لذلك فكانت بأصل خلقتها كمال التجارة.
ويقول النيسابوري في تفسر الآية الكريمة (زين للناس حب الشهوات من النساء واللبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسمومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب) وإن كان الذهب والفضة محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء فما لكما كالمالك لجميع الأشياء.
ويقول الإمام النسفي: الذهب والفضة قانون التمول وأثمان الأشياء.
ويقول ابن عابدين: رأيت الدراهم والدنانير ثمنا للأشياء ولا تكون الأشياء ثمنا لهما.
ويقول الشيخ محمد حسنين مخلوف: النقد الخالص كالذهب والفضة هي الأثمان المطلقة التي نوه الشرع بها كتابا وسنة، والذهب والفضة معدان للنساء والتجارة بأصل خلقتهما التي لا تصلح للانتفاع بعينها في دفع الحوائج الأصلية، وقد حرم الشرع استعمالهما على الذكور في غير ما أعدا له دون سائر المعادن إلا في أحوال نادرة لهذا الإعداد المذكور. وناض المال – كما يقول ابن سلام – ما كان ذهبا أو فضلة عينا وورقا، ونض ينض إذا تحول نقدا.
(ب) النقد المغشوش والناقص
بينا أن الذهب والفضة هما النقد الخالص وهما الأثمان المطلقة، أما الأثمان المقيدة فهي الدنانير والدراهم المخلوطة بنحاس أو رصاص أو الناقصة الوزن، وحاصل مذهب مالك فيا أنها إن راجت الأثمان الكاملة بحيث لا يحطها الغش أو النقص عن قيمته الكاملة، ولا عن إطلاق اسم الدراهم والدنانير عليها فهي في حكم الخالصة الكاملة، وإن ترج رواج الكاملة حسب في المغشوشة خالصة على تقدير التصفية واعتبر في الناقص التكميل، فإذا كان العشرون ينقصها إنما تروج تسعة عشر تكون قيمتها تسعة عشر ويغتفر اليسير. وحاصل مذهب الحنفية فيها أنه إذا كان الغالب على الورق الفضة فهو في حكم الفضة، لأن الغش فيها مغمور يستهلك، وإذا كان الغالب عليه الغش فهو في حكم العروض وذلك لأن الدراهم لا تخلو عن قليل غش لأنها لا تنطبع إلا به وتخلو عن الكثير فجعلت الغلبة فاصلة، وهو أن يزيد على النصف اعتبار للحقيقة.
(جـ) الفلوس
وهي المتخذة من غير الذهب والفضة، والخلاف فيهما بين الفقهاء قوى حول كونها أثمانا رائجة أو سلع تجارة. ويرى ابن عابدين أن الفلوس إن كانت رائجة فكثمن وإلا فكسلع، والفوس النحاسية الآن تلحق بالنقدين باعتبار أن التعامل بها إنما هو بجعلها أثمانا للمقومات لا يجعلها سلع تجارة.
(د) الكواغد وقطع الجلد ونحوهما
وهي تأخذ الفلوس النحاسية بتنزيل قيمتها الوضعية منزلة القيمة الخلقية واتخاذها اثمانا يلحقها بالنقدين.
(هـ) النقود الورقية
وفي النقود الورقية أربعة أقول:
1 – أما أن تعتبر كمستندات ديون على شخص معنوي في ملاءة ويسار.
2 – وأما أنها وإن كانت دينا إلا أنه نوع آخر مستحدث لا ينطبق عليه حقيقة الدين وشروطه المعروفة عند الفقهاء، وتكون كأنها مال حاضر بين المتعاملين يتحرك بحركة هذا الرسم، والمملوك لربه هو ذلك النوع من البدل، والرسم إنما هو لحفظه والتعامل به.
3 – وأما أنها كمستندات ودائع محفوظة في خزائن الأمناء جعل التعامل بها طريقا للتعالم بالبدل المحفوظ بالمصارف، والتعامل وإن لم يجربه مباشرة إلا أنه جار فيه بصورته ورسمه، وثمنية الأوراق إنما هي باعتبار هذا المال المخزون بحيث لو عدم عدمت ثمنيتها وبطل التعامل بها.
4 – وأما أن تعتبر النقود الورقية باعتبار قيمتها الوضعية فلو فرض أنه ليس في البنك من النقود، ونظر إلى تلك الأوراق في ذاتها بقطع النظر عما يعادلها، وعن التزام التعهد المرقوم بها، واعتبر جهة إصدار الحكومة لها واعتبار الملة لها أثمانا رائجة لكانت كالنقدين.
ويقول الأستاذ الشيخ محمد حنين مخلوف أيضا أنه لما كان الأصل في العوض المماثلة ولو التقريبية وتحلقيها من العسر بمكان في المبادلة بالسلع فلا بد من الاتفاق على بدل مقارب تتفاوت أصنافه في القيم أم بالخلقة والذات، أو بالوضع والتقدير، وأجوده وأقوامه نقد الذهب والفضة، وأسهله وأيسره اتخاذا ومعاملة نقد الأوراق ولا يكون للنقود الورقية في الحقيقة ذلك الأثر الذي للنقود الأصلية إلا باعتبار ما يعادله من النقد الخلقي.
وفيما يلي خلاصة هذه المفاهيم الإسلامية للنقود.
في صفات النقود
1 – كونها ما لا متقوما.
2 – كونها إثمانا أما مطلقة بالخلقة فهي معدة بأصل خلقتها ثمنا للأشياء كالذهب والفضة، وأما مقيدة تأخذ ثمنيتها بالإصلاح والمواضعة.
3 – كونها لا يحتاج إلى التصرف فيها والمعاملة بها إلى التقويم والاستبدال.
4 – كونها لا تصلح للانتفاع بعينها في دفع الحوائج الأصلية.
5 – كونها محلا للنماء الخلقي بأصل خلقتها.
6 – كونها سريعة الحركة حتى أن الذهب يسمى ذهبا لسرعة ذهابه.
في وظائف النقود
1 – الثمنية لمنفعة التقلب والتصرف وهي مقياس القيمة وقانون التمويل.
2 – المعاملة أولا في جميع الأشياء وهي أداة التبادل.
3 – وسيلة إلى المقصود إذ الانتفاع بالأعيان لا بالأثمان، وليست النقود مقصودة لذاتها.
4 – مالكها كالمالك لجميع الأشياء وأداة للادخار.
3 – العروض:
والعروض لغة جميع عرض بسكون الراء وهو ما ليس بنقد، وكل شيء فهو عرض سوى الدراهم والدنانير، وهو اسم لكل ما قابل النقدين من صنوف المال، ويقول ابن قدامة العروض جميع عرض وهو غير الأثمان من المال على اختلاف أنواعه من النبات والحيوان والعقار وسائر المال. ويقول ابن رشد، المقصود من العروض المنافع أولا.
ويقول ابن قدامة إن الأصل في العروض القنية والتجارة عارض، وعروض التجارة مرصدة للربح، ويقول ابن رشد إن العروض المتخذة للتجارة مال مقصود به التنمية.
متى يصير العرض للتجارة..؟
يرى ابن نجيم أن الإعداد في العروض للتجارة يكون بالنية، وعند ابن قدامة في ذلك قولان:
القول الأول:
إن العرض لا يصير للتجارة إلا بشرطين، أحدهما أن يملكه بفعله كالبيع وقبول الهبة والوصية واكتساب المباحات، ولا فرق بين أن يملكه بعوض أو بغير عوض. والثاني أن ينوي عند تملكه أنه لا تجارة فإن لم ينو عند تملكه أنه للتجارة لم يصر للتجارة لأن الأصل القنية والتجارة عارض فلم يصر إليها بمجرد النية كما لو نوى الحاضر السفر لم يثبت له حكم السفر بدون الفعل.
القول الثاني:
وعن أحمد رواية أخرى – أن العرض يصير للتجارة بمجرد النية لقول سمرة: “أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج الصدقة مما نعد للبيع، فعلى هذا لا يعتبر أنه يملكه بفعله ولا يكون في مقابلة عرض بل متى نوى به التجارة صار للتجارة”.
عروض الإدارة وعروض الاحتكار عد المالكية:
وتنقسم عروض التجارة عند المالكية إلى عروض للإدارة وعروض للاحتكار.
وعروض الإدارة أو العروض المدارة هي: التي تشتري للتجارة وتباع بالسعر الواقع ولا ينتظر بها سوق نفاق البيع (أي كثرة طلاب البيع أو المبيع) ولا سوق كساد الشراء كسائر أرباب الحوانيت المديرين للسلع.
وعروض الاحتكار: هي التي يترصد بها الأسواق لربح وافر أي يمسكها إلى أن يجد فيها ربحا جيدا.
وفيما يلي خلاصة هذه المفاهيم الإسلامية في العروض:-
1 – أنها مال متقوم لا مجرد أرصدة تكاليف مساقة ونفقات محمولة تمثل منافع مستقبلة جارية لم يحملها لم يحملها الإيراد أو الربح، ويترتب على هذين المفهومين المختلفين نتائج مختلفة سنفصلها في حينها.
2 – أنها تتخذ للقنية أو للتجارة.
3 – أن المقصود منها المنافع أولا لا المعاملة وأنها ليست ثمنا بكل حال.
4 – أن كل ما ليس بنقد فهو عرض.
4 – الدين:
أن من له مال في دين أما أن يكون أصله عينا عنده – أي نقدا – أو عروض تجارة بيده، فالدين أما دين نقد إذا كان من قرض ويسمى دين قرض وأما دين بيع إذا كان من بيع ويسمى دين تجارة.
والدين إما حال أو مؤجل، وهو إما دين مرجو إذا كان في ملاءة ويسار، أو دين غير مرجو ويسمى بالدين الضمار أو الظنون أو المظنون الذي لا يدري صاحبة أيصل إليه أم لا.
وفي الشرح الصغير للدردير أنه إذا كان الدين من قرض فقد يكون نقدا حالا فيقوم بعدده. وقد تكون نقدا مؤجلا فيقوم بعرض ثم يقوم العرض بعين – أي بنقد.
وإذا كان الدين من بيع وكان عرضا مرجوا حالا يقوم بعين – أي بنقد – وإذا كان مؤجلا وكان من بيع وكان مرجوا يقوم بعرض ثم يقوم العرض بعين أي بنقد.
ولهذا التمييز في الفقه الإسلامي بين دين التجارة ودين القرض أهمية في تقسيم الأصول في المحاسبة. ويلزم أيضا التمييز بين الدين الحال والدين المؤجل عند معالجة مسألة التقويم في الفقه الإسلامي.
5 – الثمن:
يقول ابن عابدين، الثمن ما تراضى عليه المتعاقدان سواء زاد على القيمة أو نقص.
والثمن ما يثبت في الذمة دينا عند المقابلة.
والثمن هو العوض.
والثمن من حكمه عدم اشتراط وجوده في ملك العاقد عند العقد، وحكم البيع خلافه، فيتشرط وجود المبيع في ملك العاقد لأن الثمن غير مقصود بل وسيلة إلى المقصود إذ الانتفاع بالأعيان لا بالأثمان. ولهذا اشترط وجود المبيع دون الثمن فبهذا الاعتبار صار الثمن من جملة الشروط بمنزلة آلات الصناع.
6 – القيمة
ويقول ابن عابدين: والقيمة ما قوم به الشيء بمنزلة العيار من غير زيادة ولا نقصان.
ويقول الزيلعي: ليس في القيمة إلا إقامة شيء مقام شيء.
وحبذا لو التزمنا في استعمال لفظي الثمن والقيمة في التجارة هذين المفهومين الواضعين المحددين.
7 – التجارة
التجار تقليب المال بمعاوضة لغرض الربح.
ويقول ابن نجيم: التجارة كسب المال ببدل هو مال.
ويقول ابن عابدين: عقد التجارة هو كسب المال بالمال بعقد شراء أو إجارة أو استعراض.
يقول الإمام الرازي: التجارة عبارة عن التصرف في المال سواء كان حاضرا أو في الذمة لطلب الربح، والتجارة صناعة التجار وهي التصدي للبيع والشراء لتحصيل الربح. ويقول أيضا المراد من التجارة ما يتجر فيه من الإبدال.
ويقول الإمام الألوسي: التجارة التصرف في رأس المال طلبا للربح.
ويقول الإمام القرطبي: التجارة هي البيع والشراء. والتجارة في اللغة عبارة عن المعارضة، وهي نوعان: تقلب في الحضر من غير نقله ولا سفر وهذا تربص واحتكار قد رغب عنه أولو الاقدار وزهد فيه ذوو الأخطار، والثاني تقلب المال بالأسفار ونقله إلى الأمصار وهذا أليق بأهل المروءة وأعم جدوى ومنفعة غير أنه أكثر خطرا وأعظم غررا.
والتجارة تصرف في المال ولا بد لها من المتمكن من التصرف في المال مدة يحصل منه الربح.
ويقول ابن خلدون: إن معنى التجارة تنمية المال بشراء البضائع ومحاولة بيعها بأغلى من ثمن الشراء، أما بانتظار حوالة الأسواق أو نقلها إلى بلد هي فيه أنفق وأغلى أو بيعها بالغلاء على الآجال. وهذا الربح بالنسبة إلى أصل المال يسير إلا أن المال إذا كان كثيرا أعظم الربح لأن القليل في الكثير كثير. وهكذا أشار ابن خلدون منذ ستة قرون إلى فكرة سرعة دوران رأس المال العامل وزيادة حجم المبيعات وأثرها في زيادة الربح.
تقسيم التاجر إلى مدير وغير مدير عند المالكية
والتاجر المدير – عند المالكية – هو الذي لا يستقر بيده عين – أي نقد – ولا عروض، لا تثبت بيده بل يبيع بالسعر الحاضر ويخلفها ولا ينتظر سوق نفاق ولا سوق كساد الشراء، والتاجر المدير لا يرصد الأسواق بل يكتفي بما أمكنه من الربح وربما باع بغير ربح وبأقل من راس المال خوفا من كسادها.
ويقول أن رشد: المدير هو الذي يكثر بيعه وشراؤه.
أما التاجر غير المدير أو المحتكر فهو الذي يشتري السلع ويتربص بها النفاق.
تحليل التجارة
ونستطيع من هذه المفاهيم الإسلامية تحليل التجارة إلى العناصر الأساسية الآتية:-
1 – التصرف في المال.
2 – مدة لا بد منها للتمكن من التصرف.
3 – المعاوضة.
4 – طلب الربح.
5 – التقليب والاخلاف وإدارة المال بالشراء والبيع حالا بعد حال وفعلا بعد فعل.
6 – المخاطرة.
7 – رصد الأسواق.
مقصود التجارة
يقول الإمام الرازي في تفسير الآية الكريمة (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين)، إن المقصود من التجارة سلامة رأس المال مع حصول الربح في صفقة ما فربما يتدارك في صفقة أخرى لبقاء الأصل، والذي تطلبه التجار في متصرفاتهم أمران: سلامة رأس المال والربح.
ويقول الإمام النسفي. مطلوب التجارة سلامة راس المال والربح ولا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله قد ربح.
ويقول الإمام الزمخشري: إن الذي يطلبه التجار في متصرفاتهم شيئان: سلامة رأس المال والربح، وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معا لأن رأس مالهم كان هو الهدى فلم يبق لهم مع الضلالة، وحين لم يبق في أيديهم إلا الضلالة لم يوصفوا بالربح، والتجارة سبب يفضي إلى كل واحد من الربح والخسران، ورأس مالهم هو الهدى، فلما استبدلوا به ما يضاده ولا يجامعه أصلا انتفى رأس المال بالكلية، ومن لم يسلم له رأس ماله بالاستبدال وترتب على ذلك إضاعة الربح.
ويقول الإمام الطبري: إن الرابح من التجار المتسبدل من سلعته المملوكة عليه بدلا هو أنفس من سلعته أو أفضل من ثمنها الذي يبتاعها به فأما المستبدل من سلعته بدلا دونها ودون الثمن الذي يبتاعها به فهو الخاسر في تجارته لا شك.
وعلى هذا ينحصر مقصود التجارة في أمرين:
1 – المحافظة على سلامة رأس المال وعدم إضاعتها بالاستبدال.
2 – تحصيل الربح.
وسيفيدنا جدا هذا المفهوم للتجارة ومفهوم الشراء ومفهوم البيع في معالجة مشكلة التقويم وفي تعرف طبيعة العمليات التجارية.
8 – الشراء
والشراء من الأضداد ويقع غالبا على إدخال شيء في الملك وإخراج الثمن عن الملك.
ويقول الإمام الألوسي، الشراء استبدال السلعة بالثمن أي أخذها به وبعضهم يجعله من الأضداد لأن المتبايعين تبايعا الثمن والمثمن فكل من العويضين مشتري من جانب مبيع من جانب.
ويقول الإمام الطبري، الشراء الذي يتعارفه الناس استبدال شيء مكان شيء وأخذ عوض على عوض، وكل مشتر شيئا فإنما يستبدل مكان الذي يؤخذ منه من البدل آخر بدلا منه، ومعنى الشراء أخذ المشترى مكان الثمن المشتري به.
ويقول الإمام القرطبي، العرب تستعمل لفظ الشراء في كل من استبدل شيئا بشيء، قال أبو ذؤيب:
“وإن تزعميني كنت أجهل فيكم.. فإني قد اشتريت الحلم بعدك بالجهل” والمعتبر في عقد الشراء ومفهومه هو الجلب دون السلب الذي هو المعتبر في عقد البيع.
ونلخص من ذلك إلى أن مفهوم الشراء هو الاستبدال والجلب دون السلب المعتبر في البيع.
9 – البيع
والبيع من الأضداد يقال على الإخراج عن الملك والادخال فيه ويقع غالبا على إخراج البيع عن الملك وادخال الثمن في الملك.
ويقول ابن عابدين: البيع لغة مادلة شيء بشيء وظاهرة شمول الإجارة لأن المنفعة شيء باعتبار الشرع أنها موجودة حتى صح الاعتياض عنها بالمال.
والبيع شرعا مبادلة مال بمال أي تمليك المال. ويقول ابن عابدين البيع شرعا مبادلة المال بالمال وفي مرشد الحيران البيع شرعا تمليك البائع مالا للمشتري بمال يكون ثمنا للمبيع.
وقال الإمام الغزالي إن الأمة أجمعت على أن البيع سبب لإفادة الملك.
والبيع لا ينعقد إلا بصدور ركنه من أهل مضافا إلى محل قابل لحكمه كسائر العقود.
ويصح البيع بثمن حال أو مؤجل بأجل معلوم، ولوم باع مؤجلا انصرف إلى شهر لأنه العهود في الشرع السلم، وإذا كان المبيع عينا لا يصح الأجل فإن شرط فيه الأجل فالبيع فاسد لأن التأجيل في الأعيان لا يصح الأجل فإن شرط فيه الأجل فالبيع فاسد لأن التأجيل في الأعيان لا يصح.
أنواع البيع من حيث تعلقه بالمبيع
يقول ابن عابدين: البيع أن اعتبر من حيث تعلقه بالمبيع فهو أربعة:-
1 – أما أن يقع على عين بعين، ويسمى مقايضة.
2 – أو ثمن بثمن أي يكون المبيع فيه من الأثمان – أي النقود. ويسمى صرفا.
3 – أو ثمن بعين، ويسمى سلما.
4 – أو عين بثمن، وليس له اسم خاص فهو بيع مطلق.
أنواع البيع من حيث تعلقه بالثمن
ويقول ابن عابدين: وإن اعتبر البيع من حيث تعلقه بالثمن أو بمقداره فهو أربعة أيضا:
1 – إن كان مثل الثمن الأول مع زيادة فمرابحة.
2 – إن كان يمثل الثمن الأول بدون زيادة فتولية.
3 – إن أنقص من الثمن فوضعية.
4 – إن كان بدون زيادة ولا نقص فمساومة – أي بأي ثمن كان من غير نظر إلى الثمن الأول.
ويقول ابن رشد: “إن كل معاملة وجدت بين اثنين فلا يخلو أن تكون عينا بعين، أو عينا بشيء في الذمة، أو ذمة بذمة، وكل واحد من هذه الثلاث إما نسيئة وإما ناجز. وكل واحد من هذه أيضا إما ناجز من الطرفين وإما نسيئة من الطرفين، وإما ناجز من الطرف الواحد نسيئة من الطرف الآخر فتكون أنواع البيوع تسعة، فأما النسيئة من الطرفين فلا يجوز بإجماع لا في العين ولا في الذمة لأنه الدين بالدين المنهي عنه، وأسماه هذه البيوع منها ما يكون من قبل صفقة العقد وحال العقد، ومنها ما يكون من قبل صفقة العين المبيعة، وذلك أنها إذا كانت بعين فلا يخلو أن تكون ثمنا بمثمون أو ثمنا بثمن، فإن كانت ثمنا بثمن سمي صرفا، وإن كانت ثمنا بثمون سمي بيعا مطلقا، وكذلك مثمونا بثمون بشروط وإن كانت عينا بذمة سمي سلما، وإن كان على الخيار سمي بيع خيار، وإن كان على المرابحة سمي بيع مرابحة، وإن كان على لمزايد سمي بيع مزايدة”.
بيع المرابحة
ويقول ابن رشد: أجمع العلماء على أن البيع صنفان مساومة ومرابحة وإن المرابحة هي أن يذكر البائع للمشتري الثمن الذي اشترى به السلعة ويشترط عليه ربحا للدينار أو الدرهم.
واختلفوا من ذلك بالجملة في موضعين: أحدهما فيما للبائع أن يعده من رأس مال السلعة مما أنفق على السلعة بعد الشراء مما ليس له أن يعده من رأس المال، والموضوع الثاني إذا كاذب البائع للمشتري.
فأما ما يعد في الثمن مما لا يعد فتحصيل مذهب مالك في ذلك أن ما ينوب البائع على السلعة زائدا على الثمن ينقسم ثلاثة أقسام:
1 – قسم يعد في أصل الثمن ويكون له حظ من الربح.
2 – وقسم يعد في أصل الثمن ولا يكون له حظ في الربح.
3 – وقسم لا يعد في أصل الثمن ولا يكون له حظ من الربح.
فأما الذي يحسبه في رأس المال ويجعل له حظا من الربح فهو ما كان مؤثرا في عين السلعة، مثل الخياطة والصبغ، وأما الذي يحسبه في رأس المال ولا يجعل له حظا من الربح فما لا يؤثر في عين السلعة مما لا يمكن للبائع أن يتولاه بنفسه كحمل المتاع من بلد إلى بلد وكراء البيوت التي توضع فيها، وأما ما لا يحتسب في الأمرين جميعا فما ليس له تأثير في عين السلعة مما يمكن أن يتولاه صاحب السلعة بنفسه كالمسمرة والطي والشد.
وقال أبو حنيفة بل يجعل على ثمن السلعة كل ما نابه عليها.
في الفرق بين البيع والربا
ويقول الإمام الطبري في تفسير قوله تعالى (وأحل الله البيع وحرم الربا) يعني وأحل الله الأرباح في التجارة والشراء والبيع وحرام الربا.
ويقول الإمام الألوسي: من باع ثوبا يساوي درهما بدرهمين فقد جعل الثوب مقابلا لدرهمين فلا شيء منهما إلا وهو في مقابلة شيء من الثوب، وأما إذا باع درهما بدرهمين فقد أخذ الدرهم الزائد بغير عوض، ولا يمكن جعل الإمهال عوضا إذ الإمهال ليس بمال حتى يكون في مقابلة المال. وقيل الفرق بينهما أن أحد الدرهمين ضائع حتما، وفي الأول منجبر بمساس الحاجة إلى السلعة أو بتوقع رواجها.
وتخلص من هذه المفاهيم إلى الأسس الآتية:
1 – مفهوم البيع المبادلة والجلب المعتبر في الشراء.
2 – لا يفرق فقهاء الشريعة الإسلامية بين البيع والمقايضة ويعتبر الإثنان بيعا أي مبادلة مال بمال.
3 – البيع سبب لإفادة الملك.
4 – يصح البيع بثمن حال أو مؤجل ولا يصح التأجيل في الأعيان.
5 – بيع الدين بالدين منهي عنه.
6 – عند تحديد ثمن بيع المرابحة لا يكون للمصاريف الإدارية ومصاريف البيع والتوزيع حظ من الربح في مذهب مالك فلا تجعل في ثمن التكلفة المشروط عليه نسبة ربح معينة وإن كانت تعد في ثمن التكلفة الكلي، أما في مذهب أبو حنيفة فجعل على ثمن السلعة كل ما أنفق عليها بعد الشراء.
7 – ليست الزيادة من وجه البيع نظير الزيادة من وجه الربا لأن الزائد من الربا بغير عوض ولا مكن جعل الإمهال والتأخير والزيادة في الأجل عوضا إذ هي ليست بمال حتى تكون في مقابلة المال.
10 المباع
المباع هو الشيء المعروض للبيع وهو من أبعت السلعة أي عرضتها لأنه تباع، وأبيع أي عرض للبيع.. فهناك:
1 – المبتاع = المشتري.
2 – المبيع.
3 – المباع = المعروض للبيع.
وإذا تفهمنا وصف المخزون السلعي في الفقه الإسلامي وتسميته بالمباع دون تسميته بالمخزون السلعي نجد أن هذا الوصف مستمد من مفهوم خاص من حيث كونه معروضا للبيع وتراد تسميته “المباع” لإبراز هذا المفهوم دون مفهوم المخزون. ولا يخفى ما لهذا التمييز بين مفهوم “المباع” ومفهوم “المخزون” من أهمية بالغة في إقامة نظريات التقويم.
11 – هل المنفعة ملك أم مال…؟
إن كون المنافع ملك أم مال له أهمية بالغة في معالجة مسألة ما إذا كان مفهوم المال في الفقه الإسلامي يتسع ليشمل المنافع كأصول معنوية أم لا، وأثر ذلك في كيفية تقويم الأصول المعنوية، وقد اختلف الفقهاء في المنفعة هل هي ملك أم مال..؟
يقول ابن عابدين: “المنفعة ملك لا مال لأن المالك ما من شأنه أن يتصرف فيه بوصف الاختصاص، والمال من شأنه أن يدخر للانتفاع به وقت الحاجة، ويعرف الإجارة بأنها شرعا تمليك نفع بعوض – أما تمليك المنافع مجانا فهو العارية – وحكم الإجارة وقوع الملك في الملك في البدلين ساعة فساعة، ولا يلزم الأجر بالعقد أي لا يملك به، لأن العقد وقع على المنفعة وهي تحدث شيئا فشيئا، وشأن البدل أن يكون مقابلا للمبدل، وحيث لا يمكن استيفاؤها حالا لا يلزم بدلها حالا إلا إذا شرطه ولو حكما بأن عجله لأنه صار ملتزما به بنفسه حينئذ وأبطل المساواة التي اقتضاها العقد.
وفي فتح الله المعين على شرح الكنز “أن البيع مبادلة المال بالمال أي تمليك المال بالمال، فخرج الإجارة لأن الإجارة مبادلة المال بالمنافع. والأجرة لا تملك بالعقد والعقد يتجدد بحسب حدوث المنافع فيجوز إضافتها إلى الزمان المستقبل خلافا للشافعي لأن المنافع عنده كالأعيان فلا يجوز إضافتها كإضافة البيع، وعند الشافعي لا تنتقض الإجارة يموت المؤجر والمستأجر لأن المنافع عنده كأعيان فكما لا تبطل في العين لا تبطل فيها.
ويقول ابن رشد: فيمن اكترى دابة أو دارا وما أشبه ذلك هل له أن يكري ذلك بأكثر مما أكتراه؟ أن مالك والشافعي وجماعته أجازه قياسا على البيع، ومنع ذلك أبو حنيفة وأصحابه، وعمدتهم أنه من باب ربح ما لم يضمن لأن ضمان الأصل هو من به أعني من المكري”.
ويقول الشافعي: والاجارات أصول في نفسه بيوع على وجهها والإجارات صنف من البيوع لأن البيوع لأن البيوع كلها إنما هي تمليك من كل واحد منهما لصاحبه، يملك بها المستأجر المنفعة التي في العين والبيت والدابة إلى المدة التي اشترط حتى يكون أحق بالمنفعة التي ملك من مالكها، ويملك بها مالك الدابة والبيت العوض الذي أخذه عنها وهذا البيع نفسه.
فإن قال قائل قد تخالف البيوع في أنها بغير أعيانها وأنها غير عين إلى مدى قال الشافعي فهي منفعة معقولة من عين معروفة فهي كالعين.
وقبض الإجارات الذي يجب به على المستأجر دفع الثمن كما يجب دفع الثمن إذا دفعت الساعة المشتراه بعينها أن يدفع الشيء الذي فيه المنفعة أن كان بعيرا دفع البعير وأن كان مستكنا دفع المسكن حتى يستوفى المنفعة التي كمال الشرط إلى المدى التي اشترط وذلك أنه لا يوجد له دفع إلا هكذا، والمنفعة من عين معروفة قائمة إلى مدى كدفع العين وإن كانت المنفعة غير عين ترى فهي معقولة من عين، والمنفعة وإن كانت غير عين فهي كالعين بأنها من عين ما كأنه شيء انتفعوا به من عين معروفه. وإذا جاز أن يكون ملك المنفعة معروفا وإن كان بغير عينه من عين فيصح ويلزم كما يصح ملك الأعيان جاز أن يكون الدفع للعين التي فيها المنفعة يقوم مقام دفع الأعيان إذا دفعت العين التي فيها المنفعة فهو كدفع العين إذا كان هذا الدفع الذي لا يستطاع فيها غيره أبدا.
والإجارة ملك من المستأجر للمنفعة ومن المؤجر للعوض الذي بالمنفعة والبيوع إنما هي تحويل الملك من شيء لملك غيره وكذلك الإجارة، فقال منهم قائل ليست الإجارة بيع قلنا وكيف زعمت أنها ليست ببيع وهي تملك شيء بتمليك غيره قال ألا ترى أن لها أسما غير البيع قلنا يكون للبيع أسماء مختلفة تعرف دون البيوع والبيوع تجمعها مثل الصرف والسلم يعرفان بلا اسم بيع وهما من البيوع عندي وعندك.
وأرى الأخذ بمذهب الإمام الشافعي ومحصله أن:
1 – المنفعة مال لا ملك تدخر وتقوم وتباع.
2 – المنفعة وإن كانت غير عين ترى فهي معقولة من عين.
3 – المنفعة المعقولة من عين معروفة كالعين.
4 – دفع العين التي فيها المنفعة يقوم مقام دفع الأعيان وهو كدفع العين إذا كان هذا الدفع الذي لا يستطاع فيها غيره أبدا.
5 – الإجارات أصول في أنفسها.
6 – الإجارات صنف من البيوع.
وعلى هذه االصورة يتسع مفهوم المال في الفقه الإسلامي فيشمل المنافع والحقوق والأصول المعنوية باعتبار أن دفع وحيازة المال الذي فيه الحق والمنفعة – أي محل الحق والمنفعة – يقوم مقام دفع الحق والمنفعة نفسها، والقول الذي ردده البعض بأن الفقه الإسلامي يضيق بعد التطور الاقتصادي والاجتماعي عن أن يضم إلى قائمة الأموال أصولا معنوية لا تتصور فيها الحيازة كحقوق المؤلفين وبراءات الاختراع والعلامات التجارية قول غير صحيح مردود عليه بأن الأصول المعنوية لا يمكن أن توجد أبدا منفصلة عن أصول مادية كما يقول الأستاذ سيويل براي في كلامه عن شهرة المحل والمال، وعلى هذا فلا يتصور وجود أصول معنوية لا تتصور فيها الحيازة بهذا المفهوم أي بمعنى أن دفع وحيازة الأصول المادية التي فيها المنافع والحقوق يقوم مقام دفع وحيازة المنافع والحقوق نفسها.
12 – النماء
النماء الخلقي والنماء الفعلي: النماء خلقي أو فعلي.
النماء الخلقي: يكون بإعداد الله تعالى كالذهب والفضة فلا حاجة فيهما إلى الإعداد من العبد للتجارة بالنية.
النماء الفعلي: ما سواهما ويكون بإعداد العبد وهو أما الإسامة أو نية التجارة ويكون الإعداد فيها للتجارة بالنيبة إذا كانت عروضا وكذا في المواشي.
النماء المتصل والنماء المنفصل
يقول ابن قدامة: زيادة قيمة عروض التجارة نماء متصل والنماء في الغالب في التجارة إنما يحصل بالتقليب. ويقول السرخسي النماء مطلوب بالتصرف. أما نتاج الماشية فهو نماء منفصل.
النماء الحقيقي والنماء التقديري
يقول ابن نجيم: النماء في الشراع نوعان حقيقي وتقديري:
فالحقيقي – الزيادة بالتوالد والتناسل والتجارات.
والتقديري – تمكنه من الزيادة.
وفي مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر: النساء إما تحقيقي أو تقديري فالتحقيقي يكون بالتوالد والتناسل والتجارات، والتقديري يكون بالتمكن من الاستنماء.
والنماء الحقيقي أو التحقيقي نماء بالفعل والنماء التقديري نماء حكمي أو بالقوة، وهذا التمييز بين مفهوم النماء الحقيقي ومفهوم النماء التقديري من الأهمية بمكان في مشكلة التقويم.
إن النماء بالقوة يكون نماء تقديريا حكميا فإذا انتقل من القوى إلى الفعل يكون نماء حقيقيا تحقيقيا. هذا وقد توجد عقبات تحول دون هذا الانتقال من القوة إلى الفعل. وما النماء التقديري أو التمكن من الاستثمار بمعناه الواسع إلا مجموعة العوامل التي تمهد السبيل للنماء الحقيقي الفعلي ويمكن القول أن معنى التقديري يشمل معنى النماء الحقيقي.
أنواع النماء: ربح – غلة – فائدة
جاء في الشرح الكبير وحاشيته: “ونساء العين ثلاثة أنواع: ربح وغلة وفائدة” وعرفها الشارع بقوله:
الربح: زائد ثمن مبيع تجر على ثمنه الأول ذهبا أو فضة.
الغلة: ما تجدد من سلع التجارة قبل بيع رقابها كثمر النخل المشترى للتجارة.
الفائدة: ما تجدد لا عن مال أو عن عملية وميراث وثمن عرض القنية.
ويحترز في تعريف الربح بلفظ (ثمن) من زيادة ذات المبيع كنموه هي ذاته فإنه لا يسمى ربحا بل هو غلة، ويحترز بلفظ (تجر) عن مبيع القنية كما إذا اشترى سلعة للقنية بعشرة ثم باعها بعشرين بالعشرة الزائدة لا تسمي ربحا إصطلاحا.
وغلة المكتري للتجارة ربح حكما لا فائدة على المشهور ويحترز بلفظ (مكتري للتجارة) عن غلة مشترى للتجارة أو مكتري النية وعند ابن القاسم هي ربح حقيقة لا حكما لأنه إنما اشترى منافع الدار بقصد الربح والتجارة فإذا أكراها فقد باع ما اشتراه.
والمتجدد من سلع التجارة بلا بيع لها غلة لا ربح كأجرة الدار المشتراة للتجارة وكصوف غنم ولبن.
أما المتجدد من سلع القنية أو المكتراة للقنية ففائدة.
ويمكننا أن نصور مفهوم النماء وأنواعه الثلاثة على الشكل الآتي:
النماء – الزيادات –
ربح غلة فائدة
1 – زائد ثمن مبيع تجر 1 – المتجدد من المشترى 1 – زائد ثمن مبيع
على ثمنه الأولى ذهبا للتجارة أي من سلع القنية على ثمنه
أو فضة. التجارة بلا بيع لها الأول ذهبا أو فضة.
2 – المتجدد من المتكري كثمر النخل المتشرى
التجارة كما إذا اشترى للتجارة وأجرة الدار 2 – المتجدد من عروض
منافع الدار بقصد الربح المشتراة للتجارة القنية.
والتجارة فأكراها. وكصوف غنم وبلن. 3 – المتجدد من العروض
المكتراه للقنية.
وهذا التمييز بين مفاهيم هذه الأنواع الثلاثة من أنواع النماء – الزيادات – من الأهمية بمكان في مشكلة التقويم من الناحيتين المحاسبية والضريبية.
وتلك الزيادة التي تعرف في الفقه الإسلامي “بالفائدة” هي التي تعرف في علم المحاسبة “بالزيادات الرأسمالية”، وهذا وللربح في الفقه الإسلامي مفهم خاص يختلف عن مفهوم الغلة ومفهوم الفائدة ويحده المفهوم العام للنماء.
وزيادة في إيضاح هذه المفاهيم الثلاثة نسوق هذه الأمثلة التي ساقها الفقهاء على الصورة الآتية:
1 – إذا اقتنت منشأة دارا أو عروضا من عروض القنية للانتفاع ثم باعتها بزيادة فإن هذه الزيادة تعتبر فائدة مستفادة لا ربحا.
2 – إذا اقتنت منشأة دارا أو عروضا من القنية للانتفاع ثم أجرتها أو بعضها للغير تعتبر هذه الزيادة أي نماء هذه العين فائدة مستفادة لا ربحا.
3 – إذا استأجرت منشأة دارا أو عروضا من عروض القنية للانتفاع ثم أجرتها أو بعضها للغير بزيادة تعتبر هذه الزيادة فائدة مستفادة لا ريحا.
4 – الصوف واللبن المتجدد من غنم القنية فائدة مستفادة لا ربحا.
5 – ثمر النخيل المتجدد من نخل القنية فائدة مستفادة لا ربحا.
6 – إيجار الدار أو عروض التجارة المشتراه بقصد الربح والتجارة قبل بيعها يعتبر غلة لا ربحا.
7 – الصوف واللبن والمتجدد من الغنم والمشتراه بقصد الربح والتجارة قبل بيعها يعتبر غلة لا ربحا.
8 – ثمر النخل المتجدد من النخل المشترى بقصد الربح والتجارة قبل بيعها يعتبر غلة لا ربحا.
9 – إذا باعت منشأة دارا أو سلعة أو عروضا من عروض التجارة المشتراه بقصد الربح والتجارة بزيادة فإن هذه الزيادة تعتبر ريحا.
10 – إذا أجرت منشأة دارا أو عروضا للتجارة مستأجرة بقصد الربح والتجارة أو بعضها للغير بزيادة فإن هذه الزيادة تعتبر ربحا واستئجار الدار من الغير شراء لمنافعها وتأجيرها للغير بيع لهذه المنافع باعتبار أن المنفعة مال.
يقول البلاذري: كانت دنانير هرقل ترد على أهل مكة في الجاهلية وترد عليهم دراهم الفرس فكانوا لا يتبايعون إلا على أنها تبر – ما كان غير مضروب – وكان المثقال عندهم معروف الوزن، وزنه واحد وعشرون قيراطا وثلاثة أرباع، ووزن عشرة الدراهم سبعة مثاقيل. وكانت قريش تزن الفضة بوزن تسميه درهما وتزن الذهب بوزن تسميه دينارا فكل عشرة من أوزان الدراهم سبعة من أوزان الدنانير.
ويقول المقريزي: ويسمى المثقال من الفضة درهما ومن الذهب دينارا ولم يكن شيء من ذلك يتعامل به أهل مكة في الجاهلية وكانوا يتبايعون بأوزان اصطلحوا عليها فيما بينهم هي الرطل والأوقية والنص والنواة والدرهم الطبري والدرهم البغلي والجوارقي والدانق. وكان الدينار يسمى لوزنه دينارا وإنما هو تبر. والمثقال زنة اثنتين وعشرين قيراطا إلا حبة وهو أيضا بزنة اثنتين وسبعين حبة شعير وقيل أن المثقال منذ وضع لم يختلف في جاهلية أو إسلام ووزنه ستة آلاف حبة خردل.
ويقول ابن خلدون (مقدمته طبعة سنة 1930 ص 218): “وكانوا – أي العرب – يتعاملون بالذهب والفضة وزنا وكانت دنانير الفرص ودراهمهم بين أيديهم يردونها في معاملتهم إلى الوزن ويتصارفون بها بينهم.
ويقول: “جاء الإسلام وكان الدينار والدرهم مختلفا السكة في المقدار والموازين بالآفاق والأمصار، وسائر الأعمال والشرع قد تعرض لذكرهما، وعلق كثيرا من الأحكام بهما في الزكاة والأنكحة والحدود وغيرهما فلا بد لهما عنده من حقيقة ومقدار معين في تقديري تجري عليهما أحكامه دون غير الشرعي منهما. ويقول:
“فاعلم أن الإجماع منعقد منذ صدر الإسلام وعهد الصحابة والتابعين أن الدرهم الشرعي هو الذي تزن العشرة منه سبعة مثاقيل من الذهب والأوقية منه أربعون درهما وهو على هذا سبعة أعشار الدينار ووزن المثقال من الذهب اثنتان وسبعون حبة من الشعير، فالدرهم الذي هو سبعة أعشاره خمسون حبة وخمسا حبة. وهذه المقادير كلها ثابتة بالإجماع. وقد اختلف الناس هل كان ذلك من وضع عبد الملك أو إجماع الناس بعد عليه كما ذكرناه ذكره الحطام في كتاب معالم السنن والماوردي في الأحكام السلطانية، وأنكره المحققون المتأخرون لما يلزم عليه أن يكون الدينار والدرهم الشرعيان مجهولين في عهد الصحابة ومن بعدهم. مع تعلق الحقوق الشرعية بهما في الزكاة والأنكحة والحدود وغيرها كما ذكرناه.
والحق أنهما كانا معلومي المقدار في ذلك العصر لجريان الأحكام يومئذ بما يتعلق بهما من الحقوق.
وكان مقدارهما غير مشخص في الخارج وإنما كان متعارفا بينهم بالحكم الشرعي على المقدار في مقدارهما ووزنتهما حتى استفحل الإسلام وعظمت الدولة ودعت الحال إلى تشخيصهما في المقدار والوزن كما هو عند الشرع ليستربحوا من كلفة التقدير وقارن ذلك أيام عبد الملك فشخص مقدارهما وعينهما في الخارج كما هو في الذهن ونقش عليها السكة باسمه وتاريخه أثر الشهادتين الإيمانيتين وطرح نقود الجاهلية رأسا حتى خلصت ونقش عليهما سكتة وتلاشي وجودها فهذا هو الحق الذي لا محيد عنه.
ويستطرد ابن خلدون قائلا:
ومن بعد ذلك وقع اختيار السكة في الدول على مخالفة المقدار الشرعي في الدينار والدرهم، واختلفت في الأقطار والآفاق، ورجع الناس إلى تصور مقاديرهما الشرعية ذهنا كما كان في الصدر الأول. وصار أهل كل أفق يستخرجون الحقوق الشرعية من سكتهم بمعرفة النسبة التي بينها وبين مقاديرها الشرعية.
وأما وزن الدينار باثنتين وسبعين حبة من الشعير الوسط فهو الذي نقله المحققون وعليه الإجماع. وكذلك نعلم إن الأوقية الشرعية ليست هي المتعارفة بين الناس لأن المتعارفة مختلفة باختلاف الأقطار والشرعية متحددة ذهنا لا اختلاف فيها والله خلق كل شيء فقدره تقديرا.
مما تقدم ومنذ فجر الإسلام وعهد الصحابة والتابعين فقد تحدث وحدتان نقديتان حسابيتان تعرفان بالدينار الشرعي والدرهم الشرعي، ذلك أن التعامل كان يجري بالنقدين من الذهب والفضة فكان الدينار الشرعي وحدة نقدية حسابية أساسها الفضة. وهذا النظام يعرف بالنظام المرتبط بمعدنين أو بنظام المعدنين.
تعريف ابن خلدون للدينار الشرعي كوحدة نقدية حسابية شرعية:
وقد عرف ابن خلدون الدينار الشرعي والدرهم الشرعي كوحدة نقدية حسابية تعريفا واضحا محددا فقال أنه هو المقدار الشرعي المعين المعلوم وزن والمقدار في الذهن غير المشخص هي الخارج.
ويحدثنا بأن أول من شخص مقدارهما وعينهما في الخارج كما هو في الذهن هو عبد الملك بن مروان. ثم وقع اختيار الأقطار والآفاق على مخالفة القدر الشرعي ورجع الناس إلى تصور مقاديرهما الشرعية ذهنا واستخراج الحقوق الشرعية من سكتهم – أي نقودهم المسكوكة – بمعرفة النسبة بينها وبين المقدار الشرعي.
وبعبارة أخرى فإنه في عهد عبد الملك بن مروان كانت العملات النقدية الحسابية، ثم أصبحت العملات النقدية المسكوكة والمتداوة تخالف في وزنها وعيارها محتوى الوحدة النقدية الحسابية الشرعية، فرجع الناس لاستخراج الحقوق الشرعية المتعلقة بالنقود إلى مقارنتها بالوحدة النقدية الحسابية الشرعية ومعرفة النسبة بينهما.
إحصاء شهري لكمية النقود المسكوكة:
يحدثنا البلاذري (النقود العربية لانستاس الكرملي ص 14) فيقول:
“فاتخذ الحجاج دار ضرب وجمع فيها الطباعين فكان يضرب المال للسلطان مما تجمع له من التبر، وخلاصة الزيوف والسذتوقة ثم أذن للتجار وغيرهم في أن تضر لهم الأوراق.
أي أن حرية سك النقود كانت مكفولة.
ويقول المقريزي:
وبعث عبد الملك بالسكة إلى الحجاج فصيرها الحجاج إلى الآفاق لتضرب الدراهم بها. وتقدم إلى الأمصار كلها أن تكتب إليه في كل شهر بما يجمع قبلهم من المال كي يحصيه عندهم وإن تضرب الدراهم في الآفاق على السكة الإسلامية وتحمل إليه أولا فأولا”.